مقدمة
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
مقدمة
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
ملك غير متوج
ملك غير متوج
تأليف
إيما أوركزي
ترجمة
م. أ. شاكر
مقدمة
ما كنت أتصور أنني سأعيش حتى اليوم الذي أستطيع منه كتابة هذه القصة عن ملك فرنسا غير المتوج، دون أن أجرح إحساسات أولئك الذين اشتبكت أسرهم بمختلف فصول هذه الفاجعة الأليمة.
لقد وقعت بين يدي تفاصيل هذه القصة بطريقة غريبة، ولما كنت قد وعدت منذ بضع سنوات بألا أنشر ما نمى إلي منها؛ فإنني وقد تحررت من وعدي هذا أخشى ألا أجد من يصدق القصة!
إنني عليمة بأن الكثيرين سوف ينكرونها، وإني أقر بأن في بعض حوادثها غرابة وطرافة تجعلانها أقرب إلى خيالات الوهم منها إلى وقائع التاريخ. ولكن على الرغم من هذا كله، فالقصة في جميع فصولها واقعية حقيقية، لا يشوبها الوهم ولا يطغى عليها الخيال.
المؤلفة
الفصل الأول
إذا كنت في باريس، وسرت في شارع كليشي الذي يمتد من شمال كنيسة الترينيتيه، فإنك تجد قبل أن تصل إلى الميدان بضعة أبنية جديدة ضخمة تبدو غريبة في هذا الحي القديم من المدينة.
على أننا إذا رجعنا إلى سنة 1860، فإنا نجد مكان هذه الأبنية ساحة مربعة تحفها مبان قليلة الارتفاع، أطلق عليها اسم «مدينة ريمور»، وكانت هذه مقرا للفنانين والشعراء، يعيشون فيها العيشة البوهيمية العجيبة المحببة لديهم.
وكان يوصل إلى هذه الساحة طريق يسير تحت قنطرة متداعية، يمتد في مواجهتها صف من الاستديوات، لها نوافذ مستطيلة أسدل خلف كل منها ستار أسود، يخيل إلى الرائي أنه مثبت في مكانه لا يرتفع ولا يهبط، غير أن تراكم الغبار فوق هذه النوافذ كان يصد عين الفضول عن النظر إلى الداخل أكثر من الستائر نفسها.
وكان يمتد على يمين القنطرة صف من المخازن والحوانيت تعرض في نوافذها نماذج بضاعتها، وإن كانت جميعها لا يكاد يرى الإنسان أحدا بداخلها.
وكان يقع في مواجهة هذه الحوانيت وعلى يسار القنطرة مطعم، أطلق على نفسه اسم «مطعم الملوك الثلاثة»، وقد اشتهر بتقديمه طبقا من أجود أنواع الطيور النورماندية، يدعى «طبق الكاسوليت» في عشاء يوم واحد من كل أسبوع، فكان يجتمع فيه مساء ذلك اليوم أئمة الأدب وكبار الشعراء والفنانين؛ فهذا أوجين ديلاكروا الرسام العظيم يأخذ مكانه إلى جانب منضدة قريبة من النافذة، وقد جلس أمامه هوراس فرنيه في ثوبه العسكري القديم ذي الصدر المزركش، وإلى جانبه جوستاف فلوبير، الذي أحدثت روايته الجديدة «مدام بوفاري» ضجة كبيرة في أنحاء فرنسا. وهناك في ركن منعزل جلس الكاتب الكبير إسكندر ديماس، جالسا وحده إلى جانب منضدة صغيرة، وفي الركن الآخر جلس ألفونس دوديه مع زولا الصغير.
لقد كان هؤلاء جميعا يأكلون ويشربون شاغلين أنفسهم بالطعام والتمتع بالحياة، فكانت اجتماعاتهم في مطعم «الملوك الثلاثة» صورة صادقة لبوهيميتهم. وكانت الأمطار تنهمر بشدة خارج مطعم «الملوك الثلاثة»، فما كاد العشاء ينتهي حتى اشتدت برودة الجو، وازدادت الرياح قوة، فتحولت إلى عاصفة ثلجية قامت تقذف نوافذ المطعم بقطع صغيرة من البرد، وصفرت الريح داخل المدخنة التقليدية القائمة في وسط القاعة، وكانت لغمات الريح القاسية تندفع بشدة من باب المطعم في كل مرة يخرج فيها أحد زبائنه. وعلى رغم ما كان في القاعة من وسائل التدفئة الكافية، فإن هذه اللغمة القاسية كانت تكفي لسريان القشعريرة في جسد الجميع.
وكان سيرل برتراند، الرسام الشاب، قد اتخذ لنفسه مكانا منعزلا في القاعة، وجلس يرتشف قهوته وهو يفكر فيما قاله أستاذه الكبير أنجر عن صورته الجديدة.
وأبرقت أسارير وجهه في ابتسامة خفيفة وهو يستعيد في سرور ونشوة كلمات أستاذه المشجعة.
ولقد كان لبرتراند هيئة جميلة جذابة رغم شعره الطويل ولحيته غير الممشوطة على طريقة أهل مونتمارتر، وكان لون شعره ولحيته الكستنائي الغامق يندر وجوده بين أهل الشمال، وكان كثير من النساء يطرين حسن هيئته، ويعشقن عينيه السوداوين اللتين تفصحان - كما يقلن - عن معان أوضح من كلمات الرجال الآخرين.
لم يكن يعرف أحد عن سيرل أكثر من أنه قد بدأ حياته صبيا يشتغل في استديو الرسام الكبير أنجر؛ ينظف أدواته ويغسل الفرش في آخر كل يوم، أما الآن فقد اتخذ له استوديو خاصا في مدينة «ريمو». وكان قد أوصل صورة إلى صالة العرض فرفضت. وليس في هذا غرابة؛ فإن كثيرا من عظماء الرجال قد بدءوا حياتهم الفنية على هذا المنوال. ولقد كان يكسب بعض المال بقيامه برسم نماذج للقبعات والملابس لمحل كبير في البوليفار، وكان يرسل كل عام صورتين إلى صالة العرض، ولكنهما تعودان إلى الاستوديو ثانية مصحوبتين بعبارة الرفض المؤدبة: «اللجنة تأسف ...» على أن هذا الفشل المتكرر لم يؤثر في نفسية برتراند؛ فقد ظل رغم هذا مرحا طروبا قانعا بما قسم له مترقبا الفرصة للنجاح.
والواقع أن هذه الطباع المشرقة قد جعلته محبوبا لزمرة أولئك البوهيميين المسرفين، وكانت «فتيات الموديلات» يعجبن به، حتى إن ميمي - تلك الفتاة الشقراء اللعوب، التي اشتهرت باسم «فينوس الجيوب» - صرحت مرارا بأنها تحب مجالسة المسيو برتراند عن غير الفنانين، ولو أنها تجد في طباعه شيئا من الغرابة! والواقع أن ميمي وأمثالها كن صادقات فيما قلنه عن برتراند، وعلى الأخص بعد أن رسم صورة الآنسة كريستوف وحصل على أجر كبير في مقابل رسمه.
لقد تغيرت أحوال برتراند فعلا بعد انتهائه من رسم هذه الصورة، فكان يغرق أحيانا في صمت طويل، وأصبح ضحكه ومرحه أشبه شيء بقناع متكلف يجبر نفسه على لبسه بين الناس، حتى إذا كلمه أحد وهو يشتغل أو أثناء تناوله الطعام، وقف عن الحركة وحملق فيه بعينيه كأنما قد أوقظ بغتة من حلم عميق.
والحق أن سيرل برتراند أصبح رجلا آخر منذ أن قام بعمل صورة لفيرونيك كريستوف، لقد كان هذا حادثا عجيبا في حياته، وكان يظن أن المسألة في بادئ الأمر بعد أن أعطي الإذن بعمل الصورة لا تعدو أن تكون خطوة موفقة في سبيل نجاحه الفني، ولقد فرح بهذا كل الفرح؛ فقد وضع قدمه فوق أول درجة من سلم النجاح، وتقوى بهذا أمله في الوصول إلى القمة وتحقيق أحلامه الذهبية.
لقد عرفه ألبرت كريستوف أغنى رجال المال في أوروبا عندما كان يزور معرض الخريف، وبعد أيام ذهب السيد كريستوف إلى استديو الفنان في «مدينة ريمور»، وأعطاه أمرا بعمل صورة للآنسة فيرونيك كريستوف ابنته، وقال للفنان إنها لا تستطيع أن تجلس أمامه أكثر من ثلاث جلسات فقط؛ إذ إن معظم وقتها مشغول في شئون اجتماعية هامة. ثم عرض عليه في مقابل قيامه بالصورة مبلغ 7 آلاف فرنك! ولم يدر برتراند في البدء أيضحك أم يطرد ذلك الزائر؛ فقد ظن أنه في عرضه لهذا المبلغ الكبير إنما يسخر منه، غير أن السيد كريستوف لم يكن من ذلك الصنف من الرجال الذين يسخرون هذا النوع من السخرية، حتى إنه في مدة خمس دقائق كان قد عقد الصفقة.
وقام الرسام بعمل الصورة، وقد خيل إليه أنه كان في حلم عميق إبان الأيام الثلاثة التي جلست فيها أمامه أجمل امرأة على وجه الأرض! لقد كان يشتغل بنشاط فذ وقوة عجيبة طوال هذه المدة، لقد جلست أمامه الثلاث جلسات الموعودة، ولكنها كانت تبقى أمامه في كل جلسة أربع ساعات تتخللها فترات استراحة قصيرة. لقد خيل إليه أول مرة دخلت عنده في الاستديو أنها فتاة مدرسة خرجت أول مرة إلى الحياة، وأحس في آخر مرة تركته أنها المرأة الوحيدة التي أحبها قلبه.
لقد كانت طفلة، ولكنها امرأة، وكانت امرأة، ولكنها طفلة؛ فقد كان أشهى وأعذب ما فيها تلك الطفولة المحببة. ما كانت تتكلم معه طويلا أثناء الجلسات، لا لشيء إلا لأن برتراند لم يكن ينفرد وإياها، إذ كان في صحبتها دائما معلمها ورقيبها الذي لا يجوز لفتاة في مركزها أن تخرج من منزلها بدونه. لقد شعر أنها تفهم طريقة عمله؛ كانت تجلس بلا حراك ولكنها ممتلئة بالحياة. لقد كانت عيناها وفمها ويداها العجيبتان كلها تنطق بحيويتها، وكانت ابتسامتها تكشف عن الإشراق، ولا تتشعع نظرتها الجميلة إلى حملقة فارغة. فإذا احتاجت للراحة نزلت إليه ووقفت خلفه، بينما لا يزال مستمرا في عمله. وكان وجودها هكذا قريبا منه يسكره؛ فكانت يده ترتعش، إلا أنه ما كان لينظر خلفه؛ ويعلم الله ماذا كان يحدث لو فعل؛ فقد كان في هذا الوقت قد شغف بحبها. ولقد قالت له مرة وهي ترتشف قدحا من النبيذ في فترة استراحتها: إن فيك لفنانا عظيما يا مسيو برتراند، ولقد أحس برغبة جامحة في أن يلقي بأطباقه وفرشته ليطوقها بذراعيه قائلا لها: إن في لمحبا عظيما لو صدقتني وأعطيت نفسك لي.
لقد كان جنون سيرل برتراند بنوال فيرونيك كريستوف ابنة المليونير بعيد الاحتمال بعد الكوكب عن الأرض، ولكن اليأس في شئون الهوى قلما يلج قلب الشباب. وبدأ سيرل يحلم أحلاما جميلة؛ فقد عجل خياله بوصوله إلى قمة المجد، وتصور نفسه يدخل مطعم «الملوك الثلاثة» والناس يهمسون حوله قائلين: هل ترى ذلك الرجل الذي دخل الآن؟ إنه سيرل برتراند أعظم فناني عصره، إنه تزوج فيرونيك كريستوف ابنة المالي الكبير. غير أن كل هذا الجنون لم يكن سوى أحلام.
لقد عرضت الصورة في صالة العرض وعلق النقاد عليها مؤملين في المصور الشاب مستقبلا عظيما. واستحضر سيرل ثوبا جديدا وترقب دعوته إلى الحفلات العامة حيث يحظى برؤية فيرونيك أو ينال حظ التكلم معها ولو بضع كلمات، ولكن قلما استطاع هذا؛ فقد كان يحوطها دائما جمع من الشباب والرجال المتأنقين وأصحاب الأسماء الأرستقراطية. ولقد ذهب إلى الأوبرا وجلس في الصالة واختار مقعدا يستطيع فيه أن يراها وهي في مقصورتها، ولكم حاول أن يستجمع قواه ليصعد إليها، ويقدم احتراماته كما يفعل غيره من الرجال! ولكن مقصورة البارون كريستوف كانت دائما مزدحمة بالزوار.
وأحس سيرل بالخجل؛ فقد شعر بأنه قبيح، وجاهل بأساليب الآداب الاجتماعية، وظن أن ثوبه الجديد لا يلائمه وأن رباط رقبته غير منظم، وضايقه شعره الطويل ولحيته غير الممشوطة. غير أنه حاول بعد ذلك أن يتغلب على جبنه، فانتظر يوم تشريف الإمبراطور والإمبراطورة آخر ليلة في الأوبرا، حيث كان من المؤكد أن يؤمها في تلك الليلة جميع الأوساط الراقية في باريس، ولقد كان هذا فعلا.
غير أن أسرة كريستوف لم تكن هناك، وبحث سيرل عن فيرونيك وقت الاستراحة هنا وهناك، دون أن يعثر لها على أثر، وخرج من الملهى متجها إلى شارع دي فاريني وظل يحوم حول منزلها، ولكنها لم تعد. وأخيرا دفعته رغبته الملحة إلى أن يشد جرس الباب الكبير، ولقد كان ذهنه كله غارقا في التفكير فيها، حتى إنه لم يلاحظ أن منافذ البيت كلها مغلقة كأنما هجره أهله. وخرج إليه رجل بقميص ذي أكمام طويلة ومئزر من الجوخ الخشن، قال: لقد سافر سيدي منذ أسبوع إلى بادن بادن، أما الآنسة فسافرت إلى فينا عند بعض أقاربها، وستلحق بالسيد بعد بضعة أيام. - ومتى تكون عودتهما؟ - لا أعرف يا سيدي، وعلى كل حال فالسيد والآنسة لا يرجعان عادة إلى باريس قبل نوفمبر.
وتركه سيرل وهو يفكر، إنه الآن في يوليو، أيسافر إلى بادن بادن، ذلك المكان الذي لا يحبه قط، والذي قال عنه منذ بضعة أيام إنه يفضل أن يموت بدلا من أن يذهب إليه؟ لقد عاشت أمه هناك، وكذلك عاش أخوه غير الشقيق، الذي كان يعتبره الكثيرون ملك فرنسا، لم يكن هناك شيء يغريه بالذهاب إلى بادن بادن، ولكنه ذهب!
الفصل الثاني
بادن بادن مدينة صغيرة، جميلة؛ هي مدينة الأحلام والفخامة، مدينة الرجال المتأنقين والنساء الجميلات. لقد كانت هذه المدينة في تلك الأيام ك «مونت كارلو» الآن، كان يؤمها جميع العظماء، ورجال المال المترفين من جميع أنحاء أوروبا، فتغص بهم فنادقها الفخمة العظيمة التي كان يختلف إليها نابليون الثالث والإمبراطورة أوجيني، ثم ليوبولد الأول ملك بلجيكا، والملك وليم الأول ملك بروسيا، والملكة أوجستا، والدوق مورني، والبرنس مترنيخ، كما كان يؤمها كبار رجال الفن وملوك المال والأعمال.
وكان بين الفلات الجميلة التي اشتهرت بها المدينة فلا إليزابث ذات السقف الأحمر الذي يطل فوق أشجار الكستنا المزهرة، وكانت تستأجرها في هذا الوقت من السنة سيدة وابنها يدعيان رسميا باسم البرنس والبرنسيس دي بوربون، ولم يكن سرا أن يعرف أن هذا البرنس هو ملك فرنسا الحقيقي لويس التاسع عشر، حفيد الملك لويس السادس عشر والملكة أنطوانت، وأبوه الملك لويس السابع عشر الذي يعرف الجميع أنه قد أنقذ من السجن وهو طفل صغير وأخذ إلى أوستوريا (النمسا)، حيث تزوج سيدة إسبانية وأنجب منها ولدا يعتبر أمام معارفه وأمام الله بعد موت والده الملك الشرعي لفرنسا.
وكان البرنس دي بوربون - وكما يصمم البعض على مناداته بصاحب الجلالة ملك فرنسا - قد لاقى نجاحا كبيرا في الهيئة الاجتماعية، فكان يرى - إذا كان الجو معتدلا - في الكوراس وفي أغلب الليالي إما في الأوبرا أو في قاعة اللعب، لا يفارقه طبعه الدمث الذي حببه إلى الرجال والنساء على السواء.
غير أنه كان في صالونه الخاص في فلا إليزابث لويس ملك فرنسا لا أقل من ذلك، وربما كان هذا راجعا إلى تأثير أمه؛ فقد كانت تعمل جهدها لكي يعامله الجميع بأصول الإتيكيت، حتى إنه كان يعقد مقابلات رسمية فيلاقي ضيوفه جالسا على مقعد مذهب مرتفع أشبه شيء بالعرش، فكانت السيدات ينحنين إذا مررن أمامه راكعات نصف ركعة، حتى تلمس أطراف أثوابهن المستديرة أرض الغرفة، كما كان يلبس الرجال في هذه الزيارات ملابسهم الرسمية الكاملة، وكان يعتبر حظا كبيرا أن ينال أحدهم يد الملك لتقبيلها. وكانت الملكة الوالدة تجلس بجانبه على كرسي أقل ارتفاعا عن عرش الملك، ولو أنها تعدت العقد الخامس من عمرها إلا أنها كانت امرأة جميلة تظهر عليها مخايل العظمة ممزوجة بالوقار.
لقد كانت نموذجا جميلا للمرأة الإسبانية؛ فقد كان شعرها المتحول إلى اللون الأبيض لا يزال يوري جمال أصله الذهبي، وكانت عيناها السوداوان تنبئان عن أنها كانت في صباها امرأة جذابة، وكانت تتكلم الفرنسية بلهجة إسبانية واضحة.
على أنه لم يكن يعرف أحد شيئا عن مولدها ولا عن أصلها، وقد ذهبت محاولات الكثيرين في البحث عن هذا سدى.
ولم يكن للبرنسيس دي بوربون إلا أصدقاء قلائل، وكان هناك شخص واحد فقط هو الذي حاز ثقتها، ويجوز أن يعتبر أقرب المقربين إليها، وهو الكونت فريزن الذي كان مديرا لسفارة أوستوريا في باريس، تحت رياسة البرنس مترنيخ، وكان يفد عادة إلى بادن بادن في فصل الصيف، فيزور فلا إليزابث دائما.
لقد كان كل هذا قبل سنة 1858، ولكن منذ هذا التاريخ تغير كل شيء؛ فقد كانت البرنسيس دي بوربون تذهب كالعادة إلى فلا إليزابث، ولكن البرنس كان يرى نادرا في بادن بادن؛ فقد قيل عنه إن صحته ليست على ما يرام، وقد نصح له الأطباء بالإقامة في سويسرا مدة طويلة، وفعلا لم يزر أمه في مدة سنتين إلا بضع زيارات قصيرة.
وكان من النادر أن يرى خارج الفلا إبان هذه الزيارات.
ولم تكن قلة ظهور البرنس دي بوربون في المجتمعات لتثير فضول الناس أكثر من حياة البرنسيس دي بوربون الخاصة؛ فقد قيل عنها إنها تسعى لاستعادة عرش فرنسا لابنها، وأخذ الناس يحسبون عليها حركاتها ويؤولونها بمختلف التأويلات. والواقع أن تلك السيدة التي يندر أن تزور أحدا قامت بزيارة البارون ألبرت كريستوف المالي العالمي الكبير في فلا تريز، وشاهدت مجموعة الصور التي عنده، والتي تعتبر أشهر مجموعة في أوروبا، كما أنها دعته لزيارتها في فلا إليزابث، وقد قال البعض إنها فعلت كل هذا بمشورة الكونت فريزن، إذ إن البارون كريستوف كان أوستوري الجنسية أيضا. وازدادت العلاقة بين السيدة والبارون وكثر تزاورهما، وشوهدت السيدة أكثر من مرة تركب إلى جانب البارون في عربته الفخمة، وتهامس الناس عن كنه هذه العلاقة ومداها، وذهبت الظنون بهم كل مذهب؛ فقد قال البعض إن السيدة تسعى للتأثير على البارون واستمالته إلى جانبها فتستفيد من أمواله لتحقيق أغراضها، وقال آخرون إن البارون نفسه يسعى لاستعادة آل بوربون العرش طمعا في أن يزوج ابنته الجميلة فيرونيك للبرنس دي بوربون، الذي سيصبح فيما بعد ملكا فعليا لفرنسا. •••
وصل سيرل برتراند إلى بادن بادن، وتساقط إليه ما دار على الألسن عن موضوع فيرونيك ومشروع زواجها للبرنس دي بوربون، وذهب فيرونيك أيضا إلى بادن بادن بعده بأسبوع، فكان يراها بعد هذا كل يوم تقريبا تسوق جوادها في طريق ليخنثال، أو في قاعة الملعب بالكوراس، أو في الأوبرا، غير أنها ما كانت تلاحظ وجوده مطلقا، ولم تلق يوما إليه نظرة واحدة وهو يتأمل وجهها بنهم وشغف.
لقد كانت عنده المرأة الوحيدة في العالم التي يفضلها أكثر من حياته، بل ويرغب فيها أكثر من كنوز العالم أجمع، ولكنه كان يدرك رغم كل هذا أنه لا قيمة له إذا قاس نفسه بها، فما هو إلا رسام مجهول قام بعمل صورة لها، ونال أجرته على عمله، وأن الثلاثة الأيام التي قضتها في الاستوديو لا بد أنها قد محيت من صفحة ذاكرتها ... كان هذا ما يدور بخلد الرسام المسكين الذي يقدس الآنسة فيرونيك، وهو ينتظرها يوميا في الطريق وقت خروجها للنزهة، رغم ما ترامى إليه عن مشروع زواجها بأخيه ملك فرنسا غير المتوج.
لقد كان يكره هذا المكان لأن أمه تعيش فيه، أمه التي تكرهه كل الكره، وكذلك أخوه غير الشقيق الذي يعتبر نفسه بالنسبة إليه كأنما هو فرد من الشعب، ولهذا فقد فكر سيرل في أن يرحل إلى باريس ليكون لنفسه مركزا في عالم الفن ليجعل اسمه علما خفاقا، أو يعمل بجد ويغرق في العمل حتى ينسى أحلامه وجنونه، ولكنه لم يفعل شيئا من هذا، بل بقي في بادن بادن ليشاهدها كل صباح ويذهب إلى الكوراس أو الأوبرا ليسمع ضحكاتها العذبة وصوتها الجميل عن قرب، ألا ما أشد جنونه! إنه يعلم أن هذا الجنون يحطم فؤاده ولكنه لا يجد في نفسه القوة الكافية لصد نفسه عنها. •••
كان أولئك الذين يعرفون فيرونيك كريستوف يسمونها «الفتاة المحظوظة»؛ فقد كان لديها كل شيء من الجمال والثروة والجاذبية والشاعرية، ولقد كانت فيرونيك في الواقع خيالية بمعنى الكلمة، إذ كانت الشاعرية والخيال في سنة 1860 من مميزات شباب ذلك الجيل، وعلى الأخص الفتيات، فكن يسبحن في تصوراتهن وأحلامهن، فكانت الحياة لديهن عبارة عن نسيج خيالي من الأماني، ولا يعتبر الحب لديهن حبا إلا إذا كان قويا لدرجة الموت، وكن يطلبن الحياة كأنها امتداد مستمر لساعة حب ونشوة بين ذراعي حبيب صادق، أمين، ولقد كان بعضهن يلاقي الفشل نتيجة لهذه النظرية الخيالية، ولكنهن رغم هذا كن يستسلمن لأحلامهن العذبة. ولقد مر على فيرونيك كريستوف وقت كانت فيه نهبا لمثل هذه الأحلام، ولو أنه لم يستمر طويلا؛ فقد كانت تحلم بالثلاثة الأيام التي قضتها في استوديو مونتمارتر، لقد أحبت تلك الغرفة القليلة الهواء وأثاثها البسيط، وكانت رائحة زيت التربنتين التي تملأ المكان تسرها، وتلك الأصوات المتعددة الغريبة التي كانت تتسرب إلى أذنها من بين أصوات منظفي المداخن وهم يسيرون في الطريق، ونداء: «أصلح الكراسي» و«أطباق ومواجير». وكانت تحب ملاحظة الرسام وهو يقوم بعمل صورتها، وتلمح عينيه وهو يرفع خصلة شعره التي تتدلى فوق جبهته، وكانت تتأمل وجهه وهي تفكر فيما يكون عليه بغير تلك اللحية وهذا الشارب المهملين اللذين يخفيان تعبير فمه وشكل ذقنه. وفكرت فيرونيك في الفنان بعد ذلك عندما تركت باريس لتقضي بضعة أيام بين أقاربها في أوستوريا، وكان لديها هناك فسحة من الوقت لتفكر وتحلم، وقد شاهدت الصورة معلقة في صالة العرض، وسمعت وقرأت أغلب ما كتبه النقاد عنها من مدح وتقريظ، غير أنها لم تشاهد الفنان بعد ذلك. ولقد حدث أكثر من مرة أن عرض حديث عن الصور والمصورين على مائدة الطعام وتساءل البارون كريستوف عن الفنان البارع وماذا جرى له، وكانت فيرونيك تسائل مثله نفسها نفس السؤال.
ولما حل شهر يوليو سافرت فيرونيك إلى بادن بادن لتلحق بأبيها في فصل الصيف، ولم تكن قد ذهبت إليها من قبل، ولقد سرتها تلك البلدة بما فيها من مباهج ومسرات، واجتاحت الحياة الاجتماعية ومباهج المدينة المغرية أحلام استوديو مونتمارتر وجوها الهادئ. وحتى هذا الوقت لم تكن فيرونيك تعلم شيئا عن مشروع زواجها بملك فرنسا المنتظر، رغم أن الموضوع قد سوي فعلا بين والدها والسيدة البرنسيس دي بوربون والكونت فريزن السياسي الأوستوري، وكان هذا الأخير يعمل وفقا لرغبة إمبراطوره الذي كان يود حصول هذا الزواج تبعا لما تلقاه أسرة دي بوربون من تقوية مالية نتيجة لذلك، وكانت السيدة البرنسيس تدرك تماما قيمة الجانب المالي في مشروعها الكبير، إلا أنها لم تكن قد رأت فيرونيك كريستوف بعد، وكانت رؤيتها لها لأول مرة في الأوبرا في ليلة الافتتاح لرواية «روبير الشيطان» حيث كان جميع المتفرجين من الطبقة الممتازة، وقد حضر الإمبراطور والإمبراطورة وكذلك البرنس والبرنسيس وبسمارك ملك بروسيا.
وكانت فيرونيك جالسة في مقصورة والدها، وفي الاستراحة كانت محاطة بجماعة من الشباب خلاصة البيوتات وأعراق الأسر، يحومون حول الوريثة الغنية، كما يحوم الذباب حول طبق من العسل. وأشار الكونت فريزن نحوها ليريها للسيدة الكونتيس، فأمسكت هذه بمنظارها وأطالت النظر إلى الفتاة، ولا شك أنها كانت جميلة جدا، ورائعة بشعرها الأدكن الناعم، وعينيها الزرقاوين العميقتين، وشفتيها القرمزيتين، وقوامها الرائع المتناسق، حتى إن السيدة لم تتمالك نفسها من أن تبدي إعجابها العظيم بالفتاة، وفكرت في ولدها ملك فرنسا، وكيف أنه لا بد له من أن يتزوج الفتاة لنفسه لتسنده ملايين كريستوف في السعي لنوال حقوقه؛ فقد قال لها الكونت فريزن مرارا بكل أسف إنه لا يمكن أن يتنازل البارون كريستوف عن جزء من ملايينه في مقابل شيء أقل من تاج لابنته.
وأنزلت السيدة نظارتها والتفتت لصديقها، ثم ألقت عليه نفس السؤال الذي سألته من قبل أكثر من عشر مرات: ألا يزال البارون كريستوف على رأيه؟
فأجاب بتأكيد: نعم، لا يزال على رأيه. - والفتاة ماذا قالت؟ - لا تعرف شيئا حتى الآن، ولكن بمجرد أن تتشرف بتقديمها إليك ... - ماذا تظنها قائلة؟ - لا بد أنها ستوافق على رغبات والدها، فليس من السهل لامرأة أن تنال تاجا.
تنهدت السيدة ثم قالت بجفاف: إني أخشى أن تكون طماعة. - إني لا أظن أن فيرونيك كريستوف طماعة بالمعنى الذي تقصدينه يا سيدتي، إذ إنها صغيرة جدا وخيالية بمعنى الكلمة، والمستقبل الذي يرسمه لها أبوها سوف يغريها، لا بما فيه من عظمة فحسب بل بما فيه أيضا من خيال.
ووضعت السيدة منظارها على عينيها، وأخذت تحدق النظر في فيرونيك مرة أخرى، وعلقت تعليقها الجاف قائلة إنها في الحقيقة جميلة جدا.
ورد الكونت فريزن بحرارة: سوف تكون أجمل ملكة رأتها فرنسا.
ولكن هذا التعليق لم يلائم أعصاب السيدة المتوترة فقالت بغضاضة: لا يمكنك أن تتصور يا فريزن أن يعطي ملوك فرنسا القدماء أنفسهم مقابل هذه الصفقة.
فرد الكونت باضطراب خفيف: سيدتي، إن ملوك فرنسا القدماء لم يعيشوا في عصر ديمقراطي.
فردت عليه السيدة بفرنسية حادة مكسرة: أنا أكره الديمقراطيين، ولو أن عمنا لويس فيليب كان يظن أنه سيكسب حب الشعب بخروجه في باريس بلا حراس وهو يحمل مظلته فوق رأسه، إلا أن الباريسيين قابلوه على هذا بإعادته إلى إنجلترا، ولا شك أنه وجد أن مظلته هناك أفيد له.
وقطعت حديثها وعادت إلى الموضوع الذي يشغلها: ألا ترى أنه شيء مروع، أقصد هذا الزواج يا فريزن؟
فأردف السياسي بتحفظ: إن للضرورة أحكاما يا سيدتي، بل ما أكثر الزيجات الملكية التي حكمتها الضرورة، ولكن لماذا تعتبرينه شيئا مروعا؟ - ملك فرنسا وابنة ألبرت كريستوف!
فرد الكونت فريزن بتأكيد: إنه رجل لا غبار عليه، وتعم شهرته جميع أنحاء أوروبا، وفوق ذلك ...
وتوقف عن الكلام ثم ضغط شفتيه على بعضهما، فإن الكلمات التي قالها ما كان يجب أن يتلفظ بها؛ فقد كان سيقول: «وفوق ذلك فإن لويس السابع عشر ملك فرنسا تزوجك أنت انيزدي جامبا الممرضة المجهولة الأصل، أرملة ضابط بالجيش الإنجليزي، فلماذا لا يتزوج لويس التاسع عشر بفيرونيك كريستوف ابنة أحد أصحاب الملايين؟» إلا أن فريزن كان أكثر سياسة من أن يترك مثل هذه الكلمات تخرج من فمه.
