1 - في منشأ مندان بنت الملك أستياج ملك مادي
2 - في زواج مندان
3 - في خروج مندان، ومولد كورش
4 - فيما جرى في قصر الملك
5 - فيما كان من أمر مندان
6 - في غرام هيان فونك
7 - في منشأ كورش
8 - في غزو مدينة شيراز ومقتل قمبيز
9 - في غرام كورش واحتقاره لنفسه
10 - في قصر شاهزنان
Bilinmeyen sayfa
11 - في شعور كورش أنه ابن الملك قمبيز
12 - في سفر كورش ودخوله مدينة شيراز
13 - في دخول كورش مملكة فارس ورجوعه إلى همذان وفتحها وأسر جده
14 - في زواج كورش بشاهزنان وفتح مدينة بابل
15 - في فتح جزيرة صقلية واجتماع مندان بولدها كورش
1 - في منشأ مندان بنت الملك أستياج ملك مادي
2 - في زواج مندان
3 - في خروج مندان، ومولد كورش
4 - فيما جرى في قصر الملك
5 - فيما كان من أمر مندان
Bilinmeyen sayfa
6 - في غرام هيان فونك
7 - في منشأ كورش
8 - في غزو مدينة شيراز ومقتل قمبيز
9 - في غرام كورش واحتقاره لنفسه
10 - في قصر شاهزنان
11 - في شعور كورش أنه ابن الملك قمبيز
12 - في سفر كورش ودخوله مدينة شيراز
13 - في دخول كورش مملكة فارس ورجوعه إلى همذان وفتحها وأسر جده
14 - في زواج كورش بشاهزنان وفتح مدينة بابل
15 - في فتح جزيرة صقلية واجتماع مندان بولدها كورش
Bilinmeyen sayfa
الملك كورش
الملك كورش
تأليف
زينب فواز
الفصل الأول
في منشأ مندان بنت الملك أستياج ملك مادي
كانت دولة «الماديين» ابتداؤها من سنة 751 قبل الميلاد، وكانت من الدول العظيمة، حكمت زمنا مديدا.
وكان مقر ملكها في بلاد «مادي» المقرونة بآذربيجان والعراق العجمي، وكانت عاصمة بلاد «مادي» مدينة «همزان» وهي مدينة بهجة المناظر حصينة الأسوار، بناها الملك «ديجوسيس» وقيل: «ديوكيس» وجعل لها سبعة أسوار، هيئة كل سور منها لا يعلو عن الثاني إلا بمقدار شراريفه. وكانت تختلف هذه الشراريف بالألوان؛ فجعل الأول أبيض، والثاني أسود، والثالث أزرق، والرابع أحمر، والخامس أرجواني، والسادس فضي، والسابع ذهبي ... هكذا رووه المؤرخون. وفي زمن «هيرودتس» كانت تسمى «أغبطانة».
ومن داخل السور السابع قصر الملك؛ فكان يحتوي على جميع الزينة وبهارج الدنيا التي يعجز عن وصفها الواصفون، وفي داخله محل حصين لحفظ خزائن الملك وكنوزه. وأما الشعب فإنه كان يسكن بين الأسوار.
وكان في بدء روايتنا هذه أحد ملوك «مادي» وهو الملك «أستياج» وكان شديد الحرص على ملكه، قوي البطش، يعبد النار دون الملك الجبار. وكان قد تزوج بابنة ملك «ليديا» فرزق منها ابنة في غاية من الحسن والجمال، فسماها «مندان» ورباها ورتب لها الأساتذة والمعلمين على اختلاف أنواع العلوم، فبرعت في كل فن، وأتقنت كل ما مرت عليه من العلوم حتى صارت تعد من فلاسفة عصرها ونادرة زمانها.
Bilinmeyen sayfa
ولما كانت في ذات ليلة جالسة في قصرها فاكرة في أمر الخليقة، وقد اتسع فكرها مما استحصلت عليه من المعارف، وقالت في ذاتها: كيف يتسنى للنار أن تقدر على إبداع هذه المخلوقات، مع ضعفها، إذ إنها لا تتقد إلا بيد بشرية، والقليل من الماء يطفئها؟! فأشغل هذا الفكر الجزء الأعظم من عقلها، وجعلت جل بحثها في هذه الغاية، وكان من جملة أساتذتها رجل جليل القدر، عالي الهمة، خبير بدقائق الأمور، يقال له الكاهن «أرباسيس» وكان كلما حضر بين يديها يرى على وجهها علائم الحيرة والارتباك، فيفكر في ذلك لعله يجد إلى معرفة الحقيقة من سبيل. وبحث في داخليتها، وفتش في أسرارها؛ لئلا تكون انشغلت بسبب طارق غرامي أشغل فؤادها بحب أحد يليق بمقامها، فلم يجد لذلك من أثر.
فاحتار في سبب انشغالها، وصبر يتربص الفرص إلى أن كان ذات يوم طلبت الأميرة «مندان» من والدها أن يأذن لها بالتجول في أنحاء المملكة؛ لأجل أن تزيل بعض ما عندها من الانقباض الذي لم تعلم له سببا، فأذن لها الملك بذلك، وكان يحبها محبة بليغة؛ لفرط جمالها وكمالها ووافر معارفها وآدابها، ولكونها وحيدته ووريثته في الملك، وكان يعتمد على آرائها في الأمور المهمة ... ولما استحصلت على رضا والدها استحضرت الكاهن «أرباسيس» وأخبرته بعزمها، وكانت تعتمد عليه وتذعن لقوله، وتقدمه على جميع أساتذتها، فلما سمع منها ذلك فرح وأيقن ببلوغ المراد، وقال في نفسه: لعلي أطلع على ما في سريرتها، أو أجد منها فرصة على انفراد، فأستطلع ما في نفسها.
فقال لها نعم ما رأيت أيتها الملكة؛ لأن في السياحة فوائد عظيمة منها: رياضة للنفس، وزيادة في اتساع المعار. والاطلاع على عوائد الأمم وعقائدها وأديانها يكسب الإنسان حياة جديدة.
وعند سماع هذه الجملة ظهر الانشراح على محياها، وبرقت أسرة جبينها الزاهر، وقالت: هل في مملكة أبي من يتدين بدين غير ديننا؟
قال: لا بد أن يوجد ذلك، ولو سرا؛ لأن الملك لو علم بهذا الأمر لأهلك من يخرج عن عبادة النار؛ لأنه شديد التعصب لدينه.
فتنهدت «مندان» وشكرته على ما بين لها من هذا القبيل، وطلبت إليه أن يصحبها في سفرها هذا، فلبى طلبها وكان يعزها كابنة له، ويحافظ على عدم تغير إحساساتها، ويحب أن ينفذ أوامرها، ولو مهما كان الأمر خطرا. ولكنه تعجب منها حينما رأى على وجهها علائم البشر وقت ما سمعت منه ما يختص بالأديان، وكان هو أيضا ممن يعبدون الباري تعالى ويمجدونه، ولكنه لا يطلع على ما في ضميره أحدا؛ لأنه يخاف من سطوة الملك، فاستبشر بهذا الأمر، وكتم ما عنده لبينما يتبين الحقيقة.
