الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
ملك في منفى العمر
ملك في منفى العمر
تأليف
أرنو جايجر
ترجمة
صلاح هلال
يجب على المرء أن يعرض أكثر الأمور عمومية في صورة شخصية.
هوكوساي
الفصل الأول
عندما كنت في السادسة من عمري لم يعد جدي قادرا على التعرف علي. كان يسكن في بيت بجوار منزلنا يقع على أرض منخفضة عنه، ولأني كنت أختصر الطريق إلى المدرسة بالمرور من خلال حديقة الفاكهة الخاصة به، فقد كان يقذفني في بعض الأحيان بقطع الحطب مستنكرا وجودي داخل أرضه. وفي أحيان أخرى كان يسعد لرؤيتي ويستقبلني مناديا إياي باسم «هلموت»، ولم أكن وقتها قادرا على فهم ذلك الأمر أيضا. مات جدي، ونسيت تلك الأحداث حتى دق المرض باب أبي.
يوجد في روسيا مثل يقول: «لا شيء يتكرر في الحياة سوى أخطائنا.» وفي الكبر تزداد تلك الأخطاء. ولأن أبي كان لديه ميل للعزلة فقد كنا نفسر سلوكياته الغريبة التي بدأت بعد تقاعده بفترة وجيزة بأنه يتهيأ لفقدان أي اهتمام بالعالم المحيط به. وبدت تصرفاته ملائمة لشخصيته؛ لذلك أزعجناه سنوات عدة بالإلحاح عليه كي يتماسك.
أشعر اليوم بشيء من الغضب لذلك الجهد الذي بددناه؛ فقد كنا نعنف الشخص ونقصد المرض. قلنا له مئات المرات: «لا تستسلم هكذا لهذه الحال!» وكان أبي يتلقى تلك الكلمات منا بصبر متبعا مبدأ: إن أسهل ما يمكن للمرء فعله هو أن يستسلم في الوقت المناسب. لم يرغب في تحدي النسيان، ولم يستخدم أي وسيلة تساعده على التذكر؛ كأن يعقد عقدة في منديل يده لتذكره بشيء ما كلما نظر إليه؛ خشية أن ينسى بعد ذلك أنه هو الذي عقد تلك العقدة، ويشك في أن شخصا آخر قد عقد عقدة في منديله ليضايقه. ولم يدخل في حرب خنادق عنيدة ضد انهيار قدراته العقلية، ولم يحاول التحدث عن ذلك الأمر قط، مع أنه - كما نعرف اليوم - كان حتما يعلم بخطورة الأمر منذ منتصف التسعينيات على الأكثر. ولو كان قال لأحد أبنائه: «أنا آسف؛ فعقلي بات يتخلى عني أحيانا»، لاستطعنا جميعا التعامل مع الأمر على نحو أفضل. لكن على أي حال، دارت لعبة القط والفأر في بيتنا لسنوات طويلة؛ إذ كنا وأبي الفئران، وكان المرض هو القط.
وها قد تركنا وراء ظهورنا تلك الفترة الأولى المرهقة للأعصاب التي كانت تتسم بالشك والتردد، ومع أنني حتى يومنا هذا لا أحب استعادة تلك الذكريات، فإنني أدركت الآن أن هناك فرقا بين أن يستسلم المرء لأنه فقد الرغبة في الحياة وأن يستسلم لأنه يعرف أنه مهزوم لا محالة. وكان أبي ينطلق من أنه مهزوم. وعندما وصل إلى مرحلة من حياته بدأت فيها قدراته العقلية في التلاشي أصبح يعول على تماسكه الداخلي، وهو أمر يمكن أن يعتبر وسيلة عملية تساعد الأقارب على التعامل مع بؤس هذا المرض، حيث لا يوجد له علاج مؤثر حتى الآن.
يقول ميلان كونديرا: «الأمر الوحيد الذي يبقى لنا في مواجهة تلك الهزيمة التي لا مناص منها، التي تسمى الحياة، هو محاولة فهمها.»
أتصور مرض الخرف، أو ما يطلق عليه ألزهايمر، في مرحلته الوسطى التي يمر بها أبي الآن تقريبا كالتالي: كأن إنسانا فزع من نومه فقام وهو لا يعرف أين هو، والأشياء تدور من حوله وتدور معها البلدان والأعوام والأشخاص. ويحاول أن يجد وجهته، فلا يستطيع. وتستمر الأشياء في الدوران؛ الأموات والأحياء والذكريات والهلاوس التي تشبه الأحلام، وجمل ناقصة لا تؤدي إلى معنى محدد، ولا تتغير هذه الحال لبقية اليوم. •••
عندما أكون في البيت - وهو الأمر الذي لم يكن يحدث كثيرا؛ حيث كنا نتقاسم عبء رعاية أبينا - كنت أوقظه في التاسعة تقريبا. وكان يبدو مندهشا وهو يرقد تحت غطائه، ولكنه كان معتادا بما يكفي أن يدخل إلى غرفة نومه أشخاص لا يعرفهم؛ لذلك لم يكن يشكو حدوث ذلك.
في مرة سألته بلطف: «ألا ترغب في الاستيقاظ؟» ولأضفي على الجو بعض التفاؤل استرسلت قائلا: «كم هي جميلة حياتنا!»
فنهض من سريره وقال لي بارتياب: «ربما حياتك أنت.»
ناولته جوربيه، فنظر إليهما لحظة رافعا حاجبيه ثم سألني: «وأين الثالث؟»
ساعدته في ارتدائهما حتى لا يستغرق الأمر زمنا طويلا، وتركني أفعل ذلك راضيا، وبعدها قدته إلى المطبخ في الدور السفلي، حيث يتناول طعام الإفطار. وبعد ذلك طلبت منه أن يذهب للحمام لحلاقة ذقنه، فقال لي وهو يغمز بعينه: «كان من الأفضل أن أبقى في البيت، لن آتي لزيارتك مجددا قريبا.»
بينما كنت أريه الطريق إلى الحمام كان يغني: «يا إلهي، يا إلهي! ...» محاولا إضاعة الوقت.
فقلت له: «كل ما عليك فعله هو حلاقة ذقنك، حتى يصبح شكلك أفضل.»
تبعني في تردد وهو يتمتم بكلمات غير مفهومة قائلا: «إذا كنت تعتقد أن ذلك سيحدث حقا.» ونظر في المرآة ودلك شعره بيديه بقوة حتى لانت الشعرات الواقفة وتمددت فعلا كبقية شعره. ونظر لنفسه مرة أخرى في المرآة وقال: «أصبحت مثل الإنسان الجديد تماما.» ثم عبر عن عميق شكره.
أصبح أبي يشكر كثيرا في الفترة الأخيرة؛ فقبل بضعة أيام ودون أي سبب مفهوم وجدته يقول لي: «أشكرك جزيل الشكر مقدما.»
وبمرور الوقت أصبحت أتجاوب مع تلك الجمل التي يبتدئني بها وأقول له: «بكل سرور!» أو «هذا يسعدني!» لأن التجربة علمتني أن مثل هذه الإجابات التي تعطي أبي الشعور بأن كل شيء على ما يرام أفضل بكثير من أن نسأله عن سبب توجيهه الشكر كما كنا نفعل سابقا، وهو ما كان يشعره بالخجل وفقدان الثقة في نفسه. ولا يوجد شخص يحب أن يجيب عن الأسئلة التي تكشف له عن مدى القصور الذي يعتريه، هذا إن فهمها أساسا.
كانت محاولات المواءمة تلك مؤلمة في بادئ الأمر، وكانت تستنفد قوانا. ولأن الإنسان منذ طفولته يرى والديه في صورة الأقوياء القادرين على مواجهة مصاعب الحياة، فإن رؤية الضعف الذي يستنزفهما بالتدريج تكون أصعب من رؤية ذلك يحدث للآخرين. لكني بمرور الوقت بدأت أتأقلم على نحو جيد مع هذا الدور الجديد، وتعلمت أيضا أن التعامل مع إنسان مريض بمرض ألزهايمر يحتاج إلى معايير جديدة. فإذا أراد أبي أن يوجه الشكر فليوجه الشكر، حتى وإن لم يكن هناك داع لذلك، وإذا أراد أن يشكو من أن العالم كله قد تخلى عنه، فليشك؛ سواء أكان تقييمه للأمور يطابق الحقيقة أم ينافيها؛ لأنه لم يعد يرى عالما سوى عالم ألزهايمر. وبوصفي قريبا له فكل ما أستطيعه هو محاولة تخفيف مرارة الأمر برمته؛ وذلك بأن أسمح للواقع الذي اختلطت أوراقه عند المريض بأن يظل قائما كما يراه هو.
ولأن أبي لم يعد قادرا على عبور الجسر المؤدي إلى عالمي، قررت أن أعبر أنا الجسر إليه. وهناك في داخل حدود عالمه وعقله، وخارج حدود مجتمعنا القائم على الموضوعية والطموح، لا يزال أبي إنسانا محترما؛ فحتى إذا لم يعد - قياسا على معاييرنا العامة - يتصرف بحكمة على الدوام، فإنه عبقري بصورة أو بأخرى.
ذات يوم مرت هرة من خلال الحديقة، فقال أبي: «كان لدي قديما أكثر من هرة، ولكنها لم تكن لي وحدي، كان لي شركاء فيها.»
وذات مرة سألته عن حاله فقال لي: «لا تحدث معجزات، وإنما فقط إشارات.»
ثم استرسل متحدثا بجمل غير مترابطة وغير متوقعة كالتي تدور بخلد الإنسان أحيانا في أحلامه، مثل: «أيضا الحياة دون مشكلات لن تصبح أسهل.»
كان السيد «أوجوست جايجر» مشتهرا بالمرح والحكمة، ولكن للأسف أصبح الكلام يخرج منه في بطء شديد؛ لذلك بات نادرا أن يصدر عنه قول من أقواله التي تدعو للإعجاب والدهشة. كم يؤلمني أن أرى كل تلك الأشياء الجميلة تتبدد، وكأني أراقب والدي وهو ينزف ببطء، والحياة تفارقه قطرة بعد قطرة، والشخصية تنزف من الشخص قطرة بعد قطرة. لكني لا أزال أشعر أن هذا هو أبي؛ ذلك الرجل الذي ساهم في تربيتي حتى صرت رجلا، غير أن اللحظات التي لم أعد أرى فيه صورة أبي الذي كنت أعرفه من الأيام الخوالي راحت تتزايد؛ لا سيما في المساء.
وكانت الأمسيات بشائر لما سيحدث في الأيام التي تليها أو نذرا لها. فمتى حل المساء، حل معه الخوف وهام أبي على وجهه بلا غاية ولا هوادة، وكأنه ملك عجوز في منفاه، وكان كل ما يراه يخيفه، وكل شيء متقلب وغير مستقر، وكأنه سيتفكك في اللحظة القادمة. فلم يكن هناك ما يعطيه الإحساس بأنه في بيته.
كنت أجلس قبل فترة في المطبخ أدون ملاحظات على الكمبيوتر المحمول الخاص بي، والتليفزيون يعمل في غرفة المعيشة، وكان أبي يأتي متسللا على أطراف أصابعه عبر الردهة كلما سمع تلك الأصوات الصادرة من المطبخ، وكان ينصت ثم يهمهم مرارا قائلا: «أنا لا أفهم ما هذا!»
بعد ذلك، أتى إلي في المطبخ وكأنه يريد مشاهدتي أثناء الكتابة، ولكني كنت قد لاحظت أنه يحتاج إلى بعض المساندة.
فسألته: «ألا ترغب في مشاهدة التليفزيون لبعض الوقت؟» «وفيم سيفيدني هذا؟» «بعض التسلية.» «أفضل أن أذهب إلى البيت.» «أنت في البيت.» «أين نحن؟»
ذكرت له اسم الشارع ورقم البيت.
فقال لي: «على أي حال أنا لم آت إلى هنا كثيرا من قبل.» «لقد بنيت هذا البيت في نهاية الخمسينيات، وتسكن فيه منذ ذلك الوقت يا أبي.»
عقد ما بين حاجبيه؛ لأن المعلومات التي تلقاها بدت له غير مرضية، وحك عنقه، ثم قال: «أنا أصدق ما تقول، ولكن مع تحفظي عليه. والآن أريد أن أذهب إلى البيت.»
نظرت إليه وقد بدا عليه الإرهاق الشديد الذي سببته له هذه اللحظة العصيبة، مع أنه كان يحاول إخفاء الاضطراب الذي اعتراه. كان مضطربا تماما، وكان جبينه يتصبب عرقا. وكانت رؤية أي إنسان يوشك أن يصاب بالذعر تؤثر في حتى النخاع.
يعد الإحساس المؤلم بعدم الوجود في البيت من أعراض هذا المرض. وكنت أفسر لنفسي هذا الأمر بأن مريض ألزهايمر يفقد الإحساس بالاحتواء بسبب ما يعانيه من تمزق داخلي؛ ولذلك فإنه يتوق إلى مكان يجد فيه ذلك الاحتواء مجددا. ولكن بسبب الإحساس بالاضطراب والارتباك الذي لا يفارقه، حتى في أكثر الأماكن التي كان يألفها، أصبح سريره أيضا عاجزا عن إعطائه الشعور بالاحتواء، وبأنه في البيت.
ولعل كلمات مارسيل بروست تعبر عن ذلك تعبيرا بليغا عندما يقول: «الجنات الحقيقية هي تلك التي فقدناها.» ولا يحدث تغيير المكان تحسنا في مثل هذه الحالة. ربما يمكن لتشتيت انتباه المريض أن يساعده قليلا، وهو الأمر الذي يمكن فعله، أو ربما يمكن التوصل إلى نتيجة أفضل من خلال الغناء مثلا. والغناء من الأمور الأكثر مرحا، ومرضى ألزهايمر يحبون الغناء؛ فالغناء يخاطب المشاعر وكأنه بيت خارج حدود العالم الذي ندركه بعقولنا.
وعند ذكر الغناء أتذكر أيضا أنه لا يكاد يخلو كتاب عن مرض ألزهايمر من تشبيه المرضى بالأطفال الصغار، وهذا أمر في غاية السخف؛ فالإنسان البالغ لا يمكن أبدا أن يعود طفلا؛ فالطفل ينمو بطبيعته إلى الأمام، الأطفال يكتسبون قدرات جديدة بينما يفقد مرضى ألزهايمر قدراتهم. ومراقبة تصرفات الأطفال يمكن أن تصقل نظرتنا إلى عملية التقدم، في حين أن النظر إلى مرضى ألزهايمر يصقل نظرتنا إلى عملية الفقدان. والحقيقة هي أن التقدم في السن لا يرد إلينا ما يسلب منا، إنه مثل المنحدر، وأكبر هم يمكن للكبر أن يصيبنا به هو أن يطول أمده أكثر مما نحتمل.
شغلت أسطوانة أغان من مجموعة أسطوانات الأغاني التقليدية التي أعدتها أختي هيلجا لمثل هذه الأغراض، واستمعنا إلى أغنية «فوق العربة الصفراء ركبت يوما خمس بجعات برية»، وعادة ما كانت تنجح هذه الحيلة، حيث ندندن معا بالأغاني لمدة نصف ساعة، ويندمج الرجل الكبير في الغناء حتى إنه يضحكني، ثم يضحك لضحكي. بعد أن فعلت ذلك كان وقت خلوده إلى النوم قد حان. انتهزت هذه اللحظة وقدته إلى حجرة نومه في الدور العلوي. كان أبي في حالة مزاجية جيدة مع أن إدراكه للزمان والمكان والأحداث كان لا يزال سيئا، إلا أنه لم يكن يشغل باله بذلك.
ودار بخلدي أن الفوز ليس كل شيء، وإنما البقاء هو الأهم، وكنت منهكا في ذلك اليوم على الأقل مثل أبي ، وقلت له ما عليه فعله حتى ارتدى ملابس النوم، ودخل من تلقاء نفسه تحت الغطاء وهو يقول: «أهم شيء أن لدي مكانا لأنام فيه.»
ثم رفع يده وحيا شخصا كان يعتقد أنه موجود، وقال: «لا بأس بالمكان هنا، يمكن أن أتحمل البقاء فيه؛ فالمكان لطيف.»
كيف حالك يا أبي؟
في الحقيقة، يجب أن أقول إني بخير، ولكن أقول ذلك مع التحفظ؛ لأني غير قادر على الحكم على الوضع.
وكيف ترى مرور الوقت؟
مرور الوقت؟ سيان بالنسبة إلي إذا كان يمر بسرعة أو ببطء، فليس لدي متطلبات كبيرة فيما يتعلق بذلك الأمر.
الفصل الثاني
تطاردني حتى اليوم ظلال تلك البدايات، مع أن السنين قد خلقت بيني وبينها شيئا من البعد؛ فعندما أنظر من النافذة إلى حديقة الموالح التي كتب عليها الشتاء السكون وأفكر فيما حدث لنا، يستحوذ علي شعور بأننا قد وقعنا في خطأ كبير وقتها.
كان مرض أبي قد بدأ يدب إليه بخطوات بطيئة ومحيرة، حتى إنه كان من الصعب إدراك أهمية التغيرات التي تعتريه إدراكا سليما؛ فقد كانت الأعراض تتسرب إليه كالموت في أسطورة الفلاح عندما كان الموت يقف ببابه ويجلجل بعظامه دون أن يسمح لأحد برؤيته. كنا كمن يسمع أصواتا ويظنها صفير الريح الذي يمر خلال بيته الذي بدأ يتداعى ببطء وهو لا يدري.
ظهرت أول أعراض المرض في منتصف التسعينيات، إلا أننا لم نتمكن من فهم السبب فهما سليما. أهز اليوم رأسي متحسرا كلما تذكرت تجديد الغرفة العلوية عندما حطم أبي الغطاء الأسمنتي لخزان المياه الذي كان لدينا في ذلك الوقت؛ لأنه لم يستطع رفع الغطاء وحده ووضعه في مكانه مجددا. لم تكن تلك المرة الأولى التي شعرت فيها أن أبي يعكر علي صفو حياتي متعمدا. ويومها صرخت في وجهه وصرخ في وجهي. بعد ذلك وطوال الفترة التي كنت أعمل فيها في البيت كنت أغادر البيت بانتظام وأنا أشعر بالخوف من أن مفاجأة صادمة أخرى ستكون بانتظاري عندما أعود.
كما أذكر أيضا زيارة أحد مذيعي الراديو السويسري لي؛ فقد كان يوما آخر حفر في ذاكرتي. كان ذلك في خريف عام 1997 بعد صدور روايتي الأولى بفترة قصيرة، وكان من المفترض أن أقرأ فصلا منها ليتم تسجيله؛ لذا رجوت أبي ألا يصدر ضجيجا في أثناء ذلك. وما إن بدأ التسجيل حتى بدأ معه صوت طرق متصل في الورشة الملحقة بالبيت، واستمر الطرق ما استمر المحرر في التسجيل. وبينما كنت أقرأ شعرت بغضب شديد من والدي، بل ربما بكره له؛ لما أبداه من لامبالاة. وحاولت تجنبه في الأيام التي تلت ذلك، ولم أتحدث إليه ولو بشق كلمة لمدة أيام؛ فقد كنت أرى فيما فعله محاولة «تخريب متعمد».
متى تزوج بيتر، أخي الأكبر؟ كان ذلك في عام 1993. وفي حفلة العرس أصيب أبي بألم في المعدة وغثيان؛ لأنه لم يستطع تقدير كمية الطعام التي أكلها؛ لذلك تناول بعد الوجبة المتعددة الأطباق عشر قطع أو خمس عشرة قطعة من كعكة الزفاف، وبعدها ذهب إلى البيت بخطوات متثاقلة حيث رقد في سريره لمدة يومين وهو يعاني من آلام شديدة. وكان يخاف من أن يموت على إثر ذلك، إلا أنه لم يستطع استدرار عطف أي منا أو تعاطفنا؛ لأننا كنا نظن أنه يستحق ما حدث له. ولم يلحظ أحد منا أنه يفقد ببطء قدراته العملية اللازمة للحياة اليومية.
كان المرض يتسلل إليه وينصب شباكه حوله ببطء، وقد وقع في براثنه دون أن نلحظ ذلك.
وفي الوقت الذي كنا فيه - نحن أولاده - نسيء فهم تلك العلامات، كان هو بالتأكيد يتألم لشعوره بتلك التغيرات التي تعتريه؛ ذلك الشعور بالخوف الرهيب من أن شيئا معاديا يتملكه ولا يستطيع هو إلى مقاومته سبيلا. ولم يتفوه يوما بكلمة عن هذا الأمر، فقد كان تكتمه وعدم قدرته على التعبير عن مشاعره يقفان حاجزا أمام ذلك. لم يكن الحديث عن مشاعره يوما من سمات شخصيته؛ إذ لم يقم بذلك أبدا، وكان الوقت قد تأخر على الشروع في ذلك الآن. ومما جعل الأمور تزداد سوءا أنه قد ورث هذا الطبع لأولاده؛ لذا لم تأت من جانبنا أي مبادرة في هذا الاتجاه. لم يستطع أحد منا التغلب على ذلك، وتركنا الأمور تسير في مسارها. نعم، في الحقيقة كان أبي يبدو غريبا في بعض الأحيان، ولكن ألم يكن ذلك يحدث دائما؟ ومن ثم فقد كان سلوكه يبدو لنا كما ألفناه دائما. •••
في الحقيقة كانت جميع الأمور الغريبة تبدو في بادئ الأمر مجرد نتيجة منطقية لبعض سماته الشخصية في مواجهة موقف جديد؛ فقد كان أبي يكبر في السن، وتركته زوجته بعد زيجة استمرت ثلاثين عاما؛ ولهذا كان افتراض أنه يفتقد للدافعية أقرب للتصديق.
فقد أنهكه الانفصال عنها، وقد كان معارضا بشدة لفكرة الطلاق؛ لأنه كان من ناحية يريد البقاء مع أمي، ومن ناحية أخرى كان يرى أن بعض الأمور تمثل التزاما قويا. ولكنه لم يدرك بما يكفي أن هناك أمورا قد استنفد تحملها رصيد الصبر. فعلى العكس تماما من أنماط الحياة المرنة المعروفة اليوم كان أبي يتمسك بقرار تم اتخاذه قبل عقود ولم يرد فسخ عهد بعد توكيده. وكان في هذا الجانب أيضا ينتمي إلى جيل آخر غير الذي تنتمي إليه زوجته التي تصغره بخمسة عشر عاما؛ إذ لم يكن الأمر بالنسبة إليها يتعلق بوعد قطعته على نفسها، وإنما بحياتها وإمكانية أن تجد السعادة في مكان آخر. وعندما تركت أمي البيت ظل أبي متشبثا في داخله بتلك العلاقة المنتهية، وفيا لأمر قد ذهب أدراج الرياح.
أدى هجر أمي لأبي إلى دخوله في حالة من الاكتئاب والكسل، وكأنه آلة فقدت آخر زنبرك كان يعمل فيها. ترك أبي كل شيء، حتى العمل في الحديقة، مع أنه كان يعلم أن أولاده مشغولون جدا في أعمالهم، ويتأوهون ألما من هذا الحمل الإضافي. كان أبي قد تنصل فعليا من كل واجباته، ولم يبق أثر من همته ونشاطه كما كان في الأيام الخوالي؛ تلك الهمة التي كانت تجعله لعقود طويلة يحقق تقدما في كل ما يريد. أخبرنا أبي بطريقة مقتضبة أن الدور قد حان الآن على الشباب؛ لأنه قد عمل في حياته بما يكفي.
مثل هذه الأعذار كانت تضايقنا، إلا أنها كانت فعلا أعذارا، ولكن لشيء غير الذي ظنناه. كنا نعتقد أن السبب في حالة التراخي التي كانت تعتريه هو كسله، بينما كان العكس صحيحا؛ فقد كان كسله نتيجة للعجز الذي أصابه. ولأن الواجبات، حتى البسيط منها، كانت تتراكم عليه، فقد كان يشعر أنه فقد السيطرة على الأمور؛ لذا قرر التخلي عن أي مسئولية.
وبدلا من أن يسقي نباتات الطماطم يوميا، كان يمضي وقته في لعب الورق منفردا، أو في مشاهدة التليفزيون. أذكر كم كانت رتابة الأمور التي تمتعه تبدو لي مقززة. كانت حياته بالنسبة إلي، وأنا أحاول أن أجد طريقي في الحياة العملية وقتها، تفوح منها رائحة اللامبالاة العطنة. لعب الورق ومشاهدة التليفزيون؟! لا يمكن اعتبار تلك الأمور محتوى للحياة أبدا، هكذا كنت أرى الأمور، لكني لم أحاول أن أجعل من رأيي موضوعا للمناقشة. كنت أرجو أبي، كنت أسخر منه وكنت أستفزه، كنت أتحدث أمامه عن الكسل وفقدان العزيمة، إلا أن كل المحاولات - حتى أكثرها إلحاحا - لم تفلح تماما في إخراجه من الحالة التي كان عليها. وكان أبي يتلقى جميع الهجمات عليه دون أن يحرك ساكنا، وكأنه حصان يقف وسط العاصفة دون حراك، ثم كان يستكمل حياته اليومية كالمعتاد.
لو لم أكن في ذلك الوقت مضطرا إلى قضاء عدة أشهر كل عام في البيت، حيث كنت أعمل منفذ صوت وفيديو في مسرح مدينة بريجينتس لأكسب عيشي بجانب عملي في الكتابة، لكنت تجنبت المرور ببيت والدي تماما. وبعد مكوثي عدة أيام هناك كنت أغرق في حالة من الاكتئاب. وهكذا كان الوضع أيضا مع إخوتي الذين تركوا البيت الواحد بعد الآخر. تفرق الأبناء وأحكمت الوحدة شباكها حول أبي.
هكذا كانت حالتنا المزاجية في عام 2000 عندما لم يكتف المرض بافتراس عقل أبي، بل امتد أيضا إلى الصورة التي رسمتها له وأنا طفل فافترسها. طوال طفولتي كنت فخورا بأني ابنه، واليوم أصبحت وبصورة متزايدة أعتبره أحمق.
أعتقد أن جاك دريدا كان محقا عندما قال: «عندما يكتب المرء، فإنه يبحث دائما عن الغفران.» •••
حكت العمة هدفيج أنها جاءت ذات مرة لزيارة أبي بصحبة إميل - الأخ الأكبر من بين ستة إخوة لأبي - وكان إميل قد أحضر معه ماكينة ورداء الحلاقة، ولا تذكر عمتي إذا كان أبي قد وافق على قص شعره ذلك اليوم أم لا. كان اليوم قد انتصف عندما دهشت عمتي لرؤية طبق به بقايا طعام موضوعا على الأريكة في غرفة المعيشة. وبعد ذلك سقط كوب من يد أبي، وظل يحدق في الزجاج المحطم على الأرض عاجزا عن التصرف. عندها عرضت عليه عمتي أن تقوم هي برفع الزجاج من على الأرض، وسألته عن مكان المكنسة والجاروف، ولكنه عجز عن تحديد مكانهما، ورأت فجأة الدموع في عينيه. في هذه اللحظة تحديدا أدركت عمتي الأمر.
ولكنهما لم يتحدثا عن ذلك أبدا. وخاض أبي تلك المعركة ضد نفسه دون أن ينطق بكلمة واحدة؛ لم يحاول أن يقدم تفسيرا، كما لم يقدم على أي محاولة للهروب، إلا عندما توجه في رحلة حج إلى مدينة لورد بفرنسا.
كان ذلك في عام 1998 بصحبة ماريا، أخته الكبرى التي يناديها الجميع ميلي، وإيريش، أصغر إخوته الذين هم على قيد الحياة، وفالتراود، زوجة أخيه. أبي - الذي لم يسافر مع زوجته وأولاده في عطلة أبدا؛ لأنه رأى العالم في أثناء الحرب كما يدعي - يخرج الآن في رحلة طويلة نسبيا وبداخله بصيص من الأمل في الحصول على الرحمة.
هناك يقف المرء ويبتسم ابتسامة جوفاء، ويصلي بالنهار كما يصلي بالليل، وكأن صلوات الليل ليست ذات تأثير كاف.
ويحكى أن ميلي التي كانت تعاني وقتها من مشكلات في قدميها قالت له: «يمكنك أن تسير نيابة عني وأنا أفكر نيابة عنك.» •••
أصعب الأمور هي تلك التي لا نفهمها؛ ولذلك فقد تحسن الوضع عندما زادت العلامات التي تشير إلى أن أبي يعاني مما هو أكثر من النسيان وفقدان الدافعية؛ فقد أصبحت الأمور اليومية الاعتيادية تمثل له مشاكل مستعصية على الحل، ولم يعد ممكنا تبرير ذلك بأنه شارد الذهن وحسب؛ لم يعد خداع النفس ممكنا. في الصباح كان يرتدي نصف ملابسه بالمقلوب، أو يرتدي أربعة أردية بعضها فوق بعض، وفي المساء يضع البيتزا المجمدة بعلبتها في الفرن، أما جواربه فكان يضعها في البراد. ومع أننا أدركنا حجم المأساة شيئا فشيئا، فإننا أدركنا في لحظة ما أن أبانا لا يعاني حالة من الكسل، بل يعاني مرض ألزهايمر.
لسنوات عديدة لم يخطر ذلك ببالي؛ فقد كانت صورة أبي التي رسمتها له في مخيلتي تقف في طريق تصديق حدوث شيء كهذا. حتى وإن بدا الأمر غريبا، فأنا لم أظن أبدا أن أبي سيفعل شيئا مثل ذلك! •••
خفف استبصار حقيقة الأمر الوضع علينا جميعا؛ فقد أصبح للفوضى التي عانيناها في الأعوام الماضية مبرر يمكننا تقبله، ولم نعد نشعر بأننا محطمون كما كنا. ولكن الإحساس بأننا قد أضعنا كل هذا الوقت الطويل نصارع شبحا كان إحساسا مريرا؛ فقد كان أحرى بنا ألف مرة أن نستغله بصورة نافعة، ولو كنا أكثر ذكاء وانتباها واهتماما لوفرنا على أبينا، بل وعلينا أيضا، كثيرا من المشقة، ولكنا اعتنينا به بصورة أفضل وطرحنا بعض الأسئلة المهمة في وقت مبكر. •••
مثلت بدايات المرض فترة عصيبة وفشلا ذريعا لنا؛ إذ كانت فترة الخسائر الكبرى.
فكان من ضحاياها ذكريات حياة أبي، وبعض الأشياء الملموسة التي كانت لها أهمية في حياته؛ فقد اختفت دراجة أبي ذات الثلاث سرعات والمقود المعوج والمقعد الجلدي، التي كانت لديه منذ الخمسينيات. على مدار عقود طويلة حتى عند سقوط الثلج أو تجمع الجليد كان أبي يركبها في طريقه إلى عمله في الإدارة المحلية، حيث بدأ عمله هناك في وظيفة كاتب عندما كان في السادسة والعشرين من عمره. كما فقد أيضا الصورة النصفية التي أخذت له بعد الحرب مباشرة ويظهر فيها وهو شاب لا يتجاوز وزنه الأربعين كيلوجراما. كان أبي يحمل معه تلك الصورة مع صورة لأمه في حافظة نقوده، وذلك لأكثر من ستين عاما. وهي أشياء كان قلبه متعلقا بها بشدة.
حكيت ذات مرة لصديقة اسمها أدريان عن صورة أبي وعن مدى حزني لفقدها، ووصفتها لها قائلا: كان أبي قد أتم لتوه عامه التاسع عشر، وقد التقطت بعد أيام قلائل من إطلاق سراحه من أحد المعسكرات الروسية، حيث تعافى هناك من مرض الدوسنتاريا، وجاء تعافيه مصادفة أكثر منه نتيجة للعلاج بعد أن قضى أسابيع على شفير القبر وسط كم هائل من البؤس يصعب تصوره. كان أبي يحب أن يري الناس تلك الصورة، حيث يبدو بشعر قصير جدا، وملامح وجه شديدة البروز، وطريقة خاصة في التعبير، يصعب فهمها؛ فقد كان يبدو على عينيه اللامعتين الغامقتين الصفاء والانزعاج الشديد في آن واحد؛ مما جعلهما جذابتين. لم تكن صورة يقف الرائي عندها ساخرا من أن صاحبها يحملها معه بدلا من أن يحمل في حافظة نقوده صورة لزوجته وأولاده.
عندما ذهبت إلى فولفورت نبهتني أدريان لعمل نسخة من تلك الصورة، وتعجبت لعدم قيامي بذلك حتى الآن. كان ذلك في عام 2004 عندما عدت من برلين ووصلت في المساء، حيث كان أبي يوجد في هذا الوقت تقريبا يوميا في بيت بيتر وزوجته أورزولا يراقب حفيدته وهي تلعب في الحديقة. عندما وصلت إلى البيت أخذت أفتش في ستراته وبناطيله، وبحثت في الأدراج والخزانات، تماما كما كنت أفعل قبل سنوات وأنا طفل. ولكن بحثي لم يكن مجديا هذه المرة. واتصلت بهيلجا لأسألها إذا كانت تعرف مكان حافظة نقود أبي، وقالت لي إنها تعتقد أن الحافظة مفقودة منذ سنوات؛ فقد ضيعها أبي. أذكر حتى اليوم كم أصابتني خيبة الأمل، بل والغضب، عندما سمعت ذلك؛ غضب من نفسي، غضب منا جميعا؛ لأننا لم نتصرف في الوقت المناسب.
حادثت أبي في المساء بشأن الصورة، واختلق قصة غريبة؛ حيث قال إنه كان في زيارة لمصر واليونان، وهناك سرقت منه بناطيله.