وتنهدت السيدة بنفاد صبر وقالت: لو يساعدنا إمبراطوركم أو قداسة البابا، فإنا لا نكون في حاجة إلى معاناة أمر هذا الزواج.
فأردف الأوستوري برزانة: إن إمبراطوري وقداسة البابا مشغولان بمتاعبهما الخاصة، ولا يمكنهما الإقدام على هذا ونذير الحرب يملأ الجو في كل مكان.
وردت السيدة باندفاع وحمية: ولكن نداء الدم، دم إمبراطورتكم العظيمة ماري تريز وماري أنطوانت الجميلة الذي يجري في عروق ولدي.
وعادت الابتسامة الساخرة تتراقص على شفتي الدبلوماسي الماهر، وقال: للأسف يا سيدتي! إن نداء الدم ليس أقوى من نداء المال، إن الإمبراطور يساعدك أدبيا، وتأكدي أن كل شيء يمكن عمله من الناحية السياسية سيعمل، وإذا نجح ملك فرنسا في استعادة عرشه، فسنعمل بكل الطرق الدبلوماسية للاحتفاظ به، ولكن لا شك أنك في حاجة إلى المال لتحقيق هذا، إلى مبالغ عظيمة من المال وألبرت كريستوف راغب في تقديمها تحت شرط تستطيعين القيام به، بل ويجب عليك القيام به.
فقالت السيدة بتصميم: ولكن هل أنت متأكد تماما من أن البارون كريستوف لا يكفيه أن يعقد الملك لويس زواجه على ابنته بشرط أن يسقط حقها وحق أولادها منه من الإرث والملك شرعا؟
فهز الكونت رأسه بصبر نافد وهو يقول: لا شيء يكفي كريستوف سوى التاج لابنته، فإذا استوثق من هذا فإنه ... - ماذا؟ - في اليوم الذي يوقع فيه عقد قران الآنسة كريستوف بلويس التاسع عشر ملك فرنسا، فإن البارون كريستوف سيضع بين يديك نصف مليار فرنك. - أواثق من هذا يا فريزن؟
فرد الأوستوري مؤكدا: كما أنا واثق من أني حي يا سيدتي، ورجائي ألا تشكي في هذا مطلقا، إن كريستوف رجل يوثق بكلامه، وإلا فما كان له أن يصل إلى هذا المركز الذي يحتله.
وابتسم السياسي ابتسامة ذات معنى وتمتم: وعلى كل حال، فمن الناس من يتأخر عن أن يرى ابنته وهي تتوج ملكة على فرنسا في مقابل بضعة ملايين، في حين أن لديه منها الكثير!
ولم تزد السيدة شيئا في ذلك الوقت، وحولت عينيها الجميلتين عن مقصورة البارون كريستوف إلى أسفل الصالة، ودق الجرس مناديا المتفرجين، فبدءوا يعودون إلى أماكنهم، فقام الكونت فريز مستأذنا، فمدت السيدة إليه يدها بجلال فقبلها وهو ينحني انحناءة كبيرة، ثم سألها: متى يكون لي الشرف بتقديم الآنسة كريستوف لسموك؟
وكان في نغمة صوته رنة التصميم والعزم، فارتعدت السيدة قليلا وسحبت يدها وهي تتنهد، وكانت أمهر من أن يخفى عليها أنها سوف تقبل في النهاية؛ فلقد كان الكونت فريزن صديقها، ولكنه فوق كل شيء كان يخدم إمبراطوره الذي كان يرغب حقا في هذا الزواج لتتدعم مالية آل بوربون. إنه على حق، ولا بد لها وهي تحلم بقصر «التويلري» لولدها وتتويجه في ريمس من أن تخضع لهذه الظروف، وأخيرا قالت: سأستقبل الآنسة فيرونيك غدا. ولكن نبه كريستوف بألا يذكر لابنته شيئا عن الموضوع قبل أن تخبره.
واكتفى الكونت بذلك، فخرج وكان الأوركسترا قد بدأ في عزف أول قطعة من افتتاحية الفصل الثاني، وشعر بالرضا عن نتيجة مهمته السياسية.
وقال بارتياح: سوف تدق أجراس الزواج قريبا. •••
وفي اليوم الثاني دعا البارون كريستوف وابنته فيرونيك لتناول الشاي في فلا إليزابث، ونال البارون شرف تقديم ابنته للسيدة البرنسيس دي بوربون، ولما كانت فيرونيك أوستورية الجنس وفرنسية المولد وفوق ذلك فقد كانت من أشياع الملكية وتدين بمذهبها وتؤمن بالحق الشرعي للملوك؛ فقد كان الملك الشرعي الوحيد لفرنسا في نظرها هو حفيد الملك لويس السادس عشر.
ولقد كانت التحية والبشاشة اللتان قدمتهما للسيدة البرنسيس أعمق بكثير مما عملته من قبل للإمبراطورة أوجيني؛ فقد كانت تلك التحية وذلك التظرف أشياء لا يستطيع الشخص الذي يريد أن يجعل لنفسه مركزا في باريس أن يستغني عنها، إلا أن هذا الذي عملته أمام والدة ملك فرنسا كان منبعثا عن إخلاص صادق، حتى إن السيدة سرعان ما تغير رأيها في الفتاة وفكرت في أن فيرونيك بجمالها وصحتها وشبابها فوق ما فيها من حيوية وقوة؛ تخلق الحياة والنشاط في ولدها الضعيف المخنث، ولقد حمدت الله على توفر هذا الجانب فيها.
وارتاح الكونت فريزن لمجرى الحوادث في ذلك الوقت؛ فقد اغتبط بما لاحظه من دلائل الألفة التي تمت بين السيدة البرنسيس دي بوربون والآنسة فيرونيك كريستوف بعد مقابلتهما الأولى، وسرعان ما أحست السيدة بالارتياح والثقة بالفتاة ودار بينهما الحديث، فذكرت السيدة لها أحلامها وأمانيها وصورت لها ما سوف يحدث عند تتويج ملك فرنسا، وما سيكون عليه قصر التويلري وفرسايل، وقالت: إن قداسة البابا سوف يحضر ليضع تاج القديس لويس على رأس الملك ويباركه، كما سيحضر إمبراطور أوستوريا أيضا، والواقع أنه سيجتمع في الحفل كل الرءوس المتوجة في أوروبا.
وأنصتت فيرونيك لكل هذا وهي مطرقة، وكان فؤادها يرتجف إذ وجد خيالها في كل هذا مادة مشبعة له، ولكن حتى هذا الوقت لم تكن السيدة ولا البارون قد ذكرا شيئا عن مشروع الزواج للفتاة.
وحدث بعد ذلك أن زارت الفتاة فلا إليزابث وجلست مع السيدة في الشرفة، حيث تطل على منظر جميل فوق الطريق المؤدي إلى ليخنثال، وكانت السيدة كعادتها تتحدث عن فرسايل والتويلري، فقالت: ألا ترين يا عزيزتي أن الإنسان يستطيع أن يعقد استقبالات رائعة في فرسايل؟ إنه مكان مدهش للحفلات مع ذلك المدرج العظيم.
وقالت الفتاة ملاطفة: إنني لم أشاهده مطلقا يا سيدتي.
وأقرت السيدة: ولا أنا أيضا، غير أنه يمكنني أن أتصور كم يكون جميلا بأولئك العظماء الذين يجتمعون فيه ليؤدوا التحية للويس! بل وما أعظم حضور البابا خصيصا إلى ريمس ليضع التاج على رأس ولدي!
وقالت السيدة بغصة: وعلى كل حال فقد توج بيوس السابع ذلك البونابرتي المحدث الذي لا يمكن أن يكون جديرا حتى يلعق حذاء لويس.
فغمغمت الفتاة بلهفة: لا بد أن أذهب إلى ريمس، إنها حتما ستكون رائعة. - إنني أكاد أسمع هتافات الشعب القوية، هل تسمعينها يا فيرونيك؟ - وأجابت الفتاة بابتسامة: إنها تطن في أذني.
وفي ذلك الوقت ملأت الجو هتافات بعيدة ظلت ترتفع شيئا فشيئا، حتى إذا اقتربت امتزجت بها جلجلة الخيل وقرقعة العجلات، فقفزت فيرونيك على قدميها وجرت إلى طرف الشرفة حيث أمكنها أن تكشف بالنظر طول الطريق، وقالت السيدة: إنه نابليون وأوجيني.
لقد كان الازدحام عظيما وكانت الأصوات والهتافات ترتفع إلى عنان السماء مرحبة بنابليون الثالث وهو في أوج مجده وأوجيني في عز جمالها.
وتنهدت فيرونيك ثم التفتت إلى السيدة التي نمت عيناها الجاحظتان وشفتاها المطبقتان عما يضطرم في نفسها من مرارة قاسية، وكانت أصابعها المرتعشة تمزق أطراف منديلها المطرز، وعادت فيرونيك إليها ثم ركعت على ركبتيها ورفعت أناملها الرقيقة فوق يدي السيدة المرتعشتين وهمست: سوف لا يبقى هذا طويلا.
وأردفت السيدة بحرارة: يا إلهي، لا تجعله يبقى طويلا!
وكانت السيدة تجاهد في ضبط عواطفها وتحاول إخفاء اضطرابها، ولقد أفلحت في هذا إلى حد ما، فأمسكت بيدي فيرونيك كأنها تستمد منهما السلوى، ونظرت في عيني الفتاة الصغيرة وقد امتلأت بالدهشة والإشفاق، ثم تمتمت: أيمكن أن أثق بك يا فيرونيك؟
فاحتجت الفتاة بلطف: سيدتي!
فأتمت السيدة وقد تخلل صوتها الأجش نبرة حنان تحرك القلب: ترين أن أصدقائي الذين أثق بهم قليلون، فليس لدي في الواقع غير فريزن، الذي يسير معنا في مشروعاتنا برغبة لا تقل عن رغبتي فيها، ولكن الواحدة تود في بعض الأحيان لو تتحدث مع امرأة مثلها.
فقالت الفتاة برقة: إن هذه الثقة التي تضعينها في توليني فخرا عظيما.
ولكن السيدة لم تبدأ الحديث مباشرة، بل بقيت جالسة وقتا ما تنظر إلى الفضاء بعينين ذاهبتين، وبدأت تتكلم بعد لحظة دون أن يقع نظرها على الفتاة التي لم تزل راكعة تحت قدميها، وكأنما كان صوتها لنفسها أكثر منه إلى الفتاة؛ فقد تحركت شفتاها ولكن أفكارها كانت بعيدة عما تتفوه به. - لم تكن الحالة السياسية في أي وقت بعد موت زوجي العزيز أصلح لنا منها الآن، فإن البونابرتيين يفقدون أتباعهم في وطنهم، وقد أصبحوا مكروهين في كل مكان خارج البلاد، فقد أصبح الإنجليز لا يطيقونهم، وكان ملك بروسيا يترقب الفرص ليعلن عليهم الحرب.
وتوقفت بغتة ثم ألقت بنظرة فاحصة إلى فيرونيك، ثم تمتمت وهي تتنهد تنهدا طويلا: آه لو كان لدينا المال!
فبدأت فيرونيك بانفعال: أنا واثقة من أن والدي ...
ولكن السيدة لم تدعها تذهب إلى أبعد من هذا؛ فقد استأنفت الحديث كأنما تكلم نفسها: يمكننا أن ننجح، ويجب أن ننجح.
وتمتمت مرة أخرى: سوف يلتف الجيش حول العلم القديم الذي قاد فرنسا إلى النصر، ورجال حصن ستراسبورج جميعهم يتبعوننا ، إن ما نحتاج إليه هو المال، المال الذي يجعلنا نبدأ عملنا.
ورفعت يديها ببطء وهي تشير نحو العربة الفخمة التي اختفت عن الأنظار تتبعها الهتافات المتعددة، ثم قالت: انظري إلى هذا البونابرتي كيف دبر الخطط ونظمها للوصول إلى العرش وقد نجح في النهاية، ومن يكون هذا إن لم يكن سوى شحاذ اعتلى أعظم عرش في أوروبا، ذلك العرش الذي يجب أن يختص به ولدي لويس التاسع عشر ملك فرنسا؟
فلما ازداد انفعال السيدة البرنسيس ازداد صوتها قوة واتضحت فيه لهجتها الإسبانية، وإذا بها تسير جيئة وذهابا في الشرفة لتهدئ من حدة اضطرابها.
وقامت فيرونيك تتبعها وهي لا تقل عنها انفعالا، وقد حرك الجو الذي أثارته شتائم السيدة المنفعلة الدم حارا إلى خدي الفتاة، وكان ذهنها يشتغل باحثا عما يجب أن تفعله لتساعدها وما سوف يفعله والدها عندما تستعطفه وتتعطفه؛ أن سوف يمد يد المساعدة إليها، إنها واثقة من هذا، لو كان يعلم كيف أنها تأثرت منه، إن والدها لا يمكن أن يرفض لها طلبا ما دامت تطلب منه وتستعطفه بإلحاح.
وضمت فيرونيك يدها إلى صدرها ودعت ربها بحرارة وقوة لم تصدر من قلبها من قبل: يا إله السماء، يا ملك الملوك، سدد خطوات لويس التاسع عشر ملك فرنسا في استعادة عرشه! •••
بعد ذلك بأيام قلائل أذنت السيدة للبارون بإخبار ابنته بمشروع الزواج المنتظر بلويس التاسع عشر، وانعقد لسان فيرونيك لدى سماعها هذه الأخبار، أتكون ملكة فرنسا؟! إن هذا لا يمكن أن يصدق أحد وقوعه لامرأة، وأغمضت عينيها وحاولت أن تتصور ما يقصد بكل هذا، وعاد إلى ذهنها ما قالته السيدة البرنسيس عن كل تلك الأشياء الجميلة العجيبة الرائعة، التي ستحدث عندما يصبح لويس ملكا على فرنسا، وتصورت قداسة البابا وهو يرفع بين يديه تاج ماري أنطوانت!
لا يمكن أن يكون هذا حقيقة، لا بد أنه حلم وأن والدها كان يسخر منها، وأنها سوف تستيقظ حالا وتتحقق من أن كل هذا لم يكن سوى حلم.
وأمسك أبوها بيدها وأخذها على ركبته ، وفتحت عينيها وهي تنظر إلى وجهه مسددة نظرها في عينيه، فرأت فيهما بريقا لم تشاهده من قبل، حب، انفعال، نصر، كل هذه كانت تتلألأ في تينك العينين الشفوقتين اللتين تفيضان حنانا ورقة. - صغيرتي فيرونيك، ملكة فرنسا!
واغرورقت عيناها: أهذا حقيقي؟ فأطرق مؤكدا.
وأحست برغبة في الصياح؛ فقد كانت أصغر بكثير من أن تتحمل أعصابها مثل هذه الصدمة العنيفة، وألقت برأسها على كتف والدها وصرخت، وضحكت، بينما كانت يده تمر برفق على رأسها الصغير.
الفصل الثالث
ومرت على سيرل برتراند أيام تعسة كتلك التي مرت عليه أيام أن كان في باريس، فكان يذهب في كل مكان ينتظر أن يجدها فيه، ولكنه لم يرها لا في الكوراس ولا في الأوبرا ولا في أي مطعم حديث ولا في الكنيسة أيام الآحاد. لقد عادت أيامه السوداء التي عاناها في باريس مرة أخرى، بل إنها كانت أسوأ بكثير، إذ إنه في أي مكان يسير فيه كان يسمع اسمها على الألسن مرتبطا باسم أخيه غير الشقيق.
غير أن سيرل لم يكن ليعير هذه الشائعات أذنا صاغية، وكان يرجو ألا يخرج هذا عن أن يكون أراجيف لا صحة لها.
أيمكن أن تكون فيرونيك المعبودة لأخيه الهزيل الضعيف؟! إن فيرونيك له وحده، وتربطه بها قوة الحب العظيمة.
ولكم فكر في جنون أن يقتحم فلا ماري تريز ثم يلقي بذراعيه حولها ويحملها بعيدا إلى جزيرة نائية، حيث لا يسمع شيئا عن هذا الزواج المفزع الذي كان في نظره عبارة عن حياة طويلة تعسة لها.
على أنه لم يكن هناك فائدة من اقتحامه فلا ماري تريز، إذ إنها لم تكن هناك فقد أرسلها البارون كريستوف إلى أقاربها في أوستريا، إذ رأى أن الأصوب لها أن تكون بعيدة عن دكان بادن لمدة قصيرة؛ فقد أدرك من اختباراته أن السيدة البرنسيس متقلبة الأهواء ذات طبع شاذ، وعلى كل حال فقد بان من الأصوب أن تبتعد الفتاة لوقت قصير ثم ترتب مقابلة رسمية بينها وبين خطيبها. والواقع أن السيدة نفسها لم تكن تثق في ولدها، حتى إنها رأت هي وكريستوف أن من الخير ألا يتقابل الصغيران إلا حينما يتقرر نهائيا أمر مستقبلهما. •••
وأرسلت السيدة بعد سفر فيرونيك إلى ابنها تطلب إليه الحضور إلى بادن بادن، وحضر إليها وإن كان في الواقع قد حضر بسبب قوي آخر لم يكن ليخطر على بال السيدة حتى ذلك الوقت، لم يكن هذا السبب سوى إلين سان أماند التي عقدت اتفاقا مع أوبرا بادن بادن، حيث تقوم بالدور الأول في «الباربير» إحدى روايات روسيني الخالدة.
وازدحمت الأوبرا بالمتفرجين، وكان معظمهم من أعلى الأوساط وأرقاها، وكان الإمبراطور نابليون والإمبراطورة قد غادرا بادن، فحضر في تلك الليلة البرنس بسمارك وزوجته والسيدة البرنسيس دي بوربون وكذلك البرنسيس مترنيخ والدوقة موشي والبارون كريستوف مع بعض أصدقائه، ثم البرنس دي بوربون في مقصورة أخرى، وقد حضر أيضا روسيني نفسه وحوله جماعة من المتملقين، كل منهم مستعد لخلع قفازه الأبيض ليصفق أعلى تصفيق.
وصاح المؤلف الكبير العجوز بأعلى صوته فى آخر المشهد الكبير من الفصل الثاني: برافو إلينا، برافو! وتدلى نصف جسمه من المقصورة وهو يلقي بباقة عظيمة من الزهور إلى الممثلة الصغيرة الأولى.
وعندما نزل الستار تقدمت الآنسة سان أماند لتتلقى تحيات المتفرجين، فتساقطت على قدميها باقات من الزهور، كان بينها واحدة مكونة من الزنبق الأبيض ألقيت من مقصورة البرنس دي بوربون أو بالأحرى لويس التاسع عشر ملك فرنسا. وعندما رأته السيدة والدته وهي جالسة في مقصورتها ضغطت على مروحتها بعنف، فانكسرت أحد قضبانها المطعمة بالجواهر الثمينة، وقال صوت مشفق من جانب المقصورة: يا للأسف، لقد كانت مروحة جميلة! وكان هذا صوت الكونت فريزن حيث كان يؤدي واجب التحية للسيدة إبان الاستراحة، قال هذا وأردف كلامه بابتسامته الساخرة على وجهه الجميل، وقد لاحظ توتر أعصاب السيدة وانفعالها، وأشارت بمروحتها المتكسرة إلى مقصورة ابنها ملك فرنسا، وقد وقف على قدميه بعد أن خلع قفازه متجها مع الجمهور حيث كانت الآنسة سان أماند، ثم قالت بغصة: إنه ذاهب إليها!
فهز فريزن كتفيه كأنما يقول: ولم لا؟
فغمغمت السيدة: ملك فرنسا!
فقال الأوستوري وعلى شفتيه ابتسامته المعروفة: إن ملوك فرنسا يا سيدتي لا يختلفون عن باقي الرجال، بل إن بعض الملوك العظام مثل لويس الرابع عشر ...
فاحتجت السيدة: ولكن ليس أمام الجمهور يا فريزن؟
وأردف السياسي بجفاف: لا، إني أظن أن الأسلوب الذي كان متبعا في تلك الأيام هو أن يطلب صاحب الجلالة السيدة التي يرغب في مصافحتها لتكون بين خاصته، غير أني لا أظن أن هذا يحفظ الكرامة أكثر من هذا الأسلوب الديمقراطي الحديث. - لا تكلمني عن الديمقراطية يا فريزن وأنت تعلم أني أكرهها، إن لويس ما كان يجب أن يحضر هنا مطلقا، لقد اعتذر لي عن عدم مجيئه إلى مقصورتي، ولا يعلم إلا الله من يتمسح بكتفه الآن في ذلك الزحام.
ولم يجب السياسي عن هذا بشيء لأنه كان يعلم أن التحدث في الموضوع أكثر من هذا لا يجدي، وعلى ذلك فإنه بعد لحظات قلائل تحدث عن أشياء أخرى. وعند ذلك علا صوت الجرس وتوافد المتفرجون إلى أماكنهم، وطافت عينا السيدة الجميلة بين جماعات الشبان ذوي الملابس الحديثة الأنيقة، ولكن صاحب الجلالة ملك فرنسا لم يكن بينهم، ولكنها قبل أن تتمكن من إلقاء الكلمات الحادة التي تبادرت إلى شفتيها، كان مدير المسرح قد أعطى إشارة البدء وضرب الأوركسترا أول لحن لمقدمة الفصل الثالث، فقام الأوستوري ليذهب، فقالت السيدة: أريد أن أراك ثانية يا فريزن.
فأردف قائلا: في خدمتك يا سيدتي.
ثم قبل يدها، فأتمت السيدة: إذن بعد انتهاء الرواية في الفلا، أريد أن أخبرك عن الخطة التي اعتزمت تنفيذها. •••
ولكن ما كاد الكونت فريزن يفد إلى فلا إليزابث، حتى وجدها لا تزال في درجة شديدة من الانفعال، فما كاد يدخل إلى الغرفة حتى بادرته قبل أن تقدم له يدها ليقبلها بقولها: إنه لم يأت حتى الآن يا فريزن، لقد خبلته ابنة سان أماند.
ولم يفعل الأوستوري أكثر من أن هز كتفيه كأنما يقول: وماذا لو فعل؟ ثم قال بعد ذلك: ولكن أين قابلها جلالته أول مرة؟
وكان السياسي الماهر يدرك أن أعصاب السيدة يمكن أن تهدأ دائما بالكناية عن لويس دي بوربون ب «جلالته»، ولكنها في هذه المرة لم تهدأ ثائرتها، بل أجابت بحدة: في ستراسبورج، لقد كانت تغني في قهوة هناك، لم يكن يفكر أحد فيها، ولكن لويس عمل المستحيل لتوقع عقدا هنا، ولست أدري كيف تمكن من ذلك، وعلى كل حال فها هي النتيجة.
وكان الخادم قد أحضر القهوة وبعض المشروبات، فجلست السيدة وأخذت قدحا من القهوة، ولاحظ فريزن أنه يهتز في يدها اهتزازا ضعيفا، وأخذت رشفة من فنجانها، وكانت عيناها الداكنتان تتبع حركات الخادم في الغرفة كأنما تريد أن تخلص منه، حتى لقد كانت تتراقص على شفتيها كلمة الأمر له بالخروج.
وفكر فريزن وهو يأخذ رشفة كبيرة من فنجانه أنها امرأة لطيفة، ولو أنها متقلبة الأهواء إلا أنها طموحة، ولكن هل تستطيع أن تعمل بتعقل إذا واجهت الفشل؟
وأخيرا خرج الخادم.
وتنهدت السيدة لتخلصها وقالت بهدوء: اجلس يا فريزن، ولا تدعنا نتكلم بعد عن هذا الموضوع المتعب، اجلس واصغ إلي، خذ شيئا من هذا الشارتريز، إنه طيب جدا، اسمع، أريد أن أخبرك عما قررناه وإن كان لديك اعتراض ...
وجلس فريزن وفنجان القهوة لا يزال في يده، وأخذ يرتشف منه وهو يفكر مترقبا، واضطجعت السيدة على مخدة الأريكة وقالت: إنك تعلم أن لويس قد قضى في هذا الصيف وقتا طويلا في ستراسبورج، وكنت أرجو أن يتعرف موقفه بين رجال الحصن.
وأومأ فريزن برأسه مشيرا إلى أنه يعرف هذا. فاستمرت السيدة: حسنا! لقد عرفنا الآن أن رجال الحصن عن آخرهم من أتباعنا، ولا شك في هذا يا فريزن، فإني واثقة تماما مما أتحدث عنه، إن هؤلاء الرجال ليسوا ملكيين فقط، بل إنهم متحمسون للملكية، إنهم يتكونون من فصيلتين؛ إحداهما فصيلة فرسان والأخرى هي الفصيلة الثالثة من الطوبجية، ولقد جهزنا علم الزنبقة الجميلة، ومن المؤكد تماما أن هذه الفصائل ستلتف حول هذا العلم القديم، وعندما يتم كل شيء فإن لويس سيعود إلى ستراسبورج حيث يخطب في الرجال، وستسمع فرنسا كلها صدى هتافاتهم «يعيش الملك».
وتنهدت في تمن وأمل قائلة: إنني أرجو أن أكون هناك لأسمع هذه الهتافات.
وارتشف الأوستوري قهوته ثم وضع الفنجان فوق المنضدة وسأل: لم لا تفكرين في الذهاب بنفسك؟
فردت السيدة: لا، ليس هذا من الصواب، فربما تشك السلطات، إذ يجب أن تبقى حركات لويس مستورة، وليس من السهل لسيدة أن تعبر الحدود دون أن تستلفت الأنظار.
وتمتم الكونت فريزن: أهذا حق؟
وفكر ولكنه لم يقل: وعلى الأخص سيدة مثلك.
واستأنفت قائلة: كثيرا ما عبر لويس نهر الرين عند كيل فوق الجسر العائم، فليس عليه خطر كبير هناك.
ثم توقفت، ولقد يظن الإنسان أنها بذلك كانت تقيس مدى تأثير كلامها عليه، غير أنها لم تكن تلقي الكلام على عواهنه، بل كانت تعني كل كلمة تقولها، ولا يشغل فؤادها سوى غرض واحد، وهو الحصول على التاج لولدها. وعلى هذا فإنها لم تلاحظ إعجاب الكونت بجسدها في ذلك الوقت، فقد كانت ترغب في أن تبعث فيه حماسا لمشروع لويس الذي يشغلها، حتى إذا تشيع لفكرتها استطاع أن ينقلها لإمبراطوره ثم لقداسة البابا وفي كل أنحاء أوروبا.
ولقد مر زمن بعيد لم يخطر على بالها فيه أنها ما زالت جميلة وهي في منتصف عمرها، وقد صقل انفعالها نضرة عينيها السوداوين، وبعث في صوتها رنة امرأة غريبة واستأنفت قائلة: في ستراسبورج سيقابل لويس الجنرال ريوفو والكولونيل دي بروك ونوايانت، وأملنا كبير في أن الجنرال أفيلين الذي يقود الفصيلة الثالثة سوف يعلن انضمامه إلينا.
فقال فريزن: إن رجلا مثل هذا سوف يكون ذخرا عظيما عندما تنجح خطتك. - سوف تنجح يا فريزن، لا تشك في هذه الخطة مطلقا، إن لدي عزيمة تحرك الجبان.
وأخذ الكونت فريزن قدحا من الشارتريز وشربه ووضعه ثانية، ثم قال بجفاف: ومتى إذن تتحرك الفصيلة الثالثة من الجيش؟
وأدركت السيدة ملاحظته، وكانت تعلم أن صديقا مخلصا شفوقا مثل فريزن لا بد أن تكون هذه الكلمات القاسية قد بدرت منه رغم إرادته، فأجابت في برود: بعد أن يخطب لويس في رجال الحصن، وسيذهب الكولونيل نوايانت إلى مجلس القرية ومعه شرذمة من جنوده في الصباح المبكر، فيجدون شيخ البلد عندما يكون قد نهض من نومه ليشرب قهوته، وبعد ذلك يكون تحت رحمتهم فيطلبون منه أن يسلم نفسه، وبمجرد أن يتم لهم هذا فإن نوايانت سيتجه بفرقته إلى مقر العمدة ويقبض عليه. - وبعد ذلك؟
وأردفت السيدة بحدة: وبعد ذلك! وبعد ذلك! إنك تثير سخطي يا فريزن، ألا ترى أنه بالاستيلاء على ستراسبورج يكون مفتاح باريس بل فرنسا أيضا تحت يدنا؟
ورد السياسي القديم وهو يفكر: بالاستيلاء على ستراسبورج، نعم.
فأتمت السيدة: وسيترك لويس هناك أفليس قائدا لحامية الحصن، ثم يتخلف مع ضباطه وهيئة أركان حربه إلى الحدود حيث ينتظر رجاله عودته، وسيتخفي ضباطه في ملابس ملكية ويتخطون الحدود معه، وفي ذلك الوقت أكون أنا هنا قد جهزت كل شيء لإتمام عقد القران ولاستقبال صاحب الجلالة ملك فرنسا وحاشيته بما يليق بهم، وبعد عقد القران يعود صاحب الجلالة إلى ستراسبورج ثانية وفي جيبه مليار كريستوف، فيعقد لنفسه قيادة الفصيلة الثالثة، ويزحف إلى باريس مصحوبا بالابتهال والفرح بعودة ملك فرنسا الشرعي إلى مقر ملكه.
وكان انفعال السيدة يزداد شيئا فشيئا وهي تتكلم، وقد كانت معتقدة كل الاعتقاد بنجاح خطتها حتى النهاية، وكان صوتها يعلو شيئا فشيئا، واللهجة الإسبانية تتضح فيه بجلاء، وقد ظهر في عينيها السوداوين بريق عجيب، وكانت تقوم من مكانها تذرع الغرفة جيئة وذهابا، ثم تعود ثانية فتجلس منتصبة القامة وتعدل كتفيها، فيرتفع صدرها الجميل إلى الأمام، وكانت تتلألأ تحت أضواء القناديل خواتمها الثمينة وسوارها المرصع وهي تحرك يدها مؤكدة ما يصدر عنها من أقوال.
وجلس فريزن صامتا يفكر وقد كان سياسيا من المدرسة القديمة، صادق الفراسة واسع الحيلة، فكان من المستحيل أن يتصور تماما ما تخفيه الطلاقة التي تكسو دائما وجهه الجميل، والتي حبته بها تربيته العالية. غير أنه لم يسأل السيدة عن الوقت الذي تظن أنها ستبدأ فيه بتنفيذ مشروعها، إلا بعد أن رأى أن السيدة تنتظر منه أن يقول شيئا وأجابت: إنني لا أعرف الآن، وطبعا لا بد أن يبدأ بأسرع ما يمكن، ولو أن هناك أشياء ما زالت تحتاج للتفكير فيها وتنظيمها، ولكني أريد أن أعجل بتنفيذ ما تم لنا فيها حتى الآن؛ فلقد سارت الأمور على ما يرام مع كريستوف والفتاة، ويجب أن يسافر لويس غدا أو بعد غد إلى ستراسبورج، فأنا لا أريد أن يسير أبعد من هذا مع فتاة سان أماند هذه.
وانفجرت بصبر نافد وهي تبحث بعينيها في وجه صديقها، كأنما تريد إجباره على أن يفصح لها عن حقيقة رأيه: إن ما أخبرتك به يا فريزن ليس إلا مجمل لخطتنا، ولكن أترى أن لويس سيتبع هذه الخطة حتى النهاية؟ يجب أن تنفذ الخطة حالا بتوقيع عقد الزواج، فإن مليار كريستوف يساعدنا في بدء التنفيذ حالا! هل فهمت؟ ويمكن أن يكون الزفاف بعد ذلك في باريس، والتتويج سيكون بعده بمشيئة الله مباشرة.
