الفلسفة والمجتمع
الفيثاغورية
الأكاديمية
المشائية
الرواق والحديقة
مدرسة الإسكندرية
مدرسة أفلوطين
مدرسة «جنديسابور»
المدارس الفلسفية الإسلامية
الفلسفة والمجتمع
Bilinmeyen sayfa
الفيثاغورية
الأكاديمية
المشائية
الرواق والحديقة
مدرسة الإسكندرية
مدرسة أفلوطين
مدرسة «جنديسابور»
المدارس الفلسفية الإسلامية
المدارس الفلسفية
المدارس الفلسفية
Bilinmeyen sayfa
تأليف
أحمد فؤاد الأهواني
الفلسفة والمجتمع
الإنسان مدني بالطبع، يعيش في مجتمع يتعاون أفراده على النهوض بحاجاته المختلفة، ولا بد له من توفير بعض الحاجات الضرورية، أقلها المأكل والملبس والمسكن والدفاع عن النفس من المخاطر. ومنذ أزمنة موغلة في القدم، يقدرها العلماء بما لا يقل عن عشرة آلاف عام قبل الميلاد، ارتقى الإنسان سلم الحضارة مع ابتكار الأدوات التي يستخدمها في الطحن، والطهو، والنسج، والطعن، والنزال. وتعقدت هذه الأدوات شيئا فشيئا، حتى ابتعد الإنسان أشواطا بعيدة عن حالة الفطرة، أو الحالة الحيوانية، وأصبح لا يتيسر له أن يعيش إلا إذا تعلم كيف يصنع هذه الأدوات والآلات، وكيف يستخدمها ويسخرها في تحقيق مصالحه.
ثم تناقلت الأجيال اللاحقة عن السابقة ما اكتسبته البشرية في آلاف من السنين، وأصبح «التعلم» و«التعليم» الوسيلة لنقل الحضارة من جيل إلى جيل. فكان «التعلم» عن طريق المحاكاة سبيلا غير مقصود لهذا الانتقال. وأضحى «التعليم» مرتبة أعلى في الحضارة يدل على وعي المجتمع بأهدافه وغاياته التي يتجه إليها ويسعى إلى بلوغها.
هذا التعليم المقصود الموجه إلى غاية - لا جرم - يحتاج إلى شعور بالغايات، وإلى معرفة بالطرق الموصلة إلى هذه الغايات، مع تنظيم هذه الطرق واختيار أفضلها إصابة للغرض، وأكثرها استقامة إلى بلوغ الهدف. ونهض جماعة من أصحاب الغيرة على مصالح قومهم، يفكرون في أقوم السبل إلى التعليم، وظهر في كل أمة أفراد يعدون منها بمنزلة القادة، كانوا يسمون غالبا بالكهان أو العرافين، وأحيانا بالحكماء، يرسمون لجماعتهم طريق السلامة والصلاح في السياسة والأخلاق والاقتصاد والدين والفن والعلم.
وافترق الكهان أو الحكماء عن غيرهم بأمور ثلاثة؛ التميز بالمعرفة، واحتكارها، وصياغتها.
فقد شعر الكاهن أن علمه بالطب لعلاج الأبدان، والسحر لتسخير القوى الطبيعية أو تجنب ضررها وتخفيفها، أكسبه سلطانا على الناس جعلهم يلجئون إليه كلما حزبهم أمر، فيمنحهم التمائم والتعاويذ والأعشاب التي يتداوون بها. هذا السلطان جعله يشعر بالتميز عنهم، والمنزلة فيهم، وبحث عن علة هذه المنزلة، فرأى أنها ترجع إلى المعرفة؛ فأقبل عليها، واستزاد منها، واحتفظ بها سرا لنفسه حتى يظل متميزا عن غيره.
ومن هنا نشأ احتكار المعرفة.
والمعرفة النظرية طريقها وعر، محفوف بالأشواك، لا بالورود والرياحين. إنه طريق يحتاج إلى الدأب والمثابرة، مع إنعام النظر وإدامة التأمل واستخلاص الفكر، واستنتاج القواعد العامة من المشاهدات والتجارب، ثم تطبيق القاعدة لمعرفة صحتها، وتصحيحها إذا تبين فيها خطأ، مما يحتاج إلى زمن طويل قد لا يقاس بعمر الفرد، بل بعمر أجيال وأجيال. إن ما بلغته البشرية اليوم من علم ومعرفة، إنما هو ثمرة الإنسانية كلها منذ انبثاق فجر الحضارة. إنه تاريخ الفكر البشري، مر - ولا يزال - بمرحلتين؛ مرحلة احتكار، ومرحلة إباحة. ففي مرحلة الاحتكار يحتفظ فرد، والأغلب بضعة أفراد قليلين، بأسرار المعرفة التي إما أن يكون قد حصلها بنفسه، أو أخذها عن معلمه، وحفظها عنه، ليودعها تلميذا آخر، وهكذا، بحيث تتسلسل المعرفة في أسرة معينة، أو جماعة معينة، جيلا بعد جيل؛ ولذلك كان هذا الضرب من «التعليم» سرا من الأسرار، وكانت مدارسه سرية، وتعاليمه «مستورة» أو «باطنية». أما النوع الآخر فهو التعاليم المباحة المنشورة، والتي يسمح للناس بمعرفتها. ألا ترى إلى مباحث الذرة والتفجير الذري وصنع القنبلة الذرية والهيدروجينية كيف تحتفظ بها بعض الدول في العصر الحاضر سرا من الأسرار؟ بل أيسر من هذا، ألا ترى كيف تحتفظ الشركات الصناعية ب «سر الصنعة»؛ حتى لا يزاحمها في السوق أحد؟ فلا عجب أن تنشأ في القديم المدارس السرية وتحتكر المعرفة، وما يتبعها من نفوذ وسلطان.
Bilinmeyen sayfa
ولكن المعرفة تحتاج إلى تعبير، ويحتاج التعبير عنها إلى صياغتها في ثوب من اللغة والعبارات؛ حتى يمكن نقلها من شخص إلى آخر. وقد بدأ التعليم شفاها، أو بالاصطلاح الفني «سماعا»؛ أي ما يسمعه التلميذ عن معلمه، أو ما يسمعه الطفل من أهله فيحاكيهم. فلما اهتدى الإنسان إلى تسجيل الألفاظ والعبارات بالكتابة والتدوين؛ أمكن الاحتفاظ بما اهتدى إليه من معرفة، والرجوع إليه عند الحاجة، وتأمله، والنظر إليه، ومراجعته، وتصحيحه، والتقدم به خطوة خطوة إلى الأمام. وأهم من ذلك كله فيما يعنينا الآن، أنه استطاع القيام بتعليم هذه الألوان من المعارف بطريق منظم، وهو الطريق المعروف بالمدارس والتدريس. وأمكن أيضا أن يستقل التلميذ على البعد بالاطلاع على ما جاء في هذه الكتب، وأن يأخذ عنها بغير معلم سماعا، ولو أن طريق السماع أولى وآثر وأكثر فائدة.
ويتبين من هذا الاستعراض السريع للحضارة البشرية، أن قيام المدارس إنما نشأ في عصر متأخر نسبيا في تاريخ هذه الحضارة، يمكن أن يحدد - على وجه التقريب - بالقرن السادس قبل الميلاد من جهة الزمان، وفي بلاد اليونان من جهة المكان. وليس معنى ذلك أنه لم تنهض مدارس قبل ذلك في بقاع أخرى من الدنيا المتحضرة، وبخاصة في أرض مصر التي كانت نبراسا اهتدى به اليونانيون. فنحن نعرف أن قدماء المصريين باعتراف اليونانيين أنفسهم - كما سجل أرسطو في أول كتاب الميتافيزيقا قائلا: إن فلاسفة الإغريق أخذوا عن المصريين علم الهندسة - كانوا أصحاب حضارة عريقة تمتد أكثر من أربعة آلاف سنة قبل الميلاد. وأنهم برعوا في علوم الفلك والرياضيات والطب والكيمياء، إلى جانب تقدمهم في الفنون والآداب؛ كالموسيقى والتصوير والنحت والبناء. ولا نزاع في أن تقدم هذه العلوم والفنون ذلك التقدم العظيم، إنما اعتمد على تعليم منظم ينقله المعلم إلى تلاميذه عن قصد ووعي، غير أن ذلك التعليم نشأ في أحضان الدين، وفي أبهاء المعابد، وعلى أيدي الكهنة. وقد احتفظ الكهنة بتلك المعارف لأنفسهم، وجعلوها من جملة أسرارهم. بل إن بعض العلوم التي استقلت عن الدين كالهندسة والبناء، ظلت محصورة في طوائف معينة يتوارثها الأبناء عن الآباء، كما كانت الحال في سائر المهن والحرف والصنائع الأخرى. ولم يخرج قدماء المصريين من معارفهم إلى النور سوى المبادئ الأولية الضرورية لكل صغير؛ مثل الحساب والهندسة العملية، وبقيت المعارف الراقية العالية محجوبة عن الانتشار.
وقد استطاع بعض المفكرين - من قدماء الإغريق في القرن السادس قبل الميلاد - الوصول إلى تلك المعارف، والاتصال بالكهنة، فأخذوا عنهم آخر ما انتهى إليه العلم المصري، ونقلوه إلى بلادهم وأذاعوه، وسموا المعرفة الجديدة التي ابتدعوها «فلسفة»؛ فكانت هذه الصناعة الفكرية لفظا ومعنى بضاعة إغريقية، باعتراف الغرب والشرق على السواء، ولا يزال اسم الفلسفة دليلا قاطعا على هذه النسبة. أما أولئك المفكرين الذين وفدوا إلى أرض مصر ينهلون من مائها شرابا يروي الأبدان، ومن معارفها أنوارا تضيء النفوس والأرواح، وتغذو الأذهان والعقول، فإنهم عدد كبير سجل لنا التاريخ بعض أسمائهم، يكفي أن نذكر منهم طاليس، وفيثاغورس، وأفلاطون. وقد أنشأ كل منهم بعد عودته من رحلته مدرسة فلسفية، تختلف كل منها عن الأخرى شكلا وموضوعا ومكانا، ولكل منها أثر بالغ في تاريخ الفكر من جهة، وفي التأثير على المجتمع من جهة أخرى.
فقد يبدو لكثير من الناس في الوقت الحاضر أن الفلسفة، هذه الصناعة الجديدة التي ظهرت مباينة للدين والعلم على السواء، مهمة بعيدة كل البعد عن الحياة الاجتماعية، وأن المشتغلين بها قوم انعزلوا بأنفسهم مع أفكارهم وأوهامهم وأحلامهم، ثم طلعوا على الناس بهذه الأفكار الغريبة غير المألوفة. وهذا باطل، ووهم شائع انتشر عند الجمهور في العصور المتأخرة التي تدهورت فيها حال الفلسفة، وأمست بعيدة عن الحياة، منعزلة عن مطالب المجتمع. •••
فإذا رجعنا إلى الماضي البعيد في القرن السادس قبل الميلاد، وهو وقت ظهور الفلسفة، رأينا أن طاليس كان متصلا اتصالا وثيقا بحاجات المجتمع في عصره، وأن فلسفته قامت لخدمة مصالح قومه. نشأ في مدينة ملطية أحد ثغور آسيا الصغرى، وهو أحد الحكماء السبعة، وكان يؤخذ رأيه في سياسة المدينة. وقد خدمت اختراعاته الفلكية الملاحين، ويقال إنه وضع تقويما فلكيا يعد أقدم ما عرف من نوعه، بين فيه أوجه القمر، وحركة الاعتدالين، والتنبؤ بحالة الطقس. ولما كان معظم أهل ملطية من البحارة والتجار الذين يخرجون إلى البحر في سفنهم، يطوفون بثغور البحر الأبيض للتجارة؛ فإن مثل ذلك التقويم - لا جرم - يخدم المجتمع الذي نشأ فيه خدمة جليلة. ثم إن طاليس لم يكن بعيدا عن المشاركة في السياسة؛ فهو الذي نصح المدن الأيونية بالاتحاد للوقوف في وجه خطر الفرس. وهكذا كانت الفلسفة في خدمة المجتمع سياسيا واقتصاديا، وكان الفلاسفة على صلة وثيقة بحاجات المجتمع الذي يعيشون فيه.
وكذلك كان حال فيثاغورس الذي ازدهر بعد نصف قرن من طاليس، والذي هجر موطنه الأصلي في ساموس فرارا من حكم طاغيتها بوليقراطس، وزار مدن الشرق، واستقر في مصر زمنا طويلا، ينهل من معارفها، ويدرس فيها الفلك والهندسة والعقائد، وأخيرا استقر في مدينة كروتون بجنوب إيطاليا، حيث أسس مدرسته المشهورة التي سنفرد لها حديثا خاصا فيما بعد. شارك في السياسة التي جرفته تياراتها، وجنت على فرقته، وقضت على عدد كبير منهم. ولكن اتجاه فيثاغورس ومدرسته كان إلى الدين والأخلاق أكثر منه اتجاها سياسيا، فكانت مشاركته للمجتمع وسعيه إلى التقدم به عن ذلك الطريق الديني الأخلاقي. أما طاليس ومدرسته، فكانت عنايته بالعلم والنظر في الطبيعة، وأثمرت مباحثه العلمية في ترقية المجتمع من هذا السبيل. وهكذا نرى أن الفلسفة اتجهت منذ القديم وجهتين رئيستين، كل منهما تحاول التقدم بالبشرية؛ إحداهما علمية تجريبية، والأخرى أخلاقية، والتقت الوجهتان في بعض الأحيان عند بعض الفلاسفة، وبخاصة الشوامخ منهم. ويؤيد تاريخ المدارس الفلسفية ما نذهب إليه مما سيتبين عند الحديث عن هذه المدارس. ولكنها على اختلافها وتعددها، إنما كانت تعكس حاجات المجتمع، وتعد مرآة تصور ما يقوم عليه المجتمع من نظم وقوانين وشرائع، وما يسوده من آداب وفنون وعلوم، بحيث يتسنى للمواطن أن يفهم طبيعة الحياة في المجتمع الذي يعيش فيه، ويترتب على هذا الفهم التمكن من الاندراج في عجلة هذه الحياة، مسهما في تسييرها لا في تعطيلها.
