ولما رأى ذلك «كورش» ألقى بنفسه، ولم ينتظر حتى يخفف ما عليه من الملابس، بل كان أسرع من البرق، وبأقل من لمح البصر قطع النهر إلى الجانب الغربي حيث كانت تلك الفتاة، وهجم على الفرس - وهو يطارد الأمواج - وقبض على زمامه، وسحبه إلى جهة البر بغاية الرشاقة والقوة الغريبة، وكانت تلك الفتاة قد غابت عن رشدها، فوقعت لا تعي على شيء، فأخذها بين يديه، وألقاها إلى الأديم فوق تلك الأعشاب، واجتهدت الأخرى في تنبيهها، وقدمت «لكورش» مراسم الشكر بعبارة أرق من النسيم، وهي تنظر إلى محياه الباهر، وتعجب ببسالته وأدبه.
أما هو فإنه دهش من جمالها، وبهي طلعتها، ورقيق ألفاظها، ورخيم صوتها، وقد وقف مبهوتا لا يبدي ولا يعيد، أما «روبير» فإنه لما رأى سيده واقفا أمام خريدتين، وهو مبلل الملابس حاسر الرأس ركب جوادا وسار، وقد أطلق له العنان حتى بلغ القصر، وطلب له ملابس، ورجع في أقل من لمح البصر، وفي الحال نزل إلى النهر واضعا تلك الملابس حتى عبر النهر، وقدمها إلى مولاه، وقد انعطف به إلى داخل الغابة، ولبس ثيابه، ورجع إلى المحل الذي كان فيه مع البنتين، وإذا به امتلأ بالعساكر والقواد والخدم، والكل خاضعون بين يدي تلك الفتاة التي استغاثت به لينجي رفيقتها، وقد خلبت لبه، فوقف بين الجنود لا يبدي حراكا، وقد تحير فيمن تكون تلك السيدة الجليلة، وما هي إلا من بنات الملوك بدون شك.
ثم التفت إلى «روبير»، وقال له: أريد أن تسأل عن أحوال هذه الفتاة، وابنة من هي وإلى أين تريد؟
قال: سمعا وطاعة. ثم دخل بين الخدم، وسأل: من هم؟
فقيل له: إنها ابنة الملك «أكيا كسار» ملك مدينة «نينوى». وقد خرجت للتنزه مع ابنة الوزير في موكبها الحافل، وبطريق المصادفة انفردتا عن الموكب راكبتين الخيول حتى بلغتا هذا النهر، فشرد الجواد بابنة الوزير وأشرفت على الغرق، ولولا أن سيدك انتشلها لهلكت. ولا بد للملكة من مكافأته. فلما سمع «روبير» ذلك ذهب إلى «كورش» وأخبره بما سمع، فتأوه من صميم فؤاده وسكت، أما ابنة الملك فإنها احتارت في أوصاف «كورش»، وكيف بها أن علمت عنه شيئا؟! ومن الذي تركن إليه بهذا الخصوص؟ وقد منعها الخجل إظهار ما عندها، ولكنها أخيرا تذكرت أن عليها واجبا له يلزمها أن توفيه إياه لأجل انتشاله ابنة الوزير، ولا بد من مكافأته. وهذا الفكر أراح فؤادها نوعا، وعند ذلك التفتت إلى ابنة الوزير، وقالت لها: أريد يا عزيزتي «خواند» أن أكافئ هذا الشاب بما هو أهله؛ لأني أراه معدن الإنسانية والمروءة - على صغر سنه - وقد جمله الله بكل فضيلة.
وكانت «خواند» تريد مكافأته؛ لأنه منقذ حياتها، ولما سمعت من «شاهزنان» بنت الملك ذلك انشرحت، وقالت: يلزم ذلك يا سيدتي؛ حيث إنه أنقذني، وإنه فوق ما ذكرت أيتها الملكة.
ثم نظرت «شاهزنان» إلى أحد الخدم الواقفين، وقالت: اذهب إلى الشاب الذي أنقذ أختي من النهر، وائتني به حتى أكافئه على ما فعل من المعروف.
فذهب الخادم إلى «كورش»، وقال له: أجب الملكة «شاهزنان» بنت ملك «نينوى».
فرفع «كورش» رأسه، وقد خفق فؤاده واضطرب جسمه، وقال: ماذا تريد ابنة الملك؟
فقال: لا أدري، أظن أنها تريد مكافأتك على مروءتك. فنهض «كورش» معه، وذهبا إلى أن بلغا سرادق ابنة الملك، وقد سلم عليها بكل تجلة واحترام، وعلى ابنة الوزير أيضا. وكانت «شاهزنان» تنظر «لكورش» نظر العاشق الولهان، وهو ينظر لها كذلك، وكانت «خواند» تراقب أحوالهما، وتنظر لهما بعين المنتقد، ولما لم يجدا لهما بابا للكلام قالت «شاهزنان»: لقد خولتنا جميلا أيها الشاب، وقصرت عقولنا عن أداء الشكر على البعض منه. فأرجو أن تمهد لنا عذرا عن هذا العجز!
Bilinmeyen sayfa