وتنهدت تنهدا عميقا ثم قالت: وعلى كل يا صديقي، فلن يمضي هذا العام حتى تذهب دولة هذا الإمبراطور وتقام في ريمس حفلة تتويج الملك لويس التاسع عشر.
فقال الأوستوري في حرارة: ليحقق الله هذا!
وتغيرت حالة السيدة بعد هذا مباشرة؛ فقد كانت هكذا دائما حامية الطبع في لحظة باردة في الأخرى، متحمسة متقلبة حتى ليستحيل أن تعرف كيف تأخذها، وقد عراها في هذا الوقت شعور بالمرارة، حتى إنها تنهدت بصبر نافد وقالت: إن ما نحتاجه هو النشاط والحزم.
وكررت هذا مرتين أو ثلاثا، الحزم والنشاط والتصميم على النجاح.
واحتج فريزن: ولكن جلالته ...
وانفجرت السيدة فقاطعته بسخرية مريرة: شاب جذاب، هه؟ يتقن فنون الرقص ويغرم بالسحر، إنه جميل الطلعة ومحبوب ولكنه ...
وكانت تعبيرات وجهها تشتد حتى أصبحت قاسية، وباتت لا تستطيع أن تستقر على حال، فقفزت مرة أخرى على قدميها وذهبت إلى النافذة ففتحتها بعنف، وكان فريزن لا يزال جالسا وهو يضغط يديه المشتبكتين بين ركبتيه. وبغتة تحولت السيدة عن النافذة وعادت إليه، ثم جلست ثانية على الأريكة ، وعدلت طيات ثوبها ثم أخذت مروحة من فوق المنضدة القريبة، وأخذت تعبث بها بحالة مضطربة؛ فقد كانت عصبية تماما، وكانت تجري في ذهنها أفكار غريبة، وانطلقت قائلة: إنك لم تر ولدي الأكبر يا فريزن، أليس كذلك؟
فقال الأوستوري في دهشة محتشمة: إنني لا أعرف ...
فقاطعته بخشونة: إن لي ولدا آخر، لقد كان زوجي الأول إنجليزيا كما تعلم، كان جميلا كأنما هو تمثال صنعه فيدباس، غير أنه كانت له صلابة التمثال وبروده، وكان يقدس ولنجتون ويتخذه مثلا أعلى، ولست في حاجة لأن أخبرك ماذا نحمل نحن الإسبانيين لولنجتون هذا. لقد كان مارك متغطرسا مستبدا برأيه، ولم يكن ينظر إلى المرأة أكثر من نظرته إلى كلبه أو حصانه، ولما دفعتني أعماله إلى الثورة عليه، ساقني كما يسوق العبد العاصي بالسوط في يده، ولست أعرف الآن إذا كنت قد أحببته أو كرهته، غير أني أنجبت منه أجمل ولد يمكنك أن تتصوره يا فريزن، ولكني أكرهه!
واكتسى وجه السيدة الباهت الجامد بأفظع تعبير عن الحقد والضغينة، وأحس الكونت فريزن بضيق شديد ولم يعرف ماذا يفعل أو يقول، فإنه لم ير طول حياته السياسية امرأة يشتعل بنفسها غضب شديد كهذا.
واستأنفت السيدة: إنه فر من المنزل منذ اثني عشر عاما، بعد أن أخذ معه من نقودي ما استطاع أن يحمله، وما تصور أنه سيكفي حاجته، ثم عاد إلي بعد ثلاث سنوات وقدم إلي المال الذي سرقه، أو الذي اقترضه كما كان يقول.
وأتمت السيدة وهي تحاول محاولة واضحة أن تجرد نبرات صوتها من الخشونة: لقد كان أجمل ولد رأته عيناي، كانت سنه وقتذاك تسعة عشر عاما، وكان يشبهني كل الشبه، كما كان يشبه جلالته كثيرا، إلا أنه يختلف عنه في القوام؛ فقد كان له قوام أبيه الممشوق، وكان له بروده وغروره واعتداده برأيه، ولكنه رجل يا فريزن، إنه رجل حقا.
وسكتت السيدة مرة أخرى، وكان الأوستوري حتى الآن لا يدري ماذا يراد به، حتى إنه ود لو استطاع أن يستأذن ويهرب، ولكن يظهر أن السيدة في ذلك الوقت لم تكن تشعر بوجوده، وأخيرا تجاسر وسأل قائلا: ألم تري الفتى منذ ذلك الحين يا سيدتي؟
فأجابت بحدة: لا. - ألم تعلمي ماذا جرى له؟ - لا أعلم بالضبط، ولكن الكاردينال بنفنتي، وأظنك تعرفه، لا يزال على ما يظهر له اتصال به؛ فلقد سألته عن سيرل يوما فقال نيافته إنه درس الرسم في باريس، وإنه يسعى بجد للحصول على شهرة عظيمة في عالم الفن.
فسأل فريزن: أتقولين سيرل يا سيدتي؟ أيكون ولدك سيرل برتراند؟ أهو ذلك الشاب الرسام الذي قام بعمل صورة جميلة للآنسة كريستوف وعلقت في صالة العرض هذا العام؟!
فسألت السيدة ببرود: أهو يرسم صورا؟ إنني لم أعلم؟ - أؤكد لك يا سيدتي أن شهرة سيرل برتراند قد طبقت الآفاق في عالم الفن في باريس. إنني وإن لم أكن قد رأيته فإن النقاد يقولون عنه إنه يرجى منه الخير الكثير؛ لم يكن مادحوه أقل من جان أوجست وأنجر نفسهما، بيد أن فكرة أن سيرل برتراند هو أخو جلالته ...
فقالت السيدة بجفاف: إنه أخ غير شقيق لا أكثر، كما لا تنسى أنه إنجليزي وأنا عليمة بأن في هذا خسارة لي.
وبعد هذا حولت السيدة مجرى الحديث بتقلبها المعتاد إلى الصور والأوبرا وغير هذا من الأحاديث التافهة، كأنما كانت تريد أن تمحو من ذهنها كل فكرة عن ولديها. ولما تأخر الوقت قام الكونت فريزن مستأذنا وتمنى للسيدة مساء طيبا، ثم انحنى أمامها انحناءة كبيرة وقبل يدها الممدودة بجلال نحوه وكانت لا تزال يدا جميلة، حتى إن فريزن لم يتمالك نفسه من أن يفكر وهو يمسك بها لو يتوفر لهذه اليد الإرادة والحزم، فكم تكون قاسية لو ضربت!
وبعد دقائق كان واقفا تحت مظلة باب الفلا، وقد وقف خلفه بلا حراك رئيس الخدم الذي أوصله إلى الباب، فأوقد فريزن لفافة تبغ وذهبت أفكاره مع ما رآه من تلك السيدة الطموح وطفق يفكر.
إنها تطلب السيطرة والانتقام، إنها مديسي أو بورجيا جديدة، كم تكره ولدها! هي تكرهه لأنه جميل وقوي، في حين أن ولدها المختار الذي هو سلالة الملوك ليس إلا مخلوقا ضعيفا، آه! حسنا، سواء أكان هذا ضعيفا أم غير ضعيف فإن إمبراطوري يرغب في أن يكون على عرش فرنسا، ولذا فيجب علينا جميعا أن نساعده لنرفعه إليه.
ونزل الكونت فريزن درجات السلم وهو يصفر آخر لحن من ألحان جون ستراس.
الفصل الرابع
وفي تلك الساعة كان ملك فرنسا غير المتوج يسعى لاستعادة عرشه وبلاده بطريقته الخاصة، فبينما كانت والدته تتباحث مع السياسي الأوستوري في الترتيبات الحربية، كان لويس دي بوربون جالسا تحت قدمي إلين سان أرماند يصف لها بمختلف فنون البلاغة فتنتها وقوة جاذبيتها، وكيف أنه لا يعبأ بالعروش الملكية ولا بتاج سان لويس لو ظهر أنها تتعارض مع رغبته المتوقدة. وكانت ألين تستمع إليه وقد لذ لها ما تشعر به من إرضاء لغرورها، وسرها ما أثارته من عاطفة في فؤاد هذا الشاب الذي يعجبها فيه مسحته الملكية حينا، وشخصيته الغريبة حينا آخر.
فقالت لتسره دون أن يخالط لهجتها أقل شيء من سخريتها المعتادة: وما هي رغبة جلالتك المتوقدة؟
فأردف جلالته بحرارة: كيف تسألينني؟! هي أن تكوني لي بكليتك.
كانت ألين سان أماند قد نزلت في أحدث فندق فوق التل، حيث يطل على منظر جميل على طريق ليخنثال، والنهر حتى آخر أطراف الغابة. وكان الاثنان يجلسان قبالة بعضهما أمام المنضدة يتناولان طعام العشاء، ولم يستطع هو بالنسبة لانفعال عواطفه أن يتناول منه شيئا، بل كانت عيناه المحمومتان تتبعان حركاتها وهي تأكل بشهية كبيرة عقب المجهود المضني الذي قامت به في عملها.
ولما رفع الخادم المائدة وذهب قام كلاهما؛ هي لكي تلقي بنفسها في ركن من الأريكة تنشد الراحة، وهو لكي يحظى بالجلوس أقرب ما يكون منها، بالقدر الذي تسمح به.
وقالت له برقة: إنك ستكون يا لويسي ملك فرنسا يوما ما، فمن ستكون مغنية الأوبرا الصغيرة المتواضعة بالنسبة لك؟
فأردف بحرارة: إنني أتخلى عن أكثر من عرش فرنسا على ألا أفقدك أنت.
وجاء الرد سريعا وبغير خشونة: ماذا يكون من أمر فيرونيك كريستوف؟ - أوه فيرونيك!
وهز كتفيه مظهرا عدم اكتراثه بالموضوع.
فأتمت إليه بتنهدة حزينة قصيرة: إنهم يقولون إن كريستوف الكبير يعمل بكل قلبه لكي يجعل من ابنته ملكة لفرنسا.
فتدخل قائلا: لا تضيعي الوقت بالتحدث عن كريستوف الكبير. - إن لديه ملايين كما يقولون. - إنني أعبدك.
وأتمت بتنهدة أخرى أكثر عمقا: وليس من شيء يعجز المال عن إتيانه.
فغمغم يقول في حلم: إنك أجمل مخلوقة على وجه الأرض.
ولقد كانت عينا ألين واسعتين رجراجتين، فوقهما حاجبان رفيعان يرتفعان قليلا عن ركني أنفها الدقيق الصغير، فيعطيان لنظرتها تأثيرا خاصا يجتذب بعض الرجال الذين يحسون بالقوة والفخار لمجرد شعورهم بأنهم يحمون امرأة محبوبة ضعيفة لا سند لها، ولقد كانت هيئة ألين سان أماند تعطيها طابع المرأة العاجزة الضعيفة، وكان لويس - وهو المخنث الضعيف البنية - يشعر برجولته عندما تناديه عيناها بتلك النظرة المغرية، وكان يعبدها من أجل هذا الشعور بالقوة الذي يبعثه نداؤها منه.
وكان يحس بنشوة يكاد يذوب لها جسده، عندما تمر بأنامل يدها الجميلة المعطرة أمام وجهه وهي تربت على خده أو تعبث بشعره، وإنه ليغمض عينيه ويقول أو يفعل أي شيء في العالم تطلبه منه، بل لا شك أن يتنازل - لو طلبت - عن كل حقوقه في عرش فرنسا، وغمغم يقول: ماذا يبقى لي في الدنيا إذا لم تكوني معي؟!
كانت ألين من ذلك الصنف من النساء القلائل اللواتي يمكنهن أن يعشن دون أن يفقدن سحرهن، لقد درست منها أمام مرآتها لأنها كانت تعلم أن عبوسة فاتنة تكفي لتذيب قلب الرجل العنيد أسرع من أي شيء آخر، وعلى الأخص إذا اقترنت بالدموع من عينين زرقاوين ساحرتين، وقد استطاعت أن تمزج بين هذين بنجاح.
فقالت بصوت محطم: إنك تقول هذا يا لويس، ولكني أعلم أن رأسك مليء بالخطط. إنك تحتج! وتقسم أنك تحبني، ولكن ألست ترسم خططا؟ - ماذا تعنين بالخطط؟
واستطاعت أن تهيئ دمعتين في تينك العينين الرجراجتين فانزلقتا على خديها الناعمين، وقالت: خططا لتتركني، لتصير ملكا لفرنسا، وعند ذلك تصبح بعيدا عني بعد النجوم عن الأرض.
فاحتج قائلا: لست أنا الذي أضع تلك الخطط ولكنها أمي.
فقالت وهي تبكي: لا فرق بين هذا وذاك، فإن هذه كلها عملت لتحرمني منك.
فقال وقد اكتسى وجهه الجذاب بمسحة من العناد: لست في حاجة لأن أذهب.
فسألت الفتاة: تذهب؟! إلى أين؟! - إلى ستراسبورج.
فتنهدت تنهدة طويلة عميقة، وغمغمت بتأثر: ستراسبورج!
وألصق جسدها إليه بقدر ما يستطيع، ثم قال برقة: إنه المكان الذي قضيت فيه أسعد أيام حياتي حيث تقابلنا لأول مرة يا ألين، وأحب كلانا الآخر.
فسألت قائلة: لماذا يجب أن تذهب؟ - إنه جزء من خطتهم كما تعلمين. - أنا لا أعلم شيئا يا لويس، خبرني. - ليس هناك ما يطول الحديث عنه، فإن علي أن أضايق نفسي بمقابلة بعض الرجال هناك، هذا الكولونيل وذلك الجنرال، ويجب أن أخطب في رجال الحامية، وسيهتف الرجال «يعيش الملك» ثم يتبعونني.
ثم غمغم في ملل: أوه! دعينا من كل هذا، لنترك الحديث عن هذه المشروعات المضنية.
ثم أتم بنغمة حالمة: إنني لا أريد من كل هذا أكثر من أن أحبك.
وكان لويس قد سئم من الخطط التي تدفعه إليها أمه.
وأغلق عينيه، فسحبت ألين نفسها بلطف من بين ذراعيه ونظرت إليه مباشرة لحظة أو اثنتين، وبان في عينيها معنى غريب؛ أهو الحب؟ ربما، غير أنه في الحقيقة كان طيشا وشفقة، وكان طمعا أيضا. وقالت لنفسها: على كل حال فإن لويس يكون زوجا مناسبا، فهو وإن كان ملكا غير متوج فإن لقب البرنس دي بوربون له وقع لطيف في النفوس، ولسوف يفتح لها أبواب الهيئة الاجتماعية التي ظلت مغلقة دونها وهي ممثلة أولى صغيرة. إنها واثقة من أن لويس محب شفوق صادق. وبينما كانت تنظر إليه، اشتدت نظراتها قليلا؛ فقد حل الحزم شيئا فشيئا محل الطيش، إذ لم يكن في إرادة ألين أي ضعف، فإنها إذا أرادت شيئا فلا بد من أن تنفذه، وقد كانت تعلم تماما أن في استطاعتها أن تجعل لويس يلقي بالعرش وبفيرونيك وملايين أبيها على الرغم من سلطان أمه عليه، ولكن لم تكن تلك هي المسألة؛ فقد كان ما يشغلها هو هل هي تريده حقا؟
ما أغرب أهواء المرأة ورغباتها! إنها معضلة تعجز هي نفسها في كثير من الأحيان عن حل معمياتها! وقد كانت ألين حتى هذه اللحظة لا تعرف تماما ما تريد، وأخيرا قررت أن تترك نفسها للظروف ولما تمليه عليها عواطفها.
وقامت إلى آخر الغرفة حيث صفت بضع كئوس وزجاجات فوق رف دولاب قديم الطراز، وتبع لويس حركاتها بعينين متكاسلتين، ثم قال لها برقة: أقد ملأت كأسا؟ تعالي إلي.
وعادت إليه وفي يدها كأس، ثم قالت وهي تعطيها له: إنه توكاي، أرسله إلي الكونت زيشي مباشرة من مزارعه في هنجاريا.
وأخذ لويس الكأس فشربها، وقال: شراب الآلهة! كأسا أخرى. - ولم لا؟
فأخذت كأسه وملأتها ثانية، فشربها أيضا ثم وضعها وهو يقول: إنه رحيق لذيذ! والآن تعالي هنا إلى جانبي.
ومد يده إليها فأمسك بيديها وجرها إلى جانبه وقد طارت مسحة النعاس التي كانت تكسو وجهه، والتمعت عيناه وجرى الدم حارا في وجنتيه. •••
وتشاء المقادير أن يخرج سيرل برتراند في نزهة طويلة على قدميه في ذلك المساء، فكان الوقت متأخرا عندما أشرف، بعد أن قضى وقتا طويلا في صعوده إلى التل، على مرأى ذلك البناء المحاط بشجر اللبخ، وقد غطاه زهره الأبيض فبعث في الجو عطرا زكيا.
وتقدم سيرل إلى الحائط القليل الارتفاع الذي يفصل بين الطريق وبين حديقة الفندق الصغير، فتخطاه وسار بضع خطوات حتى اقترب من باب الدخول، فإذا به يرى رجلا وامرأة واقفين داخل الباب وقد عانق كل منهما الآخر، فتأخر سيرل بانتباه إلى ظل الأشجار وسطع القمر وقتذاك، وكان وجه المرأة يغمره الضوء فشاهد وجه ألين سان أماند، غير أنه لم ير من الرجل غير شعره الكستنائي الذي يشبه شعره هو.
وطال احتضان العاشقين ونفد صبر سيرل فسعل سعلة منبهة، فخلصت نفسها من بين ذراعي عاشقها وأعطته يديها فغمرها بقبلاته ثم تحولت عنه وسارت بخطوات مسرعة في ممشى الحديقة نحو الفندق ، فظل الرجل واقفا في مكانه، وكان جسمه يهتز كأنما قد عجزت ساقاه عن حمله، بيد أن سيرل لم يجد من نفسه رغبة في مقابلته، ففضل الانتظار قليلا حتى يذهب هذا في سبيله. وبعد لحظة، تحول الرجل ففتح باب الحديقة بيد غير ثابتة، فرأى سيرل برتراند أن عاشق ألين سان أماند ما هو إلا لويس أخوه غير الشقيق، ولم يصدق سيرل عينيه لأول وهلة؛ فقد بدا كل شيء في ناظريه مستحيلا وغريبا، فهو لم يكن لويس ملك فرنسا المنتظر فحسب، بل كان أيضا زوج فيرونيك المستقبل أطهر مخلوق على وجه الأرض، المرأة التي يحبها ويقدسها. لقد كان الموقف مروعا هائلا، حتى لقد مرت لحظات وهو مسمر في الأرض لا يستطيع الحركة، وأخيرا تنبه لصوت أقدام لويس تضرب الأرض وهو ينحدر نازلا فوق سفح التل. وأحس سيرل برغبة قوية في أن يتبع هذه الخطوات دون أن يدري ماذا يفعل، أيأخذ برقبة ذلك الكذاب المخادع فيصب عليه جام غضبه ويلقي في وجهه بأفظع اللعنات وأقذع السباب؟ أم ينتهي منه فيقضي على حياته؟
إنه لا يدري ماذا يفعل، ولكنه نزل وراءه، متتبعا خطواته ونفسه تعج بالحقد عليه والكراهية له. وظل سيرل في أثره دون أن تهدأ ثائرة نفسه، وقد تمنى له في سريرته ميتة عاجلة شنيعة، وبغتة. رأى الرجل يترنح ثم سمع صوتا يشبه أنين حيوان ألم به مكروه؛ فقد ارتطم لويس بصخرة في الطريق، وشعر بأنه يسقط وقد صدرت منه صرخة ضعيفة طالبا المعونة، ثم خر على ركبتيه، ولم يكد يستلقي بجسمه على الأرض الصخرية حتى التفت حوله ذراعان قويتان - لم يعرف صاحبهما إذ بدأ يفقد إدراكه - فأغمض عينيه في الوقت الذي شعر فيه بجسمه يرتفع عن الأرض، وقد حمل بسرعة وهو ينحدر إلى أسفل التل. •••
يقال عادة عن النساء إن أعمالهن لا يحكمها المنطق وإنهن ينسقن وراء الدوافع النفسية فتحكمهن أهواؤهن، ولكن عندما تسيطر هذه الدوافع النفسية على أعمال الرجال فإنهم يعجزون هم أيضا عن حسبان ما قد يطرأ عليهم من تغير . ولم يكن سيرل برتراند لينتظر من نفسه في ذلك الوقت أن يفعل مع أخيه ما فعله، في حين أنه كان منذ لحظة يحس نحوه بكراهية شديدة لدرجة أنه فكر في قتله؛ فلقد كان نفس الدافع المجهول الذي ساقه لتتبع خطوات لويس هو الذي دفعه بغتة لأن يحمله طول الطريق المؤدي إلى فلا إليزابث في أسفل التل!
ووصل سيرل وهو يحمل جسد أخيه غير المحبوب إلى سور حديقة فلا إليزابث، وبحث دون جدوى عن جرس للباب الخارجي أو سقاطة، وبينما هو على هذه الحال إذا به يرى الكونت فريزن السياسي الأوستوري وخلفه رئيس الخدم يخرجان من باب الفلا الداخلي، لقد عرفه سيرل من كثرة مشاهدته له في تردده على مقصورة أمه في الأوبرا. وكان القمر لا يزال ساطعا فسار الأوستوري بخطواته اللينة وهو يصفر آخر لحن من ألحان جون ستراس، وما كاد يصل إلى الباب الخارجي حتى وقف بغتة، إذ وجد نفسه وجها لوجه أمام هيكل طويل يحمل بين يديه رجلا له هيئة الميت، فكان أول ما عمله أن صاح في ارتياب: هيا، أنت هناك!
بينما كانت يده فوق جيبه الخلفي تبحث عن مسدسه، ولما لم يلق جوابا على ندائه، صاح بصوت أكثر ارتفاعا: هيا! ماذا تفعل هناك؟! وماذا تريد؟
فأجاب سيرل بخشونة: إنه سقط في الطريق فحملته وأتيت به إلى هنا؛ لأني أعلم أنه يقطن هذا المنزل، أو على الأقل إن والدته تقطن هنا.
وانتبه الكونت فريزن لمجرد سماعه صوت سيرل، فتأمل فيه طويلا من بين قضبان الباب الحديدية، وأدهشت سيرل نظرته الفاحصة الطويلة؛ فقد كان يعلم أن فريزن لا يعرفه وأنه لم يره قط من قبل، فقال له بصوت أجش: إنني لست لصا ولا شحاذا، وكل ما أريده هو أن أدخل هذا إلى منزله.
وتقدم فريزن بحركة آلية بطيئة إلى الباب الكبير ففتحه، ودخل سيرل إلى الحديقة، وكان رئيس الخدم قد أسرع إليهم لدى سماعه صوت الكونت، فقال له فريزن بكلمات مقتضبة وهو لا يزال يمعن النظر في وجه سيرل: لقد وهنت قوى جلالته في الطريق، ولحسن الحظ لاقاه هذا السيد فأتى به إلى هنا. لا تزعج السيدة البرنسيس بالخبر، بل اهتم بتجهيز الفراش لجلالته حالا.
ولم يستطع رئيس الخدم إلا أن يغمغم في ضعف: سمعا وطاعة يا سيدي الكونت.
ثم حاول أن يحمل جسد مولاه، غير أن سيرل لم يتركه يفعل، بل قال له بغلظة: سوف أحمله أنا إلى داخل الفلا.
وتبع رئيس الخدم في الممشى ثم صعد وراءه السلم ودخل القاعة الكبرى. وكان لويس قد بدأ يعود إلى رشده، فوضعه سيرل فوق أحد الكراسي الكبيرة، ثم نكص على عقبيه دون أن يلقي نظرة إليه أو إلى رئيس الخدم، ونزل إلى الحديقة، وكان الكونت فريزن لا يزال هناك، فلما اقترب سيرل منه تقدم إليه خطوة، فرآه سيرل يفعل ذلك، وكان سيمر إلى جانبه دون أن يلقي إليه بكلمة لولا أن اعترض طريقه، وقال فريزن بجفاف ولكن بكل ثبات: يجب أن تخبرني من تكون؟
فأجاب سيرل: لقد قلت لك إنني لست شحاذا، وإن ذلك الرجل قد سقط فحملته، وهذا كل ما هنالك.
فأتم الأوستوري بهدوء: أعرف هذا، وإني في الواقع لست في حاجة لأن أسألك لأن اسمك سيرل برتراند، أليس كذلك؟
فأردف الآخر: كيف لك أن تعرف هذا؟
فأجاب الثاني برزانة: إن جان أوجست وأنجر من أصدقائي.
وسرعان ما انحل التجهم الذي كان يكسو وجه سيرل، وحلت محله مسحة من فضول الأطفال، وسأل قائلا: هل تكلما عني؟
فأجاب فريزن في ابتسامة: لقد تكلما عنك بعبارات قوية مؤثرة؛ فقد قالا إن أمامك مستقبلا باهرا إذا كنت تعمل بجد.
فغمغم سيرل: أليس عجيبا أن يتذكرا مبتدئا مثلي؟! - إنهما يتحدثان عنك كمبتدئ. وليس أوجست أو أنجر ممن يلقون المدح جزافا.
ولم يزد سيرل شيئا، بل ظل مأخوذا بالخيالات السعيدة، والشهرة المستقبلة، ولقب الفنان العظيم. وأخيرا قال فريزن: حسنا يا سيدي برتراند، أخشى أن يكون الوقت متأخرا، ولكن يجب أن نتقابل مرة أخرى، إذا سمحت لي أن أحضر لزيارتك.
فأردف سيرل: إن هذا تفضل كبير منك، إذ إنني أسكن في غرفة صغيرة في أحد الفنادق. - هل لي أن أسألك أي فندق؟ - فلا أجلانتين في أعلى التل. - أوه! إذن تقطن معكم الفتاة الجذابة الآنسة سان أماند؟
وعاد التجهم إلى وجه سيرل، فاستأنف فريزن: على أنني سوف أحضر إليك ربما في الغد، وسنتحدث عن أصدقائنا في باريس.
وعلى هذا افترق الاثنان، غير أنهما لم يتقابلا في الغد؛ فقد تسلم الكونت فريزن في الصباح الباكر أمرا رسميا بالسفر إلى فينا بقطار الظهر، وأرسل يعتذر إلى السيد برتراند في فندقه.
ومر وقت طويل عليهما قبل أن يتقابلا مرة أخرى، وقد حدث في ذلك الوقت من الحوادث الجسام ما لم يكن في حسبان أحد.
الفصل الخامس
ستراسبورج
19 سبتمبر سنة 1860
سيدتي الوالدة المحبوبة
تسطر لك هذا أرق وأشفق امرأة على وجه الأرض، وإني أمليه عليها لأني متعب مكدود، حتى لأجدني عاجزا عن أن أمسك بالقلم بين أصابعي.
نحن لا نزال في ستراسبورج؛ فقد نزلنا في أحسن فندق في البلدة، ورغم هذا فإن وسائل الراحة فيه تكاد تكون معدومة، لقد اجتمع إلي في قاعة الفندق جميع أعواني، وإنك لتعرفين أسماءهم أكثر مني، وتكلموا طويلا، وكانوا في خلال حديثهم يعطسون ويسعلون ويتمخطون! وكنت أستمع إليهم، ولم يكن في الواقع هناك فائدة في أن أقول شيئا؛ فقد دبروا كل شيء فيما بينهم. لقد قمنا في الفجر، وتجمعت الفرق تحت قيادة الكولونيل ريونو، وأظن أن اسمه هكذا، وقبضوا على رئيس البلدية وبعض أعضائها الذين لم يثبت ولاؤهم لنا. وبعد ذلك لم نكن ندري تماما ماذا نفعل؛ أنزحف إلى حيث يعسكر الجنرال إفيلين وننضم إليه، أم نبقى حيث نكون مترقبين الفرص للزحف على باريس؟
لقد ثار حول هذا الخلاف نقاش أتعبني وأضناني؛ فقد ظلوا طول النهار يتباحثون، بل استمروا فيه شطرا من الليل، وأخيرا ذهب هذا الصباح كولونيل - نسيت اسمه - إلى الرياسة وأمر أركان الحرب بأن يجمع الرجال، ووصلت متأخرا ربع ساعة، وكانت الفصيلة كلها في الساحة، ورأيت الرجال مدججين بالسلاح، مستكملين عدتهم، فصاح فيهم الكولونيل بأعلى صوته: «أيها الجند، لقد انتهت الإمبراطورية الفرنسية، وسقط الإمبراطور نابليون المغتصب. ليحم الله الملك!»
ولقد كان هذا في الواقع كذبا، إلا إذا كان نابليون قد سقط من فوق جواده أو من فوق درجات السلم. وعلى كل فقد أجابه الرجال بصيحة عالية: «يعيش الملك»، وقلت لهم بضع كلمات عن سان لويس وعن جدي، فصدحت فرقة الموسيقى بنشيد المارسلييز، وأخذت العلم بيدي، فصاح الرجال مرة أخرى: «يعيش الملك»، غير أن بعض الرجال في آخر الساحة أخطئوا وهتفوا: «يعيش الإمبراطور»، ولست أظن أنهم عرفوا من أكون أنا.
سرنا بعد ذلك في أنحاء المدينة والموسيقى تعزف أمامنا، حتى وصلنا إلى مقر القيادة، فقابلنا جنرال كبير السن اسمه لوفيلي على ما أظن وكان ينتظر وصولنا. غير أني لم أخبرك أن الآنسة سان أماند لم تتركني لحظة واحدة طوال هذا اليوم، لقد كانت معنا منذ طلوع الفجر حتى الظهر؛ تمشي، وتهتف، وتتحدث مع الضباط وتشجعهم. وقدم لنا الجنرال غداء طيبا شكرته عليه، فما كنت قد تناولت منذ الصباح سوى فنجان قهوة رديئة، وبعد الغداء نشبت مناقشة جافة أخرى، انتهت باستقرار الرأي على إرسال خبر إلى الجنرال إفيلين يطلب إليه فيه أن يسير بجنوده إلى هنا؛ فقد قالوا جميعا إن من دواعي الحرص على سلامتي أن أبقى حيث أنا، ويظهر أنهم تلقوا أنباء تؤكد انتشار جواسيس نابليون في أنحاء البلاد، بغية القبض علي وحجزي في مكان ما.
عند هذا كنت أحس بتعب شديد أنهك قواي، ولولا عناية الآنسة سان أماند وشفقتها علي لتحطم كياني، لقد قالت - وشعرت أن الحق معها - إن ما أحتاج إليه وقتئذ هو الراحة. وكان منزلها في ستيجاند غير بعيد عن هنا، ودفعها لطفها إلى أن تدعوني لقضاء بضعة أيام هناك، حيث يمكنها في هدوء الريف أن تعتني بي فتعيد إلي صحتي. ولقد عزمت على قبول هذه الدعوة الكريمة، وسنسافر إلى ستيجاند بعد ساعة على الأكثر، وبمجرد أن يبلغ إلى علمي وصول الجنرال إفيلين إلى ستراسبورج، وسيكون هذا بعد ثلاثة أيام على الأكثر، فسأرجع إلى هناك وأستأنف البرنامج الذي رسمته لي.
على أنني أعرف أنك قد عملت ترتيبك لكي أتقابل مع الآنسة كريستوف عند عودتي، وأصارحك القول بأن هذا الزواج يقل شأنه في نظري يوما بعد يوم رغم الملايين المنتظرة منه.
إلى الملتقى يا أماه. سأرسل لك برقية عند عودتي إلى ستراسبورج. وإذا لم تسمعي عني خبرا حتى 17 الجاري، فاعلمي أن جواسيس نابليون قد نالوني، فإما أن أكون أسيرا بين أيديهم أو قتيلا وقد تركوني في حفرة بعد أن أهالوا علي التراب.