وبعد ثلاثة أيام هبت الأميرة للسفر، وودعت والدها ووالدتها ومن في القصر، وركبت هودجها، وسارت تحفها الحراس من كل مكان، ولم تأخذ من الخدم الداخلي سوى جاريتين من خواصها فقط، وعلى يمين الهودج الكاهن «أرباسيس»، وساروا يقطعون البراري والقفار مدة ثلاثة أيام، وهم يسيرون بين رياض وغياض. وفي اليوم الرابع وصلوا إلى مكان يقال له المرج الأخضر، وكان في ذلك المكان المعبد الأكبر الموجود في بلاد «مادي» وكان على غاية من الإتقان وحسن البناء وغرابة الموقع، وهو مقام في سهل واسع الأرجاء بهج المناظر ذو غدران دافقة وأطيار ناطقة وأشجار ناضرة وأنوار ظاهرة.
وفي داخل المعبد 800 غرفة لنزول الزائرين، وهي في غاية الإتقان والنظام التام، مفروشة على نسق ذاك الزمان، لا تنقص عن غرف الملوك شيئا، بل تزيد إتقانا؛ لأنها تختص بالآلهة التي تعبدها الملوك، وفي وسط هذه الغرف حجرة الملك. وكان يزور هذا المعبد كل عام في أيام العيد ، ويتقرب إلى النار بذبح العدد الوافر ممن يعبدون غيرها، ولما حضرت الأميرة «مندان» خرجت المرازبة لملاقاتها على مسافة أميال، وكانت البشائر قد أتت إليهم من قبل بأمر «أرباسيس» فدخلت الملكة المعبد يحفها الحراس، وقد زين لها الهيكل بأنواع الزينة، وبعد أن أخذت لنفسها الراحة من وعث السفر، أمر الموبدان الأكبر خدمة النيران أن يوقدوها بالعود والند والصندل، وجميع الأخشاب العطرية، وأمرت الملكة «مندان» أن يخرج الجميع، ولا يدخل معها أحد سوى أستاذها «أرباسيس» لئلا يشغلها كثرة الناس عن العبادة. فأذعنوا لأمرها، وخرج الجميع، ودخلت هي و«أرباسيس».
وفيما هي داخلة من باب الهيكل إذ نظرت إلى مخدع عن يمين الداخل فيه ثلاثة أولاد لا يتجاوز أحدهم الأربع من سنيه، وقد وضع كل منهم في قفص حديد، وأمامه الماء والطعام، فلما نظرت الملكة إلى الأطفال اقشعر جسمها والتفتت إلى «أرباسيس»، وقالت له: ما سبب حبس هؤلاء الأطفال أيها الأستاذ، ومالي أراهم يحافظون على حياتهم من الجوع والعطش؟
قال: إنهم قربان للنار يا مولاتي! وإن محافظتهم على حياة الأطفال لأجل أن تلهمهم وهم في قيد الحياة؛ ليكون ذلك أبلغ لرضاها عن عبادها!
Bilinmeyen sayfa
فتنهدت وقالت: وما حظ النار من أكل لحم البشر وفقد الأرواح.
وكان قد نظر إلى وجه «مندان» فوجد بشائر نور الإيمان تلوح على محياها، فتجرأ على إرشادها إلى طريق الصواب. فقال: مولاتي إن النار مخلوقة من مخلوقات الله تعالى، سخرها لعباده لينتفعوا بها، وليس لها سمع لتعي كلامنا، ولا بصر لتنظر إلى أفعالنا، بل أعجز من العاجز. ولا يجوز لبشر أن يعبد غير الله تعالى الذي خلق السموات والأرض وما بينهما، وأحصى كل شيء عددا، وقدر الأرزاق والأعمار، ونظم الكون بقدرته - سبحانه وتعالى عما يصفون.
فلما سمعت كلامه تلألأ وجهها، وانشرح صدرها، وقالت: وأين هذا الإله العظيم حتى أعبده أيها الأستاذ؟ أرشدني إليه لأني منذ أيام أفكر في أمر النار وعبادتها. ومن هو الإله الحقيقي الذي يجب أن يعبد؟ فمن هذا السبب كنت تراني دائما منقبضة النفس ضيقة الصدر، ولا أجد لي من ألقي إليه نتيجة أفكاري، ولا من يرشدني إلى طريق الهدى!
قال: يا مولاتي! هو الله الذي في السماء عرشه، وفي الأرض بطشه، يرى ولا يرى. وهو في المنظر الأعلى لا ينبغي لأحد أن يراه، وقد جل عن الوصف، وإني قد حيرني أمرك، وأشفقت على نضارة شبابك من ذلك الانقباض، وبحثت فلم أهتد إلى الحقيقة، والآن ها نحن - والحمد لله - قد ضمنا الدين القويم، وسألقي عليك بعض ما علمته من العلوم الدينية.
فشكرته «مندان» على ما أولاها من الهدى، ثم قالت: ولكني أود أن أسعى في خلاص هؤلاء الأطفال قبل سفري من هذا المكان.
قال: يا مولاتي، إن ذلك من أصعب الأمور.
قالت: إنه علي هين بمساعدة الإله الأعظم.
ثم نهضت ودخلت حجرتها، وأحضرت الموبذان الأكبر، وأنعمت عليه بالخلع والهدايا، وأحسنت إليه فدعا لها، وقال: باركت النار فيك أيتها الملكة، وأكثرت فينا من أمثالك!
ولما علمت منه أنه راض عنها، قالت له: إن النار قد رضيت عني، وعلمت ذلك؛ لأنها منحتني ثلاثة أنفار من أسراها.
قال: يا مولاتي، من هم هؤلاء الأسراء الذين غضبت عليهم النار، ولم تقبلهم لها قربانا؟!
Bilinmeyen sayfa
قالت: إنهم الثلاثة أطفال الذين داخل الهيكل.
قال: إنهم أولاد أكابر البلاد، وهم منذورون من أهاليهم ليقدمونهم قربانا للنار، وأخاف إن لم أقدمهم أن يحدث من ذلك فتنة يقوم بسببها حرب ضدنا وضد الملك، وأما أنا فإني أريد أن أنفذ أوامرك، ولا أغضب النار.
قالت: اعلم أيها الموبذان أن الأمر بيد الآلهة، ولا بد أن يكون النذر غير مقبول حتى إنها لم تقبلهم، وربما إن قدمتهم لها تغضب من أجل ذلك.
قال: وكيف الخلاص من هذا الأمر الخطير، والباقي على وقت الاحتفال مدة ثلاثة أيام؟ وقد أخرنا هذا اليوم إلى وقت حضور الملكة، ولولا ذلك لكان قضي الأمر.
قالت: فلنتدبر بأية حيلة كانت، وننفذ أمر الآلهة.
فوعدها بإتمام مرغوبها وخرج. وأما هي فإنها أرسلت إلى «أرباسيس» وأخبرته بما تم بينها وبين الموبذان، ففرح وأبدى لها واجبات الشكر على حسن تدبرها ودرايتها.
ولما جن الليل دخل الموبذان إلى خلوته، وكان عنده تلميذ نبيه، حاو على أنواع المكر والحيل، فأرسل له وأخبره بما دار بينه وبين الملكة من الكلام، وقال له: يا ولدي، إن الربة قد وهبت هؤلاء الأطفال للملكة، وليس علينا خوف من غضبها، ولكن ما الحيلة في مرضات الأهالي وأهل الأولاد؛ لأنه لو ظهر للناس أن النار لم تقبلهم لبقي فيهم العار إلى آخر الأبد، وصارت فيهم وصمة لا تمحوها الأيام، وربما سبب من ذلك فتنة أثارها عائلات الأولاد تخلصا من العار؟!
فقال له: يا أستاذي! إني أنا المدبر لهذا الأمر، ولكن أريد المهلة قدر أسبوع على الأقل حتى أجد وقتا لاستنباط الحيلة.
