وإني لا أنكر أنه يوجد علوم كثيرة لا علاقة لها أصلا بالإيمان، ولا تدخل تحت حكم الكنيسة، ثم إن شريعة الكنيسة وتأليف آبائها الأطهار كلها تصرح أعظم صراحة بأنها لا تضغط على حرية أفكار أعضائها، بل قد فوضت لكل واحد الحرية المطلقة في إبداء الأفكار التي تخطر في باله، والمجامع المسكونية التي كانت تلتئم من ممثلي الكنيسة شهود عدل على ذلك؛ لأنه في إبان التئامها لحل أي مسألة كان لكل واحد ملء الحرية لإبداء رأيه وأفكاره دون مراعاة برئاسة أو سلطة، ونحن إذا تأملنا بعين العدل نرى أن كل إنسان قابل للضلال، ولهذا فإن صوت الكنيسة يوقف أي إنسان ضل، ويرشده إلى طريق الحق، ويقوده إلى الصراط المستقيم، وحوادث تاريخ الكنيسة الماضية تؤيد بأن اهتمامها أثر تأثيرا عظيما في إنارة عقول بنيها الخوارج، وانتشالهم من وهدة الضلال بحكمها العادل المبني على دعائم الحق والمحبة، وتأكد أولئك الأبناء بأن حرية النفس لا تقوم بانفصالها عن الكنيسة انفصالا مبنيا على الأوهام، بل تقوم تلك الحرية الحقيقية بالخضوع المبني على الاقتناع بإخلاص زائد لشريعة المسيح الحقة.
ولا يخفى أنه يوجد في لندن جمعية تعرف بجمعية «البوزيتيغست» لها نظام خصوصي يسير عليه أعضاؤها، ومؤسس تلك الجمعية أغوست كونت الذي ألف مذهبا جديدا وهو عدم الاعتقاد بشيء مما فوق الطبيعة، وعدم الاعتقاد بأقوال الكتب الإلهية المعروفة عند جميع الطوائف، وقد تبعه جمهور غفير، وأصحاب هذه البدعة يكرمون على السواء: موسى وهوميروس، وأرسطو، وقيصر، وبولس الرسول، وكارلوس الكبير، وغيرهم من الرجال العظام. وهم يؤلهون قوة علوية سامية كشفت لأغوست كونت. ولهذه الجمعية بيت للصلاة كائن في شارع «شابيل ستريت»، ولدى اجتماع الأعضاء للصلاة يكون لكل واحد مطلق الحرية أن يوجه صلاته لمن يشاء؛ سواء لبولص أو لغيره، وإذا خطر لواحد بأن أغوست ليس بخادم حقيقي للقوة العلوية، فيطلب من رئيس الجماعة أن يفتش له على مصدر آخر يوجه إليه صلاة ترتاح منها حواسه الدينية، ولا يخفى بأن بلاد الإنكليز هي محط رحال الكنيسة الواسعة المبنية على الانقسام والتفريق، ورؤساء تلك الكنيسة لا يستطيعون على توحيد كلمة الناس للاتفاق على رأي واحد، ولكن الحمد لله أن الكنيسة الأرثوذكسية بعيدة عن ذلك؛ لأن شعارها الاتحاد ولواؤها الاتفاق. ثم سمعت من أفواه كثيرين بأن رسالة المجمع المقدس لم يقصد بها إيجاد السلام، بل عكس ذلك؛ لأنها هيجت أفكار الشبان والشابات المشغوفين بحب تولستوي، ويفتخرون به على فلاسفة العالم، وهم في مثل هذه الحالة لا يستطيعون الرجوع عن حبه ومطالعة تآليفه وسماع أقواله، ولهذا فرسالة المجمع قد كانت سببا لزيادة أعداء الكنيسة الذين هم بدون ذلك كثيرون. فأجيب على هذه الأقوال: إننا ننظر أولا إلى رسالة المجمع المقدس كتعبير ضروري لإظهار حالة حياة الكنيسة الداخلية بقطع النظر عن النتيجة التي تنجم عن ذلك حميدة كانت أم وخيمة، فالذي يرفع صوته أو يجاهر دفاعا عن الحق أو إظهارا له ذلك لا يخشى الخطر. من يعتقد بأن الله يدبر هذا العالم ذلك يجتهد لكي تكون جميع أعماله موافقة لروح الصدق والمحبة، وأفعاله مطابقة لأساس شريعة التعليم المسيحي الذي هو اتحاد الرحمة والحق، على أمل أن تكون نتيجة تلك الأعمال والأفعال عائدة لاقتطاف أثمار شهية.