ولكن المدارس الفلسفية لم تقف عند تحليل النظم الاجتماعية، ومحاولة فهمها، إلا لكي تعمل على رسم خطوط جديدة لمجتمع أفضل؛ بابتداع أنظمة جديدة تعمل على تطوير المجتمع وترقيته. ولو أنها قنعت بمرحلة الفهم والتسجيل، ما كانت مدارس فلسفية جديرة بأن تحمل هذا الاسم، وفي المدارس العادية كفاية في القيام بهذه المهمة. أما المدارس الفلسفية فلأنها بحكم وظيفتها من الهداية والإرشاد، فهي تقوم بدور القيادة الفكرية التي تأخذ بيد الأمة إلى الأمام.
وليس معنى ذلك أن كل المدارس الفلسفية كانت مجددة في الفكر، يتعمق أصحابها في البحث، ويشاركون في الإحساس بمطالب المجتمع، ويعملون على رفاهته وتنميته؛ إذ تصاب المدارس بما يصيب كل كائن حي من شيخوخة، وما يصحبها من جمود وتهدم واندفاع نحو الفناء. وقد نشأت مدارس ثم ماتت، وبقى بعضها واستمر يعيش على «تعليم» كتب القدماء وشرحها أو تلخيصها. •••
مر بنا أن المدارس الفلسفية لم تنشأ إلا في بلاد اليونان في القرن السادس قبل الميلاد، وكان بعضها يتخذ ل «التعليم» مقرا ثابتا، وينزل في دار محددة، على حين لا يتقيد بعضها الآخر بمقر ثابت أو دار معروفة، وإنما يأخذ التلميذ عن أستاذه مباشرة ثمرة لزومه وصحبته. وهذا النوع الأخير كان يقتصر في الأغلب على تلميذ واحد، مثل طاليس وتلميذه أنكسمندريس، ثم أنكسمانس تلميذ أنكسمندريس، ويعرف هؤلاء بالمدرسة الأيونية نسبة إلى أيونية، أو الملطية نسبة إلى مدينة ملطية، أو الطبيعية؛ لأنها اتجهت في بحثها إلى الطبيعة. وليست هذه التلمذة تلمذة تلقين بل تلمذة صحبة، كما نقول إن الشيخ محمد عبده تلميذ جمال الدين الأفغاني، نعني أنه صحبه، وأصبح صاحبه، وأعجب بتعاليمه، وصادفت هوى في نفسه، فأخذها عنه وأذاعها، وقد يتطور بها ويحورها. وكانت هذه التلمذة - التي هي ثمرة الصحبة - شائعة في بلاد اليونان، فكان زينون تلميذ بارمنيدس وصاحبه، كما كان أفلاطون تلميذ سقراط.
ومن الواضح أن هذه المدارس التي لم تتقيد بمكان، ولا ب «تعليم» منظم وبرنامج محدد، كانت موقوتة بزمان أصحابها، على حين أن المدارس التي اتخذت دورا ل «التعليم» مثل الأكاديمية أو اللوقيون استمرت زمانا طويلا، وتتابع عليها التلاميذ، واستمرت تؤثر في تيار الفكر المحلي والعالمي على السواء. وما بالك بمدرسة تستمر قائمة تسعة قرون من الزمان، نعني المدرستين اليونانيتين الكبيرتين الأكاديمية والمشائية. •••
Bilinmeyen sayfa
ومن الطبيعي - والمدارس الفلسفية بهذه الوفرة - ألا يتسع لذكرها كلها هذا الكتاب الصغير، وفضلا عن ذلك، فإن الإحاطة الشاملة تخرج عما قصدنا إليه، وتجعل البحث تاريخا للفلسفة، وتأريخا للفكر. حقا لا يمكن لمن يرغب في الحديث عن المدارس - من حيث بناؤها وفصولها والنظام الذي تجري عليه في حياتها التعليمية - إلا أن يتعرض للمذهب الفلسفي الذي تنادي به هذه المدرسة أو تلك، غير أن التوسع في ذكر المذهب يبعد بنا عن القصد.
لهذا كله، لن يتسع المقام إلا للحديث عن بعض المدارس، وبخاصة الكبرى منها، وما كان ذا صلة وثيقة بالحضارة العربية، مع العناية بذكر المدارس الفلسفية العربية التي تعد جزءا من تراثنا.
الفيثاغورية
أعجب مدرسة فلسفية هي المدرسة التي أنشأها فيثاغورس في مدينة كروتون بجنوب إيطاليا في القرن السادس قبل الميلاد؛ فهي عجيبة في تكوينها، وعجيبة في تعاليمها، وعجيبة في أثرها.
وأول مظاهر العجب أنها تسمى الفيثاغورية، ولا يقال مدرسة فيثاغورس. والفرق بين التسميتين كبير؛ لأن مدرسة فيثاغورس تنسب إلى شخص صاحبها، وتنقضي بوفاته، أما الفيثاغورية، فإنها على الرغم من انتسابها إلى فيثاغورس، إلا أنها تتجاوز شخصه إلى جماعة الفيثاغوريين؛ فالمدرسة في حقيقة أمرها تخضع لهيئة من القادة على رأسهم فيثاغورس، وهذا هو السر في أن المدرسة لم تنقرض بموت رئيسها. وأيضا فإن فيثاغورس نفسه تلفه غلالات من الغموض والأساطير، مما جعل كثيرا من المؤرخين يشكون في وجوده.
ولسنا نغالي غلو هؤلاء المؤرخين، فلا بد أن فيثاغورس كان شخصية حقيقية، على الرغم من نسيج الخرافات الذي تراكم حول سيرته. وقد كان القرن السادس كله عصر هزات واضطرابات وانقلابات فكرية في شتى أنحاء العالم المعروف. إنه عصر كونفوشيوس وبوذا وزرادشت. وهو العصر الذي ظهرت فيه الفلسفة اليونانية على يد حكماء اليونان. وأدت يقظة الشرق الشديدة إلى الضغط على آسيا الصغرى، وعلى مصر التي احتلها قمبيز فترة قصيرة من الزمن. أما بلاد اليونان، فقد انتقل مفكروها من آسيا الصغرى إلى جنوب إيطاليا، ومنهم فيثاغورس. وكان الإغريق يعدون كل بلد ينزلون فيه جزءا من وطنهم؛ فالمدن التي أنشئت في جنوب إيطاليا، وصقلية، وشمال أفريقيا، ومصر، كلها مدن إغريقية، يتكلم أهلها اللغة اليونانية ، ويسيرون في الحكم على النظام اليوناني، فضلا عن اصطناع الشعر والتمثيل والأدب المأثور عن اليونانيين. فلا غرابة أن تنشأ مدارس في معظم تلك المدن على نسق ما كان معروفا في الوطن الأم.
ولكن مدرسة فيثاغورس كانت بعيدة عن الروح الإغريقية الأصيلة، غريبة عن تراث آلهة أوليمبوس. وما أثر عن أربابها من حكمة ترجع إلى العقل، وغريبة عن ديونيسوس إله الخمر، وما عرف عنه من اندفاع مع الهوى والعاطفة والخيال. فقد جلب فيثاغورس تعاليمه من الشرق الذي طاف بأرجائه، ففيه ديانة جديدة جاءت من طراقيا مع الإله أورفيوس، وفيه نزعة إلى الزهد لا تتفق مع النزعة الديونيسية بوجه خاص.
ويحيط الغموض بشخصية أورفيوس، فهو إله، أو نبي، أو شاعر، أو موسيقار يفتن بموسيقاه الكائنات من شتى الأصناف. وللنحلة الأورفية رأي في أصل العالم وحقيقة الإنسان؛ ففي البدء كان الزمان، ونشأ عن الزمان الأثير والعماء، وشكل الزمان بيضة في الأثير تفتحت فخرج منها النور، وانفلقت نصفين أصبح أحدهما السماء والآخر الأرض. وتزوجت جايا (الأرض) أورانوس (السماء)؛ فأنجبا ثلاث بنات وستة بنين. ولكن أورانوس ألقى بالأبناء في نهر تارتاروس حين علم بأن أبناءه سيقضون عليه. وغضبت جايا، فأنجبت التيتان وهم مردة جبابرة، وكرونوس، وريا، وأقيانوس، وتيش.
وتمضي الأسطورة فتصور لنا كيف ولد ديونيسوس من زيوس، ثم خطف التيتان الطفل وأكلوه، وكيف أعاد زيوس ديونيسوس إلى الحياة مرة ثانية، وكيف سلط على التيتان البرق والرعد فأحرقهم وجمع رمادهم، وخلق منهم الإنسان، فأصبح بذلك مركبا من طبيعتين؛ طبيعة التيتان وهي طبيعة الشر والإثم، وطبيعة ديونيسوس وهي طبيعة إلهية سامية.
واصطنعت الفيثاغورية النحلة الأورفية، وبخاصة نظريتها في النفس ونزعتها السرية.
Bilinmeyen sayfa
وحين افتتح فيثاغورس مدرسته، اجتذبت عددا كبيرا من الأتباع، قيل إن عددهم بلغ ما يقرب من عشرة آلاف، وهو عدد ليس ثمرة الإحصاء، ولكنه ظن وتخمين؛ لأن العدد المثالي للمدينة الإغريقية كان ذلك العدد. ومع ذلك فليس من المستغرب أن تبلغ المدرسة هذا العدد؛ لأنها كانت تشمل الرجال والنساء على السواء. نقول مدرسة تجوزا؛ لأنها كانت أشبه بفرقة دينية، ونظام من الإخوة، قريب من الفرق الصوفية التي انتشرت في الإسلام.
والمدرسة إلى ذلك كانت ذات وجهين؛ أحدهما رياضي، والآخر أخلاقي وديني. أما الجانب الرياضي، فلم يكن يصلح لهذا العدد الكبير من الطلبة بطبيعة الحال، بل كان مقصورا على قلة قليلة من الخاصة. ومعنى ذلك أن المدرسة - ولو أنها كانت كلها سرية - إلا أنها كانت تقدم دروسا للخاصة في العلوم الرياضية، وأخرى للجمهور في الدين والأخلاق. وقد بقي هذا التقليد سائدا في كثير من المدارس الفلسفية، وسنجده عند أرسطو الذي كان يلقي دروسا للخاصة في الصباح، وأخرى للجمهور في المساء. وهذه التعاليم الخاصة هي التي كانت تحجب عن الجمهور، وتسمى بالتعاليم المستورة، ويسميها الغزالي: المضنون به على غير أهله.
ومن الطبيعي أن تكون الرياضيات التي علمتها الفيثاغورية في القرن السادس قبل الميلاد ساذجة بدائية، تمثل أول درجة من درجات هذا «العلم». نقول «العلم» ونعني بذلك الفرق بينه وبين المعرفة العملية التجريبية؛ لأن الإنسانية لم تبلغ المرحلة العلمية بمعنى الكلمة إلا بعد أن مرت مئات - بل آلاف - من السنين، تقتصر على المعرفة التجريبية القائمة على الحس. والرياضة من حساب وهندسة كانت أول العلوم التي اهتدى الإنسان إليها، وذلك على يد فيثاغورس وشيعته. ولم يكن الحساب قد انفصل عن الهندسة؛ لأن الحساب - وهو علم العدد - كان يصور على هيئة أشكال هندسية. فقد كان علماء ذلك الزمان يستخدمون «لوح المعداد»، وهو لوح يملأ بالرمل ويخط عليه الأشكال المطلوبة. وبالنسبة للحساب يستخدم الحصى أو البلي، ويوضع وضعا هندسيا، أي أن حصاة واحدة تدل على نقطة، واثنتان موضوعتان جنبا إلى جنب هما الخط، وثلاث حصوات مثلث، وأربع مربع، وهكذا؛ ومن هنا قالوا بالأعداد المثلثة والأعداد المربعة.