فسألته بدهشة: «كيف؟ ماذا؟ أين؟» واتضح لي فجأة أن أبي لم يفقد الصورة فحسب، وإنما ضاع منه ما كان يعرفه عن ماضيه. «أبي، أتقول إنك كنت في مصر؟» «طبعا لم أكن هناك باختياري، وإنما في إطار عملية التهجير القسري للأطفال.»
فسألته وأنا ذاهل : «وهل أعجبتك الحال هناك؟»
فهز كتفيه وقال: «كان الأمر مملا. لم أر هناك أي شيء، ولم أعايش أي أحداث. كنت هناك غير قادر على فعل أي شيء، ولا أفعل شيئا ولا أعرف شيئا.»
كيف كانت طفولتك يا أبي؟
في الحقيقة كانت جيدة هادئة. كل ما كان لدينا كان بدائيا؛ سواء من حيث النوع أو الكمية أو التأثير.
هل تفكر كثيرا في الماضي؟
ما زلت أتذكر بعض الأشياء، لكني لم أعد أتذكر كل شيء. أعتقد أني انفصلت عن ذلك كله.
ماذا تذكر عن أبيك؟
حاليا، لا شيء.
ولكن كان لديك أب على أي حال.
بطبيعة الحال.
لم تكن له أهمية خاصة في حياتك، أليس كذلك؟
لا أملك إلا أن أجيب ببلى عن هذا السؤال. لم يكن لديه كثير من الأفكار المهمة. لم يكن يعمل عقله كثيرا.
وماذا بشأن أمك؟
أمي! تعلمت منها التواضع؛ فقد كانت إنسانة متواضعة، وودودة، ومتعاونة. كان الجميع يحبها.
الفصل الثالث
أصبح من النادر أن تجد طفلا يحمل اسم أوجوست، ولكن أبي قدم خدمات جليلة لهذا الاسم على مدار ثمانية عقود ونصف. كان زملاء المدرسة ينادونه اختصارا جوستل، عدا ذلك فقد كان اسمه يستخدم كاملا؛ سواء من جانب والديه أو إخوته أو زوجته أو زملائه في العمل: أوجوست.
ولد أبي في الرابع من يوليو عام 1926، وكان الطفل الثالث من بين عشرة أطفال. كان والداه من صغار المزارعين في فولفورت، وهي إحدى قرى وادي الراين في منطقة جبال فورآرلبرج، وقد أدى قانون المواريث إلى تفتيت الرقعة الزراعية وعدم وجود مزارعين كبار في تلك المنطقة. كان جداي يمتلكان ثلاث بقرات وحديقة فاكهة وحقلا وجزءا من الغابة وحق إنتاج ثلاثمائة لتر من مشروب «العرق» ومنحلا، ولم يكن ذلك كافيا لإعاشة عائلة لها هذا العدد الكبير من الأطفال. فكان جدي أدولف جايجر يكسب عيشه عن طريق عمله في صناعة الكهرباء الناشئة، وكان يمر راكبا دراجته عبر القرى في وادي الراين السفلي؛ ليسجل قراءة عدادات الكهرباء في البيوت.
وعندما كان يمر جدي بدراجته دون قصد فوق مسمار انفصل عن حدوة حصان فيحدث ثقبا في إطار الدراجة، كان يترك الدراجة أمام البيت حتى يقوم أحد الأولاد بإصلاحها، وغالبا ما كان أوجوست يقوم بذلك. وكنت أنا في طفولتي أترك الدراجة أمام البيت أيضا ليقوم أبي بإصلاحها. وكما كان مطلوبا من أبي أن يطيع والديه، أصبح مطلوبا منه بعد ذلك أن يطيع أولاده. كان أولاده أبناء عالم مختلف عن عالمه، وكانوا يعتقدون أنهم على دراية بما يجب عمله، وبكيفية عمله بطريقة صحيحة.
يقال إن جدي كانت له قدرة عالية على الحساب، عدا ذلك كانت مواهبه متوسطة، ولم يكن رجلا قوي البنيان. كان يفضل إعطاء الأوامر على القيام بالعمل؛ لأن الجميع في الأسرة كان أكثر مهارة منه، وأصبحوا جميعا أقوى منه بنية، ولم يكن يرغب في إحراج نفسه أمام زوجته وأولاده؛ لذلك لم يكن جدي يقول كيف يجب أن يتم عمل شيء ما، بل كان يكتفي بإصدار أمر بعمله، وكان بذلك يتجنب أن يسأله أحدهم عن كيفية القيام بالأمر بصورة أفضل.
كانت كل حركات جدي تعبر عن محاولة فرض السلطة، وكانت يده تمتد بالضرب بسرعة؛ لذا لم تكن مناورات أولاده لتجنب أوامره تنجح كثيرا. وعندما كان العبث الذي يقوله جدي يتخطى حدود الاحتمال، كانوا يعارضونه (هذا ما قالته لنا ميلي وباول).
كان الأولاد الكبار يعتبرون أباهم عامل إزعاج، وكانوا يحاولون تجنبه، فكانوا مثلا يذهبون إلى الكنيسة يوم الأحد قبله أو بعده بثلاث دقائق، ولكنهم لم يكونوا يذهبون معه أبدا. ولأنه كان على هامش العائلة فقد كان يبذل جهودا كي يجعل علاقته بالإخوة الأصغر أفضل؛ ولذلك كان يعاملهم بطريقة أعقل، وكان يلعب معهم لعبة «الثعلب والدجاج»، كما كان يأخذهم معه في نزهات طويلة. وفي تلك الفترة كان قد كبر، ولكن صدى صوت صفعاته ظل مسموعا في حكاياتهم.
في إحدى المرات جعل جدي ابنه إميل يحمله على ظهره عبر شفارتساخ، مع أنه كان في الرابعة عشرة من عمره. كان ذلك عام 1937، عندما رأى أن خلع الحذاء عملية مرهقة جدا بالنسبة إليه.
وكان أيضا يقرأ كثيرا، وإن كانت عادة القراءة أو عادة توزيع الصفعات لم تكن أي منهما من العادات التي ورثها لأبنائه؛ فقد كانت صفات الأم هي الأكثر تأثيرا وانتشارا بينهم.
كانت جدتي أكثر ذكاء من جدي؛ هذا ما حكاه لنا أبي عندما كانت خيوط الذاكرة ما زالت تربطه بتلك الفترة من عمره. كانت الجدة طيبة وودودة، وكانت نحيفة وقوية البنيان، وكانت عضلات ذراعها الأمامية بارزة ومقسمة بوضوح. كان أبوها يعمل حدادا في فولفورت، وقبل أن تذهب للعمل في ورشة تريكو كانت تساعده في العمل في ورشته؛ لأنه لم يكن لها إخوة ذكور، ولأن أباها لاحظ أنها ماهرة في العمل.
ما زالت ورشة الحدادة قائمة هناك عند حافة الغابة خلف القصر ولها ساقية كبيرة. قبل الحرب العالمية الأولى وفي أثنائها، كانت عربة النقل تحضر الخامات المطلوبة من دورنبيرن وتضعها عند بداية جادة «القصر»، وبعد المدرسة كانت بنات الحداد الخمس يحملن القضبان الحديدية الطويلة ويصعدن بها الشارع المرتفع وصولا إلى الورشة.
كانت الجدة سيدة هادئة وخجولة تتحاشى الظهور، وكانت ترى أن الحياة لا تعدو أن تكون مرحلة استعداد للآخرة. وأولادها لا يتحدثون عنها إلا بكل احترام وتقدير، وربما كان هذا هو السبب في قلة حكاياتهم عنها. كانت تشعر كثيرا أنها أشبه ما تكون بخادمة رخيصة الأجر، وكان الناس في القرية يقولون إن تريزيا جايجر واحدة من أكثر ثلاث نساء عملا في القرية، وأنها كانت قوية وتقدر على المكوث في ورشة الحدادة تطرق الحديد حتى يتوهج. والعمل في الزراعة ووجود أطفال صغار يحتاجون دائما إلى اللفافات القماشية النظيفة، كانا يجعلانها كل مساء متعبة ومبتلة الثياب بسبب نفض اللفافات المغسولة لتجفيفها. وأحيانا كانت تستلقي في أثناء النهار على الأريكة، وكانت تطلب من أحد الأطفال أن يوقظها بعد خمس دقائق، ولكن الأطفال كانوا يتركون أمهم تنام.
وعندما كانوا يذهبون لقطف الفاكهة كانت تقول دائما قبل بدء العمل: «اللهم بارك في عملنا.»
ما زالت عمتي إيرينه - الأخت الصغرى لأبي - تردد ذلك أيضا كلما ذهبت إلى الحقل. كان في الحقل بجوار جدتي على مدار ما يناهز العقدين من الزمان بصورة شبه دائمة قفص فاكهة فيه طفل صغير. تعلم الأطفال المشي في داخل أقفاص الفاكهة. وكان الحرفان الأولان من اسم جدي يتم حفرهما على أقفاص الفاكهة «ألف وجيم»، وكان حماه هو من يصنع له الخاتم المعدني الخاص بذلك؛ فقد كان حدادا. كذلك كانت طباعة أول حرفين من اسمه بالحرق على خشب الأقفاص أمرا مميزا لمنتجاته. وكان يبيع تلك الفاكهة وصولا إلى المجر وباريس، ومع ذلك بقي فقيرا، وظل هناك يسكن فوق التل عند القصر، حيث يمكن رؤية ما بداخل منطقة أبينزل، ويمكن رؤية ما وراء بحر الجنوب وصولا إلى لينداو، وإذا كان الجو معتدلا يمكن أن ترى حتى ميناء فريدريش.
دأبت تريزيا جايجر على أن تقول لأبنائها: «لا تتأخروا في العودة إلى البيت، وإذا تأخرتم فادخلوا دون إحداث جلبة؛ حتى لا أستيقظ.»
كان مسار اليوم ثابتا، ونادرا ما كان يخرج عن المألوف. كانت جدتي تحاول إيقاظ أطفالها في الصباح عدة مرات حتى يفيقوا، وكثيرا ما كانوا يضطرون إلى الذهاب إلى المدرسة عدوا حتى لا يتأخروا. وكانت الأحذية رديئة؛ فقد كان الثلج يظل عالقا بالنعل الخشبي للأحذية في الشتاء؛ لذا كان يجب ضربه في الأرض المرة بعد المرة للتخلص من الثلج العالق. كانت الأحذية الخشبية تعجن الثلج الذي كان يظل متراكما منذ بداية عيد القديس نيكولاوس وصولا إلى الربيع.
كان الأطفال يتناولون على الإفطار عصيدة الذرة التي يبللونها في اللبن الدافئ الذي يقدم لهم في صحون الحساء. جدي وجدتي وحدهما كانا يتناولان القهوة، وجدي فقط كان يحصل على بعض العسل، عدا أيام الأحد حيث كان الجميع يحصل على قدر من العسل. وبعد الفراغ من الطعام كانوا يصلون من أجل الفقراء والتعساء.
لم يتلق الأطفال تربية قاسية، بل كان يتم ترويضهم بصورة حازمة، حسب ما كانوا يقولون، حتى عندما كانوا يتحدثون عن الأبقار لم يكونوا يقولون إنهم يربونها ولكن يروضونها، وكانت مهمة الأطفال رعاية الأبقار، ومهمة الوالدين رعاية الأطفال.
قياسا على المتعارف عليه اليوم، كان الأطفال يعانون سوء التغذية؛ فقد كانوا لا يحصلون تقريبا على أي خضراوات، ويتناولون قليلا من اللحم وكثيرا من اللبن والخبز وشحم الخنزير. كان الجميع ينتظر بشغف بشائر ثمار الفاكهة كل عام؛ حيث كان أحد الأطفال يستيقظ أحيانا في الخامسة صباحا ويخرج متسللا لينظر إذا كانت أولى ثمار الكمثرى قد سقطت بالفعل أم لا. كان الأطفال يبنون أعشاشا يخبئون فيها ما حصلوا عليه؛ كيلا يضطروا إلى تقاسمه مع بقية الإخوة.
إلا أن الحرمان الذي كان يعانيه هؤلاء الأطفال كان أقل كثيرا مقارنة بالأوضاع السائدة آنذاك. الأمر الأكثر تأثيرا كان معاناة الأطفال من قلة إحساسهم بحب والديهم واهتمامهما؛ فنظرا إلى كثرة عدد الأطفال كان الطلب يفوق المعروض كثيرا. كان كل شيء يتم تقسيمه عدة مرات.
وبمجرد أن يصبح الطفل قادرا على الإمساك بإحدى العدد، كان عليه أن يساعد في العمل. وكان الصغار يعتنون بمن هم أصغر. أما بالنسبة إلى الحصان الذي استعاروه من الجيران، فقد كان من الواجبات الضرورية أيضا ضبط فرامل العربة التي يجرها حتى لا تنزلق. كذلك كان يتم إرسال الأطفال إلى الحقل لجمع الحشائش للخنزير الذي كان لديهم في الحظيرة. وذات مرة وجدوا يوزيف - الأخ الأوسط من بين سبعة إخوة - فاقدا الوعي على إثر سقوطه من فوق شجرة. كذلك كان الأطفال يجمعون من بين الحشائش المحصودة الحشائش التي لا تأكلها الأبقار، وكانوا يدفعون عربة اليد وعليها التفاح إلى السوق في بريجينتس، وكانت الجدة تلحق بهم على الدراجة. وفي طريق الرجوع كان أبي وأخوه باول الذي يصغره بعام يتبادلان دفع العربة والركوب فيها وتوجيه الحصان، وكانت أحذيتهما المصنوعة من خشب مثبت بالمسامير تطقطق فوق بلاط الأرضية. وكانت الشوارع في ذلك الوقت ما زالت ملكا للأطفال.
والتعبير المستخدم بأنه يتم «انتزاع شخص ما رغم إرادته لأداء عمل» كان ينطبق عليهم حرفيا. كان الأولاد يجرون عربة القش ويحصدون سخرية أخواتهن اللاتي كن يقلن: «استخدام الحمير يغني عن استخدام الخيول!»
كان هناك عمل للأولاد وعمل للبنات ؛ فالأولاد كان عليهم العمل في الحظيرة، أما الفتيات فكن يستيقظن في الخامسة فجرا ليذهبن إلى الحقل.
ذات مرة ضربت عاصفة حقل الذرة فأتت عليه تماما، واضطر الأطفال للعمل على مدار يوم كامل ليربطوا عيدان الذرة بالحبال في العصي لتقف مستقيمة مرة أخرى. وكانت الأسرة تعتمد بصورة أساسية على الذرة لصنع طعامها اليومي من عصيدة الذرة.
كان هناك اكتفاء ذاتي كامل، باستثناء الخبز والدقيق والسكر والملح. لم تكن العائلة تشتري إلا الضروري جدا، حتى إن ورق الحمام كان يتم صنعه من ورق الجرائد التي كانت تقص إلى شرائح في حجم اليد، وكان هذا أيضا من واجبات الأطفال؛ حيث كان يجلس أحدهم إلى المنضدة في غرفة المعيشة ويقطع الورق.
كذلك كان الورق يستخدم في التدفئة أيضا، ولم تكن هناك قمامة؛ فقد كان لديهم كومة سماد وخنزير وفرن.
كان أبي يتمنى طوال حياته أن يكون مستقلا، وهذا يرجع لطابع الفلاح المترسخ بداخله، وبينما رأى هو في ذلك نفعا له، كان ذلك الطابع يثير استياء زوجته وأولاده الذين نشئوا في عالم من المفاهيم المختلفة مثل الاستهلاك والتخلص من القديم. وتعد القدرة على إصلاح الأشياء واستعمالها مجددا، والقناعة التي ورثها من والديه بتأجيل بعض الاحتياجات أو حتى إلغائها تماما، من الأمور الآخذة في الانقراض في هذا البلد.
كان في قبو البيت الكبير في وادي الراين وعاء إعداد العرق، وكنت في طفولتي كثيرا ما أجلس على دلو مقلوب أو قطعة خشب أراقب العرق أثناء تصنيعه. كنت أحب صوت النار وهي تتأجج في الفرن، وصوت الكحول وهو يسقط في الزجاجات الكبيرة الحجم، ورائحة العرق العطرية في الحجرة المرتفعة الحرارة، ورائحة العمل التي تفوح من الرجال. وفي الخارج كنت أشاهد بقايا الثمار المعصورة وهي تبرد في حفرة في الأرض وينبعث منها بخار يغطي الفروع اليابسة لأشجار الكمثرى التي عراها الشتاء.
أما بالنسبة إلى أبي وإخوته، فقد كان صنع العرق يعني لهم وجود مياه ساخنة، والتي كان يتم نقلها مباشرة إلى حوض في الورشة المجاورة حيث توجد خلف السياج حظيرة الدجاج. كان المشهد يشبه أفلام رعاة البقر: رائحة العرق وصوت الدجاج وأولاد الفلاحين الذين يغتسلون عرايا في الماء الساخن. وكان هذا المشهد يتكرر عشر مرات في العام تقريبا، أما باقي السنة فقد كان الأطفال يغتسلون في المطبخ عند الحوض الوحيد في البيت، وبماء بارد.
وبقي أبي متعلقا بأسلوب حياته البطيء الذي عهده منذ كان طفلا؛ فقد ظل يغتسل في أغلب الأحيان عند حوض الغسيل، منحنيا بشدة على الحوض مصدرا أصوات تأوه عالية وهو يضرب وجهه بالماء، حتى إن الماء كان يندفع لأمتار بعيدة. ثم كان يدخل خرقة التنظيف بالإصبع السبابة في أذنه بعمق ويهزه بقوة، لدرجة أن مجرد مشاهدته يفعل ذلك كانت مؤلمة.
هذه هي الغنيمة الهزيلة التي خلفها لي ما نقل إلي عن طريق المصادفة من حياته، وكأنها قليل من أعواد القش التي خلفتها الريح في حقل بعد حصاده.
وفي عام 1938 بدأ الحكم النازي، وكانت العائلة تعد من المسيحيين الاجتماعيين في القرية. لم يفهم جداي انتماءهما إلى الكاثوليكية على أنه يقتصر على الذهاب إلى الكنيسة يوم الأحد وحسب. كذلك لم يكن للعائلة أي مصالح اقتصادية خاصة يمكن للنظام السياسي الجديد أن يستفيد منها. يرجع الفضل في أن العائلة كانت مؤمنة ضد الأزمات بدرجة كبيرة لعملها بالزراعة، ولوظيفة جدي في صناعة الكهرباء التي كانت تشهد ازدهارا متناميا.
كانت جدتي تقول: «إن الشيطان هو من يقوم بحشو الأسلحة بالطلقات.» أما جدي، الذي كان شديد العناد، فقد عاد إلى استخدام صيغة «سيادتك» الرسمية في كلامه مع أخي زوجته الذي كان ينتمي للحزب النازي.
لم تكن العائلة تنشغل بالحديث عن السياسة كثيرا؛ فعند تناول الطعام كانت الأفواه تنشغل بالطعام، وبعده لم يكن هناك وقت للجلوس والحديث. كان كل شيء يحدث بسرعة؛ تناول الطعام ثم النزول سريعا للعودة إلى العمل. وبعد ذلك تم استدعاء إميل الأخ الأكبر للالتحاق بمنظمة «شباب هتلر»، ولكنه رفض بحجة أنه عضو في الصليب الأحمر. وعندما تم تهديده بالفصل من المدرسة إذا لم يرجع عن ذلك، قرر جدي الدخول في مواجهة معهم، وكانت النتيجة السماح لإميل بالبقاء في المدرسة الثانوية المنخفضة المصروفات، ولكن ألغيت معونة الأطفال الثمانية التي كانت تتلقاها الأسرة في ذلك الوقت. ولم تواجه الأسرة مزيدا من المشاكل، على خلاف جيراننا المباشرين الذين تم التشهير بهم عن طريق لوحة علقت على بيتهم تقول: هذه العائلة ضد الشعب الألماني.
ويتذكر باول حتى اليوم أن كلمة عائلة (بالألمانية
Familie ) التي تبدأ بحرف
F
كبير كانت مكتوبة بحرف
f
صغير. كان عمره وقتها أحد عشر أو اثني عشر عاما، وكان يقف أمام تلك اللوحة متعجبا من هذا الخطأ في كتابة أول حروفها، غير مدرك أنه مقصود. كان يسكن البيت المجاور زوجان حديثا الزواج، حصل أبي في خريف عام 2009 على نفس الغرفة في دار المسنين التي كانت تقيم فيها الزوجة قبل وفاتها عن عمر يناهز الرابعة والتسعين. وهكذا تترابط قصص حياة سكان قريتنا.
كان أبي وإخوته الذين كانوا في سن المدرسة قبل بداية الحرب تلاميذ في المدارس الإلزامية والثانوية العليا. وما أتاح لهم إمكانية الذهاب إلى المدرسة كان احترام والديهم للتعليم واعتباره بديلا لعملية الزراعة البسيطة التي كان على الأكثر واحد فقط من الأولاد يعيش عليها، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فرحتهم بمواهب أبنائهم. فضلا عن ذلك كان من المعروف أن تلاميذ المدارس يعملون في البيت أفضل ممن يتعلمون الحرف. لم يكن هناك ما يتعارض مع فكرة المدرسة، اللهم إلا في حالة روبيرت، ثالث أصغر الإخوة؛ فقد ترك دراسته الثانوية لأنه كان يخشى من أن والديه يخططان لجعله راهبا. •••
في فبراير 1944، استدعي أبي للخدمة العسكرية، وكان ابن تسعة عشر عاما وتلميذا في مرحلة الثانوية العليا، ومن ذوي أصول ريفية، وليست لديه معرفة كبيرة بالعالم ولا خبرة واسعة في الحياة. كان قد غادر مرحلة الطفولة ولم يصل إلى مرحلة النضج بعد، ليس بالعسكري ولا بالمدني، أو كما كان أندري بيلي يسمي من هم على حاله: التلاميذ الجنود.
تم نقله من «خدمة العمل الإلزامي» إلى «خدمة السلاح» في منتصف عام 1944؛ تقريبا مثل ما حدث مع إميل الذي يكبره بثلاثة أعوام وباول الذي يصغره بعام. أما من بقي في البيت فأصبح الآن يتابع التطورات السياسية باهتمام؛ خوفا على الإخوة والأبناء الذين يشاركون في الحرب، وعندما كانت تمر الأسابيع دون سماع أخبار من الأولاد، كان القلق والتساؤلات يتزايدان.
كان حظ إميل جيدا؛ فقد أسره الأمريكيون في أفريقيا سريعا، حيث أمضى بقية الحرب في الأسر الأمريكي، وعمل حتى نهاية الحرب مترجما في مونتانا، وبعد فترة أرسل رسالة إلى أسرته فعرفوا أنه في مكان آمن. أما باول فقد أسره النيوزيلنديون عام 1945 في إيطاليا، وكان يكسب نقودا إضافية من خلال أعمال يدوية يقوم بها عن طريق إبر حياكة صنعها من قطع من الأسلاك الشائكة. كذلك كان يصنع من أكمام البلوفرات المخلوعة قبعات لزملاء المعتقل الذين كانوا يعانون من حرارة الشمس أو الذين يريدون تحسين مظهرهم. وظل يرتدي قبعته حتى بعد انتهاء الحرب بفترة طويلة.
ولأن باول كان قد بلغ بالكاد عامه السابع عشر، فقد عاد في صيف 1945 إلى البيت. لم يبلغ بعودته إلى البيت أحدا قبلها، بل عاد دون أن يعلم بذلك أحد. دخل أولا إلى الحظيرة حيث البقرات الثلاث، ثم إلى مكان صنع العرق حيث يقوم بذلك ابن عمه رودولف، الذي سبقه على السلم الخلفي إلى المطبخ، وهناك كانت تعمل الجدة التي كانت وقتها قد أنجبت طفلها العاشر قبل أيام، والذي كان غلاما، ولكنه مات بعد ولادته بساعات قليلة؛ لأن الحبل السري كان ملتفا حول عنقه.
دخل رودولف وقال: «يا تيريزا، يوجد هنا جندي يبحث عن مأوى.»
ترددت الأم لحظات بالرغم من أن البيت كانت به أماكن خالية لغياب ثلاثة من الأبناء. ثم دخل باول من ظل الباب إلى المطبخ والدموع تنهمر على خديه.
كما بدا الأمر جيدا بالنسبة إلى أبي في البداية أيضا؛ فقد أصيب بإصابة قوية في ساعده الأيمن في أثناء فترة التدريب؛ لذلك حصل على إجازتين لتلقي العلاج. وفي كل مرة عندما كان الجرح يبدأ في الالتئام كان يعرض أن يذهب إلى البيت لإحضار مشروب العرق لأعضاء السرية استعدادا لاحتفالات عيد الميلاد، طمعا في أن يقضي أسبوعي العيد في فولفورت، إلا أنه أرسل إلى الجبهة الشرقية في شهر فبراير 1945. كان عمره حينئذ ثمانية عشر عاما، وأصبح يعمل سائقا دون حصوله على رخصة قيادة، حتى تسبب في حادث جسيم في منطقة شليزين العليا عندما فشل سائق عربة تجرها أحصنة في تفاديه وهما يمران على جسر متجمد فوق أحد السدود، وكانت آلة التنبيه متعطلة، والفرامل غير مجدية بسبب الجليد، فاضطر إلى توجيه السيارة نحو منحدر السد؛ مما أدى إلى انقلابها عدة مرات. وعندما هدده رؤساؤه بأن ما حدث سيكون له تبعات، وأنه سيعرض على محكمة عسكرية بتهمة التخريب المتعمد، رد على ذلك بالإشارة إلى عدم حصوله على رخصة قيادة وأنه كان من المفروض ألا يقوم بالقيادة أساسا.
وعندما اتضح أن كل شيء قد بدأ في الانهيار انفصل عن وحدته، وحاول مع زملاء آخرين من النمسا الوصول إلى الأمريكيين. وربما دفعتهم العجلة بسبب الحنين إلى الوطن إلى سلوك الطريق الأقصر؛ فبدلا من أن يسيروا في اتجاه الغرب اتخذوا طريق الجنوب عبر بومين الذي كان أقصر طريق إلى البيت، وإلى الروس أيضا. وبالفعل عندما وصلوا إلى كامبتال في الأراضي النمساوية تبدد حلم العودة السريعة إلى البيت.
عندما كان أبي يدعي بعد ذلك أنه رأى العالم في أثناء الحرب، فإنه لم يكن يعني الحرب، ولكن يعني ما بعدها. تم تكليفه في الأسر بالقيام بإنزال غنائم الحرب ونقلها، حتى وجد ذات يوم عظمة فاسدة في الحساء وأكلها من شدة الجوع، فأصيب في اليوم التالي بالحمى، وفقد وزنه بسرعة حتى وصل إلى أربعين كيلوجراما. وأمضى الأسابيع الأربعة التالية في مستشفى ميداني مؤقت على حدود مدينة براتيسلافا في ظروف لم أعرف عنها شيئا إلا قبل عدة أشهر. لم يكن والدي يحكي عن تلك الأسابيع الأربعة؛ حيث كانت حكاياته تبدأ دائما من اليوم الذي أطلق الروس فيه سراحه «لأنه لم يعد لي أي قيمة.»
وبعد ذلك قام رجال الصليب الأحمر بنقله مع آخرين إلى مارش على الحدود السلوفاكية النمساوية بالقرب من هاينبورج.
وبعدها ودعهم رجال الصليب الأحمر قائلين: «وداعا أيها النمساويون!» وحتى يومنا هذا يردد أبي تلك الكلمات عندما يكون مستغرقا في التفكير.
أما العودة إلى فورآرلبرج، فقد استغرقت ثلاثة أسابيع أخرى، وكان الأمر يشبه قطع سباق حواجز شاق، ولم يكن بحوزة أبي لا المال ولا الأوراق اللازمة للعبور من المنطقة السوفييتية إلى المنطقة الأمريكية. كما لم يرغب في عمل صورة للحصول على تحقيق شخصية؛ لأن استخراج الصور كان سيحتاج إلى أربعة عشر يوما أخرى. ولكن الحنين إلى الوطن استبد به، حتى إنه كان ينتظر فرصة العبور بصورة غير شرعية.
ورفض كل الأسرة التي عرضت عليه لينام عليها؛ لأنه كان يعلم أن بها قملا؛ لذا كان يفضل أن ينام في الحظيرة التابعة لأحد الأنزال أو في وسط كومة قش لدى بعض الفلاحين.
وبعد ستة أيام من الانتظار في أورفار ساعده بعض سكان فورآرلبرج في الاختباء تحت سرير سيارة من سيارات الصليب الأحمر، واستطاع بذلك أن يعبر نهر الدانوب إلى لينتس، وهناك خلصه الأمريكيون من القمل.
وهناك أيضا رضي بالتصوير؛ لأن لينتس توافرت بها إمكانية الحصول على صور سريعة، وظل يحمل تلك الصورة في حافظة نقوده قرابة ستة عقود حتى فقدها قبل أعوام.
وبعد إينسبروك طلب في القطار من أول شخص رآه من سكان فولفورت قطعة خبز، وعندما وصل إلى لاوتراخ حيث نزل من القطار، قابل أحد أبناء عمومته الذي لم يتعرف عليه في البداية لتغير شكله بسبب فقدان الوزن الشديد وقصة الشعر القصير، واصطحبه ابن العم إلى البيت.
يمكنني أن أتصور شعور أبي عندما عاد بعد غياب طويل، حتى أنا يتملكني شعور بالسعادة عندما أعود من فيينا وأبدأ بعد نفق آرلبرج في قراءة أسماء المحطات وكأنها جزء من قصيدة: لانجين، فالد، دالاس، براتس، بينجس، بلودنتس.
عاد أبي إلى البيت في الأسبوع الثاني من شهر سبتمبر، وتحديدا في التاسع منه. كان الضوء قد عاد للاصفرار، وأحضرت كومة القش الثالثة من الحقل قبل البدء في جمع الكمثرى والتفاح. وفي شهر أكتوبر عاد إلى مكانه في المدرسة من جديد في إحدى الدورات التدريبية التي تقدمها الأكاديمية التجارية لتلاميذ المدرسة الثانوية، وكأن شيئا لم يكن.
أم أن شيئا قد حدث بالفعل؟!
لم يدرك أحد في ذلك الوقت أن هذا الشاب ابن التسعة عشر ربيعا لن ينفتح على العالم مرة أخرى؛ لقد انتهى هذا الأمر بالنسبة إليه تماما. لعله أقسم وهو في المعتقل أنه إن قدر له العودة إلى البيت مجددا فسيمضي ما بقي له من عمر فيه. كم كان طريق العودة طويلا وبطيئا! وتغيرت تماما خطته لدراسة تقنيات الكهرباء؛ فالحقائق تغير المشاعر.
ما زلت أذكر وأنا طفل كيف كان موضوع العطلة يتسبب - كلما ذكر - في مشاكل كثيرة، عندما كان أبي يقول للمرة المائة إن جمال فولفورت يكفيه. كان مثل هذه الجمل يبدو مجرد حجج واضحة يداري بها كسله، وربما كانت أحيانا فعلا مجرد مبررات ... ولكن في بعض الأحيان فقط، بعد فترة طويلة بدأت أتفهم أن السبب في رفض أبي السفر كان خوفا مرضيا، وأن المخاوف التي تسكن قلبه لم تنته، وأنها كانت السبب في جعل تصرفاته تبدو للعائلة على ما كانت عليه؛ فقد كانت كل تلك الاحتياطات الغريبة التي كان يتخذها مجرد وسائل تساعده على ألا يتعرض لخطر ثانية. فلم يرد المخاطرة بأن يقع فريسة للغربة مرة أخرى.
وكانت سخرية القدر أن يشعر بعد أعوام قليلة بالغربة الدائمة، حتى إنه كان يتمنى كل يوم أن يعود إلى البيت، فقط لأنه نسي أنه في البيت.
انظر يا أبي، هذا سور الحديقة الذي بنيته بيديك.
صحيح، سآخذه معي.
لا يمكنك أخذ السور معك!
هذا أمر في منتهى السهولة.
هذا مستحيل يا أبي!
سترى.
أبي، أبي، بالله عليك! هذا مستحيل! ربما من الأفضل أن تخبرني كيف ستذهب إلى البيت، وأنت فيه بالفعل.
لا أفهم قصدك.
أنت في البيت وتريد الذهاب إليه، ولا يمكن أن نكون في البيت ونذهب إليه!
هذا أمر واضح.
إذن ماذا تقصد؟
لا يعنيني ما تقوله كثيرا بالقدر الذي يعنيك.
الفصل الرابع
تركنا الفشل الجماعي وراء ظهورنا، وفقدت الذكريات المؤلمة حدتها سريعا؛ لأننا أصبحنا نتعامل الآن مع أبينا برعاية وعناية أكبر، كذلك فإن المفاجآت التي تطرأ كل يوم أصبحت تشغلنا، حتى إننا لم نعد ننظر كثيرا إلى الوراء؛ فالمرض كان يضعنا كل يوم أمام تحديات جديدة. كنا حديثي عهد بهذا المرض، وحاولنا الحفاظ على سيطرتنا على حياتنا، مع أن أيدينا كانت مرتعشة لقلة خبرتنا ودرايتنا ومهارتنا في التعامل معه.
كان أبي يخرج كثيرا ليتجول، وغالبا ما كان يذهب إلى بيت أخي الأكبر بيتر المقابل لبيتنا، حيث يسكن وبناته الثلاث. ولكن كانت جولاته تخرج كثيرا عن مسارها المعهود؛ حيث كان يخرج أحيانا في جنح الليل ودون ملابس كافية وبنظرة ملؤها الخوف. ومؤخرا لم نجد أبي لفترة طويلة بعد أن دخل بالخطأ إحدى غرف الأطفال ونام على أحد الأسرة. كذلك كان يفتش أحيانا في الخزانات ويعجب لأن بناطيل أخي فيرنر لا تناسبه؛ مما دعانا بعد ذلك إلى كتابة اسمه على باب غرفته وإغلاق الغرف المجاورة لها.