قال: وما الذي تريد أن تفعله، أخبرني به حتى أكون على بصيرة من أمري!
قال: أريد أن أصنع ثلاثة تماثيل يشبهون الأولاد، وألبسهم الملابس الفاخرة، وأجعل إلقائهم في النار بأمر الملكة، وأن لا يقرب منهم أحد إلا الموبذان الأكبر، وحينئذ تفعل بهم ما شئت، ويصير الاحتفال كباقي الاحتفالات، وتلقيهم بيدك ليكون الفخر أعظم.
Bilinmeyen sayfa
فقال الموبذان: نعم ما رأيت يا ولدي! فأسرع للعمل.
وأمر له بما يكفيه لصنع التماثيل، فأخذه وخرج، ثم جد في عمله.
أما الموبذان، فإنه استأذن على الملكة، فأذنت له، ولما تمثل بين يديها أخبرها بما تم بينه وبين التلميذ من الرأي، فراق ذلك لديها وشكرته، ومدته بمال، وقالت: كيف الرأي في إخفاء الأولاد؟
قال: يا مولاتي، لما تتم التماثيل نضعهم في محلهم ليلا، ونخرج الأطفال سرا، فلا يعلم بذلك أحد.
وكان «أرباسيس» سامعا لما دار بينهما، فقال: لا يتأتى لنا إخفائهم إلا بأحد أمرين: إما وضعهم في صناديق، وإما تغيير ألوانهم وملابسهم، وهذا الرأي عندي أسهل؛ لأنني أعرف مركبا لو طلي به جسم الإنسان يصير حبشي اللون، لا يفرق عن الحبش شيئا، ولو غسل بالماء يوميا لا يتغير إلا بعد شهر على الأقل.
فقالت «مندان»: لا عدمتك من أستاذ فاضل! تسعى بكل ما يرضي الربة.
واتفق رأيهم على ذلك، وانفض المجلس، وفي تمام الأجل المضروب أحضرت التماثيل، ووضعوهم داخل المعبد بغاية كل تحفظ، وأخرجوا الأولاد، وطلي جسمهم بذلك العلاج، وألبستهم ثياب الخدم، وسلمتهم للجاريتين، وأوصتهما بهم. وفي ثاني يوم احتفل بتقديم القربان للنار، وزين ذلك المكان، واصطفت العساكر، ولعبت في ساحة الهيكل، وذبحت الجذر على نفقة آباء الأولاد، وهم في فرح زائد كأنهم يقدمون أولادهم إلى حفلة العرس. ولما حان وقت تقديم الضحايا دخلت الملكة إلى داخل المعبد، ووقفت أمام النار، وأمرت ألا يقترب إليها أحد، ثم تقدم الموبذان، وأخرج أول طفل وقدمه أمام الملكة لأجل أن تتبرك به فمدت يدها، ومسحت على رأسه، وتلت بعض كلمات على مقتضى ديانة المجوس، وأمرت بأن يلقى في النار، ثم عجلت بإلقاء الاثنين الآخرين، وهللت الجموع، وأنشدوا الأناشيد التراجديه، وابتهج ذلك النادي كأنهم أدوا فريضة دينية.
وقد التهمتهم النار، وكانوا من الخشب المكسي بالجلد المدبوغ، ومطلي بدهان كلون الإنسان، وبعد أن فرغوا من تقديم الضحايا، ولعبوا الألعاب المختلفة، قدموا الطعام والشراب المروق فأكلوا وشربوا، وعزفت آلات الطرب، وتقدم بعد ذلك كافة الموجودين، وهنأوا آباء الأولاد بهذه النعمة التي نالوا بها رضاء الربة، وصار لهم بذلك الشرف الأعظم، ثم أجلسوهم في صدر المجلس، ووضعوا على رءوسهم أكاليل الزهور.
وبعد ذلك انصرف الجميع، وأنعمت الملكة على ذلك التلميذ الذي صنع التماثيل، وعلى جميع الخدم، وودعت الجميع، وانصرفت من ذلك المكان خوفا من أن ينكشف الأمر، ويصعب إصلاحه. وفي الحال حملت الحمول، وركبت الملكة، وساروا في طريقهم وقد فرحت وحمدت الباري تعالى الذي جعل خلاص هؤلاء الأطفال على يدها، وقدرها على حقن دمائهم الطاهرة البريئة من كل دنس.
الفصل الثاني
Bilinmeyen sayfa
في زواج مندان
وبعد أن تجولت في أنحاء تلك المملكة الفسيحة رجعت إلى عاصمة ملكها، وسلمت الأولاد إلى «أرباسيس» ليعلمهم العلوم، ويزرع في قلوبهم العلوم الدينية الحقة، وقد جعلت لهم مرتبات تكفي لأن تجعلهم كأولاد الملوك، ووضعت اسم الأول «بركزاس»، والثاني «روبير»، والثالث «فانيس»، وفي تلك الأيام جاء للملك أحد ملوك فارس، وهو الملك «قمبيز»، وطلب إليه «مندان »، وكانت في ذاك الوقت مملكة فارس تحت سلطة ملوك «مادي».
ولما كان يعلم من عدالة ذلك الملك، وحسن سيرته، وإطاعته له، فأنعم له بها، وقد زوجت «مندان» «بقمبيز»، وحملها معه إلى بلاد فارس، وكانت عاصمة مملكته مدينة «شيراز»، وكان اسمها في ذاك الوقت «أسكيراز»، وعمل في زفافها ما يلزم لبنات الملوك، وزينت «شيراز» بأنواع الزينة، وأقيمت الأفراح مدة أربعين يوما اجتمع فيهم أهالي المملكتين «ميديا» وفارس، وبعد إتمام الأفراح رجع كل منهم إلى مكانه.
وبعد ذلك بما ينوف عن مدة أشهر رأى الملك «أستياج» رؤيا هائلة أزعجته وأشغلت أفكاره، فأحضر الكهنة، وقال لهم: إني رأيت كأن ابنتي «مندان» جالسة في قصرها، وقد خرج من حضنها كرمة، فامتدت غصونها حتى إنها ظللت آسيا وأقاليمها أجمع، وقد هالني أمرها، ونهضت من فراشي خائفا مذعورا، وقد أحضرتكم لتخبروني بتأويل رؤياي هذه إن كنتم تعلمون!
فأجابوه: أن الملكة ستلد ولدا يحكم على جميع ممالك آسيا، ويتولى على مملكة «مادي».
ولما سمع الملك ذلك راعه جدا، وتأثر تأثيرا شديدا، وخاف على مملكة «مادي» من تسلط الفرس، ولكنه كتم ما في نفسه إلى أن جن الليل، وكان عنده رجل من كبار قواده يقال له «أرباغوس»، وكان يعتمده في كل أموره، فاستحضره في خلوة، وقال له: لقد حيرني أمر هذه الرؤيا، فأشر علي بما ترى.
فقال له: يا سيدي! ليس عندي من الرأي إلا أن تستحضر الملكة، وتحبسها عندك فلا تلد أبدا، وإن كانت حاملا يصير إعدام الطفل بعد الوضع. فاستصوب الملك هذا الرأي، وأرسل في طلب ابنته «مندان»، وكانت حاملا في أشهر قريبة الوضع، ولما حضرت دخلت في قصر والدها، وكان «أرباسيس» يعلم سر المسألة، فعزم على أن ينذرها ويخبرها بما في نية الملك من إعدام جنينها، فأرسل يستأذن عليها بالدخول، فأذنت له وقد سلم كل منهما على الآخر بغاية كل فرح وسرور، وقد سألته عن الأولاد الثلاثة الذين سلمت أمرهم إليه، وقالت له: أريد أن أصحبهم معي في هذه المرة. وقد سألته عما يحسنون من العلوم والفنون.