وقد وجدوا في الأعداد خصائص عجيبة عند جمعها وطرحها وضربها، وغير ذلك من العمليات. مثال ذلك أن مجموع مربعي العددين المتواليين 3، 4 يساوي مربع العدد التالي لهما وهو 5؛ أي 9 + 16 = 25، وهذه الخاصية العددية هي التي طبقت في الهندسة في نظرية فيثاغورس المشهورة، القائلة بأن مجموع مربعي ضلعي المثلث قائم الزاوية يساوي مربع الوتر، فإذا فرضنا أن طول أحد الضلعين ثلاثة والآخر أربعة، كان طول الوتر خمسة. وليس المهم الكشف عن صحة هذه النظرية، أو المسألة الهندسية بطريقة عملية، وإنما المهم «إثبات» صحتها ب «البرهان» الرياضي، أي نظريا لا عمليا. وكان فيثاغورس يعلي من شأن «النظر» على العمل، وهو صاحب قسمة الناس هذه القسمة المشهورة إلى نظار وجمهور، فالجمهور هم جملة الناس وجمهرتهم المشتغلون بأمور الدنيا والمعاش، من زراعة وتجارة ومهن أخرى، يزاولونها بأيديهم، أما «النظار» فإنهم لا يشاركون في هذه الأعمال، ولكن «ينظرون»؛ أي يتفرجون من بعيد على الذين يعملون. وقد استمر هذا التقليد الذي يفصل بين النظر والعمل من جهة، ويعلي من شأن النظر على العمل من جهة أخرى، في الفلسفة اليونانية كلها؛ أخذ به أفلاطون ثم أرسطو، وانتقل هذا التراث إلى العرب عند نقل الفلسفة اليونانية، وأخذت به أوروبا بعد عصر النهضة والعصر الحديث، ولم يبدأ يتغير هذا المبدأ الفيثاغوري إلا في هذا القرن العشرين.
ويرجع بنا الحديث إلى الرياضيات فنقول: إن ما يخيل إلينا اليوم من مسائل حسابية وهندسية في غاية البساطة، ومما يدرسه الصبيان في سن متقدمة بالمدارس، كان في ذلك العهد في غاية الصعوبة، ولا يقوى على فهمه وإدراكه إلا قلة قليلة جدا هم الفلاسفة. ونحن لا نعرف كم كان عدد هذه الحلقة من الخاصة الملتفين بفيثاغورس؛ لطبيعة السرية التي ضربت حول التعاليم الرياضية، إلى درجة أن أي واحد يفشي هذه التعاليم كان يعاقب بالطرد.
واختلفت الآراء في أمر ذلك الذي أفشى هذه التعاليم الرياضية، فقيل إنه «فيلولاوس» وكان فيثاغوريا، كتب كتابا من ثلاثة أجزاء اشتراه ديون حاكم سراقوسة بصقلية حسب طلب أفلاطون؛ فتيسر بذلك أن يطلع أفلاطون على آراء فيثاغورس الرياضية. ولكن هذه الرواية ينقضها ما كان يعرفه سقراط من أتباع الفيثاغوريين، وبخاصة أن أفلاطون نفسه كان يعرف صلة سقراط بهؤلاء الأتباع، مما نجده مدونا في أول محاورة «فيدون». والأرجح أن الذي أفشى تعاليمهم هو «هيباسوس» الذي دون هذه التعاليم في كتاب ، وكان ذلك في حياة فيثاغورس نفسه، وعوقب لهذا السبب بالطرد من الفرقة الفيثاغورية.
ولم تكن الفيثاغورية مدرسة بمقدار ما كانت فرقة تقوم على نظام من الأخوة، وكأنها دير أو معبد. وكان جميع أفرادها يعيشون معيشة زهد وبساطة، ويلبسون زيا موحدا وهو البياض، ولا ينتعلون، بل يمشون حفاة الأقدام. وقد سبقت الإشارة إلى أن سقراط كان من جملة أتباعهم، فلا غرابة أن يسلك مسلكهم، فكان يمشي حافي القدمين.
والفيثاغورية أول مدرسة فتحت أبوابها لتعليم المرأة، وبذلك قررت الفيثاغورية مبدأ مساواة المرأة بالرجل، قبل أن يقرره أفلاطون في جمهوريته بقرنين من الزمان. ومن الغريب أن أفلاطون، على الرغم من المناداة بالمساواة بين الرجل والمرأة، لم يؤثر عنه أنه فتح أبواب الأكاديمية لأي امرأة. وعلى العكس كانت هناك مدارس فلسفية في اليونان ضمت نساء إلى جانب الرجال، مثل مدرسة إبيقور.
إن تحرير المرأة مرتبط ارتباطا وثيقا بتعليمها، ولم تستطع المرأة أن تظفر بالتعليم العالي إلا منذ أواخر القرن التاسع عشر وأوائل هذا القرن فقط. أما قديما، فلم تظهر إلا محاولات كانت أشبه بومضات لا تكاد تبرق حتى تختفي، ولم يقدر لها الاستمرار؛ ولهذا لم يذكر التاريخ امرأة كانت صاحبة مذهب فلسفي، أو عالمة بالرياضيات أو الطبيعيات، ويبدو أن رأي سقراط في المرأة من جهة تعلمها الفلسفة كان سيئا؛ فقد ذهبت زوجته بصحبة أبنائهما إلى السجن تزوره قبل إعدامه، ولم تكد تراه حتى أخذت تولول وتصيح، فقال لرفقائه: أخرجوا هذه المرأة. ونحن نجد هذا الحديث مسجلا في أول محاورة «فيدون».
وقد اشتهرت المرأة الفيثاغورية بالعفة والفضيلة، وأنها أفضل نساء الإغريق؛ والعلة في ذلك أنها تعلم الأدب وبعض مبادئ الفلسفة، كما كانت تعلم تدبير المنزل والأمومة. إن اشتراك المرأة مع الرجل على هذا النطاق الواسع جعل المدرسة الفيثاغورية شيئا أشبه بمجتمع مثالي أو مدينة فاضلة. وكانت المدن الفاضلة الشغل الشاغل لفلاسفة اليونان، حتى ليمكن القول إن هدف الفلسفة صياغة المجتمعات المثالية أو المدن الفاضلة، كما هي الحال في جمهورية أفلاطون. ولكن معظم المدن الفاضلة كانت من قبيل «الطوبيات» تصورها أصحابها في الخيال، ولم تطبق عمليا بالفعل، فيما عدا بعض المدن الفاضلة القليلة، ومنها مدرسة فيثاغورس.
Bilinmeyen sayfa
وإذا كانت الفيثاغورية قد قبلت هذا العدد الكبير من الأتباع والمريدين، فإن التعاليم التي كانت تقدم لهم هي تلك الخاصة بالدين والأخلاق لا بالعلوم الرياضية. وقد عرفنا أن النحلة التي آمنوا بها هي الأورفية. والأولى أن الفيثاغورية لم تتعصب لديانة بعينها، بل أخذت من كل ديانة بطرف، وبذلك عمل فيثاغورس على التوفيق بين الأديان المختلفة؛ فأخذ من طقوس بابل ومصر وتراقيا وعقائد اليونانيين إلى جانب الأورفية. وقد ظلت هذه النزعة التوفيقية مصاحبة للفيثاغورية على مدى حياتها. وعندما ظهرت الفيثاغورية الجديدة بالإسكندرية في القرون الثلاثة الأولى بعد الميلاد، امتازت بهذه النزعة التوفيقية، وبخاصة بعد ظهور المسيحية، حتى إذا انتقلت الفيثاغورية إلى العرب في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)، لازمتها هذه السمة مما نجده واضحا في رسائل «إخوان الصفا وخلان الوفا»؛ فإن أصحابها كتموا أسماءهم، وزعموا أن تعاليمهم سرية، وبدءوا رسائلهم بعلم العدد، كما دعوا إلى الزهد وتطهير النفس.
إن بلوغ السعادة القصوى لا يتم إلا بتطهير النفس، ويقوم هذا التطهير على عدة مبادئ ومعتقدات، على رأسها الاعتقاد في انفصال النفس عن الجسد، وسمو النفس وتعاليها على البدن، وبقائها بعد فنائه، ثم الاعتقاد بتناسخ الأنفس، ثم اتباع طريق الزهد والرياضة لتصفية النفس وتطهيرها.
سادت فكرة التناسخ عند الفيثاغوريين بعد انتقالها إليهم من فلسفات الهند ومن الأورفية. وكان فيثاغورس - فيما يروى - مؤمنا أشد الإيمان بهذه العقيدة، ويقال إنه رأى شخصا يضرب كلبا يعوي، فأوقفه عن ضربه؛ لأنه عرف من صوت الكلب أنه أحد أصدقائه الذين ماتوا وتناسخت روحه في هذا الكلب. وتبعا لهذه العقيدة، فإن صاحب الأعمال الصالحة في حياته الدنيا تحل نفسه عند الموت في جسد شخص صالح، وأن صاحب الأعمال الطالحة تحل نفسه في جسد حيوان؛ وهذه هي السعادة والشقاوة في نظرهم.
كانت هذه الآراء شائعة في مدرسة فيثاغورس، وكشف أفلاطون عنها في محاورة «فيدون» التي يتحدث فيها عن خلود النفس . وكان سقراط يدين بالفيثاغورية، ولكنه أخذ يفكر في مبلغ ما في هذه الآراء من صواب، فقبل بعضها ورفض بعضها الآخر؛ قبل رأيهم - أو رأي النحلة الأورفية - في أن البدن سجن للنفس، ولكن ليس على المرء أن يفر من هذا السجن بالانتحار؛ لأننا أشبه بالقطيع الذي يملكه الراعي، ولا تملك الخروج على أمره. ولا بد للمرء أن يمضي فترة العقوبة مسجونا في هذا البدن. غير أن سقراط رفض فكرة التناسخ، على الرغم من قبوله فكرة التطهير.
إن فكرة «التطهير» التي بدأت منذ فيثاغورس ومدرسته في القرن السادس قبل الميلاد، تقلبت في أدوار مختلفة، واتخذت أشكالا متباينة عند سقراط وأفلاطون وأرسطو في الزمن القديم، حتى إذا بلغنا العصر الحاضر، رأينا مدرسة التحليل النفساني - ونعني بها مدرسة فرويد - تعتمد في العلاج على فكرة «التطهير»
Catharsis . والهدف من «التطهير» الفيثاغوري هو التخلص من «عجلة الميلاد»، أي التخلص من التناسخ في بدن حيوان، وبذلك يظل المرء يشقى طول مدة التناسخ، ويخرج من شقاء إلى شقاء. ولم يكتف فيثاغورس لتحقيق التطهير باتباع قواعد معينة في الطعام، والقيام بعبادات منظمة معينة على أيدي الكهنة، ولكنه أضاف إلى الزهد والعبادة شيئا جديدا هو ممارسة العلم الرياضي والموسيقى لتصفية النفس، كما يستخدم الدواء لتصفية الجسم. ومن المعروف أن فيثاغورس رفع الموسيقى من المرتبة العملية، فأصبحت علما نظريا، فأضحت علم التناسب، وأقامها على سلم يتميز بطول النغمات عدديا؛ وبذلك ارتفع فيثاغورس ب «التطهير» من مجرد نزعة عملية إلى مرتبة نظرية. وقد اتبع سقراط وأفلاطون هذه الطريقة في «التطهير»، فكانا يجمعان بين الزهد والسيرة الفاضلة، وبين اكتساب العلوم الرياضية وبخاصة الهندسة. وكان أفلاطون يكتب على باب مدرسته: «من لم يكن مهندسا فلا يدخل علينا.» واستفاد أرسطو من طريقة التطهير في الفن؛ فالتراجيديا بما فيها من مواقف تبعث على الخوف والرعب والشفقة وغير ذلك، تجعل المتفرج يتقمص هذه المواقف وينفعل بهذه الانفعالات، فتخرج من باطن نفسه، ويتطهر منها، وروي أن بعض المرضى العصبيين كانوا يعالجون في القرن الرابع قبل الميلاد بالطريقة الفيثاغورية، وبخاصة بواسطة الموسيقى.
والمدرسة الفيثاغورية عظيمة الأثر في تاريخ الفكر الفلسفي؛ ذلك أن التفسير الرياضي للكون كان سائدا حتى زمان أفلاطون، الذي اشترط أن يتعلم الطالب الهندسة قبل أن يتعلم الفلسفة؛ والعلة في ذلك أن الرياضيات علوم يقينية، مضبوطة، مستمدة من العقل ذاته لا من الخارج، وأساسها البديهيات الفطرية في العقل، والتي لا تحتاج إلى برهان، وإنما يكفي مجرد تصورها للاعتقاد فيها؛ مثال ذلك بديهية المساواة وبديهية الكبر والصغر؛ أي إن الأشياء المساوية لشيء واحد متساوية، وإن الكل أعظم من الجزء. وقد بين أفلاطون في محاوراته أن الخادم الذي لم يتلق أي «تعليم»، يستطيع أن يدرك هذه الحقائق البديهية من ذاته، مما يدل على أنها مفطورة في العقل. وقد استمر هذا التيار الذي يعتقد في فطرية البديهيات الرياضية، منذ زمان أفلاطون حتى ديكارت وكانط ورسل في الوقت الحاضر.
ولكن في نفس الوقت الذي ظهر فيه هذا التيار الرياضي عند فيثاغورس، ظهر أيضا تيار آخر يفسر العالم تفسيرا طبيعيا؛ إما بمادة واحدة، كما كانت الحال عند طاليس، أو أنكسيمندريس، أو أنكسمانس. وقد انتهى الأمر بهذا التيار الطبيعي عند أرسطو إلى تفسير الموجودات بأنها مركبة من هيولى وصورة، إلى جانب رد العناصر إلى أربعة أساسية؛ هي النار والهواء والماء والأرض. وقد سيطر التفسير الأرسطوطاليسي على العالم حوالي عشرين قرنا من الزمان، إلى أن عاد العالم مرة أخرى إلى التفسير الرياضي للموجودات، لا على نحو ما كانت تفسر قديما، بل بمعادلات رياضية.