كان يجرح كثيرا في رأسه، أو يعود إلى البيت وركبتاه تنزفان؛ لأنه تعثر في التبة العالية التي اعترضت طريقه وهو ذاهب إلى بيت والديه. دخل ذات مرة دون استئذان إلى بيت والديه، وتفاجأت زوجة أخي به واقفا في الطابق الأول يسألها عن أخي إيريش. منذ كنت طفلا كان قفل الباب يدخل في ثقب في الخشب، وكان من الممكن فتحه بسهولة بالإصبع السبابة، وبالتأكيد حاول أبي عدة مرات فتحه بهذه الطريقة غير مدرك أنها لم تعد تعمل، ولعل عدم جدوى محاولاته هي التي جعلته يضطرب، ودفعته في آخر الأمر إلى كسر الباب.
وتذكر أختي أنه كان يرد دائما على الهاتف وينسى بعد دقيقة واحدة من كان المتصل وماذا يريد. وبالطبع كان يدعي أيضا أن الآخرين هم من يأخذون الأشياء ويسرقونها، وعندما كنا نسأله عن اختفاء أي شيء وعن علاقته بذلك، كان يرد غاضبا بأنه لا يعرف عم نتكلم. وعندما بحثنا طويلا عن ماكينة الحلاقة الخاصة به وجدناها في النهاية بداخل جهاز الميكروويف، أما سلسلة مفاتيحه التي كان يفقدها بصورة منتظمة فقد اضطرت أمي في آخر الأمر ليس فقط إلى ربطها في بنطاله، بل إلى حياكتها وتثبيتها فيه، إلا أن هذا لم يمنعه من نزعها وإضاعتها مجددا.
وكانت تعتريه أفكار ثابتة، وكان أكثرها إلحاحا شجرة البتول التي توجد أمام بيتنا بعد أن تسبب إعصار لوثر في إمالتها بوضوح؛ لذا فإن أبي كان يسأل كل يوم عشرات المرات إذا كانت الشجرة ستصمد في وجه الإعصار القادم أم ستقع على البيت، وفي كل مرة كان يشير إلى أن الشجرة نمت وأصبحت عملاقة، أو يشير إلى السحب القادمة. كذلك ألح على تفكيره وشغله كثيرا عداد الكهرباء الذي كان يراقبه بشغف شديد. ما زال صوت الباب المغناطيسي لعلبة العداد يتردد في أذني عندما كان أبي يفتحه ويغلقه بصورة متصلة. وعندما كان بيتنا يرتجف في الصباح من شدة البرودة كنا نعلم أن أبي قد عبث بأحد الأزرار. والمسئول؟! طبعا الآخرون!
جدي أيضا، الذي كان يعمل محصلا في شركة الكهرباء، كان شغوفا كذلك بتوفير استهلاك الكهرباء. عندما كان ينضم إلى الجالسين حول مائدة الإفطار ويلاحظ أن ضوء النهار أصبح كافيا كان يطفئ المصباح ويقول: «ستجدون الطريق إلى أفواهكم على أي حال.»
حكايات وحكايات بسيطة.
حرص جدي دائما على ألا تعيق الستائر دخول الضوء إلى البيت؛ لذا كان يزيحها باستمرار إلى الجانبين كي يسمح لمزيد من النور بإضاءة المكان. وكان مقتصدا جدا، وهي الصفة الوحيدة التي انتقلت بكاملها إلى أولاده.
وهكذا أصبح أبي منشغلا طوال الوقت باستهلاك الكهرباء، وأصبح عقله أشبه بأسطوانة الموسيقى المشروخة التي لا تتوقف عن تكرار الألحان نفسها.
إلا أن تلك الأفكار الثابتة التي تشبه الأشباح اختفت ذات يوم، وبدأ أبي في مرحلة الإبداع.
وبعد أن عانينا كثيرا من مشكلة النسيان وفقدان القدرات، بدأ المرض في إنتاج قدرات جديدة؛ حيث تطورت لدى أبي قدرة متميزة على إيجاد المبررات، وقد عاش حياته قبلها رجلا صادقا؛ فقد أصبح يجد الأعذار والمبررات أسرع من الفأر الذي يبحث عن ثقب ليختبئ فيه. تغيرت طريقة كلامه وبدا عليها فجأة رونق تلقائي لم أعهده فيه. وفيما يتعلق بالمحتوى فقد طور مؤخرا منطقا خاصا به، وكان مدهشا؛ حتى إننا كنا لا نعرف هل يجب علينا أن نضحك، أم ندهش، أم نبكي.
قلت له ونحن واقفان بجوار البيت وننظر إلى جبل جيبهارد وقمة أحد جبال الألب تظهر في الأفق فوق بريجينتس: «ما أجمل الطقس اليوم!»
نظر والدي حوله وفكر لحظة فيما قلته ثم قال: «عندما كنت في البيت كان بإمكاني التنبؤ بالطقس بدقة، ولكن من هنا لا. ولأني لم أعد في البيت أصبحت غير قادر على ذلك!»
فقلت له مندهشا: «ولكن الوضع هنا هو بالفعل نفسه بالأسفل!» لأن بيتنا كان بجوار بيت والديه على بعد خمسين مترا من فوق التل. «أرأيت كم يفرق ذلك؟»
ثم فكر لحظة وقال: «لا يليق أن تعارضوني دائما فيما أقوله عن الطقس!»
أكثر ما كان يظهر قدراته الجديدة هو تعرضه لضغط، وهذا ما كان يشعر به كلما أراد الذهاب إلى البيت. في عام 2004 تقريبا لم يعد يتعرف على بيته. حدث هذا بسرعة، بسرعة مفاجئة لدرجة أننا لم نقدر على فهم ما يحدث. رفضنا لفترة طويلة قبول فكرة أن أبانا نسي أمرا بديهيا مثل بيته.
ذات يوم لم تستطع أختي تحمل رجائه وإلحاحه على الذهاب إلى البيت؛ «لأنهم ينتظرونه هناك» كما كان يقول؛ إذ لم يكن ذلك محتملا. كنا نشعر وقتها أن تكراره اللانهائي للكلام يفوق كل الحدود.
فأخذته هيلجا إلى الشارع وأشارت إلى البيت قائلة: «هذا بيتك!» «لا، هذا ليس بيتي.» «إذن أخبرني أين تسكن؟!»
فذكر لها الاسم الصحيح للشارع والرقم الصحيح للبيت.
فأشارت هيلجا في نشوة المنتصر إلى اللافتة التي تحمل رقم البيت بجوار المدخل وسألته: «وما المكتوب هنا؟»
فقرأ نفس العنوان السابق.
فسألته هيلجا: «وماذا نستنتج من ذلك؟»
فرد عليها بغلظة: «إن شخصا ما سرق اللافتة وأحضرها إلى هنا.» وكانت إجابته تفسيرا خياليا يفتقد إلى أي منطق.
فسألته هيلجا بغضب: «ولماذا يسرق أحد لافتة البيت ويثبتها على بيته؟» «لا أعرف، ولكن الناس يفعلون مثل هذه الأشياء.»
قال ذلك بلهجة الأسى دون أن يبدي أي قدر من تأنيب الضمير؛ لأن ما قاله كان من دروب المستحيل.
وفي موقف آخر رد على سؤالي حول عدم استطاعته التعرف على أثاث بيته قائلا: «نعم، الآن يمكنني ذلك!»
فقلت بشيء من الاستعلاء: «أتمنى ذلك.» ولكنه نظر إلي بخيبة أمل وقال: «يا هذا، إن ذلك الأمر ليس سهلا كما تظن؛ فالآخرون لديهم أثاث مثل هذا. من يعرف؟»
كان هذا الرد منطقيا جدا، ومقنعا في حد ذاته لدرجة أنه أغضبني. يا إلهي! وسألت نفسي لماذا بدأنا هذا النقاش إذا كان قادرا على قول مثل هذا الكلام المنطقي؟! عندما يتمتع شخص بدرجة من الذكاء تجعله قادرا على فهم مثل هذه التفاصيل، فأنا أتوقع منه أن يتعرف على بيته.
ولكن دون جدوى!
في مواقف أخرى كان أقل تعقلا، وكان ينظر متفحصا جميع التفاصيل ثم يقول إنه يظن أن شخصا ما قد أثث الغرف بهذه الطريقة ليخدعه.
ذكرني ذلك بفيلم الحركة «36 ساعة» الذي قام ببطولته جيمس جارنر، وإيف ماري سانت، وأدى فيه جيمس جارنر دور ضابط مخابرات أمريكي لديه معلومات مهمة عن غزو قوات الحلفاء. استدرجه النازيون إلى فخ وخدروه، وفي اليوم التالي أخبروه عندما أفاق بأنه في أحد المستشفيات الأمريكية، وبأن أمريكا كسبت الحرب قبل سنوات، وأنه كان فاقدا للذاكرة طوال هذه المدة. كانت الخدعة محكمة، لولا جرح صغير أصيب به الضابط قبل أيام من وقوعه في أيدي النازيين؛ فبالرغم من مرور السنين كما زعموا فإن الجرح لم يلتئم!
كان مثل هذه الأمور الغريبة جزءا من حياة أبي اليومية على مدار سنوات. كان يفتقد أي ثقة بالتفسيرات التي يقدمها له أقاربه وتبدو منطقية. كان يرد: «نعم، بيتي يشبه هذا المكان جدا، ولكنه يختلف قليلا.» •••
كان يجلس كثيرا وحده في غرفة المعيشة ويشرب النبيذ، وكان يصدمني دائما أن أراه ضعيفا وجريحا ووحيدا هكذا. تغير أبي كثيرا، ولم يعد وجهه المكتئب ينم عن حيرته لأنه ينسى، بل عن إحساسه العميق بالغربة؛ فقد أصبح العالم كله بالنسبة إليه غريبا.
وأحيانا كانت قناعتنا بأن تغيير المكان يمكن ببساطة أن يزيح عنه الإحساس بالغربة تؤدي بنا إلى مأزق لا يخرج منه أبونا إلا بعد أيام.
عندما كان يطلب العودة إلى البيت لم يكن يرفض في الحقيقة المكان الذي يرغب في مغادرته، بل الموقف الذي يشعر فيه بأنه غريب وتعيس؛ أي إنه لم يكن يعني المكان، بل المرض، ولكنه كان يحمل مرضه معه أينما ذهب، حتى وهو في بيت والديه. كان منزل والديه على بعد خطوات، ولكن بلوغه بقي مع ذلك هدفا بعيد المنال؛ ليس لأن قدميه لا تحملانه إلى هناك، بل لعدم وفاء الذهاب إلى هناك بما ينشده. جعل المرض أبي يفقد للأبد الشعور بالاحتواء، وأصبحت الغربة لصيقة جدا به، ولم يدع له المرض فرصة ليدرك تأثيره على إدراكه للمكان. وأصبحت عائلته تراقب يوما بعد يوم ما يعنيه الحنين إلى البيت.
كنا نرثي لحاله لأبعد مدى، وتمنينا كثيرا أن يعود إليه الشعور بأنه في بيته، وإذا حدث هذا فسيكون معناه أن المرض قد تركه، وهو الأمر الذي ربما يحدث عند الإصابة بمرض السرطان لا مرض ألزهايمر.
خفت وطأة الأمر علينا بعد عامين، عندما تأكدت مجددا مصداقية المثل القائل بأن الأزمة يجب أن تشتد أولا قبل أن تنفرج.
وأدركت بعد سنوات عديدة أن الرغبة في الرجوع إلى البيت تحمل بين طياتها شيئا إنسانيا؛ فقد فعل أبي بصورة تلقائية شيئا فعلته كل الإنسانية من قبل؛ ألا وهو تحديد مكان من المفترض أن يشعر المرء فيه باحتواء إذا وصل إليه؛ ليكون بمثابة الترياق للحياة المفزعة غير المحتملة. سمى أبي ذلك المكان البيت، بينما يسميه المؤمنون الجنة.
عندما يكون الإنسان في البيت يجد أشخاصا يشعر تجاههم بالألفة ويتكلمون لغة مفهومة. يقول أوفيد في كتابه «المنفى»: «حيث يفهمون لغتك يكون الوطن.» وكانت لهذه المقولة أهمية وجودية فيما يتعلق بأبي؛ لأن محاولاته لمتابعة أحاديث الآخرين كانت تبوء بالفشل بصورة متزايدة، كما كانت محاولاته التعرف على الوجوه تفشل؛ مما جعله يشعر وكأنه في منفى. أصبح من يحدثونه غرباء مع أنهم إخوته وأبناؤه؛ لأن ما يقولونه كان مريبا ويسبب له مزيدا من الحيرة. وهذا يجعل من استنتاجه الحتمي أن هذا المكان يستحيل أن يكون بيته أمرا منطقيا؛ ومن ثم فقد كان من المنطقي أيضا أن يتمنى الرجوع إلى بيته مقتنعا بأن الحياة ستعود وقتها إلى ما كانت عليه. •••
قال لي أبي ذات مرة: «لقد غسلت يدي هنا. هل كان مسموحا لي أن أفعل ذلك؟» «نعم يا أبي، هذا بيتك، وهذا الحوض لك.»
نظر إلي متعجبا ثم ابتسم حرجا وقال: «يا إلهي، لعلي لا أنسى ذلك ثانية!»
هذا هو مرض ألزهايمر، أو بالأحرى: هذه هي الحياة أو المادة التي تصنع منها الحياة. •••
مرض ألزهايمر مثل كل الأشياء المهمة، يوضح لنا أشياء أخرى أكثر مما يوضح خفاياه هو نفسه. تتضح السمات الإنسانية والمشاعر الاجتماعية كما لو كنا ننظر إليها عبر نظارة معظمة. العالم يحيرنا جميعا، وإذا دققنا النظر فسنجد أن الفارق بين الإنسان السليم والآخر المريض هو مدى قدرته على مداراة الحيرة الظاهرة؛ فتحتها تقبع الفوضى.
حتى بالنسبة إلى الشخص السليم نسبيا يعد النظام القائم في رأسه مجرد خيال للعقل.
يفتح مرض ألزهايمر عيوننا، نحن معشر الأصحاء، على مدى تعقيد القدرات التي نحتاجها للتغلب على تحديات الحياة اليومية. في الوقت نفسه يعتبر ألزهايمر تصويرا رمزيا لأحوال مجتمعنا بعد أن فقدنا النظرة الكلية وأصبح لا مجال للإلمام بكل المعرفة المتاحة، وأصبحت المستجدات التي لا تنتهي تخلق مشاكل في التوجه ومخاوف من المستقبل. عندما نتحدث عن مرض ألزهايمر فإننا نتحدث عن مرض القرن. المصادفة وحدها جعلت حياة أبي تعرض تلك التطورات عرضا رمزيا. بدأت حياته في وقت وجد فيه كثير من الثوابت (الأسرة والدين وهياكل السلطة والأيديولوجيات ودور الجنسين والوطن)، ثم انتهى به الأمر إلى هذا المرض عندما أصبح المجتمع الغربي رهين كومة من أطلال تلك الثوابت.
وازداد تضامني مع أبي عندما أدركت ذلك مع مرور الوقت. •••
إلا أنني لم أكن قد بلغت المدى؛ لأني إنسان بطيء التفكير. استمررت في المقاومة؛ لأني لم أتوقف عن الاعتقاد في أنه بإمكاني من خلال العناد والإصرار أن أعيد ارتباط أبي بالواقع.
فعندما كان يقول مثلا إن والدته في انتظاره، كنت أسأله: «كم عمرها؟» «أظنه ثمانين عاما تقريبا.» «وكم عمرك؟» «أنا مولود عام 1926.» «إذن فعمرك تقريبا ثمانون عاما أيضا.» «أعلم، أعلم ...»
فقلت له بأسى: «أمك متوفاة.»
عض على شفتيه وهز رأسه عدة مرات ببطء، ورد بوجه حزين: «كنت أعرف أن هذا قد حدث.»
كافحت لمدة طويلة بهذه الطريقة للحفاظ على عقله الإنساني السليم، إلا أنني اعترفت بهزيمتي بعدما أدركت بما يكفي عدم جدوى تلك المحاولات، واتضح لي مجددا أن الذي يستسلم يمكن أن يفوز، ميتا أو حيا. من يهتم؟ فلا فرق في النهاية. عندما قبلت فكرة أن أبي يمنح الأموات بعض الحياة ويقترب بنفسه من الموت قليلا، تمكنت من الولوج إلى أعماق أبعد في معاناته.
بدأنا جميعا حياة جديدة، وبقدر ما أصابتني وإخوتي تلك الحياة الجديدة بالحيرة، بقدر ما شعرنا بالمشاركة، ونما لدينا اهتمام بالمرض الذي داهم والدنا. وبعد أن مكثت سنوات لا آبه بما يفعله من لعب الورق ومشاهدة التليفزيون، بدأت أهتم بذلك، أيضا لشعوري بأن هذا سيفتح لي بابا لفهم أشياء عن نفسي، وإن لم يتضح وقتها ما هي تحديدا.
لم يكن قضاء اليوم مع أبي يجعلني أشعر بالإرهاق وحسب، وإنما كان كثيرا ما يتركني في حالة من الإلهام. مع أن العبء النفسي كان لا يزال هائلا، فإن مشاعري تجاه أبي قد تغيرت؛ إذ رأيت أن شخصيته عادت إليه مرة أخرى، وكأنه هو نفس الرجل ولكنه تغير قليلا، وتغيرت أنا أيضا؛ لقد غيرنا جميعا المرض.
ما أكثر مكان تحب أن تكون فيه يا أبي؟
يصعب تحديد ذلك. أكثر مكان أحب أن أكون فيه هو الشارع.
ماذا تفعل في الشارع؟
أتنزه، أمشي قليلا، لكن حذائي ليس جيدا، ليس ملائما.
إذن فأنت تفضل الشارع، مع أنك تسير ببطء هناك؟
نعم. كما تعلم ، هنا في الداخل ...
ألا يعجبك الوضع في الداخل؟
ماذا بوسعي أن أفعل هنا؟ أعرف أن الشارع ليس دائما المكان الصحيح، ولكنه أكثر الأماكن راحة لي، عندما لا تمطر. يمكنني هناك أن أشاهد بعض الأشياء، وهذا لا يضايق أحدا.
الفصل الخامس
اشتد المرض ببطء شديد، ولكن البطء لم يمنعه من التفاقم. لم يعد والدي قادرا على تخطي اليوم دون تعريض نفسه للخطر، ولولا مساعدة الآخرين لهلك.
كانت زوجته وأولاده قد تركوا البيت الواقع في شارع أوبيرفيلد، وأصبحنا نطلب له طعاما جاهزا. ثم تطلب فقدانه مزيدا من القدرات أن نستأجر من يرعاه بضع ساعات يوميا؛ لذا كان يحضر في الصباح من يعينه على قضاء اليوم، وفي المساء من يرافقه حتى الخلود إلى النوم. وكان حبه للنوم ولفترات طويلة نعمة كبيرة؛ إذ كان يستمتع سواء بالنوم العميق لاثنتي عشرة ساعة أو بالبقاء في السرير؛ لأنه كان يحب الدفء. هذا الذي كان يوما فلاحا وكان الماء يتكثف على جدران غرفته من شدة البرودة عندما كان طفلا. عندما كانت تدخل السيدات الآتيات من خدمة الرعاية المنزلية، أو كانت تدخل أورزولا زوجة بيتر إلى غرفة نومه قرابة التاسعة صباحا، عادة ما كان لا يزال ملتحفا غطاءه، رغم خلوده للنوم الليلة السابقة في التاسعة مساء. وكان يتبرم دائما معترضا؛ لأنه لا يقبل أن تعطيه سيدات صغيرات ذوات أصوات ناعمة أي تعليمات ...
وفي النهار كان أبي يقف تقريبا طوال الوقت في حديقة بيتر وأورزولا ينتظر أحدا يؤنسه، مثل حفيدته، كلما أمكن ذلك. ولكن على المدى الطويل لم يكن ذلك حلا؛ لأن أبي لم يكن لديه إحساس بعدد مرات زيارته لهم أو طول مدتها؛ لذلك بحثنا عمن يرافقه لبضع ساعات في فترة ما بعد الظهيرة. كنا نطمئن لوجوده مع جارتنا ليليانا التي كانت تلعب معه الورق أو تخرج للتنزه معه أو تأخذه معها في الرحلات. كذلك كان يقضي يوما أو يومين أسبوعيا في إحدى دور المسنين، وعادة ما كانت أورزولا تصطحبه إلى هناك. كان ذلك وقتا طيبا بالنسبة إليه ، وحلا مرضيا للجميع.
أما هيلجا فكانت ترعاه في عطلة نهاية الأسبوع، في حين كان يقوم فيرنر بالاعتناء بالبيت والحديقة. وأمي وأنا كنا نأتي من فيينا لأيام أو لأسابيع، وكنا عندها نبيت في المنزل ونعتني بكل شيء، مما يتيح للآخرين فرصة للاستراحة. وتعامل كل منا على طريقته مع الوضع الجديد دون تردد، فكل واحد فعل ما في وسعه وقدرته، ويعلم الرب كم كنا مشغولين بأمور أخرى، وكم تمنينا لو كانت حياتنا أسهل من ذلك؛ فرغم توزيع العمل كان الوضع منذ بدايته مرهقا جدا، غير أن ما حدث عزز إحساس الانتماء والتماسك داخل الأسرة. أوقف مرض أبينا انهيار الأسرة؛ فقد عدنا نحن الإخوة مرة أخرى لنجلس في القارب نفسه، ولكن بطبيعة الحال كل في ناحية.
ويرجع نجاحي في عملي كاتبا إلى تلك الفترة، وقد جاء النجاح مفاجئا وكأنه سقط علي من مدخنة المدفأة. كنت حتى ذلك الوقت كاتبا يجد من يمتدحه ولا يجد من يقرؤه، واليوم أصبحت أتمتع باهتمام واسع وتأتيني دعوات لزيارة كافة أرجاء العالم، وهذا له جوانب إيجابية وأخرى سلبية لما يتطلبه من وقت لم يكن مطلوبا لهذا الجانب من حياتي قبل ذلك. لم أكن أتصور أن النجاح يسرق منا الوقت بهذه الطريقة، ورأيت أن هذا هو أسوأ توقيت للهروب من مسئوليتي. لعل أبي في مثل هذا الموقف كان سيقول: عليك أن ترتب القش عندما يكون الطقس جيدا. ولكن هذه الأمور لم يعد يدركها الآن. النجاح أو الفشل، من يكترث؟
عندما قلت لأبي بعد انتهائي من الدراسة إني أريد أن أصبح كاتبا، نظر إلي وابتسم بسخرية وقال: «لو وضعت إصبعي في أنفي لكتبت شعرا.»
أذكر جيدا المكان الذي كنا نقف فيه عندما قال لي ذلك؛ كنا في ورشة أبي أمام رف الألوان والدهانات. كان أبي يمتلك قدرة على قول مثل هذه الأشياء بطريقة لا تجعلني أغضب فعلا منه، وغمز بعينه وقال لي إنه يجب علي أن أفعل ما أريد، وإنه يبارك ذلك - ولكنه شخصيا لا يعتبر هذا عملا حقيقيا.
قضيت خريف عام 2006 في رحلات متصلة للقراءة من أعمالي الأدبية. وكلما أمكن كنت أترك صديقتي لأقضي عطلة نهاية الأسبوع في فولفورت. كان الأمر مرهقا؛ فقد كنت أشعر كثيرا بالحيرة بين علاقة الحب والأسرة والعمل، وأحيانا كنت أرى في هذا الجانب عبئا علي، وأحيانا كنت أرى أن الجانب الآخر هو الذي يثقل كاهلي؛ فلم أكن معتادا على حياة الترحال مثل البدو، كما لم أمتلك قدرة جيدة على إدارة الوقت، فضلا عن أن تحمل المسئولية لم يكن من نقاط قوتي. كنت أرى في نفسي دائما شخصا منطلقا في الحياة ولا يهدأ أبدا. وماذا علي أن أفعل؟! في كل مرة نضع حياتنا في قالب، تأبى الحياة إلا أن تكسر ذلك القالب.
وأخيرا مع بدايات عام 2006 كنت قد أنهيت معظم ارتباطاتي المهنية. قمت بتفكيك دراجتي ووضعتها مع حقيبة أمتعتي في سيارة أمي، وتوجهت إلى فولفورت مرورا بميونخ، حيث وصلت بعد قرابة الست ساعات وأنا أعاني بعض الصداع. كان ذلك قبل يوم من عيد ميلاد أبي الثمانين.
ارتديت ملابس عمل دلت رائحتها على أنها كانت مخزنة لفترة طويلة في شقة مهجورة، وقفزت من النافذة إلى خارج البيت حيث حصدت عند التل أسفل البيت ثمار التوت البري وتوت العليق. وجمعت ثمار الكرز، ثم قمت أخيرا بتهيئة المكان لإقامتي، وعندما قابلت أبي في أول المساء قال لي: «ها أنت ذا أتيت لترى ما إذا كنت لا أزال حيا.»
كان ما زال يبدو رجلا قويا شديد التماسك، بحيث لو قابله أحد في الطريق لما خطر بباله أن هذا الرجل مريض. كان يطالع الجميع بابتسامة مشرقة، ويراوغ في أي حوار بدعابات تجعل الآخرين يظنون أنه ما زال يعرفهم، وأنه ما زال نفس الشخص الظريف الذي عرفوه دائما. ولكن عندما كان الحديث يتطرق إلى أمر يتطلب إدراك السياق ورؤية العلاقات كانت جوانب ضعفه تتضح.
وكان يفرد منديله على السور أمام البيت ويجلس عليه يراقب الشارع في سلام، وينتظر طويلا حدوث شيء. ولكن، ماذا؟ في الحقيقة كانت طلباته متواضعة؛ فإذا مرت سيارة يلوح بيده، وإذا مرت سيدة على دراجتها يحييها قائلا: «أهلا بالسيدة الجميلة.»
ولم يكن ذلك مثيرا للريبة.
ذات مرة وصلت أمي بصحبة أبي إلى كنيسة القرية، وبعد أن قرعت الأجراس اكتشفت أن أبي قد ملأ الجيب الأيسر لبنطاله بقطع من الخبز المحمص، فقالت له إن هذا التصرف ليس حكيما؛ لأن جيبه سيمتلئ بالفتات، لكنه رد قائلا: «أحتاجها للحلاقة.» «أوجوست، لا يمكن أن تستخدمها في الحلاقة!»
فكر قليلا ثم قال: «سأدفنها بعد ذلك في أرض الحديقة، وستنمو وتصبح شيئا جميلا.»
مثل تلك الردود كانت مريبة بالفعل.
قام أبي بعد ذلك وأخذ منديله بكل جدية واعتزاز وطواه، ثم ذهب إلى الشرفة الخارجية الموجودة خلف البيت. تبعته، ووقفنا صامتين ننظر إلى بحيرة بودينزيه جهة الغرب حيث كانت الشمس آخذة في الغروب ببطء، وكأن اليوم يأبى أن ينتهي. سحب خفيفة مرت فوق كنيسة جيبهارد أعلى الجبل وحولها كانت السماء زرقاء، وسمعنا حفيف أوراق شجرة البتول وضوضاء طريق الراين «إيه 14» تأتي من بعيد.
وكانت حديقة الفاكهة خلف بيت جدي، التي كنا ننظر إليها أسفل منا، تعج بالخضرة النضرة، وهناك كانت أشجار الفاكهة والمنحل تقف دون تغير منذ طفولتي وطفولته.
قلت له: «غدا ستتم عامك الثمانين.»
فسألني: «أنا؟» «نعم، أنت يا أبي، ستبلغ الثمانين.»
رد علي وهو يضحك غاضبا: «أنت بالتأكيد لا تعنيني أنا، لكن ربما أنت.» «أنا سأبلغ الثامنة والثلاثين يا أبي، أما أنت فستبلغ الثمانين غدا.»
كرر بمرح: «بالتأكيد لست أنا، لكن ربما أنت.»
وظللنا برهة هكذا حتى سألته كيف يشعر وهو في الثمانين من عمره، فقال لي: «لا يمكن أن أدعي أنه إحساس خاص.»
وبعد ساعتين جمعت مجددا بعض التوت، ثم اصطحبت أبي إلى فراشه واستسلمت أيضا للتعب، وسقطت في فراشي وأنا شبه فاقد للوعي من إرهاق الأيام الماضية ومن طول فترة قيادة السيارة.
في الصباح الباكر هنأت أبي على عيد ميلاده، وتقبل التهنئة بارتياح وشكرني. عندما جلس على حافة السرير في ملابسه الداخلية قلت له إن أباه لم يبلغ هذه السن، فنظر إلي مندهشا ثم ابتسم ابتسامة عابرة لم أفهم معناها. قلت له إننا نرغب في الاحتفال بعيد ميلاده في الأبرشية، فسألني: في أيها؟
فأجبته: «في أبرشية فولفورت.»
فقال لي: «كنت دائما أحب الحياة في فولفورت وأتفاهم مع كل من أعرفهم هنا.» •••
كان يوم ثلاثاء، ومر علينا اليوم في هدوء، أما الاحتفال فقد تم تحديد يوم الجمعة موعدا له. أذكر أن أمي أعدت كعكة عيد ميلاد بالفاكهة، وأن جارة لنا أحضرت بطاقة معايدة وقالت إن شارع أوبيرفيلد دون ابتسامة أوجوست لن يكون بنصف جماله الآن. سعدت جدا لسماع ذلك؛ لأني لم ألحظ وقتها أن سماته الشخصية لم تتأثر بما أصابه؛ كنت أظن أن المرض قد دمر شخصيته لدرجة كبيرة.
أتى في المساء كل من هيلجا وفيرنر، وأكلنا الكعكة وشربنا النبيذ، وشاهدت مع فيرنر مباراة كرة قدم في نصف نهائي كأس العالم. وجلس أبي معنا ولكنه لم يبد مهتما كثيرا بالمباراة بين ألمانيا وإيطاليا، التي تميزت بالتوتر التكتيكي وليس بالهجمات الواضحة. وردد أبي السؤال عدة مرات: «من يلعب هنا؟ فولفورت ضد من؟»
كررت مرارا: «فريق كانيلباخ.»
هز أبي رأسه وكأنه كان سيعرف ذلك من تلقاء نفسه، ثم قال متجهما: «هكذا يلعبون دائما!»
عندما سجل فابيو جروسو هدفا، قال أبي: «مهلا مهلا، هذا اللاعب ليس من فولفورت.»
ضحكت أنا وفيرنر بشدة، وكانت تلك اللحظات بحق أهم ما في المباراة، في حين نسينا بقية أحداثها. •••
وما زلت أذكر جيدا عيد ميلاده الخمسين أيضا، عندما كنت في الثامنة من عمري، وكنت أتشارك مع أخي فيرنر نفس الحجرة. وقفنا في نافذتها ننظر باهتمام إلى ضيوف الحفلة في الشرفة الخارجية للمنزل. كان هذا اليوم الذي أقلع فيه والدي عن التدخين بعد ثلاثين عاما.
كانت الألعاب النارية تضيء السماء فوق بريجينتس، فقد وافق الرابع من يوليو 1976 عيد الاستقلال المائتين لأمريكا. وأضفى بعض الأمريكيين الذين يسكنون في المنطقة بألعابهم النارية مزيدا من الرونق والبريق الذي انصب في أعيننا ونحن أطفال على أبينا، كذلك قفز بعض زملاء أبي من النافذة إلى حمام السباحة. •••
أما في عيد ميلاده الثمانين، فقد وقف يهنئ صف المدعوين الطويل وهو يربت بكلتا يديه على يد كل منهم ويقول: «أتمنى لك كل الخير والسعادة والصحة.» وكان يبدو يقظا ومستمتعا بوضوح بهذا المشهد، ولم يبد كشخص يؤدي واجبا عليه. وطلب من العمدة - الذي عرفه والدي مجريات العمل قبيل خروجه إلى المعاش - ألا يتكلم كثيرا وأن ينشد له أغنية، وهو ما أضحك الحضور.
وأعد إخوتي عرضا تفاعليا يقدم لقطات من حياته الطويلة، وكنت جالسا إلى طاولة مع بعض إخوته؛ لذا لم ألحظ تأثير تلك الصور عليه، ولكن على ما يبدو أنه كان مندمجا مع تعليقات وضحكات الضيوف، ولكن عندما عرضت صورة لجدي، الحداد، يرتدي مريلته الجلد ويضع مطرقة ثقيلة على كتفه، بدأ أبي يتكلم عن نقاط ضعفه: «لم أعد أصلح لأي شيء أيها السادة، لا يهم، فهذا الأمر لن يزلزل العالم.»
وأضاءت الشاشة البيضاء بصور من بدايات الخمسينيات؛ «أدولف وتريزيا جايجر» وحولهما أبناؤهما التسعة الذين كانوا لا يزالون يسكنون معهم نفس البيت، وذلك قبل وفاة إيما، إحدى البنات الثلاث، إثر انفجار الزائدة الدودية. أدهشني كم كان يبدو جداي كبيرين في السن في ذلك الوقت؛ كانا يبدوان على أعتاب الشيخوخة، مع أن جدتي عاشت أربعين سنة بعد ذلك ولم يتغير شكلها كثيرا؛ سيدة أنهكها العمل، قصيرة وذات شعر رمادي وتجاعيد عميقة.