ولدك
لويس
واستطاعت ألين أن تقنع الملك لويس بأن تذهب هي بنفسها لتضع الخطاب في البريد، بحجة أنه خطاب مهم لا يجوز أن تتركه لخادم الفندق، وكان لويس مكدودا واهن القوى من متاعب اليوم التي لم يتحملها جسده الرهيف، وتركها لتفعل ما أرادت ثم استلقى وحده على الأريكة ينشد الراحة.
وطفق يفكر في ملال: أوه! إذا لم يكن في الموضوع مليار كريستوف وتاج فرنسا، الذي لا يرغب فيه حقيقة، لتمت له سعادته مع ألين، ولكن هناك والدته، وكل هؤلاء الكهول الأوغاد، إنه لا يستطيع الحياة بينهم مطلقا، ولقد أحس لويس برغبة في أن يقع في أيدي رجال نابليون، حتى يبتعد عن طريق أمه وكريستوف وأولئك الأوغاد ويخلو له الجو بمعبودته ألين، ما أجملها! ويا لسحر عينيها، وفمها، وقبلتها! وبينما جلالته يحلم بألين غلبه النعاس فنام. •••
ووقفت ألين سان أماند خارج الغرفة، وقد أمسكت مقبض الباب بإحدى يديها، وأطبقت الأخرى على الخطاب الذي كتبته حسب ما أملاه لويس عليها، ونظرت إليه باضطراب وشك، والواقع أنها في تلك اللحظة لم تكن تعرف تماما ماذا تفعل، لم تكن واثقة من نفسها ولا مما ترغب فيه حقيقة، وقد طافت بذهنها خيالات شتى، فضاقت نفسها لحظة، فإذا بعينيها تمتلئان بالدموع، وبحركة سريعة مسحتهما بظهر يدها، ثم نزلت درجات السلم.
وكان الطريق في الطابق السفلي يؤدي إلى صالة الفندق الكبيرة، وعلى اليسار باب زجاجي كتب عليه بحروف مذهبة «مدخل القهوة»، ودفعت ألين هذا الباب ثم دخلت، وكان الخطاب لا يزال بيدها.
لم يكن بقهوة فندق الكولوني في ذلك الوقت غير بضعة رجال في ركن منها يلعبون الدومنة ويشربون، وفي الركن الآخر كان يجلس منفردا، وقد ارتدى ملابس سوداء واعتمد بمرفقيه على الطاولة أمامه، فاتجهت ألين إليه، وما إن رآها حتى قام من مكانه وسحب لها كرسيا، ودعاها للجلوس ففعلت ثم سألها: ماذا تطلبين؟ قهوة؟ إنها طيبة.
فأجابت: لا شيء، أشكرك.
وألقت بمرفقيها فوق الطاولة، وأسندت رأسها بيدها وأحست بغتة بتعب شديد، فأغلقت عينيها وقد بان الذبول على شفتيها الجميلتين، فقال الرجل: أرى أن تأخذي قدحا من «الفاين» فإنه ينفعك.
وهزت رأسها، ولكنه لم يعبأ بهذا، بل نادى الخادم وأمره بإحضار كأس من الفاين لها، وأحضر الخادم الشراب فصب منه شيئا في الكأس وهم ليأخذ الزجاجة، غير أن الرجل أمره بتركها أيضا.
والتقطت ألين الكأس بحركة آلية وشربته، واضطربت ملامح وجهها لحظة من أثر حموه، ثم وضعته فوق المنضدة.
فقال الرجل: إنها سوف تنفعك، أنت متعبة.
فقالت ألين بتراخ: إنني اشتغلت طول شهر أغسطس؛ فقد مر علي الآن وأنا أقوم بهذا العمل - دعني أرى - أسبوعان تقريبا، إنني لم أتعود الحياة في هذا الضجيج المزعج، وها أنا ذا لم يغمض لي جفن منذ أن وصلنا هنا.
فأردف الرجل بجفاف: إنك لا تأسفين على هذا يا عزيزتي.
فقالت ألين وهي تتناول الكأس بيدها: لست أعرف تماما.
وأخذت رشفة من الشراب، ثم ألقت باليد الأخرى فوق المنضدة، وكانت لا تزال ممسكة بالخطاب.
فسألها: ما هذا الذي معك؟
فوضعت الخطاب فوق المنضدة ثم قالت بخشونة: خطاب، كتبه لأمه، أو بالأحرى أملاه علي.
والتقط تولون الخطاب وفتحه، ولم تكن قد قفلت مظروفه بعد، وأخذ يتلوه، ثم أعاده إلى مظروفه، وألصقه عليه، ثم وضعه في جيبه وهو يقول: ليس فيه ما يضر، ولكن يجب ألا نرسله الآن، سوف أبعث به في الوقت الملائم.
وسكت قليلا ثم أخذ نفسا من سيجارته، وبعد لحظة قال: وأما من جهة النقود.
فرفعت عينيها إليه وقد غمرتهما الدموع وقالت باضطراب: إنني ألعب دورا قذرا يا تولون.
وأتمت في ابتسامة حزينة قصيرة: إنه فتى لطيف، بريء كالطفل، وفوق ذلك فهو يثق بي.
فأردف تولون بقلة اصطبار: بيد أنك يا عزيزتي لن تؤذيه في شيء، بل ولن نؤذيه نحن أيضا. ولكن خبريني هل يريد ذلك الفتى اللطيف كما تسمينه أن يصبح ملكا لفرنسا، أم أنه لا يرغب في هذا؟
وردت ألين بعد تردد قليل: لا، أظن أنه لا يريد هذا.
فقال: هل يرغب في الزواج بفيرونيك كريستوف؟
وكان ردها هذه المرة بغير تردد: لا، أنا واثقة من أنه لا يرغب في هذا. - إذن فهذا حسن، حسن جدا.
وسكت الاثنان قليلا، وكان المطر ينهمر في الخارج فيرتطم بزجاج النافذة، ودخل القهوة بضعة رجال، أخذوا أماكن بعيدة، وأطفأ تولون سيجارته، ولمس ذراعها بأطراف أصابعه، محاولا دفعها لأن تنظر إليه مباشرة، ثم قال برفق: انتبهي إلي قليلا يا عزيزتي، ما أريده منك هو أن تسافري من هنا في مدى ساعة، إلى ستيجاند حيث يوجد منزلك البديع، وستقابلكم في الطريق فرقة من البوليس الطواف، وسيأمر سائق عربتك بالوقوف، ثم يتقدم ضابط في لباسه الرسمي ومعه شرذمة من الجنود إلى باب العربة، وستضطربين ويغمى عليك، أو تتصرفين كما تفعل عادة السيدات العصبيات، فيكون الضابط في هذا الوقت قد أمر السيد البرنس دي بوربون بالنزول، فإذا حاول المقاومة - وإن كنت واثقا من أنه لن يقاوم - فالرجال سيقبضون على شخصه المبجل ولكنهم سوف لا يؤذونه وأقسم لك بشرفي على هذا! وستكون هناك عربة أخرى لتحمل السيد إلى قلعة دايك حيث يعنى به كل العناية ولكن لبضعة أيام فحسب، أسبوعين على الأكثر، وستستأنفين أنت السفر إلى ستيجاند، حيث تبقين هناك مصابة بصدمة في الأعصاب من جراء ما لاقيته من فزع وانزعاج. ويجب أن تجيبي دائما عن كل سؤال أو استفهام يلقى إليك بأنك لا تعرفين شيئا، وأن المفاجأة أثرت على أعصابك في ذلك الوقت فأغمي عليك، فعندما صحوت وجدت أن جلالته قد اختفى. وقد لا يصدقك أحد ويظنون فيك الظنون، ولكن النتيجة على كل حال ستكون انهيار مشروع الزواج، وهذا ما يرغب كلانا فيه؛ أنا لأنه يترك آل بوربون مفلسين لا يستطيعون الاستمرار في مشروعهم، وأنت لأنك تتمكنين بذلك من أن تتخذي لنفسك من فتاك اللطيف زوجا.
وسكت تولون بعد هذا الحديث الطويل، وقد أفصح عنه من أوله إلى آخره بصوت ناعم هادئ، وانتظر لحظة حتى يتأكد من أن كلماته قد استقرت في نفسها، ثم أخذ سيجارة فأشعلها بحركات هادئة بطيئة وقال: تذكري أيضا يا صديقتي العزيزة أنك سوف تنالين مقابل دورك في هذه اللعبة الصغيرة مكافأة لطيفة لا تقل عن خمسة وعشرين ألف جنيه، إنها دوطة زواج يا عزيزتي، لا يمكن أن يترفع عنها حتى أمير.
وتنهدت ألين تنهدة عميقة، ثم وضعت يدها فوق خدها الملتهب وقالت: إن لك يا صديقي قدرة على دفع الإنسان إلى أن يفعل ما تريد.
فهز كتفيه وقال برزانة: لم أقل هذا إلا لأبين لك بساطة الموضوع كله، فإنك تبالغين كثيرا في تصور أهمية دورك فيه، ولا تنسي يا عزيزتي أنني كنت أستطيع أن أقوم بكل شيء بدون مساعدتك غير أني لم أعمد إليها إلا ...
فقاطعته وأتمت: إلا لأنك تريد قبل كل شيء أن يسير الموضوع دون أن يشعر أحد به. إن ما تريده في الحقيقة هو سكوتي.
فسألها بتملق: ألست على استعداد لأدفع نصف مليون ثمنا له؟
فردت بحمية: إنه يستحق هذا، وأنت تعرف ذلك، فلو أنني أذيع الموضوع لما توانى البارون كريستوف عن أن يتقدم بملياره ليخلص لويس من قبضتك، ولا تذكر إمبراطور أوستوريا فإن المال يفعل كل شيء، حتى إذا أخذوا لويس من دايك وعاد إلى بادن بادن، فماذا يكون حالك أنت يا صديقي؟ ستظل كما أنت الآن تدبر الخطط محاولا استرجاعه ثانية، ولكنك لن تجد الأمر سهلا بعد ذلك؛ لأن ألين سان أماند لن تساعدك، هل فهمت؟
فرد في جفاف: ربما كان هذا صحيحا، فسأبقى حيث أنا الآن، كما سيبقى تاج فرنسا حيث هو الآن أيضا، ولكن لويس دي بوربون سوف يكون قد ارتبط برباط مقدس مع فيرونيك كريستوف في مقابل مليار والدها.
وعندما قال هذه الكلمات الأخيرة بصوت أجش ونغمة ساخرة، امتلأت عينا ألين بالدموع وشحب وجهها، فأنشأ يقول بصوت ملطف: رويدك، رويدك! لماذا نتشاجر معا؟! نحن لا يستغني كل منا عن الآخر، ولا أريد منك سوى الصمت، إلى أن تبعد فيرونيك عن طريقنا حتى يفشل ذلك الزواج، وبعد أن تتسلمي الخمسة والعشرين ألف جنيه يمكنك أن تتزوجي أميرك المفلس، تعالي.
ثم مد يده إليها من فوق المنضدة، وهو يقول: أتريدين أن نكون أصدقاء أم أعداء متنابذين؟
فقالت بعد لحظة تردد وقد مدت إليه يدها: لنكن أصدقاء، ولكن تحت شرط واحد. - اذكريه. - لا ينقطع الاتصال بيني وبين لويس عندما يكون في دايك.
فقال مؤكدا: سوف تكتبين له كل يوم، وسأعمل على أن تصله خطاباتك، وسيرسل إليك حاكم القلعة كل يوم تقريرا عن السجين أو خطابا منه.
فقالت: إذن فإني أوافق.
ورفع يدها إلى شفتيه وقال مؤكدا: سوف لا تأسفين على هذا. متى ستسافرين؟
فأجابت: بعد نصف ساعة. ثم لا تنس خطاب لويس لأمه. - سأرسله في البريد، دعيني أر، اليوم الثلاثاء سأضعه يوم الجمعة. - حسنا.
وافترقا كأحسن ما يكون عليه الأصدقاء.
الفصل السادس
جلست السيدة في مخدعها بفلا إليزابث تنتفض أمام النار؛ فقد قرأت خطاب ولدها ما يقرب من ثلاث مرات في حين أنه وصل منذ ربع ساعة، كان تاريخه 12 الجاري واليوم 16 الجاري، أربعة أيام! إن ختم البريد لا يظهر تاريخه بوضوح، ولكن لا يمكن أن يبقى أي خطاب أربعة أيام في البريد من ستراسبورج إلى هنا، إن المسافة لا تستغرق أكثر من 24 ساعة لا أربعة أيام. لقد قضت السيدة هذه الأيام الأربعة في لهفة لا حد لها، مترقبة وصول هذا الخطاب الذي علمت منه كيف يضيع ولدها وقته في ستيجاند بين ذراعي فاجرة وضيعة.
ودقت السيدة الجرس تنادي سكرتيرها المسيو نوسي فقالت له أن يذهب في الحال إلى فندق ستيفاني، ويرجو الكونت فريزن أن يحضر إليها في الحال، لأن خطابا مهما قد وصل من جلالته.
وذهب نوسي، وجلست تنتظر فما كان لديها إلا أن تنتظر؛ فقد أحست المرأة المسكينة كأنما قد أصابتها ضربة شديدة على أم رأسها، ونظرت إلى الخطاب الذي وصلها من ملك فرنسا عن الحوادث الهامة التي يتعلق بها مستقبل بلاده وعرشه، وقد أمضها ألا تجد منه اهتماما إلا بالحوادث التافهة والملاحظات السخيفة التي لا تصدر إلا عن عقلية أطفال.
ولبى الكونت فريزن دعوتها، فلما وصل وجدها جالسة فوق الأريكة وقد كست وجهها مسحة من اليأس، وأعطته الخطاب وطلبت منه قراءته، فلما أتمه قالت له بحزن: لا تخبرني عما دار بخلدك يا فريزن، إني أعرفه.
وسحب الأوستوري كرسيا وجلس قريبا منها، وكان لا يزال ممسكا بيده الخطاب، فقالت السيدة بانفعال مفاجئ: ألق بهذا الخطاب في النار، فإني سوف أجن لو رأيته ثانية.
ولكن الكونت فريزن لم يلق بالخطاب في النار، بل دسه في جيبه بينما كانت السيدة تنظر إلى جهة أخرى، وبعد لحظة قالت: إذا رآه الإمبراطور فإني أموت خجلا، ماذا نفعل يا فريزن؟! ماذا نفعل؟!
فأجاب الأوستوري: سوف لا نفعل شيئا أكثر من أن ننتظر.
فصاحت بمرارة قاسية: ننتظر! ننتظر البرقية التي لن ترد إلينا، أوه يا فريزن! إن تلك المرأة قد لعبت بعقله. ولكن ماذا ترى في الجنرال إفيلين، أتظن أنه سوف ينضم إلينا بجنوده أو أنه سيرجع في كلمته؟ - إنه لم يرجع عن وعد قطعه على نفسه. - أتظن أنه يمكننا الاعتماد عليه؟ أتظن ذلك؟
وكأنما كانت تنتظر أن تسمع شيئا، كلمة تبعث في نفسها الشجاعة.
ولكن فريزن لم يقل شيئا؛ فقد كان من المستحيل أن يقول شيئا مما دار في خلده وقتذاك، يستحيل أن يخبر هذه الأم الطموح المحبة أن العائق الذي يقف في سبيل نجاح خططها إنما هو لويس نفسه، إذ كيف يمكن لأي مسعى أن يبشر بالنجاح مع مثل هذا الخائر الضعيف الهمة؟
واستمرت السيدة تغمغم كأنما تحدث نفسها: نحن اليوم في السادس عشر، السبت وبعد أسبوع من هذا اليوم سوف يتقابل لويس وفيرونيك كريستوف، إنها تنتظر هذا، وكريستوف مستعد، ولكن إذا لم يكن لويس هنا، يا إلهي! فريزن، ماذا سيكون من أمرنا إذن؟!
وقالت جملتها الأخيرة بصوت مرتفع يملؤه الفزع، ولكن فريزن ظل في مكانه ينظر إلى النار، وحاول أن يهدئ ثائرتها فلم يستطع إلا أن يقول: سوف تصلك برقية قبل فوات اليوم يا سيدتي.
ولقد كان في الحقيقة يأسف كثيرا لحال هذه المرأة المليئة بالنشاط والطموح مع مثل ذلك الولد الذي يكتب في هذا الوقت خطابا كهذا، بل إنه هو نفسه كان يود أن ينجح هذا المشروع فهو كسياسي إنما يفخر بنجاح عمل اشترك بنفسه فيه، ففوق أن إمبراطور أوستوريا يرغب في عودة آل بوربون إلى عرش فرنسا لأسباب عاطفية وعائلية ولاعتبارات سياسية أيضا؛ فإن فريزن نفسه كان يهمه شخصيا نجاح مشروعه، إذ يهيئ له هذا مستقبلا باهرا بين رجال السياسة.
وأخيرا قالت السيدة بغصة: أظن أن الأجدر بك أن تعود يا صديقي، فلم يبق لدينا ما نعمله الآن، أليس كذلك؟
فقال وهو يقوم لينصرف: لا عمل لدينا الآن كما تقولين يا سيدتي، ولكن يجب أن نؤمل خيرا.
فغمغمت السيدة بيأس: نؤمل خيرا؟! ثم تنهدت بعمق وأتمت: إني لأشكرك كثيرا يا صديقي فريزن، فلست أعرف ماذا كنت أفعل بدونك.
وقال فريزن في النهاية: سوف أعود ثانية لأرى ما لديك من الأخبار.
ونزل فريزن وذهنه يشتغل بجد في حل للمشكل.
ما أعجبها امرأة! أما كانت تهبها الأقدار ولدا قويا غير هذا؟! وتذكر الشخصية التي رآها منذ ستة أسابيع تحمل جلالته وهو مغمى عليه، وذكر موقفه وهو يتأمل سيرل وقد رآه شديد الشبه بجلالته، نفس الهيئة والملامح، ولون العينين والشعر على عكس قوته ومتانة بنيانه، وخطر على ذهنه قول أمه عنه: «ولكنه رجل يا فريزن، رجل!» حقا إن تصاريف القدر غالبا ما يعجز عن فهم كنهها الإنسان.
وعاد الكونت فريزن إلى فلا إليزابث في المساء، ولم تكن قد وصلت أي برقية، بل كان الوقت متأخرا عن أن ينتظر وصولها ، فقال فريزن محاولا أن يظهر تفاؤله: ربما تعطلت في الطريق، وعلى كل حال فسأبكر غدا في الصباح إلى مكتب البريد لأسأل عنها.
وبكر فريزن إلى مكتب البريد في الصباح وسأل عن رسائل أو عن برقيات، وانتظر ساعة عسى أن تفد البرقية المرتقبة، ولكن لم يصل شيء.
وقابلته السيدة بقولها: يجب أن نفعل شيئا يا فريزن، وإلا فإني سأفقد عقلي!
فأجاب السياسي برزانة: سوف نفعل، بل ويجب أن نفعل، إنني قبل ذهابي إلى مكتب البرق كنت قد عزمت على أنه إن لم تصل منه برقية فإني أسافر إلى سيتجاند، فسيقوم بعد ظهر اليوم قطار إلى ستراسبورج في الساعة الثالثة، ومن هناك أستأجر عربة إلى سيتجاند، ثم أبحث عن مسكنها وأحضر جلالته معي ثانية إلى بادن بادن.
فقالت السيدة وكأنما أنقذت: أتريد أن تعمل هذا حقا يا فريزن؟
فأجاب وعلى شفتيه ابتسامة مشفقة: طبعا، إذ يجب أن يكون جلالته هنا قبل يوم السبت المقبل وإلا ...
فقاطعته في لهفة وأمل وقد عاد لون خديها شيئا ما: نعم، نعم، الحق معك. إنني ما كنت أظن أنك تفعل هذا من أجلنا يا عزيزي فريزن، أوه! لست أدري كيف أشكرك.
وسكتت لحظة ثم تكلمت وكان صوتها يهتز من أثر عاطفتها: لقد فكرت أنا نفسي في أن أذهب إليه، ولكني خشيت أن تسخر مني تلك الفتاة وأنا أقوم بدور الأم التي تريد أن تسترجع وليدها.
فأردف في ابتسامة: إنني لا أخشى هذا. - إنها سوف تقاومك بكل ما لديها من أسلحة. - إنني لن أتأثر بشيء منها. - وستعيد إلي لويس ثانية؟ - أعدك أنني سأفعل.
وبعد ربع ساعة كان الكونت قد ودع السيدة وانصرف وهي أهدأ بالا وأشد قوة وأملا، وقد تمنت له من صميم قلبها نجاح مهمته.
الفصل السابع
وصل الكونت فريزن عند ظهر اليوم التالي إلى «بواجولي»، وهو اسم المنزل الصغير الذي تسكنه الآنسة سان أماند، وكان يقع على نفس الطريق الذي يوصل إلى سيتجاند، ولم يجد أي صعوبة في العثور عليه؛ فلقد كان الجميع يعرفونه حتى سائق العربة.
ولما نزل سأله مستفهما: هل هذا منزل الآنسة سان أماند؟ - أجل يا سيدي، فإن الآنسة قضت طول حياتها هنا، وقد توفي والداها فيه، وورثته هي عنهما، وهي دائما تنزل هنا في الوقت الذي لا تغني فيه، آه يا سيدي! يجب أن تسمعها إنها بلبل حقا.
وأمر فريزن الرجل أن يعطي خيله العلف وينتظر لأنه سوف يعود معه ثانية في المساء إلى ستراسبورج. ودخل فريزن حديقة المنزل وهو يحس بأنه مقدم على حرب كلامية ليجتذب لويس إلى جانبه، ودق جرس الباب ففتحته امرأة مليئة متوسطة في العمر، وقالت وهي تبتسم لدى رؤيتها ذلك السيد الحسن البزة قبل أن ينطق هو بحرف: أرجو المعذرة يا سيدي! ماذا يطلب سيدي؟
فأجاب فريزن بابتسامة خفيفة: فقط أريد أن أدخل، وأن تخبري الآنسة سان أماند أن الكونت فريزن يطلب التشرف بمقابلتها. - سوف أفعل يا سيدي في الحال، إن الآنسة هنا، هل يسمح سيدي بالدخول؟
وتركته في الصالة ثم جرت إلى الداخل، فوضع الكونت قبعته فوق المنضدة وخلع معطفه، ووقف ينتظر، وبعد لحظات عادت المرأة وقد علا وجهها اضطراب وخوف كأنما قد أنبتها سيدتها، ثم قالت بصوت خشن تلك الجملة التقليدية: تفضل يا سيدي.
وفتحت أحد الأبواب فدخل الكونت حجرة استقبال أنيقة، ولم يطل انتظاره حتى دخلت الآنسة سان أماند وقد ظهر عليها أنها تملك نفسها تماما، وقد ارتدت كعادتها أجمل وأحسن الأزياء، ولاحظ فريزن أن في ترحيبها به والابتسامة على وجهها كأنما كان هو الشخص الوحيد في العالم الذي ترغب في رؤيته، وأخيرا أتمت في خفة: هل لك أن تجلس؟ أرجو أن يكون لديك من أخبار بادن بادن الشيء الكثير، ولكن قبل كل شيء خبرني ماذا تحب، لا بد أنك متعب وجوعان، إن لدي بعض أطباق من «التوكاي» اللذيذ.
وجلس فريزن تبعا لدعوتها، ثم قال وهو يشير بيده: لا شيء يا سيدتي العزيزة، أشكرك، إن زيارتي يجب ألا تطول، إذ لا بد أن أعود إلى ستراسبورج هذا المساء، ولكن قبل كل شيء أرجو أن تخبريني كيف حال جلالته؟
فانتفضت وقد ظهر عليها الاضطراب والدهشة كأنما قد سئلت سؤالا غريبا، وقالت مستنكرة: جلالته؟
وفي اللحظة التالية تغيرت حالتها تماما فأطبقت يديها معا، وسألت في نغمة شديدة الحزن: آه، إنك لم تعلم إذن؟! - أعلم ماذا؟ - ليس جلالته هنا، لقد كان آتيا ليقضي بضعة أيام معي هنا؛ فقد كان متعبا جدا وفي حاجة إلى الراحة، ولكن أوه! لست أستطيع أن أخبرك!
قالت هذا وقد طفرت من عينيها الدموع، فأتمت بصوت تحطمه العبرة: إنه فظيع! فظيع جدا! - يا إلهي! ماذا حدث؟!
واستجمعت الآنسة قواها، ومسحت عينيها بمنديل مطرز لطيف، وتقدمت في جلستها إلى الأمام، وضمت يديها معا كأنما تحاول أن تضبط عواطفها وقالت: لقد اختطف جواسيس نابليون جلالته ونحن في الطريق. - اختطفوه؟!
وكان فريزن يحملق في الوجه اللطيف المحمر أمامه، وكان من الصعب أن يعرف تماما إذا كان قد اضطرب ودهش، أم أنه يشك في صدق قولها، وذكرت الآنسة له ما جرى لهما في الطريق بكلمات متقطعة، وما انتهت من حديثها حتى غطت وجهها بيديها وانخرطت في بكاء عنيف.
وعلى كل فقد كان الكونت فريزن يحس بشعور خفي أنها كانت كاذبة، ولكنه لم يقل شيئا في ذلك الوقت، وانتظر قليلا حتى إذا لاح له أن ألين قد هدأت نوعا ما سألها بهدوء: وأين جلالته الآن؟
وقامت بمحاولة لكي تبتلع شهقاتها وتكفكف دموعها، ثم أجابت بصوت مرتعش: لست أعلم! لست أعلم! وإن هذا هو الذي يحزنني ويحطم فؤادي، لقد كان متعبا، مريضا، محتاجا للراحة والعناية، لو كنت أعلم أن هؤلاء القساة يعاملونه بشفقة. - هؤلاء القساة! أي قساة؟! - كيف؟! البوليس! - من أين لك أن تعلمي أنهم كانوا من رجال البوليس؟!
وجاء جوابها سريعا: إن بيتر سائق عربتي عرف بعضهم. - كيف؟! في الظلام؟! - لم يكن الظلام حالكا، وأنا أذكر أنني قلت لك إننا كنا عند الغسق. - وأين اتجهت العربة التي أقلت جلالته؟ - لقد سارت العربة بسرعة عظيمة متجهة نحو ستراسبورج.
كان فريزن مقتنعا بكذبها، ولكنه لم يعرف تماما إذا كانت قد فعلت هذا لحساب آخرين ثم أنقدت عليه، أم أنها تعمل هذا لمصلحتها هي، ورأى كلا الاحتمالين معقولا. وفكر فريزن في الطريقة التي يمكنه بها أن يستخلص منها الحقيقة، ولم يكن قد بدا عليه شيء مما يدور بنفسه، ولكنه أراد أن يكسب الوقت ليقيس بذهنه كل شيء قبل أن يقدم عليه، فأخرج من جيبه صندوق سجائره وأخذ واحدة وهو يقول: هل تسمحين؟ - أوه! طبعا.
ثم قامت لتحضر علبة الثقاب من آخر الغرفة، وتأملها السياسي وهي تروح وتجيء، وأوقدت له عودا، ثم رجعت إلى كرسي كبير فغاصت فيه. وأخذ الكونت فريزن نفسين أو ثلاثة من سيجارته قبل أن يعود إلى الكلام، ثم استأنف سائلا: ألا تستطيعين يا آنسة أن تكوني فكرة عن المكان الذي أخذوا جلالته إليه؟
فردت بجهالة: لا، أبدا، مطلقا، وهل تظن أني أبقى هنا ساكتة لو كنت أستطيع أن أعرف أين هو؟
فقال في هدوء: هذا حق.
وسكت لحظة أو اثنتين يدرس وجهها محاولا أن يتعرف ما تخفيه وراء هذا الأسف المصطنع، ثم قال بصوت هادئ بطيء: إن بعض ذوي المراكز العالية سوف يقدرون تعبك، هل لي أن أقول إذا كشفت عن الموضوع؟
فجلست معتدلة كأنما ديست كرامتها وقالت في تساؤل: ما الذي تظنه في يا سيدي المحترم؟ - سيدة صغيرة عظيمة المهارة.
وحدجته بنظرة حادة قابلها بمثلها وعلى فمه ابتسامة ساخرة، ثم قامت واقفة في مكانها بحركة واضحة تشعره بأن يفعل مثلها هو أيضا، ولكنه تجاهل هذه الحركة، فقالت وهي تنظر إليه بأسف: لا يصح أن نتشاجر يا سيدي المحترم، لقد كنا أصدقاء في بادن بادن، فهل نصبح في عداء بالنسبة لهذا الموضوع الدقيق الذي يهتم به كلانا؟
ومدت إليه يدها، فلم يكن هناك بد من أن يقوم فيقبل أطرافها؛ فقد كان أكثر تهذيبا وسياسة من أن يجهل أنه خسر الموقعة.
ودقت ألين سان أماند الجرس، فجاء خادم وفتح الباب على مصراعيه فخرج فريزن إلى الصالة، وساعده الخادم في لبس معطفه وأعطاه قبعته وعصاه، ثم تقدم ليفتح له الباب الخارجي.
وفي نفس اللحظة صدرت صيحة مثيرة من نفس المنزل وكانت من المرأة المليئة وقد ظهرت في الصالة وهي تعلن في لهفة وانفعال: سيدتي الآنسة، سيدتي الآنسة، لقد وصل ساعي البريد الآن وافدا من قلعة دايك.
وعند باب حجرة الاستقبال رأت الآنسة سان أماند وقد بهت وجهها واضطربت عيناها وهي تلهبها بنظرة جاحظة، فاختطفت الخطاب من يد المرأة التي وقفت مبهوتة حائرة، ونظر فريزن نحو ألين فتلاقت أعينهما في لمحة خاطفة كانت كافية لأن يفهم كل شيء، وفي ابتسامة هادئة انحنى لها وهو يهم بالخروج وقد امتزج بنفسه شعور بالنصر.
وعاد الكونت فريزن في نفس المساء إلى ستراسبورج وأخذ القطار السريع في الليل إلى باريس، ولقد كانت الرحلة طويلة ومتعبة، ولكن فريزن كانت لديه أشياء كثيرة يفكر فيها فقد تعقد الموقف بشكل محير حتى لقد قضى طول الليل ساهرا، لقد أدرك أن قصة الآنسة ألين فيها شيء من الصحة، وأن لويس قد اختطف فعلا - الشيء الذي لم يصدقه في أول الأمر - وأنه محجوز في قلعة دايك.
وكتب خطابا إلى السيدة البرنسيس يقول فيه:
إنني كبير الأمل في النجاح فلا تيئسي، إن جلالته في أمان وصحة جيدة، ومن المؤكد أن أتصل به في اليومين أو الثلاثة المقبلة، ولا زال لدينا أسبوع نستطيع أن ننتهي فيه من هذه المهمة بخير. لقد سافرت الليلة إلى باريس لمقابلة البرنس مترنيخ، فإن له ذهنا عجيبا في تصريف مثل هذه الأمور. إذا كنت تريدين الاتصال بي، فإن سكرتيري وهو لا يزال في فندق ستيفاني تحت أمرك، وسيرسل إلي خطابك مع الساعي الخاص الذي يحمل حقيبة بريد السفارة.
وتفضلوا بقبول عميق احترام.