إن الذي وجه الدراسات هذا التوجيه الرياضي هو فيثاغورس، ولذلك لم يكن من الغريب أن يقول برتراند رسل في كتابه «تاريخ الفلسفة الغربية»: «إني لا أرى شخصا غير فيثاغورس كان له أثر يماثله في عالم الفكر؛ لأن ما يبدو لنا أفلاطونيا، نجده في جوهره عند التحليل فيثاغوريا.»
الأكاديمية
Bilinmeyen sayfa
أشهر مدرسة فلسفية في التاريخ القديم، وأطولها عمرا؛ فقد أنشئت في أثينا زمان أفلاطون في القرن الرابع قبل الميلاد، وظلت تقوم بتدريس الفلسفة حتى النصف الأول من القرن السادس بعد الميلاد، عندما أغلق الإمبراطور جستنيان أبوابها، ومع ذلك لم تمت بإغلاقها، بل استمرت تعيش بعد أن هاجر فلاسفتها أثينا، وذهبوا إلى فارس، حيث رحب بهم كسرى أنوشروان، وأنزلهم في مدينة جنديسابور.
ولا تزال الأكاديمية حية باسمها في جميع اللغات؛ فالأكاديمية عنوان على نوع خاص من معاهد البحث العلمي، وهي تطلق في الأغلب على العلوم أكثر مما تطلق على الفنون والآداب. والصفة من الأكاديمية، أي الأكاديمي، تدل على المفكر المتعمق في البحث، مع الجدة والأصالة.
وقد تيسر للأكاديمية هذا الاستمرار المتصل على مر الزمان، بفضل النظام المحكم الذي وضعه لها مؤسسها أفلاطون.
فقد كانت هناك قبل إنشاء الأكاديمية مدارس في اليونان، كما كانت هناك مدارس في الشرق القديم. وقد أشرنا إلى الفيثاغورية التي ظهرت قبل ذلك بقرنين من الزمان، كما أشرنا إلى مدارس الطبيعيين. وفي القرن الخامس ظهرت مدارس السفسطائيين، وكانت تلك المدارس تؤدي وظيفة معينة هي «تعليم» الخطابة والبيان، فكانت بذلك تعد اليونانيين لتولي الوظائف العامة التي ظهرت مع ظهور الديمقراطية.
إن المدارس لم تكن تظهر إلا لحاجة ماسة؛ فهي تخرج الحكام والساسة؛ إذ كانت مشكلة الحكم هي الشغل الشاغل للأذهان، أو إنها تعد الطلاب لشغل وظائف الكهنة وخدمة المعابد، وذلك بفهم أسرار الدين، ومعرفة مراميه، ووظيفته في خدمة المجتمع، أو إنها تعد الطلاب لأمور الدنيا من معرفة بالحساب والتجارة والاقتصاد وغير ذلك. ولكن مدارس السفسطائيين كانت مختلفة في وظيفتها عن هذه الاتجاهات الثلاثة، ولم تكن تعلم الحق بمقدار ما كانت تعلم التغلب على الخصوم. ومن أجل ذلك نهض أفلاطون ينشئ الأكاديمية يعارض بها «تعليم» السفسطائيين.
ومن الغريب أن سقراط الذي لم يؤثر عنه أنه كان صاحب مدرسة، قد صوره أرستوفان - الشاعر الهزلي المشهور - في تمثيلية السحب، صاحب مدرسة يعلم الشباب الجدل بالحق وبالباطل، ولكن هذا التصوير الكاريكاتوري لا يتفق مع الحقيقة؛ لأن سقراط أفنى حياته يطلب الحق ولا يرضى بالباطل، وقدم للمحاكمة لاتهامه بإفساد الشباب، أي إنه كان يزعزع عقائدهم في القيم السائدة.
فلما أعدم سقراط، حزن عليه تلميذه أفلاطون حزنا شديدا، وسخط على الديمقراطية التي كان يعدها مسئولة عن محاكمته والحكم عليه، ثم رحل أفلاطون عن أثينا، وطاف بكثير من بلاد الشمس ليلتقي بزملائه الفلاسفة. ذهب إلى ميجارا ومكث عند إقليدس الميجاري زمنا. ورحل إلى مصر حيث التقى بكهنتها، ودرس النظم المصرية في الدين و«التعليم» والحكم والفنون، وأعجب بثبات هذه النظم.
فلما قضى في مصر وطره، رحل غربا في شمال أفريقيا إلى مدينة «قورينا»، وهي مدينة أنشأها اليونانيون في الجبل على مقربة من البحر. وفي القرن السادس بعد الميلاد خربتها الزلازل، واندثرت حضارتها، ودفنت تحت الأنقاض، ثم كشف حديثا عن آثارها كاملة، ولكنا لا ندري أين كانت تقع المدرسة القورينائية. وقد ذهب أفلاطون ليلقى هناك ثيودورس الرياضي، ويتذاكر وإياه العلم الرياضي.
ثم توجه بعد ذلك إلى تارنتوم بجنوب إيطاليا، وكانت معقل الفيثاغوريين، حيث التقى بزعيم المدرسة أرخيتاس الرياضي المشهور. جمع أرخيتاس بين العلم الرياضي والفلسفة والسياسة، كما كان قائدا مظفرا، وقد انتخبه أهل مدينته حاكما عليهم، فكان بذلك الحاكم الفيلسوف الذي لعبت صورته في خيال أفلاطون، ورأى في هذه الصورة النموذج لرئيس المدينة الفاضلة.
ولم يلبث أفلاطون أن اتجه إلى صقلية، واتصل في سراقوسة بديون شقيق زوجة ديونيسوس طاغية سراقوسة، وغضب ديونيسوس على أفلاطون بسبب انتقاد الفيلسوف لسياسته، فأمر به أن يباع في أسواق العبيد، وبيع فعلا في إيجينا بثلاثين ميناي، وافتداه تلاميذه، وفكوا أسره، وعاد إلى أثينا سنة 387 قبل الميلاد، وقد بلغ الأربعين من العمر، فبادر بإنشاء الأكاديمية.
Bilinmeyen sayfa
اختار للمدرسة مكانا خارج أسوار أثينا، على مقربة من بابها الغربي، وهو عبارة عن بستان كان ملكا للبطل «أكاديموس»، الذي ينسب إليه المكان؛ فقيل أكاديمية. وكان يؤدي إلى هذا البستان طريق يحف به من الجانبين تماثيل عظماء اليونان، ومنهم بركليس. وكان ذلك المكان أثيرا عند سقراط لنضرة زرعه، وصفاء مائه، وكثرة جداوله. وقد وصفه أفلاطون في افتتاح محاورة «فيدروس»، حيث ذهب سقراط وتلميذه «فيدروس» - وكلاهما حافي القدمين - يخوضان في ماء الجدول، ثم جلسا على الأرض في ظل شجرة باسقة. وإلى جانب ذلك ، كان المكان مقدسا، وهب للإلهة «أثينا»، وأقيم فيه معبد لتمجيدها، تحيط به أحراج شجر الزيتون، الذي كان يمنح زيته للفائزين في أعياد «الباناثيناي» أكبر أعياد أثينا. هذا فضلا عن ملعب رياضي أنشأه قائد أثينا المسمى قيمون في أوائل القرن الخامس.
في هذا المكان المقدس، أو هذه الضاحية البديعة، اشترى أفلاطون البستان وقطعة الأرض التي أقيم عليها بناء المدرسة. ولسنا نعرف على التحقيق على أي هيئة كان مبنى المدرسة، وأكبر الظن أنها كانت تشمل معبدا لربات الفنون، وحجرات للأساتذة والطلبة، وقاعات للاجتماعات، والاستماع إلى المحاضرات، وتناول الطعام مشتركين معا. وقد جرت العادة في أيام الصيف أن يستمع الطلبة للمحاضرات في «مماشي» البستان، أو في ظل الرواق. وهذه العادة، مع أنها كانت عامة في معظم المدارس الفلسفية في ذلك الحين، نعني أن يتلقى الطلبة الدرس وهم يمشون حول الأستاذ، إلا أن المدرسة التي اختصت باسم المشائين هي مدرسة أرسطو دون غيرها من المدارس.
وكانت المدرسة أشبه بفرقة دينية، فيها المعبد الموهوب لربات الفنون، والذي كان الطلبة يقدمون إليها الأضحية في أوقات معلومة، وبخاصة لهرمس إله الحكمة. وكانت المعيشة بين أعضاء المدرسة - رئيسا وطلبة - مشتركة في الملبس، والمأكل، والنوم، وبعض لوازم اختصت بها المدرسة؛ مثل طريقة تصفيف الشعر، واتخاذ قلنسوات فوق الرأس، والاتكاء على العصا.
كان أفلاطون صاحب المدرسة، ومالك الأرض والبناء، وهو الرئيس. وقد وضع للمدرسة نظاما للرئاسة بعد وفاته، هو نظام التعيين بالوصية. غير أن الرئاسة أصبحت تتم فيما بعد بالانتخاب السري من جميع أعضاء المدرسة.
ولم يكن أفلاطون - على عكس السفسطائيين - يتناول أجرا على «التعليم»؛ فقد كان هناك مدارس في أثينا تتقاضى أجورا فادحة مثل مدرسة «إيسقراط» التي كانت تعلم الخطابة بوجه خاص. وقد امتنع أفلاطون عن أخذ الأجر على «التعليم» اتباعا لسنة سقراط الذي كان يرى أن المعرفة لا تعلم؛ بل تنكشف للإنسان من باطن النفس، أو أن العلم تذكر والجهل نسيان بحسب عبارته المشهورة، فكيف يتقاضى المعلم أجرا على شيء لا يملكه ولا يمنحه؟! وإذا كان سقراط على فقره، لم يؤثر عنه تناول الأجر، فمن باب أولى يمتنع أفلاطون سليل الأرستقراطية والثراء. وفضلا عن ذلك، فإن «ديون» دفع مبلغا كبيرا هو الذي اشترى به أفلاطون الأرض والبستان، وكان الأغنياء يمنحون المدرسة هبات سخية، كما كان الطلبة الأثرياء يعينون المدرسة، كل على قدر استعداده.
وحيث كانت طبيعة الدراسة تعتمد على الحوار والمناقشة، فلم يكن من المهم أن تتم الدراسة داخل قاعات مجهزة بأدوات، وبخاصة الأدوات والأجهزة العلمية، التي يحتاج إليها كل من الأستاذ والتلميذ لتوضيح بحثه. كان المحاضر في الأكاديمية يجلس فوق كرسي عال في الرواق، ويجلس حوله التلاميذ على أرائك من الحجر. وأيضا فقد كان من المألوف أن يحاضر الأستاذ وهو يمشي وحوله تلاميذه. ولم يؤثر عن أفلاطون أنه كان يحاضر من كتاب، أو حتى من مذكرات مدونة. ولكن بعض تلاميذه كانوا يقيدون عنه بعض المذكرات وبخاصة محاضراته «في الخير».
ومن طريف ما يروى أن أحد التلاميذ ذهب يستمع عن أفلاطون هذه المحاضرات التي ذاع صيتها عن الخير، فأصيب بخيبة أمل شديدة؛ لأنه سمع محاضرات في الهندسة والفلك.
والثابت أن أفلاطون كان يرى أن الفلسفة لا تدون، وقد تأثر في ذلك بأستاذه سقراط الذي أنفق حياته يناقش ويحاور، ولم يخلف شيئا مدونا. حقا ظهر قبل أفلاطون وقبل سقراط جماعة من الفلاسفة دونوا فلسفتهم في كتب، وكانت تلك الكتب متداولة، وبعضها يباع بثمن زهيد، وكان بعض تلك الكتب منظوما في قصائد مثل فلسفة بارمنيدس أو إنبادوقليس. ولكن أفلاطون اختلف عنهم؛ لأن الحكمة الصحيحة لا تدون. وقد كتب في الخطاب السابع إلى ديون ما نصه: «إن حقائق الفلسفة لا يمكن التعبير عنها بالألفاظ كما يمكن في غيرها من الموضوعات؛ ذلك أنه بعد أن يتلقى المرء المعرفة من مرشد صادق في هذه الدراسات الفلسفية، وبعد الانقطاع بعض الوقت إلى صحبة ذلك المرشد، إذا ببريق من الفهم يضيء النفس ... ولست أعتقد أن الكتب المؤلفة في هذا الباب تفيد الناس أي فائدة، اللهم إلا بالنسبة لعدد قليل ممن يستطيع أن يكشف الحق بنفسه .»
والسبب الحقيقي الذي من أجله رفض أفلاطون - كما رفض سقراط من قبل - تدوين الفلسفة، هو أن وظيفتها إحياء النفوس وصقلها وتزكيتها؛ لتكشف الحقائق بنفسها من ذات نفسها، لا أن تأخذ الحقائق عن الفلاسفة، وأن تتلقنها وتحفظها وترددها، كما أصبحت في العصر المدرسي، فجمدت وماتت.