قال: يا مولاتي! إنهم في غاية النجابة والذكاء، ولكن كل منهم يميل بالطبع إلى علم من العلوم؛ لأن «بركزاس» يميل إلى ركوب الخيل، وتعلم فنون الحرب، وأما «فانيس» فإنه يميل إلى الفلسفة وعلم الطبيعة، والبحث في غوامض الأشياء، وأما «روبير» فإنه يميل إلى فن العيارة؛ لأنه لص محتال يقدر على استنباط الحيل الغريبة على صغر سنه. وإني أرى لو أذنت الملكة بإتمام تعليمهم لكان أوفق!
قالت: شأنك أيها الأستاذ وما تريد، ولما يتم تعليمهم ترسلهم لي، ولكن بدون أن يعلم بهم الملك.
قال: سمعا وطاعة! ثم تنفس الصعداء، وقال: يعز علي أن أخبرك بأمر كتمانه عنك يحدث ضررا عظيما.
Bilinmeyen sayfa
قالت: وما هو هذا الأمر أيها الأستاذ الشفوق؟
قال: يا سيدتي، إن الملك في عزمه أن يهلك ما في بطنك، وذلك بسبب حلم رآه.
ثم أخبرها بكل ما تم، وصمم عليه الملك، وكيف أرسل في طلبها لأجل هذه الغاية، وأشار عليها بعد ذلك أن تهرب بولدها؛ لأنه سيكون له شأن عظيم، فارتبكت «مندان» في أمرها المزعج، وقالت: وا ويلتاه! ماذا أصنع؟! وكيف العمل؟! أرشدني إلى طريق الصواب وإلى أين أذهب!
قال: يا سيدتي خفضي عنك ولا ترتاعي، فعندي رأي مفيد أعرضه عليك، وهو: أني سآتيك بالدهان الذي استعملناه في إخفاء الأولاد حينما كنا في معبد النار، وبعد أن تطلي به جمسك، وتلبسي ملبوس الخادمات، وسأرسل أحد خدمي الأمناء ينتظرك خارج القصر، وتخرجي ليلا، والحذر ثم الحذر من أن يعلم أحد بما دار بيننا؛ لئلا يعلم الملك فيهلكنا جميعا؛ لأنه مهتم لهذا الأمر أشد الاهتمام.
ثم ودعها وخرج، ودخلت هي إلى مخدعها، وأخرجت ما يلزم لها في السفر، وطلت جسمها بذاك الدهان الذي أتاها به أستاذها، وكان الخادم في انتظارها خارج القصر، ففتحت النافذة المشرفة على الحديقة الخارجية، ورمت حصاة، فأجابها من الخارج الخادم، وكان تحت النافذة شجرة مرتفعة جدا تكاد أن تفوق ارتفاع القصر، وكان اتفاقها مع أستاذها أن تنزل من تلك الشجرة.
والخادم ينتظرها بسلم لتسهيل نزولها إلى أسفل خوفا عليها أن يلم بها ضرر وهي حامل، وحفظا للجنين.
الفصل الثالث
في خروج مندان، ومولد كورش
فلنترك «مندان» هنا ونرجع للوزير «أرباغوس»، فإنه بعد أن أشار على الملك بقتل حفيده طرق عليه الخوف، ورجع إلى فكره، وقال في نفسه: ماذا فعلت في أمر الملكة، وماذا يصيبني إذا عملت بما دبرته لها ولولدها، وكيف بي إذا تولت زمام الملك بعد والدها، وليس له وريث سواها؟!
ولما عظم لديه هذا الفكر ضاق له صدره، ودخل على زوجته، وأخبرها بما كان، وأطلعها على ما لاح في فكره من أمر الانتقام لو علمت الملكة بما دبر لها، فقالت له: تلاف الأمر أيها الوزير، وأخبر «مندان» بما يريد الملك، ومن ثم تكون هي على نفسها بصيرة، فتدبر أمرها بنفسها، وتكون لك من الشاكرين.
Bilinmeyen sayfa
قال: نعم الرأي! ولكن أخاف أن يطلع على دسيستي أحد، فيوشي بي إلى الملك، وتكون الأخرى أشر من الأولى، ونكون عجلنا الوقوع في المصيبة، وإن انتظرت إلى حين وضعها، وآخذ الجنين، وأعمل على خلاصه أخاف أن يسلمه لغيري، فلا أقدر أن أنتشله من مخالب الموت.
قالت: اخرج لها في هذه الليلة بدون أن يشعر بك أحد وأنذرها؛ لئلا تكون قريبة الوضع، فلا تقدر على خلاصها.
فأزعن الوزير لكلام زوجته، وخرج إلى جهة القصر بملابس خفية، وصار يتربص الفرص، ولما دنى من جانب الحديقة سمع هناك حركة أوقفته عن التقدم إلى الأمام، فوقف ينتظر ماذا يكون - وكان الظلام حالكا - ولما سمع صوت وشيش الشجر تقدم قليلا، وقد سمع صوتا رخيما يقول: تقدم مني أيها الأمين؛ لأني أشرفت على السقوط.
ولما سمع الوزير ذلك سار إلى الأمام، فوجد الخادم صعد إلى أعلى الشجرة أخف من النسيم، وأسرع من البرق، وأدرك «مندان»، وأخذ بيدها، وأنزلها إلى أسفل الشجرة بغاية التأني، وكان الوزير قد صعد على درجتي السلم، وقال بصوت منخفض: انزلي يا مولاتي ولا تخافي من شيء.
ولما سمعت «مندان» ذلك ارتعبت ووقفت في مكانها، ولما رأى منها ذلك تقدم إليها، وسكن روعها ، وقال: يا سيدتي فإني ما أتيت إلى هنا إلا بقصد خلاصك من الشر المحاط بك.
قالت: من أنت؟
قال: أنا «أرباغوس»، وليس هذا وقت الكلام، انج بنفسك أيتها الملكة. ومن ثم أخذ بيدها مع الخادم، وأنزلها بغاية الاحتراس، ولما صاروا خارج السور، وجدوا هناك «أرباسيس» في انتظارهما، وحينما رأى معهما رجلا ثالثا تعجب، واحتار في أمره، وكان قد أحضر مطيتين من الخيل الجياد، والثالث له، وأركب «مندان»، ثم ركب، وأمر الخادم بالركوب، فقال الخادم: لا يمكنني الركوب مع وجود دولة الوزير.
ولما سمع ذلك «أرباسيس» أخذته الدهشة، وكان يعلم أنه هو السبب بإساءة «مندان»، وقد نظر الوزير إلى تعجبه واندهاشه، وكيف توقف عن المسير، فتقدم إليه، وقال: أحسن ظنك بي أيها الأستاذ، ولا تعجل بشيء حتى تتصور سر المراد من هذا العمل، ولا تخشى مني أبدا، وعندما نصل إلى محل الأمن أنا أخبرك بسبب وجودي معكم.
ولما سمع الكاهن منه ذلك اطمأن نوعا، وقدم له المطية فركب وساروا، والخادم يعدو أمامهم إلى أن وصلوا إلى أول باب، وكانت المدينة بسبعة أسوار - كما قدمنا - والحراس تحيط بهم من كل صوب، ولما قربوا إلى الباب اعترضهم الحراس، وأرادوا منعهم، وحينئذ تقدم الوزير وقال: افتحوا لنا الأبواب؛ لأني أريد أن أتفقد الأبواب، وأنظر في حالة الجند وماذا يصنعون.
