قال: أنا أقيه بنفسي وبمالي، وبكل ما أقدر عليه.
قال: وأين يكون المحل الذي يجب أن يكون فيه، ولا تصل إليه عيون الملك؟
قال: أنا أرسله إلى إحدى مزارعي، وهي في محل حسن المناظر، طلق الهواء، فيه قصر شاهق حصين، وأرسل معه «بركزاس» و«فانيس» و«روبير»، وأجري عليهم الأرزاق بما يجعلهم يعيشون كأولاد الملوك، ولا أدع أحدا يعلم لهم مكانا.
فأعجبه هذا الرأي، وقال: هو عندي الآن أيها الوزير في منزلي بين خدمي، وأنا في غاية الخوف عليه.
ولما سمع الوزير ذلك ابتهج غاية الابتهاج حتى كاد أن يطير فرحا، وقال: أين هو؟ آتني به حتى أضمه إلى صدري، وأطفئ نار وجدي على ولدي الذي أحسبه هو الآن؛ لأنه مات بسببه، فعوضني الله منه خيرا.
فأمر «أرباسيس» بإحضار «كورش» فحضر، وقام له الوزير وضمه إلى صدره، وبكى حتى بل الأرض، ثم جلس وأجلسه إلى جانبه، وسأله عن اسمه فقال: اسمي «كورش».
قال: ومن هو والدك؟
قال: يا سيدي! بكل أسف أخبرك أن والدي أقل من أن يذكر في مجلسك؛ لأنه راع، واسمه «ميترادات»، واسم أمي «سباكو»، ومعناها: «الكلبة»، وما أدري سبب هذا الاسم لها، فإنها آية اللطف والله يا سيدي!
فتعجب الوزير من حسن منطقة ورشاقة أسلوبه في إلقاء العبارة، ثم ضمه إلى صدره، وقبله مرارا عديدة، ولم يبد له شيئا عن والديه؛ لأنه يعلم أن الملك مهتم بجمع الجيوش، وتحصين القلاع، وعازم على ضرب مدينة «طهران» وهي المدينة التي يحكمها والد كورش، ويدفع خراجها إلى الملك «أستياج»، وكان لما علم «قمبيز» والد «كورش» أن زوجته وولده فقدا، فجاهر بالعصيان، وكان الوزير يدس عليه الفتن، ويخبره بأسرار المملكة، وقد جمع الجيوش، وحصن بلاده، وصار مستعدا للدفاع عن بلاده، هذا وقد أمر الوزير بأن يركب «كورش»، ومن معه - بعد أن طلى جسمه بصباغ أسود، فصار كالعبد النوبي - فركبوا جميعا، وساروا إلى المزرعة، وكان الوزير أعطى تعليماته لأحد خدمه الأمناء ليحضر لهم كل ما يحتاجون إليه في ذلك المحل اللائق لسكنى هذا الأمير الجديد، وكانت تلك القرية واقعة في بقعة نضرة زاهرة في سهل متسع على جانب نهر جار كالسلسبيل، ينساب من جانبها الغربي، ومن وراء هذا النهر جبل شامخ مرصع بالأشجار الزبرجدية، والماء يلتف من حوله كالطوق في جيد الحسناء، ومن الجانب الشرقي من النهر أراض واسعة خالية من الأحراش والغابات صالحة للزرع، وفي وسطها حديقة غضة، وفيها من كل فاكهة زوجان قطوفها دانية وأثمارها يانعة. وفي تلك الحديقة قصر مشيد مقام على أحسن ما صنع في ذلك الزمان، وفيه من الزخارف ما يفوق عن قصور الملوك، قد جعله الوزير متنزها له يرحل إليه في فصل الربيع من كل سنة، وفي الجانب الغربي من النهر غابات ومناظر طبيعية قد غرستها يد القدرة الإلهية، واعتاد الناس التنزه في تلك الأحراش.
ولما كان اليوم الذي قدم فيه «كورش»، وكان سبقهم الخادم الذي أرسله الوزير إلى حارس القصر، وأمره أن يهيئ كل ما يلزم فامتثل الأمر، وأجرى كل أوامر سيده حتى إذا جاء «كورش» ومن معه وجدوا أنفسهم كأنهم في جنة الفردوس، فجلس كل منهم في الحجرة التي أعدت، وأفردوا «لكورش» حجرة خصوصية، وأحضروا له كل ما يلزم له، وقد جعلوه نصب أعينهم، وصاروا يلقنونه الدروس في مواعيدها، من علوم، وفروسية، وغير ذلك. وهو يتعجب من هذا الاعتناء الغريب الذي يرى نفسه غير مستحق له؛ لأنه ابن راع، وفوق ذلك فإنه مغضوب عليه من الملك؛ لأنه ضرب ابن أحد الأمراء. هذا ما كان يعلمه «كورش» ويفتكره في نفسه.
Bilinmeyen sayfa