خادمك المطيع
هيجو فريزن
الفصل الثامن
وفي اليوم التالي، وقف فريزن على رصيف محطة الشمال في باريس منتظرا القطار السريع الذي يصل من بادن بادن، ونزل ساعي السفارة من عربة الدرجة الأولى، فسأله فريزن عن خطابات له فوجد واحدا، فأخذه وعاد بالعربة إلى الفندق الذي نزل فيه، وجلس في قاعة الاستقبال ليقرأ خطاب السيدة، وكان في الظرف خطابان كتبت أحدهما السيدة بخط تتضح فيه شدة اضطرابها، والآخر موقع بإمضاء ألبرت كريستوف، وكان خطاب السيدة قصيرا، وقد جاء فيه:
صديقي العزيز
لقد أمدني خطابك بالقوة والأمل، ولو أنني ما زلت في حيرة وأسى، يمكنك أن تدركهما من قراءة الخطاب المرفق بهذا، والذي تسلمته هذا الصباح. إن غايتي أن يحضر لويس وننقذه من تأثير هذه المرأة عليه، إذ إننا كلما أسرعنا في توقيع عقد القران، كان في هذا الخير لنا جميعا.
وإني لك الصديقة الشاكرة.
انيزدي بوربون
أما خطاب البارون كريستوف فقد كان طويلا، ومعنونا من فينا، وكان يظهر فيه قلقه من التأخير، وجاء فيه: ... ولما كانت وجهة نظرك في هذا الموضوع تتفق مع وجهة نظري، وآمالك تتمشى مع آمالي، فإني الآن أنتقل إلى بيان الموضوع من ناحية ابنتي، فإننا كلما أسرعنا في إعلان خطبتها إلى جلالته، كان في هذا الخير لنا جميعا، إذ إن جريان الأمور على هذا الحال يجعلنا نخشى منه على فيرونيك لئلا يتغير رأيها، فهي صغيرة السن، ومن السهل أن تتأثر عواطفها، وقد يلاقيها في أي يوم الرجل الذي يثير إعجابها ويوجه عواطفها نحوه، حتى ليصبح مشروعنا فجأة صعب التحقيق، ولهذا فإنني يا سيدتي واثق من أنك ستوافقين على ما فعلته؛ فلقد قررت أن تكون أول مقابلة بين جلالته وابنتي في فلتك في يوم 23 الجاري، وعليه فقد جهزت - بصفتي والد العروس - جميع الترتيبات الخاصة بعقد القران، لكي يوقع في نفس الليلة التي تقع فيها مقابلتهما، حتى إذا ما انتهت إجراءاته تشرفت بتسليم جلالته مبلغ 500 مليون فرنك.
ولمناسبة هذا المساء السعيد، فإني قد عملت ما يلزم لإعلان الخطبة رسميا، وفعلا تم ذلك في فينا وباريس وروما وبرلين، ولي الشرف أن أخبرك بأن جلالة إمبراطور أوستوريا وقداسة البابا وجلالة ملك بروسيا سوف يبعث كل منهم رسولا خاصا ليمثله في ذلك الحفل العظيم.
ولست في حاجة لأن أقول إن اليوم الثالث والعشرين من سبتمبر سنة 1860 سوف يكون أسعد يوم في حياتي، كما أؤمل أن يكون - وأعتقد أنه كذلك - أسعد يوم لك أنت أيضا.
وإني لك يا سيدتي البرنسيس.
الخادم المخلص
ألبرت كريستوف
ولما أتم الكونت فريزن قراءة هذين الخطابين، جلس يفكر فيما جاء فيهما، وقد رأى أن كريستوف المسن لا بد أن يكون قد رتب هذا الموضوع ودبره من زمن بعيد، فإنه لا يمكن أن يكون قد جهز هذه الترتيبات المعقدة في وقت قصير، ولكن ماذا يجب عليه عمله إزاء هذا الموقف المربك الذي عقده كريستوف بتعيينه يوم توقيع عقد القران؟ لم يبق أمام فريزن غير ستة أيام فقط يجب أن يكون قد أتم فيها كل شيء. وعلى كل فسيعرض الأمر على رئيسه البرنس مترنيخ.
ولكن ما عتم فريزن أن عرف لدى زيارته لدار السفارة الأوستورية في باريس أن البرنس مترنيخ أعظم سياسيي عصره في إجازة تستغرق ثلاثة أسابيع.
وتمتم فريزن لنفسه: «معنى ذلك أنني أعود رأسا إلى ستراسبورج، ثم أستمر وحدي في القيام بهذه المهمة وإتمامها في مدى ستة أيام.» ستة أيام لكي يخرج مسجونا سياسيا من قلعة فرنسية، ويأخذه معه راضيا قانعا إلى الحدود! لقد استطاع أن يحل معضلات سياسية أكثر صعوبة من هذه، ولكنها لم تكن في مواجهة امرأة تريد أن تتخذ لنفسها طريقا خاصا، وليست وحدها في الموضوع.
وقام عن كرسيه المريح ثم قال لنفسه: «حسنا! فما دامت الأقدار قد أرادت هذا، فهيا لنرى ما سوف يقوله الرجل الآخر.» •••
كان هذا اليوم هو يوم «الكاسوليت» في مطعم الملوك الثلاثة، فكان المطعم مزدحما كعادته في مساء ذلك اليوم من أيام الأسبوع؛ بالشعراء والأدباء والفنانين، وكانوا بعد العشاء قد انصرفوا واحدا فواحدا حيث يتمون سهراتهم في ملاهي باريس الكثيرة.
وكان سيرل برتراند يفكر هو الآخر في الخروج، ولكن ليذهب إلى الاستديو، حيث كان يرغب في أن يجلس أمام المدفأة ويتم قراءة أحدث ما أخرجه قلم ديماس الصغير، وكانت الساعة التاسعة وقتذاك، فما كاد سيرل يقوم عن منضدته ويأخذ قبعته حتى دخل رجل من باب المطعم وقد اتجه إليه مادا يده لمصافحته، ولم يلاحظه سيرل في البدء إلا عندما سمع صوتا يقول له في لطف: لقد أخبروني بأني لا بد أن أجدك هنا، وإني لسعيد بلقائي بك.
وكان هذا الكونت فريزن، فقال سيرل وهو يصافحه في حرارة وقد سره أن يراه: وإني سعيد أيضا، هل لك في العشاء؟ - أشكرك، لا أريد أكثر من أن أتحدث معك.
ونظر سيرل حوله بأسف فقد رأى أن معظم الزبائن قد ذهبوا.
وكان الخادم ينظر إليه كأنما ينتظر ذهابه لينظف المنضدة مما تبقى عليها، وكانت الأنوار قد أطفئت، فقال لصديقه: إذا كان لا يضايقك الاستديو العتيق، العديم البهجة. - يضايقني؟ إنني أحب هذا، دعنا نذهب إليه.
وسار الرجلان معا فعبرا الساحة، وفتحت لهما الخادم باب الاستديو، وأحضرت إلى الغرفة مصباحا موقدا، وهبت نسمة دافئة لطيفة من الموقد الحديدي الصغير، فسحب سيرل كرسيين ودعا صاحبه للجلوس والتدخين، فاعتذر عنه فريزن في ذلك الوقت، فقال سيرل: أيضايقك أن أدخن غليوني؟ - بل أحب أن تفعل، فهو يجعلك أكثر شبها بالإنجليز.
وابتسم سيرل لهذه الملاحظة ثم قال: أؤمل ألا يكون في هذا خسران لي. - غالبا لا، إذ في الواقع أن هذا الجانب الإنجليزي فيك هو ما سوف أستعين به هذه الليلة. - تستعين به؟! - نعم؛ فقد أتيت لأراك هذا المساء، ولكي أطلب مساعدتك في موضوع دقيق للغاية. - إنني سعيد بهذه الفرصة.
وكان فريزن في ذلك الوقت يلاحظه بإمعان، ويدرس وجهه محاولا أن يتعرف منه نفسيته، فلاح له من ملامح وجهه القوية أنه رجل يحب أو يكره بشدة. وكان فريزن قد فكر واستعد تماما لما سيقوله الليلة، وعلى هذا فقد بدأ فريزن بهدوء: إن الأمر يتعلق بأخيك غير الشقيق، جلالة ملك فرنسا. - أوه!
ثم نفخ سيرل دخان غليونه وسكت منتظرا أن يتم صديقه دون أن يبدو على وجهه أي تأثير: إن أخاك يا عزيزي برتراند في هذه اللحظة في موقف خطر للغاية، وليست حياته وحدها مهددة بالخطر، بل كذلك مستقبله أيضا ومستقبل أسرته، حتى ليخشى من وجوده في السجن على تحطيم كل أمل في استعادته ملكه، هل فهمتني؟ - لست أفهم تماما، ولكن كيف تنتظر أن يهمني مستقبل أسرة البوربون؟
فأسرع فريزن محتجا: لا تسئ فهم ما أقول يا صديقي، فإني لست أناديك على أساس الأسرة أو الملكية كما تقول فإني أعلم أنك لا تهتم بهما، ولكني أطلب مساعدتك على أساس أنك تقوم بعمل إنساني.
فقال سيرل بجفاف: إن لهذا وقعا بديعا في الأذن. - دعني أذكر لك ما حدث.
وقص فريزن باختصار وقائع اختطاف جلالته، وذكر له أنه قد أخذ إلى حصن دايك حيث لا يزال مسجونا حتى الآن. وكان سيرل يستمع إليه وهو صامت طول الوقت يسحب أنفاسا من غليونه، وينظر في تفكير نحو نار الموقد.
ولم يفت على فريزن ملاحظته بدقة وهو يخبره بما حدث، وسكت قليلا بعد أن أتم قصته، وظل سيرل صامتا هو الآخر، فاستأنف فريزن قائلا: إن صحة أخيك ضعيفة كما تعلم، وإن بقاءه في ذلك السجن يعني موته المؤكد، وإلى جانب هذا فإن وجوده هناك يعطل أحداثا سياسية عظيمة تسعى إليها أسرته، ويسعى إليها أيضا إمبراطوري، ولقد أتيت هنا لأستعين بالبرنس مترنيخ في حل هذا المشكل ولكني علمت أنه سافر في إجازة طويلة.
وسكت فريزن ثانية؛ فقد كان يعلم أن كلماته التالية ستكون نقطة الفصل في الموضوع؛ فقد كان كل شيء يتوقف على الكيفية التي يلاقيها بها سيرل، وعلى هذا فقد أتم بعد لحظة بصوت هادئ: ولذلك فقد أتيت إليك.
وعند هذا انفجر سيرل في ضحكة عالية، وقال في تعجب: إلي؟! إن هذه أبدع نكتة قد سمعتها من زمن طويل!
وأتم بشيء من الجد: ولنفرض أنني كنت أهتم بما جرى لأخي غير الشقيق، أو بما يقع على أسرة البوربون نتيجة لما حدث، فما الذي أستطيع أنا أن أفعله؟
ونظر إليه فريزن بإمعان، إذ سرعان ما تحول انفجاره بالطرب إلى مرارة قاسية، وعلى كل فإن المرارة خير من أن يكون غير مهتم بالموضوع بتاتا.
ولم يكن في كل هذا ما يشجع فريزن، ورغم ذلك فقد قال: إنك إنجليزي أكثر منك فرنسيا يا عزيزي برتراند، وأنا واثق من أنك تميل كثيرا إلى الأدب الإنجليزي أدب بلاد أبيك، خبرني ألم تقرأ كتابا ألفه أشهر كتاب العصر شارلس ديكنز، كتابا نشره في العام الماضي واسمه «قصة المدينتين»؟
فقال سيرل وقد بدا عليه شيء من الدهشة: فعلا، لقد قرأته!
فقال سيرل في بطء: إنه كتاب عجيب، وفيه حوادث مثيرة فعلا، ألا تعرف لم سألتك هذا السؤال؟
وبدا على سيرل في البدء أنه لم يفهم قصده، ولكن الفكرة خامرت ذهنه واتضحت فيه شيئا فشيئا، فنظر إلى صديقه نظرة مشدوهة متسائلة كأنما يقول فيها: «هل أنا المجنون أم أنت؟!»
وأسرع فريزن فقال في هدوء: أرجوك ألا تظن - ولو إلى لحظة قصيرة - أنني أطلب منك أن تضحي بحياتك من أجل شخص أو موضوع لا يهمك، وكل ما فعلته هو أنني اقترحت عليك ما أسميه مخاطرة من الدرجة الأولى، وأنا واثق من أنها ستثير اهتمامك وتجتذبك إليها، وهذا لأنك أولا ستكون سببا في إنقاذ شخص تعتبر حياته ثمينة في نظر كثيرين، ثم لأنك - كما قلت لك - إنجليزي أكثر منك فرنسيا، وإن المخاطرات من الدرجة الأولى لها تأثير كبير في اجتذاب أبناء جلدتك إليها.
وسكت فريزن لحظة، ثم أتم في هدوء أيضا: في المرة الأولى التي رأيتك فيها استلفت نظري مشابهتك العجيبة لجلالة ملك فرنسا، وكل ما عليك أن تفعله هو أن تحلق لحيتك وتقص شعرك، وهذا يكفي تماما لخداع حاكم وحراس حصن دايك، وسوف آخذ إذنا - بما لي من مركز سياسي - بزيارة السجين، وسأصحبك معي، وإذا لزم الأمر فإنك تتبادل الملابس مع جلالته، حتى يمكنه أن يخرج معي دون أن يشعر أحد، وتبقى أنت مكانه. غير أن بقاءك هناك لن يزيد عن يوم أو اثنين، بل ربما بضع ساعات، فحالما يكتشف أولو الأمر في السجن هذا الاستبدال فسوف يطلق سراحك طبعا، وستهتم حكومتي حتما بهذا. وعلى كل فأنا لا أعتقد أن هذا الخطر الضئيل قد يعوقك، وإني أقسم لك بشرف بلادي أن حياتك ستسلم من كل خطر. والآن، هل فهمت؟ - لقد فهمت، ولكن! - ماذا؟ - اعف عني إذا قلت إنني لم أفهم حتى الآن الغرض من هذه اللعبة، فإذا كنت ترى - كما قلت لي - أن حكومتك تستطيع أن تسير الموضوع فلم إذن تقوم بهذه «المكيدة العجيبة»؟! - لأن الوقت ضيق أمامي بكل أسف. - ماذا تعني بالوقت؟ - يجب أن يعود جلالته إلى بادن بادن قبل يوم السبت المقبل وإلا فقد عرشه.
فهز سيرل كتفيه كأنما يردد ما قاله من قبل، ويعني أنه لا يهتم بهذا مطلقا، فأردف فريزن بتنهدة قصيرة وقد نفد صبره: إنني أعلم، أعلم أنك لا تهتم بذلك، هذا مفهوم، ليس جلالته عندك أكثر من أخيك غير الشقيق، هذا حسن، ولكن ماذا ترى في الفتاة؟
وقفز سيرل دون وعي وقال في تعجب وقد تجهم وجهه: الفتاة؟! - نعم، فيرونيك كريستوف، تصور كم يكون موقف هذه الفتاة التعسة مروعا! - يا للشيطان! ماذا تعني؟! - أعني أن الآنسة كريستوف قد تمت خطبتها رسميا لجلالته، وقد بلغت بذلك جميع الهيئات الرئيسية في أوروبا، وسوف يرسل إمبراطور أوستوريا وملك بروسيا وقداسة البابا وغير هؤلاء من يمثلونهم في الاحتفال بعقد القران؛ فتصور أنت عدم ظهور جلالته في هذا الحفل، وتخيل الشائعات والأقاويل والفضائح التي ستذاع حول الفتاة المسكينة، ولست أذكر لك مشاعرها وحبها لخطيبها ولو أنها لم تره من قبل، طمعها في أن تكون ملكة، كل هذه الأماني سوف تتحطم، تأمل ماذا يكون حالها بعد هذه الصدمة المروعة.
وكان سيرل لا يزال صامتا ينظر إلى ضوء المصباح وهو يفكر بعمق.
فاستأنف فريزن بحماس شديد: فلتقدم إلي يد المساعدة يا عزيزي برتراند، ولو من أجل الفتاة المسكينة، تصور موقفها أمام العالم في هذا المركز المهين المخجل كامرأة مخدوعة في حبها، لقد تحدث الناس كثيرا عن علاقة جلالته بالآنسة سان أماند، فإذا لم يتم هذا الزواج فتصور ماذا يقوله الناس عنها وقد تفوقت عليها ممثلة! تصور تأثير ذلك على نفسيتها وعلى سمعتها، لسوف يسلقها الحساد بألسنة حداد ساخرين منها هازئين بها، وإن فيرونيك لفتاة رقيقة الحس، أخشى أن تقتلها هذه السخرية وتلك المهانة.
وجاء دور فريزن في الانتظار والمراقبة؛ فلقد نمت هاتان العينان المتحمستان عن ذلك السر الذي كان يظن سيرل أنه قد دفنه في قلبه، وما كان فريزن ذلك السياسي البارع والرجل المجرب يتوهم ذلك السر، فما دار بخلده من قبل أن سيرل برتراند قد وقع في حب فيرونيك الفتاة التي كان يرسم صورتها، ولكن تلك اللمحة التي انبعثت من عينيه عندما ذكر اسم الفتاة أمامه، وهذا المعنى العجيب الذي يطل منهما الآن؛ قد جعلاه بعد ذلك لا يخطئ في فهم حقيقة مشاعر سيرل نحو الفتاة.
وأخذ فريزن صندوق سجائره وأشعل واحدة وألقى بالثقاب فوق المنضدة، ولكن سيرل لم يتحرك بل ظل ساكنا ينظر في تفكير نحو ضوء المصباح. وحدث فريزن نفسه وقد أحس بشيء من الاطمئنان لما أدركه أخيرا من مشاعر سيرل نحو فيرونيك؛ إن حبه لها سوف يمهد سبيل النجاح لخطته، ويدفع سيرل حتما إلى الاشتراك معه في الموضوع. وأخيرا سأله فريزن: حسنا! ماذا تقول؟
ولكن سيرل لم يتحرك، وكرر فريزن سؤاله مرتين أو أكثر قبل أن يتنبه سيرل إليه، وأخيرا صاح كمن استيقظ من النوم: آه! ماذا؟ - والآن ماذا ترى في «مكيدتي العجيبة» وقد عرفت جميع ظروفها؟
فرد سيرل في بطء: إنني لا أزال أراها عجيبة، ولكن ... - ولكن ماذا؟ - سوف أذهب إلى حصن دايك معك غدا.
فأردف فريزن ببساطة ورزانة: إنني كنت واثقا من ذلك، كلمتك نهائية؟ - كلمتي كلمة شرف.
فقام فريزن وتبعه سيرل، ومد الأول يده فوضعها سيرل في يده، ونظر إليه الأوستوري نظرة مليئة بالمعاني وهو يتأمل قامته الممدودة وجسمه المتين، وقال في نفسه: كم يكون ملكا عظيما لو كان هو الولد الشرعي للملك المرحوم! ثم قال في صوت مسموع: أظن أنه يجب أن أذهب الآن، ولكني سوف أعود غدا في التاسعة صباحا، وللأسف فنحن لا يمكننا أن نسافر بقطار الصباح، إذ علي أن أستحضر الإذن لزيارة السجين، كما أنني أرى أنه من المستحسن أن تكون زيارتنا له في المساء.
وصافح سيرل بحرارة مرة أخرى ثم قال بحماس: إنني أخرج الآن أكثر سعادة مما دخلت، ولكنى لم أخبرك عما قد يلاقينا من مخاطر في هذا العمل.
فقاطعه سيرل في ابتسامة: لا حاجة لك بهذا. - إنني كنت أقصد بهذا أن أؤكد لك أن حكومتي لا بد ستعمل جهدها لكي لا تتركك تقاسي متاعب السجن طويلا.
فقاطعه سيرل مرة أخرى: سوف أجد حانوت الحلاق مغلقا إن لم أسرع بالذهاب إليه. - حسنا، حسنا! سوف لا أقول شيئا بعد هذا.
وضحك فريزن وهو يقول ذلك ثم اتجه إلى الباب وأردف بلطف وهو يشير بإصبعه: حذار أن تنسى حلاقة لحيتك وقص شعرك جيدا.
الفصل التاسع
غير أن سيرل لم يخرج ثانية في ذلك المساء؛ فقد قضى وقتا طويلا جدا ينظر إلى لا شيء وذهنه يحترق من الفكر، لقد كان يفكر في فيرونيك وهي تندب ضياع أحلامها، فيرونيك وهي تبكي بحسرة وخجل ... وكان تفكيره في أنه يستطيع أن ينقذها من الأسى والعار عزبا، لأنه كان سيفقدها على كل حال، لقد أعطى كلمته لصديقه وهو لا يأسف لهذا، فهي ستكون سعيدة، وربما تصبح يوما ما ملكة على فرنسا الملكة فيرونيك، زوجة لتعس خائر لا يقدر حتى جمالها ولم يدفعه إلى الزواج بها غير مال أبيها، ثم قال لنفسه: «لئن كان العرش لي، فإني أرضى بحبها بدلا عنه!»
وذهب إلى فراشه في وقت متأخر من الليل، ولم يدر ما إذا كان قد نام أم لا فقد أقضت نومه أحلام مزعجة سخيفة، وعلى هذا فقد استيقظ مبكرا في الصباح، وذهب في الساعة الثامنة إلى الحلاق، ولما نظر إلى المرآة بعد نصف ساعة، وجد أنه قد تغير بشكل عجيب، ثم قال لنفسه وهو يتأمل وجهه: «إنني قد أصبحت فعلا قريب الشبه جدا لأخي المخنث!»
وقال له الحلاق الذي أزال لحيته عابثا: إذا كان السيد قد ارتكب جريمة، فإن من السهل عليه بعد الآن أن يتحاشى البوليس، فلن يعرفه أحد الآن، أما أنا فسوف لا أقول شيئا.
ولما عاد سيرل إلى الاستديو، وجد برقية فوق المنضدة وضعتها الخادم إلى جانب صينية الإفطار، وأدهشه ورود برقية له، وإنه ليذكر أنه لم يتسلم طول حياته برقية من قبل، ولقد أمسك بها في يده يقلبها بين أصابعه وهو يحس بشيء من الخوف يمنعه عن فتحها، وفي ذلك الوقت دخلت الخادم وبيدها سلة مليئة بالخشب لتوقد النار، وإذا ما رأت سيرل أصدرت صيحة دهشة عالية وسقطت منها السلة، فأحدث الخشب صوتا مزعجا عند وقوعه على أرض الغرفة، ولم يدر سيرل في البدء سبب تأملها فيه هكذا بعينين جاحظتين مضطربتين، وأخيرا تذكر فضحك ضحكته المرحة التي لم تسمعها المرأة العجوز من زمن بعيد، فسألها: إنك لم تعرفيني يا أنجيل، أليس كذلك؟ - ل... ل... لا ... يا سيدي. - إنه أنا ... المسيو برتراند كما تعلمين يا أنجيل، الذي رسم الصور ثم بهرج في الاستديو.
وتذكر البرقية فجأة فقال: خذي الخشب أيتها المرأة الطيبة، وأخبريني من أحضر هذه البرقية؟
وذهبت أنجيل وهي لا تزال في شك من أمر سيدها لتجمع الخشب وتضع السلة في مكانها، ثم قالت: لقد أحضرها رجل البريد بعد خروج سيدي بخمس دقائق. - هل كان واثقا من أنها لي؟ - أجل يا سيدي، فإن اسمك عليها وعنوانك.
وكان هذا فعلا، فلم يشك سيرل في أنها له، فمزق غلافها، وكانت البرقية باللغة الإنجليزية، وقد جاء فيها:
أخبرك بموت اللورد لونجفيل المفاجئ على أثر حادث في الصيد، وأنت من يليه مباشرة من بين أفراد الأسرة. فالمرجو حضورك بأسرع ما يمكن. كاربن وهوستن وكلاء دعاوى فندق لينكولن فيلدز لندن.
وقرأ سيرل البرقية ثلاث مرات قبل أن يدرك مغزاها، ثم وضعها فوق المنضدة وبدأ يتناول فطوره وهو يقرؤها للمرة الرابعة، وقد ترك لأفكاره العنان منقبا وراء ما جاء فيها:
أولا:
عن الإمضاء «كاربن وهوستن وكلاء دعاوى»، وتذكر سيرل تلك السنين البعيدة أيام أن كان صبيا، وقد جاء إلى باريس ليجرب حظه في عالم الفن، لقد كانت تصل إليه بضع رسائل ممضاة باسم «كاربن وهوستن وكلاء دعاوى»، وعلى كل حال فإنه لا يتذكر ماذا كان في هذه الرسائل ، ولا السبب الذي دعا هؤلاء الوكلاء اللندنيين إلى تحمل مشقة البحث عن مسكنه، فربما حصلوا عليه من دفتر البوليس، وهذا كل ما هناك.
وثانيا:
ذلك الاسم لونجفيل، اللورد لونجفيل؛ فقد كان سيرل يعلم أن له ابن عم اسمه فرانسيس برتراند، أو اللورد لونجفيل، غير أنه لم يكن ليهتم بتتبع أخباره أو معرفة الجهة التي يقطن فيها، وقد اتضح له الآن أنه كان يقضي بعض الوقت في صيد أشياء، ويظهر أنه قد أصيب في حادثة فمات، ولكن ما علاقة موته به؟! وما الذي يدعو هؤلاء الوكلاء اللندنيين إلى تكليف أنفسهم مشقة إبلاغه هذا الخبر؟!
ولم تطرأ الفكرة على ذهن سيرل إلا بعد أن تناول قهوته، لقد جاء في البرقية: «وأنت من يليه مباشرة من بين أفراد الأسرة»، أتعني هذا أنه قد أصبح في لحظة رجلا ذا لقب ومال؟! وعلى كل حال فما الفائدة من كل هذا؟! لئن جاءته هذه الأشياء منذ بضعة شهور لاختلف الأمر الآن، ولما كانت فيرونيك قد عقدت خطبتها على أخيه غير الشقيق! ولكن ليس هناك فائدة من كل هذا. وأحس برغبة في أن يقذف بتلك البرقية في النار؛ «المرجو حضورك بأسرع ما يمكن!»، إنه لن يذهب بأسرع ما يمكن، بل ربما لا يذهب مطلقا، إلا إذا انتهى من موضوع حصن دايك كما وعد صديقه بذلك، وبحركة عنيفة أطبق بيده على الورقة، وبينما هو يهم بإلقائها في النار سمع وقع خطوات لينة فوق أرض الغرفة الحجرية، وكانت الساعة وقت ذاك تدق التاسعة، فدس سيرل ورقة البرقية في درج مكتبه، وصاح الكونت فريزن وهو يدخل الغرفة: ها أنا ذا.
ثم خلع قبعته وتقدم إلى سيرل وأعاد قوله «ها أنا ذا»، ولم يتم كلمته بل وقف فاغرا فاه وهو يحملق بعينين مشدوهتين، ثم انفجر في ضحكة عالية، فأمسك بكتفي سيرل وهو يقول: مدهش يا رفيقي العزيز! مدهش جدا! إن أمك نفسها لا يمكن أن تعرفك.
فرد سيرل وهو يمر على ذقنه بأطراف أصابعه: أوه! نعم، إن هذه اللحية الطيبة قد ذهبت. - حسنا، إنني ذاهب الآن إلى وزارة الداخلية لمقابلة الوزير فأنا أعرفه شخصيا، وهو الذي سيعطيني الإذن الذي أحتاج إليه، وسيقوم قطارنا في السادسة والربع من محطة الشرق، وسأحضر إليك هنا قبل السادسة بربع ساعة.
وفي السادسة والربع بعد الظهر سافر الاثنان، وفي صباح اليوم التالي نزلا من القطار المحلي إلى رصيف محطة ليسين، حيث يمكنهما من هناك أخذ العربة إلى حصن دايك، ولم يجدا سوى عربات قديمة غير مريحة، استقلا واحدة، سارت في طريق جميل تحفه مناظر الريف البهجة، لم تأخذ عينا سيرل من جمالها شيئا.
وأخيرا صعدت العربة فوق المنحدر الجبلي الذي يقع فوق الحصن، وما إن وصلا إليه حتى أمر فريزن السائق بالانتظار في مكان ملائم، ونزل هو وسيرل إلى باب الحصن، حيث وقف الديدبان فتقدما إليه، وأبرز فريزن الخطاب الرسمي الذي يحمل شارة وزارة الداخلية، وفيه الإذن له بدخول الحصن، فسمح لهما بالدخول، حيث قابلا ضابطا برتبة الملازم يلبس الثوب الرسمي، فأبرز له فريزن الخطاب، فتمتم هذا بكلمات غير مفهومة وتركهما، وغاب قليلا، ثم عاد ومعه لفتنانت صغير في ملابس رسمية، فلما قرأ الخطاب أدى تحية عسكرية وقال: سيدي الكونت فريزن؟ - ها أنا ذا، وهذا المسيو برتراند سكرتيري الخاص.
ثم أشار إلى الورقة في يد الضابط وتمتم فريزن: لقد أخذت هذا الأمر من جناب الوزير نفسه وأنا أعتقد أنه قانوني. - هو كذلك يا سيدي الكونت، ولكن يظهر أن جناب الوزير لم يكن قد وصل إلى علمه أن السجين المشار إليه ليس معنا.
فانتفض فريزن قائلا: ماذا تعني بقولك إنه ليس معكم؟ - إن السجين كان هنا منذ خمسة أيام فقط، وقد ورد للرئيس أمس أمر من مدير البوليس ليسلمه، وقد حضر ضابطان من ضباط البوليس السري بعربة وأخذا السجين وكان هذا بعد الظهر. - ولكن أين ذهبوا بصاحب ال... ان بال... سجين؟
فابتسم اللفتنانت وقال: إن لديهم أوامر سرية يا سيدي الكونت، وحتى لو كنت أعلم فإني لا أستطيع أن أقول شيئا. - هل أستطيع أن أرى الرئيس؟ - بالطبع يا سيدي الكونت.
وسار الضابط الصغير وخلفه الرجلان إلى حجرة الرئيس، وكان فريزن يحاول إخفاء اضطرابه وضيقه، وقد أحس سيرل من أجله بالأسف لإخفاقه في مكيدته.
وكان الرئيس رجلا كبير السن، عسكريا بمعنى الكلمة؛ فقد كان النظام العسكري لديه أقرب شيء إلى الدين، يخلص له ويقدسه، وقدم لزائريه كرسيين، ودخل الكونت في صلب الموضوع مباشرة، فقال له إن لديه أمرا من الوزير بزيارة السجين، فهل هو موجود بالسجن أم خرج منه فعلا؟
فرد الرئيس بجفاف: لقد خرج فعلا يا سيدي الكونت. - ربما تستطيع جنابك أن تخبرني أين يكون ... صا... ا... سجينكم الآن؟
فرد الرئيس بجفاف وحزم: إن الأوامر التي لدي من البوليس الخصوصي لصاحب الجلالة الإمبراطور سرية للغاية يا سيدي الكونت.
ولم يكن لفريزن بد من أن يتحقق تماما من أنه لا فائدة من الكلام مع ذلك العسكري العجوز، فبعد لحظة قصيرة قام مستأذنا في الخروج، فصحبه الرئيس إلى الباب يحييه ويودعه.
وعادت بهما العربة دون أن ينبس أحدهما ببنت شفة، وكان كل منهما يفكر؛ سيرل يأسف لفشل صاحبه، ولكن فريزن كان يفكر في شيء آخر، وأخيرا قال: إنني لا أهتم كثيرا لا بجلالته ولا بنفسي، بقدر ما أنا - بصراحة - متألم كل الألم لتلك الفتاة التعسة، إن الله وحده يعلم ماذا يفعل بها الإخفاق والفضيحة.
