وقام الرسام بعمل الصورة، وقد خيل إليه أنه كان في حلم عميق إبان الأيام الثلاثة التي جلست فيها أمامه أجمل امرأة على وجه الأرض! لقد كان يشتغل بنشاط فذ وقوة عجيبة طوال هذه المدة، لقد جلست أمامه الثلاث جلسات الموعودة، ولكنها كانت تبقى أمامه في كل جلسة أربع ساعات تتخللها فترات استراحة قصيرة. لقد خيل إليه أول مرة دخلت عنده في الاستديو أنها فتاة مدرسة خرجت أول مرة إلى الحياة، وأحس في آخر مرة تركته أنها المرأة الوحيدة التي أحبها قلبه.
لقد كانت طفلة، ولكنها امرأة، وكانت امرأة، ولكنها طفلة؛ فقد كان أشهى وأعذب ما فيها تلك الطفولة المحببة. ما كانت تتكلم معه طويلا أثناء الجلسات، لا لشيء إلا لأن برتراند لم يكن ينفرد وإياها، إذ كان في صحبتها دائما معلمها ورقيبها الذي لا يجوز لفتاة في مركزها أن تخرج من منزلها بدونه. لقد شعر أنها تفهم طريقة عمله؛ كانت تجلس بلا حراك ولكنها ممتلئة بالحياة. لقد كانت عيناها وفمها ويداها العجيبتان كلها تنطق بحيويتها، وكانت ابتسامتها تكشف عن الإشراق، ولا تتشعع نظرتها الجميلة إلى حملقة فارغة. فإذا احتاجت للراحة نزلت إليه ووقفت خلفه، بينما لا يزال مستمرا في عمله. وكان وجودها هكذا قريبا منه يسكره؛ فكانت يده ترتعش، إلا أنه ما كان لينظر خلفه؛ ويعلم الله ماذا كان يحدث لو فعل؛ فقد كان في هذا الوقت قد شغف بحبها. ولقد قالت له مرة وهي ترتشف قدحا من النبيذ في فترة استراحتها: إن فيك لفنانا عظيما يا مسيو برتراند، ولقد أحس برغبة جامحة في أن يلقي بأطباقه وفرشته ليطوقها بذراعيه قائلا لها: إن في لمحبا عظيما لو صدقتني وأعطيت نفسك لي.
لقد كان جنون سيرل برتراند بنوال فيرونيك كريستوف ابنة المليونير بعيد الاحتمال بعد الكوكب عن الأرض، ولكن اليأس في شئون الهوى قلما يلج قلب الشباب. وبدأ سيرل يحلم أحلاما جميلة؛ فقد عجل خياله بوصوله إلى قمة المجد، وتصور نفسه يدخل مطعم «الملوك الثلاثة» والناس يهمسون حوله قائلين: هل ترى ذلك الرجل الذي دخل الآن؟ إنه سيرل برتراند أعظم فناني عصره، إنه تزوج فيرونيك كريستوف ابنة المالي الكبير. غير أن كل هذا الجنون لم يكن سوى أحلام.
لقد عرضت الصورة في صالة العرض وعلق النقاد عليها مؤملين في المصور الشاب مستقبلا عظيما. واستحضر سيرل ثوبا جديدا وترقب دعوته إلى الحفلات العامة حيث يحظى برؤية فيرونيك أو ينال حظ التكلم معها ولو بضع كلمات، ولكن قلما استطاع هذا؛ فقد كان يحوطها دائما جمع من الشباب والرجال المتأنقين وأصحاب الأسماء الأرستقراطية. ولقد ذهب إلى الأوبرا وجلس في الصالة واختار مقعدا يستطيع فيه أن يراها وهي في مقصورتها، ولكم حاول أن يستجمع قواه ليصعد إليها، ويقدم احتراماته كما يفعل غيره من الرجال! ولكن مقصورة البارون كريستوف كانت دائما مزدحمة بالزوار.
