فتذكر فؤاد كلام سعيد على أخته، ولم يقل شيئا.
وأردفت عفيفة قائلة: أبى الله أن أبرئ نفسي من العيب، فالعصمة لله وحده، والكمال لذاته، والطبيعة الإنسانية مجردة عن الكمال، فقد كنت في جدال مستمر مع ابنة خالي، وما أعلم إن كانت تذكر ذلك، ولعلها لا تفتكر إلا بأوقات الصفو واللهو، ولا يضيع جميل أينما كان، فهي لو أجابت التماسنا دعونا لها بالسعادة والتوفيق ومديد البقاء، فلم نثقل عليها فوق هذا التثقيل، ولو أننا فقراء ووالدتي عاجزة فلنا ما يقوم بأودنا، وأنا شابة صحتي جيدة أكسب بشغلي ما يكفيني ويكفيها، والله كريم يرزق عباده. ثم إن عفيفة انقطعت عن الكلام، واقتربت من فؤاد تقول بصوت منخفض: ها هو راجع، والظاهر أنه غضبان، عرفت ذلك من حركة مشيه.
وكان الاصفرار على وجهها والارتعاد في قدمها حتى صعد عمها على السلم فقالت: ها هو صاعد إلى البيت، فلا يمكننا الخروج بعد، فدخل خليل حجرة امرأته ساخطا واجما غضبان، فلم يبصرها، وكانت ملقاة على الأرض وراء كرسي جلوسها، فهم أن يذهب إلى الحجرة الثانية ليفتش عنها، فوجدها مطروحة على الأرض عديمة الحراك، فشفى غيظه بالسباب وقال: إن شاء الله هي القاضية، ثم رفعها بيديه وجعلها على فراشها، فوجدها على رمق قليل من الحياة، وقد تحركت قليلا من إغمائها، فقال: خطف الشيطان روحها الخبيثة، إنها لتموتن في اليوم ثم تحيا ألوفا. ثم إنه بدلا من أن يرق لحالها ويعتني بها تركها وطفق يتمشى في الحجرة طولا وعرضا مزمجرا، كأنه الوحش الضاري يبحث عن ضحية يفترسها، ففي خروجه أفاقت كريمة من إغمائها، فتنهدت من صميم الفؤاد، وجمعت قواها، وجلست على فراشها وغبار الموت على وجهها، فلم تمكث أن رأت خليلا زوجها قد رجع فجعل أمامها كرسيا وجلس يقول لها: مرادي أن أكلمك في مسألة مهمة، فأعيريني السمع وتفهمي قولي، قد أنفقت عمرك على ابنتك عفيفة، فتزوجتني فكنت بالطبيعة قيما عليك وعليها، نعم كان أخوك أحق مني بالوصاية على الفتاة، ولكنه أهمل جميع الواجبات، ولم يلتفت إلى شأنك وشأنها فآلت الوصاية إلي، فليس لك أن تعترضي أو تخالفيني في شيء ما، وقد حملتني جميلا كثيرا أو ذكرتني بثروتك التي قضى الزمان عليها بالضياع، ووبختني كأني كنت المضيع لها، وهذا القول أسمعه منك في كل يوم، فمن اللازم أن تمتنعي عن ذكره بعد هذا، واعلمي أن ضياع ثروتك حصل بتقادير التجارة لا بتقصيري، فلا سبيل علي ولا حق لك بتسكيتي ولومي، والتجارة قد يصادفها الربح والكسب، كما يعتريها الخسارة، فأي لوم علي والزمان لم يساعد والبخت عاثر؟!
قالت: ما أذم التجارة، وأعلم حق العلم أن ممارستها بالتدبير والحكمة تفيد غنى وافرا، أما الذين يتعدون قواعدها ويجرون على غير الصواب فيها - كما فعلت أنت - فمصيرهم إلى الخسارة والبوار، وقد نصحتك كثيرا وتذللت لديك وقبلت قدميك أحيانا لتتدبر في المعاملة، فلا تتهور في الأعمال فلم تقبل نصيحة ولا شورى.
قال: دفعني إلى التجارة رغبتي في إحراز المكاسب سريعا، فجاء الأمر بخلاف ما كنت أنتظر من النتيجة، فأي جناح علي وأي ذنب أتيته والحظ لم يساعدني؟! ولو حاسبت نفسك قليلا لعلمت أني قهرت على التهور في الأشغال توخيا لمرضاتك والقيام بمصاريف الزينة والتطرئة والبهرجة، وما كنت مولعة بحبه من الملاهي وأسباب المباهة والنفقة الباهظة حتى قصر دخلنا عن نفقاتنا، وكانت حاجاتك متجددة في كل حين تبغين قضاءها بلا تأخير، فالتزمنا أكل جانب من رأس مالنا في كل سنة، وهكذا حتى قل شيئا فشيئا، ثم نفد بالتمام والكمال. مع ذلك فأنت على عادة السرف لم تجدي عنها تبديلا، اذكري أني كنت أقضي الليالي الطوال ساهرا منكبا على العمل ابتغاء حفظ مركزي والثبات أمام جيوش نفقاتك الجرارة، فلا أستطيع شيئا، فوالله لو أن ما في الأرض من مال يبذل إليك لنفد وما وفى بمطلوبك.