الفصل العاشر
كادت كلمات فريزن تطير بلب سيرل؛ «إن الله وحده يعلم ماذا يفعل بها الإخفاق والفضيحة»! وبحث الاثنان عن مأوى لهما في ليسن، إذ لم يكن هناك قطار معين يعود إلى ستراسبورج في تلك الليلة، ووجدا غرفتين بسيطتين نظيفتين في فندق صغير بجوار المحطة، وتناولا العشاء معا في غرفة خاصة، ولم يتكلم الاثنان كثيرا أثناء الطعام؛ فقد كان كل منهما غارقا في أفكاره؛ فريزن يفكر في مستقبله السياسي وسيرل يفكر في فيرونيك.
ودارت في ذهن فريزن أشياء كثيرة، وخطرت بباله فكرة جعل يقلبها في ذهنه، ويقيسها من كل ناحية، ونظر إلى سيرل بعينين فاحصتين مفكرتين، وهذا لاه عنه في أفكاره، وثبتت نظرته على وجهه ، وقد لاحت فيها ومضة العزم والتصميم، وقد تلاشى في الوقت نفسه ما كسا سحنته من وجوم وتجهم.
وكانا قد جلسا بعد الطعام أمام الموقد، وهما على هذا الحال من التفكير وشرود الذهن، ودقت الساعة عشر دقات، فقام سيرل وهو يهز كتفيه ثم قال: أرى أن أذهب إلى النوم الآن.
ولكن فريزن أمسكه من كم معطفه وجره، فجلس ثانية فوق كرسيه، ثم قال له فريزن في رزانه: لا، سوف لا تذهب قبل أن تصغي إلي.
فهز سيرل كتفيه وقال بجفاف: لست أرى شيئا يمكنك أن تقوله بعد ذلك! - أوه! بل لدي ما أقوله، فلا ينبغي أن يضر بنا هذا الغر العجوز بمثل هذه السهولة.
وسكت لحظة أو اثنتين ثم استأنف حديثه بحماس: ولن نسمح بتعريض حياة امرأة رقيقة الإحساس لأن تنهشها إلى الأبد ألسنة المسافرين. - باسم الله، أيها الرجل، لا تتحدث عن هذا وإلا فسأصبح مجنونا، أو أرتكب جريمة قتل، أو شيئا من هذا القبيل.
ورد الأوستوري بثبات: ولكني سوف أتكلم عنه، وأؤكد أنك بعد أن تستمع إلي فإنك لن تقتل أحدا، بل ولن تفكر في الانتحار. - لست أدري وايم الحق ماذا تريده الآن؟! - أريد أن أجد مخرجا من هذا المأزق، إذا أصغيت لصوت العقل وقدمت إلي مساعدتك. - خطة أخرى من خططك العجيبة؟!
فرد فريزن بدماثة طبع: تماما! اسخر كيفما شئت، فما دمت قد رضيت بأن تعيرني سمعك فليس يهمني شيء.
ولما لم يعلق سيرل على هذا بشيء؛ فقد قال فريزن بعد بضع لحظات بصوت هادئ ونبرات بطيئة مؤثرة: ليس لدي شك في أن قصة اختطاف وسجن جلالته كلها من تدبير ألين سان أماند، ويمكنني القول بأن نابليون الثالث يرغب كأي إنسان في أن يخلص من ذلك التهديد الدائم بازدياد ميل الشعب إلى أسرة البوربون، ولكنه في نفس الوقت لا يريد أن يقحم نفسه في عراك مع إمبراطوري، وهو يعلم حق العلم بأن أوستوريا لا يمكن أن تسمح بترك جلالة ملك فرنسا سجينا في مكان مثل قلعة دايك، وأن إمبراطوري لن يتوانى عن أن يقلب السماء والأرض ليخلص جلالته من ذلك السجن.
ومن الواضح أن الإمبراطور نابليون لم يقصد أن يسجن الملك إلى الأبد، إذ إن غاية ما يطلبه من سجنه هو أن يمنع زواجه بابنة المليونير خشية أن يشد المال أزره، وأنه ببقائه محجوزا أطول وقت ممكن يهيئ إلى حدوث الفضيحة التي يستحيل بعدها أن يحصل على هذا الزواج، والآن هل رأيت؟
وانفجر سيرل ضاحكا وهو يقول في سخرية لاذعة: لقد رأيت! إنك إنما تلخص الموقف لتقنع به نفسك، أليس كذلك أيها الرجل العجوز؟ - إنما أفعل هذا لتقتنع به أنت الآخر، وسترى هذا الآن. إنما كل ما عليك أن تقيس الأشياء وتجعلها معا كما فعل، وعند هذا يمكنك أن تقدر عظم أهمية اشتراك الآنسة سان أماند في كل هذا الموضوع؛ فقد تحدث الناس بصلتها بجلالته وشاعت هذه العلاقة بين جميع الأوساط، فإذا تأخر جلالته عن إمضاء عقد الزواج، لم يكن أمام البارون كريستوف إلا أن يضع ملايينه في جيبه، وتبقى فيرونيك المسكينة وحدها تندب زوجا وعرشا! دعني أقل لك يا عزيزي برتراند بأنني لست أعلم تماما إذا كان جلالته قد نقل إلى حصن آخر أو أنه الآن بين يدي محبوبته ألين، ولقد كان علي أن أبذل ما في وسعي للعودة به، فمن سوء الحظ أنه لم يبق لدينا للقيام بهذا غير 48 ساعة.
وتمتم سيرل لنفسه وقد ضايقه أن تتهدم آماله في إنقاذ فيرونيك: لم يبق غير 48 ساعة؟! حسنا! وماذا أيضا؟
ورد فريزن بصوت تهزه العاطفة: ماذا أيضا؟ ليس أكثر من هذا يا صديقي، إنني أعتقد بأن الله قد أراد هذا، كما أعتقد بأنه قد خلقك تشبه جلالته كل الشبه حتى تحل محله غدا! - أنا؟! إنك مجنون!
ورد فريزن بنفس اللهجة المنفعلة التي صاح بها سيرل: لست أنا المجنون، فإن هذا شيء في غاية البساطة، هو دور تؤديه لمدة ليلة، بضع ساعات؛ توقع عقدا وتتسلم شيكا ببضعة ملايين، ثم تتظاهر بالمرض وتتحاشى مقابلة الناس لبضعة أيام حتى أعثر على جلالته وأعود به ثانية!
فمانع سيرل بحرارة قائلا: مستحيل، فإن أمري سوف ينكشف. - أقسم لك أنه لن ينكشف، إذ إن جلالته لم يظهر أمام الجمهور في بادن بادن منذ سنتين تقريبا إلا في ليلة الأوبرا فقط. - ولكن أمي! - سوف أمهد السبيل لها وسوف توافق، لأنها تتعرض لمخاطرة جسيمة لو رفضت. - والآنسة كريستوف؟ - إنها لم تقابل جلالته حتى الآن. - ولكن ...
واستمر سيرل يحتج بحالة مضطربة؛ فقد فوجئ واهتز كيانه جميعه لمجرد سماعه هذا الاقتراح، فقال فريزن في ضحكة: لا تقل لي إنك خائف. - خائف؟! - حسنا، إذن ماذا؟ - إنك تقول إن هناك عقدا أوقعه. - وبعد؟ - هل تعني بالاقتراح علي أن أوقع بإمضاء أخي؟ - ولم لا؟
ثم وضع فريزن يده في جيب سترته الداخلي، وأخرج حافظة للخطابات فاختار واحدا قدمه لسيرل وهو يقول: هذا خطاب من جلالته، «لويس، ملك» وأنت فنان فجرب بقلمك، وإن تمرين ساعة كاف لك، وأنا أعدك بأن جلالته سوف لا ينكر التوقيع. - تعني التوقيع المزور؟
فهز فريزن كتفيه وقال: ولم لا؟
ولما لم يأخذ سيرل الخطاب؛ فقد أعاده فريزن إلى حافظته، ووضع الحافظة في جيبه، وقال سيرل في إلحاح: تزوير في أسفل عقد الزواج؟! فكل العقد مزور! - ولم لا؟ - لكي نخدع رجلا فيسلمني شيكا ببضعة ملايين؟ - ولم لا؟ فإن كل هذا سوف يكون لمدة مؤقتة. - لكي نخدع به امرأة؟ - لمدة بضع ساعات، ومن أجل سعادتها العظيمة.
ولم يقل سيرل شيئا في ذلك الوقت، بل جعل ينفخ دخان غليونه، وقد أخذت كلمات فريزن الأخيرة تدور في ذهنه: «من أجل سعادتها العظيمة»، وذكر أيضا كلماته وهما قادمين من حصن دايك: «إن الله وحده يعلم ماذا يفعل بها الإخفاق والفضيحة».
وكانت فيرونيك في الواقع أقوى سلاح في يد فريزن، فيرونيك وحب سيرل لها. وكان فريزن عالما نفسانيا، فارتأى أن يترك الفكرة تعمل عملها في ذهن برتراند، وأن يمهد للأحلام بفيرونيك وبسعادتها وعذابها السبيل لغزو نوم سيرل؛ فقال له في لطف: فكر في هذا، واذهب لتنم يا عزيزي برتراند، وأخبرني عما عزمت عليه في الصباح ، فهذا يمكننا من إتمام معداتنا، وإلا فنكتب إلى بادن بادن عن هذه الأخبار السيئة.
وقبل أن يقوم فريزن خطرت في باله فكرة، فمد يده إلى حافظة خطاباته فأخرج واحدا، وضعه فوق المنضدة أمام سيرل وقال له: أحب أن تقرأ هذا قبل أن تقرر الطريق الذي تعتزم انتهاجه.
وبعد هذا، حنى فريزن رأسه بتحية المساء، وترك سيرل وخرج، وكان الخطاب الذي تركه هو ما كتبه البارون كريستوف للسيدة البرنسيس.
وقرأه سيرل مرارا، وكرر قراءة الفقرة التي يقول فيها:
ولمناسبة هذا المساء السعيد، فإني قد عملت ما يلزم لإعلان الخطبة رسميا، وفعلا تم ذلك، في فينا وباريس وروما وبرلين، ولي الشرف أن أخبرك بأن جلالة إمبراطور أوستوريا وقداسة البابا وجلالة ملك بروسيا سوف يبعث كل منهم رسولا خاصا ليمثله في ذلك الحفل العظيم ...
وكان في كل مرة يقرأ فيها هذه الفقرة لا يتمالك نفسه من أن يستعيد قول فريزن: «إن الله وحده يعلم ماذا يفعل بها الإخفاق والفضيحة.» •••
وفي الصباح، تقابل الاثنان على مائدة الإفطار، وكان كل منهما يعلم أن الآخر لم يغمض له جفن، وأخيرا قال سيرل: حسنا يا صديقي، لقد فكرت في الموضوع، ولسوف أعمل بما اقترحته علي.
ولما رأى ما اعترى فريزن من دهشة مضحكة، انفجر ضاحكا وهو يقول: لا تجفل هكذا، إنني أقصد ما أقول، سوف أذهب معك إلى بادن بادن، وسأبقى لمدة ليلة واحدة صاحب الجلالة ملك فرنسا.
وكاد فريزن يسأله: «وستوقع عقد الزواج؟» ولكنه توقف عن الكلام وفضل أن يترك الكلاب نائمة، ولذا فقد كان كل ما قاله: كنت أعلم أنك ستفعل هذا يا صديقي العزيز، إنه في الواقع الشيء الوحيد الذي نفعله من أجل الفتاة.
وبعد أن تناولا الإفطار وشربا قهوتهما، جاءت خادم الفندق لتحمل صينية القهوة، ولما سألتهما عما إذا كانت النار كافية، قال لها سيرل: لا، ضعي كتلة من الخشب فيها.
وفعلت الفتاة ما أمرها به، وذهبت بصينية القهوة. وبعد اختفائها قال فريزن: أظنك قد أخطأت في طلب وضع هذه الكتلة، لقد كان الجو حارا جدا قبل الآن! - إني آسف!
وفتح باب الموقد ونظر إلى النار المشتعلة، ثم ضحك وقال: أخشى أن تزداد الحرارة جدا وبسرعة؛ فقد وضعت الفتاة كتلة كبيرة. - سوف أفتح النافذة.
وقام فريزن وذهب إليها، وفي تلك اللحظة قال سيرل: لا تتعب نفسك، فهذه أسهل طريقة.
وقبل أن يدرك فريزن ماذا يفعل صديقه، كان هذا قد أدخل يده في النار وأخرج الكتلة المتوقدة، فصاح فريزن باضطراب ووجل: برتراند! هل أنت مجنون؟!
فرد سيرل وقد ألقى بكتلة النار: لا، بل مأفون فقط.
وانتشرت رائحة اللحم المحترق في الغرفة، وبان على سيرل أنه يقاوم ميلا لفقدان وعيه، وقفز فريزن إلى الجرس فدقه وجرى إلى زجاجة البراندي فرفعها إلى شفتي سيرل، ولما دخلت الخادم الصغيرة الغرفة أمرها فريزن قائلا: طبيب، بسرعة! فقد احترقت يد صاحبي!
فجاهد سيرل ليقول وعلى فمه ابتسامة مضناة: لا، لا، لست أريد طبيبا، بل أعطني قطرة أخرى من البراندي فإنه ينفعني، وسوف أذهب إلى صيدلي المدينة لمعالجتي.
وكان هذا ختام الحادث؛ فقد عالج الصيدلي يد سيرل من إصابتها الخطرة ثم لفها له.
وفي نفس اليوم سافر الصديقان بقطار الثالثة بعد الظهر إلى ستراسبورج، وكانت يد سيرل مغطاة باللفائف غير أنه كان أكثر بهجة مما كان قبلا، ولكن فريزن ظل في تفكيره وهو يقول لنفسه: «إني أظن أن الدم الإنجليزي فيه، إن هؤلاء الإنجليز جميعا مجانين!»
الفصل الحادي عشر
وحلت الليلة الموعودة، واجتمع في صالون السيدة البرنسيس - قبل ميعاد توقيع العقد بنصف ساعة - مندوبو قداسة البابا وجلالة إمبراطور أوستوريا، وغير هؤلاء من عظماء أوروبا وملوكها؛ فهذا ممثل ملك بروسيا، وذاك ممثل ملك بافاريا وقيصر ... وملكة إسبانيا، ثم دوق بادن العظيم، وكثير من أعضاء الأسر الأرستقراطية في أوروبا، حتى لقد ازدحمت بهم جميعا قاعات الاستقبال في فلا إليزابث.
وكان كل هؤلاء في شوق شديد لرؤية جلالته؛ فقد كانوا جميعا لا يعرفونه. وفي التاسعة تماما دخلت إليهم السيدة البرنسيس دي بوربون، فحياها كل مدعويها بالتحية الجليلة التي يقابل بها الملوك عادة، وكانت مصفرة الوجه كأنما تقاسي اضطرابا عصبيا، غير أن سيماء العظمة لم تفارقها، وكانت ترد على من يسألها عن صحة جلالته بأنه قد تحسن جدا من إقامته في سويسرا، حتى إنه قد زاد وزنه وامتلأ جسمه، حتى لأصبح متغيرا في نظر أصدقائه وأمه.
وذكرت لبعض سائليها أن جلالته قد أصيب في يده من حادث بسيط منذ يومين عندما كان يصطاد، واستفاضت السيدة في الحديث عن هذا الموضوع مع عمدة بادن بادن ووكيل قنصل فرنسا، وذكرت لهما أن جلالته لن يستطيع أن يمسك قلما بيده المصابة، وسألتهما عما يمكن عمله بالنسبة لتوقيع العقد، فأكد لها كلا السيدين أنه ما دام جلالته يضع أي علامة فوق العقد ثم يوقع معه شاهدان، فإن العقد يصبح قانونيا، على أن يتمه جلالته فيما بعد عندما تبرأ يده بوضع توقيعه الكريم عليه.
وأعلن قدوم البارون كريستوف، فدخل متأبطا ذراع ابنته، ولقد كان جمالها في تلك الليلة باهرا جليلا، فتقدمت بخطوات هادئة نحو السيدة وانحنت أمامها باحترام، ثم قبلت يدها الممدودة إليها، فأخذت السيدة تلك الفتاة المحمرة الوجه إلى صدرها ثم قبلتها بعطف فوق خديها.
وبعد هنيهة فتح الباب الكبير على مصراعيه، وأعلن صوت مرتفع: «سيداتي، سادتي! صاحب الجلالة الملك»، وسرت في الحجرة همسة تشبه التنهد العميق، وتحولت أنظار الجميع بلهفة نحو ملك فرنسا، وكان له في الواقع هيئة جليلة ملكية، وشعر بعض عارفيه بالغبطة لما بدا عليه من تحسن في صحته، وفعلا فقد كبر جسمه، وبان كأنه قد طال شيئا ما عن ذي قبل، وكان وجهه نشطا ممتلئا بالقوة والحيوية، وقد لاحظ الكثيرون شدة الشبه بينه وبين والدته الكريمة؛ فقد كان له لون عينيها السوداوين وشعرها الكستنائي الغامق.
وكانت يد جلالته اليمنى مربوطة باللفائف، ولذا فقد قبل الجميع يده اليسرى.
وكانت لحظة غريبة عندما تقدم البارون كريستوف مع ابنته ليقدمها إلى جلالته، كانت السيدة البرنسيس واقفة بجلال خلفه قليلا، فتقدمت الفتاة وهي تلبس ملابس العرس البيضاء، وقد كللت شعرها بزهور الكاميليا الناصعة، إلى خطيبها الملكي لتؤدي نحوه واجب التحية الجليلة، وبدت في عينيهما نظرة غريبة عندما شاهد كل منهما الآخر، والحق أنه قد بدا على وجه الفتاة أوضح تعبير للفرح العظيم؛ فقد بان عليها كأنما قد حبتها السعادة دفعة واحدة بأوفر قسط منها، ولاحظ الجميع على وجه جلالته الجميل دلائل الحب تنطق بأجلى بيان، ولقد كان غريبا لدى من عرفوا أن هذه كانت أول مقابلة للعروسين أن يجدوا هذا التوافق الكامل وهذه المحبة العظيمة بينهما من أول نظرة.
وانحنت الآنسة كريستوف بعمق أمام جلالته، فأخذ بيدها اليسرى ثم قبل أطراف أصابعها، ثم وضع خاتم الخطبة في أصبعها دون أن ينطق بكلمة غير نظرة حب عميقة، وألقى بذراعه حولها ثم قبلها في جبينها، وكان من الصعب أن يعثر الإنسان على عين لم تدمع في الحجرة لدى رؤية هذا المنظر الجميل الجليل.
وبدأ جلالته الحديث مع الآنسة كريستوف، وبعد قليل اشتركت معهما السيدة البرنسيس، ثم الكونت فريزن، وسرعان ما أصبح الحديث عاما في الحجرة، ثم انضم إليهم عمدة بادن بادن وكذلك وكيل قنصلية فرنسا، وتحدثوا عن الفكرة التي عرضها الأخيران على السيدة، والتفت جلالته إلى البارون كريستوف وكان يستمع إليهم، فقال له: إذا كنت مقتنعا يا سيدي البارون. - بالطبع، إنني مقتنع تماما يا صاحب الجلالة، إن علامة من يدك المجروحة أثمن من أي توقيع في العالم.
وسار جلالته والبارون كريستوف ثم الآنسة فيرونيك إلى منضدة فتح فوقها سجل رسمي كبير، وأخذ العمدة الكتاب وبدأ يقرؤه بصوت مرتفع حتى يسمعه كل من في الحجرة، وكانت عبارته هي ما يقال عادة في عقود الزواج، ولكن أهم ما فيه هو أن البارون كريستوف يقدم 500 مليون فرنك لصاحب الجلالة ملك فرنسا، وأن صاحب الجلالة يقبل أن تشاركه زوجته في عرش وتاج فرنسا. وأخيرا انحنى جلالته فوق المنضدة ووضع القلم بيده المجروحة، وساعدته السيدة البرنسيس في وضع علامة في أسفل العقد، وقد ارتسمت على فم جلالته ابتسامة ساخرة أكثر منها بهجة فرحة، ولقد كان شاهدا جلالته هما نيافة الكاردينال بنفنتي، وكان مفهوما أن يكون الثاني هو الكونت فريزن، ولكن ما كاد يهم بأخذ القلم حتى تقدمت السيدة البرنسيس فتناولته من يد الكاردينال وأعطت القلم إلى رفعة السيد جوميني، وبعد كلمات بسيطة لطيفة وقع هو الآخر على العقد.
وجاء بعد ذلك دور العروس، وتولى والدها التوقيع وكيلا عنها، وشهد معه على التوقيع الكونت فردريك والبرنس ريميروف، وبعد أن تم هذا أدخل البارون كريستوف يده في جيب سترته وأخرج حافظة أوراقه، فأخذ منها ورقة صغيرة مستطيلة كانت بقيمة الدوطة التي قررها لابنته وهي نصف مليار.
وأخيرا أشار جلالته بانتهاء الحفل، ثم تحدث إلى عروسه في كلمات قلائل، وسرى الدم حارا إلى وجه فيرونيك وهي تجيب في النهاية على تحية جلالته.
الفصل الثاني عشر
في صباح اليوم التالي كان فرح البارون كريستوف عظيما بسعادة ابنته العزيزة، لدرجة أنه لم يعبأ بقيود التقاليد، التي تفرضها الهيئة الاجتماعية سنة 1860، والتي تحكم علاقات الخطيبين في ذلك الحين، فكان كل ما فعله هو أنه رافقهما إلى مسافة قريبة بعد باب فلا ماري تريزا، حتى لا يثير دهشة وفضول الخدم.
وكانت فيرونيك قد حدثت والدها عن هذه المسألة في الليلة الماضية عند رجوعها من حفلة الاستقبال العظيمة في فلا إليزابث، فقالت له: إن لويس يريد مني أن أذهب معه غدا إلى الريف طول النهار، لقد قال لي إن بادن بادن تزعجه.
وكان كل ما قاله والدها أن صحح حديثها في لطف: لويس! يا طفلتي العزيزة! - أعني جلالته طبعا. - يجب ألا ننسى هذا، أليس كذلك؟
وودع الصغيران الوالد على مسافة قريبة من فلا ماري تريزا، كأنهما طفلان قد أخذا يوم عطلة، وقال الخطيب: سوف لا نعود قبل السادسة، نرجو ألا يساورك القلق علينا.
فرد كريستوف بابتسامة: سأحاول هذا.
وسار الاثنان بسرعة حتى اختفيا عن أنظار الوالد؛ فقد كانا يرغبان في مفارقة بادن بادن وأوساطها الاجتماعية، وغاية ما يطلبان هو أن يبتعدا عن العالم، والناس، وأن يجلسا وحدهما تحت شجرة وارفة، سارا طويلا وبسرعة كأنما كانا يركضان، ولم يتخلل سيرهما غير بضع أسئلة عادية ، فكان يسألها: هل أنا سائر بسرعة زائدة؟
فترد محتجة: أوه! لا.
فيقول وقد كررها مرارا: هل تعبت؟ - نعم، تعبت.
وكانت قد تعبت حقا، وانتظرت من مدة طويلة أن يسألها هذا السؤال. وجاء إلى مكان قطعت بضع شجيرات منه وألقيت على الأرض كأنما خصصت لجلوس العاشقين، فنظر سيرل إلى فيرونيك بحزن فضحكت في وجهه بمرح، ثم قالت: إنها مريحة بقدر الإمكان.
وجلسا متجاورين، وساد بينهما السكوت مدة طويلة، فكانت تعبث بطرف حذائها ترسم خطوطا على الأرض، وكان هو يحدق في وجهها بإعجاب وشغف، وحدث أن رفعت بصرها إليه، وقد تعجبت من طول صمته إذ كانت فيرونيك فتاة ساذجة كالطفلة البريئة، لا تدرك كثيرا من شئون الحب ولا أساليب المحبين، ولكنها رغم سذاجتها أحست بمعنى نظرته، فتخضب خداها بلون الورد، وفي اللحظة التالية كانت بين ذراعيه ولقنتها شفتاه أول درس في الحب.
وكان سيرل برتراند أستاذا ماهرا؛ فقد كان يحبها منذ وقت طويل، وكان يتمنى هذه اللحظة السعيدة من كل قلبه، ومر وقت دون أن يروي ظمأه، وأفلحت هي في أن تخلص نفسها من هذا الاحتضان العنيف، فسألها ذلك السؤال الذي يدور على شفتي كل محب: فيرونيك، خبريني هل أحببت قبل الآن؟ - لا، لست أظن ذلك.
ولقد قالتها بلهجة أشعلت الغيرة في نفسه، فسألها: ماذا تعنين بقولك إنك لا تظنين ذلك؟
فقالت محتجة: لأنني كنت قد أعجبت برجل مرة، أعني أعجبت به شيئا ما أكثر من أي رجل رأيته من قبل، إلا والدي طبعا.
فقال بصوت ثابت: وهل لا تزالين معجبة به أكثر من أي رجل آخر؟ - أوه! إنه لم يفكر في هكذا، ولذلك ... - إنه لم يصارحك بحبه؟ - أوه، لا! - إنه لمجنون!
فضحكت فيرونيك ثم قالت: ما كان لديه وقت لهذا؛ فقد كان غارقا في رسمه.
فصاح في صوت مذبوح، وقد أمسك بيده أعلى رقبته كعادته دائما عندما يفاجأ بأمر مثير غير منتظر: رسمه؟! رسمه؟!
وكان صوته غريبا وحركته لافتة للنظر، لدرجة أن فيرونيك داخلها الخوف فغمغمت: لماذا؟! ماذا قلت؟!
وأسرع مؤكدا فقال وهو يضحك: لا شيء، لا شيء، هذا فقط ما يسميه الإنجليز ضفدعة في الحلق، هل تعرفين ما هي؟
فأومأت برأسها إيجابا، ولكنها سألت باهتمام: هل أنت الآن أحسن حالا؟ - أحسن تماما، ولكن خبريني عما رسمه هذا الرجل، أعني الرجل الذي أعجبت به. - إنه رسم صورتي. - أوه! - إنها حقا كانت صورة جميلة، كل من رآها أعجب بها، هل أنت، أعني هل جلالتك ... - بحق السماء لا تدعني بهذا الاسم!
وكانت مقاطعته لها بخشونة وشدة جعلتها تضحك ثم تقول: لم لا؟ إن والدي ليؤنبني إذا لم أقل هذا، وإني لست أحب كثيرا اسم لويس. - إني أكره هذا، ولكن استمري في حديثك عن الصورة والرجل الذي رسمها، صفيه لي.
وأجالت بعينيها الزرقاوين مرة أخرى في وجهه، ثم قالت في بطء: حسنا، إنه بصراحة يشبه جلال... أعني أنه يشبهك نوعا ما. - أهذا إطراء لي؟ - أوه! لا، لأن الشبه كان من هنا، وكان باقي الوجه مغطى بلحية فظيعة جدا.
وكانت قد وضعت يدها المغطاة بالقفاز تحت أنفها فغطت فمها وذقنها، فرد عليها: ومع هذا فقد أعجبت به؟ - إنني قلت فقط شيئا ما، لأن صورتي استغرقت في رسمها أربعة أيام، ومن يومها لم أر الفنان قط. - ولست ترغبين أيضا في رؤيته؟ - لا، أظن لا. - إنك لا تهتمين به، أليس كذلك؟
فغمغمت بلطف: لا، ليس الآن. - عندما تكونين ملكة فرنسا؟ - لست أقصد هذا فقط.
وكاد سيرل يصرخ بصوت عال؛ فقد ضعفت سيطرته على عواطفه وأحس بالألم ينهش قلبه، ولكنه حاول أن يعالج ما أصابه، وأفلح شيئا ما، وقد لام نفسه على انسياقه وراء آلامه، وأخيرا قام على قدميه وقال ضاحكا: والآن، ألا نذهب لتناول شيء من الطعام؟
ولكنها لم تقم بسرعة، بل نظرت إليه في إخفاق، ثم قالت في برود: إلى أي مكان سوف نذهب؟
وأخذها فصعد إلى كلوستربرج، حيث وجدا مطعما صغيرا يشرف على ليخنثال وجيرولدسو، وأشجار الغابة السوداء، وجلسا فوق كرسيين خشبيين أمام منضدة عليها غطاء ذو مربعات حمراء وبيضاء، وتناولا غداء بسيطا، وتكلما كثيرا وضحكا طويلا، وعبثا بالسخرية من الزبائن الآخرين، وكان الاثنان يحسان كأنهما طفلان خرجا عن قيود العالم وتقاليده، فلم يشعرا إلا بالساعة التي يعيشان فيها دون أن يعبأا بالغد.
وجاءتهما الخادم بقهوة ساخنة فشرباها، ودخن سيرل سيجارا وقد أحس برغبة في أن يعاود حديثه عن ذلك الموضوع الذي أمضه، فسألها: حدثيني أكثر عن راسم الصورة، ذلك الذي أعجبت به أكثر من أي شخص عدا والدك. - لا تدعنا نتحدث عنه. - لم لا؟ - لأن لدي أشياء كثيرة أريد أن أحدثك عنها أهم بكثير من تخيلات بنت المدرسة السخيفة هذه. - إذن فقد كانت تخيلات بنت مدرسة سخيفة؟
فردت بابتسامة صغيرة: لماذا؟ طبعا كانت كذلك.
ولكم كانت حلوة ومخلصة في حديثها! ولكم كان هذا الحديث يؤلمه ويعذبه دون أن تشعر! وجمع سيرل شتات نفسه وابتسم ابتسامة مضناة وهو يرجو ألا تكتشف حقيقتها، ثم قال: وما هي الأشياء المهمة التي تريدين أن تحدثيني عنها؟
فضمت يديها الجميلتين معا، وبانت عليها علائم التحمس والانفعال: أريد أن أتحدث عن مشروعاتنا. - أي مشروعات؟ - أجل، إنني لا أعرفها كما تعلم، فإن والدي لا يحدثني مطلقا عن الموضوعات العامة، هذه الموضوعات التي أرى أنني كنت أشغف بها جدا لو أنه حاول أن يشرحها لي. - ما هي هذه الموضوعات؟ - أقصد السياسة.
ولم يتمالك نفسه من الضحك، السياسة! أفي هذه الأيام التي تنذر بقيام الحرب، والتي بدأ فيها نشوء الديمقراطية، تستطيع هذه الفتاة العديمة الخبرة أن تفهم شيئا من السياسة؟! ولكنها قالت: لا تضحك، إنني جادة في قولي كل الجد.
فغمغم بجفاف: إن الجو السياسي في هذه الأيام ملبد بالغيوم، على الراجح. - إني أعلم هذا، أو على الأقل سمعت بعض الرجال يقولون ذلك، وإن النساء يجب عليهن أن يبقين بعيدات عن كل هذا، ولكن ...
وتوقفت لحظة كأنما لا تدري تماما كيف تسير في حديثها، غير أنها استجمعت شجاعتها وقالت في لطف: ولكن عندما أنال الأمنية العظيمة وأصبح ملكة على فرنسا. - وبعد؟ - فإني سوف أرغب في سماع كل شيء عن شعبنا، شعبك وشعبي، أعني أن أجعل غايتي في الحياة هي أن أعرف كل شيء يحتاجون إليه؛ لأجعل كل رجل، وامرأة، وطفل، في فرنسا سعيدا، بقدر ما ستكون عليه سعادتي، ولقد حلمت يوما - بعد أن علمت بأنني سوف أتشرف بأن أكون لك زوجة وأن أشاركك العرش - بأن الفرنسيين سوف يدعونني «الملكة الطيبة فيرونيك»، كما أنك ستعرف لديهم ب «لويس المحبوب».