وأحس سيرل بالخجل؛ فقد شعر بأنه قبيح، وجاهل بأساليب الآداب الاجتماعية، وظن أن ثوبه الجديد لا يلائمه وأن رباط رقبته غير منظم، وضايقه شعره الطويل ولحيته غير الممشوطة. غير أنه حاول بعد ذلك أن يتغلب على جبنه، فانتظر يوم تشريف الإمبراطور والإمبراطورة آخر ليلة في الأوبرا، حيث كان من المؤكد أن يؤمها في تلك الليلة جميع الأوساط الراقية في باريس، ولقد كان هذا فعلا.
غير أن أسرة كريستوف لم تكن هناك، وبحث سيرل عن فيرونيك وقت الاستراحة هنا وهناك، دون أن يعثر لها على أثر، وخرج من الملهى متجها إلى شارع دي فاريني وظل يحوم حول منزلها، ولكنها لم تعد. وأخيرا دفعته رغبته الملحة إلى أن يشد جرس الباب الكبير، ولقد كان ذهنه كله غارقا في التفكير فيها، حتى إنه لم يلاحظ أن منافذ البيت كلها مغلقة كأنما هجره أهله. وخرج إليه رجل بقميص ذي أكمام طويلة ومئزر من الجوخ الخشن، قال: لقد سافر سيدي منذ أسبوع إلى بادن بادن، أما الآنسة فسافرت إلى فينا عند بعض أقاربها، وستلحق بالسيد بعد بضعة أيام. - ومتى تكون عودتهما؟ - لا أعرف يا سيدي، وعلى كل حال فالسيد والآنسة لا يرجعان عادة إلى باريس قبل نوفمبر.
وتركه سيرل وهو يفكر، إنه الآن في يوليو، أيسافر إلى بادن بادن، ذلك المكان الذي لا يحبه قط، والذي قال عنه منذ بضعة أيام إنه يفضل أن يموت بدلا من أن يذهب إليه؟ لقد عاشت أمه هناك، وكذلك عاش أخوه غير الشقيق، الذي كان يعتبره الكثيرون ملك فرنسا، لم يكن هناك شيء يغريه بالذهاب إلى بادن بادن، ولكنه ذهب!
الفصل الثاني
بادن بادن مدينة صغيرة، جميلة؛ هي مدينة الأحلام والفخامة، مدينة الرجال المتأنقين والنساء الجميلات. لقد كانت هذه المدينة في تلك الأيام ك «مونت كارلو» الآن، كان يؤمها جميع العظماء، ورجال المال المترفين من جميع أنحاء أوروبا، فتغص بهم فنادقها الفخمة العظيمة التي كان يختلف إليها نابليون الثالث والإمبراطورة أوجيني، ثم ليوبولد الأول ملك بلجيكا، والملك وليم الأول ملك بروسيا، والملكة أوجستا، والدوق مورني، والبرنس مترنيخ، كما كان يؤمها كبار رجال الفن وملوك المال والأعمال.
وكان بين الفلات الجميلة التي اشتهرت بها المدينة فلا إليزابث ذات السقف الأحمر الذي يطل فوق أشجار الكستنا المزهرة، وكانت تستأجرها في هذا الوقت من السنة سيدة وابنها يدعيان رسميا باسم البرنس والبرنسيس دي بوربون، ولم يكن سرا أن يعرف أن هذا البرنس هو ملك فرنسا الحقيقي لويس التاسع عشر، حفيد الملك لويس السادس عشر والملكة أنطوانت، وأبوه الملك لويس السابع عشر الذي يعرف الجميع أنه قد أنقذ من السجن وهو طفل صغير وأخذ إلى أوستوريا (النمسا)، حيث تزوج سيدة إسبانية وأنجب منها ولدا يعتبر أمام معارفه وأمام الله بعد موت والده الملك الشرعي لفرنسا.
Bilinmeyen sayfa