قالت: تريد أن تجعلني مسئولة عن إخفاق أعمالك وسوء تدبيرك، مع أني نبهتك كثيرا فلم تتنبه، ونهيتك عن التهور في الأعمال كأعمال البورصة وخلافها محذرة إياك بأنها تعقب الخراب والدمار ما أذعنت لقولي، وقد جئت الآن تزعم أنني كنت السبب في الخسارة.
قال: لم لا تتذكرين ملابسك الحريرية والحلي والجواهر الكريمة التي كنت تكلفينني بجلبها إليك لتتبرجي وتخطري مباهية النساء المثريات الموسرات؟ ثم لم تكتفي بها حتى طلبت خلافها، وكلفتني الإنفاق على ملبوس المودات والأزياء الجميلة، وحتى كان عندك خياطات كثيرات يشتغلن في المنزل لتفصيل الأثواب ملبوسا لك مؤنقا بهيا، وكنت لا أستطيع مخالفتك مخافة الفضيحة والخصام بما قام فيك من طباع العتو والعظمة، وتذكري يوم بقيت غضبى واجمة بسبب امتناعي عن شراء عربة تركبينها للمباهاة وإبراز زينتك وجمالك، وكيف أنك أصررت فلم يكن لي مناص للنجاة من غضبك إلا بإجابة مطلوبك، ولولا ذلك لفقدت راحتي، والله أعلم بمقدار ما تستلزمه العربة من كلفة وأجرة سياس وخدمة ومئونة خيل وغير ذلك من المصاريف، وأنت بين ذلك جالسة كسلطان على عرش عزة متزينة بنفيس حلاك وملابسك ركوبا على عربتك أمامك السياس والخدم، وأنا متعوس مكب على عملي كتابة ومراجعة وبحثا في الدفاتر والأوراق، أجهد النفس في الاشتغال ليلا ونهارا ابتغاء الكسب حتى يفي إيرادنا بنفقتك الجسيمة، وكان الخراب ماثلا أمام عيني يضطرب خوفا من سوء العاقبة، وأنت لا تتحولين عن عهد نفقتك الباهظة وقلة تدبيرك، فأخبريني الآن أين الرفيقات اللواتي قد صحبتك في أيام اليسر والسعادة؟! فإني لا أجد منهن ولا واحدة والكل يتجاهلنك، أين النساء اللواتي كن يلازمن مجلسك تمليقا ومداهنة؟! هل منهن واحدة تفتكر فيك أو تذكر سابق فضلك؟! فوالله إني أراهن يهربن منك هربهن من الجيفة أن تمس لهن ثوبا.
ولقد كان كلام خليل على شيء من الصحة، ولكنه قد بالغ بقصد تكدير امرأته ... وهذا القول ينطبق على كثير من النساء اللواتي يخربن بيوتهن بكثرة الصرف طلبا للمباهاة وابتغاء التشبه بمن فوقهن درجة وغنى واقتدارا، ومن المعلوم بالتجربة أن كل امرأة قامت هذه الصفات فيها، وكان رجلها ضعيف القلب عاجزا عن كبح جماحها أعدت بيتها للخراب وبئس المصير.
وكانت كريمة تسمع كلام زوجها فلا تجاوبه بشيء لعلمها أن قوله محض افتراء وبهتان، وأنها ليست من النساء الموصوفات بوصفه.
ثم إن خليلا استطرد بقوله: قد علمت إذن أني لم أبدد ثروتك، وإنما أنت التي بددتها بيديك، وبفرض أني كنت السبب في ضياعها، أفتنسين أنك تكبرينني بعشر سنوات، وأني ما تزوجت بك إلا رغبة في مالك الكثير؟ فلئن كنت أضعته بكثرة الإنفاق، فقد أضعت لذة شبابي زواجا بمن هي فوقي سنا، لعن الله الساعة التي رأيتك فيها وعرفتك، كانت ساعة شؤم فقدت فيها عقلي وبصري، وما أرى أجهل من الشبان، يبتغون الزواج للمال يبادرون إليه بغير ترو ولا يبصرون، فإن لمعان الذهب يغشي عيونهم فيدهشهم عن رؤية المرأة وانتقاد أخلاقها، واختبار صفاتها الملازمة لها مدى العمر، فهم يتزوجون المال لا صاحبة المال، وعلى الغالب فإنا نرى النساء الموسرات مجردات من الجمال ومحاسن الطبيعة، وقد يتجردن أيضا من الأخلاق الجميلة فيعاني الأزواج الجاهلون نصبا كثيرا بسببهن يدوم مدى الحياة، ويكونون قد أفاقوا من غفلتهم وشعروا بخطئهم، فلا يفيدهم الندم، وقد نفذ السهم وانقطع الوتر، فيقوم النفور بين الأزواج، وتعظم الوحشة والكدر، فتفقد العائلة راحتها ونظامها، ويقوم النكد بديلا عن الصفاء، والذنب ذنب الرجل، والخطيئة خطيئته، فهو الذي ظلم نفسه، وألقى بيده إلى التهلكة.
Bilinmeyen sayfa