خامسا:
لا تحارب.
ويا حبذا لو وقف الفيلسوف في كلامه عند هذا الحد، فإنه حصر جميع قواه العقلية وذكائه لمحاربة التعليم المسيحي، وهدم أساسات الكنيسة، ولقد أحزن بذلك وأساء كثيرين من المغرمين بمطالعة كتبه، المعجبين بمواهبه السامية الذين يقدرون ذكاءه حق قدره؛ لأنه استعمل هذه المواهب الجليلة لغير ما وضعت لها من الغاية النبيلة. فكم قد تحامل على الديانة المسيحية، وتظاهر ضد الكنيسة المحافظة عليها، ثم إنه كتب في كتابه «ملكوت الله في وسطه» طبعه في برلين عام 1894، ولا يجوز الاعتقاد بأقوال ذلك الكتاب؛ لأنه جاء فيه عن خطبة المسيح على الجبل «التطويبات» ودستور الإيمان ما يأتي: إن رجال الكنيسة قد اختاروا دستور الإيمان للقراءة والتعليم في الكنائس كصلاة، وقد حذفوا خطبة الجبل من فصول الأناجيل التي تقرأ في الكنائس فلا يسمعها الشعب إلا في تلك الأيام التي يتلى بها الإنجيل كله.
ولا أقدر أن أعرف كيف يفوه فيلسوفنا بمثل هذا الكلام الذي هو ولا ريب تهكم، أو تحامل، أو قل ما شئت من عبارات التلطيف كما نسميه نحن تجديفا على الكنيسة، وعلى ذلك نجيب: فليأخذ الفيلسوف العهد الجديد الذي طبعه المجمع المقدس عام 1896، ويطالع ملحقه أو ذيله الموضح فيه قراءة فصول الأناجيل لجميع أيام السنة، وإذ ذاك فليحكم هو بنفسه على كلامه.
إن الكونت تولستوي مؤسس حاذق، وقائد لجماعة كبيرة من الناس، وعقيدته الجديدة أثارت عداء شديدا، وتعصبا أعمى ضد الكنيسة، وهو يعد ذاته معلما للناس، ويجتهد لإدخال تعاليمه في أذهان العامة، ولكلامه تأثير شديد في النفوس، فيجذب وراءه جما غفيرا من الناس الذين يتبعون أقواله، ومما هو من الغرابة على جانب عظيم أن كثيرين من أتباعه يقولون: إن الفيلسوف مسيحي، وإنما قد شذ فقط في بعض نقط من تعاليمه عن الكنيسة، ونفس الكونت يؤيد في تأليفه هذا الفكر الفاسد، وبذلك يسدل غشاوة جهل كثيفة على أعين أدبائنا، ويقودهم إلى الضلال، ولقد حان لنا أن نسأل معشر المتأدبين سؤالا واحدا، وهو أليس أن المجمع المقدس محق بتصرفه مع الكارز بذلك الإيمان؛ لأن المجمع له الحق التام والسلطة المطلقة بالمناداة بالحق على مسمع من العالم أجمع، وإذا كان مجمع أساقفتنا الروسي الأرثوذكسي قد جاهر علنا بعزم ثابت بأفكاره عن تعاليم تولستوي الكاذبة، فذلك يؤيد بأن كنيستنا لم تفتقر بحياتها الداخلية، بل إنها تحافظ على تلك الوديعة المقدسة المودعة في أحضانها، وتذكر أيضا واجباتها الوالدية التي هي تحذير أولادها من السير على تلك الطريق التي لا تقود السائر عليها إلى الحياة بل إلى الموت.
ولا ريب أن صوتها يبدو لكم رهيبا مخيفا، وكنتم تودون أن لا تسمعوا من فم الكنيسة كلام التهديد؛ بل كلام المحبة والرحمة، فأمعنوا النظر، وتبصروا في كلامها، وطالعوا بإمعان رسالة المجمع المقدس، فإنكم لا ترون فيه تهديدا أو وعيدا؛ بل أسفا شديدا وحزنا والديا لا مزيد عليه على أولئك الساقطين من أحضانها، مقرونا ذلك الأسف بصلاة حارة إلى الله لكي يرجعهم إليها. فالأم لما علمت بأن ابنها المحبوب سار في طريق الهلاك، أرسلت له كتابا تحذره فيه من الخطر القادم عليه، وتلتمس منه، بل ترجوه أن يغير هذا الطريق حفظا لحياته الثمينة. فماذا يستنتج من هذا الكتاب؛ أمحبة أم تهديدا؟ وعلى ما يتراءى لي أن التهديد ليس في الكتاب، بل في اعوجاج ذلك الابن وسيره في طريق الهلاك، وإنما يبقى علينا أن نعرف هل تستطيع تلك الأم أن تبعد عواقب ذلك الهلاك؟ نعم، تستطيع على شرط أن يؤثر اهتمامها تأثيرا شديدا على حرية ابنها المطلقة، وإذا لم يتسن لها ذلك فليس لها إلا أن تندب ابنها وترثيه.