كانت الأسرة كلها مجتمعة باستثناء أحد الأبناء الذين ما زالوا على قيد الحياة؛ أشخاص من حقبة ماضية، أبناء أسرة ريفية كانوا يشحذون أقلام المدرسة على عتبة القبو؛ لأنها كانت من الحجر الرملي وكانت الأنسب لهذه المهمة. أفراد هذه العشيرة الغريبة كانوا مبتكرين بصورة مدهشة، وكانوا نشيطين بصورة غريبة، ويتمتعون بمخيلة عملية أكثر منها حالمة. غاب عنا يوزيف فقط؛ فهو الوحيد الذي انسلخ من مغناطيس العائلة وانطلق بثقة لاستكشاف العالم عندما هاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية في نهاية الخمسينيات، وحقق هناك حلمه من خلال اختراع جهاز كهربي لفتح العلب.
سألت إخوة أبي إذا كان لدى أحدهم نسخة من الصورة التي التقطت لأبي بعد إطلاق سراحه من المعتقل الحربي. عرف الجميع فورا أي صورة أعني، إلا أنهم هزوا رءوسهم التي علاها الشيب بالنفي. قالت عمتي ميلا التي تخطت الثمانين من عمرها إن تلك الأوقات كانت مختلفة ولم يكن الناس يطبعون من كل صورة عدة نسخ كما يشاءون.
حكى باول عن رحلة عودته من الحرب، وأنه رأى صورة مريعة؛ إذ ضرب إعصار حدائق الفاكهة قبل قدومه بفترة قصيرة، وسقطت أشجار وتناثرت في وسط الحقول، وكان معظم الرجال القادرين على العمل غائبين في الحرب، وامتلأ المكان بالحشائش والشمندر، وأثقل العمل في الحظائر والبيوت كاهل النساء. أما روبيرت الذي بلغ عند نهاية الحرب سن التاسعة فقال إنه كان يعمل في الحقل عندما انقلب الطقس فجأة، فتمسك بشجرة وسقط الثلج على رجليه بقوة، وكادت العربة المحملة بالقش تنقلب بالقرب من الكوخ المبني من الحجر الجيري عندما كان باقي الإخوة يحاولون دفعها، وبدأت بعض الأشجار في الازدهار في الخريف بعد أن أتت العاصفة الثلجية على ثمارها.
نسي أبي كل هذا، ولم تعد تؤلمه تلك الذكريات، ولكنها تحولت إلى سمات في شخصيته، وبقيت له تلك الشخصية؛ فالخبرات التي شكلت شخصيته بقيت مؤثرة. •••
قضيت في ذلك الصيف - كما في الأعوام الماضية - عدة أسابيع في بيت والدي. كان من الواضح أن المسافة الكبيرة التي نشأت في شبابي بيني وبين أبي تلاشت، وأن فقدان التواصل الذي خشيت أن يفرضه علينا المرض لم يحدث؛ فبدلا من ذلك تصادقنا مجددا، وكانت هذه الصداقة بفضل المرض والنسيان غير متكلفة؛ لذلك رحبت بتأثير النسيان على تلك العلاقة؛ فقد نسينا جميع خلافاتنا، ورأيت أن هذه الفرصة لن تتكرر.
في تلك الأثناء، كانت صديقتي كاتارينا التي كانت تسكن وقتها في إينسبروك تقضي أيضا بعض الأيام في فولفورت. ضغطنا على أبي ذات يوم ليخرج معنا في نزهة، فخرج رغما عنه وأراد طوال الوقت الرجوع إلى البيت، مع أننا لم نغادر شارع أوبيرفيلد. ضايقني ذلك؛ لأن الأمسية كانت جميلة وكنت أود التنزه معه بمحاذاة النهر.
وبدا الارتياح على أبي عندما دخلنا جادة أوبيرفيلد مرة أخرى ونظرنا إلى القرية أسفل منا؛ فقد شعر بالسعادة وامتدح هذا المنظر الجميل.
سألني: «هل تأتي كثيرا للتنزه هنا؟ كثيرون يأتون للتمتع بهذا المنظر الجميل.»
عجبت لما قال، وقلت له: «أنا لا آتي للتنزه هنا. لقد نشأت في هذا المكان.»
بدا ذلك مفاجأة له؛ فعقد ما بين حاجبيه وقال: «نعم، أفهم.»
فسألته: «هل تعرف أساسا من أكون؟»
أحرجه سؤالي، فاستدار إلى كاتارينا وقال مداعبا وهو يشير بيده نحوي: «وكأن هذا أمر مهم.»
ما أسعد أوقات حياتك يا أبي؟
عندما كان الأبناء صغارا.
تقصد نفسك وإخوتك؟
لا، بل أبنائي.
الفصل السادس
أدى تفريغ القناعات الدينية والاجتماعية من فحواها في العهد النازي بصورة غير مباشرة إلى المبالغة في قيمتها بعد الحرب. قال باول إن الحياة بعد الحرب كانت قاحلة لا يملؤها سوى التدين والبساطة المتناهية والعمل الذي لا ينتهي؛ مما جعل الوضع فظيعا، وخصوصا للشباب.
لكن الوضع لم يكن بهذا السوء بالنسبة إلى أبي صاحب الأمنيات المتواضعة؛ فقد كان الأهم بالنسبة إليه هو التطلع إلى تجنب الألم أكثر من الوصول إلى السعادة، وبعودته مجددا إلى فولفورت أصبح بإمكانه تحقيق الحياة الحقيقية كما يراها، وأن يستعيد الإحساس بالأمان والاستقرار. لم يعد مستعدا لا للمفاجآت ولا للفرص الجديدة؛ لأن اغتنام الفرص التي يتيحها لنا العالم يتطلب التحلي بالثقة، وأبي قد فقد تلك الثقة، هذا لو افترضنا أنه كان لديه قبل الحرب قدر منها. الخبرات تركت فيه ندبات لا تبرأ.
وقاده احتياجه إلى حياة هادئة بسيطة إلى البحث عن الاحتواء في إطار عمله موظفا، وفي اشتراكه في اتحادات مختلفة في قريته؛ فقد كان عضوا مؤسسا في اتحاد كرة القدم، حيث لعب في مركز الجناح الأيمن بإحدى الفرق، كما قاد جمعية المسرح، وقام بإخراج مسرحية نستروي الشهيرة «المشردون»، وكان يغني في فرقة الكنيسة، التي كان معظم أعضائها من النساء. وكان يعد النساء ظواهر غريبة لا تعنيه في شيء، وفي أثناء العقد التالي من حياته لم يسمع أحد بأنه تعامل مع أي امرأة سوى أمه.
فربما لم يكن لديه احتياج في تأكيد رجولته، وربما كان استقلاله أهم في رأيه. كذلك كان سماح فتاة لأحد أن يقبلها له معنى يختلف عن اليوم تماما.
وبعد سنوات قضاها في العمل مديرا لقسم خدمات صرف الوقود لدى إدارة فورآرلبرج التابعة لحكومة الولاية، أصبح في عام 1952 كاتب الإدارة المحلية، وكان كاتبا بالمعنى الحرفي للكلمة؛ لأن الإدارة لم تكن لديها سكرتيرة حتى منتصف الستينيات. كان مكتب أبي في غرفة كانت فصلا دراسيا فيما مضى، وكان يقع في الدور الأرضي من مدرسة القرية، في غرفة كبيرة، أكبر مما ينبغي، ذات أثاث عتيق، ودون ستائر. في الصيف كان يجلس في بنطاله الجلد وصندله، ضاربا بإصبعين بسرعة البرق على الآلة الكاتبة، وصوتها يدوي في غرفة الفصل الكبيرة الفارغة. وعندما كان يعمل ونافذة المكتب مفتوحة كان صوت الكتابة يصل إلى الشارع، وكان الناس يقولون: «أوجوست يطقطق.»
جاءت إلى المدرسة في فورآرلبرج معلمة تدعى تيروش قادمة من بورجينلاند، وأعجب بها أبي، لكن جدي رفضها؛ لأنها نتاج علاقة غير شرعية، وخضع أبي لرغبة أبيه، لكن القصة بقيت غير واضحة المعالم وغير مكتملة ولا يعرف إخوة أبي شيئا عنها، كما لم يعد بإمكاني سؤاله عنها؛ لذلك فأنا أذكرها هنا وأنا غير متيقن منها.
الثابت هو أن أبي قد بدأ في ذلك الوقت مع نهاية الخمسينيات في بناء بيت على التل خلف حديقة الفاكهة الخاصة بوالديه. وفر له جدي ذلك المكان؛ «لأن هناك بالأعلى لا تنمو الحشائش»، وبعدها كان والدي يقضي وقته في منطقة العمل تلك، التي ليست ببعيدة عن الكنيسة حيث يحمل الهواء إليه ذبذبات أجراس الكنيسة المعدنية.
يذكر روبيرت هاريسون في كتابه «سطوة الموت» أن الفلسفة الغربية تنطوي على قاعدة فكرية قديمة تتلخص في أن معرفة الأشياء هي الشرط للقيام بها؛ أي إن من يريد بناء بيت يجب أن يعرف أولا ما هو البيت، وأبي كان يعرف ذلك على وجه التقريب؛ لذا فقد وضع تصميم كل شيء بنفسه، ووضع القرميد بنفسه، وقام بعمل توصيلات الكهرباء والتشطيبات بنفسه. قال إنه كان يحب القيام بالتشطيبات بنفسه. وكان فعلا ماهرا في مثل هذه الأشياء.
وقف البناء الجديد صلبا أعلى حديقة الفاكهة، وكان بناء حديثا متألقا بدهاناته الجديدة، وعلى يمينه الجبال السويسرية وبجانبها منطقة أبنزيل، وأمامه القرية وبريجينتس، وإلى يساره جبل جيبهارد وإحدى قمم جبال الألب الشاهقة. أضفى المنظر طابعا خاصا على المكان، بل ورونقا خاصا، وعندما سألت أبي بعد سنوات عن سبب وجود البيت على تلك الحالة، أخبرني أنه بنى البيت في اتجاه جبل جيبهارد وليس في اتجاه الشمس. •••
تزوج أبي عام 1963 وهو في سن السابعة والثلاثين. وقف في الكنيسة ومعه عروسه، معلمة من مدينة سانت بولتين، اعتبر - حسب معاييره - أنها ليست لديها بيت عائلة بالمعنى الذي يعرفه؛ فقد كان أبوها يعمل وقادا في هيئة السكك الحديدية، ومات في الحرب، ونشأت هي في ظروف مادية صعبة، وكانت أمها تعمل مربية في دار لرعاية الأطفال في يوبس، فضلا عن قيامها بأعمال حياكة هنا وهناك، وبعد زواجها للمرة الثانية أرسلت ابنتها إلى جديها في فورآرلبرج، حيث درست لتصبح معلمة، وكان أول مكان عملت فيه هو مدرسة فولفورت الإلزامية في المبنى القديم.
جاءت أمي من إقليم بعيد إلى إقليم أبعد، وفي أعماقه ارتكبت خطأ حسب قولها. «ما يعجز العقل عنه عند اتخاذ قرار الزواج يدفع ثمنه غاليا في أثنائه.»
كان والداي أبعد ما يكونان عن الرؤية العملية للزواج؛ إذ لم يشهدا هذه الخبرة في بيت آبائهما؛ لذا فقد أسسا حياتهما الزوجية على جهل، وكما يحدث كثيرا لم ينتبها إلى عرض جانبي خطير؛ ألا وهو أن أحدهما لا يمكن أن يغير الآخر؛ فالطبع أقوى من الإرادة.
أخطأ والداي خطأ فادحا في تقييم مدى ملاءمة أحدهما للآخر، ولا أجد ما أقوله في هذا الشأن أفضل مما قاله ليو تولستوي على لسان الدوقة في روايته «أنا كارنينا»: إن ترك قرار اختيار الزوج في يد الشباب يشبه ادعاء أن السلاح المحشو بالذخيرة لعبة مناسبة للأطفال في سن الخامسة.
لم يخطر ببال والدي قبل الزواج التفكير فيما سيحدث عندما يصطدم تصوران مختلفان عن السعادة أحدهما بالآخر. دخل كل منهما في هذه الزيجة ولديه مقومات السعادة، ولكن إذا أمعنا النظر فسنجد أن تلك المقومات كانت لنوعين مختلفين من السعادة، نوعين متضادين. وأصبح كل منهما تعيسا على طريقته في التعاسة.
فلم يستطع أي منهما الوفاء بتطلعات شريكه، حتى طريقة التعبير عن المشاعر كانت مختلفة تماما. استعصت الفجوة الثقافية بين جيليهما وظروف نشأتيهما على محاولات تخطيها؛ فأبي من أسرة ريفية كبيرة، وأمي من عائلة عاملة مكافحة. نشأ أبي في حقبة ما قبل الحرب، وأمي فيما بعدها. هو متأثر بالحرب والاعتقال، وهي بالفقر وتصورات الوطن الرومانسية. توقعات مختلفة، قيم مختلفة، انطباعات ومشاعر مختلفة، هو بحبه للأمور البسيطة والمقتضبة، وهي بحبها للأمور الحسية والدافئة، هو بحبه للأمور الاجتماعية، وهي بحبها للثقافة؛ أثبت أبي في مواقف كثيرة عدم قدرته على مواكبة الحياة الثقافية.
في اليوم التالي لزواجهما قال الناس ساخرين: «لقد نام أوجوست في الفصل الأول.»
كان الأمر بمثابة تنافر مثالي بين أحلام حياة مختلفة، فعدا الزواج وإنجاب الأطفال لم تجمعهما سوى حياة كانت تسير يوما بيوم، وكأن شخصين في برج بابل يحاولان في حيرة أن يتحدثا معا كل بلغته، ويشكوان قائلين: «أنت لا تفهمني!»
عندما سألت أبي لماذا تزوج أمي، أجابني أنه أحبها كثيرا وأراد أن يوفر لها حياة أسرية. وهنا تظهر مجددا موضوعاته الأساسية: البيت والأمان والاحتواء؛ فقد كانت أهم الأمور في نظره. ربما فكر في أن الوقوع في الحب شيء جميل، ولكن الأجمل أن يكون لك مكان تنتمي إليه.
أما أمي فلم تكن تبحث عن الأمان والاحتواء، وإنما عن الإثارة؛ فقد كانت منفتحة على العالم، ولديها فضول لمعرفة الجديد. كان القيام برحلة في شهر العسل مستبعدا لعدم توافر المال اللازم، وكانت صدمة أمي كبيرة عندما طلبت منه القيام بنزهة واعتبارها رحلة شهر العسل، ولكنه رفض. وربما اعتبر أبي أن الميزة الوحيدة في كون العالم فسيحا وجميلا هو أن الناس لا يهرعون إلى فولفورت.
كانت أمي تردد شكواها كثيرا وهي غاضبة: «ولا نزهة في الغابة أيضا!» وبالفعل لم يكن هذا الرفض من أفضل أمجاد أبي؛ لم يرد والدي أن يخرج عن عاداته ولو ليوم واحد، وكان يعتبر كل ما يعكر صفو حياته اليومية المملة أمرا سلبيا، وإن كان نزهة قصيرة يوم سبت بعد زواجه.
الخطة التي وضعها لحياته كانت تحمل شعار: الانطلاق في خطوط مستقيمة وليست متعرجة. •••
أشعر وأنا أصف زيجة فاشلة وكأني أقوم بكنس قش مبتل، ولكن يبدو أن والدي قد نجحا لفترة في التوصل إلى حلول وسطى لتحقيق بعض السلام الروحي؛ إذ لم يعودا يتعاركان، وعندما رزقا بالأطفال أصبح هناك شيء من التوازن في العلاقة رغم كل التوترات. كانت أمي سعيدة بالأطفال الذين جاءوا على التوالي، وتطورت محاولات أبي أن يكون زوجا جيدا إلى بذل جهد كبير كي يصبح أبا جيدا، وتكلل جهده بالنجاح، وأمكنهما تقاسم السعادة مع الأطفال، إلا أن وجود الحب بينهما في هذه الزيجة كان أمرا مستحيلا، وأبعدت المشاعر المختلفة كلا منهما عن الآخر وكأنهما يزدادان تماديا في موقفهما العنيد. عندما يفكر الناس بصورة متباينة تماما إلى هذا الحد تأتي لحظة يصل فيها المرء إلى قناعة بعدم جدوى النقاش أو تقديم التنازلات.
سارت الأمور في البداية بين جنبات البيت الكبير على التل في مسارها العادي إلى حد بعيد، وعشنا وكأننا أسرة عادية، فقد كنا نمضي ساعات طويلة يوميا في عزف الموسيقى، وبعد الغداء كان الأطفال الذين أصبحوا قادرين على التعرف على ورق اللعب يلعبون لنصف ساعة لعبة «الكنستة» مع والديهم. وقبل الغداء كان الأطفال يذهبون إلى ميدان الكنيسة أسفل التل لينتظروا هناك أباهم القادم من المكتب ليقضي ساعتين في البيت، وحينها كانت القرية كلها تبدو ألطف وأرق، ورائحة الطعام تتخلل الحدائق والشوارع؛ لأن الطعام كان يقدم تقريبا في كل البيوت في وقت الظهيرة تماما، وكان أبي يجلس أحد الأطفال في صندوق الحقائب وآخر على الدراجة وبقية الأطفال كانوا يمشون بجوارها. وبعد ظهر أيام السبت كان يأخذ الأطفال معه إلى ملعب كرة القدم، كذلك كان يخرج للتنزه معهم أيام الأحد.
ومن ملجأ الأطفال في مدينة بريجينتس، كان الفتى توني يأتي ليقضي عندنا العطلات كلها. وكان أبي يشرف على حديقة خضراوات وحديقة توت، وكان يصنع المشروبات. وعندما قالت أمي إنها لم تعد قادرة على الإشراف على أربعة أطفال وهم يسبحون في نفس الوقت في البحيرة، وإن على أبي أن يصحبها المرة القادمة، قام أبي ببناء حمام سباحة في حديقة البيت.
في البداية فكر في خطة متهورة؛ وهي بناء حمام السباحة فوق سطح مرأب السيارات، وأن يصل بينه وبين الشرفة الخارجية للمنزل بجسر معلق. وكان عنده من مثل هذه الأفكار دائما ما يكفي.
بالرغم من فارق السن بين والدي لم يكن أبي يقوم بدور السيد والمدير في البيت، بل كان يسعد كثيرا عندما لا يسأل عن رأيه؛ لم يكن ذا شخصية حازمة وصارمة. كانت أعمال البيت هي الشيء الوحيد الذي لم يكن يساعد فيه، مع أن زوجته عادت سريعا إلى وظيفتها؛ وذلك لأنه كان مقتنعا تمام الاقتناع بأن هناك - بموجب الدين والقانون - عملا للرجال وآخر للنساء. فالتنظيف كان عمل النساء، عدا تنظيف الحديقة، والطرق بالمطرقة عمل الرجال، عدا الطرق على اللحم لترقيقه.
وكان البيت منطقة عمل دائمة بسبب عمليات الإضافة أو التغيير المستمرة؛ إذ لم يتوقف أبي قط عن التفكير في التحسينات الممكن إدخالها على البيت أو الحديقة، وكان بوسعنا أن نحصل على كل ما نريد فيما يتعلق بهذا الجانب. إذا كان يحتاج أحدنا إلى غرفة إضافية، فلا ضير في ذلك؛ فهكذا ينشأ مكان إضافي للمعيشة، ومساحة إضافية ليقوم بأعمال التشطيبات اللازمة لها.
ودفع الشغف باكتشاف «العالم» أمي إلى تأجير غرف في بيتنا كل صيف، مع تفضيل الضيوف الألمان والهولنديين الذين يتمتعون بذكاء استراتيجي جعلهم يختارون هذا المكان بين بحيرة بودينزيه وغابة بريجينتس لقضاء عطلتهم. بعدما استكمل أبي بناء سطح بيتنا أصبحنا نؤجر غرفا على مدار العام كله؛ سواء لمعلمات زميلات لأمي، أو لشباب ليست لديهم متطلبات عالية.
في عام 1977 جاء «العالم» إلى أمي. كان لدينا مستأجر اسمه بيش، وكان اسمه الذي يعني سوء الحظ مناسبا له، كان شعره أسود، وكان يحب ارتداء اللون الأسود، ولم يعرف أحد عمله على وجه التحديد، ولكنه كان لطيفا وودودا. وكنا نحن الأطفال نأكل سكر الشعير الخاص به كلما تركه. عندما كنا نذهب إلى القداس ويطلب منا إحضار مجلات قديمة كان الآخرون يحضرون مجلة «فرنزيه تسايتونج» أو مجلة «شتادت جوتيس»، وكنا نحضر مجلتي «شتيرن» و«شبيجل» الألمانيتين؛ حيث كان السيد بيش يلقي بهما تحت الدرج مع الأوراق القديمة، وكنا نعود ومعنا المجلات من الكنيسة.
ذات يوم نزل بيش من غرفته أعلى المنزل وقال إنه سيضطر إلى الانتقال إلى سكن آخر، وأنه لا يملك ما يكفي لدفع قيمة آخر إيجار؛ لذا سيترك لنا المذياع والموقد. وافق أبي على العرض، وغادر المستأجر، وبعد أيام حضرت الشرطة للسؤال عنه للاشتباه في انتمائه لمنظمة «الجيش الأحمر» الإرهابية، فأخبرناهم بأنه قد رحل.
في نفس هذا الوقت قام أعضاء في «حركة 2 يونيو» باختطاف السيد بالمرز صاحب مصنع الجوارب، وقام رجل منهم - كانت لهجته توضح بسهولة أنه من فورآرلبرج - بعمل الاتصالات الهاتفية اللازمة لطلب الفدية. ونشرت الصحف رقما هاتفيا ليتصل الناس به ويستمعوا إلى تسجيل لصوت الرجل المطلوب عسى أن يتعرف أحد على صوت ذلك المجرم. كنت في التاسعة من عمري، وطلبت سرا ذلك الرقم عدة مرات، وبدت لي الشعارات التي كان يرددها مخيفة وغريبة، ولكني على أي حال لم أفهم شيئا. وبلغت الإثارة ذروتها عندما أثبتوا أن المتصل كان شابا من فولفورت؛ هو السيد بيش، الذي كان تلميذا عند أمي في المدرسة قبل ذلك، وذكرت أمي أنه كان فتى هادئا جدا ولطيفا، وأنها كانت تشعر تجاهه بالود.
ولم نسمع شيئا عن السيد بيش لسنوات طويلة. وشعرنا نحن الأطفال بعد ذلك بسعادة كبيرة؛ لأننا كنا نؤوي إرهابيا مطلوبا للعدالة، وكنا نأكل سكر الشعير الخاص به، واعتقدنا أن فولفورت هي المعقل السري لمنظمة «الجيش الأحمر» الإرهابية. وذات يوم فوجئنا بالسيد بيش واقفا أمام باب بيتنا في زيارة قصيرة ، وأصابنا ذلك بشيء من الذهول. سأله أبي لماذا كانت الشرطة تبحث عنه، فأشاح بيده وقال إنهم وجدوه بسرعة وأخلوا سبيله بسرعة، وأن الأمر كله كان بسبب الهستيريا التي سادت عام 1977.
فظهر على أبي الارتياح، ولكني أصبت بخيبة الأمل.
كانت طفولتي تنتهي بالتدريج، وكان أبي حتى ذلك الوقت أبا جيدا وسعيدا، حتى جاءت اللحظة التي كان عليه أن يأخذ بزمام المبادرة فيها. لم يكن يحب الأطفال وهم في سن المراهقة، وهو ليس الوحيد في ذلك. كان عليه العمل على كسب هؤلاء الشباب وتحميسهم لعمل شيء مفيد، ولكن لم يكن من طبيعته المبادرة بالتواصل مع الآخرين؛ لذا فضل أن ينسحب من المشهد، وأن يتصلب في قالب عادات كيانه الريفي.
سمعت يوما أن كلمة الوطن وكلمة العادات في اللغة اليونانية تنتميان إلى نفس الأصل اللغوي.
عندما كان جرس الهاتف يرن، لم يكن أبي يتحرك من مكانه؛ لأنه لم يكن يتصور أن أحدا يحتاج إليه في شيء.
فكان يقول: «هذا بالتأكيد ليس لي.»
كذلك لم يعد ينتظر ساعي البريد، ولم عساه ينتظره وهو لا ينتظر ولا يتوقع أن يأتيه بخطاب؟
وتحول أبي في عيني بالتدريج إلى إنسان لا يربطني به شيء، ولأنه كان من المستحيل أن أوجه ثورة الشباب ضد السلطة الأبوية (علما بأنه لم يحاول قط فرض سيطرته على أحد) فقد بحثت عن بديل، وثرت في وجه التجاهل الأبوي؛ فعادة نجد أن رعاية والدينا لنا إما أقل أو أكثر مما يجب. واتهمته بعدم الاكتراث بأمورنا، ولكنه لم يكن يرد على مثل تلك الاتهامات؛ مما زاد غضبي عليه، فلم أكن أفهم ذلك الوضع؛ ومن ثم لم يكن بوسعي التصالح معه، حتى إني أسقطته يوما من حساباتي واعتبرته شخصا لا يعنيني. كان لدي ما يكفي من المشاكل، ومع أن هذا كان صحيحا فإنه كان مجرد محاولة فرار؛ لأن اهتماماتي قد تغيرت بما يتواكب مع سني.
ربما وصل تأزم الوضع بيننا إلى درجة لا يمكنني أن أدعي معها رغبتي في رأب الصدع بيني وبينه في ذاك الوقت؛ إذ لم يكن له وقتها أهمية خاصة في حياتي، وفي بعض الأحيان كان وجوده ليس مهما بالنسبة إلي.
لفت انتباهي منذ صغري رويته في تقييم الآخرين؛ فلم يكن يتسرع في إصدار الأحكام ضدهم أو يتكلم عنهم بالسوء. وثمنت ذلك فيه وأنا أقف منه على مسافة تزداد بعدا.
أصبح أبي يقضي فترات طويلة في القبو، تحديدا في الورشة؛ حيث كان يمكنه أن يغزل حبائل أفكاره أو أن يهيم معها على غير هدى، وكان بوسعه هناك أن يخلص حياته من أي تأثيرات خارجية؛ فقد كانت الورشة بمثابة الملجأ والوطن له، وما زلت أدهش للنظام الذي كانت عليه الورشة. قام في السبعينيات بتثبيت لوح خشبي في السقف المنخفض، ثم ثبت فيه بانتظام أغطية برطمانات أغذية الأطفال، وبعد ذلك وضع الأشياء الصغيرة مثل المسامير والأزرار في تلك البرطمانات، ثم ثبتها في أغطيتها لتصبح متدلية من اللوح الخشبي، وما زالت العشرات منها معلقة من سقف الورشة حتى اليوم بانتظام ملفت، حتى إن زوجته وأولاده كانوا يجدون ما يبحثون عنه دون عناء.
عندما كان أحدنا يسأل: «أين أبي؟»
كان الرد يأتي عادة: «في الورشة على ما أظن.» «ماذا يفعل هناك؟» «بالتأكيد شيئا سخيفا آخر.» •••
تطفو في ذكرياتي مواقف مشابهة كثيرة من تلك الفترة فوق السطح. لم يرغب أحد من أعضاء الأسرة في أن يخرج أبي، الذي يعيش على هامش حياتنا الأسرية، عن عزلته ويقوم بإزعاج الأسرة في حياتها المعتادة (حتى ولو ظل المثقاب الكهربي في القبو يؤثر على صورة التليفزيون، وظل الطرق والضوضاء المتواصلين من جانب البيت هذا أو ذاك يضايقان الأطفال في الوقت الذي يجب عليهم الاستذكار فيه أو يرغبون في القراءة). حتى مشاعري عند بداية مرض أبي تبعت نفس النموذج. ظننت أني لا أريد أن يتسبب المرض في جعل أبي ينعزل عن حياتي وأن يؤثر عليها سلبا حتى وهو في عزلته. إذا أمعنا النظر فإن أبي عاش في بداية مرضه نفس حياته الرتيبة التي تشبه حياة الشخصية الروائية روبنسون كروزو، وكانت الأسرة تمثل له خلفية القصة؛ فهي البحر والريح والغابة والماعز وخادمه فرايداي.
وقصة روبنسون كروزو هي الرواية الوحيدة التي قرأها أبي في حياته، بل وقرأها عدة مرات. وتعد تلك الرواية من أهم أعمال الأدب العالمي، ولا يقوم الحب فيها بدور مهم؛ فأهم موضوعاتها كان تحقيق الذات. سمى أبي أول سيارة امتلكها، وكانت من طراز «دي كيه دبليو كابريو» موديل 1934، «روبين»، وقد سافر بهذه السيارة لمدة يومين أو ثلاثة إلى جنوب التيرول مع بعض أصدقائه في نفس عام شرائها 1955 قبل زواجه بفترة طويلة. •••
ومرت أعوام الثمانينيات ولم يكن والداي أفضل مثال على الزيجة السعيدة. أدى مرور الوقت إلى اتساع هوة الاختلاف بينهما بدلا من رأبها. سادت البيت حالة من الكآبة، وساعدت مراهقة الأبناء في تفكك البيت أكثر. ولأن المرء ينطلق دائما من أن الأسرة شيء منسجم ومتجانس، بدأ كل من في البيت يشعر بأنه جسم غريب فيه، وبعد فترة شعر الجميع بأنهم منعزلون؛ يعتمدون على أنفسهم، وينشغلون بأمور لا يأبه بها الآخرون.
قال عمي يوزيف ذات مرة: «لم تسر الأمور في بيتنا أيضا كما ينبغي لها أن تسير؛ فعندما كان أحدنا يواجه مشكلة في المدرسة لم يكن يتحدث عنها حتى مع أخيه، وإذا سعد لأمر، كان يخفيه ويذهب إلى الغرفة العلوية ليقفز في الهواء فرحا.»
وشابه ذلك تقييمي للوضع في بيتنا عندما كنت شابا؛ إذ لم أكن أشعر أني في بيتي إلا بوضع حدود واضحة تفصلني عن الآخرين، وفي آخر الأمر كان كل منا يشعر بأن الكيل قد طفح من الآخر، أو على الأقل كان هذا إحساسي. •••
عندما أنهيت دراستي الثانوية كان تمزق العائلة قد بدأ يؤثر بصورة ملحوظة على الحالة النفسية لأفرادها، ولكن لحسن الحظ كان تدارك ذلك ممكنا، كما ظهر عندما تغيرت الأوضاع بعد سنوات.
كل تلك الذكريات محيت تماما من ذاكرة أبي، بينما ما زالت نبتة النسيان تنمو لدي ببطء. عايشت بعض الأمور مع والدي في أثناء فترة دراستي؛ فقد كانت أمي تعاني بصورة متزايدة من الضغوط التي تحاصرها، وعندما أفكر في الماضي لا أعجب من سوء حالتها المزاجية معظم الوقت. ففي الحفلة الخاصة باجتيازي للمرحلة الثانوية كان والداي متعاركين، وضايق أمي أني كنت الوحيد من بين أقراني الذي لا يرتدي قميصا. أخذني أبي بعيدا وشرح لي الموضوع بطريقته الهادئة، وسألني عن رأيي في أن يشتري من أحد الندل قميصه. ولكي يبرهن على جدية موقفه أخرج حافظة نقوده (وكانت الصورة لا تزال فيها) من جيب سترته الداخلي، وأخبرني أن معه ما يكفي من المال، وأن كل نادل يكون لديه قميص احتياطي في خزانته تحسبا للظروف، كأن ينسكب على ملابسه شيء وهو يقدمه للناس. وطلب مني أن أفكر، فالأمر ليس صعبا؛ فنظرت إلى أبي وكأنه مخلوق فضائي قادم من القمر، وأخبرته رفضي الفكرة؛ لأني لا أرغب في الوقوف هناك مرتديا قميص النادل. واليوم يجب أن أقول إن العرض الذي قدمه أبي كان عرضا جيدا وسعيا طيبا منه لإيجاد حل للمشكلة. •••
بعد أسابيع غادرت فولفورت للدراسة.
ما أهم شيء في الحياة يا أبي؟
لا أعرف، لقد عشت أشياء كثيرة. ولكن المهم ...
هل تذكرت شيئا يا أبي؟
المهم أن يكون حديث الناس عنك طيبا؛ فهذا يجعل كل شيء أسهل.
وماذا تكره؟
عندما أضطر إلى اتباع الآخرين؛ فلا أحب أن يسوقني الآخرون على غير هدى.
ومن يسوقك على غير هدى؟
في هذه اللحظة تحديدا لا أحد.
الفصل السابع
في الأيام الباردة أو الممطرة في السبعينيات كنا نجلس حول الطاولة في المطبخ ونلعب «لعبة الحياة»، وهي لعبة تتكون من لوح خشبي ومجموعة من القطع، ويمكن تحقيق مكسب مادي عند الفوز فيها، ومسموح للأطفال فوق العاشرة بلعبها. كانت على اللوح الخشبي رسومات ملونة تتعلق بالسن ومرحلة الحياة، يقوم اللاعب بإدارة عجلة الحظ ويتبع الطريق الذي تفرضه عليه العجلة: التعليم، السفر، الزواج، النجاح، الفشل، المنازل التي كانت تبنى وكانت تحترق بعد ذلك، الفشل في العمل، اكتشاف حقل بترول، خسائر في البورصة، اليوبيل الفضي للزواج، بلوغ سن التقاعد. لم ندرك وقتها أن الطريق الذي كان علينا قطعه في اللعبة لا يعتبر شيئا مقارنة بالحياة، كما لم نتصور مدى تعلق الفشل والنجاح بالحظ.