نعم، إن الكنيسة تحزن وتكتئب لزيادة أعدائها، ولكنها لا تحيد عن واجباتها المقدسة إكراما وإرضاء لأولئك الأعداء حتى يبقوا بين أعضائها، وفي مثل هذه الحالة يمر في مخيلتنا عن غير قصد حديث المخلص مع تلاميذه عن سر الإفخارستيا، حيث قال لهم غير تارك مجالا للمناقشة في هذا المعنى: إن المؤمنين به الحقيقيين ينبغي عليهم للاتحاد معه كينبوع الحياة الأبدية أن يتناولوا جسده الطاهر ودمه الكريم تحت شكل الخبز . فلما سمع ذلك تلاميذه قالوا: إن هذا الكلام صعب جدا، من يقدر أن يسمعه «يو: ص6». أجابهم يسوع: أهذا يعثركم؟ فإن رأيتم ابن الإنسان صاعدا إلى حيث كان أولا، ومن هذا الوقت رجع كثيرون من تلاميذه إلى الوراء؛ فحزن مخلصنا لهذا الأمر، ولكنه لم يشأ أن يتنازل لإرجاعهم بطريقة ضعيفة، ولذلك قال يسوع للاثني عشر: «ألعلكم أنتم تريدون أن تمضوا؟» أي إنكم أنتم أيضا إذا لم تقبلوا هذا الحق فبالطبع تمضون عني مهما كان ذلك ثقيلا علي، فأجابه الرسل: «يا رب، إلى من نذهب؟ كلام الحياة الأبدية عندك.»
وإني لا أغلط إذا قلت بأنه لا يوجد بين أفراد هيئتنا الإجتماعية من يغار غيرة حقيقية على فرائض الكنيسة ويقدرها حق قدرها؛ لأني سمعت تقريعا شديدا بخصوص حكم المجمع المقدس ضد الكونت، كذلك لم تبرح من ذهني تلك العبارة الواردة في كتاب الكونتس صوفيا تولستوي، وهي: هل يسوغ من أجل اختلاف الآراء أن يقطع رباط الاتحاد مع الإنسان؟ نعم، إن قطع ذلك الرباط ضروري ولو أنه آلم قاطعه، وهذا الأمر لم يخف على فادينا إله الرحمة، حيث قال لتابعيه: أتظنون أني جئت لألقي سلاما على الأرض؟ كلا، أقول لكم بل انقساما؛ لأنه يكون من الآن خمسة في بيت واحد منقسمين ثلاثة على اثنين، واثنان على ثلاثة، ينقسم الأب على الابن، والابن على الأب، والأم على البنت، والبنت على الأم، والحماة على كنتها، والكنة على حماتها «لو ص12 عدد 49». ولذلك فلا ينبغي أن يحول بيننا وبين اتحادنا مع المسيح شيء من اهتمامات هذا العالم، حتى إن قيود القرابة الدموية لا تستطيع أن تقيد ذلك الذي مست فؤاده نار محبة المسيح.
ثم هل تظنون أنه يسهل على الكنيسة فصل أولئك الناس الذين يبتعدون عنها بالإيمان كالكونت تولستوي وغيره من أتباعه الموافقين أفكاره الدينية؟ والجواب: كلا، ولكن من جهة أخرى نقول إنه مهما زاد عدد أعداء الكنيسة، ومهما زاد خروج أبنائها من أحضانها؛ فإنه ينبغي عليها أن تبقى محافظة على تعاليمها الحقيقية وناشرة عهد المسيح.