ولكن وصية أفلاطون لم تنفذ حرفيا؛ فإن بعض تلاميذه - وبخاصة أرسطو - روى لنا آراء أستاذه، لا على سبيل الرواية التاريخية، بل ساقها في معرض النقد، كما فعل في كتاب ما بعد الطبيعة، حين صور آراء أفلاطون في أن المثل أعداد، ثم نقدها. ومع ذلك فإن الاعتماد على أرسطو في معرفة رأي أفلاطون خطر ولا يؤمن، كما أنه من الخطورة الاعتماد على أفلاطون في معرفة آراء سقراط.
Bilinmeyen sayfa
فنحن نعرف أن أفلاطون كتب عدة محاورات، بقي منها ثمان وعشرون واحدة، من أهمها الجمهورية والنواميس، وأجرى فيها الحوار على لسان سقراط، مما يجعل المرء يعتقد أن ما ورد في هذه المحاورات إنما هو آراء سقراط لا أفلاطون. والحق في ذلك أن بعض المحاورات يصور أفكار سقراط، وهي المحاورات السقراطية، وبعضها الآخر يصور آراء أفلاطون، والمؤرخون مختلفون في تحديد هذا النوع أو ذاك. هذه المحاورات، سواء منها السقراطية أم الأفلاطونية، خاطب بها أفلاطون الجمهور الواسع وليس خاصة تلاميذه. وقد لقيت المحاورات نجاحا منقطع النظير، وكان الناس يقرءونها بصوت عال، وكانت تمثل على خشبة المسرح زمان شيشرون. ومع أن أفلاطون حذر طلابه من تدوين الفلسفة، وأعلن صراحة أن هذه المحاورات لا تعبر عن آرائه الفلسفية، إلا أن المتأخرين اعتمدوا عليها في معرفة فلسفته، وبخاصة في نظرية المثل. وكانت المحاورات، أو على الأقل بعضها؛ مثل فيدون، وطيماوس، والجمهورية، تدرس في الأكاديمية حتى زمانها المتأخر، ويتولى الأساتذة شرحها. وكان الطلبة الذين يرحلون إلى أثينا لتعلم الفلسفة، يجدون بغيتهم في هذه المحاورات وشروحها؛ ففي القرن الثالث بعد الميلاد نجد فرفريوس الصوري يحضر بعض الوقت على لونجينوس في أثينا شروحه على محاورات أفلاطون.
ليس معنى ذلك أن المحاورات لم تكن في زمان أفلاطون، ووقت كتابته لها، تدرس في الأكاديمية. كانت متداولة، ولكنها لم تكن أساس التدريس. كان الطلبة يطلعون عليها كأي فرد من أفراد الجمهور، ولعلهم كانوا ينتقدون الأفكار التي عرضها أستاذهم فيها؛ ولذلك تعاقبت المحاورات، يعدل اللاحق منها السابق، وتطورت آراؤه بفضل حرية النقد والمناقشة. وكان النقد جريئا مرا لا يرحم، أطلعنا أرسطو الذي كان تلميذا بالأكاديمية على طرف منه، وأرسطو هو القائل في كتاب الأخلاق: أحب أفلاطون وأحب الحق، ولكن حبي للحق أعظم. إنه يعترف بصداقته لأستاذه، ومحبته له، ولكنه لا يتنازل عن التمسك بالحق في سبيل الصداقة.
ولما كان الغرض الأساسي من إنشاء الأكاديمية تخريج طائفة من الحكام والساسة، فمن الطبيعي أن تكون دراسة الشرائع وأصولها وأنظمة الحكم الصالح، هي التي تكون منهج الدراسة؛ ولهذا السبب لجأ إليها أهل المدن المجاورة يطلبون رأيها في التشريع، كما فعل إيبامنونداس عندما طلب تشريعا لمدينة ميجالوبوليس. وإلى جانب ذلك، كانت الأكاديمية تدرس العلوم الرياضية من حساب وهندسة وفلك وموسيقى. وقد مر بنا كيف كان يتوقع الذين حضروا دروسه في «الخير» أن يسمعوا شيئا عن الفضائل، فإذا بهم لا يسمعون إلا فلكا وحسابا وكلاما عن الواحد والمحدود وغير ذلك من الأمور الرياضية. ذلك أن الرياضة كانت عند أفلاطون مدخلا لا غنى عنه إلى الفلسفة؛ ولذلك كتب على باب الأكاديمية العبارة المشهورة: «من لم يكن مهندسا فلا يدخل علينا.» ومن الفروض الفلكية التي كانت سائدة في المدرسة، انتظام حركة الأجرام السماوية، وعلى أساس هذا الفرض، كان علماء الأكاديمية يفسرون تحير الكواكب.
من أولئك العلماء الذين عاونوا أفلاطون، وكانوا سبب شهرة الأكاديمية رياضيا؟ من الصعب معرفة أسمائهم واحدا واحدا. ثم إن التلاميذ بالنسبة لأستاذهم لم يكونوا طلبة بمقدار ما كانوا أصحابا. ونحن نعلم أن أفلاطون ذهب للقاء ثيودورس الرياضي، وأرخيتاس الفيثاغوري، وإقليدس الميجاري، كل في موطنه، ولم يكن بالنسبة إليهم تلميذا، كذلك كان يحضر المدرسة عند أفلاطون عدد من الأصحاب يمكن أن يعدوا من علماء الأكاديمية؛ منهم ثياتيتوس، وأيدوكسس، بل يذهب بعض المؤرخين إلى أنهم فعلا من تلامذة أفلاطون.
ولسنا نعلم عن ثياتيتوس إلا النزر القليل، ومع ذلك، فقد خلد أفلاطون اسمه حين جعل محاورة برأسها تحمل اسمه، وكل ما نستفيده عن حياته من هذه المحاورة، أنه كان من أهل أثينا، وأنه تعلم على يدي سقراط وثيودورس القورينائي، وأنه كان معاصرا لأرخيتاس وأفلاطون. ويبدو أنه كان رياضيا بارعا، وصاحب كشوف جديدة في هذا العلم العجيب؛ مما حدا بأفلاطون إلى أن يخلد اسمه. والمشهور أن هذه المحاورة تبحث في نظرية المعرفة وكيفية اكتسابها، أمن الحس أم من العقل؟ ولكن ثياتيتوس إلى جانب ذلك، بل قبل أن يكون فيلسوفا، فهو رياضي له رأي في الأعداد الصماء، والكميات الصماء - أي التي لا تخضع للقياس - ورأي في المجسمات المنتظمة.
أما «يودكسس» فأصله من كنيدوس، تعلم الهندسة على يد أرخيتاس، ثم رحل إلى أثينا وهو في الثالثة والعشرين من العمر، بعد افتتاح الأكاديمية بعامين (افتتحت الأكاديمية 387ق.م.) وكان في صباه شديد الفقر، ولكنه اكتسب ثروة كبيرة من «التعليم»، بعد أن ذهب إلى مصر، وظفر بشهرة واسعة في الفلسفة والرياضة والفلك. وقد طلع بنظرية جديدة في التناسب، واكتشف «القطاع الذهبي»، أي «أجمل» قسمة لخط أو كمية، قسمة ذات وسط وطرفين. ويمكن القول إنه أنشأ علم الفلك مفسرا حركات الكواكب بنظرية كرات تدور على محاورها، ومتحدة المركز.
ليس معنى ذلك أن هذين الاثنين هما وحدهما العالمان اللذان تخرجا في الأكاديمية؛ فهناك أسماء تتردد أيضا؛ منها ليوداماس، ونيقوليدس، وليون. وهؤلاء الثلاثة كان لهم أثر في تقدم الهندسة وتنظيم دراستها، وزيادة نظرياتها، وترتيبها ترتيبا علميا؛ فكانوا بذلك أصحاب الفضل في التمهيد لظهور إقليدس صاحب الهندسة.
ومن الطبيعي أن يكون منهج البحث ملائما للعلوم الرياضية التي اشتهرت بها الأكاديمية. وقد بدأت المناهج تتميز بوضوح منذ سقراط الذي اشتهر بمنهج «التهكم والتوليد». والمنهج السقراطي يعتمد أساسا على الحوار؛ لأن المباحث التي خاض فيها هي العلوم الإنسانية من أدب وفن ولغة وشعر ودين وأخلاق واجتماع وسياسة. وقد اتبع هذا المنهج في الأكاديمية وتصوره المحاورات أجمل تصوير، وهو منهج يقوم على تعريف المعاني الكلية، وتحديد الألفاظ، والاستقراء.
والأصل في المحاورة أنها مناقشة تتم بين شخصين - أو أكثر - وتسمى باللغة اليونانية «ديالوج» من المقطعين «ديا» و«لوجوس»؛ أي الكلام أو القول بين اثنين. وقد تطور الحوار عند سقراط إلى «الجدل» عند أفلاطون، وهو يعني باليونانية «ديالكتيك»، من المقطعين «ديا» و «لكتيكون» أي كلام أو حديث. والفرق بين «الديالوج» و«الديالكتيك» أن الحوار حديث بين شخصين، و«الجدل» حديث بين الشخص نفسه. فهو تفكير يدور داخل النفس، ومنه عند أفلاطون جدل صاعد ومنه جدل نازل. و«الجدل» بهذا المعنى هو المنهج الفلسفي بلا منازع؛ لأن النفس تصعد إلى المثل أي الحقائق، ثم تنزل من عالم المثل إلى عالم الحس، وتهبط من عالم الثبات إلى عالم التغير.
أما المنهج الملائم للرياضيات، فهو التحليل والقسمة، ويقال إن أفلاطون هو الذي اخترع طريقة التحليل، ثم وهب المنهج إلى تلميذه ليوداماس. والتحليل باليونانية «أنالوسيس»
Bilinmeyen sayfa
Analysis ، وهو الذي أصبح فيما بعد أساس المنطق الأرسطي في كتابيه الرئيسين أنالوطيقا الأولى وأنالوطيقا الثانية، أي القياس والبرهان. خذ مثالا لذلك فكرة «المساواة» وكيف يحللها في محاورة «فيدون» من النظر إلى قطع متساوية من الخشب. ويقول بروقلس في تعليقه على الكتاب الأول لإقليدس عن ليوداماس: «إن أفلاطون شرح له طريقة التحليل، فكانت عونا له في الكشف عن أمور هندسية كثيرة.»
ولقد اشتهرت الأكاديمية باستخدام منهج القسمة، وبخاصة القسمة الثنائية. وفي محاورة السفسطائي نموذج لهذا المنهج. والقسمة مفيدة في التصنيف والتعريف. تدور محاورة السفسطائي بين ثيودورس القورينائي، وثياتيتوس الرياضي، وسقراط، وشخص رابع من إيليا. وقد حاول المتحاورون - وهم كما نرى رياضيون - تحديد معاني السفسطائي، والسياسي، والفيلسوف. فالسفسطائي يعالج فنا من الفنون، والفنون إما أن تكتسب وإما أن تبتدع.
والفنون المكتسبة إما أن تكون بالتعلم أو المحاكاة، وهي كالتجارة، والحرب، والصيد.
والصيد أنواع؛ منه اقتناص الأحياء، ومنه اقتناص غير الحي.
وصيد الأحياء أنواع؛ مثل صيد السمك في البحار، والطيور في الهواء، والدواب على ظهر الأرض، وذلك بضروب مختلفة من الشباك والفخاخ والصنانير. والسفسطائي صائد ، وفنه مكتسب، وصناعته اقتناص الناس من ذوي الحسب والمال، يقدم لهم علما مقابل ما يأخذه من أجر. فهذا نموذج للقسمة الثنائية، ومنهج القسمة وفائدته في التعريف والتصنيف.
ولم تكن الأكاديمية مقصورة في أبحاثها على العلوم الرياضية فقط، بل كانت تبحث أيضا في علوم الحياة. ولكن اتجاه المدرسة بوجه عام كان نحو الرياضيات. وقد احتفظ أحد شعراء الكوميديا بصورة تحكي ما كان يجري في الأكاديمية من بحث في النبات، قال أفكراتس شاعر الكوميديا في تمثيليته التي يدور فيها الحوار على النحو التالي: - أخبرني عن أفلاطون، وسبيسيبوس، ومينديموس، ماذا يعملون الآن؟ أي فكرة عميقة يبحثونها؟ وأي جدل شديد يدور بينهم؟ - إني أعرف كل شيء وسأخبرك ببساطة. في عيد البناثيناي رأيت جماعة من الشباب في ملعب الأكاديمية، وهناك سمعت أمورا بعيدة عن التصديق؛ كانوا يعرفون ويقسمون العالم الطبيعي، ويميزون عادات الحيوان وطبائع الشجر وأنواع الخضر، ورأيت معهم «يقطينا» كانوا يبحثون من أي نوع هو. - وهل قرروا أي نبات هو، ومن أي نوع؟ أخبرني إن كنت تعرف. - حسنا! لقد ظلوا جميعا أول الأمر صامتين، وانحنوا فوقها بعض الوقت يتأملونها. وفجأة وهم ما زالوا يفحصونها، قال أحد التلاميذ إنها خضر مستديرة، وقال آخر إنها حشيش، وثالث إنها شجرة. فلما سمع طبيب صقلي كان موجودا هناك ذلك الحديث، انفجر ساخطا على الهراء الذي ينطقون به. - أحسب أنهم لا بد غضبوا غضبا شديدا، وصاحوا في وجهه؛ إذ من الفظاظة أن يفعل ذلك في وسط الحديث. - لم أحفل بالتلاميذ، ولكن أفلاطون الذي كان موجودا أخبرهم في عطف شديد، وبغير انزعاج أن يحاولوا من البدء تعريف نوعها. ثم مضوا في تعريفاتهم.
