وبعد أن فرغوا من الكلام في أمر الزواج قال غانم: نرجع لأمر الدعوة التي لي أمام المحاكم، فكيف الرأي فيها أيها العزيز همام؟
فالتفت همام إلى شقيقته وأخبرها بالحديث الذي دار بينه وبين غانم في هذا الشأن، فقالت: إن رئيس المحكمة صاحبنا، وفي هذه الليلة يسهر عندنا، فإن رأيت يا أخي ورأى صاحبنا غانم أن تحضرا فتقابلانه وتكلمانه بكل ما يلزم، فلكما علي المساعدة في القول والتوصية.
قال: قضيتي مهمة جدا إن خسرتها خسرت جانبا عظيما من ثروتي، أعقبه نقصان في ثروة ابنتي، فإني عزمت على أن أوصي لها بكل أموالي.
قالت سيدة: كن مطمئن البال، فلن يضيع عليك قرش واحد، فرئيس المحكمة صديق لنا حميم، ولنا به معرفة واتصال من قديم الزمان، فلا يتأخر عن مساعدتنا ونوال المرام.
وبعد أن طال أمر الحديث في الدعوى، وقر الرأي على الحضور إلى السهرة لمقابلة رئيس المحكمة، نهض همام وغانم للانصراف، فشيعتهما سيدة إلى الباب مثنية على غانم مؤكدة عليه بإحضار ابنته سعدى إليها.
فلما انصرف رجعت إلى حجرتها مسرورة بنجاح مسعاها، وقد أيقنت بقرب العقد لابنها على سعدى، فيصبح غنيا سعيدا بهذا الزواج، فلم يكن عندها هم غير الاستعجال في إقامة الأفراح، وكذلك قد كان غانم مسرورا باتصال نسبه بنسب شريف؛ ليحصل بذلك على الوجاهة والنفوذ، وينفتح له باب الدخول على كبراء القوم وأمرائهم؛ فيتخذ ذلك سبيلا لقضاء دعاويه الكثيرة، فجعل يقول لهمام وهو خارج برفقته: إن من المناسب التعجيل في إقامة الأفراح، فذلك خير من الإمهال.
وقد ظهر للناظر في هذه القصة كيف أن سيدة وغانما أبرما الزواج لابنيهما بدون أن يعلم الابنان، ولا ريب أن أهل الذوق في هذا العصر لا يحبذون هذا العمل ويعيبونه ويعتبرونه ظلما واستبدادا منافيين لمبادئ الحرية والتمدن، على أن الوالدين قد راعيا المصلحة الشخصية، فلم يكترثا برضاء العروسين، وهل ينطبق هذا الزواج على مشربهما، ويجلب لهما الراحة والسعادة، فسيدة لم تنظر في إبرامه إلا لتحصيل الثروة والغناء لابنها، وغانم إلى ما يناله من الوجاهة والنفوذ. وهكذا فقد قربا مستقبل ابنيهما قربانا على مائدة المصالح الشخصية، ولم يفكرا أنهما بذلك يجلبان التعاسة والشقاء لفؤاد وسعدى، فمن المقرر أن لا راحة ولا سعادة في الكون لرجل يتزوج بامرأة على غير ميل أو تبادل حب، فمن الجور أن يتدخل أحد في زواج بإكراه، فإنه بما يفعل يكون قد سعى إلى الشر وإيجاد العداوة بين شخصين بريئين، لولا الزواج لم يتعاديا، فالعاقلون من الأهل والأصحاب يحجمون عن مثل هذا التدخل، ويدعون الشبان والشابات يختارون من يناسبهم للزواج على مودة وائتلاف، والحمد لله أن هذه العادة - أي إكراه الأولاد على الزواج بمن يختاره الآباء - قد أخذت بالاضمحلال شيئا فشيئا بفضل الترقي والحضارة العصرية.
وقبل أن يفترق همام وغانم اتفقا على أكل الطعام مساء في لوكاندة الجنينة، ثم يذهبان إلى السهرة عند سيدة، وانطلق كل إلى حال سبيله: غانم إلى الفندق الشرقي، وهمام إلى منزله.
الفصل السادس عشر
بوصول غانم إلى حجرته في الفندق جلس أمام تختة يكتب، فانفتح الباب عليه بغير استئذان، ودخل خليل وجلس غير مسلم، فتكدر غانم من مشاهدته حالة كونه قد خاصمه مديدا، واستغرب من مجيئه، فظل محدقا إليه النظر صامتا مبهوتا.
Bilinmeyen sayfa