عندما كان أحد اللاعبين يصاب بحادث في اللعبة أو يضطر للتوقف عن اللعب بسبب المرض، كنا نضحك في بهجة. •••
وبدأ أبي يفقد قدرته على التوجه المكاني شيئا فشيئا؛ فكان يخرج ماشيا في الجوار في جنح الليل مرتديا ملابس النوم، وخفنا أن يصيبه مكروه؛ لذا قررنا توفير رعاية له على مدار الساعة؛ فبدأنا في غلق الباب المؤدي إلى الدرج ليلا.
وقد استطاعت السيدات السلوفاكيات اللاتي كن يأتين إلى بيتنا لرعايته تنظيم حياته اليومية، بعد أن كان تغير الأشخاص الذين يحضرون إلى غرفة نومه صباحا يصيبه بالحيرة. فتحسنت حالته في غضون فترة وجيزة، ولاحظنا كيف بدأ يستعيد نشاطه، وارتبطت بذلك حقيقة أن المرض كانت حدته تخف كلما تقدم، وبدأ بالنسبة إلى أبي العصر الذهبي لمرض ألزهايمر.
كل مريض ألزهايمر يختلف عن الآخر، والتعميمات عادة تكون غير دقيقة، ولكن الأمر المشترك بين مرضى ألزهايمر جميعا هو عدم إمكانية ثبر أغوارهم؛ فكل مريض حالة مفردة، له قدرات ومشاعر ومسار مختلف لمرضه.
في حالة أبي سار المرض ببطء، وبقدر عدم إدراكه لسوء حالته بقدر ما خف تأثير المرض على حالته المزاجية. ورغم إدراكه المرض في البداية فإنه لم يخف منه خوفا شديدا؛ فقد تقبل قدره بارتياح؛ مما جعل موقفه الداخلي الإيجابي دائما يظهر بوضوح.
وأصبح من النادر أن يهيم على وجهه في البيت دون وجهة، ولكن ظلت هناك مواقف يطلب فيها الذهاب إلى البيت، إلا أن هذا الطلب لم يعد مصحوبا بحالات الهلع التي كانت تصيبه من قبل. كان صوته عادة يخرج هادئا وكأنه إنسان يعلم أن نهاية الحياة دائما تكون سيئة؛ ومن ثم فلا داعي للانفعال.
وعندما أصابه الملل ذات مرة من انتظار أي شخص يأخذه إلى البيت قال: «سأذهب الآن إلى البيت. هل ستأتي معي أم ستبقى هنا؟»
فأجبته: «سأبقى هنا.» «إذن سأذهب وحدي؛ فبم سيفيدني الانتظار هنا؟ من يعلم؟ ربما سأذهب إلى البيت في شهر نوفمبر، وربما اضطررت لدفع مبلغ ما؛ لذا الفرصة الوحيدة المتاحة أمامي هي التوجه إلى البيت فورا.» «إذن، فاذهب!» «هل مسموح لي أن أذهب؟» «إذا كنت تريد ذلك، فأنت حر.» «أمر آخر، هل يمكن أن آخذ معي أقربائي؟» «بالتأكيد، خذهم معك.» «حسنا، شكرا لك.»
نظر حوله وكأنه يريد تذكر ما يريد أخذه معه، ثم قال راضيا: «لم يعد هذا أمرا يعنيني شخصيا.»
وبعدها جاء إلي مرة أخرى عند الطاولة وبدا على وجهه الإحراج من هذا الموقف، تردد قليلا ولكنه تكلم في النهاية. «هل يمكن أن تعطيني عنوانا أو أي إرشادات أخرى؟ مثلا أن تقول لي سر حتى نهاية الشارع العلوي حتى ترى البيت.»
شعرت بشفقة كبيرة عليه للطريقة التي طلب بها المساعدة، فقلت له: «لقد فكرت وسآتي معك؛ فإذا انتظرتني نصف ساعة حتى أنتهي من الكتابة، فسنذهب معا.»
سألني: «إلى أين؟»
فقلت: «إلى البيت، أنا أيضا أريد الذهاب إلى البيت.» «حقا؟» «نعم، ولكن قبل أن نذهب عليك أن تستريح قليلا وتجمع طاقتك.» «هل المكان بعيد؟» «قليلا، ولكن يمكننا قطع الطريق دفعة واحدة.» «وستذهب فعلا معي؟» «نعم، بكل تأكيد.» «ستفعل هذا حقا؟»
ربت في حنان على يده وقلت له: «نعم، وبكل سرور.»
أعجبه الرد كثيرا، فأشرق وجهه وأخذ بيدي وقال:
شكرا لك.
ثم جلس معي إلى الطاولة وقضينا أمسية هادئة إلى حد ما، حتى جاءت المشرفة على رعايته وأخذته إلى سريره. •••
كثيرا ما كان يظنني أخاه باول، وكان هذا سواء بالنسبة إلي؛ فأهم شيء أنه يعتبرني من العائلة. وكنت أرضى كذلك عندما يحييني في الصباح منشدا أغنية:
حياك الرب يا أخي الجميل.
وأحيانا كان يغير مسار كلامه في وسط الجملة ويقدمني على أنني أخوه باول - حارس الغابة - ويضيف: «إنه شاعر ومفكر.»
لم يعد أبي يترك البيت وحده تقريبا قط. في بعض الأحيان كان يجلس على السور أمام البيت، أو يقف في الشرفة الخارجية ناظرا إلى القرية أسفل منه. في تلك اللحظات كنت أتوقع أن يكون قد برأ من مرضه، فيستدير إلي ويجري معي حديثا عاديا عابرا. لم يكن يوبخني ولا يسدي إلى النصائح؛ فلا أذكر أنه ألقى علي محاضرة تربوية مهمة؛ فقد كان يفضل إبداء الملاحظات عن الطقس وتغيرات الطبيعة.
من يراه في ذلك الحين واقفا في ظل الأشجار سيعتقد بالتأكيد أن كل شيء فيه ما زال على ما يرام.
ظننت وقتها أن ما بقي من الوقت قليل، وأخذت أفكر فيما سيحمله لنا العام القادم، ثم الذي يليه، سنتان أو ثلاث. هذه المدة تقريبا التي أعمل فيها على كتابة رواية. ثلاثة أعوام كانت تقريبا المدة التي اعتقدت أني سأتمكن من التواصل مع أبي خلالها؛ لذلك كنت أحضر إلى فورآرلبرج كلما استطعت، وكنت أعفي المشرفات على رعايته من العمل مساء لأقضي معه الوقت وحدي.
كانت الأيام تمر في سلام تام، حتى إنني كنت أعتقد أحيانا أن هناك مشكلة في أذني؛ لأني لم أعتد هذا الهدوء. عندما كنت أعمل كان أبي يجلس إلى طاولة المطبخ في مواجهتي ساعات طوال. كان يمسح بيده على الطاولة ويتنفس أحيانا بسرعة وبإيقاع منتظم، أو يقف لفترة طويلة أمام حامل الصحف، عدا ذلك كان يتصرف بهدوء. وأحيانا كان يطرح سؤالا ثم نتجاذب أطراف الحديث بعض الوقت، أو ينظر إلى ما أكتب على الكمبيوتر المحمول الخاص بي ويقرؤه، وسألته إذا كان يهتم بما أكتب، فقال: «نعم، ربما أهتم به قليلا.»
ثم جلس وبدا وكأنه غارق في الأحلام. عندما كان يجلس تائه الفكر، كنت أراه على حالته القديمة، وأحيانا كان يلعب بأصابعه وكأنه لا يوجد شيء مهم آخر يجب القيام به، أو كان يطلب مني إخباره إذا كان باستطاعته مساعدتي.
ثم يضيف: «أعرف، للأسف، أن نتائج ما أقوم به لم تعد جيدة ومعدل إنجازي ضعيف جدا. الأمر صعب، لن أستطيع مساعدتك.» «أنت أكثر شخص يساعدني يا أبي.» «لا تقل ذلك!» «بالتأكيد، فأنت بالفعل أكثر شخص يساعدني.» «لطيف منك أن تقول ذلك.» «هذه حقيقة.»
فكر قليلا ثم قال: «إذن فسأضع ذلك في الاعتبار حاليا.»
عندما كان يجلس وحده في الغرفة، كان يغني، وكثيرا بصوت مرتفع . فكرت في أنه لو استمر على ذلك فسيبلغ التسعين. عاش أبي بطريقة صحية؛ إذ دأب على تناول وجبات منتظمة يوميا، فضلا عن قيامه بكثير من الغناء والتنزه والنوم الطويل. كذلك كان يقدم له اللحم كل يوم عدا يوم الجمعة، وكانت المشرفات السلوفاكيات يحرصن على الالتزام بمثل تلك الأمور. كذلك كن يصحبنه يوم الأحد إلى الكنيسة، عندما يكون بيتر والأسرة قد سبقوه في المساء إلى هناك.
وكان أبي يغير كلمات الأغاني ممازحا وهو ينشدها. كذلك زادت إبداعاته اللغوية وهو يتحدث أيضا؛ فقد عادت روح المرح إليه مجددا، وكأن حديقة جميلة مهجورة عاد شيء من جمالها للظهور.
قال ذات مرة: «كنت أشارك في تلك الأمور إلى حد ما.» ثم استدرك قائلا: «ولكن عليك أن تفهم قولي «إلى حد ما» على أنه حد قريب وليس بعيدا.»
أدهشتني كثيرا طريقة تعبيره، وكنت أشعر عند سماعه بأنني أقترب من نبع الكلمات السحرية. قال جيمس جويس، متحدثا عن نفسه، إنه لا يمتلك مخيلة واسعة، ولكنه يترك العنان للغة. وهكذا بدا لي أبي؛ فقد كان يغير الكلمات؛ فمثلا بدل كلمة «مستقبل» كان يقول «مستقفل»، وبدلا من قول «هذه غاية علمي» كان يقول: «هذه نهاية حياتي.» أيضا كان يشدد على نطق الحروف لإظهار المقاطع المختلفة في الكلمات المتشابهة؛ مثل: «عاجل» و«عجول»، أو «أسرع» و«بسرعة». وكان يستخدم أيضا عبارات قديمة لم أسمعها منذ زمن؛ مثل: «هذا طول المفرش الكتان وعرضه، ولن يجدي جذبه من أطرافه وشده.» «من يجد التعثر لا يقع.» «كف عن التظاهر وكأنك وجدت مسامير الحذاء في صحن الحساء.»
وعندما كان ينسى كلمة كان يقول: «لا أدري كيف يمكن أن أسميها.»
كانت الكلمات تنساب من فمه ببساطة، وكان يقول بهدوء ما يخطر بباله، وعادة كان ما يقوله ليس مبتكرا فحسب، بل عميق أيضا، حتى إنني كنت أتساءل كيف أعجز عن قول مثله! أدهشتني دقته في التعبير وقدرته على إيجاد اللهجة المناسبة ومهارته في اختيار الكلمات. فقد قال لي: «أنت وأنا، سيجعل كل منا حياة الآخر أفضل ما يمكن، وإذا فشلنا في ذلك، فعلى الأقل سيخرج أحدنا صفر اليدين.»
في مثل تلك المواقف كنت أشعر وكأنه يخرج من بيت المرض ليتنسم الهواء النقي؛ للحظات كان يعود لذاته. عشنا أوقاتا سعيدة، أجمل ما فيها أنها كانت تأتي رغم أنف المرض.
وفي يوم آخر قال: «أشعر حسب تقييمي للوضع أني بخير؛ فأنا رجل مسن، ويجب أن أفعل الآن ما يحلو لي، ثم أرى إلام سيؤدي.» «ماذا تريد أن تفعل يا أبي؟» «لا شيء، هذا أجمل ما في الموضوع. كما تعلم، يجب أن يكون الإنسان قادرا على ذلك.» •••
إما أن يكون أبي قد فقد القدرة على إدراك مأساته، أو توقف عن الشعور بمدى مأساويتها. حتى عندما اكتشفنا وجود ورم في المثانة عنده بعد أن نزف كثيرا في أثناء التبول، لم يتوتر أبي كثيرا؛ ظل محتفظا بهدوئه، ولكنه تعجب قليلا، إلا أنه بعد إجراء العملية ظل فترة مشوشا بسبب التخدير والمكان الغريب عليه. فرح الجميع عندما سمح الأطباء له بالعودة إلى البيت، وهناك تحسنت حالته بسرعة، وعرف على الفور أنه في البيت. وكان لذلك دلالته.
وعندما كان في المستشفى شكا للمشرفة على رعايته دانيلا آلاما يعانيها، ولكنها أجابت بأنها لا تستطيع أن تفعل له شيئا، ولكنها ستبقى بجانبه. عندها قال: «عندما تكونين بجانبي، فإن هذا يساعدني كثيرا.»
اكتشفنا أيضا إصابة أبي بمرض السكري الذي يصيب غالبا كبار السن. وأثبت أبي قدرة فائقة في ابتلاع أقراص الأدوية مهما كان حجمها، دون الاستعانة بأي سوائل، كل صباح، بينما كان يعلو وجهه تعبير عجيب، ولم يكن يشرب إلا بعد أن يستقر الدواء في معدته.
منذ فترة لم يعد قادرا على إدراك الفرق بين الواقع وما يراه في التليفزيون. كان يسأل كيف يمكن أن تظهر هناك - حيث ينظر - غرفة لا يعرفها، وبعدها بلحظة تظهر سيارة؟! «من أين أتت السيارة؟»
وصل الأمر إلى ذروته عندما نهض ذات مرة من فوق الأريكة حاملا كعك عيد الميلاد ليقدم منه لمذيع الأخبار في التليفزيون. وعندما لم يستجب المذيع لدعوة أبي، أخذ قطعة وقربها من فمه في التليفزيون واقترح عليه أن يجربها. تضايق أبي لما أبداه المذيع من تصرف غير لائق، وأصابنا المشهد بصدمة، بالرغم مما فيه من فكاهة. كان الأمر مرعبا.
في الواقع، كان المرض يؤدي إلى ظهور أعراض غريبة عليه، عادة ما كانت تستمر لفترات قصيرة، وعادة كانت تدل على أن أبي لا يشعر بأنه في حال جيدة، ولكن حالته كانت تتحسن بصورة سريعة جدا تبعا لدرجة الرعاية التي يتلقاها.
كان أبي يشعر بارتياح وانسجام كبيرين مع بعض المشرفات، في حين كانت أخريات يفشلن في إعطائه الإحساس بالرعاية والاهتمام؛ لذلك كان معهن مشوشا وخائفا ومتوترا ويشعر بأنه في مشكلة حقيقية.
صرخ أبي يوما: «يوجد إطلاق نيران، يجب أن نختبئ! السويسريون يطلقون النار مجددا.» •••
تصاعدت سحابة دخان رمادية مشربة بلون بني فاتح من بيت جدي؛ إذ كان عمي روبيرت يحضر العرق، وكان عمي إيريش قد خرج فيما بعد الظهيرة ومعه دلو وجاروف صغير ماشيا عبر الحقل إلى أعلى التل لتقليم أشجار البلوط الصغيرة التي لا تتوقف عن النمو. وأصبح الدخان المتصاعد من الفرن شبه شفاف، ربما يكون العرق في آخر مراحل النضج. رأيت من غرفة مكتبي شجرة الجوز وهي تتوارى وتختفي خلف الدخان.
كان يوما باردا وسحبه خفيفة. خلف بيتي بحث سرب من العصافير عن طعام بين أشجار التوت.
عندما رن جرس هاتفي المحمول كنت أعمل منذ ساعة على وضع تصور لرواية «كل شيء عن سالي»، وأشرب قهوة من فنجان قديم جزء منه مكسور، وكانت المتصلة ماريا، إحدى المشرفات على رعاية أبي. حاولت أن تقنع أبي بالاستحمام ولكنه رفض وحبس نفسه في الحمام عندما خرجت للحظة، ورفض الخروج.
صعدت إليهما في الطابق العلوي لعلاج المشكلة. وبعد إلحاحي في الرجاء فتح أبي الباب. كان يجلس على مقعد الحمام مرتديا بنطالا طويلا وفانلة بيضاء دون أكمام، وجلده متدل عند أعلى ذراعيه بعد أن أنهكه توتر الموقف. كان متوشحا باثنتين من فوط الاستحمام وكأنه محارب قديم، وفي إحدى يديه أمسك بفرشاة ظهر طويلة ممدودة للأمام، وفي الأخرى مبرد الأظافر شاهرا إياه كسلاح له. كان يبدو فعلا مثل ملك، بصولجانه وسيفه، ولكن وجهه كان يحمل خاتم الجنون.
سألته إذا كان يريد مشاهدة التليفزيون معي.
فلم ينظر إلي، وعبس وجهه، وكأنه عازم على تصعيد الأمر. أخذ يهذي وينظر مرارا إلى صنبور الاستحمام، وسألني عما يجب عليه فعله مع «الآخرين».
وبدأ يلوح بالفرشاة الكبيرة ومبرد الأظافر؛ مما أفقدني تركيزي. وبدلا من أن أطمئنه بادعاء أني سأحميه منهم وأبعدهم عنه، حاولت أن أصرف انتباهه، ولكن دون جدوى. استمر إحساسه بالتهديد وهو ينظر يمينا ويسارا في وضع الاستعداد ورأسه ممدود للأمام.
عندما أردت أخذ الفرشاة منه لوح بالفرشاة في وجهي، ففزعت وقلت له: «هل جننت؟! أنت كاتب محترم في الإدارة المحلية! كيف تفعل شيئا كهذا؟ من علمك مثل هذا التصرف؟ بالتأكيد ليست أمي! وأنت لم تعلمنا نحن أولادك مثل هذه الأفعال!»
انهلت عليه بهذا الكلام وأنا أعرف أن بعضه سيعني الكثير بالنسبة إليه. والجميل هو أن هذه الخطبة العصماء أثرت فيه. نظر إلي متحيرا وكأنه خجل مما فعل، وترك الفرشاة ورضي أن آخذ منه المبرد. وهكذا تخطينا الجزء الأسوأ. ألبسته قميصا واحتلت الحيل حتى أجلسته أمام التليفزيون. ثم هدأ روعه وأصبح مرحا بطريقة مبالغ فيها، في حين كانت ماريا في حجرتها تبكي بعد أن حاولت معه لمدة ساعة وهددها عدة مرات بالفرشاة.
اتصلت بهيلجا التي واجهت معه مثل هذه المواقف المتأزمة من قبل، طلبت منها القدوم للاعتناء بماريا، أما أنا فقضيت المساء مع أبي الذي كان لأول مرة عنيفا إلى هذه الدرجة. كان مرحا ولطيفا جدا وكأنه يعرف كم أقلقني، وكأنه يريد أن تذهب صفحة ما حدث طي النسيان. هذه المرة اكتفت نار الجحيم بأن مستنا.
ولكني لم أدر كيف ستصير الأمور بعد ذلك؛ فستكون مشكلة كبيرة إذا تكرر مثل هذه الأحداث. والمشرفات كن يتفاعلن بحساسية شديدة مع المواقف المتأزمة. لقد أخافني أنا نفسي، وتملكتني خيالات بأنه أصبح مريضا عقليا عنيفا.
ربما تساءل أبي: ماذا تريد هذه السيدة مني؟ الاستحمام؟ هذه بالتأكيد خدعة! لن أترك الغرباء يتحكمون في. إنها لا تتكلم الألمانية بطلاقة، ومع ذلك تسمح لنفسها بإعطائي أوامر وبأن تدفعني. هذا أمر مريب!
لم يكن أبي يحب تذكر الممرضات الروسيات في المعسكر بالقرب من براتيسلافا؛ فبدلا من الرعاية كان يتلقى منهن الأوامر. ربما بقي شيء من تلك الذكريات عالقا في ذهنه وخرج في تلك اللحظة، لا أدري، ولكنها كانت مصادفة غريبة أن تأتي المشرفات على رعايته في فولفورت من سلوفاكيا وبعضهن رأسا من براتيسلافا.
شاهدنا معا في تلك الليلة الموعودة برنامج «هل تفهم الدعابة؟» وبدا أبي مهتما، وعلق ضاحكا على «السخافات» - كما كان يسميها - التي عرضوها، بينما كنت أدون في الكمبيوتر المحمول الخاص بي ملاحظات عما حدث. أعطيت ماريا راحة لبقية المساء، ولشدة شوقها للعودة إلى وطنها تركت العمل لدينا بعد أيام قلائل.
لا أذكر تحديدا إذا كانت قد عرضت في تلك الليلة في برنامج «هل تفهم الدعابة؟» الفقرة التي تعطل فيها مصعد أحد الفنادق وفيه مجموعة من الضيوف، وفجأة انطفأ النور وبعد ثوان عاد، ولكن شابا من بين الموجودين كان قد اختفى وظلت حقيبته ملقاة على الأرض، ومعظم ركاب المصعد انزعجوا بشدة، عدا امرأة لم تتوقف عن الضحك؛ كانت تضحك بحق من كل قلبها.
عندما كان أبي يهذي كان الأمر في عقله بالتأكيد يشبه ذلك الموقف؛ ينطفئ النور لبرهة وفجأة يتغير الموقف من حوله، دون أي تفسير! العقل الذي يعاني مثل هذه الأمور الغريبة يكون بالتأكيد في حالة طوارئ مستمرة. •••
اتصلت بعد أسابيع قليلة العمة هدفيج، زوجة إميل، وتركت لي رسالة مسجلة، فعاودت الاتصال بها. كان الموضوع يتعلق بكاتارينا، طفلة ابنة عمتي ماريا. عانت كاتارينا، بسبب إصابتها بحمى، من شلل تام لعدة أسابيع لم تقدر فيها إلا على تحريك عينيها. ودونت كاتارينا بعد الشفاء ما مرت به في هذه التجربة مع الكوابيس التي داهمتها لأيام طويلة بسبب الأدوية. تحدثت مع عمتي هدفيج أيضا عن أبي، وأخبرتني عن رحلة قام بها ابن عمي شتيفان معه ، أكد أبي له خلالها أنه عاش حياة سعيدة. تعجبت عمتي لذلك؛ فقليل من الناس من يعترف بشعوره بالسعادة، وكانت دهشتها تزداد كلما تذكرت الصورة التي أخذت لأبي بعد إطلاق سراحه من المعتقل.
فأخبرتها عن استيائي لضياع تلك الصورة وحافظة نقود أبي، ولكنها طمأنتني بقولها: «يا أرنو، لدي نسخة منها، لا أعرف كيف وصلت إلينا، ولكن لدينا نسخة.» «هل أنت متأكدة؟»
وصفت لها الصورة.
فقالت: «نعم، أنا متأكدة. إذا أردت فسأبحث عنها، يمكنك أن تأخذها غدا.»
أخذت منها الصورة واستخرجت نسخة من تلك النسخة، وسمحت لي عمتي بالاحتفاظ بالنسخة الأصلية؛ لأنها كانت واحدة من الأشياء التي تعلق بها قلبي.
قرأت على ظهر الصورة أن إميل قام عام 1995 بعمل هذه النسخة؛ وذلك بعد أن كان هو وأبي قد كبرا في السن. كان هذا في عام 1995، حين بدأت كل هذه المعضلة.
كما تعلم، أنا رجل كبير في السن، وأنت ما زلت شابا.
عندما تكون محقا يا أبي يجب أن أعترف لك بذلك.
لقد كبرت في بعض الجوانب.
كلما كبر المرء تعلم المزيد.
أما أنا فلا، للأسف؛ فلم أعد قادرا على ذلك، وسأكون سعيدا لو استطعت في القريب ... القريب ... القريب ... ألا أجلس هنا، فأنا أفضل الخروج قليلا وعدم فعل أي شيء.
يمكنك أن تبقى هنا وألا تفعل أي شيء كما تشاء.
آه لو تعرف! أضطر دائما لفعل أشياء، ولكني أريد التوقف عن ذلك قريبا.
الفصل الثامن
صوت خرير الماء المتساقط عبر المزراب رتيب ومخادع، والإنسان عاجز في مواجهة الماء والزمن.
نبهت أبي إلى تساقط المطر، فنظر إلى النافذة وقال: «يا للأيام الخوالي! عندما كنت شابا كان الجو بالخارج جميلا، والآن أصبح كئيبا ... كئيبا.»
لم يفقد إحساسه بالزمن كلية، لكن ساعته البيولوجية لم تعد سليمة، والأمر المحير هو أنه لم يفقد معرفته بضياع قدراته؛ فقد كان عادة ما يتحدث عن ذلك، وزاد حيرتي أنه في الوقت نفسه لم يعد قادرا على السيطرة على مجريات يومه. لم يكن يدرك ما إذا كان جائعا أو عطشا، وكان يرى أن تناول الطعام أو الشراب بالطريقة المعتادة «ليس بهذه السهولة». ذات مرة كان في الطبق أمامه قطعة خبز، فقال متحسرا إنه لا يدري ماذا يفعل بها. طلب مني النصيحة، فقلت له: «عليك فقط أن تقضم منها.»
لم ينفعه ذلك كثيرا، فرد علي متجهما: «لو كنت أدري كيف! فكما تعلم، أنا شخص مسكين.»
أحيانا كان يردد قوله أنه شخص مسكين كل عدة ساعات، غير أنه لم يكن يقولها حزينا أو معترضا، بل عادة بود وكأن عليه أن يثبت حقيقة مهمة: «أنا شخص لا يتوقع منه شيء. الأمر ميئوس منه.»
كان مثل هذه الجمل مناسبا لشخصيات روايات فرانتس كافكا أو توماس بيرنهارد، وكنت عند سماعها أفكر أن الشخصين المناسبين قد تقابلا: رجل مصاب بمرض ألزهايمر وأديب. يجعل الكاتب توماس بيرنهارد إحدى شخصيات روايته تقول عند إحساسها بالإحباط: أنا عاجز، أنا عاجز لأبعد الحدود. وفي موضع آخر: لم أعد أفهم أي شيء.
كان أبي يكرر كثيرا قوله: «لا أفهم كل ذلك!» قول يعبر عن عجزه عن فهم الآليات التي يتعامل معها. وبالطبع كانت تتبعه الجملة القاطعة: «لم أعد شيئا يذكر.»
كما كان أبي يقيم حالته بالتفصيل، وكانت البهجة التي يعرض بها رأيه في وضعه تصيبني بالقشعريرة. «أنا مسكين على هامش الحياة. نعم، نعم، كانت بداياتي قوية، ولكني الآن أصبحت مسنا ... ومع التقدم في العمر أصابني شيء من اللامبالاة ... لا، ليست لامبالاة ... ليست لا مبالاة، هذه الكلمة غير مناسبة ... بل داهمتني مشاكل.»
ثم يحرك يديه بأن يجعلهما تتقاطعان أمام بطنه عدة مرات مشيرا إلى أن شيئا ما قد انتهى. قال أبي ذلك مرة ثم قام وبحث في عدة أدراج، وبعد ذلك أغلقها. وعندما سألته عن ضالته التي يبحث عنها، عجز عن الإجابة، وقال: «لا شيء، لا شيء يمكن متابعته أو استكماله.»
ثم أردف قائلا: «لقد رأيت شيئا وأسعدني ذلك، ولكن كل هذه الأشياء لم تعد تناسب حالتي.» «وكيف ترى حالتك يا أبي؟» «ضعيف، لا يمكنني فعل شيء إلا بمساعدة الآخرين، ولم أعد أصلح لفعل الكثير. على أي حال، الأمر هكذا ولا يمكنني تغييره. لقد فشلت في كثير من الأمور ... كثير، كان من الممكن أن تسير الأمور بصورة أفضل، ولكني لست حزينا على ذلك، أنا لا أرثي لحالي، مع أني لم أحقق الكثير في الأوقات الأخيرة. في البداية كانت الأمور تسير بطريقة مرضية، ولكنها أخذت تزداد سوءا، والحظ عاندني أيضا.» «أي سوء حظ تعني؟» «لقد أصبحت يداي عاجزتين، وفقدت الأشياء قيمتها فجأة. لا أريد اتهام الآخرين بالمسئولية عن ذلك، أشيائي هي التي أصبحت ضعيفة، لم أعد مناسبا، لم أعش لحظات ازدهار في آخر ... ماذا أقول؟ ... أشهر! ربما كانت الفترة أطول.» «متى كانت لحظات الازدهار في حياتك؟» «لم أعد أفكر فيها. عشت أوقاتا جميلة، وسعدت كثيرا، ولكن، ولكن، ولكن، مضت تلك الأوقات. لقد تلفت بعض الأشياء لدي، أعرف ذلك، لكني لم أعد أحتاجها.»
ثم ذهب إلى الباب، وعاد بعد خمس ثوان. غنى قليلا ونظر في الإناء على الموقد، وبعدها خرج إلى الحديقة، وعندما رجع سألته: «هل يوجد جديد؟» «بالنسبة إلي لا شيء، لا شيء جديدا لدي، دائما هكذا، وأنا سعيد بذلك. كما تعلم، لا يوجد أي جديد لدي، أنا ضعيف، غير قادر على الإنجاز، أصبح الأمر هكذا.» ثم غنى مجددا بعض المقاطع، وقال: «وقريبا ... سأرقد!» «ماذا؟» «لن أفعل شيئا ... كما تعلم، لا توجد لدي أمور مهمة، أشعر بذلك، لا أستطيع البرهنة على ذلك، لكني أشعر به. نعم، هكذا الحال، وما يجب القيام به، يجب على الآخرين فعله.» «لا تشغل بالك بالأمر. دعه لي.»
ضحك وأمسك بيدي وقال: «شكرا، أود فقط أن أشكرك. أنا إنسان مسكين، كنت قديما ... أشكرك على أنك لا تجعل من عجزي مأساة.» «أبي، كل شيء على ما يرام، وتحت السيطرة. بدأت الشمس في المغيب.» «أتعتقد ذلك؟» «أنا أعرف ذلك.» «أشكرك لإخباري، أنا أصبحت للأسف إنسانا خاملا.»
ثم جلس بجانبي إلى الطاولة مسندا رأسه بين يديه. •••
كان دائما يحمل هم أن يكون هناك شيء لم يتم إنجازه. عندما نزلت ذات يوم من الطابق العلوي وجدته واقفا مع مشرفة كانت تدعى لودميلا، كانت تحاول إقناعه بالخلود إلى النوم، ولكنه كان قلقا؛ لأنه لم يتم أداء كل الأعمال، ولأن هناك من ينتظره. فطلبت منه أن يكتفي بما تم إنجازه هذا اليوم؛ لأن الجميع سيخلد إلى النوم، ولكنه سأل باهتمام: «ولكن من سيصطحب الناس إلى الخارج؟!»
ربت على يده قليلا، وقلت له: «أنا سأفعل، يمكنهم الآن أن يغادروا البيت.»
ومن وراء حيرته بدت ابتسامة خفية، ثم غمز لي بعينه وقال: «أنت أعز أصدقائي.» •••
أصبح التعامل اليومي معه عادة يشبه الحياة في الخيال؛ إذ كنا نملأ فجوات الذاكرة بتصورات خيالية، ونبني جسورا لتساعده على فهم ما يستعصي عليه فهمه، وتعينه على مقاومة الهلاوس. المكان الوحيد الذي تبقى للتعايش بيننا كان العالم الذي يدركه والدي، وكثيرا كنا نكرر قول الأشياء التي تدعم وجهة نظره وتسعده قدر استطاعتنا. وتعلمنا أن القداسة المصطنعة التي نضفيها على الحقيقة هي أسوأ الأشياء؛ فهي لم تساعدنا على إحراز أي تقدم، بل أضرت بالجميع. إن محاولة إعطاء مريض ألزهايمر إجابات سليمة تبعا للأعراف المعهودة دون مراعاة حالته يعتبر بمثابة محاولة إجباره على فهم عالم ليس بعالمه.
وهكذا سرنا في طريق يحيد عن الواقع الملموس ثم يعود إليه عبر تعرجات كثيرة. فعندما كان أبي يطلب العودة إلى البيت كنت أقول له: سأرى ما يمكنني فعله، أظن أن باستطاعتي مساعدتك. وعندما كان يستعلم عن أمه، كنت أوحي إليه بأني أعتقد أيضا أنها لا تزال حية، وكنت أؤكد له أنها على علم بكل شيء وتعتني به. كان يسعده سماع ذلك؛ فيشرق وجهه ويهز رأسه راضيا. وإشراق وجهه وهز رأسه كانا دليلين على إحساسه بالرجوع إلى الواقع في تلك اللحظة.
عادة ما كانت الحقيقة الموضوعية لا تأخذ حظها، ولم أكن آبه لذلك؛ فقد كانت عديمة الجدوى، وفي نفس الوقت كانت سعادتي تزداد كلما أوغلت تفسيراتي في بحر الخيال أكثر؛ فقد كان لدي معيار واحد لها: كلما كان تأثيرها مهدئا لأبي كانت أفضل.
كثير من أمور الحياة اليومية يتوقف على آلية التعامل معها، والمطلوب منا كان شديد التعقيد، وبقدر ما كان أبي حزينا لفقدان قدراته العقلية، بقدر ما كانت الأمور الغريبة تشحذ فكر ذويه. كما كان الحديث معه تدريبا جيدا لمقاومة صدأ عقولنا؛ إذ كان يتطلب درجة عالية من الحساسية والخيال، وكان بإمكان كلمة واحدة مناسبة وحركة واحدة سليمة في أفضل الأحوال أن تهدئ من روعه لفترة. كتب فيليكس هارتلاوب في هذا السياق ما مفاده: «أن المرء يمكن أن ينجح في هذه الحالة فقط إذا كان راقصا ماهرا على الحبال.»