ولما علم الحراس أنه الوزير فتحوا الباب بدون مراجعة، فعبروا أول باب، وساروا قاصدين الثاني، وكان بين الأسوار منازل الشعب - كما أسلفنا - وهكذا حتى خرجوا من الباب الثالث، وهناك أشرق الفجر. ولما ظهر نور الصباح قال الوزير: يلزم رجوعي، ولكن لا آمن على الملكة من أن يصيبها سوء حتى تخرج إلى خارج المدينة.
Bilinmeyen sayfa
ثم جدوا في المسير إلى أن بلغوا الباب الرابع، وهناك وجدوا أحد الجنود خارجا من داخل البرج، فطلب إليه الوزير أن يفتح الباب على حسب العادة في الأبواب السالفة، فامتنع الخفير وقال: لا يمكن أن أفتح الباب إلا أن تعلموني من أين آتين وإلى أين ذاهبين!
فقال «أرباسيس»: نحن من خدام الملك ، وقد أمرنا أن نذهب إلى المعبد الأكبر بهذه الجارية لتتوسل أمام النار لنأذن لها بالشفاء؛ لأنها مريضة منذ أشهر.
قال: ولكني أرى لها شأنا؛ لأن الوزير سائر في ركابها، وهي جارية حبشية على ما أرى. وكان هذا الحارس له بالوزير معرفة تامة، فاحتار الوزير في أمره عند سماع هذه الجملة، وقال في نفسه: كيف الخلاص من هذا الرجل، فإذا استعملنا معه القوة استنجد بباقي الجند، وافتضح الأمر، وحبط المسعى؟!
ثم تقدم الوزير إلى الأمام، وقال: افتح الباب أيها الرجل وإلا لا عذر لك بعد المعرفة.
فالتفت إليه الرجل، وقال: نعم سأفتح، ولكن سيظهر ما أنتم صانعون.
ثم فتح الباب وخرجوا جميعا، وتخلف الخادم، وقال للرجل: كيف تتجرأ على الوزير بالمنع؟! أليس هو سر الملك، فكيف تمنعه وهو ربما يكون متوجها لأمر يخص الملك، ولا يريد أن يطلع عليه أحد سواه؟!
فهز الخفير أكتافه، ولم ينطق بشيء، وصار الخادم يتبعهم، ولم يزالوا سائرين إلى أن خرجوا من الباب السابع، وهناك ودع الوزير «مندان» بعد أن أخبرها بكل ما حصل من أمرها وأمر الملك، ورجع وقد أوصى «أرباسيس» بسرعة الإياب؛ لئلا يعلم الملك بغيابه، فيلقي عليه الشبهة باختفاء «مندان» فشكره «أرباسيس»، وسار كل منهم في طريقه.
أما «مندان» ومن معها فساروا يقطعون القفار إلى أن ابتعدوا عن المدينة مسافة نصف يوم، وفي غضون ذلك التفتت «مندان» إلى أستاذها، وقالت: أراني عجزت عن أن أخطي خطوة واحدة أيها الأستاذ.
فلما سمع ذلك اندهش وقال: تجلدي يا مولاتي لنصعد على قمة هذا الجبل؛ لئلا تدهمنا الخيل، فيأخذوننا إلى الملك؛ لأنها الآن في طلبنا بدون شك.
قالت: لا سبيل إلى ذلك؛ لأنه قد اشتد علي المخاض، وإني عاجزة عن القيام بما أمرت.
Bilinmeyen sayfa
وحينئذ صعد الخادم إلى أعلى الجبل بقصد أن يجد لها محلا يأويها إليه عن عيون المارة، مثل كهف أو غيره، ولما صار على سطح الجبل وجد على بعد خصا لأحد الرعيان فقصدة، ولما دنى منه وجد امرأة جالسة على الأديم فحياها، وسألها عن أمرها، فقالت: أنا «سباكو» زوجة «ميترادات»، رئيس رعيان الملك، وقد ذهب زوجي لدفن غلام لي مولود منذ ثلاثة أيام، فانتظره على الرحب والسعة.
فقال: لا بقصد الضيافة أتيت، ولكن معي جارية حبشية، وهي زوجتي، وقد خرجنا من المدينة بقصد زيارة المعبد، وحيث أنها حامل، ولم تقدر على قطع الطريق، وقد وافاها المخاض، فأرجوك قبولها عندك حتى تضع حملها.
فقالت: أين هي الآن؟
قال: إنها في سفح الجبل.
قالت: انزل وآتني بها، فأنا أدبر أمرها بنفسي.
ففرح الخادم وأسرع إلى مولاه، وقال: أبشر يا سيدي! فإنني وجدت من يدبر شأن مولاتي الأميرة.
وأخبره بما تم مع زوجة الراعي، ثم قال: يلزم رجوع سيدي إلى المدينة، ودعني أنا معها إلى أن يفعل الله ما يشاء.
فاستصوب رأيه، وأصعد «مندان» إلى أعلى الجبل، وقد استقبلتها زوجة الراعي بكل حنان، وكان قد اشتد عليها المخاض، وأوهى جلدها، فأسرعت بها إلى داخل الخص، وجهزت لها ما يلزم، وبعد برهة قليلة، وضعت غلاما ذكرا كأنه الهلال، فتلقته «سباكو» بقلب شفوق، وأحنت عليه ضلوع الرأفة، ووضعته على ثديها الممتلئ لبنا - وقد كنا أسلفنا أنها وضعت منذ ثلاثة أيام، وحين حضور الخادم إلى عندها كان زوجها توجه ليدفن ولدها المائت - ولما رأت «مندان» ولدها ابتهجت، وانشرح صدرها لما نظرت إلى محياه، ومدت يدها إليه وتناولته وقبلته، ورفعت طرفها إلى السماء، وقالت: اللهم إني أتوسل إليك بعظمتك الإلهية، وعزتك الجبروتية أن تحفظ ولدي من كل سوء، ومن كل عدو، إنك قادر على كل شيء! ثم قبلته قبلات عديدة، وسلمته إلى «سباكو».
وقالت لها: إني سميته «كورش» (ومعناه الشمس)، فاحفظيه عندك إلى حين رجوعي، وإن لم أرجع فهو ولدك، فإني سأتوجه إلى المعبد من وقتي هذا. وكان قصد «مندان» بترك ولدها خوفا من أن يدركها أحد من جيوش الملك فيظهر أمرها بوجود الطفل معها.
وبعد أن أخذت لنفسها قليلا من الراحة، توجهت هي والخادم قاصدة بلاد فارس.
Bilinmeyen sayfa
الفصل الرابع
فيما جرى في قصر الملك
وكان الملك «أستياج» في صباح تلك الليلة جالسا في غرفته الخصوصية ينتظر حضور ابنته كعادتها فلم تحضر، فانشغل فكره بأمرها، وظن أنها وضعت لعلمه بقرب أيام الوضع، وبينما هو كذلك يضرب أخماسا لأسداس، ويدبر حيلة يهلك بها الطفل، وإذا بالجارية الموكلة بحفظ «مندان» ومراقبة ولادتها قد دخلت على الملك مرتجفة الأعضاء منحلة العزائم شاحبة اللون. ولما رآها الملك على هذه الصورة قال: ما وراءك أيتها الجارية؟
قالت: حدث أمر أوجب القلق، وحير الأفكار، وهو أن سيدتي «مندان» قد فقدت في هذه الليلة، وقد بحثنا في كافة أنحاء القصر، فلم نقع لها على خبر، ولا وجدنا لها أثرا! فلما سمع الملك هذا النبأ طار عقله من دماغه، وقال: علي بالوزير «أرباغوس».
