كان هذا الرد منطقيا جدا، ومقنعا في حد ذاته لدرجة أنه أغضبني. يا إلهي! وسألت نفسي لماذا بدأنا هذا النقاش إذا كان قادرا على قول مثل هذا الكلام المنطقي؟! عندما يتمتع شخص بدرجة من الذكاء تجعله قادرا على فهم مثل هذه التفاصيل، فأنا أتوقع منه أن يتعرف على بيته.
ولكن دون جدوى!
في مواقف أخرى كان أقل تعقلا، وكان ينظر متفحصا جميع التفاصيل ثم يقول إنه يظن أن شخصا ما قد أثث الغرف بهذه الطريقة ليخدعه.
ذكرني ذلك بفيلم الحركة «36 ساعة» الذي قام ببطولته جيمس جارنر، وإيف ماري سانت، وأدى فيه جيمس جارنر دور ضابط مخابرات أمريكي لديه معلومات مهمة عن غزو قوات الحلفاء. استدرجه النازيون إلى فخ وخدروه، وفي اليوم التالي أخبروه عندما أفاق بأنه في أحد المستشفيات الأمريكية، وبأن أمريكا كسبت الحرب قبل سنوات، وأنه كان فاقدا للذاكرة طوال هذه المدة. كانت الخدعة محكمة، لولا جرح صغير أصيب به الضابط قبل أيام من وقوعه في أيدي النازيين؛ فبالرغم من مرور السنين كما زعموا فإن الجرح لم يلتئم!
كان مثل هذه الأمور الغريبة جزءا من حياة أبي اليومية على مدار سنوات. كان يفتقد أي ثقة بالتفسيرات التي يقدمها له أقاربه وتبدو منطقية. كان يرد: «نعم، بيتي يشبه هذا المكان جدا، ولكنه يختلف قليلا.» •••
كان يجلس كثيرا وحده في غرفة المعيشة ويشرب النبيذ، وكان يصدمني دائما أن أراه ضعيفا وجريحا ووحيدا هكذا. تغير أبي كثيرا، ولم يعد وجهه المكتئب ينم عن حيرته لأنه ينسى، بل عن إحساسه العميق بالغربة؛ فقد أصبح العالم كله بالنسبة إليه غريبا.
وأحيانا كانت قناعتنا بأن تغيير المكان يمكن ببساطة أن يزيح عنه الإحساس بالغربة تؤدي بنا إلى مأزق لا يخرج منه أبونا إلا بعد أيام.
عندما كان يطلب العودة إلى البيت لم يكن يرفض في الحقيقة المكان الذي يرغب في مغادرته، بل الموقف الذي يشعر فيه بأنه غريب وتعيس؛ أي إنه لم يكن يعني المكان، بل المرض، ولكنه كان يحمل مرضه معه أينما ذهب، حتى وهو في بيت والديه. كان منزل والديه على بعد خطوات، ولكن بلوغه بقي مع ذلك هدفا بعيد المنال؛ ليس لأن قدميه لا تحملانه إلى هناك، بل لعدم وفاء الذهاب إلى هناك بما ينشده. جعل المرض أبي يفقد للأبد الشعور بالاحتواء، وأصبحت الغربة لصيقة جدا به، ولم يدع له المرض فرصة ليدرك تأثيره على إدراكه للمكان. وأصبحت عائلته تراقب يوما بعد يوم ما يعنيه الحنين إلى البيت.
كنا نرثي لحاله لأبعد مدى، وتمنينا كثيرا أن يعود إليه الشعور بأنه في بيته، وإذا حدث هذا فسيكون معناه أن المرض قد تركه، وهو الأمر الذي ربما يحدث عند الإصابة بمرض السرطان لا مرض ألزهايمر.
خفت وطأة الأمر علينا بعد عامين، عندما تأكدت مجددا مصداقية المثل القائل بأن الأزمة يجب أن تشتد أولا قبل أن تنفرج.
Bilinmeyen sayfa