قالت دانيلا عن خبراتها مع أبي إن إقناعه بالذهاب إلى النوم والاستيقاظ لا يكون مهمة صعبة إذا سألت «هل أنت متعب؟» «نعم.» «أتريد أن تخلد إلى النوم؟» «نعم.»
يجب جعله عن طريق تلك الأسئلة يطلب ما نريده نحن أن يفعله، بهذه الطريقة أمكن تحقيق بعض النظام في عالمه غير المنتظم، أما إعطاء الأوامر فيفشل دائما؛ فعندما كانت تقول: «أوجوست، عليك الخلود إلى النوم الآن.»
فكان يسأل: «لماذا؟»
وفي مرة كانت دانيلا تكوي الملابس، فشعر أبي بالملل وقال إنه سيذهب إلى البيت، وأن هذا قرار نهائي، وإنه لن يرضى بغير ذلك، فنظرت إليه مصدومة وقالت: «أوجوست، لن أبقى هنا وحدي. إذا ذهبت فسأذهب أنا أيضا، ولكن يجب أن أنتهي من الكي أولا.»
فتفهم الموقف وشكرته على ذلك.
ذكرت دانيلا أنها تشكره دائما حتى عندما تقدم هي له خدمة؛ لأن هذا يشجعه ويشعره بالرضا، ويجعله يتعلق بها إلى حد ما، حتى إنه أصبح يبحث عنها طوال اليوم ويتبعها في كل مكان؛ لأنه يحتاج إلى الشعور بالأمان، وعندها فقط يشعر بالارتياح، وهو يعرف جيدا أنه يحتاج إلى الآخرين حتى لا يضيع. قال لها أبي ذات مرة: «أنا أسكن هذا البيت الذي بنيته وحدي، ولا يوجد حاليا أي من أفراد عائلتي هنا. أنا هنا وحدي مع المشرفات على رعايتي.»
وفي مرة سألني: «من غيرنا في البيت؟» فأجبته أنه لا أحد غيرنا هناك، وأننا وحدنا الآن، فبدا عليه القلق لسماع ذلك وقال: «هذا سيئ ، أنا أحتاج إلى رعاية، ودونها أضيع!»
كان مثل هذه الاستنتاجات يهز أعماقي؛ لأني لم أكن أظنه قادرا على تقييم الأمور بطريقة سليمة؛ لذلك قلت له بسرعة: «أنا هنا، وأنا سأعتني بك.»
فأشرق وجهه مجددا وقال: «أقدر لك أنك توفر وقتا لذلك.»
في يوم آخر قال: «لم يسد إلي أحد صنيعا أبدا، ولكن ربما تكون قد قمت أنت بهذا.» «نعم، ربما أحيانا.»
ولكنه عارضني بحسرة قائلا: «أنت لم تفعل أبدا شيئا من أجلي.»
كانت دانيلا أفضل من تتفاهم معه من المشرفات على رعايته، وكانا منسجمين لدرجة تثير العجب. ذات مرة كانت تريه صور زوجها، فقال أبي إنه يعرفه، ولكنها قالت إن ذلك مستحيل؛ لأنه يعيش في سلوفاكيا. فقال أبي: «أرى أنك إنسانة لطيفة حتى وإن كنت لا أصدق ما تقولين.»
فأصرت على أن زوجها لم يحضر أبدا إلى فورآرلبرج ولا يعرف حتى كلمة واحدة بالألمانية، وكررتها «حتى كلمة»، فقال أبي: «أنت امرأة لطيفة، ولن أزيد على ذلك.»
وحسب كلامها لم يكن البقاء معه مشكلة؛ فكل ما يحتاجه المرء هو الصبر. فعندما كان يرفض الاستيقاظ كانت تعطيه وقتا وتنتظر، وعندما يرفض حلاقة ذقنه لم تكن هذه أيضا مشكلة، فبعد نصف ساعة كان ينسى أنه رفض الحلاقة قبل قليل. كانت تقول إن لديها أربعا وعشرين ساعة لتنتظر.
أما باقي المشرفات فلم يكن يتفاهمن معه بنفس القدر؛ فعندما كان يرفض الانصياع كن يتضايقن، وكان أبي يتلقى ضيقهن بحساسية شديدة، وعندها كان لا يشعر بقيمة أي رعاية تقدم له. وكانت المواقف المحبطة تزيد من الشعور المتبادل بالإزعاج، ومع أننا كنا نزيد من دعم أفراد الأسرة في مثل تلك المواقف، فإن وتيرة الأيام التي كنا نصاب جميعا في نهايتها بالجنون كانت تتسارع. كنت أشعر أحيانا وأنا أغتسل برغبة في الهرولة هروبا من البيت، ومرة أخرى وأنا أمر بجوار خزانة الملابس راودتني رغبة في الجلوس بداخلها، وعندما كنت أجلس في الليل مرهقا وغير قادر على النوم كنت أتذكر المقولة اللاتينية: يا لها من ليلة لا تنتهي! •••
من وقت لآخر كانت بوارق ما يشبه الأمل تلوح في الأفق، إلا أن الفترات بين كل موقف محتدم وآخر كانت تتقارب، ولم تنفع أي محاولات لتوجيه الدفة إلى غير وجهة التصادم. وفي مثل هذه الأجواء المبهمة كان التوتر يبلغ حدا غير محتمل؛ كان فظيعا أن نرى هذه المعاناة التي ألمت بالجميع. وكلما كانت علاقته بإحدى المشرفات تسوء، كانت حالته تزداد سوءا. فقد كن يصلن إلى أقصى حدود قدرتهن على التحمل؛ مما كان يعود بالسلب على والدي، وبدأت دوامة الانهيار.
كانت الأزمة تبدأ مع الصباح، عندما يعجز الجميع عن إرضائه، وفي تلك الأوقات كان أول ما يقوله أبي: «لو تعرف كم تساء معاملتي هنا!»
ولم تكن هذه اللهجة تتغير بقية اليوم، وكان مثلا يتحمل صوت الموسيقى بالكاد، ولا يعجبه مذاق طعام الغداء: «لا أظن أن بإمكاني تناول هذا الطعام.»
خرج مرة بعد الغداء إلى الحديقة متذمرا وبال في إناء به أكبر نبتة صبار زرعها فيرنر. سمعت صوت البول فهرعت إليه وأخبرته أنه غير مسموح له بفعل ذلك، لكنه قال: «بالطبع يمكنني ذلك، هذا عقاب على ما تفعلونه بي. حضراتكم تستحقون عقابا أكبر كثيرا من هذا.»
والأسوأ كانت الليالي التي يستيقظ فيها ويبدأ في البحث عن أولاده. كان هذا الموقف يتكرر بصورة مفاجئة وبوتيرة غير مفهومة. وفي مثل تلك الحالات كان من المستحيل مواساته؛ لأنه يصبح بائسا جدا وفي قمة الحيرة، وكأنه يبحث في الحرب بين أطلال البيوت المدمرة عن أحياء. أحيانا كنا نفلح في طمأنته عندما ندعي أن أولاده سيحضرون في الصباح، ولكنه في أحيان أخرى كان يقضي نصف الليل في البحث حتى يسلمه التعب إلى النوم. وفي الصباح كان يستأنف البحث عن أربعة أطفال صغار لم يناموا في أسرتهم ولم يختبئوا تحتها، ولم يجدهم في حوض الاستحمام ولا في الخزانات خلف القمصان، ويبقى حزينا لأنه لم يجد أيا منهم.
وكان يقول: «لقد تم ترحيلهم ولم يرهم أحد منذ ذلك الوقت. لقد بحثت عنهم كثيرا واتصلت بجميع الجهات المسئولة ليساعدوني، والآن لم يعد لدي أمل في أن أراهم مجددا.»
وعندما كنت أخبره أني أعتقد أنهم بخير وأنهم سيتزوجون وينجبون أطفالا، كان يقول: «كل ما تقوله ممكن، لكني لا أظن أنه سيحدث.»
وكان يعقد ما بين حاجبيه وكأنه يريد تذكر شيء، ويشير بيده إلى خزانة الحجرة ويقول إن هذا هو الاتجاه الذي أخذوا الأطفال فيه. «أين يمكن أن يكونوا؟ لقد رحلوا، لقد أخذوهم، لقد رحلوا، لقد أخذوهم.»
كاد الأمر أن ينجح أيضا مع المشرفة فلاستا، ولكن أمها مرضت واتصلت بنا وقالت كيف يعقل أن تبقى فلاستا في النمسا لرعاية الغرباء بينما أمها في الفراش تحتاج لمن يعتني بها؟
أما المشرفة آنا، فلم تستطع أن تتواصل مع أبي رغم شدة ذكائها وبذلها كل ما في استطاعتها. فقد كان الأمر في غاية السوء؛ فعندما كانت تخرج معه للتنزه ويقابله المارة ويسألونه عنها كان يقول: «إن هذه البقرة الغبية تضايقه طوال الوقت.»
أسوأ ما بدر منه تجاهها كان يوم أشار بيده إلى عنقه موحيا برغبته في قتلها، فخافت بالفعل من أن يذهب ويحضر سكينا من الدرج. عندما أخبرتني أخفيت صدمتي، ونصحتها ألا تأخذ ذلك على محمل الجد، ولكن، هل كنت واثقا من ذلك؟ لذلك استطردت قائلا: «إنه رجل مريض، فلا مانع من اتخاذ بعض الحيطة، وعلى أسوأ الفروض فهو ليس بالقوي ولا بالسريع.»
كلام مطمئن بالتأكيد!
وأثار دهشتنا أيضا أنه بمجرد ترك أي مشرفة للبيت لأنها وأبي لم يتفاهما، وتولي دانيلا أو أمي مسئولية رعايته مجددا، كان أبي بعد يومين أو ثلاثة يصبح هادئا مثل الحمل الوديع، ويصبح سعيدا ومسالما ومراعيا لمشاعر الآخرين، وكأنه اللطف والود شخصيا، وكنا نسمع منه تعليقاته الغريبة من جديد.
هل أنت راض يا أوجوست؟
أنا دائما راض، حتى عندما كنت طفلا رضيعا كنت راضيا.
لا أعرف كيف ستسير الأمور.
سأعتني بكل شيء.
إياكم أن تنسوني، لن يكون ذلك عدلا.
لن نفعل ذلك يا أبي.
يا هذا، ما تقوله ليس بهذه السهولة.
بكل تأكيد، لن ننساك أبدا.
الفصل التاسع
أنهك مرض ألزهايمر أبي على مدار أكثر من عشر سنين، وتوضح الصور العقلية المتقطعة التي يرسمها المريض في خياله حجم الدمار الذي ألم بعقله؛ مع ذلك كان أبي يخرج من وراء أسوار مرضه للحظات كل يوم ويسأل بطريقة أو بأخرى: «ماذا جرى لرأسي؟» ويضرب جبهته بيده مضيفا: «لقد تلف شيء ما هنا، هلا أخبرتني كيف عسانا نصلحه!»
وكان ينظر إلي منتظرا المساعدة، ولكن خيبة الأمل كانت تواتيه عندما أعطيه إجابة غير مقنعة؛ مثل: «ستأتي المساعدة من بريجينتس.»
هذا ما كتبه فرانتس كافكا في يومياته، قبل عشر سنوات تقريبا من يوم ميلاد أبي؛ أي يوم 6 يوليو 1916. ولا شك أن شعور أبي كان مماثلا لشعور أحد أبطال كافكا، رغم أن أبي كان يستطيع رؤية بريجينتس من نافذة منزله.
وتابع كافكا في يومياته: «وعندما حدق المريض بعينيه المتعبتين قال له الطبيب: «بريجينتس في فورآرلبرج.» فرد المريض قائلا: «لكنها بعيدة».»
أيضا بالنسبة إلى أبي كانت بريجينتس بعيدة، على الأقل قياسا بمدى عجزنا عن مساعدته. في لحظات اليقظة التي كانت تمر به، كان يتلوى شوقا إلى عقل سليم، إلا أن التحسن لم يطرأ عليه. لم يفلح ضربه بيده على جبهته كما كان يفلح في صغري عندما كان يضرب بيده على التليفزيون كلما تشوشت الصورة.
في أحد أيام ربيع 2009 جهزت دانيلا أبي للخروج في نزهة، وارتدى حذاء الخروج والسترة، ووضعت القبعة فوق رأسه وقالت: «ها هي قبعتك.» «كلام سليم وجميل، ولكن أين عقلي؟»
أجبته من المطبخ: «عقلك تحت قبعتك.»
رفع أبي القبعة ونظر فيها وقال: «لو حدث هذا، فستكون معجزة.» تردد قليلا ثم سأل خجلا: «هل عقلي فعلا تحت القبعة؟»
قلت له: «نعم، إنه هناك في مكانه.»
رفع حاجبيه وذهب ذاهلا وراء دانيلا نحو الباب.
وتزايدت تلك المواقف السريالية التي تبدو عندما أحكيها فكاهية ومرحة بعض الشيء وغريبة بعض الشيء، ولكن من ينصت جيدا يجد فضلا عن المرح كثيرا من القلق والحيرة، وفي أغلب الأحوال كان المرح يغيب عن الصورة تماما.
ومما كان يزيد كثيرا من المواقف صعوبة عدم قدرة أبي على فهم جدوى الأمور؛ فكان يغضب لأن عليه أن يبتلع أدوية لا يستسيغ طعمها، ولا يدري أن حالته ستسوء دون الأدوية؛ لذا كان يعترض قائلا: «لا يمكن أن تفعل بي هذا!» «هذا لصالحك.» «يمكن لأي شخص أن يدعي ذلك.» جاءت إجابته بلهجة حادة، ثم استكمل كلامه لي: «إياك أن تظن أني سأنخدع بشخص غير متزن مثلك! أعرف جميع ألاعيبك القذرة.»
كنت أدرك بطبيعة الحال أن المرض هو الذي يتحدث؛ ومع ذلك كان إحساسي بأن أبي ينهرني دون ذنب بهذه الطريقة مؤلما، وكان وقع ذلك أشد إيلاما على الأشخاص الذين لا يمتلكون الخبرة التخصصية ولا يعرفون أبي جيدا وليسوا ملتزمين تجاهه بشيء. «ارحل من هنا! إن لم تتركني لحالي فسأحضر سلاحا وأطلق الرصاص على مؤخرتك!»
كان يقول لي ذلك، وكنت أجده مضحكا؛ لأنه يذكرني بطفولتي عندما كنت أخوف الآخرين بأخي الكبير. لكن بعض المشرفات لم يتفهمن ذلك، ولم يقدرن على فهم الرسالة وراء مثل تلك التهديدات؛ ألا وهي تفضيل أبي أن يترك في هدوء في ذلك العالم المليء بالوجوه الغريبة.
مكثت دانيلا قرابة ثلاثة أعوام لدينا، وكانت تقسم حتى آخر يوم أنها لن تجد بسهولة مكانا يعجبها مثل بيتنا. بالنسبة إليها كان أبي بالرغم من مرضه شخصا ذكيا ومرحا ومستعدا لتقبل الدعابة دائما، ومع أن عقله يتخلى عنه تماما في بعض الأحيان، فإنها كانت تعرفه بما يكفي كي تدرك أنه شخص مسكين ومسالم فعلا.
كان علينا كل ثلاثة أسابيع أن نحضر مشرفة أخرى مكان دانيلا؛ حتى تزور أسرتها في سلوفاكيا. وللأسف لم تتمكن أي من زميلاتها على مدار عامين من تكوين علاقة طيبة مع أبي مثلها، ولم يكن يمكثن فترة طويلة لدينا. مع تفهمي لذلك في معظم الأحيان.
فقد كان أبي في أغلب الأوقات يتصرف بعناد، ويرفض كل شيء من الصباح حتى المساء. وكان أيضا يميل إلى طرد الأشخاص الذين يعتبرهم غرباء ويتسببون في شعوره بالحيرة والقلق. معظم المشرفات كن يتحدثن إليه أكثر مما ينبغي، وبلهجة غير مناسبة وكأنه طفل صغير. ولأن أبي كان لا يزال شخصا ملفتا برأسه الكبير وتعبيرات وجهه المعبرة، فقد كانت المشرفات يشعرن أحيانا ببعض الخوف منه؛ فعندما كان يرى أنهن يضغطن عليه كان يدفعهن جانبا.
وحينها لم تكن أي تأكيدات على أن أبي رجل لطيف تجدي. كذلك لم تنفعهن نصائحي بأن يتحاشينه عندما يكون غاضبا.
فالكلام سهل. والمشرفات لم يكن متخصصات، ولا يملك كل إنسان بالضرورة القدرات اللازمة للتعامل مع مريض ألزهايمر، وأفضل دليل على ذلك كان إيفا أصغر حفيدة لأبي، تلك التي لم تعرف جدها إلا على هذه الحال. كانت المودة التي تعامله بها كبيرة، لدرجة كانت تجعله يتجاوب معها بصورة تلقائية، ولأن الصغيرة كانت خالية الذهن، فقد كان أبي في حضرتها خالي الذهن أيضا.
وكان الأمر مشابها مع دانيلا، التي تفاهمت معه من البداية بطريقة جيدة جدا، وكانت تعامله بأريحية شديدة، وبدا أبي وكأنه مغرم بها إلى درجة ما؛ فقد كان على أي حال يحاول عادة إبعادي عندما تكون هي معه. كانت قادرة على إعطائه الإحساس بأهميته؛ فقد كانت مثلا تعطيه سلة المشتريات ليحملها عنها، أو تتركه يدفع دراجتها. كذلك قام هو بتعليمها اللغة الألمانية، وأمضى ساعات في تعليمها نطق الكلمات وقواعد النحو، في الوقت الذي كان فيه عاجزا عن تذكر أسماء أبنائه الأربعة. وعندما سألته عن سبب فعله ذلك، قال إنه يقوم بكل ذلك كي تبقى معه.
كانت تلك أسبابا كافية دفعت السيدة الشقراء القادمة من نيترا في سلوفاكيا إلى البكاء عندما أخبرناها في شهر مارس من عام 2009 بقرارنا أن الوقت قد حان لدخول أبي دار مسنين، في حين أن أنا اعتذرت عن رعايته بعد فترة قصيرة، ولم يكن هناك أي أمل في أن تعود إلى بيتنا مرة أخرى، بعد ما عايشته معه طوال عام مضى. كانت الأيام التي صبغتها نوبات الرفض والعناد كالقشة التي قصمت ظهر البعير.
من الشائع أن يشعر المرء بتأنيب الضمير عندما يقرر إدخال أحد أفراد الأسرة دار مسنين، وبالتأكيد يخلق مثل هذا القرار حالة من الحيرة ، ولكن في الوقت نفسه لا ضير من مراجعة بعض تلك الأعراف الثابتة. كانت دار المسنين في قريتنا تمتاز بوجود عمالة مؤهلة، تعمل في ظروف جيدة، ولديها فرصة لتبادل الرأي والخبرة حول المشاكل الملحة. وهناك يعرفون أبي، حتى قبل مرضه، هناك يرون فيه الشخص والإنسان الذي له تاريخ حياة طويلة، طفولة وشبابا؛ إنسانا حمل اسم أوجوست جايجر لأكثر من ثمانين عاما وليس مع بداية المرض فحسب.
أما في البيت فلم يعد توفير مثل هذه الرعاية ممكنا رغم كل الدعم الذي تقدمه الأسرة. إن الاعتراف بالهزيمة قد يكون في بعض الأحيان انتصارا، ولن يسعد أحد إذا تضرر آخرون في الأسرة. لسنوات طوال كان الأب المريض المحور الذي يدور حوله كل شيء، ومن يعاني مشكلة شخصية كان عليه أن يجد بنفسه سبيلا لحلها؛ فقد كان الجميع منهكا بالتفكير ليل نهار في أبينا، وكنا نسأل أنفسنا طوال الوقت: ترى ماذا سيحدث بعد ذلك؟ كنا قد تخطينا حدود التحمل.
وقد جعل إحساس أبي وهو في بيته بأنه ليس في بيته كل جهودنا تذهب أدراج الرياح.
بدأ آخر يوم لأبي في البيت مثل أي يوم من سابقيه. لم يعد يقاوم تماما منذ تم تغيير أدويته، وأصبح يجفف نفسه بنفسه بعد الاستحمام، ثم يأكل ببطء ورضا طعام الإفطار. كان صباحا دافئا ومشمسا؛ لذلك أجلسته أمي على كرسي حديقة أمام البيت، وكانت قد حضرت لرعايته بعد استسلام أنا. تبادل أبي من مقعده بعض الكلمات مع الجيران الذين يمرون أمام البيت، بينما كانت أمي تحيك قطع قماش صغيرة تحمل اسمه في ملابسه، وأيضا في مناديله.
على الغداء تناول وجبة تقليدية من العصيدة والجبن، ثم رقد في غرفة المعيشة، وبعد دقائق قليلة نام. استيقظ في الثالثة عصرا تقريبا وشرب شايا، وساعدها في حمل حقيبته إلى السيارة، ثم ركب السيارة، وأوصلته أمي إلى دار المسنين.
أمام البوابة كان أحد أعضاء المجلس المحلي السابقين جالسا، فقام وأمسك لهما الباب ليدخلا؛ فلعله كان يعرف أن الباب معطلا ولن يفتح تلقائيا. لم يتعرف عليه أبي، ولكنه حياه فقط.
في قاعة الاستقبال كانت تجلس سيدة ضعيفة البنيان على الأريكة. رفع أبي يده وحياها، ثم ذهب إليها وأخذ بيدها وتبعا أمي إلى باب قاعة الانتظار في دار المسنين. هناك حيته مديرة الدار وأرته حجرته وصورة جديه التي كانت بالفعل معلقة على جدرانها، فقال إنه قد رآهما قبل ذلك ولكنه لا يعرفهما. طرحت المديرة بعض الأسئلة المتعلقة بعاداته وأدويته، ثم خرجت معه إلى الحديقة، فجلس إلى جانب بقية النزلاء في الظل وبدا مستريحا. بعد فترة ودعته أمي، فلوح لها بيده مودعا. •••
عندما زرته بعد أيام، كان جالسا عند وصولي إلى طاولته وحده يغني. انتظرت قليلا ثم جلست إليه. تحدثنا ولعبنا لعبة مصارعة الذراعين، واندمج بشدة، حتى إن وجهه الجامد استطاع أن يرسم بسمة. وكانت الفرحة ظاهرة عليه، ولم يبد كإنسان مجبر على تحمل الحياة، وكان مرحا بالرغم من حالته الصحية، وأهم شيء هو أنه كان سعيدا.
قلت له: «كم أنت قوي جدا!»
ابتسم مجددا وقال: «ربما لست قويا بما يكفي كي أدفن أحدا في الثلج، ولكني لست هزيلا. أردت أن أريك ذلك، وإلا لما كنت فعلته.»
ثم أردف قائلا: «ليس أمامنا إلا أن ندافع عن أنفسنا، وإن لم نفعل فسنضيع.» •••
لا يمكن اعتبار معاناة أبي من مرض ألزهايمر بمثابة مكسب له، إلا أن أولاده وأحفاده قد تعلموا من خلاله الكثير، وهذا دور الآباء والأمهات أن يعلموا أولادهم.
كما يعد التقدم في العمر، بوصفه آخر مراحل الحياة، شكلا ثقافيا يتغير بصورة دائمة ويجب إعادة تعلمه باستمرار. وإذا كبر الأب ولم يعد قادرا على تعليم أولاده شيئا جديدا فعلى الأقل يمكنه أن يعلمهم معنى أن يكبر المرء ويمرض. وإذا توافرت الشروط الجيدة، فإن هذا سيعني أيضا علاقة أبوة وبنوة قوية؛ إذ لا يمكن أن نتدرب على مقاومة الموت إلا ونحن أحياء.
قالت ألكسندرا إن جدها السيد بيرلينجر يشكو من سوء المعاملة، فحاولت أمها عندما زارته أن تقنعه بأن هذا لا يحدث. بعد قليل حضرت ممرضة لتبدل له قناع الأكسجين وقالت له: «يا سيد بيرلينجر، سأدخل هذا الأنبوب في أنفك، وسيدغدغك قليلا.»
عندها نظر جدها إلى زوجة ابنه وهز رأسه عدة مرات بطريقة اختلط فيها الغضب بالإحباط، ثم قال: «أرأيت ... إنهم يدغدغونني هنا!»
كانت جدة العمة ماريانا، زوجة روبيرت، مريضة بمرض ألزهايمر هي الأخرى، وكانت تقول دائما: «الوضع في رأسي يشبه برميل الزبد؛ يدور ويدور، ولا أستطيع أن آخذ منه زبدا بالرغم من ذلك.» اضطرت العمة - وهي أكبر إخوتها السبعة - إلى النوم معها، حتى بدأت تجري حوارات غريبة. نشأ عندها جنون منتظم؛ ذات مرة كان القس في زيارتهم، وعندما هم بدخول غرفتها صرخت: «لن يدخل هذا القس القميء هنا! هذا الشيطان!»
وحكت لي صديقتي كاتارينا عن جدها الذي كان أيضا مريض ألزهايمر قائلة: عندما حضر الابن الأكبر على دراجته انتظر الجد حين لم يلحظه أحد وتسحب إلى الدراجة وركبها وانطلق بها.
أما ليليانا فتحكي أن أمها مريضة ألزهايمر كانت تنظر إليها من وقت لآخر وتسألها: «هل أنا ميتة بالفعل؟»
وفي مرة قالت لها: «أرجوك أن تخبريني عندما أموت.»
فوعدتها قائلة: «بالتأكيد يا أمي، عندما تموتين سأخبرك.»
وأخبرني فولفجانج عن جدته الطاعنة في السن التي كانت تأخذ دواء الليستين المقوي، وكانت زجاجته محفوظة في الثلاجة. وأكثر من مرة كانت تفتح الثلاجة ولا تخطئ يدها زجاجة نبيذ دورنكات الموضوعة بجانب دوائها، وكانت تفتحها وتأخذ منها جرعة كبيرة، ثم تقول متعجبة: «طعمه اليوم غريب!» ولتتأكد كانت تأخذ جرعة ثانية.
وذكر نوربيرت أن أم أحد أصدقائه كانت تعاني من مرض ألزهايمر، ولم تكن تتعرف على ابنها منذ فترة طويلة، ولكن عندما كان يريها صورته كانت تقول: «هذا ابني!» حتى عندما كان يريها صورا حديثة له، كانت تقول: «هذا ابني!» في حين بقي غريبا عنها وهو حاضر شخصيا أمامها.
وحكى فيلهلم عن صديق فقد قدراته على مدار سنوات ولكنه كان يستيقظ كل يوم في الثالثة صباحا ويذهب إلى طاولة المكتب الخاصة به ويجلس وهو لا يدري ماذا يفعل. وبالنهار كان يجلس هناك ويضع أمامه بطاقات اللعب ويلفها ويرغب في إشعالها؛ لأنه يعتقد أنها سيجار.
كذلك قصت علي أورزولا قصة عمها الأكبر، الذي كان في عمر جدتي، والذي كانت أورزولا تزوره أحيانا في آخر سني عمره في دار المسنين أيام الأحد وتأخذه في نزهة إلى أوبيرفيلد. وذات مرة بعد أن قضيا عدة ساعات معا وجاء موعد الرجوع إلى دار المسنين سألها: «هل علي فعلا أن أعود إلى المعسكر؟»
كان ذلك العم شخصية جذابة في طفولتي. في الجزء الأمامي من شارع أوبيرفيلد في اتجاه الكنيسة، وقبل أن ينحدر الشارع إلى الكنيسة، كانت توجد بئر لها حوض خشبي متهالك، تجري فيه مياه النبع باستمرار، وكان هذا العم الذي لم يتزوج أبدا يذهب للاستحمام في ذلك الحوض كل صباح؛ سواء في الصيف أو في الشتاء، وهو مقتنع بأن ما يفعله سيجعله صحيحا مدى الحياة. وبالفعل فقد عاش بعد وفاة جدتي، وكان آخر مواليد عام 1898 في فولفورت، وورث ما بقي من مال في صندوق الادخار المخصص للمناسبات الخاص بمواليد ذلك العام. كنا في طفولتنا، ونحن في طريقنا إلى روضة الأطفال أو إلى المدرسة، ننبهر لرؤيته يصهل مثل الخيول وهو يغتسل في ماء النبع دائم البرودة المتجمع من غابة إيباخ.
وحكى كريستيان عن جارة مسنة لم تعد تجد مفتاح مصباح الفناء، فخرجت ذات يوم إلى المصباح أمام الباب وضربته بعصاها فحطمته.
الفصل العاشر
انسحب المرض من المشهد مجددا؛ فلم تعد تظهر على أبي أي علامة من علامات القلق والتوتر التي عهدناها عليه في الأشهر الماضية، وكنت أشعر كل يوم بأنه مستريح. كان يضحك ويمازح ويتبسم في وجوه الآخرين، وكان منتبها ومراعيا لمشاعر من حوله.
كانت المشاعر تأتي من داخله بتلقائية وسرعة، ولم يبد عليه أبدا أنه هادئ بتأثير الأدوية. كان يتعامل بإيجابية مع وضعه، وكانت دعاباته تسعده، وأيضا كان يسدي النصح لكل من يسأله؛ فقد قال مثلا لفيرنر: «يمكنك تعلم الكثير مني.»
إلا أن الاضطرابات الإدراكية كانت تظهر عليه من وقت لآخر، بينما أصبحت نوبات الهلوسة أقل وطأة.
ذات مرة سأل كاتارينا: «هل رأيت أيضا الأقزام السبعة الذين مروا من هنا؟» «بالتأكيد، لقد انعطفوا عند الناصية.»
وانتهى الأمر عند هذا الحد.
وعندما كانت حدة الهذيان تزداد بشكل استثنائي، كنا نحضر إيفا، التي كانت تذهب إليه وتعانقه، فكان يهدأ وتعود الحياة إلى طبيعتها، ويضحك الجميع في اندهاش.
كان أبي يشكو كثيرا من عدم قدرته على القيام بأي شيء، ومن أنه أصبح «أحمق»، إلا أنه كان يقول في بعض الأحيان: «لم أصبح بهذه الدرجة من الغباء حتى أعجز عن عمل أي شيء نافع!»
وساعده ضعفه في مواقف عديدة على استعادة ذكرياته؛ مثل مواقف «النجاح والسعادة التي عاشها»؛ إذ كان يقول: «عندما كنت أفعل شيئا نافعا فيما مضى، كنت أسعد بذلك كثيرا. لم أكن شغوفا بالقيام بكل تلك الأعمال، لكني كنت أعرف أنها مهمة، وأنه لا يوجد أحد غيري يمكنه القيام بها بنفس الإتقان مثلي. في أي مكان كنت فيه كنت أؤدي تلك الأعمال بسرعة البرق. لم يكن ذلك جميلا على الدوام، ولكنه كان إحساسا طيبا. وأنت أيضا كنت تحب مشاركتي دائما.» «كنت أحب مشاركتك.» «أنت تضحك! لقد كنا فعلا نحب العمل معا. لو لم نكن معا لكنا مسكينين تعيسين. لم تكن مجرد أعمال يمكن أن تقرأ طريقة القيام بها من ورقة إرشادات. فقط الأعمال البسيطة يمكن أن تقرأ طريقة القيام بها من ورقة إرشادات، وليس كل الأعمال. كنت فخورا بذلك؛ كما تعلم، كانت أشياء لا يعرف جدواها سوى القليلين. ولكننا كنا نعرف ذلك. وكنت سعيدا لأني أستطيع القيام بأشياء لا يمكن القيام بها دون إمعان الفكر. مثل تلك الأشياء كنت أتولاها، ودائما أنجح في أدائها! والطريقة التي يمكن أن تدير بها الأشياء المعقدة في الاتجاه الصحيح، كانت ... كنت متخصصا في ذلك. كم كنت بارعا في معالجة الأمور! وقد رأيت بنفسك سعادتي وأنا أقوم بذلك، ما دون ذلك لم يكن لينجح أبدا. لقد شعرتم بالتأكيد بأني كنت أفعل ذلك بسرور، وأن آرائي فيما يحدث كانت جيدة. أعرف أنه لم يبق الآن الكثير من ذلك ، لم يبق الكثير، لم يعد باستطاعتي سوى القليل، تقريبا لا شيء. كانت الأعمال والأشياء المتنوعة في الماضي فعلا جيدة، لا أعرف من الذي كان يحضرها، من الذي كان يفعل ذلك كله. أظن أنك كنت مشاركا فيه، وإميل أيضا. أما أنا فقد كنت أخلع الأشياء القديمة، وأركب الجديدة في لحظة. كم كان هذا العمل جيدا! وعندما كان كل شيء يسير على ما يرام - يا إلهي! - كان ذلك يملؤني شعورا بالقوة!» جمع قبضتيه وضمهما إلى صدره، ونظر إلي مبتسما وأردف: «أتعلم؟ لم أعتقد بالضرورة أني قد أصبحت أحمق، فأنا أعرف أني قادر على إنجاز أشياء جيدة إذا بذلت جهدا. ذات مرة جاء شخص وامتدحني؛ لأني أحسنت القيام بشيء، جاء وامتدحني. كنت فخورا بقيامي بذلك؛ لأنني كنت ذكيا بما يكفي لأقول لنفسي: انتظر! لقد كان ذلك رائعا!»
وفي موقف آخر قال: «لم تكن المواقف السعيدة في حياتنا محض صدفة، بالتأكيد كان بينها مواقف خدمنا فيها الحظ، لكن لم تكن المواقف السعيدة في حياتنا محض صدفة.» ثم فرك طرف إبهامه وسبابته والوسطى من يده اليمنى وهو يقول: «كنا أكثر مهارة من الآخرين، فمم عسانا أن نشكو إذن؟!»
