ومن الطبيعي - والمدارس الفلسفية بهذه الوفرة - ألا يتسع لذكرها كلها هذا الكتاب الصغير، وفضلا عن ذلك، فإن الإحاطة الشاملة تخرج عما قصدنا إليه، وتجعل البحث تاريخا للفلسفة، وتأريخا للفكر. حقا لا يمكن لمن يرغب في الحديث عن المدارس - من حيث بناؤها وفصولها والنظام الذي تجري عليه في حياتها التعليمية - إلا أن يتعرض للمذهب الفلسفي الذي تنادي به هذه المدرسة أو تلك، غير أن التوسع في ذكر المذهب يبعد بنا عن القصد.
لهذا كله، لن يتسع المقام إلا للحديث عن بعض المدارس، وبخاصة الكبرى منها، وما كان ذا صلة وثيقة بالحضارة العربية، مع العناية بذكر المدارس الفلسفية العربية التي تعد جزءا من تراثنا.
الفيثاغورية
أعجب مدرسة فلسفية هي المدرسة التي أنشأها فيثاغورس في مدينة كروتون بجنوب إيطاليا في القرن السادس قبل الميلاد؛ فهي عجيبة في تكوينها، وعجيبة في تعاليمها، وعجيبة في أثرها.
وأول مظاهر العجب أنها تسمى الفيثاغورية، ولا يقال مدرسة فيثاغورس. والفرق بين التسميتين كبير؛ لأن مدرسة فيثاغورس تنسب إلى شخص صاحبها، وتنقضي بوفاته، أما الفيثاغورية، فإنها على الرغم من انتسابها إلى فيثاغورس، إلا أنها تتجاوز شخصه إلى جماعة الفيثاغوريين؛ فالمدرسة في حقيقة أمرها تخضع لهيئة من القادة على رأسهم فيثاغورس، وهذا هو السر في أن المدرسة لم تنقرض بموت رئيسها. وأيضا فإن فيثاغورس نفسه تلفه غلالات من الغموض والأساطير، مما جعل كثيرا من المؤرخين يشكون في وجوده.
ولسنا نغالي غلو هؤلاء المؤرخين، فلا بد أن فيثاغورس كان شخصية حقيقية، على الرغم من نسيج الخرافات الذي تراكم حول سيرته. وقد كان القرن السادس كله عصر هزات واضطرابات وانقلابات فكرية في شتى أنحاء العالم المعروف. إنه عصر كونفوشيوس وبوذا وزرادشت. وهو العصر الذي ظهرت فيه الفلسفة اليونانية على يد حكماء اليونان. وأدت يقظة الشرق الشديدة إلى الضغط على آسيا الصغرى، وعلى مصر التي احتلها قمبيز فترة قصيرة من الزمن. أما بلاد اليونان، فقد انتقل مفكروها من آسيا الصغرى إلى جنوب إيطاليا، ومنهم فيثاغورس. وكان الإغريق يعدون كل بلد ينزلون فيه جزءا من وطنهم؛ فالمدن التي أنشئت في جنوب إيطاليا، وصقلية، وشمال أفريقيا، ومصر، كلها مدن إغريقية، يتكلم أهلها اللغة اليونانية ، ويسيرون في الحكم على النظام اليوناني، فضلا عن اصطناع الشعر والتمثيل والأدب المأثور عن اليونانيين. فلا غرابة أن تنشأ مدارس في معظم تلك المدن على نسق ما كان معروفا في الوطن الأم.
ولكن مدرسة فيثاغورس كانت بعيدة عن الروح الإغريقية الأصيلة، غريبة عن تراث آلهة أوليمبوس. وما أثر عن أربابها من حكمة ترجع إلى العقل، وغريبة عن ديونيسوس إله الخمر، وما عرف عنه من اندفاع مع الهوى والعاطفة والخيال. فقد جلب فيثاغورس تعاليمه من الشرق الذي طاف بأرجائه، ففيه ديانة جديدة جاءت من طراقيا مع الإله أورفيوس، وفيه نزعة إلى الزهد لا تتفق مع النزعة الديونيسية بوجه خاص.
ويحيط الغموض بشخصية أورفيوس، فهو إله، أو نبي، أو شاعر، أو موسيقار يفتن بموسيقاه الكائنات من شتى الأصناف. وللنحلة الأورفية رأي في أصل العالم وحقيقة الإنسان؛ ففي البدء كان الزمان، ونشأ عن الزمان الأثير والعماء، وشكل الزمان بيضة في الأثير تفتحت فخرج منها النور، وانفلقت نصفين أصبح أحدهما السماء والآخر الأرض. وتزوجت جايا (الأرض) أورانوس (السماء)؛ فأنجبا ثلاث بنات وستة بنين. ولكن أورانوس ألقى بالأبناء في نهر تارتاروس حين علم بأن أبناءه سيقضون عليه. وغضبت جايا، فأنجبت التيتان وهم مردة جبابرة، وكرونوس، وريا، وأقيانوس، وتيش.
وتمضي الأسطورة فتصور لنا كيف ولد ديونيسوس من زيوس، ثم خطف التيتان الطفل وأكلوه، وكيف أعاد زيوس ديونيسوس إلى الحياة مرة ثانية، وكيف سلط على التيتان البرق والرعد فأحرقهم وجمع رمادهم، وخلق منهم الإنسان، فأصبح بذلك مركبا من طبيعتين؛ طبيعة التيتان وهي طبيعة الشر والإثم، وطبيعة ديونيسوس وهي طبيعة إلهية سامية.
واصطنعت الفيثاغورية النحلة الأورفية، وبخاصة نظريتها في النفس ونزعتها السرية.
Bilinmeyen sayfa