قيل: ولما قتل كسرى النعمان بن المنذر كتب إلى إياس بن قبيصة يأمره أن يبعث إليه بولد النعمان بن المنذر وتركته من المال والإبل والخيل والسلاح، وكان النعمان أودع ذلك هانيء بن مسعود، فبعث إليه إياس يعلمه بما كتب به كسرى، فأبى أن يسلم شيئًا من تركة النعمان، فكتب إياس إلى كسرى يعلمه ذلك، فآلى على نفسه ليستأصلن بكر بن وائل، فكتب إلى إياس يأمره بالمسير إليهم لمحاربتهم فيمن معه من طيء وإياد وغيرهم، وكتب إلى قيس بن مسعود الشيباني المعروف بذي الجدّين، وكان عاملًا على سفَوان، يمنع العرب من دخول أطراف السواد ويأمره أن يسير بمن معه من قومه فيعين إياسًا على محاربة بكر بن وائل، ثم عقد كسرى لقائد من قواده يسمى الهامرز في اثني عشر ألف رجل من أبطال أساورته ووجهه إلى إياس لمعاونته، ثم عقد أيضًا لهرمز جرابزين، وكان أعظم مرازبته في مثل ذلك، وأمره أن يقفو أثر الهامرز حتى يوافي إياس بن قبيصة، فسارت الجيوش إلى بكر بن وائل، وكانوا بمكان يسمى ذا قار منه إلى مدينة الرسول خمس مراحل مما يلي طريق البصرة، فأقبلت الجيوش حتى أناخت على بكر فأحدقت بهم، ثم إن عظماء بكر بن وائل اجتمعوا إلى هانيء بن مسعود المزدلف وقالوا: إن هذه الجيوش قد أحدقت بنا من كل ناحية فما ترى؟ قال: أرى أن تجعلوا حصونكم سيوفكم ورماحكم وتوطِّنوا أنفسكم على الموت. فقالوا: نعم والله لنفعلن! ثم إن قيس بن مسعود أقبل في سواد الليل من عسكر إياس حتى أتى هانيء بن مسعود فقال: يا ابن عم إنه قد حلّ بكم من الأمر ما قد ترون ففرّق خيل النعمان وسلاحه في أشدّاء قومك ليقووا بذلك على القتال فهي مأخوذة لا محالة إن قتلوا وإن سلموا أمرتهم فردّوها عليك، وعليك بالجدّ والصبر، وإياك ثم إياك أن تخفر ذمتك في تركة النعمان حتى تُقتل ويقتل معك جميع قومك! قال له هانيء: أوصيت يا ابن عم محافظًا فوصلتك رحم وأرجو أن لا ترى منا تقصيرًا ولا فتورًا، فانصرف قيس ذو الجدين من عند هانيء كئيبًا حزينًا باكيًا خائفًا من هلاك قومه حتى أتى عسكر إياس وكان يريه أنه مجامع له على حرب قومه خوفًا أن يجد عليه كسرى فيقتله، فلما أصبح هانيء بن مسعود دعا بخيل النعمان وسلاحه ففرقه في أبطال قومه وأشدّائهم، فركبوا تلك الخيول، وكانت ستمائة فرس وستمائة درع، واستلأموا تلك الدروع، وكان ذلك في العام الذي هاجر فيه رسول الله، ﷺ، إلى المدينة، واتفقت بكر بن وائل أن تجعل شعارها باسم رسول الله، ﷺ، محمدُ يا منصور، وذلك قبل أن يُسلموا، وبذلك الاسم نُصروا وقَهروا عدوهم، وعمد رجل من أشراف بني عجل يقال له حنظلة بن سيّار إلى حزم رحالات النساء فقطعها كلها، أراد بذلك أن يمنع قومه من الهرب إن وقعت الهزيمة، فسمّي بذلك مقطّع الوضين. وإن إياس بن قبيصة أرسل إلى بكر بن وائل يخيّرهم خصلة من ثلاث: إما أن يسلموا تركة النعمان، وإما أن يسيروا ليلًا في البراري فيعتلّ على كسرى أنهم هربوا، فإن أبوا هاتين الخلّتين خرجوا إلى الحرب. فتوامروا بينهم فقالوا: إما أن نسلم خفارتنا فلا يكون ذلك وإن نحن لحقنا بالفلاة أفضينا إلى بلاد تميم فيقطعون علينا ويأخذون ما معنا ويأسروننا وليست لنا حيلة إلا القتال، فاختاروا القتال ووجّهوا خمسمائة فارس من أبطالهم عليهم يزيد بن حارثة اليشكريّ وأمروهم أن يكمنوا للعجم، ثم زحف الفريقان بعضهم إلى بعض وتقدّم الهامرز فوقف بين الصفين ونادى بالفارسية: مردى آمردى. فقال يزيد بن حارثة: ما يقول؟ قال: يدعو إلى البراز رجلًا لرجل. فقال: وأبيكم لقد أنصف! ثم خرج إليه فاختلف بينهما ضربتان فضربه يزيد ضربة بالسيف على منكبه فقدّ درعه حتى أفضى السيف إلى منكبه فأبانه فخرّ ميتًا الهامرز أول قتيل بين الصفين، وألقى الله ﷿ الرعب في قلوب العجم فولّوا منهزمين، ولحق حنظلة بن سيّار العجلي بهرمز جرابزين قائد العجم فطعنه طعنة خرّ منها ميتًا، ودفع هانيء بن مسعود فرسه في طلب إياس بن قبيصة حتى لحقه ومعه قيس بن مسعود ذو الجدّين، فأراد هانيء قتل إياس فمنعه قيس وحال بينه وبين قتله، واتّبع العجم خمس مائة فارس من بني شيبان لا يلوون على شيء يقتلون يومهم ذلك من أدركوا منهم حتى جنهم الليل، وبلغت هزيمة الأعاجم كسرى بالمدائن، قال دغفل: فذكر هذا الحديث لرسول الله، صلى الله
1 / 51