وجلس هو وقد ألقى برأسه فوق يده، وهو ينظر إليها دون أن يدري كم يستطيع أن يتحمل أكثر من هذا، ولقد أحس برغبة في أن يتناول هاتين اليدين الغاليتين ويتأمل في عينيها ثم يقول: «أنا لست إلا كذابا وغاشا. من أجل هذا اليوم الذي وعدت به، قبلت أن ألعب هذه اللعبة الشنيعة. ما أنا بملك، بل ليس لي الحق في أن ألمس يديك، فما أنا إلا راسم الصورة الحقير، الذي شعرت نحوه يوما بابتهاج فتاة سخيف. والآن فإني سأرحل عن حياتك وبخدعة وضيعة أخرى، سوف تصبحين زوجة لمخنث ضعيف، سيجعل منك ملكة لفرنسا ولكنه لن يهبك لحظة متعة، ولن يجعلك تشعرين بلذائذ الحب.»
وبينما كان هذا الاعتراف القاسي يتفجر داخل نفسه المحترقة، كانت نظرته لها تزداد حدة وقساوة لدرجة أفزعت فيرونيك وأخجلتها؛ فقد تصورت أنها تعدت في حديثها ما كان يجب أن تقف عنده، ورأت أنه كأبيها لا يحب أن يتحدث السيدات في مثل هذه الموضوعات، وضحكت ضحكة عصبية قصيرة، أردفتها بملاحظة عن تأخير الوقت. وبذلك انقطع الحديث في هذا الموضوع.
وتركا المطعم، ثم رغبا في العودة إلى الغابة، وهناك نسيا حديثهما الجدي وعاودتهما الطفولة المرحة؛ فقد كانت فيرونيك سعيدة لأنها كانت تنظر إلى هذه الساعات المباركة على أنها استمرار لساعات مماثلة مليئة بالمرح.
وكان سيرل سعيدا لسعادتها، وهو يعلم حق العلم أن أعظم فرح سوف يشعر به في المستقبل إنما هو ذكرى هذا اليوم الذهبي.
الفصل الثالث عشر
وفي أثناء هذا النهار وصل إلى الكونت فريزن بعد الظهر طلب مستعجل من السيدة البرنسيس تقول فيه:
اترك كل شيء جانبا يا عزيزي فريزن، واحضر حالا .
وكان فريزن معتادا هذه الرسائل المستعجلة، غير أنه في هذه الحالة كان واثقا من سبب هذا الاضطراب؛ فقد قال له سيرل إنه سوف يقضي مع فيرونيك يوما في الريف وحدهما، دون أن يعبأا بالتقاليد المرعية في مثل هذه الأحوال. وقد عمل فريزن جهده لكي يمنعه؛ فقد توقع من هذا حدوث متاعب من أي نوع، ولكنه كان عنيدا فلم يعبأ باعتراضه.
وعلى هذا فقد ذهب فريزن إليها، ووجد السيدة في حالة انفعال شديد؛ فقد رآها عند دخوله تذرع الغرفة جيئة وذهابا، وما إن خرج الخادم الذي أعلن قدومه، حتى غاصت السيدة في كرسي ذي مسندين، ثم مدت إلى فريزن بيد مرتعشة شيئا أشبه بالخطاب وهي تقول له: اقرأ هذا يا فريزن، اقرأه!
ووجد فريزن الخطاب من ولدها ملك فرنسا، فما كان هناك من شيء يوقع السيدة في مثل هذا الاضطراب المروع سواه. والحق أن فريزن نفسه ذلك السياسي المتزن قد أخرجه هذا الخطاب عن اتزانه، وكان الخطاب مرسلا من فلا أجلانتين في بادن بادن، فلا أجلانتين! وبالتأكيد، فقد قفز ذهن فريزن إلى ألين سان أماند، وأتم القراءة:
أمي الجليلة المحبوبة
لا يدهشك أنني عدت إلى بادن بادن؛ فقد وصلت هنا أمس، وإن كنت قد تأخرت جدا عن الحفلة المزرية التي كانت تربطني طول الحياة بامرأة لم أرها من قبل، ولست أعتقد أنني أحبها، وكان الغرض منها كما أعلم هو أن تحتفظي لي بذلك المستقبل الذي لا أشعر برغبة فيه. يا والدتي المحبوبة، حاولي أن تفكري في لا بصفتي ملك فرنسا غير المتوج، والذي لن يتوج، بل بصفتي ولدك، الذي يأتيك طامعا في حبك وعطفك. لقد فكرت طويلا في هذا الموضوع، وإني على ثقة يا أماه بأن الله لم يخلق في الاستعداد للسيادة والحكم، ولقد كانت إرادته ظاهرة من خلقه لي ضعيف الجسم والإرادة.
وربما ساورك من هذا يأس مرير؛ لأنني أعلم إلى أي حد ترغبين من كل قلبك في نجاح مشروعنا، ولكن الإنسان لا يمكنه أن يسير ضد طبيعته، وطبيعتي تتوق إلى السلم والهدوء بين ذراعي امرأة يمكنني أن أعطيها فؤادي، فلئن اتبعت مشورتك فكأني أضع الأساس لتعاستك ويأسك الشنيعين، وربما انتهى بك الأمر إلى أن يتحطم قلبك خجلا من ولدك وملكك.
على أنني لست أعرف ما جرى هنا في هذه الأيام الأخيرة؛ فقد علمت أن الكونت فريزن كان يسعى بجد في أن يأتي بي إلى هنا، ويخرجني من السجن الذي أبقاني فيه بوليس نابليون مدة ثلاثة أيام، خرجت بعدها إلى حيث رافقتني المرأة التي تفهمني وتقوي كل ضعفي.
أتوسل إليك بكل احترام، ألا تحاولي منعي عن إتيان ما أعتقد أنه الشيء الوحيد الصائب الذي أفعله؛ فلقد عولت على أن أتنازل عن حقوقي لعمي الدوق دي بوردو؛ الملك الشرعي الوحيد لفرنسا، والذي سيعتبر أمام الجميع رأس أسرة البوربون، وسيتوج إن شاء الله، وبمعاونتك، يوما ما في كنيسة ريمس. ولقد أرفقت بهذا نسخة من الإعلام الذي عولت على أن أرسله لجميع السلطات العليا في أوروبا. وإنه ليسعدني أنك بعد قراءتك له تبعثين لي بموافقتك عليه. لقد أتيت إلى بادن بادن لكي تسمحي بأن أتفاهم معك في هذا الموضوع شخصيا، وعلى كل فقد كتبت لك هذا بكل إخلاص واحترام، وغاية ما أرجوه الآن هو حبك.
ولدك البار لويس
وقرأ فريزن الخطاب بإمعان، وقد كرر بعض فقرات منه مرارا، وأخيرا نظر إلى السيدة وقد ذهبت نظرتها وزاد شحوب وجهها، وقد أعوزه ما يقوله لها؛ فلقد كانت المعضلة هي أن كل ما قاله لويس في خطابه كان حقا صريحا، وأن أمه على علم أكيد بهذه الحقيقة، وأن هذا هو الذي يحز في فؤادها الآن.
وفكر فيما يقوله إمبراطوره عن كل هذا، وإلى أي حد سيلومه على هذه الفضيحة، أجل وإنها لفضيحة أن يتنازل لويس عن حقوقه في العرش من أجل مغنية، ثم يعيش معها تحت سقف واحد. وأحس فريزن برغبة في أن يزأر عاليا، وربما كان قد فعل هذا لولا أن نظرت إليه السيدة، ثم قالت فجأة: هذا هو الشيء الوحيد الذي نفعله، يا فريزن .
وجمع الأوستوري شتات نفسه، وقال كأنما كان يحلم: ما هو يا سيدتي؟ - يجب أن يستمر ذلك الرجل في دوره، إني أكرهه ولكن لا بد من هذا، ألا ترى هذا؟ ألا ترى أنه لا بد ... - ولكن يا سيدتي ... - هناك متاعب، أعلم ذلك، لقد فكرت فيها جميعا منذ أن تسلمت هذا الخطاب المزري، وقد اقتنعت بها جميعا، لأني أظن أنه سوف يكون راغبا في ذلك. - هو؟ - أعني ولدي سيرل طبعا، ألم تره في الليلة الماضية؟ - طبعا رأيته. - إنني أعرف كيف أقرأ وجوه الرجال، فريزن، إن ولدي هذا يحب فيرونيك كريستوف.
فأقر فريزن: إنه يحبها فعلا. - هل قابلها من قبل؟ - لقد رسم صورتها، وأظنك يا سيدتي تذكرين أنني قلت لك هذا. - كنت قد نسيتها، ولكن على كل حال فإن هذا يؤكد ما رأيته في الليلة السابقة، ويجعله راغبا في أن يستمر في تمثيل دوره الملكي حتى ... - حتى ماذا يا سيدتي؟ - حتى يمكننا أن نتفاهم مع جلالته ونجعله يتعقل الأمر.
ولما وجدت من صمت فريزن ما يدل على قلة وثوقه من فائدة هذا، استأنفت قائلة: يمكننا أن نفعل هذا يا فريزن، أنت لا تجهل قوة تأثيري وإياك عليه، فوق ما تفعله ملايين كريستوف بسان أماند هذه لو لوحنا لها بشيء منها في مقابل ترك لويس، وأنا قمينة بأن المال لديها سوف يتغلب على رغبتها في لويس، يمكننا أن نفعل هذا يا فريزن، ويجب أن نفعله.
ولم يقل فريزن شيئا بل ظل شاردا يفكر في هذا الاقتراح الجديد الذي عرضته السيدة، فقد كانت امرأة لا ينضب معين نشاطها، ولا يقف تدبيرها عند حد، فوق أنها ولوعة بالسيادة والتسيطر. وأخيرا قالت له: والآن خبرني هل لديك اعتراض؟
وانتظر فريزن قليلا قبل أن يجيب، ثم قال: حسنا، إنني أصارحك القول بأني لا أظن أن سيرل سوف يفعل ما أردت منه. - ماذا تعني؟ - أعني أنه سوف يكسر عصاه ويجري كما يقولون. - ماذا يدعوك لأن تظن هذا؟ - لأنه قال لي هذا صباح اليوم، ثم لأنني أعلم أنه عنيد، ومن الصعب تغيير رأيه. - لا تنس أنه وافق من قبل على أن يلعب دوره. - تحت تأثير ظرف واحد، وهو منع الفضيحة عن الفتاة المسكينة وإنقاذها من العار، ولأنه كما قلت الآن مغرم بها. - إذا كان رفض سيرل هو ما تخاف منه فلا تفكر في هذا. - كيف؟ إني أكاد لا أرى عائقا أقوى منه.
فقالت السيدة بنفاد صبر: أيها الرجل الطيب، كيف لك أن تظل في معالجة الشئون السياسية طول هذا العمر، ثم لا تعرف حتى الآن عن الطبيعة البشرية؟ قل لأي رجل محب إنه يستطيع أن يبقى يوما آخر أو ساعة أخرى مع من يحب، قبل أن يفترق عنها ربما إلى الأبد، وانظر ما إذا كان سيجيبك بنعم أو بلا، أشكرك فقد اكتفيت! تكلم مع سيرل في هذا الموضوع، وسترى أنني كنت واثقة من النتيجة.
وسكت فريزن قليلا ثم غمغم: نعم، سوف أتحدث إليه.
فقالت مستأنفة حديثها: وماذا غير سيرل؟ - هناك الفتاة سان أماند، فإنها تستطيع أن تعطل عملنا في أي لحظة. - سوف أتدبر أمر الفتاة سان أماند هذه، إنها خطرة، أعلم ذلك ولكنني أستطيع أن أتفق معها. - كيف؟ بالرشوة، التي لا شك أنها ستتحول إلى ضريبة مستمرة؟ - ليس بالرشوة وحدها. - بالتهديد؟ - بما يشبه ذلك، وسوف أذكره لك في حينه، والآن سأبين لك ما يجب علينا عمله، إن جلالته مع تلك الفاجرة في فلا أجلانتين، فسوف أرسل نوسي ليراقب خروجها، وعند هذا تذهب أنت وتراه يا فريزن وسوف يكون جلالته وحيدا، ويمكنك أن تجعله يرى الطريق الصواب، أنت ماهر جدا يا فريزن، ويمكنك أن تشرح الموضوع له بسهولة وتقنعه، وفوق هذا فإنه عندما يعرف أنه هو وألين سيصبحان صعلوكين فقيرين سوف تجده قد غير رأيه. إننا نعيش - كما تعلم - على تلك الإمدادات التي يرسلها إلينا أصدقاؤنا في الخارج، فإذا حدثت الفضيحة انقطعت هذه عنا، ولا يبقى لدي سوى تلك الثروة الضئيلة التي تركها لي زوجي الإنجليزي، وهي لا تكفي ليعيش بها جلالة الملك السابق في بذخ، ها أنت ترى أنني أقول لك الصدق بصراحة، ألا ترى هذا يا فريزن؟
فأومأ فريزن قائلا: نعم، أنا أعلم ذلك. - وسوف تعرف تماما كيف تقول هذا لجلالته، أليس كذلك؟ - إذا استطعت أن أراه. - يجب أن تراه يا فريزن، يجب من أجلنا جميعا، ثم بعد أن تتكلم معه عليك أن تحضره رأسا إلى هنا.
وأطرق فريزن هنيهة يفكر، وأخيرا رفع رأسه قائلا: ماذا في أن تكتبي سطرا لجلالته، إنه ينتظر جوابا لرسالته، فإذا لم ينله ربما اندفع إلى عمل غير مرغوب.
وقامت السيدة في الحال واتجهت نحو مكتبها وهي تقول: الحق معك، سأرسل له بضع كلمات.
وجلست ثم كتبت كلمات قلائل، وقرأتها لنفسها، وألقت فوقها التراب ليجفف الحبر الرطب، ولكنها قبل أن تضع الورقة في الغلاف قدمتها لفريزن ليقرأها وهي تقول: أظن أن هذا فيه الكفاية، ثم إني لم أذكر مجيئك لزيارته طبعا، وقرأها فريزن وكانت بغاية الاختصار، وقد جاء فيها:
أؤمل أن أراك غدا. ومهما كانت الظروف فإنه يمكنك أن تعتمد على حب أمك وفهمها لحالتك.
وكان تعليق فريزن: في غاية الكمال.
وعنونت السيدة الغلاف: إلى «جلالة ملك فرنسا»، ودقت الجرس ثم أعطت الخطاب إلى رئيس الخدم، وأمرته قائلة: خذ هذا الخطاب، واذهب به بنفسك إلى فلا أجلانتين وسلمه ليد جلالته، لا لأحد غيره.
وما إن ذهب الرجل حتى تنهدت بعمق لتفرج عن نفسها، ثم غاصت في كرسي ذي مسندين، ورأى فريزن أن يخرج، ورفع بصره إلى الساعة المعلقة على الحائط وكانت تشير إلى السادسة، فقال: سوف يعود سيرل بعد قليل، وسأعود إليه لأراه، أتسمحين لي أن أراه منفردا؟
فأجابت السيدة في برود: أوه، طبعا، فلست أحب أن أراه أكثر مما أحتاج.
وقام فريزن مستأذنا في الخروج فمدت إليه السيدة يدها، وما إن هم بتقبيلها حتى أوقفته، ثم قالت في رزانة وتؤدة: تذكر شيئا يا صديقي عندما تتحدث مع سيرل أو مع لويس أن عندي أوراق تحقيق شخصية ولدي كليهما، شهادتي ميلادهما ثم تعميدهما، وليس أسهل علي من تبديلهما، ولذا فلا يخش سيرل شيئا، هل فهمت؟ أعني في حالة ما إذا لم يستمع لويس لصوت العقل في مدى أربع وعشرين ساعة، فإنه سوف يصبح رسميا ابن زوجي الإنجليزي، والآن هل رأيت كيف يمكن التفاهم مع تلك الفاجرة سان أماند، وكيف أنها ستكون على استعداد لطرح جلالته ظهريا عندما تدرك هذا الموقف! ولاحظ أن الأوراق ستكون قانونية، وستبين أن الرجل الذي أجهدت نفسها لإغوائه لم يكن سوى ولدي الأكبر سيرل برتراند، وأن سيرل ما هو إلا ابن لويس السابع عشر ملك فرنسا، والله يعلم كم سأكرهه من أجل هذا، ولكني سوف أعمل هذه التضحية من أجل أسرة البوربون، هل فهمت يا فريزن؟
ولم يستطع فريزن إلا أن يبتسم لنفسه متأملا فيما إذا كانت حقيقة تظن أنه يعتقد أنها لا تعمل من أجلها هي أيضا. وعلى كل حال فإنه لم يقل أكثر من ترديد ما قالته، مؤكدا: نعم، من أجل الأسرة.
وأخيرا استأذن في الخروج، وقد شعر كأنما هو متآمر قد استأذن في ترك شركائه، وإن كان قد عول على أن يسير معها إلى النهاية في تنفيذ خطتها حيث كانت تتفق ورغباته في هذا الموضوع.
ولقد زال من نفسه كل شك في قبول سيرل الاستمرار في دوره، بعدما أدرك ما يمكنه أن يطمئنه به. على أنه رغم هذا لم ينس أن اللعبة في الحقيقة قد أصبحت أكثر خطورة من قبل، إذ تشابكت الظروف بشكل يجعل أي تعقيد فيها باعثا على انكشاف الأمر، ولئن حدث هذا فإن الفضيحة التي تحدث تكون بمثابة ضربة قاضية لموضوع أسرة البوربون، كما أنها تكون نهاية مخجلة لمستقبله السياسي، حتى إن السبيل الوحيد الذي يخلصه من العار هو أن يحطم رأسه برصاصة من مسدسه.
الفصل الرابع عشر
وعاد فريزن في المساء إلى فلا إليزابث ثانية، وطلب مقابلة جلالته فجيء به إلى غرفة سيرل الخاصة، فما كاد الأوستوري يدخل حتى بادره سيرل بقوله: فريزن، إنني أسعد رجل على وجه الأرض.
فابتسم فريزن وقال: إنك أنت الشيطان نفسه. - اجلس أيها الرجل العجوز، وخذ كأسا، ماذا تحب أن تأخذ؛ شرابا إنجليزيا، ويسكي أسكتلنديا؟
وصب سيرل له كأسا، وأخذ فريزن الكأس الذي قدمه إليه وهو يقول: وما الذي فعلته بنفسك لتكون أسعد رجل على وجه الأرض؟ - لقد جمعت لنفسي ذخيرة من الذكريات سوف تبقى معي طوال الحياة.
فابتسم فريزن بتهكم خفيف ثم قال: إنه ليدهشني أن أعثر على رجل غيرك يمكنه أن يجد سعادته في الذكريات وحدها! - إذا لم يكن لديه سواها! - بل يستطيع أن يجد سواها، وعلى الأخص في مثل مسألتك.
ولم يجب سيرل، فما كان ذهنه ليقف على الغرض الذي يرمي فريزن إليه.
واستأنف فريزن مهاجمته فقال بلطف: أما تعتقد يا برتراند أن الأمر يتوقف عليك وحدك، فيما إذا كنت ترغب في إقامة سعادتك المستقبلة على أساس من الذكريات الواهنة أو على أساس أكثر اطمئنانا وثباتا؟
فقطب سيرل وجهه ثم عاد فضحك وقال سائلا: يا للشيطان! ماذا تعني؟ - أعني أنه ليس في الظروف الراهنة ما يمنع من استمرارك في دورك.
وعبس وجه سيرل مرة أخرى، ولكنه كان أكثر دهشة من قبل، ثم قال: أظن أنني كثيف الذهن أكثر من اللازم أيها الرجل العجوز، ولكن ألا تستطيع أن تكف عن التكلم بالألغاز؟ - إنني لا أتكلم بالألغاز، وإني جاد فيما أقول، اصغ إلي، إن أخاك غير الشقيق في بادن بادن وقد اتصل بأمه وأخبرها بأنه لا يستطيع أن يتحمل مهام الملك، إذ لا يرغب في الحياة أكثر من العيش بين ذراعي المرأة التي يحبها، ولا إخالك تجهل أنها سان أماند، وفوق هذا فهو سيتنازل عن جميع حقوقه في العرش لعمه الدوق دي بوردو. ومن هذا ترى أنك سوف لا تؤذي أحدا، بل على العكس فإنك سوف تؤدي أعظم خدمة له ولأمك بتوليك قيادة مشروع الأسرة، الذي يكاد ينهار تحت رياسة جلالته الحاضرة، بل ولسوف تؤدي خدمة للآنسة كريستوف أيضا ... أوه! لا تقاطعني حتى أتم حديثي، نعم سوف تقدم لها أجل خدمة، فإن المسألة ستمر أمامها سهلة مستساغة، وأنا لم أصل لدرجة من الغباوة أو كبر السن ليبعد عن ذهني ما حدث بينكما هذا النهار؛ فقد لاحظت ليلة أمس أنك عاشق للفتاة من قبل. على أنني الآن أقول لك بصراحة: إنه سوف لا يعترضك أي عائق تخشى منه على سعادتك معها لو قبلت الأخذ بالاقتراح الذي عرضته عليك.
وساد صمت طويل كان فيه سيرل غارقا في تفكير عميق، وأخيرا تجاسر فريزن واسترسل قائلا: سوف لا تكون هناك أي صعوبة في الطريق، هل فهمت يا برتراند؟
فرد سيرل كأنما قد قام من حلم: آسف! إنني لم أدرك تماما ما عنيته. - أردت أن تعرف أن كل شيء سوف يسهل من أجلك. - أي شيء؟ - مثلا، سوف لا تحتاج للظهور أمام الجمهور لبضعة أيام، سنقول: إن الطبيب أمر بعدم خروجك من غرفتك حتى يندمل جرح يدك، وغاية ما هناك أنك سوف تستقبل واحدا أو اثنين من المندوبين والممثلين الغرباء الذي سيتشرفون بالاستئذان في الرحيل، وهذا أمر بسيط كما ترى. - أوه، تماما.
ثم ألقى سيرل برأسه إلى الخلف وضحك قائلا: ولكن ألا تخبرني هل يعلم جلالة ملك فرنسا - أعني الملك الحقيقي - شيئا عن هذه القصة التي لا نزال نقوم بأدوارها! - لم يعلم حتى الآن، ولكنه سيعلم بها حالا. - هل ستخبره أنت بها؟ - سوف تخبره أمه. - إذن فسيفسد عليكم ما رتبتموه. - لن يتمكن من هذا، فإن أمه وأمك تمنعه. - تقصد أن تقول لي إن أمي ترغب في هذا، ترغب في أن أحمل أنا - ذلك الذي تكرهه - حقوق ولدها الذي تعبده؟! إنك تمزح، أليس كذلك؟! - لم أكن جادا في حياتي أكثر مني الآن، إن والدتك قد تناست مشاعرها في سبيل الغرض الذي ترمي إليه.
وصمت فريزن لحظة، ثم استأنف في إلحاح: برتراند، يجب أن تفعل هذا من أجلي! - من أجلك؟! وماذا تجنيه أنت من وراء هذه اللعبة القاسية؟! ثم لا تنس أنني ما كنت لأبدأ بالقيام بها لولا أنني كنت عاطفيا أبله. - ولا بد أن تكون صديقا لي أيضا، والآن. - والآن، فإني أقف أمامك وأمام نفسي موقف الكذاب المخادع، ولو تعلم كم أقاسي من جراء هذه الفكرة! - هذه سفسطة عاطفية - إذا سمحت بهذا التعبير - إذ لا ينبغي لك أن تفكر في وجهة نظرك أنت الخاصة، بل فكر أيضا في تلك المرأة التي تحبها وتحبك، في سعادتها وسعادتك، فكر في أمك وهي مهما كانت قد أساءت إليك في الماضي فإنها أمك على كل حال، وأخيرا فكر في أخيك، وفي أنا، فكر في هؤلاء جميعا لا في نفسك وحدها.
وسكت فريزن ليترك كلماته تفعل فعلها، ولكنه لم يكن ليقف على شيء مما كان يجري في ذهن سيرل وقد جلس هذا سابحا في أفكاره. ودقت الساعة العاشرة، فرفع فريزن بصره إليها وقد تتبع بعينيه حركة البندول وهو ينتقل بخفة مع كل دقة، وقد خيل إليه أن كل واحدة منها تقول على التتابع: نعم، لا! نفس الحالة التي كانت تشغل ذهنه.
والتفت فجأة إلى صديقه فرأى سيرل ينظر إليه في ابتسام، وإذا به يهز كتفيه ثم يقول ببساطة: هل لك في كأس آخر أيها الرجل العجوز؟
وكان من الصعب بعد هذا أن يصل فريزن إلى إدراك ما يجول بذهن سيرل؛ فقد حول هذا الحديث إلى اتجاهات شتى في الموسيقى والسياسة وغيرها، وملأ لفريزن كأسا أخرى، وقد حاول هذا أن يعيده إلى النقطة التي تهمه، ولكن محاولاته ذهبت عبثا. وأخيرا تأمل فريزن يد سيرل المصابة ثم قال له: لقد كنت أعلم أنك لا بد ستدفع ثمنا لهذه اللعبة، ولكني ما كنت أتصور أنك ستدفعه على هذا الوجه المروع، إنك يا برتراند إنجليزي أكثر مما تتصور في نفسك.
ولم يعلق سيرل على هذا بشيء، غير أنه تأمل في يده قليلا وعلى فمه تلك الابتسامة العجيبة، وأخيرا شد حبل الجرس فحضر رئيس الخدم، وودع سيرل صديقه، حيث شيعه رئيس الخدم إلى الباب الخارجي.
الفصل الخامس عشر
في وقت مبكر من صباح اليوم التالي، كان يقف أمام فلا ماري تريزا التي يقطنها البارون كريستوف شبح طويل القامة ينظر إلى بناء الفلا ويتطلع إلى نوافذها، وكان هذا سيرل برتراند وقد أقض السهاد مضجعه في الليلة السابقة، فلم يستطع النوم إلا غرارا، ثم بكر بالخروج من فلا إليزابث حيث وقف أمام منزل فيرونيك، لقد كاد الفكر يحطم رأسه، إذ كان عليه أن يختار بين الحب - الحب الحقيقي - وبين الكرامة، ونظر إلى تلك الحياة فرأى فيها حياة المرح والأبهة والحب والسعادة لا له وحده ولكن لتلك المرأة الطفلة التي سوف تلقى السعادة بين ذراعيه، ثم رأى فيها من ناحية أخرى حياة الخبث والمكر والخديعة وإهدار الكرامة، وتجسم لناظره شبح هذه الحياة وظل مرتسما أمام مخيلته، وقد عزم على أن يحل هذا المشكل بنفسه وبغير مساعدة من أحد.
ولقد بدأ يومه بالخروج مبكرا والطواف بمنزل فيرونيك، وقد سمى نفسه لهذا بالعاشق المجنون، والراجح أنه كان كذلك أو على الأقل فإن ظواهر الأمور كانت تقطع بهذا، إذ كانت غاية ما يرغب فيه هي أن يلقي نظرة أخيرة على تلك المرأة الطفلة، تلك التي أحبها بقوة وحنان، قبل أن يتركها ويلقي بنفسه وحده في غمار الحياة.
وترقب سيرل النوافذ حتى فتحت جميعها، ولكن ذلك الوجه الجميل الذي كان يرجو رؤيته لم يطل من إحداها، وأخيرا سار في سبيله ووجهته فلا أجلانتين، ذلك الفندق الذي نزل فيه أول ما وفد على بادن بادن، وأتى إلى الباب الخارجي حيث كان قد شاهد جلالة ملك فرنسا بين ذراعيه سان أماند، وفجأة امتلأت نفسه بذلك الغضب وتلك الكراهية التي أحسها نحو أخيه في ذلك الحين، فقد شاهد أخاه يسير متأبطا ذراع سان أماند وقد اتجها للسير في طريق التل ميممين شطر فلا إليزابث، وقد بان المرح عليهما كليهما، فكانا يتحدثان ويضحكان، وكانا يتوقفان في بعض الأحيان ليتعانقا أو ليتبادلا القبل، وتبعهما سيرل عن بعد. وأخيرا توقف الاثنان وودعا بعضهما وداعا حارا، اتجه بعده لويس في طريق فلا إليزابث، واستمرت ألين في سبيلها، وتبع سيرل خطوات لويس، ودقت ساعة الكنيسة التاسعة، لقد كان الوقت متأخرا ولا غرو إذا كان سيرل قد أحس بالبرد والتعب. ووصل سيرل إلى باب فلا إليزابث، وكان لويس قد سبقه في الدخول إليها، وكانت أبواب الفلا مفتوحة والبستاني يكنس مماشي الحديقة. وتقدم سيرل فولج إلى الحديقة ونظر نحو الباب الداخلي وكان لا يزال مفتوحا، فلم يجد رئيس الخدم الذي كان يقف أمامه عادة وأنفه في السماء ويديه خلف ظهره. وأدرك سيرل أنه لا بد وقد ذهب ليقدم جلالته للسيدة البرنسيس، وارتاح سيرل لهذا، إلا أنه كان لا يزال يخشى أن يراه أحد الخدم الآخرين في الداخل، وربما كان قد رأى لويس نفسه.
غير أنه لحسن حظه استطاع أن يلج إلى صالة الفلا واختبأ خلف أحد أبوابها حتى نزل رئيس الخدم وعبر الصالة ثم أخذ موقفه المعتاد عند مدخل الفلا، وخرج سيرل من مخبئه وقفز صاعدا درجات السلم، وفي اللحظة التالية كان يدق باب مخدع أمه، ووصل إلى سمعه همهمة من الداخل ثم كان صوت إغلاق أبواب، وسمع صوتا مألوفا يقول في خشونة: ادخل.
ودفع سيرل الباب ودخل إلى الغرفة، فرأى السيدة البرنسيس وحدها جالسة أمام مكتبها، وقد تظاهرت بأنها كانت تحرر خطابا، وإن كان من الواضح أنها لم تمسك القلم إلا من لحظة مضت، وكانت الحمرة قد غمرت خديها وارتعشت أصابعها وهي ممسكة بالقلم، وكانت هذه الدلائل كلها تنم عن أن مقابلتها لولدها المحبوب لم تكن على ما تروم. وبمجرد أن رأت سيرل قفزت من كرسيها كالسهم وأفلتت ممن شفتيها المرتعشتين كلمة واحدة: أنت؟!
وقد بدت في صوتها رنة خوف واضطراب، وأغلق سيرل الباب خلفه وظل واقفا موليا ظهره إليه، فقالت السيدة في تساؤل: حسنا، ماذا تريد؟
فأجاب سيرل في اقتضاب: أين لويس؟
فردت السيدة في برود: إن مكان جلالته لا يهمك في شيء، وإني أحب أن تخبرني بأي حق أنت هنا؟ - ليس لي أي حق مطلقا، وغاية ما أريد هو أن أرى لويس، إنه كان هنا من لحظة فلماذا هرب؟! - ماذا تريد منه؟ - سوف أخبره حالما أراه. - ولكني لن أدعك تراه قبل أن أعرف ماذا تريد منه، أم تتصور أنك تستطيع أن تحشر نفسك في حضرة جلالته؟
فقاطعها سيرل بجفاف: أوه! بحق السماء أوقفي هذا العمل، إنني لا أطيق كل هذا السخف.
فردت السيدة بغطرسة: والآن أراك متطفلا، إنني لا أعرف لماذا لا تريد أن تقول لي ما تبغي قوله لجلالته! هل أنت خائف؟ - إنني لست خائفا من شيء. - إذن لماذا هذا التكتم؟!