ولما حضر قال له الملك: انظر أيها الوزير ماذا جرى «لمندان»، وكيف خرجت من القصر، ولا أعلم كيف خرجت، ولا إلى أين ذهبت؟! فأرسل الآن فرقة من العساكر لأجل أن تمسك عليها الطريق حتى لا يتسنى لها الهرب.
فقال الوزير: لا يمكن أن تكون خرجت من المدينة، فلنبث العيون في أنحائها لعلنا نقع لها على خبر.
وكان قصد الوزير بذلك انشغال العسكر بالتفتيش داخل المدينة؛ لبينما تكون قد سلكت طريق السلامة، ثم استأنف الكلام، وقال: وإذا أراد سيدي أن أمسك الأبواب على المارة؛ لئلا تخرج في هذا اليوم من المدينة؟
فقال الملك: نعم ما رأيت أيها الوزير! ولكن أسرع قبل فوات الوقت. فسار الوزير وأصدر أوامره على العساكر، فانبثت في أنحاء المدينة، يفتشون المنازل والطرق والحارات، ومنهم من أمسك الأبواب السبعة، ولم يزالوا كذلك إلى ما بعد الغروب، فلم يجدوا لها خبرا، ورجعوا إلى الملك بخفي حنين!
فغضب الملك غضبا شديدا، ودخل إلى حجرته حزين القلب باكي العين، ولم يجسر أحد من الناس أن يكلمه في شيء ما.
وكنا أسلفنا أن أحد الحراس قد تعرض للوزير حين خروج «مندان»، وكان بينه وبين الوزير حقد قديم.
Bilinmeyen sayfa
ولما رأى الناس في ارتباك وتفتيش على الملكة «مندان» لم يشك أن التي رآها في تلك الليلة هي «مندان»، وأن الوزير له يد في إخفائها، فقال في ذاته: إني لا أجد لترقيتي وتشفي غلتي من هذا الوغد خير من هذه الفرصة.
ثم لبس آلة حربه، وامتطى جواده، وسار إلى جهة قصر الملك، وكان الوزير بعد أن انتهى من آداء ما يجب من البحث والخدمة اللازمة توجه إلى منزله مطمئن الخاطر على نفسه وعلى «مندان»، وأخبر زوجته بما تم ففرحت بخلاص «مندان»، وشكرته على ذلك.
أما الحارس فإنه لم يزل سائرا إلى أن بلغ قصر الملك، واستأذن عليه، فأذن له بعد الممانعة من الحراس وغيرهم، وبعد تأدية ما يجب من الخدمة، قال له الملك: ماذا تريد، ومن أنت؟
قال: أنا أحد حراس الأبواب، وقد رأيت البارحة أمرا لم أشك في خيانة الوزير «أرباغوس».
ثم أخبره الخبر، ولكن لم يقل له إنها حبشية اللون تأكيدا للتهمة، وكان الملك يعتمد على «أرباغوس»، ويلقي إليه مقاليد الأمور، ويرتكن عليه في جميع أموره، ولما سمع من الجندي هذا الكلام احتار في أمره، وافتكر قليلا، ثم رفع رأسه، وقال: اكتم ما قلت لي أيها الجندي. وأذن له بالخروج فخرج، وهو يمني نفسه بكل خير.
أما الملك فإنه تذكر ماذا يصنع مع «أرباغوس»، وكيف أنه كان السبب بقدوم «مندان»، وكيف تسبب بخلاصها، وقد عظم عليه هذا الأمر، وتوسم الخيانة في الوزير، وقد قصد تدبير الحيلة لمضرته بأي سبب، ولكي يكون الجزاء من جنس العمل، وكان لهذا الوزير ولد وحيد يعزه ويحبه محبة فوق العقول لما عنده من النجابة والأدب، فأرسل الملك له فحضر وسلم، فأمر له بالجلوس فجلس، وقد أظهر له الملك كل بشاشة، وسأله ماذا يفعل بأمر ابنته «مندان»، وقال: لا بد أن يكون لها من بلغها خبر الإيقاع بالجنين، فلأجل ذلك تجشمت أخطار الهرب لتنجو بطفلها.
قال: لا يبعد ذلك أيها الملك، وإلا فما الموجب لهربها تحت جنح الليل، ولكن أملنا وطيد بأننا سنعثر عليها في قريب من الوقت.
فسكت الملك عن الجواب برهة، ثم غير الموضوع، وقال: أريد أن تكون ضيفي في هذه الليلة، وتأتي بولدك معك؛ لأني لم أره منذ مدة.
قال: سمعا لأمر الملك.
ولما رجع إلى منزله قال لزوجته: أحضري ولدك ليتهيأ لمقابلة الملك.
Bilinmeyen sayfa
فقالت وقد خفق قلبها: ماذا يصنع الملك بولدي أيها الوزير؟
قال: لا أدري ماذا يصنع به! ولكني لا أعلم ماذا أقول! وأخاف إن لم أمتثل أمره يمثل بي وبولدي معا ويقتلنا شر قتلة.
فسكتت زوجته على مضض، وأحضرت الغلام وألبسته أحسن الملابس، وأرسلته مع والده إلى قصر الملك، ولما وصل إلى أول باب وجد جملة من أولاد الوزراء والحاشية، فاطمأن قلبه ودخل، ثم انخرط الغلام بين هؤلاء الحدثان، ودخل «أرباغوس» فوجد جملة من حاشية الملك، فسلم وجلس في مكانه على حسب العادة. وكان الملك أمر الخدم أن يذبحوا ابن «أرباغوس»، ويقطعوا الرأس واليدين، ويضعوهم في سلة، وبعد الفراغ من الطعام يقدموهم بين يديه، ويكشفوا الغطاء، ففعل الخدم بما أمرهم الملك. ولما رأى وجه ولده وبقاياه طاش لبه وذاب قلبه، وغاب عن الوجود، ولكنه تجلد على مضض، وأظهر الحزم، وأخفى حزنه، وقال: كل ما فعله الملك، هو مقبول عندي لا أراجعه فيه، ولم يخرج ولدي عن كونه أحد رعاياه، وفرع من دوحة فضله.
فقال الملك: إنما فعلت ما فعلت لتصير مثلي عديم الولد؛ لأني صرت كذلك بسببك، وأنت تكون عديم الولد بسببي؛ لأن «مندان» أنت الذي أشرت علي باستحضارها، وأنت الذي أخبرتها، وأخرجتها من المدينة، وقد عفوت عنك، واكتفيت بهلاك ولدك، وأقرك على عملك.
فشكره الوزير وانصرف إلى منزله حزينا كئيبا، ودفن عظام ولده، وأقيمت الأحزان في دار الوزير، ولبست والدته ومن في القصر الحداد، وهكذا تم الأمر بين الوزير «أرباغوس» والملك «أستياج».