ومن هذا القبيل الكنيسة الأرثوذكسية؛ فإنها لما علمت بابتعاد أحد أبنائها عنها وسقوطه من بين أعضائها أعلمته مع أتباعه عن عاقبة ذلك السقوط المخيف. فأين يا ترى التهديد الذي ليس له وجود البتة في رسالة المجمع المقدس التي هي كناية عن حزن شديد ومملوءة من روح السلام، وما التهديد والجنوح عن جادة الصواب إلا في نفس فعل الكونت تولستوي بسقوطه عن الكنيسة، وليس هنالك خوف من الكونت ذاته الذي قاوم الكنيسة، بل من أولئك الذين - حسب قول الرسول - يحسبون الكنيسة سفينة الخلاص «1 بط: ص3 عدد 2». فتحذير الإنسان الواقف على شفير الهاوية من الخطر الذي يتهدده لا يعد تهديدا له، بل اهتماما به. فالكنيسة لم تتهدد الكونت وأتباعه بإعلانها عنهم أنهم خرجوا من حظيرة الكنيسة، بل نبهتهم إلى الخطر المحدق بهم، فالاهتمام والتذكير ليسا إلا وسائط توافق روح الكنيسة التي قامت بواجباتها، ولم يبق عليها بعد ذلك إلا أن تصلي من أجلهم قائلة : ونبتهل إليك أيها الإله الرحوم الذي لا تريد أن يموت الخطاة بخطيتهم أن تستجيب وترحم وترد الساقطين إلى كنيستك المقدسة، فليت شعري هل يوجد ألطف وأرق من هذا التعبير لكي تعبر به الكنيسة عن مرادها؟ والحق يقال، فإن رسالة المجمع المقدس لا يشتم منها رائحة الانتقام والقصاص، بل ما هي إلا شهادة مملوءة بالأسف، وليس في سطورها أقل كراهة أو بغض للفيلسوف؛ بل تضمنت صلاة حارة لرجوعه إليها، ودعوة أبناء الكنيسة الحقيقيين إلى تلاوة تلك الصلاة مرارا وتكرارا.
ثم إني لا أرى مندوحة من زيادة الخوض في عباب هذا الموضوع إتماما للفائدة، وأن ألقي نظرة عامة على ما أحدثته رسالة المجمع المقدس من سوء التفاهم، والتأثير السيئ في نفوس بعض أفراد هيئتنا الأدبية، فأقول: إنني طالما سمعت من أدباء شباننا يقولون:
عندما كنا نطالع في الأيام الماضية انتقاد رجال الدين كتب تولستوي الدينية لم نبد حينئذ أقل استياء من ذلك؛ لأننا وجدنا الحق في جانب رجال الدين لانتقادهم الأدبي لآراء الفيلسوف الدينية المخالفة لاعتقادهم، وكنا نقرأ مناظراتهم بكل ارتياح، وأما الآن عندما سمعنا صوت المجمع المقدس بحالته الرسمية يعنف فيلسوفنا العظيم فلم ترتح أفكارنا لذلك، ولا اطمأنت خواطرنا لسماع ذلك الصوت الجهوري الذي يجبرنا أن نلتفت إلى تعاليم فيلسوفنا بطريقة محدودة لا نستطيع أن نتعداها، ولا يخفى ما في ذلك من الضغط الشديد على أفكارنا.
هذه أفكار أدبائنا الأفاضل الغريبة، فهل يا ترى كان يجوز لهم قبل ذلك كأبناء للكنيسة أن يسمعوا بارتياح تعاليم تولستوي؟ وهل يسوغ للإنسان العاقل أن يخلط بين الكذب والصدق وإلباس حقيقة الكتاب المقدس وأقواله ثوبا من البهتان؟ وهل يا ترى تنطلي على العاقل تلك السفاسف التي ما أنزل الله بها من سلطان؟ والمجمع المقدس ما أصدر تلك الرسالة إلا لإفهام أبناء الكنيسة حتى يميزوا بين الصحيح والفاسد، والحق إذا كان حقا ساطعا لا يسبب الاعتراف به ضغطا على النفوس، بل انطلاقا لها، وزيادة في حريتها، ودليلا ساطعا على وجود الحرية الحقيقية بين الناس. ثم هل أخطأت الكنيسة يا ترى بإعلانها لأبنائها التابعين لها والخارجين عنها حتى لا تدعهم هائمين في فيافي الشك واليقين، وغير خاف أن النور يبدد غياهب الظلام، وينير الأشياء التي يقع عليها دون أن يغير منظرها، ولهذا فإن معرفة الإيمان هي مقياس محكمة الوضع لمعرفة الكذب من الضلال في دائرة الإيمان، ولذلك فلا يظنن أحد بأن قبول النور لا يطابق حرية الأفكار.
Bilinmeyen sayfa