فقال سيرل بنفاد صبر متزايد: ليس هناك تكتم، فما أريد سوى أن أعطي لويس أخي الشيك الذي تسلمته من البارون كريستوف في تلك الليلة. - حسنا، يمكنك أن تعطيني هذا الشيك. - لن أعطيه لأحد سوى جلالته.
وقبل أن تنطق السيدة بكلمة أخرى انفتح باب في آخر الغرفة وظهر منه لويس نفسه، وكانت هيئته غريبة شيئا ما؛ فقد بان في عينيه أثر إجهاد وتعب، وكسا خديه احمرار طفيف، وكانت يده التي لا تزال تمسك بمقبض الباب ترتعش قليلا، وقال في ضحكة قصيرة جوفاء: هذا حسن، إن الملكة الوالدة مخطئة، وعليك أن تسلم تلك الورقة الصغيرة اللطيفة لجلالة ملك فرنسا، إنها مكتوبة باسمنا الجليل على ما أظن؟
وألقى سيرل بنظرة نحو والدته، وكانت لا تزال واقفة في مكانها مصفرة الوجه، وقد بان عليها أنها قد بوغتت وأنها تخشى شيئا لا تدري كنهه، وكانت عيناها الجميلتان تنتقل في تساؤل من وجه لآخر، وكانت هذه هي المرة الأولى التي ترى فيها ولديها منذ أصبحا رجلين يقف كل منهما في مواجهة الآخر، ولقد كان التشابه بينهما ملحوظا بشكل واضح؛ في الوجه والصوت، غير أن الخلاف كان شاسعا بينهما في ناحية لم يكن يعرفها أكثر من السيدة نفسها. وعضت شفتيها بمرارة ثم مرت بمنديلها فوق جبهتها.
وكان لويس في تلك اللحظة قد تقدم إلى داخل الغرفة ووقف إلى جانب أخيه، ومد إليه يده قائلا في ضحكة فارغة: حسنا، أين الشيك اللطيف الصغير؟
ووضع سيرل يده في جيبه وأخرج حافظة أوراقه وكان لويس وأمه يراقبانه في اهتمام كبير، بينما كان يطبق الورقة في يديه وهو ينظر إليها، فقال لويس في إلحاح: أعطها لي.
فرد سيرل في تؤدة ورزانة: قبل أن أعطيها لك أريد أن تقدم لي كل التأكيدات وأن تقسم لي بأنك سوف تحب وتحترم الفتاة الكريمة التي ستكون زوجة لك.
وكان سيرل يتكلم وهو ينظر بتفرس في وجه أخيه، وكأنما لم يعجبه ما لاح على وجهه وقتذاك، فأردف مطالبا: هل سمعت ما أقول؟ ألم تسمع؟ - إنك تصيح بعلو كاف، ولكن هل لي أن أسألك ما شأنك أنت بهذا؟ ومن هي تلك الفتاة التي تتكلم عنها؟ - لقد وعدت الآنسة فيرونيك باسمك؛ فقد أنقذتك من الخجل وأنقذتها من العار والمذلة، كما خلصت مشروعك الثمين من الضياع بقيامي بأكذوبة أمام البارون كريستوف.
فقاطعه لويس بخشونة: إنني لم أطلب منك أن تفعل شيئا من هذا، أليس كذلك؟ - لا، وهذا جزء من المأساة، ولكن ليس لنا أن نتناقش في هذا الموضوع؛ فقد فعلت ما فعلت تبعا لرغبة والدتك. وما أريده الآن هو أن تقسم قبل أن أسلم هذا إليك بأن تعمل ما في وسعك لكيلا تعرض تلك الفتاة البريئة لأي تعب أو تعاسة من جراء هذا الموضوع.
ونظر لويس لأخيه لحظة أو اثنتين، ثم استلقى على قفاه وقد انفجر في ضحكة طويلة عالية، ثم قال: حسنا، إنني لم أسمع في حياتي شيئا أبدع من هذا قط!
غير أن السيدة وقد لاح عليها أنها لم تستطع أن تضبط عواطفها أكثر من هذا، قالت بمرارة وحرقة: إني لم أسمع في حياتي بشيء مزر كهذا قط.
والتفتت إلى سيرل وانفجرت قائلة: أظن أنك تعشق فيرونيك كريستوف أنت نفسك؟
وكانت تريد أن تقول شيئا أكثر من هذا، شيئا أشد إيلاما وقسوة، ولكن لويس قاطعها وهو لا يزال يضحك: لا تتعبي الرجل المسكين يا أماه، سوف أعطيه التأكيدات التي يطلبها، وعند ذاك نصبح جميعا سعداء. استمع إلي.
والتفت إلى سيرل وأتم في جد وتعظيم: إني أقسم لك بشرفي أن حياتي المستقبلة سوف أقضيها محاولا جهدي إسعاد السيدة الجميلة التي ستكون زوجة لي! والآن هل أنت مقتنع بهذا؟
وسلم سيرل الشيك إلى جلالته دون أن ينبس ببنت شفة، وأخذه جلالته، ونظر فيه لحظة ثم وضعه في جيب صديريته، ثم عبر إلى آخر الغرفة ووقف عند الباب، وكان لا يزال مفتوحا والتفت إلى سيرل ثم قال في بساطة: إن كل هذا هراء كما تعلم، لأني سوف لا أتزوج تلك الفتاة البديعة التي تحبها، وذلك لسبب واحد هو أنني قد تزوجت فعلا وانتهى الأمر، وإن تعدد الأزواج غير مسموح به في فرنسا كما لا يخفى عليك!
وصدرت من فم السيدة صيحة احتجاج عالية: صه يا لويس!
ولكن جلالته ضحك مرة أخرى ضحكة جوفاء، ثم قال: لماذا أسكت؟ سوف يكون معلوما بعد وقت قليل في جميع أنحاء أوربا أن لويس التاسع عشر لن يكون ملكا على فرنسا بعد، بل إنه سيعيش في هدوء وسعادة مع تلك الفتاة التي اختارها لنفسه، وهي ألين سان أماند الجميلة. وإني أقسم لك مرة أخرى أنني سوف أحب دائما وأقدس الفتاة الجليلة التي قررت أن أتخذها زوجة لي!
وتراجع خطوة إلى الغرفة الأخرى ثم أقفل دونه الباب، ولم يتمالك سيرل نفسه من أن يقفز كالحيوان المجنون في اتجاه الباب، وسرعان ما اعترضته السيدة فوقفت بينه وبين الباب المغلق، ولم تقل شيئا، بل كانت عيناها هما اللتان تتكلمان، ونظر سيرل فيهما فإذا بغضبه كله وحقده عليها يتلاشى فجأة ويحل محله شعور بالعطف والحنان لأول مرة في حياته، وكان حنانه وليد شفقته؛ فقد كان يأسف لها كل الأسف لما لحقها من خيبة أمل كبيرة، واعتراها يأس شديد لاح على محياها الجميل؛ فقد انطفأ من عينيها ذلك البريق الغريب وشحب خداها وهرب الدم من شفتيها وترنحت في وقفتها، فمد سيرل بغريزته يده إليها ليسندها، ولكنها سحبت نفسها منه كأنما كان وحشا ضاريا!
غير أن هذه الحالة لم تستمر إلا لحظة قصيرة، وسرعان ما تمالكت نفسها بعدها، وقد أصبحت امرأة أخرى، وإذا بحنان سيرل يتحول إلى دهشة وتعجب. والواقع أنها كانت امرأة مدهشة، وقد أثارت إعجاب سيرل العميق بتلك الطريقة التي ملكت بها عواطفها وسيطرت على الجو الذي يحيط بها، حتى إنها عندما تكلمت كان صوتها ثابتا رغم ما اعتراه من خشونة، فقالت في برود: كل هذا هراء محض، إن جلالته قد تورط في هذا بتأثير امرأة وضيعة، وكان زواجه غير قانوني وسوف يصلح كل شيء في مدى أيام قلائل، وفي الوقت عينه فإنا سوف نستمر بنفس الحالة التي بدأنا بها. والأجدر بك أن تبقى هنا، وسنرسل في طلب الكونت فريزن ثم نتدبر الأمر معا جميعا.
ولكن سيرل هز رأسه برزانة ثم قال: يجب أن تسقطيني من حسابك يا سيدتي، ومن جميع مشروعاتك المستقبلة أيضا. - ماذا تعني؟! - أعني أنني سوف أترك بادن بادن بعد ظهر اليوم. - أتتكلم بجد؟!
لست جادا في أي يوم أكثر مني الآن، إن الرجل لا يمزح حينما يرى البناء الذي شيده ودفع من شرفه في مقابل بنائه قد انهار وتحطم قطعا متناثرة، كأنما كان كتلة من القذارة.
فسألت السيدة بمرارة: ألا ترى أنك تهذي بقولك هذا الكلام في مثل هذه الأمور الخطيرة؟! - ربما كنت كذلك، وإني أعلم أني أتعبك بهذا، ولذا فإني ذاهب لو سمحت.
وتحول نحو الباب، ولكن السيدة استوقفته وسألته في تحكم: إلى أين أنت ذاهب؟ - سأذهب أولا إلى البارون كريستوف.
فهمهمت السيدة وقد رفعت يدها إلى حلقها كأنما كانت تسعل، ولكنها سرعان ما تمالكت نفسها وقالت في هدوء: أذاهب أنت لكي تفسد عملنا؟ - أنا ذاهب لأقول الحقيقة للبارون كريستوف.
فأردفت في برود: إذا كنت أتصور أنك ستفعل هذا فإني أقتلك الآن! - إني أرغب في أن تفعلي ما تقولين.
فهزت السيدة كتفيها بنفاد صبر وقالت: إنك مجنون يا سيرل، أو على الأقل مجنون كوالدك! - إنني إنجليزي كوالدي، وفي إنجلترا لا ينظر الرجال بعين الرضا حينما يرون امرأة طيبة يضحى بها على مذبح الطمع السياسي، إنني لا أستطيع أن أرى فيرونيك كريستوف تستعمل كمخلب القط في تلك اللعبة التي كنت تديرينها في ذهنك من قبل، إنني أعلم أنها سوف تقاسي أشد الآلام من جراء جرح عواطفها وكبريائها عندما تتحقق من أنها كانت مخدوعة وأنه قد كذب عليها. ولكن هذا لن يكون شيئا إلى جانب تلك الحياة التعسة التي سوف تحياها لو كانت قد ارتبطت بذلك التعس الضعيف لويس أخي.
وتراقص على شفتي السيدة رد غاضب سرعان ما كبحت نفسها عن التفوه به؛ فقد كانت على مهارة كافية لأن تدرك عدم جدوى الشدة مع مثل ولدها العنيد هذا. وبسيطرتها المعهودة على عواطفها استطاعت أن تغير تعبير وجهها وصوتها، فهش وجهها ولطف صوتها، وقالت في رجاء ولين: استمع إلي يا سيرل، ما فائدة عراكنا هكذا؟! إنك تخلق كل أنواع المتاعب لي، ويؤسفني أن أقول إننا لم يعرف بعضنا الآخر في ود وألفة من قبل لأنك تفهم أني ... لا تعض على أنيابك! إني أؤكد لك أنني أعرف أكثر مما أوليتني فيه ثقتك وذكرته لي، فمثلا أنا أعرف أن فيرونيك كريستوف تحبك بالقدر الذي تحبها ... لا تقاطعني فأنا أعني كل كلمة أقولها، فها أنتما شابان صغيران يحب كل منكما الآخر، ويتمنى أن يعيش طول حياته مع الآخر، أليس كذلك؟
إنك لن تكون إنسانا إذا لم تكن ترغب في هذا، حسنا، إن مستقبلكما معا يتوقف عليك وعلي أنا، ولسوف تصبح أنت ابن لويس السابع عشر الملك الشرعي لفرنسا، ولا يمكن أن يزحزحك شيء عن هذا المركز، طالما تمسك لسانك عن الكلام. أما أنا فإني أود من كل قلبي أن يتم الأمر على هذا الوجه وكذلك الكونت فريزن.
وما كادت السيدة تصل إلى هذا الحد حتى توقفت عن الكلام وقطعت الغرفة حيث مكتبها. وكان سيرل طول ذلك الوقت ينظر إليها صامتا، ففتحت درجا مقفولا وأخذت منه حزمة من الأوراق، وانتقت منها أربع ورقات وأعطتها لولدها بيد عرتها رعشة خفيفة وقالت له: هذه ورقة ميلادك وتلك ورقة تعميدك، والأخريان ورقة ميلاد وتعميد أخيك لويس، ومنذ هذه اللحظة فإن الورقة المدون فيها اسم لويس أنطوان ماري شارل إيمي دي بوربون سوف تصبح ورقتك، والأخرى التي باسم سيرل أرثر برتراند سوف تصبح ورقة لويس، ولهذا فأنت ترى كم يكون الأمر سهلا ولا خطر فيه البتة.
وكانت السيدة لا تزال ممسكة بالشهادات الرسمية دون أن يتحرك سيرل ليأخذها، أو على الأقل لينظر إليها، فألقت بها بانفعال في وجهه حتى إنه تراجع خطوة إلى الخلف ليتحاشى اصطدامها به.
فقالت السيدة في إلحاح: لماذا لا تنظر إليها؟! ألا تعنى؟!
وكان تعبير وجهها يمد عبارتها بمعاني عدم التصديق ثم الخوف وأخيرا الانفجار، وقالت وهي تسعل: بحق السماء على أي أساس ترفض؟! - إنها ستكون حياة إهدار للشرف والكرامة، حياة كذب وخداع، حياة لا بد أن تؤدي إلى مأساة مروعة تختتم بها. - ولكن لويس يتوق لأن يتنازل عن حقوقه في العرش. - لمصلحة عمه الذي سوف يصبح الملك الشرعي لفرنسا لا لمصلحة سيرل برتراند ابن ضابط إنجليزي يود لو يرى ابنه ميتا بدلا من أن يحيا هذه الحياة المزرية المهدرة للشرف.
الفصل السادس عشر
ولم تكد تمر على سيرل أربع وعشرون ساعة حتى كان في باريس، واتجه مباشرة إلى الاستديو في ميدان ريمور، وكان قد أبرق إلى الخادم من ستراسبورج، فجهزت المكان لاستقباله، وما كاد يدخل حتى أوى إلى غرفة نومه، وبدأ يخلع ملابسه، وقد عاوده التفكير، أترى يستقر به الحال هنا ويشتغل بالرسم مرة أخرى ويعمل بجد لكي تعلق صوره في صالة العرض؟ وهل سيجد لذة في التحدث إلى ميمي فتاة الموديلات الصغيرة، وفي تقديم الحلوى إليها ومصاحبتها إلى مطعم الملوك الثلاثة فيتناولان معا طبق الكاسوليت بعد متاعب العمل في النهار؟ ولم يتمالك نفسه من الضحك لمجرد تفكيره في كل هذا؛ لأنه كان يعلم أن المياه لن تعود إلى مجاريها مرة أخرى، وأن روح مونتمارتر المرحة الطروب القليلة الاهتمام بالحياة قد انقطعت عن نفسه إلى الأبد، أو على الأقل فإن هذا ما كان يظنه في نفسه في ذلك الوقت. وجال سيرل بنظره في أنحاء الاستديو، وكان كل شيء على حاله كما تركه آخر مرة. وأثارت رؤية أدواته ذكريات مريرة مؤلمة، لقد فكر في الفتاة التي حلمت بأن تصبح ملكة على فرنسا يوما ما، وتذكر اليوم الذي كان فيه ملكا واستطاع أن ينال أجمل مخلوقة على وجه الأرض ويضمها بين ذراعيه، والآن فإنه لا يزيد عن كونه فنانا فقيرا يجاهد في سبيل الرزق.
وفي المساء المعهود لمطعم الملوك الثلاثة، ذهب سيرل إلى المطعم وكان الوقت لا يزال مبكرا، فلم يكن المكان قد امتلأ بزبائنه بعد، واتخذ لنفسه منضدة في أحد الأركان، وقد لاحظ وجود ثلاثة أشخاص على منضدة مقابلة له، وكان يعرف هؤلاء ولكن العادة في مونتمارتر كانت تقضي بألا يحيي الشخص معارفه بأكثر من إحناء رأسه إذا كان لا يريد أن يشاركهم مجلسهم. وكان يجلس قريبا من هؤلاء اثنان من الغرباء، وكانا شابين إنجليزيين يظهر عليهما أنهما طالبان يدرسا الفنون، وأنصت سيرل إلى حديثهما، وكان يحب نغمة اللغة الإنجليزية، والواقع أنه كان يحب كل شيء إنجليزي، ولقد حاول من قبل أن يتعلم هذه اللغة من الكتب وجاهد كثيرا ليتعلمها، ثم اتصل ببعض أصدقائه من الإنجليز لكي يتمرن على التحدث بها.
وتكلم الاثنان عن أشياء كثيرة؛ عن الصور والكتب والحياة في لندن، وعن إحدى القضايا التي شغلت أعمدة صحيفة التيمس، وقد ذكرت عنها بضع تفاصيل مثيرة للإحساس منذ بضعة أيام. وبان من الحديث أن أحد هؤلاء قد درس القانون وأنه يشتغل بفن المحاماة. ولقد كانت يد القدر الخفية توجه سيرل نحو الطريق المرسوم، فإن ذلك الشاب عندما تكلم عن تلك القضية ذكر اسم وكيل دعاوى كان يعمل لحساب أحد الخصمين في القضية، ولم يذكر اسمه بل كل ما ذكره هو عنوانه فندق لينكولن فيلدز، واستقرت في ذهنه هذه الكلمات الثلاثة، حتى إنه عندما عاد إلى الاستديو عاوده ذكر هذا العنوان مرة أخرى، وتذكر معه وكلاء الدعاوى اللندنيين الذين كانوا قد أرسلوا البرقية إليه، وبحث في درج المكتب عنها إذ كان قد وضعها فيه قبل أن يسافر مع الكونت فريزن إلى قلعة دايك، ووجد البرقية حيث تركها وعاود قراءتها:
أخبرك بموت اللورد لونجفيل المفاجئ على أثر حادث في الصيد. وأنت من يليه مباشرة من بين أفراد الأسرة. فالمرجو حضورك بأسرع ما يمكن. كاربن وهوستن، وكلاء دعاوى. فندق لينكولن فيلدز، لندن.
ماذا يقول؟ حسنا! ولم لا؟! إن لندن بعيدة جدا عن بادن بادن، ومن السهل عليه أن ينسى كل شيء هناك، فسوف يقابل أناسا لم يكونوا قد سمعوا عن ملك فرنسا غير المتوج، ولا عن ابنة المليونير التي يأكل الأسى واليأس والخجل قلبها ... لندن؟! ولم لا؟! إنه سيلقب باللورد لونجفيل بدلا من سيرل برتراند، وعلى كل فإنه سوف يعمل شيئا ما على أي وجه كان، ليساعد نفسه على النسيان.
وعلى هذا حزم سيرل حقيبة سفره، وكان في اليوم التالي يعبر البحر إلى إنجلترا. •••
فيما يلي مذكرات مستخرجة من يوميات نيافة الكاردينال بنفنتي:
26 سبتمبر سنة 1860
بعد مرور ست وثلاثين ساعة من وقت توقيع عقد الزواج، تسلم البارون كريستوف إخطارا معجلا من الكونت فريزن يطلب منه فيه المبادرة بإيقاف صرف الشيك المكتوب باسم جلالة ملك فرنسا، حيث إن جلالته لن يستطيع أن يستعمل هذا المبلغ في تحقيق الغرض الذي يرمي إليه البارون، والذي اشترطه عند كتابة العقد، إذ إن جلالته قد تزوج بعقد قانوني صحيح الآنسة ألين سان أماند. ولقد أسرع البارون بإعلامي بهذا الإخطار بعد وصوله، حتى يمكننا أن نتدبر الأمر ونعلم الآنسة كريستوف بالخبر على أسهل وأبسط صورة ممكنة.
وفي وقت متأخر من النهار، ذهبت لرؤية السيدة البرنسيس دي بوربون الأم التعسة للولد التعس. وعند وصولي إلى فلا إليزابث سمعت أن السيدة مريضة جدا، وأن عندها طبيبين يقومان على معالجتها، ولما سألت إحدى الممرضات اللواتي كن يقمن بالسهر عليها والعناية بها، قالت لي: إن السيدة الجليلة أصيبت بنوبة قلبية ألزمتها الفراش.
27 سبتمبر
حضر إلي في الصباح الكونت فريزن ومكث لدي أكثر من ساعة، وقد تركني في حالة من الدهشة لا يمكن وصفها! لقد جاء ليخبرني بالحقيقة، وكل الحقيقة، ولا شيء غير الحقيقة. ولقد كنت أستمع إلى ما يقول وكأنما أنا أسمع قصة من نسيج الخيال، إن الرجل الذي رأيته في ذلك المساء العظيم في فلا إليزابث لم يكن ملك فرنسا، ولكنه كان سيرل برتراند ابن السيدة من زوجها الإنجليزي !
وفي المساء أعلن جلالة ملك فرنسا تنازله عن حقوقه الحاضرة والمستقبلة لعمه الدوق دي بوردو، وبذلك أصبح اسمه هنري الخامس ملك فرنسا.
ذهبت إلى فلا ماري تريزا حيث يقطن البارون كريستوف، ولكم كانت دهشتي عظيمة لدى رؤيتي الآنسة كريستوف، لقد كانت جالسة فوق الأرض أمام والدها إلى جانب النار، وكان قد أخبرها بحقيقة الموضوع كله، فعندما أعلن الخادم قدومي ودخلت الغرفة، كانت لا تزال جالسة أمام النار ممسكة يد والدها. وقام البارون كريستوف لمقابلتي، وقامت هي بنشاط عجيب ثم قدمت تحية لطيفة وسحبت لي كرسيا مريحا قريبا من النار، وجلسنا جميعا وقد اتخذت فيرونيك لنفسها مجلسا على الأرض إلى جانب والدها، ولقد افتر ثغرها عن ابتسامة رقيقة لطيفة، وبانت في عينيها الزرقاوين لمعة نشاط ومرح أكثر منها لمعة أسى أو حزن. وبدأت أتحدث إلى والدها أكثر من حديثي لها، مؤملا أن أجد الكلمات المناسبة في هذا الموقف المزعج، ولكن فيرونيك نفسها أسرعت مؤكدة فقالت لي برزانة: إنني أعلم ماذا تريد نيافتك أن تقوله لي، ولكن ليس من الضروري أن تقوله لأني لا أريد أن أعزى أو أن يشفق أحد علي طالما أحس بأني غير تعسة.
فقلت: إني أحمد الله لأنك يا طفلتي صغيرة السن، كما أن جرح قلبك لم يكن بالدرجة من العمق التي كنت أتصورها، وعلى كل فإن الزمن سوف يساعدك.
فقاطعتني فيرونيك بهدوء وباعتقاد ثابت وقالت: إن المسألة لا تتعلق بالزمن في شيء، إذ لا يحتمل أن يغير الزمن شيئا من حياتي، بل ولست أرغب في أن يتغير فيها شيء، إنني لست تعسة، ولن أكون تسعة، أرأيت؟
وكانت عيناها تشعان بضوء عجيب، فأتمت قائلة: لم يسئ أحد إلي في الحقيقة، وإن مليكي لم يؤذني في شيء، إن مليكي يحبني، وهو لم يخطئ في حقي.
ولم أجد جوابا لتلك السذاجة أو لذلك الاعتقاد العجيب في القدر! وأخيرا استأذنت في الخروج، وكان أكثرنا انشراحا تلك الفتاة الطفلة، حتى إنها عندما سلمت علي ضغطت في لطف على يدي وهي تقول في إيمان صادق: إن مليكي لا يمكن أن يخطئ.
جيموند في 13 سبتمبر سنة 1862
لقد مرت سنتان منذ تلك الليلة العظيمة وما تلاها مباشرة من حوادث، إن الوقت ليمر بسرعة عندما يكبر الإنسان ويطعن في السن؛ فقد وقعت حوادث عدة في تلك المدة، لم أجد في نفسي الهمة للمبادرة بتسجيلها في يومياتي بالتفصيل، وها أنا أجمل ما مر من الحوادث:
أرسلني جلالة الإمبراطور فرنسوا ووزيف إلى باريس في مهمة خاصة، وكان يتعلق بنجاح هذه المهمة مستقبل الحياة الدينية لأصدقائنا في فرنسا. ولقد قضيت في جيموند بضعة أيام في الصلاة والقيام بواجبات التقديس، استعدادا لمهمتي الصعبة. وكانت أخبار أشخاص المأساة السابقة قد انقطعت عني منذ سنتين؛ فلقد جاء البارون كريستوف وحده إلي ليراني بينما كنت في فينا، ولقد أسعدني أن أسمع منه أن فيرونيك لم تفقد شيئا من عقيدتها، وأنه كان قد أخذها في رحلة مشوقة جميلة إلى مصر إبان الخريف التالي للمأساة، وبعد ذلك أخذها إلى قصره الخاص في بوهيميا، وكانت حالتها طيبة جدا طوال هذا الوقت، كانت مرحة وسعيدة لدرجة أن البارون قرر أن يعود إلى باريس حيث يحيا حياته العادية. ولقد لاحظت أن البارون كان في حديثه عن فيرونيك تظهر عليه الحيرة كما لو كان هناك شيء لا يفهمه عنها!
ولقد أسفت على السيدة البرنسيس دي بوربون كل الأسف، حيث إنها كانت لا تزال مريضة من أثر الصدمة العنيفة التي أصابتها بالنوبة القلبية، ولم تكن قد تركت فلا إليزابث بعد، بل إنها استقرت بها وعاشت فيها تعالج نفسها مما ألم بها. ولقد فهمت أن جلالة إمبراطور أوستوريا يمدها بكرمه المعهود بمبلغ طيب من المال يعينها على الحياة في هدوء وراحة.
أما عن جلالة ملك فرنسا السابق فقد عاش في هولندا، وقد أخبروني أن زوجته قد لاقت نجاحا عظيما في برلين أيضا. وقد انصرف الملكيون عن لويس التاسع عشر، وأخلص الجميع إلى جلالة الملك هنري الخامس ملك فرنسا الشرعي، وكانوا يرجون اليوم الذي ينال فيه حقوقه ويعتلي عرش فرنسا، وقد سقط نهائيا اسم لويس التاسع عشر من قائمة ملوك فرنسا.
باريس في 9 نوفمبر سنة 1862
ذهبت لرؤية صورة جديدة عرضت في معرض الصور باسم سيرل برتراند، وطلبت من المدير أن يمهد لي سبيل الاتصال بالرسام، ولكنه أخبرني بأن هذا مستحيل لأسباب لم يرد أن يبينها لي ... وتعرفت إلى سكرتير المدير وكان شابا لطيفا لم يرفض المبلغ الذي قدمته له لكي يعطيني ما أطلب من المعلومات عن السيد برتراند.
ولقد أدهشني ما أخبرني به؛ فقد أطلعني على آخر خطاب وصل من الفنان، وكان الخطاب مرسلا من إنجلترا حيث كان يقيم، ولم يكن اسمه برتراند مطلقا بل كان اللورد لونجفيل، وطبعا لا بد أنه أصبح رجلا عظيما ذا ثروة طائلة. وكان قد ختم خطابه بهذه الكلمات: «ولسوف أقيم في الاستوديو القديم في ميدان ريمور»، ووصف لي السكرتير الصغير ميدان ريمور، ودلني على سبيل الوصول إليه.
10 نوفمبر
لقد حمدت الله على مساعدته لي في سبيل الوصول إلى معرفة مقر السيد برتراند، وكان ما علي أن أفعله بعد ذلك أن أتصل بالبارون كريستوف، وكان قد استقر به المقام في باريس في قصره الجميل بشارع دي فاريني، وجاء ليراني في الفندق الذي نزلت به، وقد صحب ابنته معه هذه المرة، وكانت فيرونيك صغيرة مشرقة كما كانت آخر مرة رأيتها فيها. وتحدثنا طويلا دون أن أشير إلى ذكر سيرل صراحة، وحاولت أن أسلي الفتاة بإلقاء أسئلة عديدة عليها، وكانت على ذكاء نادر استطاعت به أن تدرك ما أرمي إليه، ولقد سرها أن أطلب منها أن تأتي من وقت لآخر لمشاركة رجل هرم في وحدته.
وزارتني مرارا وكنا نتحدث في شئون شتى، ولم يمض أسبوعان حتى أصبحنا صديقين حميمين.
وفي الثالث من هذ الشهر، أخذت عربة إلى طريق كليشي وتركت العربة عند مدخل ميدان ريمور، وذهبت للبحث عن صديقي القديم سيرل برتراند، وساعدتني الاستعلامات التي حصلت عليها من السكرتير الصغير في العثور على الاستوديو. وفتحت لي الباب خادم أخبرتني أن المسيو برتراند في الخارج، كما أنه لا يقابل أحدا من زائريه، ولقد قام جنيه قدمته لها بإزالة كل عقبة في طريقي، فأدخلتني إلى الاستديو، حيث أخذت مقعدا أمام النار وانتظرت هكذا نصف ساعة إلى أن حضر سيرل برتراند، وقابلني ببشاشة وإيناس، وقد لاحظت أنه قد عاد بذاكرته إلى الوراء حيث شاهدني أول مرة في الحفل العظيم، وتحدثنا في شئون شتى، وقد حاولت أن أتحاشى ذكر اسم البارون كريستوف وابنته، وإن تكلمنا عن السيدة البرنسيس وجلالة ملك فرنسا السابق، ثم الكونت فريزن الذي نقل إلى سفارة أوستوريا في لندن، وكانت علاقات المودة والصداقة بينه وبين سيرل ما زالت على أحسن حال.
وأخيرا افترقنا ونحن أصدقاء، وقد وعدني سيرل بأنه سيوف يحضر لرؤيتي بالفندق في صباح الغد، غير أنني كنت أشعر بشيء من الكآبة بعد تركي إياه، إذ كان يبدو عليه أنه تغير كثيرا وظهر عليه تأثير الزمن والحياة، فبان متقدما في السن.
وجاء لرؤيتي مرتين أو ثلاثا وقد شعر كلانا بالمودة والألفة نحو الآخر منذ أول مقابلة، وكما فعلت مع فيرونيك كنت أتحدث إليه في شئون شتى. وقد دعوته لزيارتي دائما في الصباح حيث إني قد خصصت وقتي بعد الظهر لفيرونيك.
ولكن منذ أيام ثلاثة أرسلت إليه كلمة أقول له فيها إنني مشغول في الصباح ورجوته الحضور إلي بعد الظهر.
وفي الساعة الرابعة بعد الظهر كانت فيرونيك معي، وكانت غرفة الاستقبال الخاصة بي في الفندق منسقة تنسيقا بديعا، وقد وضعت الخادم باقات عدة من الورد فوق المناضد، وكانت النار قد اشتعلت في الموقد، وكان المصباح يشع بضوء وردي جميل. ولم أكن قد رأيت الفتاة الطفلة في حياتي أبهى وأجمل منها في ذلك المساء، حتى لقد حمدت الله على مساعدتي في إحياء نفسين قد ربطهما الإخلاص والحب معا. وفتح الباب ودخل سيرل الغرفة والتفتت فيرونيك بعد أن كانت تحدق في نار الموقد، وما إن رأت الداخل حتى قامت كالسهم من كرسيها، ولم يتحرك سيرل بل اتجهت هي إليه، وما إن فعلت هذا حتى نظرت إلي ثم قالت: كنت أعلم أن مليكي يحبني وأنه لم يخطئ في حقي.
وما كدت أنسحب بأقل ضجة ممكنة من الغرفة، حتى رأيتها قبل أن أصل إلى الباب وهي بين ذراعيه.
Bilinmeyen sayfa