الفصل الخامس
فيما كان من أمر مندان
قد كنا تركنا «مندان» سائرة مع الخادم على طريق بلاد فارس، ولم يزالا سائرين إلى أن بلغا شاطئ البحر، فوجدا هناك سفينة سائرة إلى فارس، فالتمسا من الربان أن يصحبهما معه، فلبى طلبهما وركبا، وسارت السفينة تشق عباب الماء إلى منتصف الليل. وكانت «مندان» قد شغلها تعب السير، وتعب النفاس عن كل شيء، فانطرحت في جانب السفينة لا تعي على شيء مما هنالك. وإذا هم بالبحر قد هاجت أمواجه، وأزبد وألقت الرياح كل قواها على تلك السفينة الضعيفة، حتى صارت تلعب بها كلعب الأسد بفريسته أو الهر بصيدته، هذا وقد تقطعت حبالها، وتكسرت سواريها، وقد غاب رشد الربان والركاب والملاحون جميعا من هذه النازلة، ويئسوا من الخلاص، وابتهلوا بالدعاء كل على قدر دينه؛ فمنهم من يستغيث بالله تعالى، ومنهم من يطلب من النار الخلاص، ومنهم من يستنجد بالأصنام، وهكذا، إلى أن أشرق الفجر، وقد ألجأتهم الأمواج إلى شاطئ جزيرة هناك آهلة بالسكان، عامرة بغاية الحضارة والزخرف، ولها ملك يقال له «جرمانوس»، وهو يعبد الأصنام دون الملك العلام.
ومن ضمن تلك المعبودات كبش عظيم الخلقة أبيض اللون، وقد بنى له قبة عظيمة، وزينها بزخارف الزينات البديعة المنظر، وأفرض لخدمته جارية خصوصية تقوم بكل ما يلزم له من أكل وشرب وتنظيف. وكان في ذلك اليوم الذي رست فيه السفينة التي فيها «مندان» على الجزيرة قد توفيت تلك الجارية الموكلة بخدمة الإله، فصار الخدم يبحثون على جارية بأمر الملك غير تلك الجارية، ولما رأوا السفينة تجاروا إليها على قدم السرعة بصفة كونها تجارية، ولما صعدوا على ظهرها، وجدوا «مندان» جالسة، فقال أحدهم للربان: لمن هذه الجارية؟
قال: لأحد الركاب، وها هو الآن معنا.
Bilinmeyen sayfa
قال الجندي: علي به.
فأحضروا «أديوس» الخادم، فقال له: بعني هذه الجارية.
قال: ليست هي للمبيع حتى أبيعها، بل هي زوجتي.
قال: لا بد من ذلك؛ لأن الإله جالس وحده، وليس عنده أحد.
فمانع «أديوس» بكل طاقته فلم يجد دفاعه نفعا، وهجم الخدم على «مندان» وأنزلوها إلى الزورق، وهي تبكي وتنتحب، وساروا بها إلى الجزيرة، وأدخلوها على الملك، وقالوا له: إننا وجدنا هذه الجارية في إحدى السفن الموجودة الآن في المرفأ، فأتينا بها أيها الملك.
فالتفت الملك إلى «مندان» وقال لها: ما اسمك أيتها الجارية؟
قالت: اسمي مندان.
قال: وما أتى بك إلى هذه البلاد، ويظهر أنك حبشية الأصل ، وهل أنت حرة أم مملوكة؟
قالت: أنا حرة، ولست مملوكة.
وكرهت أن تقول مملوكة خوفا من أن يطلب شراءها ممن ملكها، أو تدنس لسانها بأوساخ الكذب، فقال: يا مندان، إني أريد أن أرفع منزلتك إلى أعلى مما أنت فيه الآن.
Bilinmeyen sayfa
فلما سمعت منه ذلك اضطرب فؤادها، وقالت: إني أريد السفر إلى بلادي أيها الملك، ولا أريد الإقامة هنا مهما كان الأمر.
قال: لا بد أن تتشرفي بخدمة الإله مهما قدمتي من الموانع؛ لأنه الآن وحيد، وليس عنده أحد؛ لأن خادمته قد توفيت.
وكان الملك يكلمها بلهجة تهديدية حتى شعرت أن الأرض من تحت أقدامها تمور، ثم أمر بإرسالها إلى القبة الآنفة الذكر، فأرسلت رغما عن أنفها، فسلمت الأمر لله تعالى، ودخلت إلى ذلك المكان الذي حسبته جنة على وجه الأرض، وكان في تلك القبة جملة حجر مفروشة على النسق الملوكي. فأدخلوها إلى حجرتها الخصوصية، وقدموا لها كافة ما يلزم من أكل ومشروبات وملبوس، ثم فتحوا لها مخدعا هناك مفروشا بالرخام منقوش الجدران بأحسن ما يكون من النقوش، وهو على يمين الداخل من تلك القبة، وفي صدر ذلك المكان حوض من المرمر فوقه أنابيب من الفضة المحلاة بالذهب، وإلى جانبه باب عليه ستر من الحرير الذهبي، فرفع الخادم الستار، وأدخل «مندان». فنظرت وإذا هي بمكان أبهج وأحسن من الأول، وفي وسط المكان أسطوانة من الذهب الخالص قد أحكمت بأحسن صنعة من أمهر صانع، وجعلوا على دائرة تلك الأسطوانة شبكة من الذهب مرصعة بالأحجار الكريمة مطروحة على قضبان من الزبرجد شبيهة بقفص، ومن داخلها كبش ناصع البياض كبير الجسم معتدل القرنين، وقد سلسل بسلاسل من الذهب، وفي عنقه قلادة من الجوهر لا توجد إلا في خزائن الملوك، وأمامه حوض من الذهب فيه مأكوله، وحوض آخر فيه ماء لشربه.
وحينئذ التفت الخادم إلى «مندان»، وقال يا جارية: إن الملك يأمرك أن تخدمي هذا الإله، وهو كبير الآلهة، ولا تخرجي من هذا المكان إلا في كل سنة مرة، وهو يوم عيد الإله الأكبر. وفي ذاك الوقت يبالغ الملك والحاشية، وأكابر الدولة والرعية، وكافة أكابر البلاد في إكرامك، فتصيرين سعيدة إذ ذاك، ويتبرك بك العالم أجمع.
ولما سمعت منه ذلك نظرت إليه بعين المحتقر ولم تحر جوابا، غير أنها استغفرت الله في سرها، ورجعت إلى حجرتها الخصوصية التي أعدت لها، وخرج الخادم، وأقفل الأبواب، وناول المفاتيح إلى البواب، وأوصى الحراس بحفظها، وصعد إلى غرفته، وكانت فوق الباب الخارجي، وكان اسمه «بروتوس».
أما «مندان» فمكثت تخدم الكبش مدة ثلاث شهور، وصباغها الحبشي أخذ يتناقص شيئا فشيئا حتى رجع لها لونها الأصلي، فصارت كأنها القمر ليلة البدر، وكان كلما نظر إلى محياها ذلك الخادم، ورأى بشرتها تزهو بياضا ابتهج، وصفق طربا، وعدها كرامة من مكارم (ربه الخارف)، وصار يكلم الناس بهذا الخصوص، ولم يزل الخبر يتناقل حتى بلغ مسامع الملك، وكان لهذا الملك ولد جميل الطلعة معتدل القوام مستحوز على كافة ضروب الأدب كامل المروءة شريف الأخلاق عزيز عند والده والناس أجمعين.
وكان يدعى «هيان فونك» فدعاه والده إليه، وقال: يا ولدي! قد بلغني عبارة عظيمة تؤيد ما للإله الأكبر من الكرامة، وهو أن الجارية الحبشية التي في خدمته قد تغير لونها من السمرة إلى البياض حتى صارت شائقة اللون، وإنها مقبولة عنده، فأريد الآن أن تمضي إلى القبة، وتأتيني بالخبر الأكيد.