وبالفعل لم أشك؛ فقد أمكنني النظر إلى المستقبل بشيء من الثقة. لقد تلاشى التوتر تماما، ووجدتني أرى العلاقات بوضوح لم أعتده؛ سواء العائلية أو الخاصة أو المهنية. وبدأت فترة هدنة. عدنا لنقف على أرجلنا من جديد.
كانت الأيام الماضية تنتهي غالبا بآمال خائبة؛ وخصوصا في أثناء إقامتي في فولفورت، وكانت الأفكار التي تداهمني في الليل تستحوذ علي بقوتها الكئيبة، حتى إن الصباح كان يأتي علي وأنا منهك من معركة الليل، وعند الظهيرة أكون منهكا مثل الكلب الضال. حتى وأنا في فيينا بعيدا عن فولفورت لم يكن التفكير في البيت مريحا، أما الآن فقد عاد اليوم إلى طبيعته، وأصبحت أشتاق إلى أسابيع الصيف التي أقضيها في بيت والدي؛ تعويضا عن الشتاء والربيع البائسين.
ونجحت في كتابة روايتي الخامسة، وأنا أشعر بأن الأمور تسير بسهولة لم أجدها منذ فترة طويلة. أدركت ذلك، على نحو أكبر، عندما تسلقت إلى أعلى فرع في شجرة الكرز في يوم وصولي، فلم أصل إلى هناك منذ كسرت لي ثلاثة أضلع وأنا أحاول القيام بهذا العمل البهلواني قبل أعوام. يا له من إحساس بالحرية أن أشعر بأني أستمتع بحياتي مجددا، وأن أستيقظ في الصباح وأنا أعرف أن بمقدوري الاستمتاع باليوم! كان ذلك تغيرا جوهريا.
في الأعوام الماضية تخلت عني الرغبة في القيام بشيء في فولفورت. كنت أحبس نفسي في البيت؛ لعلمي بأن شيئا ما يمكن أن يحدث في أي لحظة. وكانت الأيام تمضي الواحد بعد الآخر، وكانت الأحداث مملة وغير متوقعة؛ لذلك لم يكن جيراني في القرية يرونني كثيرا، أما الآن فلدي ليس فقط الوقت وإنما أيضا الطاقة. كنت أتصل بإخوتي وبزملاء أبي القدامى وأخبرهم برغبتي في الحديث معهم من أجل كتاب أعمل على إتمامه.
وعادة كنا نتحدث في المساء؛ إذ كنت أزور أبي في الصباح مرة أو مرتين.
منذ اليوم الأول رأيته متزنا وهادئا ومنتبها، وكان يسألني عن حالتي وعن خطتي، وكان بصورة عامة راضيا، ولكنه - حسب قوله - كان ينتظر اللحظة المناسبة للهرب.
وقد أخبرني وكأنه يحكي عن مؤامرة: «عندها لن تراني هنا مجددا.»
ثم أسند ظهره إلى المقعد وابتسم.
كان قد فقد الكثير من وزنه، حتى إن ملابسه كانت واسعة عليه جدا؛ فقد أصبح مقاس رقبته مختلفا، ولكنه ظل يرتدي القمصان نفسها. وكان ماهرا كعادته؛ فقد كان يفتح ويغلق الزر العلوي للقميص بإصبعين بجمال غير معتاد، دون عناء ودون أن ينقطع حبل أفكاره وهو يتكلم. كان أبي يعجبني ككل، الإنسان ككل، ورأيت أنه بخير، وأن حالته المزاجية طيبة، وتذكرت القول المأثور: حسن الختام.
وإن كان استمر على ذلك لتحقق فيه ما قرأته يوما في رواية لتوماس هاردي، عندما قال عن رجل مسن: «إنه يقترب من الموت مثل القطع الزائد للخطوط المستقيمة.» فهو يتقدم مغيرا مساره ببطء شديد؛ مما يجعل من غير الواضح إذا كان والموت سيلتقيان يوما ما بالرغم من قربهما الشديد.
فقد كانت لدى أبي رغبة حقيقية في أن يعيش فترة أطول، وكان موقفه واضحا في هذه النقطة تحديدا. •••
كان يوم ثلاثاء عندما دخلت في منتصف الظهيرة إلى غرفة الانتظار في دار المسنين، وكان أبي يجلس إلى طاولة أحد زملاء الدار، الذي سأله أبي قبل أيام: «من تكون؟»
فأجابه الرجل: «اسمي فرد.»
فقال له أبي ممازحا: «أظن أنك بالأحرى فردلي (شخصية كرتونية يمثلها حصان).»
تحدث الاثنان طويلا، وعجبت وسعدت عندما رأيت أنهما أجريا حديثا جيدا، وأبدى كل منهما اهتماما بالآخر، مع وجود بعض أوجه القصور في الحوار؛ نظرا لظروف مرضهما.
قال فرد إنه كان بالأعلى عند القديس بطرس في السماء، وإن المكان جميل جدا هناك؛ لأن لديهم مساكن جديدة. فقال أبي: «ليس هذا ما يستهويني، أفضل التنزه قليلا؛ فربما أجد من أتحدث معه هنا.»
فعلق فرد قائلا: «هذا لن يكون متاحا هناك بالتأكيد.»
بينما كان والدي وفرد يتحدثان، كانت هناك سيدتان تناديان الممرضة بالتبادل وتطلبان المساعدة في هذا الأمر أو ذاك. تجاهل أبي تلك الاستغاثات، أو تغاضى عنها، لا أعرف؛ لم يتغير شيء تماما في تعبير وجهه الفرح، ولم يلتفت برأسه إليهما. وكان جل تركيزه منصبا على فرد وعلي، ولم يكن يهتم بما يجري خلفه إلا عندما كان فرد يلتفت إليهما. وبقدرة كبيرة على صياغة الكلام باقتضاب كان فرد يلقي على أسماع السيدتين ملاحظات لاذعة، وكان بمنزلة «شوبنهاور» دار المسنين. «أغيثوني! أغيثوني! هلا يساعدني أحد!» «اصمتي يا هذه!» «أريد الذهاب إلى بيتي!» «إذن فاطلبي سيارة أجرة!» «أحتاج إلى طبيب!» «لقد أنهى عمله!» «يا عزيزي الطبيب!» «إنه في البيت مع حبيبته!» «أحتاج إلى المساعدة!» «لم يعد بإمكان أحد مساعدتك!»
فقالت السيدة بخجل: «يا إلهي، لم أكن أعرف ذلك!»
وعجبت كثيرا لأن السيدتين من فولفورت والمنطقة المحيطة بها، ومع ذلك فقد صاغتا شكواهما باللغة الألمانية الفصحى، وكأنهما تريدان بذلك تأكيد جدية معاناتهما.
وكان أبي أيضا يتكلم مع فرد غالبا بالفصحى، ولكن بارتياح شديد وكأن الذي يهمه هو فقط جدية محتوى كلامه.
ووراء أبي كانت تجلس إلى طاولة سيدتان تطالعان الصحف، ولم تنزعجا أيضا بما كان يدور حولهما. بالنسبة إلي كان الأمر مقلقا أن ينادي شخص طلبا للمساعدة ويقاطعه فرد بتعليقاته الساخرة. ولكن بما أن العاملين في الدار والنزلاء الآخرين تقبلوا الأمر وكأنه أمر عادي مثل دقات الساعة، فقد حاولت أن أعتبره أنا أيضا كذلك. ولكني غضبت قليلا عندما كان أبي في أيام أخرى ينشد أغنية وكانت إحدى السيدتين اللتين كانتا تقرآن الصحف تنادي بشيء من الإصرار: «ماذا؟ ماذا؟ يجب على هذا الشخص أن يصمت!»
عندها قال أبي لفرد: «الأوقات تتبدل، ولكن لن تظل الحال هكذا دائما.»
قالها بحزم وترنحت لهجته بين الأسى والاستسلام للقدر.
فقال فرد: «ليتني أستطيع الذهاب بعيدا! كم أود صعود جبال الألب ثم الهبوط عند ريكاتشفينده!»
فرد أبي: «لن أذهب معك إلى هناك.» «ولم لا؟» «لأني لا شيء.» «أنت ما زلت شيئا ما.»
ابتسم أبي وقال: «لا أعتقد.»
فقال فرد: «يجب عليك فقط أن تريد.» «لم تعد الإرادة كبيرة لدي، وإنما فقط الأمل. كنت شخصا ارتحل كثيرا في حياته.»
فقال فرد شيئا لم أسمعه، لكن ظهرت على أبي الحيرة وقال: «حسنا، لقد فهمت ... وماذا سنفعل الآن؟ نتلو صلاة المسبحة الوردية؟» «لا!» «سيستغرق ذلك طويلا.» «ولن يجدي شيئا. هل تستطيع أساسا تلاوة صلاة المسبحة الوردية؟» «أعتقد نعم.» «إذن فكيف هي؟ قل وسأكرر!»
هز أبي رأسه وغير الموضوع. وعندما دار الحديث مجددا عن أن أبي لم يعد قادرا على فعل الكثير وأن الأمر لن يبقى هكذا، قال فرد: «إذن سيضعونك في التابوت ويرسلونك إلى الآخرة.»
فقال أبي: «ولكني أفضل البقاء قليلا، والثرثرة. كما تعلم، لم أعد قادرا على تمهيد الطرق، ولكن بإمكاني الذهاب والمجيء ورؤية بعض الأشياء والتقاطها.»
فقال فرد إنه كان بالأعلى عند القديس بطرس وتفحص المكان، وأن المكان هناك أعجبه، إلا أن القديس بطرس قال إن اسم فرد غير موجود على القائمة.
واستطرد فرد قائلا: «لديهم مساكن جديدة كثيرة هناك، يجب أن تذهب إلى هناك.»
فكرر أبي قوله: «ليس هذا ما أصبو إليه، أفضل البقاء قليلا ومشاهدة بعض الأشياء.»
فقال فرد: «لكنك أنهيت مدة حياتك.» «وأنت؟ هل ترغب في البقاء قليلا والعيش هكذا؟»
فرد صديقه فرد ضاحكا: «سيسعدني أن أعيش بعض الأعوام الأخرى.» «نعم، يبدو عليك فعلا أنك ما زلت شديد القوة.»
فتح أبي الزر العلوي لقميصه الأزرق ذي الرسومات البسيطة، وعندما انفتح الزر جذب ياقة القميص ليكون مفتوحا إلى أقصى حد، وقال ضاحكا: «يجب أن أدخل بعض الهواء إلى هناك.»
كان يجلس معهم إلى نفس الطاولة رجل نحيف في كرسي متحرك، وكان معظم الوقت يحرك قدميه ببطء وكأنه يخطو، بينما ظل وجهه وجسده دون حراك. قال له أبي في معرض الحديث وهو متعجب بعض الشيء: «إن ما تفعله لن يجدي كثيرا.»
قال فرد: «إنه يجول طوال اليوم، ولكن عقله يجول في اليوم الواحد عبر النمسا كلها.»
فرد أبي: «المشكلة عندي في الأجزاء السفلية.» ثم أمسك بفخذيه وأردف: «لقد أصبحت مترهلة، والأجزاء السفلية مهمة جدا بالنسبة إلي.» «ولكن أجزاءك السفلية ما زالت تعمل.» «أظن ذلك.» «كم عمرك الآن يا أوجوست؟» «هل من المفترض أن أعرف؟» «في الحقيقة، نعم.»
ساعدت أبي وقلت إنه سيتم في القريب عامه الثالث والثمانين، فشكرني بشدة قائلا: «يا هذا، شكرا، هذا لطف منك. سأقدر لك هذا الصنيع.»
فأضاف فرد: «لم نعد على أي حال في العشرين.»
فقال أبي: «أمي أيضا بخير، ولكن عدا ذلك ...»
نادت السيدة المتكئة على الأريكة: «أيتها الممرضة المقدسة! أيتها الممرضة المقدسة! أيتها الممرضة المقدسة! تعالي وساعديني!»
فعلق فرد قائلا: «لم تعد الممرضات اليوم مقدسات!»
قالت سيدة أخرى: «أنا متعبة جدا! أنا متعبة جدا!»
فقال فرد: «إذن فاذهبي إلى غرفتك! اذهبي إلى غرفتك ونامي!»
قالت السيدة من على أريكتها: «لم أقترف ذنبا! يا إله السماوات ساعدني! يا إله السماوات!»
قال فرد: «أنزل علينا رحمتك!»
فسأل أبي متفاجئا ومسرورا: «حقا؟»
فقالت السيدة: «ولم؟ ولم؟»
قال فرد: «ولم لا؟»
قال أبي: «أراك مستعدا لتلاوة «الصلاة الربانية: أبانا الذي في السماوات». إذا تركتك تفعل، فأنت تبدو وكأنك ما زلت قويا جدا، وكأن الرغبة ما زالت تراودك.»
فقال فرد: «نعم، الرغبة موجودة بالفعل.»
فقال أبي معبرا عن كامل تقديره: «أنت ما زلت قويا جدا وصلبا!»
فضحك فرد وقال: «لقد أصبحت صلبا.»
ثم حكى أن الإسعاف نقلته في الصباح إلى المستشفى في فيلدكيرش، وراودته رغبة قوية في أن يقول للسائق، ذلك الشاب أخضر العود، كما وصفه: «ابتعد ودعني أقد العربة!»
وبعدها تحدثا مرة أخرى عن الهرب، ثم عاد فرد للحديث من جديد عن أنه كان عند القديس بطرس هناك بالأعلى، إلا أن القائمة لا تزال خالية من اسمه: «كانت الإقامة هناك ستعجبني.»
قال أبي: «بالتأكيد، الوضع هناك جيد جدا، لكني أفضل مع ذلك البقاء في فولفورت.»
عندما قدم الطعام وأردت أن أودع أبي قال لي: «نعم، اذهب أنت إلى البيت. لا يسعني إلا أن أسديك نصيحة واحدة: ابق في البيت ولا ترحل!» •••
عندما جئت لأول مرة إلى دار المسنين، شعرت لوهلة بالتعاطف مع كل الذين يعيشون أو عاشوا أو سيعيشون هناك، ومع مرور الوقت اعتدت على ذلك الوضع الغريب، وفي نهاية الأمر لم أعد أجد طريقة الحياة تلك أغرب من غيرها. كان الجو العام إجمالا هادئا ومنتظما بسبب الأصوات دائمة التكرار التي تملأ المكان، وأصبحت أصوات الهمهمة الآتية من الحلق والنداءات المبحوحة الصادرة من أحد النزلاء، التي كانت تقلقني في بادئ الأمر، مألوفة ولا بأس بها بعد أن تعرفت إلى صاحبها الطيب الودود.
لم يكن إخوتي يتحملون الجو في غرفة الانتظار بدار المسنين؛ لذلك كانوا يصطحبون أبي إلى الخارج قدر الإمكان. عندما كنت أرغب في أن أعرف من أختي ما يمكنها حكيه عن زياراتها الكثيرة هناك كانت ترفض؛ فقد تمثلت استراتيجيتي في الحكي، وتمثلت استراتيجيتها في كبت ما تعايشه هناك. كانت تقول إنها ستكون سعيدة إذا استطاعت أن تنسى ما تراه هناك بعد خروجها من باب دار المسنين بخمس دقائق، وكلما كان ذلك أسرع، كان أفضل. إنها لا ترى الأمر شائقا، بل مبكيا. وأخبرتني أنها يمكن أن تبتسم وهي تقرأ ما أكتبه، ولكن الموقف نفسه يكون مرعبا.
وعندما يقول أخي الأصغر إنه يفضل عدم الذهاب إلى هناك لأنه لا يحتمل ذلك، فإنه فعلا لا يحتمله. وهو ليس الوحيد الذي يشعر بذلك؛ لذلك كنا كثيرا نحضر أبانا إلى أوبيرفيلد.
كم هم مختلفون! هؤلاء البشر! أو لعل أبي كان سيعبر عن ذلك المعنى بقوله: إن الرب لديه ضيوف مختلفون بعضهم عن بعض تماما. بالنسبة إلي كان الجو في دار المسنين لطيفا ومثريا، والعاملات فيه ودودات وهادئات، كلهن من المنطقة، ويتحدثن دون كلفة. معظم النزلاء متمسكون بالحياة بطريقة بدائية جدا، وإذا كان العالم في الخارج لم يعد يضعهم في مصاف أقرانهم، فقد كنت أرى أنهم يناسبونني تماما. •••
ولسوء الحظ كان أبي عند زيارتي الأخيرة له في نهاية الصيف في حالة مزاجية سيئة، حتى إن ممرضة فلبينية، استقبلتني أمام الدار قائلة: «ها قد أتى أرنو لحسن الحظ. إن أوجوست يرغب منذ ساعات في الذهاب إلى البيت.»
دخلت إليه واصطحبته إلى الحديقة في الخارج، فأخبرني بأنه حزين لوضعه؛ لأنه لا يفلح في عمل أي شيء، ولأن كل مساعيه لكي يذهب إلى البيت لم تفلح تماما. طأطأ رأسه وقال بطريقة مثيرة للشفقة إن الأمر ربما يتعلق بأنه كان في عطلة نهاية الأسبوع مرتين في أوبيرفيلد واليوم السابق على ذلك مع إخوته في بيت والديه. حكت لي العمة ماريانا أن اللقاء كان رائعا، وأن الجميع سعد برؤيته، ولم يحتاجوا إلى بذل الجهد ليجدوا مواضيع للحديث، ولا يحتاج باول خصوصا من يطلب منه أن يحكي شيء ما، وكان أوجوست يستمع إليه طوال الوقت بإعجاب واهتمام شديدين.
وعند زيارتي لأبي مساء، ظنني باول، وأخذ يسألني عن بقية الحكايات، وإذا كنت سأساعده على الذهاب إلى البيت، وكان شارد الذهن جدا من شدة الهم، وذكر عدة مرات أنه حزين. اجتهدت في تهدئته، وأخبرته أن لدينا الوقت، ويمكن أن نجلس قليلا قبل أن ننطلق إلى البيت. فسألني بدهشة وبشيء من الخجل، إذا كنا فعلا بعد ذلك سنذهب إلى البيت. أكدت له ذلك وقلت إننا سننتظر قدوم هيلجا ثم نذهب جميعا إلى البيت. ربت أبي على خدي مرتين أو ثلاث بباطن يده ومرة بظاهرها، ثم شكرني؛ لأن ما قلته أسعده جدا. كنت قد أحضرت معي صحن توت، وأخذت أعطيه التوت الواحدة تلو الأخرى. بعدها ذهبنا إلى حجرته واستمعنا إلى الموسيقى، وتحدثنا من وقت لآخر. لم يواسه ذلك، ولكنه كان سعيدا لأن أحد «إخوته» يزوره. بعد قليل شعرت أنه هدأ ولم يعد يفكر كثيرا في الذهاب إلى البيت. ولأن وقت نومه اقترب وكان علي أن أحزم حقيبتي، فقد تسللت خارجا. لم أقدر على وداعه؛ لذا مشيت دون كلمة واحدة، وشعرت ببؤس شديد وأنا ذاهب، حتى إني وددت الرجوع إليه وأنا في الردهة وتذكرت التعبير القائل: شخص ينتزع نفسه من المكان انتزاعا.
هذه ورشتك يا أبي، هل تذكرك بشيء؟
نعم، أشياء كثيرة ما زالت موجودة هنا؛ اعتقادا مني أنها ستكون نافعة فيما بعد. توجد أشياء كثيرة قديمة هنا. وأنت، هل تستخدمها؟
أحتاج أحيانا لمفك أو مبرد منها.
أنا أحب استخدام أدواتك.
أما أنا فلا، لقد فقدت كثيرا من قدراتي العقلية، ولو كانت موجودة حتى الآن لكنت استمتعت أيضا بالعمل.
أنا أستمتع بذلك.
هذا يرضيني، لا أشعر أني وحيد أو محبط. لقد مررت بأشياء مختلفة، وكانت لدي أشياء مختلفة، وحققت أشياء مختلفة. ليس الأمر بهذا السوء؛ ألا أكون اليوم قادرا على فعل الكثير.
أظن أنك تقلل من قيمتك، أما أنا فلا أقلل من شأنك أبدا. ما زال لديك الكثير، حتى ولو لم يكن القدرة على الإنجاز بالمعنى الدارج.
نعم، نعم، قديما كنت أفعل أشياء بناء على أفكاري، لكن الآن لا يحدث ذلك كثيرا. لا يهم. لو كنت متضايقا أو محبطا لطلبت منكم المساعدة، لكني راض تماما. كان لدي الكثير، لكن الآن - بل منذ فترة طويلة - لم أعد أرغب في شيء. ومنذ مدة طويلة تتقلص قدراتي وتقل إنجازاتي. عندما كنت شابا، كنت ناضجا وقادرا على فعل الكثير، أما الآن فالحقيقة هي أني لم أعد قادرا على فعل أي شيء، لا ... لا. أفشل في كل شيء أحاول القيام به؛ ومع ذلك فلست تعيسا تماما لعجزي عن فعل كثير من الأشياء؛ فقد ولت تلك الأيام ببساطة، وأشعر بسعادة عندما ينجح الآخرون، لكن قدراتي أنا انتهت.
الفصل الحادي عشر
أدى البيت مهمته، كبر فيه الأطفال ونضجوا، وظل ذلك البناء القديم متماسكا، حتى نقل أبي إلى دار المسنين. أصبح الآن كل شيء غريبا فيه ولا يتواكب مع صيحة العصر، وتعددت المواضع التي كانت تقلقنا فيه. كان أبي قد بنى البيت بيديه وتبعا لرؤيته، ومنذ السبعينيات وهو يضيف إليه ويغير فيه. ماذا أقول؟ مثل هذه البيوت يعد بصورة غير مباشرة بمثابة لوحة ذاتية لبانيها.
كان البيت يعطي انطباعا بأنه بدائي ومرقع. عندما كان أبي يضيف إلى البيت أو يعدل أجزاء منه لم يكن يطلب المساعدة إلا بعد فوات الأوان. في عمله كان قد تعلم على مدار عشرات السنين كل ما يحتاج إليه كي يؤدي عمله باستقلالية. وفي عمله في البيت كان يثق في أن لديه ما يكفي من الدراية، ولكن النجاح لم يكن يحالفه بصورة كاملة؛ ففي بعض الأماكن كانت توجد نواقص كبيرة، فضلا عن ذلك كان لدى أبي رفض مرضي للتخلص من أي شيء، وأصبح على الأبناء الآن القيام بذلك.
وافق عيد ميلاده الثالث والثمانون عطلة نهاية الأسبوع، ولأن جميع أفراد الأسرة كانوا حاضرين فقد جهزت أمي حاوية كبيرة أمام البيت؛ لرغبتنا في التخلص مما لا نحتاج إليه في البيت.
بدأ العمل بسرعة ودون جلبة. وقل ثقل الأمر على الجميع كلما قلت الأشياء من غرف التخزين، وكلما بدت الحديقة ومرأب السيارات في صورة أفضل. ولكن الذي أحبطنا هو عدم قدرة الحاوية على مواكبة ما قمنا به بشغف؛ فقد كانت تمتلئ بالكاد بعد ثلاث دورات؛ لذلك لم نمس المنطقة العلوية من البيت، وظل القبو ممتلئا بأشياء ظن أبي أنها ستنفع يوما، إلا أنها أصبحت بمرور الأيام غير ذات نفع. أحد الجيران، الذي استعرنا منه مشمعا لأن النشرة الجوية قالت إن الطقس سيسوء، أخبرنا محذرا من أنهم قد احتاجوا إلى حاويتين للأشياء التي تخلصوا منها في بيت والديه.
ومع نهاية شهر أغسطس كانت الحاوية الثانية أمام بيتنا، وكانت أختي قد اشترت مشمعا؛ لأنه كان من المتوقع سقوط الأمطار. لذلك أنجزنا جزءا كبيرا من العمل يوم الجمعة، وكانت أمي وكاتارينا معنا. وكان الدور قد جاء لتنظيم السندرة. بيتنا كبير نسبيا، يرتفع بنوافذه إلى ثمانية أمتار عن مستوى الشارع، وكنا نقذف بالأشياء المخزنة بالسندرة منذ سنوات وعقود من إحدى نوافذ الغرفة التي كانت لبيتر قديما إلى الحديقة؛ ألواح خشبية وألواح جصية، وصناديق كرتونية ممتلئة بالملابس القديمة، وأسرة قديمة ذات مستويين، وألواح أبواب، وطاولات من التي توضع في الأركان، وسجاجيد، وحقائب سفر، وستائر نوافذ معدنية، وأسرة ومراتب قديمة محشوة بالريش، وبعض قطع الأثاث التي كانت تتحطم عند ارتطامها بالأرض، وبدت وهي ملقاة في الحديقة مثل السكارى فاقدي الوعي.
ومن بين اللعب التي ألقيناها كانت لعبة الحياة؛ فقد انتهى أمرها. •••
واستمر هطول المطر من يوم السبت إلى يوم الأحد، ثم سطعت الشمس بعد ظهر يوم الأحد، فاستطعنا استكمال العمل. أحضرت أمي أبي إلى البيت، وساد جو من السعادة، وبدا أبي متأقلما مع عالمه. عندما خرجت معه إلى الشرفة الخارجية ووضعت ذراعي على كتفه نظر إلي بمكر وقال: «أتبحث الآن عن كتفي كي تستند قليلا أيها الكسول؟» «أعترف لك أن هذا كان مريحا بالفعل.»
وبعد ذلك عندما عدنا إلى العمل قال أبي: «يمكن أن أساعدكم، إذا كنتم فعلا في حاجة إلي، مع التأكيد على كلمة فعلا! إذن، ها أنا أخبرتكم وعليكم الآن التفكير وتحديد ما تريدون، أعتقد أنكم نابهون بما يكفي.»
ومع حلول الظهيرة كان قد شرح لي ولهيلجا كم كان حاذقا عند بناء سور الحديقة أمام البيت، وكيف كان تفكيره محكما عند بناء المنزل. كان في حالة مزاجية طيبة وعالية، وكان مستمتعا بامتداحنا له بأفضل العبارات. «نعم، إننا دائما نتعلم منك!»
بالتأكيد تعلمنا من تصرفاته أيضا أنه من الأفضل عدم الاحتفاظ بالأشياء وتكديسها لمجرد أن ذهننا تفتق عن أننا ربما نحتاجها في يوم من الأيام. الاختلاف بين البيت وغرفته في دار المسنين كان صادما؛ لأنه يعيش هناك في مساحة ضيقة لا يستطيع فيها تخزين الأشياء كما اعتاد. وماذا يمكن أن يحتاج المرء وهو ينتظر وفاته؟ فكرت في ذلك كثيرا ونحن نرتب البيت؛ لأنه حتى هناك لم نجد سوى بضعة أشياء كانت مرتبطة بحياة أبي بدرجة تجعلنا نصمم على الاحتفاظ بها. أما معظم ما جمعناه من أركان المنزل فكان أشياء ببساطة لا تعدو أن تكون مجرد خردة.
في مساء يوم الأحد، عندما بدأ الظلام يحل توجه أبناء أبي الأربعة إلى القبو؛ بيتر وهيلجا وفيرنر في الورشة وأنا في غرفة التخزين، وهناك وجدت ماكينة قهوة ومطرقة اللحم الخشبية ومظلات مصابيح قديمة والحوض الخاص بأول غسالة كانت لوالدي، وصناديق نبيذ فارغة وأشياء للفك والتركيب. وعندما عطست من كثرة التراب والعفن فتحت النافذة الصغيرة الطويلة تحت السقف، وهي تعلو مستوى الشارع مباشرة. عبر هذه النافذة دخلت ذات مرة مع بيتر إلى البيت وكنا في سن الثالثة عشرة والعاشرة، عندما عدنا من رحلة غطس مع شباب مجموعة حماية البيئة وتركتنا المجموعة في الليل أمام البيت.
حينها تسحبت إلى فراشي وكانت هيلجا راقدة فيه، ربما كان سريرها مؤجرا لضيوف يقضون العطلة هنا. دخلت تحت الغطاء فانتبهت وقالت لي إن العم ألفين زوج ميلا قد مات ودفن. أفزعني أن يحدث مثل هذه الأمور وأنا غائب؛ الدفن وغياب العم بهذه البساطة.
والآن أتذكر تلك الأحداث وكأنها أصداء أصوات أفزعناها من مخبئها في زوايا البيت المتربة.
عندما أحضرت هيلجا مصيدتي فئران من الورشة وسألت إن كان لهما استخدام الآن (لا، لم يعد هناك الكثير من الفئران في فولفورت، حتى إنه يمكن وضعها على قائمة الحيوانات المهددة بالانقراض)، حينها تذكرت إجابة عمي باول عن سؤالي عن أكبر موهبة يتحلى بها أبي، حين قال: «صيد الفئران!»
في ربيع عام 1939 كانت الإدارة المحلية تدفع بعض المال في مقابل كل فأر يتم اصطياده، واستطاع كل من باول وأوجوست أن يكسبا من ذلك ما يكفي لشراء دراجة؛ أحدهما اشتراها من نوع «إن إس أو» والثاني من طراز «فيكتوريا». قام باول بدور المساعد فقط، في حين كان أبي هو العقل المدبر. وبالإضافة إلى الحقل الخاص بنا قاما أيضا بتطهير حقل جارنا من الفئران.
جمع الأشياء كان له مدلول إيجابي؛ فقد كانت الإدارة تقدم مكافأة مالية أيضا في مقابل كل كيلوجرام يتم جمعه من الدودة البيضاء. كان يوزيف وروبيرت يذهبان إلى طرف حقل بريجينتس بالعصا والمشمع، حيث يوجد عديد من الأشجار المورقة، واستطاعا في يوم واحد جمع أربعين كيلوجراما من الديدان. وكانت تلك هي الإمكانية الوحيدة أمام الأطفال لجني المال. •••
أزحت التراب بالمكنسة إلى خارج الباب، وانتهينا من العمل في التاسعة والنصف مساء، لكننا لم نغط الحاوية؛ لأن النجوم كانت تتلألأ في السماء. ثم ذهبت إلى الحجرة ذات الشرفة، وكانت قد خصصت لي منذ كنت في الثالثة عشرة من عمري، ويرجع الفضل في ذلك إلى علاقات النفوذ غير الواضحة في بيتنا. عادت أمي إلى المنطقة العلوية من المنزل، في حين رجعت كاتارينا يوم السبت بالقطار الليلي إلى فيينا. جلست إلى الكمبيوتر المحمول الخاص بي ودونت ما حدث، وتذكرت أن فيرنر أبدى ملاحظة وهو يرتب الورشة، واسترعى ذلك انتباهي؛ فقد وجد على الرف بجوار حجرة التخزين أوراقا، بعضها يتعلق بأمور خاصة جدا؛ لذا لم يحدق فيها كثيرا.
ذهبت إلى الورشة ووجدت ملفا من ثلاث عشرة ورقة بين وثائق وأوراق مختلفة، كان أبي قد سجل فيها وهو في سن الرابعة والعشرين ذكرياته عن نهاية الحرب، ولم يقرأها أحد منذ عشرات السنين، ولم أكن أعرف بوجودها قبل ذلك.
رجعت إلى المطبخ عبر الردهة خافتة الضوء، وجلست أقرأ تلك الأوراق. الحرب - التي لم تعن الكثير لأبي وهو في الثامنة عشرة والتي اعتبر وقته فيها عاما مسروقا من حياته - انتهت بسرعة، ومع نقله من الجبهة بدأت وتيرة الحكاية تتباطأ. كتب أبي بالتفصيل عن الوقت الذي أمضاه في المستشفى، وعن رحلة العودة المضنية عندما كان يبحث عن أشخاص يتحدثون بلهجة فورآرلبرج، ليسألهم قطعة خبز، دون أن يبدو وكأنه شحاذ.
صدمتني التفاصيل بسبب فجاجة وضوحها من ناحية، ومن ناحية أخرى لأني شعرت بأني لا أعرف الكثير عن أبي ونشأته وانكساراته ومخاوفه وآماله، بالرغم من كل ما بذلت من جهود.
كنت أعرف أنه أكل عظمة فاسدة عندما كانوا ينقلون غنائم الحرب، وأصابته الدوسنتاريا جراء ذلك، وأنه فقد وزنه بسرعة وأصبح يزن أربعين كيلوجراما فقط، وهو ما كان يذكره في بعض الأحيان مشيرا إلى الصورة الموجودة في حافظة نقوده خلف غطاء بلاستيكي خفيف. الجديد هو أن أبي كان قد قضى قبل تاريخ تلك الصورة أربعة أسابيع راقدا بين أشخاص يحتضرون وآخرين أموات. في ذلك المخزن الذي تحول إلى مستشفى بالقرب من براتيسلافا صنعوا أرففا خشبية بسمك خمسين سنتيمترا لتكون أسرة للمرضى. على عدة طبقات كانوا يضعون كل مريضين على أحد تلك الأرفف، يرقدان على جانبهما ملتصقين أحدهما بالآخر، مما جعل الوضع مروعا؛ وخصوصا بالنظر إلى أمراضهم المعدية وجروحهم التي لا تجد رعاية جيدة.
وعلى خلاف النهار كان الليل باردا، وكنت أتجمد أحيانا من شدة البرد؛ لأن الممرضات الروسيات، اللاتي لا أذكرهن بخير أبدا، كن لا يسمحن بأكثر من غطاء واحد لكل رجلين منا؛ لذلك اضطررت إلى رجاء أحد زملاء المعاناة، ممن تخطوا المرحلة السريرية، أن يبحث لي عن رداء لأرتديه. وبالفعل جلب لي واحدا في اليوم التالي وقال لي إنه خلعه عن رجل مات بالأمس، وإنه فعل ذلك قبل أن يلحظ الروس موته.