ويتضح من النص السابق أن الأكاديمية كانت تبحث في علوم الحياة. ثم إن سبيسيبوس ابن أخت أفلاطون، وخليفته في رئاسة المدرسة، كتب فيما بعد مؤلفات في الحيوان والنبات، بقي منها أجزاء تبحث في الأسفنج والمحار. وليس بعيدا أن الأكاديمية زمان أفلاطون كانت مجهزة بالأدوات العلمية والخرائط، ولا نزاع أنها كانت مجهزة بالكتب. ولكن يمكن القول إن الأكاديمية اتجهت على العموم وجهة رياضية، على حين اتخذت مدرسة أرسطو - وهي اللوقيون - طابعا بيولوجيا طبيعيا. •••
يتضح مما سبق أن الأكاديمية اهتمت ببحث سائر العلوم والمعارف، ولكنها قدمت بعضها على بعضها الآخر، بحسب اتجاهها في الفلسفة. ويمكن تقسيم العلوم بحسب أهميتها أربعة أقسام؛ هي الفلسفة، ثم العلوم الإنسانية من سياسة وأخلاق ونفس واجتماع، ثم العلوم الرياضية من حساب وهندسة وفلك وموسيقى، ثم العلوم الطبيعية وعلوم الحياة.
والفلسفة تاج هذه العلوم كلها، وهي الغاية التي ينتهي إليها الطالب، بعد أن يتبحر في العلوم، وبخاصة الرياضيات. وتجتمع فلسفة أفلاطون في كلمة واحدة هي «المثل». وأفلاطون هو الذي ابتدع الفلسفة المثالية، ولا تزال المثاليات حتى اليوم تعتمد في نزعتها عليه. «المثل» عند أفلاطون هي النماذج الثابتة الأزلية التي بها يفسر وجود الموجودات ومعرفتها. ولقد كانت المشكلة التي واجهها مفكرو الإغريق والتمسوا لها الحل هي أصل هذه الموجودات الكائنة، والتي تظهر إلى الوجود ثم تولي عنه، أي تفسير التغير والكثرة، أهذه الكثرة حقيقية أم أنها ترتد إلى شيء واحد؟ وهل هذا التغير الذي نشاهده حقيقي، أم أنه مظهر فقط يخفي وراءه ثباتا؟
واختلفت وجهات نظر الفلاسفة اليونانيين اختلافا كبيرا منذ القرن السادس؛ بعضهم يقول بمبدأ واحد مادي؛ كالماء، أو الهواء، أو النار. وبعضهم الآخر يذهب إلى القول بالعناصر الأربعة مثل إنبادوقليس. وبعضهم الثالث يقول بالذرات مثل ديمقريطس ومدرسته. هذا إلى الفيثاغوريين الذي فسروا الموجود بالمبدأ الرياضي، وبالشكل الهندسي. ثم ظهر بارمنيدس في إيليا بجنوب إيطاليا، فقرر أن «الوجود موجود»، وأنه واحد، وأنه ثابت، وهذا هو طريق الحق. أما إذا سار الإنسان في طريق «الظن»، فإنه يرى الموجود كثيرا، ومتغيرا.
Bilinmeyen sayfa
والمثال الأفلاطوني جمع بين الواحد الفيثاغوري، وبين الواحد البارمنيدي.
المثال الثابت الواحد هو أصل الموجودات المحسوسة المتغيرة.
هذا هو الحل السعيد الذي اهتدى إليه أفلاطون لتفسير وجود الموجودات الكثيرة المتغيرة في عالم الحس.
ولكنه فطن إلى عجز هذه النظرية وقصورها عن توضيح كثير من المشكلات التي تعرض للذهن. وقد انتقد أفلاطون نفسه، وراجع فكره، كما يتضح من محاورة بارمنيدس. وتساءل عن أصل المحسوسات: أهي «تشارك» في المثال، أم هي «محاكاة» للمثال؟ و«المشاركة» تفترض أن يكون المثال كلا، وأن يكون كل واحد من المحسوسات جزءا من هذا الكل. و«المحاكاة» تذهب إلى أن المثال أصل، ثم تتعدد المحسوسات عنه، كما تتكثر الصور في المرايا. وعندما نقلت الفلسفة اليونانية إلى العرب، أعجب الغزالي بنظرية «المحاكاة» وتشبيه النفس بالمرآة التي تنعكس على صور المثل، فاصطنع هذه النظرية في كثير من كتبه.
والمثال لأنه معقول فلا مادة فيه، والمحسوس لأنه مجسم مشخص فإنه مادي. فكيف نشأ المحسوس المادي من المعقول اللامادي؟ هذا هو جوهر المشكلة التي اضطر أرسطو - تلميذ أفلاطون - إلى حلها بقوله إن المحسوس مركب من مبدأين؛ الهيولى والصورة. والقول بأن العالم مادي، وليس معنى ذلك أن فلسفة أرسطو مادية، بل تدل على تسليمه بوجود المادة إلى جانب الصورة.
وتتدرج «المثل» عند أفلاطون حتى تقف عند ثلاثة هي؛ الحق والخير والجمال. ولا تزال هذه القسمة الثلاثية دارجة مألوفة حتى اليوم. •••
طال عمر الأكاديمية تسعة قرون؛ إذ أنشئت 327ق.م. في أثينا، وأغلق الإمبراطور جستنيان أبوابها 529 بعد الميلاد. وتقلبت في أثناء عمرها المديد في عدة أطوار هي الأكاديمية القديمة والوسطى والحديثة، ثم الأكاديمية بعد الميلاد. والتقسيم المذكور يرجع إلى مؤرخي الفلسفة من المحدثين، وهو مصطنع بعض الشيء؛ إذ الحق في ذلك أن الطابع الذي يسود المدرسة في زمن معين، إنما يرجع إلى شخصية رئيسها وتوجيهه.
تولى رئاسة المدرسة بعد موت أفلاطون أسبيسيبوس ابن أخته، الذي أتم تنظيم المدرسة في شكلها الأخير. واستمر رئيسا من 347 (أي بعد موت أفلاطون) إلى 339ق.م، وخلفه زينوقراط 339-315ق.م، ثم بوليمون 315-270ق.م، ثم أقراطس بعد 270ق.م، وينتهي معه طور الأكاديمية القديمة، التي امتازت بالسير في الطريق الذي رسمه أفلاطون. وقد لمعت في تلك الفترة أسماء كثير من العلماء والفلاسفة، نذكر منهم يودقسس، وهرقليدس، وغيرهما. ويقال إن كرانتور تلميذ بوليمون هو أول من وضع شروحا لمحاورات أفلاطون.
ثم تحولت الأكاديمية إلى نزعة الشك ، بدأت مع الرئيس أرقليساوس، الذي يعد منشئ الأكاديمية الوسطى، ثم أصبح هذا الاتجاه واضحا قويا على يد كارنيادس، وتسمى الأكاديمية في عهده (213-129ق.م.) بالأكاديمية الثالثة. وقد أرسله الأثينيون في سفارة إلى روما ونجح في مهمته.
وأكاديمية رابعة تحت رئاسة فيلون من أهل لاريسا، وقد وجهها وجهة رواقية. وأكاديمية خامسة برئاسة أنطيوخس العسقلاني (توفي 68ق.م)، الذي وفق بين الأفلاطونية والأرسطية والرواقية، وتسمى هذه الأكاديمية الخامسة عادة بالأكاديمية الجديدة.
Bilinmeyen sayfa
ويمكن القول إن كارنيادس وفيلون وأنطيوخس كان لهم الفضل في نشر تعاليم الأكاديمية بعد انتقالها إلى «جنديسابور» محتفظة بهذه التعاليم بفيلون وأنطيوخس واستمع إليها.
ومما يروى أن سللا عندما حاصر أثينا سنة 86ق.م. احتاج إلى خشب، فقطع أشجار الأكاديمية، التي انتقلت منذ ذلك الحين داخل أسوار أثينا. ومهما يكن من شيء، فإن تاريخ الأكاديمية حتى القرن الخامس بعد الميلاد غامض، وكل ما نعرفه أنها ازدهرت في القرن الخامس، وتجددت، وأصبحت مركزا للأفلاطونية المحدثة، المتأثرة بالفلسفة الإسكندرانية. وقد لمعت في هذه الفترة أسماء مشهورة بوجه خاص في الفلسفة العربية؛ منهم بروقلس، وفلوطارخس، وسوريانس، ودومنيونس، وماريانوس، وإيزودورس، والدمشقي الذي كان آخر رئيس للمدرسة، أي من 510 إلى 529 بعد الميلاد.
ويبدو أن السبب الرئيس في إغلاق الأكاديمية - كذلك «اللوقيون» - أنها كانت مهد التعاليم الوثنية. وكانت المسيحية قد تغلبت وسادت، وأرادت أن تقضي على كل أثر للوثنية. وقد آثر فلاسفة الأكاديمية أن يهجروا المدرسة إلى مكان آخر يمارسون فيه تعاليمهم بحرية، ورحب بهم كسرى أنوشروان، وأنزلهم في «جنديسابور»، وترك لهم حرية البحث، فنقلوا معهم الفلسفة والعلوم والطب. وظلت الأكاديمية في العالم الروماني، إلى أن انتقلت إلى بغداد زمان العباسيين، ونقلت علومهم وفلسفتهم إلى اللغة العربية. وهكذا نرى أن المدرسة الأصلية زالت من أثينا، وتغير مكانها، وكذلك لغتها، ولكن تعاليمها لم تمت، وظلت الأكاديمية حية بأفكارها وفلسفتها، وقد عادت تعاليمها المثالية وفلسفتها الرياضية إلى الظهور مرة أخرى في الوقت الحاضر، معدلة بطبيعة الحال مع مقتضيات العصر، والتطور الكبير الذي حدث خلال عشرين قرنا من الزمان.
المشائية
«اللوقيون أو الليسيه»
مدارس «الليسيه» معروفة بهذا الاسم، ومشهورة في مصر، وهي تلك المدارس التي تعلم الطلبة حتى يظفروا بإجازة البكالوريا؛ أي المرحلة السابقة مباشرة على التعليم الجامعي. وهذا النوع من «التعليم» في «الليسيه» منتشر في فرنسا، وعنها أخذنا هذا اللون من المدارس.
و«الليسيه»
Lycée
هي الاسم الفرنسي الذي أصبح يطلق على الاسم اليوناني
Lyceum ، أو الأصح بالرسم اليوناني
Bilinmeyen sayfa
Lykeum ، وقد عربها القدماء فقالوا: «اللوقيون»، وهي المدرسة التي أنشأها أرسطو في أثينا، وكان يمارس «التعليم» فيها، وأصبحت تنافس الأكاديمية والمدارس الأخرى اليونانية. ومدرسة أرسطو مدرسة فلسفية عليا، وليست ثانوية ك «الليسيه» حديثا، ولذلك ينبغي عدم الخلط بينهما، والاعتقاد بأن «الليسيه» الحاضرة هي «اللوقيون» قديما أو استمرار لها.
وتعرف مدرسة أرسطو باسم آخر، وبخاصة عند العرب، هي مدرسة المشائين؛ لأن المعلم وتلاميذه كانوا يتعلمون وهم يمشون. وسبق أن ذكرنا أن هذه السنة لم تكن مقصورة على الطلبة في مدرسة أرسطو فقط، بل كانت شائعة في جميع المدارس الفلسفية في بلاد اليونان؛ وذلك لطبيعة الجو الحار الذي يسود أثينا معظم أوقات السنة، فكان الطلبة إما أن يسيروا في المماشي تحت ظلال الأشجار، أو يسيروا جيئة وذهابا في «الرواق» داخل المدرسة. مهما يكن من شيء، فقد اشتهرت مدرسة أرسطو باسم المشائين.
وقد ظلت «اللوقيون» باقية في أثينا تنافس الأكاديمية، وتمتاز عنها بلون خاص، إلى أن أغلق الإمبراطور جستنيان أبواب المدرستين. ومع ذلك، فإن تاريخ «اللوقيون» أغمض من صاحبتها، إلا أن «اللوقيون» - أو المشائية - أشهر في الزمن القديم. وكما يتصل إنشاء الأكاديمية باسم صاحبها وفلسفته، كذلك يتصل «اللوقيون» باسم منشئها ومؤسسها وصاحبها أرسطو؛ فهي ثمرة غرسه، ونتاج فلسفته. وإذا كان أفلاطون قد أنفق أربعين عاما يشيد صرح الأكاديمية؛ إذ أنشأها سنة 387 ق.م. واستمر رئيسا لها، إلى أن توفي سنة 347ق.م، فإن أرسطو لم يستمر على رأس مدرسته سوى اثني عشر عاما؛ لأنه لم يفتتحها إلا وهو في الخمسين من عمره. ولكن لماذا ترك أرسطو الأكاديمية التي تعلم فيها، وكان من أبرز تلاميذها، وقرر أن ينشئ مدرسة أخرى؟ والجواب عن هذا التساؤل يقتضي منا أن نشير إلى سيرة أرسطو بإيجاز.