قال أحد الأدباء في رده: إنه لا يستطيع أحد أن يتكدر من تصرف المجمع؛ إلا ذاك الذي أسدلت الغاية على بصره حجابا كثيفا فلا يدري ماذا يفعل، ثم إنه مر على صدور حكم المجمع عدة أشهر جرت في أثنائها حوادث كثيرة، وكلها تشهد بأن نبلاءنا وأدباءنا لم يفهموا للآن ولم يدركوا جوهر حكم المجمع وروحه؛ بل وضرورته، وعدا ذلك فلنا كل يوم شاهد جديد يدلنا على زيادة تعلقهم بالفيلسوف كقيامهم بمظاهرات خارجية مختلفة، غير عالمين بأن التلغرافات والأكاليل التي تهدى لغير مستحقيها تخالف المعنى الجليل الذي وضعت له، وهي أيضا لا تعزي المرسلة إليه تعزية حقيقية، وربما أيضا لا يقبلها.
ولا مراء، فإن الكنيسة تحزن حزنا شديدا من هذه الأعمال التي يقترفها أبناؤها، ولكنها لا تخاف منها، ولا تضطرب من تلك الأعمال أفئدة المؤمنين بالمسيح إيمانا حقيقيا؛ لأنهم يقرءون في كتابه العزيز آيات مملوءة تعزية وتنشيطا مثل قوله: لا تخف أيها القطيع الصغير؛ لأن أباكم قد سر أن يعطيكم الملكوت «لو ص12 عدد 32»، ولذلك فنحن نعترف بفضل عمل الكونت، ونقدره حق قدره، ونشكره على الخير الذي نلناه بواسطته، ومع ذلك فإننا نضاعف حزننا؛ لأنه أنكر مخلصنا يسوع المسيح ينبوع الحياة الأبدية، وبذلك قد ذهب من الحياة إلى الموت. فنصلي إليك أيها الإله الرحوم أن تطلع على نفس الكونت المضطربة فيلسوف أرض روسيا العظيم، وتنير فؤاده بنور محبتك حتى يمحو جميع ضلالاته، وأفكاره التي أبعدته عن الكنيسة، ولو كان ذلك في آخر حياته. آمين. (انتهى) (1) ذيل
وقد رأينا إتماما للفائدة أن نذيل هذا الكتاب برسالتين؛ إحداهما رأي هذا الفيلسوف العظيم في التربية والتعليم، كتبها لإحدى نسيباته نقلا عن جريدة الأهرام الغراء، والأخرى من رجل غريب في أطواره يدعى «أندريا باسيليفيتس لابسف» وجواب الفيلسوف عليه نقلا عن مجلة الجامعة البهية، وهاك الرسالة الأولى بنصها الشائق ومعناها الرائق:
رأي فيلسوف حكيم في التربية والتعليم
لقد سرني أني حادثت فلانا في أمر تربية الأطفال، وضاعف في سروري أننا نحن الاثنان كنا على اتفاق تام بأن يعلم الطفل قليلا، وإنه لخير للطفل أن يكبر ويشب وهو يعرف قليلا من أن يكبر وهو يعرف كثيرا من أخلاط القول وتضاعيف الأشياء التي يتلقاها الأطفال عن معلمين لا يدركون هم أنفسهم كنه ما يعلمون، فإذا تعلم الطفل شيئا لم يدرك كنهه عسر عليه فهمه وإدراكه وحل غوامضه وقبوله بحذافيره، فيتولد في صدره كره الدرس والتعلم، ومن هنا نستنتج أنه لا يجب أن يعلم الطفل أو الفتى إلا ما يقبله عقله، وتميل إليه نفسه، وتقدر على الإحاطة به مخيلته، ويكون على قابلية لتلقيه، وإني أقسم لك أني لا أكتب هذه الآراء اعتباطا، بل إني أكتبها وأنا على يقين تام بأهميتها ... نعم، إنك ستقولين لي ماذا نفعل بأطفالنا إذا نحن لم نعلمهم، وبماذا نشغلهم ونلهيهم، أندعهم مع أطفال العامة يلعبون ويتلهون، ويتلقون منهم كل كلام منكر وعمل مستقبح؟ فأنا أقول لك: إن هذه الحجة - ونحن على تلك المعيشة معيشة السادة الكرام المترفعين عن سائر الأنام - لا تخلو من الصواب، ولكن هل يجب علينا أن نعود أبناءنا هذه المعيشة المترفعة؟ وأن نفهمهم أن كل حاجاتهم تقضى لهم بدون أن يقضوا منها حاجة واحدة بأيديهم؟
Bilinmeyen sayfa