كان المكان الذي رقدت فيه لفترة طويلة يقع في مقابل معسكر الموت الذي كان الأطباء ينقلون إليه الأشخاص الذين تدهورت حالتهم المرضية. كان هؤلاء المساكين عاجزين عن الذهاب إلى الحمام، ولم يكونوا قادرين على تناول الطعام، وكانوا ينزفون في أماكن رقادهم عدة مرات في اليوم، وبصوت ضعيف وتائه ينادون على الممرضين ليساعدوهم على الذهاب إلى الحمام ... كان المنظر فظيعا. كنت أرى تقريبا كل يوم كيف يموت واحد منهم أو أكثر، وقد تخلى عنهم العالم ولم يساندهم أحد. كان معظمهم في كامل وعيه، ولكن أجسادهم كانت كهياكل عظمية.
ظلت أشباح هؤلاء الموتى تهمس لي في الظلام لأعوام طويلة، وعندما يهمس الأموات فإنهم يفعلون ذلك بإلحاح وعناد. إذا جمعنا الآراء عما هو أفضل: الموت أم الحياة، فإن الأموات، الذين هم أكثر عددا، سيصوتون لصالح الموت.
استمرت تلك الحال مدة يومين، وبعدها ذهبت عني الحمى. ولا عجب في أنهم جعلوني أعمل مجددا، وكان عملي هو المشاركة في دفن الموتى. العشرة الذين ماتوا في اليوم السابق وضعوا فوق عربة بعد أن نزعت عنهم ثيابهم ووضعت فوقهم أغطية خرقة، واستخدم ثمانية من السجناء بدلا من حيوانات الجر، وهكذا كانوا يجرون العربة خلال بعض الشوارع الجانبية في بريسبورج وصولا إلى منطقة التفريغ، حيث توجد حفرة يتم إلقاء الموتى فيها. وكان علي القيام بالمهمة البغيضة؛ ألا وهي ردم الحفرة فوقهم. ولا يعرف أحد عدد الموتى الذين دفنوا هناك، ولكن على أي حال يوجد هناك كثير من القبور، هذا إذا صحت تسمية تلك الأماكن قبورا.
لم يكن في العالم الذي أتى منه أبي مثل هذه الوحدة الموحشة؛ فهناك في عالمه كان الناس يموتون في بيوتهم وسط عائلاتهم وفي حضور القس. وكان دافنو الموتى يعرفون أسماء من يدفنونهم. ربما كان هذا هو السبب الذي دفع أبي على مدار سنوات طويلة لجمع التبرعات في عيد «جميع القديسين» لصالح حركة «الصليب الأسود». عدا ذلك لم يكن أبي يلتقي بقدامى المحاربين، ولم يكن يحكي لنا ونحن أطفال أي تفاصيل. اكتفى بكتمان الأمر بينه وبين الموتى، الذين كانوا يهيمنون على منامه ويسكنون خياله ويؤثرون في إلحاح وصمت على قراراته، كدأب الأموات دائما. «نعم، اذهب أنت إلى البيت. لا يسعني إلا أن أسديك نصيحة واحدة: ابق في البيت ولا ترحل!» •••
في ليلة الإثنين كان القمر يسطع مباشرة فوق آخر شجرة صنوبر أمام غرفتي ملقيا بضوئه على سريري، وشعرت برياح قوية هبت في نصف الليل الثاني وفي الصباح، وسمعت صوت أوراق الصحف على الدرج المؤدي إلى غرفتي، بعد أن حملها الريح إلى هناك ؛ مما أزعج نومي. مع ذلك كانت الحاوية الثانية قد أخذت ونحن نيام دون أن يلحظ ذلك أحد. أغمضنا أعيننا قليلا ثم استيقظنا، فكان المكان أمام البيت قد أصبح في ضوء الشمس فارغا، وكأن شيئا لم يكن.
في الأيام التالية كنت وأمي نتخلص مع كل خروج بالسيارة من أوراق وملابس وأشياء معدنية قديمة، وبالتدريج أصبح مرأب السيارات أيضا خاليا، ولم يبق سوى بعض الأخشاب مع تلك الأشياء التي احتفظنا بها لسوق الكشافة الخيري، وكانت مقارنة بما سبق أشياء قليلة. وسافرت أمي مرة أخرى، وبقيت أنا عدة أيام، وأنا أعلم أن أبي لن يرى كثيرا من حجرات البيت مجددا أبدا؛ لأنه سيجلس في أيام الأحد وفي الأعياد في المطبخ وفي غرفة المعيشة، في حين لم تعد غرفة نومه، التي أصبحت خاوية مثل ساحة الرقص، جزءا من عالمه الجديد.
كنت أطوف كثيرا بأروقة البيت، وتعتصر قلبي حقيقة أن هناك شخصا قد بذل الكثير من الجهد ليبني مكانا كهذا يمنحنا الإحساس بالأمان والاحتواء. والآن تحطم كل شيء، الرجل والبيت والعالم. وفكرت في تأليف كتاب بعنوان «أرض حزينة بعد الهزيمة».
في ذلك الوقت مع بداية شهر سبتمبر جاء موعد الحصاد الثالث. قام إيريش، ثاني أصغر أخ لأبي، بجز الحشائش من حديقة الفاكهة بالمنجل، كل شيء كان يتم باليد، قطعة قطعة، وشعرت بارتياح لرؤيته وهو يفعل ذلك. وكانت أواخر الصيف أحب الأوقات إلى قلبي عندما كانت الأشجار الكبيرة بتفاحها أحمر الخدود وحباتها من الكمثرى الصفراء تقف بارزة وسط الحقل. وأحيانا تهب الريح فيدوي حفيف الأشجار وكأنه صوت فرقاطات، والأطفال يلعبون في حديقة الجيران، وظلال الأشجار وفروعها تكون بعد جز الحشائش المتسلقة الواضحة المعالم في ضوء الشمس المنحنية على الحقل أكثر من أي وقت آخر.
كنت أرى من طاولة مكتبي ما وراء حديقة الفاكهة وحديقة الجيران، كان العم إيريش والعمة فالتراود يعملان تقريبا كل يوم في الحقل. ذات يوم رأيت طفلا، ربما في السادسة من عمره، يسكن في البيت المجاور، ورأيته قبل ذلك عدة مرات وهو يسير خلف العم إيريش ويناديه «جدي»؛ مما كان له أثر داعم في بناء هوية ثقافية جديدة لكلا الطرفين؛ لأن المجتمع التقليدي الذي نشأ فيه أبي وإخوته كان قد تفكك. كان لا يزال هناك عمل فلاحين ولكن لم تعد هناك حياة فلاحين. ما يسمى بتغير الهياكل الاجتماعية جعل من فولفورت مجتمعا سكنيا وصناعيا. وعندما كان أحد السكان يزرع شجرة فاكهة كبيرة، كانت الإدارة المحلية تدفع له مكافأة تشجيعية؛ حتى تصبح في القرية هنا وهناك زوايا تذكر بثقافة تحتضر في هذا البلد.
كان الطفل يمشي متبخترا عبر الحقل وهو يقضم تفاحة عندما أجاب نداء طفل آخر: «كوكوكوكو! كوكوكو!»
ثم ذهب إلى طرف قطعة الأرض، حيث بني العام الماضي - في المكان الذي كانت فيه حديقة الفاكهة الخاصة بجيراننا - مبنيان جديدان. وقف الغلام يشاهد شابا وهو يؤرجح ابنته من يديها وقدميها في الحديقة الصغيرة، ثم دخل معها عبر باب الشرفة الخارجية إلى البيت الجديد، وكان هذا الشاب حفيد المرأة التي أخذ أبي غرفتها في دار المسنين بعد وفاتها. جرى الفتى إلى إيريش الذي كان يجر العربة المحملة بالقش في اتجاه البيت، وبعد ذلك بقليل أصبحت حديقة الفاكهة خالية، وظهر بريق الثمار المتبقية في الحقل على خلفية لونه الأخضر الفاتح الناعم.
وجاء المنطاد من ميناء فريدريش طائرا، واستدار فوق طرف أوبيرفيلد، كما هي عادته في الصيف عدة مرات كل يوم، عندما يكون الجو جيدا. وكان هناك صقر يحوم فوق الحقل السفلي، فهاجمه غرابان في الهواء بمنقاريهما في ظهره وجناحيه، ولكنه لم يبد مهتما بما يفعلان، أو على الأقل لم يكلفه تجنب ضرباتهما عناء كبيرا. وبهدوء انطلق نحو النهر عند بريجينتس.
وتذكرت عندما كانت عاصفة تهب وكان خمسة عشر أو عشرون من العائلة يهرعون لنقل القش قبل أن يصيبه المطر، وصيحات الرجال العالية في اتجاه الجرار الذي كان يسحب عربة القش، وأصوات التأوهات عندما كانوا يرفعون القش على العربة، وكنا ونحن أطفال نستقبله ونوزعه ونحشو به أركان العربة، وصوت صنادل النساء، اللاتي يسرعن خلف العربة لجمع ما يقع من القش. وكان يطغى على ذلك كله صوت الجرار المرتفع وزئير العاصفة يقترب منا، ثم الانطلاق سريعا في اتجاه غرفة التخزين. وكنا ننام على بطوننا فوق القش؛ كيلا تضرب آذاننا فروع شجر الكمثرى التي يمر تحتها الجرار. وكانت بعض حزم القش تبقى عالقة في الأفرع أياما بعدها. وأتذكر أيضا اصطدام قطرات المطر الكبيرة بعد ذلك بأرجلنا العارية التي أحدث القش بها خدوشا، وصياح أبناء وبنات الأعمام والعمات في سعادة وهم يهرولون وراء العربة، ودائما كان شخص يسبق على الدراجة لفتح باب غرفة التخزين. وأتذكر كذلك المناورة لإدخال العربة تحت السقف الأمامي للغرفة والأصوات تتعالى، بينما المطر يتساقط على السقف ومنه إلى الشارع، وذلك الهواء الساخن الخانق في غرفة التخزين.
وكنا بعد ذلك نجلس في غرفة جدينا نشرب العصير ونأكل المثلجات، ثم نستحم في البيت والأنوف يملؤها غبار القش، وبعدها نتناول عشاء سريعا أمام التليفزيون ونحن متعبون لدرجة تحول بيننا وبين متابعة الصور التي كانت تبدو لنا وكأنها أحلام مبكرة. وعند الدخول إلى الفراش كانت المفارش الكتانية الخشنة تعطي إحساسا مريحا على الأقدام المخدوشة، وكنا ننام على الفور.
وأذكر أيضا كيف كان أعمامي وأبي يتقابلون مع شروق الشمس لجز الحشائش من فوق التل، وكان ذلك يحدث كل عام مرتين أو ثلاثا في السبعينيات وبدايات الثمانينيات. وكانوا عادة خمسة: إميل وأوجوست وباول وروبيرت وإيريش، وكان كل منهم يحضر معه منجله وحجر الشحذ. باول وأبي كانا يذهبان في حذاء كرة القدم القديم؛ لأن البروز فيه كان يساعدهم على الثبات إذا داست أقدامهما على الديدان البزاقة. وكان الإخوة الخمسة يجزون حشائش التل المنحدر في صفوف متساوية. كانت الغرفة التي تقاسمتها مع فيرنر تطل بنافذتيها على التل، وكنا في الصيف نترك النافذتين مفتوحتين بطريقة مائلة طوال الليل؛ لذلك كنا نستيقظ في الخامسة صباحا على صوت أحجار الشحذ. أحيانا كان يقوم رجلان بالشحذ في نفس الوقت ويصدر عن ذلك صوت منتظم «شيت، شيت، شيت»، وفي الخلفية تصدر أصوات المناجل منتظمة أيضا وهي تجز الحشائش التي بللها الندى. وكان ذلك يستمر قرابة الساعة والنصف، ونحن ننام ونستيقظ في أثناء ذلك. وبعدها كان أبي وإخوته يعودون إلى البيت والمناجل على أكتافهم، يغتسلون ثم يذهبون إلى أعمالهم في البنك العقاري وفي الإدارة المحلية وفي الغابة وفي قراءة عدادات الكهرباء وفي المكتبة الوطنية. «أيام الإنسان مثل الحشائش.»
وبينها زهور الحرف المرجي. •••
في إحدى زياراتي لأبي هذا الأسبوع حاولت مرارا أن أقنعه بأن يلعب معي لعبة مصارعة الذراعين، في البداية كان يدفع ذراعه في الاتجاه الخاطئ، فشرحت له الطريقة السليمة للعبها، فأدرك ما قلته ولعبنا وتركته يفوز مرتين. فرح أبي بالمزاح والضحك أكثر من الفوز الذي لم يعلق عليه، ولكنه قال مبتسما: «من يفعل ما نفعله نحن هنا سيطردونه بالتأكيد.»
الشيخوخة يا أبي؟
نعم، إنها تعطي الانطباع بأني لم أعد شابا، وأني من كبار السن أو من المسنين. لا يهمني كيف نسمي ذلك.
هل تخاف من الموت؟
مع أنه من العيب ألا أعرف، فإنني لا أعرف.
الفصل الثاني عشر
كانت الساعة الرابعة إلا الربع عصرا، وبعد أن زودت إطاري دراجتي بالهواء، ذهبت إلى دار المسنين، ولكني لم أجد أبي في غرفة الانتظار. وجدته في حجرته محدق العينين.
لم يستجب لندائي، فناديته مجددا، لكن عينيه بقيتا محدقتين دون أن يعطي أي استجابة. تأكدت من أنه ما زال يتنفس؛ فبالفعل كان قفصه الصدري يعلو وينخفض. مع ذلك تسارعت دقات قلبي؛ لأن صوتي لم يصل إليه بالرغم من رفع صوتي، وظننت أنه قد أصابته صدمة أو ما شابه، ولكنه في المرة العاشرة أو الحادية عشرة من النداء اهتز ونظر إلي مشدوها، وكأنه يعجب كيف وصلت إلى سريره فجأة، سألته وأنا مضطرب عن حاله، فهز كتفيه وقال: «أتمنى أن أكون بخير.» •••
إن كل حكاية هي بمنزلة «بروفة نهائية» للموت؛ لأن كل حكاية لا بد أن تنتهي، إلا أن الحكي يعيد الأشياء الضائعة، عندما يحكيها.
أو كما قال شكسبير: «دعنا نجلس على الأرض ونحك قصصا حزينة عن موت الملوك.» •••
بعدها جلست على الكرسي ونظرت عبر النافذة إلى شارع لاوتراخ، حيث تمر سيارة من وقت لآخر، وسألت أبي إذا كان يرغب في الذهاب معي إلى الخارج، ولكنه لم يرد ذلك، حاولت أن أغريه بالجلوس في الهواء الطلق، لكن الفكرة لم ترق له. «أترغب في الخروج معي يا أبي؟ يمكننا التنزه قليلا.» «إلى أين؟» «نتنزه في الخارج، بالحديقة.» «لا أريد.» «إلى فولفورت إذن يا أبي.»
نظر إلي وهز رأسه بالموافقة، وقال مبرهنا على أن قلبه ما زال يعرف ما يعشق: «هذا بالتأكيد أمر مختلف.»
قام وذهب معي إلى الباب، ولسعادتي بأنه ما زال حيا علقت يدي في يده. •••
كلما ابتعد المرء عن موطنه شعر بأنه عاش فترة أطول، وإذا طبقنا ذلك على أبي فإن حياته حتى بداية الحرب كانت قصيرة، ثم طالت لفترة قصيرة، ثم قصرت لفترة طويلة، ومع إصابته بمرض ألزهايمر عادت طويلة. •••
جاء أحد النزلاء وقال لي إن قصة «الذئب والصغار السبعة» تحكي عن قتل الصغار، فرددت عليه بأنه ربما يكون محقا، وأنه علي أن أفكر في الأمر.
تبع أبي الرجل بعينيه وكأنه لم يره من قبل، ثم نسيه بعد ذلك. •••
كان يسمي زملاءه في دار المسنين «الفقراء البؤساء، الذين لا تجتمع فيهم الرغبة والقدرة»، وأحيانا «الكسالى»، دون أن يستثني نفسه من ذلك الوصف. ولكنه كان يشعر بالراحة لوجوده بين من يشبه حالهم حاله. كان يقول أحيانا: «يوجد هنا مزيد من الكسالى. لقد جمعتهم في هذا المكان بنفسي.»
وفي مرة أخرى قال متضامنا معهم: «كلنا هنا مساكين.» ••• «أنا شخص مسالم في أرض الرب، شخص لا يقوم بقفزات كبيرة، ويغادر الحياة في النهاية.» •••
إذا أردت مقارنة أبي بشخصية من الأدب فسيخطر ببالي ليفين، الشخصية الذكورية الرئيسية في «أنا كارنينا»، ليس فقط لأن ليو تولستوي يصفه وهو يجز الحشائش بالمنجل، بل لأن هناك شيئا يجمعهما؛ ألا وهو الرغبة في جعل الأشياء تصبح أفضل. حتى اليوم ما زال أبي يتجول في حديقة دار المسنين ويقول: «توجد هنا أشياء تحتاج إلى تحسين، لقد اكتشفت ذلك بعيني الماهرتين. أعجب كيف رتبوا الأشياء هنا بهذه الطريقة. لا أفهم الميزة في ذلك، ما فعلوه لا يقنعني!»
كان أبي ينشغل كثيرا بخطط كبيرة ويقول: «لدي كثير من الأفكار، لكنها لم تعد تعبر عن نفسها.» •••
خطر ببالي شكل جيوبه المنتفخة، وأنه يوما قام بطلاء مرأب السيارات وهو محتم من الشمس بمظلة، بينما كان الجيران ينامون تحت مظلاتهم. وكثيرا كان يضع منديلا على رأسه بعد عقد أطرافه الأربعة ليحتمي من الشمس. ••• «وما هذا؟!» «هذه أشجار يا أبي.»
رفع حاجبيه وقال: «ولكنها لا تعطي الانطباع بأنها أشجار!» •••
جلسنا على أحد مقاعد الحديقة، وأخذ يراقبني باهتمام وأنا أدون بعض الملاحظات في كراسة قديمة، وأمسك لي بالكراسة حتى لا تنزلق وأنا أكتب. سألني: «كيف سارت الأمور مع أوراقك؟»
فأجبته: «الأمور تسير مع أوراقي بصورة طيبة دائما.»
فقال: «وأنا أيضا.» •••
كانت تركيبة غريبة؛ فقد كان لا يستطيع الاحتفاظ بما أعطيه له، وكنت أتمسك بكل قوة بما يعطيني إياه.
كانت تلك الساعات تطول، وكان لدي الوقت للانتباه لأشياء كثيرة. لم يكد شيء يمر دون أن ألحظه؛ فقد كنت أظل منتبها وحاضر الذهن، وكل الأمور كانت تصلني بوضوح شديد وكأن ضوءا شديدا ينتشر فجأة من حولي. •••
كان أبي يراقبني أثناء الكتابة، ولسان حاله يقول: «اجلس هادئا يا ولدي؛ يجب أن تستذكر درسك!» •••
يوجد شيء بيننا جعلني أنفتح على العالم أكثر، وهو على عكس ما يقال عادة عن مرض ألزهايمر بأنه يقطع الصلات؛ فأحيانا يكون سببا في توطيد العلاقات. ••• «عندما ذهب ما تمنيناه أدراج الرياح، عندها فقط بدأنا نعيش.» •••
زادت السعادة مع الاقتراب من الموت، هناك حيث لم نحتسب. •••
كما قال الجنرال ديجول ردا على السؤال عن الطريقة التي يريد أن يموت بها: «أريد أن أموت حيا!» •••
عندما ذهبت بعد ظهر يوم سبت لزيارة العمة بيرتي، زوجة باول الأولى، كنت قد أتممت لتوي عامي التاسع عشر، وكانت العمة ترغب في توديع أبناء وبنات أخواتها الكثيرين، وكان أحد الرهبان قد غادر للتو وهو يتمنى لها الشفاء، فقالت لي: من السخيف أن يتمنى أحد الشفاء لشخص يحتضر. وكانت تبدو محبطة وتعيسة. وتركت في هذه اللحظة القصيرة أعظم الأثر، عندما طلبت امرأة وأم لثلاثة أطفال، اثنان منهم في سن ما بين الطفولة والشباب، ألا نغض الطرف عن الحقائق، حتى ولو تعلق الأمر بالموت.
أحيانا نتعلم في لحظة واحدة ما لا نتعلمه في عام دراسي كامل. •••
شهد ذلك الوقت أحداثا حزينة أخرى؛ إذ مات ثلاثة أطفال ممن تبناهم أبي: جوي وماريا وإيرمي. كانت تلك أكبر تعاسة عائلية لم يسلم منها أحد في الأسرة، بما فيها من مصادفة رهيبة وحزن يصعب نسيانه.
عندما حدثت أبي عن تلك الفترة لم يتذكر منها شيئا.
وقال: «لا، لا أعرف شيئا عن ذلك.»
ولكنه رغم ذلك كان يعتقد أن أمه، التي ماتت في نفس الفترة، لا تزال حية، وكان كثيرا ما يقول: «يجب أن أذهب إلى البيت؛ فأمي بانتظاري!» •••
كان مفهوم القدر على مدار ألفية كاملة مفهوما أساسيا، أما اليوم فيكاد يصبح الحديث عن القدر أمرا مستهجنا؛ إذ يجب إيجاد تفسير لكل شيء. ولكن أحيانا تحدث لنا أشياء لا نقدر على تفسيرها ولا على إيقافها. فبالمصادفة يحدث شيء لأقوام، وبالمصادفة لا يحدث لآخرين، لماذا؟ يبقى ذلك لغزا.
الشوق لما عشناه وللأشخاص الذين تركونا نحيا ورحلوا. •••
في لحظة ما سيأخذ أبي نفسا لن يتبعه آخر، وهذا يشعرني بالغضب، كل هذا العناء، ولماذا؟ ثم أفكر مجددا في أن هذا الأمر فيه شيء كتب عنه جوليان جرين في يومياته وهو في سن الثمانين قائلا: إنه ليست لديه مشكلة في أنه يفقد بعض قدراته وأنه سيموت؛ فالرب يأخذ الممحاة ويمحو المكتوب على اللوح؛ كي يكتب اسمه فوقه.
على خلافي كان أبي دائما متدينا جدا، ولكن حتى في ظل المفاهيم الدنيوية يعجبني ما قال جوليان جرين عن ذلك الآخر الذي يكتب اسمه على اللوح، الأماكن التي نستخدمها يستخدمها من بعدنا آخرون، الشوارع التي نقود عبرها مركباتنا، سيمر بها غيرنا، المكان الذي بنى فيه أبي بيتا، سيسكنه أشخاص آخرون، وشخص آخر سيروي يوما القصص التي أحكيها أنا .
وبقدر ما أن هذا الترتيب عبثي وحزين، إلا أنه يبدو لي سليما. •••
قرأت في الصحيفة أن الصراصير قد نجت من تجارب أجريت على القنابل الذرية في منطقة بكيني أتول، وأنها ستبقى بعد فناء البشرية. وهذا شيء آخر سيبقى بعد أن أنتهي. كنت قد تأقلمت مع فكرة أن النبيذ والفتيات سيبقيان بعدي، ولكن أن تبقى الصراصير تستمتع بحياتها بعد موتي، فهذا يؤرقني قليلا. •••
أردت ذات مرة إحضار زجاجة نبيذ من غرفة التخزين، وكانت نافذتها نصف مفتوحة، فسمعت أبي، الذي كان يجلس بالخارج على السور الصغير مع دانيلا، يقول: «ربما يحين الوقت يوما ...» •••
لو كان البشر خالدين لكانوا أقل تأملا، ولو كان الناس أقل تأملا لكانت الحياة أقل جمالا.
لولا غرابة الحياة ووجود الموت لما كتبت قصتا «المزمار السحري» و«روميو وجوليت»، ولما كان أحد سيكتبهما أبدا. •••
إن الموت من الأسباب التي جعلت الحياة تبدو لي جذابة؛ فهو الذي يجعلني أرى الحياة بطريقة أوضح.
مع ذلك فأنا لا أرحب به، وأعتبره مزعجا؛ فخسارة ما يضيع كبيرة، ولكن حقيقة أن الموت أمر لا مفر منه، جعلتني أرى أن الغضب منه يشبه النباح في الليل، هذا بالنظر إلى الحياة التي تفرض نفسها.
بالرغم من كل الاعتراض سيستمر الزمان في مساره. •••
أعتقد أن الحوار القصير التالي كان في فيلم «سيدة من شنغهاي»: «لا أريد أن أموت.» «وأنا أيضا. وإن كان هذا حتما علي، فلأكن آخر من يموت.» •••
بقدر ما يتعلق البشر بالحياة، فإن الموت في بعض الأحيان لا يأتي بالسرعة المطلوبة؛ وخصوصا عندما لا تصبح الحياة جيدة بما يكفي، عندها يدور الحديث بين الأقارب عن الموت الرحيم، في حين يكون من الأفضل أن يتحدثوا عن عجزهم في التعامل مع الوضع الذي تغير. والسؤال هو: هل يرغبون في إراحة المريض من معاناته، أم أنفسهم من عجزهم؟ •••
مذنب؛ لأنه لا يزال حيا! لا يزال! •••
أفاجأ دائما عندما يضع أبي يده بحنان شديد لم ألحظه فيه من قبل على خدي، أحيانا باطن يده وكثيرا ظاهرها، عندها أدرك أني لم أكن بهذا القرب منه مثل تلك اللحظة. •••
سأتذكر ذلك دائما، دائما، دائما! أو على الأقل ما دمت قادرا على ذلك.
وضعت يدي على كتفه وقلت: «كيف حالك أيها المحارب القديم؟»
فسألني متفاجئا: «أنا؟!» «نعم، ألست محاربا قديما؟» «هذا يتوقف على فهم ذلك ... كما تعلم، المحارب القديم يكون قويا ...»
ثم نظر إلي وتفحصني بود وقال: «أنت شخص أحب أشياء كثيرة، وهناك أشياء لم تحبها البتة.»
فقلت: «هناك أشياء أحببتها كثيرا.» «كنت تحب المغامرات، أما أنا فلا.» «وماذا كنت تحب يا أبي؟» «الذهاب إلى البيت.» •••
في مرة أخرى عندما أخذت يده وربت عليها سألني: «لم تفعل ذلك؟»
فقلت له: «هكذا وحسب.»
فنظر إلي نظرة اختلط فيها الفضول بالضيق، ثم قال: «يمكنك إمساك يدي كما تشاء، ولكن يهمني أن أعرف سبب فعلك هذا.»
فأجبته: «أفعل ذلك لأني أحبك.»
شعر أبي بالخجل، وقال بلهجة تتعلق بإحساسه بأنه أصبح عديم النفع: «أنت تقول ذلك وحسب ...»
فقلت له وأنا مضطرب، ولذلك لم يكن كلامي مقنعا بما يكفي: «طبعا، أحبك.»
فطأطأ رأسه وترك الكلام وغير الموضوع. •••
عندما أسأل نفسي أي نوع من البشر أبي، أراه مناسبا جدا لأحد النماذج، ولكنه يعود دائما ويحطم جميع الصور الكثيرة التي رسمها لنفسه طوال حياته؛ سواء لدي أو لدى الآخرين. •••
هذه القدرة التي لا تستنفد على أن يكون مرحا ويضحك ويعقد الصداقات بسرعة!
انتفع أبي من موهبته في كسب ود الآخرين عدة مرات عندما كان في طريق عودته من الحرب، واحتفظ في مذكراته عن نهاية الحرب بأسماء الذين ساعدوه في محنته بعناية. كان عليه أن يدفع ثمن تذكرة العبارة التي أقلته عبر نهر الدانوب، ودفعها عنه شخص يدعى ألفونس ماير من ريد في إنكرايس. أما في أورفار فقد حصل على قطعة خبز من إيفالد فيشر وجيدو أورزينجر من كينيلباخ، وقام شخص آخر بتزييف شهادة خلوه من القمل كي يسمح له بالرقود تحت سرير سيارة الإسعاف: زيجفريد نوسكو من دورنبيرن. وتقاسم رجل معه وجبته: معلم الموسيقى فرانتس جروبر من بريجينتس، الذي كان يعزف للأمريكيين موسيقى للرقص. •••
كان الجميع يفشل في رسم صورة لأبي، ولكن ربما لم ينجح أب مثله في أن يفي بالصورة التي يرسمها الأطفال لأبيهم.
ماذا عساه يحكي لي عن المرض، لو عاد من هناك كما فعل ريب فان فينكل بعد عودته من الليلة التي استمرت عشرين عاما وهو يلعب «البولينج»؟ بالتأكيد كنا وقتها سنستطيع أن نتحدث بصورة مختلفة معا، بانفتاح ومباشرة وذكاء أكثر.
وأبناؤه - هذا ما اتضح - سيتعلمون من الأحداث بشكل أو بآخر. •••
من الواضح، أن الأحداث قد تركت أثرا عميقا فينا. •••
بعد أعوام من الانفصال والاستقلال سامحته زوجته على زيجتهما الفاشلة، وتحققت رغبته في علاقة تدوم مدى الحياة لدرجة ما.
فقبل أيام كان يجلس في البيت على كرسي في المطبخ، ثابتا في مكانه، وأمي تقص له شعره. •••
خصوصا في العلاقات العائلية والثنائية نعرف أحاسيس سارت في مسارات «ملتوية ومتعرجة وحلزونية». •••
كثيرا ما أرى في هذا الإنسان المسكين الذي سرق منه عقله أبي الذي كنت أعرفه في الأيام الخوالي. عندما كانت عيناه تريانني بوضوح ويبتسم لي، وهو الأمر الذي كان يحدث لحسن الحظ كثيرا، كنت أعرف أن الزيارة قد آتت ثمارها بالنسبة إليه أيضا.
وكثيرا ما كان يبدو وكأنه لا يعرف شيئا ويفهم كل شيء.
وذات مرة عندما مددت يدي لأصافحه، أسي لحالي؛ لأن يدي كانت باردة، فقلت له إني أتيت لتوي من الخارج حيث تمطر، فأخذ يدي بين يديه وقال: «افعلوا ما عليكم فعله، أما أنا فسأبقى لأدفئ هذه اليد.» •••
وبعد ذلك جلسنا على أريكة في نهاية الحجرة، وعندما كنا نحدد أين سيجلس كل منا، قال: «أنا ولد أكبر سنا ولا أحب الأمور الصعبة.»
وبصوت منخفض كانت موسيقى موتسارت تنطلق من مكبر الصوت، وعندما مر شخص، قال له أبي: «هلليلويا!» (التي تعني «هللوا للرب»؛ أي اشكروه) وتبعه بنظره. ولما كررها ثانية وضحك ذلك الشخص، علق أبي مازحا وهو يشرح لي ولكاتارينا قائلا: «تسقط عليهم تلك الكلمة مثل القنبلة.» •••
ذلك الرجل العجوز ورغباته الصغيرة، التي كان يفضلها على مسكن جديد في الجنة؛ وهي التنزه، ومقابلة شخص يمكنه التحدث إليه قليلا. •••
لا يوجد الكثير مما يتوقع حدوثه في دار المسنين؛ خدمات ترفيهية بسيطة، وجوه ضاحكة، هرة تتمسح، دعابة تضحك الآخرين. يعجبني أن الأشخاص الذين يعيشون هنا قد تحرروا من المجتمع القائم على الإنتاج والإنجاز.
أحيانا يكون نقص الإمكانات شيئا محررا. أتصور الأمر مثل الانتظار على رصيف المحطة في سيبيريا على مسافة كيلومترات بعيدا عن التجمع السكاني التالي، يجلس المرء يأكل اللب. بالتأكيد سيأتي القطار وقتا ما، سيحدث شيء في لحظة ما، بالتأكيد. •••
ارتشف أبي من فنجان القهوة رشفة، ثم وضع الفنجان بجوار طبقه، ونظر إلى شخصين وسأل: «هل هما قريبان؟»
فأجبت: «نعم.»
فقال: «اعتقدت ذلك أيضا بسبب اللون.» •••
كتبت الصحيفة أن الخراف السوداء أصبحت نادرة بسبب ارتفاع حرارة الأرض! •••
واكتشفت أن تخوفي من أن الجزء الجيد من القصة قد انتهى غير صحيح؛ فلم تصح توقعاتي إلا نادرا. لعل أبي في هذا الموقف كان سيقول لي عدة مرات بطريقته الحكيمة: لقد أخطأت في توقعاتك. لذلك لم أعد أنظر إلى المستقبل بنفس درجة الخوف التي كنت أشعر بها في البداية. لم أعد أرى الأمر قاتما بهذه الدرجة. •••
بتوقع مطمئن. •••
أردت أن أعطي نفسي وقتا لتأليف هذا الكتاب، ووفرت له ست سنوات. في الوقت ذاته كان يراودني أمل في أن أكتبه قبل أن يموت أبي؛ لم أرد الكتابة عنه بعد موته، أردت الكتابة عن شخص حي؛ لأني رأيت أن أبي، مثل أي إنسان آخر، يستحق مصيرا تبقى نهايته مفتوحة. •••
وفي هذه اللحظة تحديدا وأنا أكتب هذه السطور، يبلغ عمري نصف عمر أبي. طال الأمد حتى وصلت إلى هذه النقطة. لقد طال الوقت لاكتشاف الأمور الأساسية التي جعلت منا هؤلاء الأشخاص الذين أصبحنا إياهم. •••
قال أبي لي ولكاتارينا: «كنت في السابق غلاما قويا، لا ولدا ضعيفا مثلكما!» •••
والحكمة تقول: من ينتظر بما يكفي، يمكن أن يصبح ملكا.
Bilinmeyen sayfa