ولد أرسطو 384ق.م. بمدينة ستاجيرا من أعمال خلقيس، ولذلك حين يقال الفيلسوف الاستاجيري لا تنصرف هذه التسمية إلا إليه، أو حتى حين يقال الاستاجيري
The Stagirite
فقط. وكان أبوه نيقوماخوس من نسل أسقلبيادس طبيبا للملك أمنتاس الثاني ملك مقدونيا، الذي أنجب فيليب والد الإسكندر. وكان الأطباء يورثون أبناءهم صناعتهم، ومن هنا نشأ أرسطو على محبة العلوم الطبيعية وعلم الحياة، وتدرب في صباه على التشريح والجراحة. ولما بلغ الثامنة عشر أوفد إلى أثينا حيث التحق بالأكاديمية، وظل فيها عشرين عاما. حقا كانت هناك عدة مدارس فلسفية في أثينا، ولكن الأكاديمية كانت أفضلها وأرقاها. وقد تأثر أرسطو بشخصية أفلاطون وتعاليمه إلى الأعماق، وانطبع بطابع لا يمحى، على الرغم من معارضة الفيلسوف الاستاجيري لنظرية «المثل». وكان صاحب الأكاديمية يعرف في تلميذه فضله وذكاءه؛ فسماه «القراء»، و«العقل»، أي عقل المدرسة. وكثيرا ما يصف أرسطو نفسه في كتبه بقوله إنه أحد الأفلاطونيين، أو بنص عبارته: «نحن الأفلاطونيين»؛ مما يدل على ولائه للأكاديمية.
ويذهب بعض المؤرخين من المحدثين إلى تكذيب الروايات القديمة التي تجمع على بقاء أرسطو عشرين عاما تلميذا بالأكاديمية. وهم يرون أنه اختلف إلى أكثر من أستاذ، وبخاصة في البلاغة، مثل إيسقراط وديموستين، وأنه كان يتردد على الأكاديمية بين حين وآخر. ولكن الذي يدحض هذا التصوير، أن أرسطو كان يعارض مدرسة أيسقراط، وكذلك مدرسة ديموستين؛ لأنهما يعلمان على طريقة السفسطائيين التغلب على الخصم بسحر البلاغة ورنين الألفاظ، لا بقوة المنطق والتفكير السديد المحكم. ومما يروى أن أرسطو كان يلقي دروسا في الخطابة - وهو طالب في الأكاديمية - على الجمهور ينافس بها دروس إيسقراط.
ويبدو أن الطابع العام لجميع المدارس الفلسفية قديما كان واحدا؛ فالمدرسة جماعة من الباحثين والمفكرين يرتبطون بروح مشتركة، ويشاركون في آراء أساسية، وفي الوقت نفسه يحتفظ كل واحد منهم باستقلاله في البحث. وهذا الاستقلال يفسر لنا اتجاه أرسطو منذ كان في الأكاديمية إلى متابعة البحث في العلم الطبيعي، كما ذكرنا قبلا.
لم يكن أرسطو الذي سماه أفلاطون «القراء » و«العقل»، ليقبل أن يستمر في الأكاديمية تحت رئاسة سبيسيبوس، الذي مضى - بعد موت أفلاطون - يوجه المدرسة نحو الرياضة، وأن يقلب الفلسفة - كما يقول أرسطو - إلى رياضيات.
مهما يكن من شيء، فلسنا ندري الأسباب الحقيقية التي من أجلها هجر أرسطو الأكاديمية، ورحب بدعوة زميل قديم له في تلك المدرسة هو «هرمياس»، الذي أصبح حاكم أسوس، وجمع حوله حلقة صغيرة من الأفلاطونيين. وبعد ثلاث سنوات ذهب إلى ميتلين في جزيرة لسبوس، حيث لقي صديقه ثاوفراسطس زميله في الأكاديمية، وخليفته فيما بعد على رئاسة «اللوقيون». وترجع مباحث أرسطو ومشاهداته في العلم الطبيعي والبيولوجي إلى إقامته في أسوس وميتلين. وفي سنة 343ق.م. دعاه الملك فيليب لتثقيف ابنه الإسكندر؛ فعلمه إلياذة هوميروس، ومبادئ الحكم. ولكن حقيقة «التعليم» الذي تلقاه الإسكندر من معلمه غير معروف. فلما توفي فيليب 335ق.م. عاد أرسطو إلى أثينا، وأنشأ «اللوقيون»، وتلقى من تلميذه الإسكندر معونات كبيرة مالية وأدبية.
Bilinmeyen sayfa
أنشأ «اللوقيون» مدرسة فلسفية تختلف في اتجاهها عن الأكاديمية التي عنيت بالعلوم الرياضية. كانت الأكاديمية تقع خارج أسوار أثينا في الشمال الغربي من المدينة، فاختار أرسطو لمدرسته موقعا في الطرف المقابل من المدينة شرقي الأسوار - أو الشمال الشرقي - على مقربة من طريق مراثون، أكبر الظن بين جبل ليقابيتوس ونهر أليسوس، حيث كانت تقع أيكة مقدسة موهوبة للرب أبولون لوقيوس وربات الفنون. وكانت تلك الأيكة من الأمكنة المحببة إلى سقراط، وكان يرتادها كثيرا. أما لوقيوس التي منها اشتق «اللوقيون»، فهو صفة لأبولون، وتعني الذئب، أو رب النهار.
ولما كان أرسطو أجنبيا، أي ليس مواطنا أثينيا، فلم يكن له الحق في امتلاك الأرض؛ ولذلك استأجر بعض الأبنية وجعلها نواة مدرسته. وفي جوار ذلك المكان، كان «يتمشى» هو وتلاميذه في المماشي، وتحت ظل الأشجار، ذهابا وجيئة، ولذلك سمي أتباعه بالمشائين، ولو أن هذا الأسلوب في «التعليم» - كما ذكرنا من قبل - لم يكن مقصورا على أرسطو وحده، والتعاليم المشائية هي المأخوذة عن مدرسة أرسطو.
ومما يروى أن أرسطو كان يلقي نوعين من الدروس؛ صباحية لخاصة تلاميذه ، وتسمى «سماعية» أو «مستورة». ومسائية للجمهور الواسع، وهذه أقل صعوبة من الأولى، وتسمى علانية أو «منشورة»
Exeteric . ليس معنى ذلك أن أرسطو كان يضفي على دروسه الصباحية صفة السرية، وأنه كان يحجبها عن الجمهور، كلا، بل الأمر أن دروس الصباح كانت تهم فئة قليلة من المشتغلين بالمسائل الفلسفية العويصة؛ كالمنطق، والميتافيزيقا، والعلم الطبيعي، على حين أن الدروس الأخرى كالأخلاق والسياسة، كانت تجذب أسماع الجمهور ويعجب بها، ويقبل عليها.
وأكبر الظن أن أرسطو جمع في مدرسته بضع مئات من الكتب المخطوطة - ولم تكن الكتب إلا مخطوطة بطبيعة الحال - فكانت أول مكتبة في التاريخ، وأصبحت نموذجا احتذت مثالها مكتبة الإسكندرية وغيرها من المكتبات. وكذلك اقتنى عددا من الخرائط ومتحفا من نماذج شتى لأحجار ومعادن ونباتات وحيوانات؛ ليستعين بها على توضيح محاضراته. ويقال إن الإسكندر وهبه مبلغا كبيرا من المال لاقتناء هذه الأشياء، وأمر جميع الصيادين في الإمبراطورية أن يقدموا له نماذج مما يصيدونه في الجو أو على ظهر الأرض أو في الماء.
ولم يكن الإسكندر وحده راعي أرسطو وحاميه، بل كذلك «أنتيباتر» الذي خلف الإسكندر في مقدونيا وصيا على العرش. ونحن لا نعلم حقيقة العلاقة التي كانت تربط بين أرسطو وأنتيباتر الذي يعرف عنه ميول نحو البحث الفلسفي، ولكنه كان صديق أرسطو عندما عاش في بلاط فيليب، ويكفي أن هذه الصداقة بلغت من الوثاقة حدا يجعل أرسطو ينص في وصيته على تعيين أنتيباتر منفذا لها.
وهكذا لقيت «اللوقيون» التأييد من أكبر ملك عرفه التاريخ، وأخلص وصي على عرش مقدونيا، فلا غرابة أن تبدأ المدرسة قوية إلى الحد الذي تبرز فيه على الأكاديمية نفسها، ولم يكن زينوقراط رئيسها الثالث الذي انتخب بعد موت أسبيسيبوس خليقا أن يقف في كفة واحدة مع أرسطو، ولعل ذلك كان من جملة الأسباب التي دعته إلى افتتاح مدرسة جديدة؛ لأنه أنف أن يعمل تحت رئاسة زينوقراط.
ونحن إذا كنا نجهل حقيقة الدروس التي كانت تلقى في الأكاديمية، ولا نعلم سوى الجانب الشعبي من تعاليم أفلاطون في محاوراته التي كان يخرجها للجمهور بين حين وآخر، هذه المحاورات التي لا يزال معظمها موجودا بين أيدينا حتى اليوم، فإن هذا الجانب الشعبي في تعاليم أرسطو، نعني محاوراته الرائعة الأسلوب التي وصفها شيشرون بأن أسلوبها يجري كأنه نهر من ذهب، أضحى مفقودا منذ فقدت هذه المحاورات، بعد أن استمرت ثلاثة قرون من الزمان، يقرؤها جمهور المثقفين، جنبا إلى جنب مع محاورات أفلاطون. ولكننا لحسن الحظ نعلم تمام العلم حقيقة الدروس التي كان يلقيها أرسطو في داخل المدرسة؛ لأن كتبه - ابتداء من المنطق إلى الميتافيزيقا - لا تزال باقية، وسنتحدث عنها فيما بعد.
ولا بد أن الأبنية التي كانت تشغلها المدرسة كانت متعددة واسعة، يتخذ بعضها لسكنى الطلبة، وبعضها الآخر حجرات للمحاضرات، وبعضها الثالث لحفظ الكتب والخرائط وما أشبه. وأحد هذه الأبنية كان معبدا لربات الفنون - أو متحفا كما نقول اليوم
Museum - ولفظ المتحف بالأجنبية نسبة إلى «موزايوس»؛ أي ربات الفن. وأقيم في المتحف تمثال لأرسطو، يقول ثاوفراسطس إنه تمثال نصفي، وقد أوصى أن يوضع في المعبد.
Bilinmeyen sayfa
ولما كان أرسطو أجنبيا عن أثينا، ولم يكن له حق امتلاك الأرض كما ذكرنا، فقد وهب ديمتريوس الفاليري - تلميذ ثاوفراسطس - الأرض وما عليها من أبنية لثاوفراسطس. وفي وصية ثاوفراسطس التي حفظها لنا التاريخ يقول: «البستان، والممشى
، والمساكن الملحقة بالبستان، أهبها كلها لأصدقائنا الذين يرغبون في بحث الأدب والفلسفة بحثا مشتركا، ما دام ليس من الميسور لكل الناس أن يكونوا مقيمين إقامة دائمة، بشرط ألا يفسد أحد الأبنية أو يقصرها على استعماله الخاص. ولكن الشرط أن يملكوا المدرسة، وكأنها معبد من الأملاك العامة، وأن يعيشوا معا معيشة لائقة على أساس من الصحبة والصداقة.»
وتدل هذه الوصية على أن روح أرسطو التي زرعها في تلاميذه، كانت لا تزال ترفرف عليهم. وقد وضع لهم أرسطو دستورا للمدرسة يتبعونه في الطعام والشراب والنوم. ومن دستور المدرسة أن يجتمعوا مرة كل شهر حول مائدة للطعام أو الشراب، على طريقة مأدبة أفلاطون ؛ رمزا للمعيشة المشتركة. وفي وصية ستراتون الرئيس الذي تولى بعد ثاوفراسطس رئاسة المدرسة ، نجد قائمة بالأدوات التي وهبها للرئيس الذي عهد إليه بالمدرسة من بعده، وهذه الأدوات هي الملاءات الخاصة بالولائم، وكئوس الشراب، وجميع الأثاث الموجود في صالة الطعام. ويبدو أن هذه الأدوات استمرت تستكمل على مر الزمن، حتى إن المدرسة تحت رئاسة ليقون الذي تولى بعد ستراتون وجهت إليها كثير من الشكوى؛ لأن الطلبة الفقراء لا يستطيعون المشاركة في المآدب بسبب ما فيها من ترف شديد. مهما يكن من شيء، فإن أرسطو كان قد وضع دستورا للشراب وللمآدب، كما كانت الحال في الأكاديمية، وفي معظم المدارس الفلسفية التي وجدت في ذلك الحين.
ولسنا ندري شيئا عن الرسوم الدراسية، ولكن يبدو أنها كانت بحسب مقدرة كل طالب، ولعل الفقراء لم يكونوا يدفعون شيئا. ولذلك كانت المدرسة تعيش على هبات الأغنياء من جهة، وعلى ما يدفعه الطلبة القادرون من جهة ثانية.
ولسنا ندري عدد التلاميذ الذين كانوا يحضرون دروس أرسطو، ولكن يبدو أنهم كانوا عددا وفيرا؛ فقد حدثنا ديوجينيس اللايرسي في كتابه «سيرة الفلاسفة» عند الكلام عن ثاوفراسطس، أن 2000 طالب اعتادوا حضور دروسه. ولو أننا نشك في هذا العدد، فإذا كان ثاوفراسطس وهو تلميذ أرسطو وأقل منه شهرة حظي بهذا العدد من التلاميذ، فلا بد أن عدد تلاميذ أرسطو كان أكثر. ولم يبين ديوجينيس عددهم، ولكنه قال إنهم كثير، أبرزهم ثاوفراسطس. ولا بد أن هذا العدد الكبير هو الذي كان يحضر الدروس المسائية، أما الدروس الصباحية، أو السماعية، فلم يكن العدد يتجاوز بضعة عشر تلميذا.