فلبى «ألفونك» أمر والده، وذهب إلى تلك القبة، واستأذن على «مندان»، وكانت إذ ذاك مشتغلة بعبادة الله - سبحانه وتعالى - على الطريقة التي علمها لها أستاذها «أرباسيس»، ولما جاء «هيان فونك» خرجت لملاقاته، واستقبلته بكل بشاش، ثم أمرت له بالجلوس فجلس، وصارا يتذاكران بأمر الإله، وهي تخبره بما أجرته له من الخدمات، وصار هو يمعن فيها النظر، ويتأمل في بديع جمالها، ورقيق ألفاظها، وقد شعر في تلك الساعة أنه ثمل مما خامر لبه، وتملك جميع حواسه من رقيق معانيها، وقد أكبر أمرها، وشك فيما ذاع عنها أنها حبشية. وبعد ما تكلما فيما يلزم، وأكد ما جاء لأجله، ودع «مندان»، وانصرف من عندها طائش العقل مأسور الفؤاد ، ودخل على والده، وأخبره أن ما بلغه هو عين الحقيقة، وليس فيه أدنى ريب، فابتهج الملك، وأمر أن يبالغوا في إكرامها ففعلوا، وكان ذلك مما يسوء «مندان» حيث إنها لا تريد الانشغال بزخارف هذه الحياة الفانية، وكان أكثر فكرها في أمر ولدها لا تعلم ما تم من أمره، وماذا حل به بعد تركها له عند زوجة الراعي فتتحسر وتتضجر، ولكنها تلهو بالعبادة والتضرع إلى الله أن ينجي ولدها من كل سوء ومن شر والدها وغدر الدهر.
الفصل السادس
في غرام هيان فونك
Bilinmeyen sayfa
وجلست «مندان» في حجرتها يوما من الأيام تتذكر أيام عزها، وأوقات أنسها، وقد ضجرت من ذلك المحبس والسجن الأبدي، فبكت بكاء مرا، ولسان حالها يقول:
زاد البلاء من الزمان وقد ألم
بفؤاد من لا يشتكي منه ألم
يا دهر كم ألقى وكم أشقى وكم
أسقى كئوس القهر مترعة وكم
ثم بكت، وارتفع نحيبها حتى غشي عليها، وانطرحت على الأرض لا تعي على شيء، وكان ابن الملك في تلك الساعة أمام الباب ينتظر الإذن ليدخل على «مندان» وكنا أسلفنا أنه قد تولع بحب «مندان» من أول يوم رآها فيه، ولكنه لما جبل عليه من الإنسانية، وشرف النفس كتم عنها ذلك لما يعلم ما هي عليه من الصيانة، وقد قنع منها بنظرة أو سماع كلمة، وصار يتردد عليها في بعض الأحيان، وينجز كل أوامرها، وما يلزم لها من الخصوصيات.
إلى أن كان ذلك اليوم، وقد تغلب عليه سلطان الغرام، وعظم لديه الوجد والهيام، ونفد منه الصبر، واشتد لديه الأمر.
فبكى مندهشا مما حصل في ذلك الهيكل الحيوي من الاضطراب، ولسان حاله يقول:
دع مهجتي تزداد في خفقانها
ليس الشكاية في الهوى من شانها
Bilinmeyen sayfa
وانظر فإن حشاشتي كصحيفة
لا شك أن الدمع من عنوانها
ثم تجلد ونهض قائما، وركب جواده وتوجه قاصدا طريق القبة لعله ينظر مليكة فؤاده؛ إذ ليس له أمل في غير تلك النظرة.
ولما وصل إلى القبة، ودخل إلى جهة غرفة «مندان» مستأذنا - كما قدمنا - سمع ذاك الأنين والنحيب - كما سلف - فخفق فؤاده، وظن أنه قد أصابها ما أصابه من الوجد والهيام فخفق وطيء أقدامه، وصغى إلى ما تتلفظ به من الكلمات، وإذا بها تذكر عظمة الإله الأعظم جل وتعالت أسماؤه، وتقول: إلهي عظمت قدرتك، واشتد بطشك، إلهي خلصني من يد من يعبدون غيرك ويأكلون خيرك، يا أعظم من كل عظيم، قد طال - وعزتك - أمد هذا العناء، وعظم البلاء، واشتد الكرب، وعيل الصبر. اللهم خلصني و... خرت مغشيا عليها - كما تقدم.
وكان «ألفونك» سامعا ما تلفظت به من ذكر الله - سبحانه وتعالى - وقد اقشعر جسمه، وحن قلبه، واشتاق إلى معرفة هذا الإله الذي سمع اسمه من أحلى ثغر وأحب نغمة طرقت مسامعه، فارتعشت أعضاؤه، وقد سمع سقوطها على الأرض فطاش لبه، وفتح الباب، وهجم على غير انتباه، وهو غائب الرشد، وقد حملها بين ذراعيه، وطرحها على سريرها، وهو باكي العين حزين القلب، وقد اجتهد في تنبيهها حتى أفاقت، وفتحت عينيها، فوجدت ابن الملك فوق رأسها، فاندهشت لحضوره في مثل هذا الوقت، ولما رأى منها الحيرة، قال لها: كوني مطمئنة يا مولاتي، ولا تزعجي أفكارك، فإني ما أتيت إلا على سبيل الزيارة، فوجدتك على هذه الحالة. والآن أقدم رجائي بين يديك، وأتوسل بهذا الإله الذي تذكرينه بهذه الصورة، وهذا التوجع الخارج من صميم الفؤاد أن تخبريني ما سبب بكائك، واصدقيني حقيقة خبر حالك؛ لأني أرى لك شأنا وأي شأن، واعلمي أني أعاهدك عهدا مقرونا بالذمة والشرف على أن أكون لك مساعدا ومعينا ما دمت حيا، وأعضدك بكل ما في وسعي، ولو كان في هذا ضياع نفسي.
ولما سمعت «مندان» هذا الكلام الصادر عن قلب خال من الغش والرياء مجبول على الإخلاص، وحسن الطوية قالت: يا سيدي إني أعتقد صدق ما تقول، ولكن لا أقدر على إخبارك بكل ما عندي.
فقال: يا مندان! ... ثم سكت برهة يفكر، وكان جل فكره أن يدخل في دينها، ويعبد الإله الذي تعبده.
ثم رفع رأسه، وقال: إني سمعتك تذكرين إله السماء، فهل تكونين لي مرشدة إلى طريق عبادته حتى أكون لك عبدا ما دمت في قيد الحياة؟
ولما سمعت «مندان» منه ذلك تهللت أسرتها وأبرق جبينها بأشعة الفرح، والتفتت إليه قائلة: هل تريد أن تدخل في الدين القويم، وهو دين إبراهيم الخليل؟! واعلم أن كل ما عبدتموه من هذه المعبودات باطل لا أصل له؛ لأنها كلها صنعة الخالق، ولا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا، فمثل هذا الكبش مثلا، فإنه لا يقدر على شيء ولا يدرأ عن نفسه شيئا، ويذبح ويؤكل مثل غيره من الحيوانات كذلك، فكيف يجوز لنا أن نعبدهم؟! ولنا رب هو خالق السماوات - سبحانه - إذ جعل فيهم نجوما زاهرات، وسير الشمس والقمر والأفلاك بقدرته، ونظم الكون، ومد البحار، ودبر المخلوقات، وحكمته ظاهرة في شخص الإنسان أيضا، فكيف يصح لنا، بعد معرفته، أن نعبد غيره، وهو خالقنا ورازقنا وواقينا من كل سوء؟!
فلما سمع منها هذا الكلام قال لها: قد سلبت لي بما أوضحت لي، وقد تولع قلبي بمحبة هذا الإله العظيم؛ فأرجو إرشادي إلى الطريق الذي يوصلني إلى عبادته.
Bilinmeyen sayfa