فما هي الدروس التي كان أرسطو يلقيها عليهم؟
يختلف أرسطو عن أستاذه أفلاطون مزاجا ومنهاجا وفلسفة؛ صاحب الأكاديمية كان يرى أن الفلسفة شيء يدرك بالحدس، والرؤية الباطنة، واتصال النفس بالحقائق الأزلية، ولذلك عرف الفلسفة بأنها «رؤية» الحق، وجدير بمن يبلغ الحق عن هذا الطريق، أن يحتفظ به سرا من أسرار النفس؛ إذ يصعب التعبير عن الحق باللفظ واللغة. ولذلك حذر أفلاطون في أكثر من موضع من محاوراته الناس أن «يدونوا» الفلسفة؛ لأنها تدرك وتحس فقط. وقد ذكرنا قبلا أن محاورات أفلاطون لم يودعها فلسفته التي كان يدرسها في الأكاديمية، وإنما عرفنا تلك الدروس مما ذكره بعض تلاميذه، ونقلوه عنه، وعلى رأسهم أرسطو.
كان ذلك رأي أفلاطون: إن الفلسفة حوار يدور بين عقلين، أو «جدل» يصعد في باطن النفس إلى آفاق المثل الخالدة، ويهبط من سماء المثل إلى عالم المحسوسات والتغير. ولكن أرسطو كان له في الفلسفة رأي آخر؛ فهي البحث عن العلل الأولى والغايات الأخيرة، وهي ضرب من البحث المنظم الذي يعتمد على منهج آخر خلاف الحوار وخلاف الجدل، ذلك المنهج هو «المنطق» الذي ابتكره أرسطو حتى اشتهر به، ولقبه المتأخرون وبخاصة العرب: «صاحب المنطق».
ولم يكن أرسطو يذهب إلى القول بعدم تدوين الفلسفة؛ لأن وجهة نظره نحو تفسير الموجودات تختلف عن وجهة نظر أفلاطون. فالفلسفة عند أرسطو هي «العلم بالموجود من حيث هو موجود»، أي إنه يقر ويعترف بالموجود المحسوس. وما دام الأمر كذلك، فالمحسوس مركب بلا نزاع من «مادة»، أو بالاصطلاح اليوناني الذي دخل لغة العرب من «هيولى». أما أفلاطون فقد ضرب عن المادة صفحا، وفسرها تفسيرا رياضيا، وزعم أن «المثل» هي أصل الموجودات المحسوسة.
من هنا كان اتجاه أرسطو طبيعيا، وكان اتجاه أفلاطون رياضيا. ولعل هذا الخلاف في الاتجاه كان من جملة الأسباب التي دعت أرسطو أن يهجر الأكاديمية، وأن يفتتح مدرسة جديدة. والفلسفة الطبيعية تبحث في أمور غير تلك التي تبحث فيها الفلسفة الرياضية، فضلا عن اختلاف المنهجين، واختلاف الأسلوبين، واختلاف النزعتين.
Bilinmeyen sayfa
وقد خلف لنا أرسطو مؤلفات في جميع المعارف، ابتداء من المنطق بأجزائه، والطبيعة، وعلوم الحياة، إلى الميتافيزيقا والأخلاق والسياسة. وكانت تلك المؤلفات متداولة في داخل المدرسة حوالي ثلاثة قرون من الزمان، إلى أن رتبها أندرونيقوس الرودسي في القرن الأول قبل الميلاد هذا الترتيب المعروف حتى اليوم، واكتسبت هذه المؤلفات أسماء لم تكن لها زمان أرسطو.
مثال ذلك أن كتاب «الميتافيزيقا» لم يؤلفه أرسطو بهذا الاسم، بل الفن الذي يبحث فيه هو إما الفلسفة الأولى، وإما الإلهيات. أما «الميتافيزيقا» فهو اسم وضعه أندرونيقوس للدلالة على ترتيب الكتب التي جاءت «بعد» الكتب الطبيعية؛ لأن «ميتا» باليونانية تدل على «بعد»، ولذلك قال العرب في ترجمتهم لهذا الكتاب إنه كتاب «ما بعد الطبيعة». وحقيقة أمره أنه ليس كتابا واحدا، بل أربعة عشر كتابا مرتبة على حسب الحروف الأبجدية اليونانية.
والمنطق الذي تركه لنا أرسطو يتألف من ستة كتب أساسية؛ هي (1) المقولات. (2) العبارة. (3) القياس. (4) البرهان. (5) الجدل. (6) السفسطة. وقد أضاف العرب فيما بعد إلى هذه الكتب الستة ثلاثة أخرى؛ مدخلا يسمى «إيساغوجي»؛ أي المدخل إلى المقولات، وهو من عمل فرفريوس الصوري، ثم الخطابة والشعر. والشعر بوجه خاص كتاب فني يبحث في الفن والجمال، ولا صلة له بالمنطق، ولكن العرب متأثرون ببعض شراح أرسطو جعلوه ضربا من القياس. ولم يكن أرسطو يعرف مصطلح «المنطق»، فهذا المصطلح من وضع شيشرون في عصر متأخر، ولكنه كان يعني - بما نقول عنه «المنطق» - «التحليلات». وصناعة التحليل عنده تمر في مرحلتين أولى وثانية؛ فالأولى هي القياس، والثانية هي البرهان. والمقصد من «المنطق» هو البرهان الذي يؤدي إلى معرفة اليقين في الأمور العلمية؛ لأنه يعتمد على مقدمات أولى يقينية. و«المنطق» عند أرسطو، وعند المشائين بوجه عام، هو أداة التفكير، هو «الأرجانون»؛ أي الآلة التي إذا أحسن المرء استخدامها توصل إلى التفكير الصحيح.
وهكذا نرى أن البرهان منهج ضروري للبحث في الطبيعيات، وقد كان أرسطو مبتكرا إلى حد ما لهذا المنهج الذي استخدمه منذ كان في أسوس وميتلين. وعندما افتتح «اللوقيون»، وكان يتتبع الظواهر الطبيعية للوصول منها إلى القواعد الكلية السارية في العالم الطبيعي. وله من الكتب في هذه الموضوعات كتاب الطبيعة، والسماء، والكون والفساد، والآثار العلوية، ثم الكتب النفسية وعلى رأسها كتاب النفس، والطبيعيات الصغرى التي تشمل الحس والمحسوس، والذكر والتذكر، والنوم والأرق، وغير ذلك. ثم الكتب التي تبحث في علم الحيوان، وقد اقتبس الجاحظ في الحيوان كثيرا من آراء أرسطو، وذكره في أكثر من موضع.
وها هنا يمكن تقدير قيمة المساعدة التي أمر بها الإسكندر المقدوني، حين طلب من الصيادين في الجو والبر والبحر أن يقدموا نماذج مما يصيدون لأرسطو، أو على أقل تقدير أن يصفوا له ما لا يتيسر لهم تقديمه من أصناف الحيوان. وهذا المنهج الذي يعتمد على وصف النماذج المختلفة يسميه أرسطو «التاريخ الطبيعي»، وفيما يختص بالحيوان يسميه «تاريخ الحيوان»؛ يقصد بذلك تسجيل أصنافه المتعددة. ولم يتبع أرسطو هذه الطريقة فيما يختص بالبحث الطبيعي فقط، بل كذلك عندما بحث الدساتير ونظم الدولة. إنه يقيم نظريته السياسية بعد التقصي والاستقراء.
لم يكن أرسطو صاحب المنطق فقط، بل يمكن القول إنه صاحب كل علم، وواضع أسس معظم فروع العلوم الطبيعية؛ فهو صاحب الحيوان، وهو صاحب النفس، الذي ظل كتابه في علم النفس عمدة لهذا العلم عشرين قرنا من الزمان. وقد استمرت نظرية العناصر الأربعة حتى القرن الثامن عشر هي النظرية السائدة في العلوم الطبيعية. وهكذا نجد أن فلاسفة العصر الوسيط سموه بحق «المعلم الأول». واستمرت كتبه هي العمدة التي يعول عليها، والأصل الذي يعد أقصى ما يتمناه المرء أن يقوم بشرحها؛ ولذلك قامت المشائية كمدرسة على كتب «المعلم الأول» وشروحها. واشتهر الشراح في هذه المدرسة شهرة مؤسسها، ولا يمكن الفصل في هذه المدرسة بين «المعلم الأول» وبين شراحه. وكيف يمكن هذا الفصل، ولم تظهر كتبه إلا بعد ثلاثة قرون من الزمان، ولم يكن ترتيبها على هذا النحو الموجود بين أيدينا؟ ويبدو أن كثيرا من هذه الكتب من عمل المدرسة لا من عمل أرسطو وحده.
ولما توفي أرسطو، تولى رئاسة المدرسة ثاوفراسطس ثمانية وثلاثين عاما (323-286ق.م)، ويعد المؤسس الثاني لمدرسة «اللوقيون»، بخاصة أن أرسطو لم يستمر في المدرسة إلا ثلاثة عشر عاما. وفد إلى أثينا من جزيرة لسبوس، وحضر على أفلاطون في الأكاديمية، وعرف أرسطو في ذلك الحين، وتوطدت الصداقة بينهما. ولما هجر أرسطو أثينا قبل وفاته بعام، عهد برئاستها إلى ثاوفراسطس، ووهب له في وصيته المكتبة والمذكرات التي كان يلقي منها محاضراته، والتي نشرت فيما بعد على أنها مؤلفات «المعلم الأول».
وقد ذكرنا من قبل أن عدد الذين كانوا يحضرون دروسه بلغ الألفين ، ولعل هذا العدد كان يحضر دروس الخطابة والأخلاق وما أشبه. والأشبه أن الرقم مبالغ فيه. وقد تابع ثاوفراسطس جهود أرسطو في تأسيس المدرسة واستكمالها؛ فوسع الحديقة، ونظم الأوقات والمناهج للتدريس. واشتهر بكتابه في النبات، وله في هذا الفن كتابان في الواقع هما تاريخ النبات، وعلل النبات، ظلا عمدة هذا العلم في الزمن القديم والعصر الوسيط. والعرب يعرفون ثاوفراسطس ويبجلونه، وترجموا كتبه. وجاء في وصيته ما فحواه أن المال الذي أودعه عند هيبارخوس ينفق منه أولا على إتمام تجديد بناء المتحف، وما فيه من تماثيل الآلهة. وثانيا أن يوضع في المعبد تمثال أرسطو كما كان من قبل. وثالثا تجديد بناء الرواق المجاور للمتحف، بشرط أن يكون جميلا كما كان، وأن يوضع في الرواق السفلي المناضد وعليها خرائط البلاد التي اجتازها الرواد المستكشفون. وأيضا يجب إصلاح المذبح وتجميله. إلى قوله: وإني أوصي بإتمام تمثال نيقوماخوس في الحجم الطبيعي، وقد دفعت الأجر المتفق عليه للمثال براكستيلس ... وإني أوصي أن تتألف هيئة المدرسة من هيبارخوس، ونيلوس، وسطراطون، وقالينوس، وديموتيموس، وديمارتوس، وقالستينمس، وميلانتيس، وبانقريون، ونيقيبوس.
والوصية طويلة لم نذكر إلا بعضها؛ لنبين كيف كان رئيس «اللوقيون» يفكر في مصلحة المدرسة حيا وميتا، وكيف كان يعنى بتجميلها، كما وضح لنا عدد الخلفاء البارزين الذين كانوا يديرون أمور المدرسة. وهذه الهيئة أشبه شيء بمجلس إدارة للنظر في جميع شئون المدرسة، ويعد رئيس المدرسة رئيس مجلس الإدارة.
تولى المدرسة أسطراطون من 286 إلى 268ق.م، وقد اشتهر باسم أسطراطون الطبيعي؛ بسبب انقطاعه لبحث الطبيعة. وقد علم بطليموس فيلاديلفوس الذي نفحه مبلغا عظيما من المال يضاهي ما أعطاه الإسكندر لأرسطو. وله مؤلفات كثيرة ذكر ديوجينيس أسماءها، كما أثبت وصيته التي جاء فيها أنه يعهد برئاسة المدرسة إلى «ليقون»؛ لأن الآخرين أصبحوا إما طاعنين في السن، وإما في غاية الانشغال. ويبدو من النظر في وصية رؤساء المدرسة أن الرئاسة كانت في بعض الأحيان بالنص والتعيين، كالحال في تولية «ليقون»، وفي بعض الأحيان الأخرى بالانتخاب من جماعة الفلاسفة الذين يديرون أمور المدرسة، ويعيشون معا معيشة مشتركة.
Bilinmeyen sayfa
واستمر «ليقون» حوالي نصف قرن رئيسا للمدرسة، من 268 إلى 225ق.م، ولم يؤثر عنه الاشتغال بالعلم الطبيعي، بل اتجه إلى الأخلاق والسياسة والبلاغة. ومنذ ذلك الوقت، بدأت مدرسة الإسكندرية تنتزع الراية من المدارس الأثينية التي لم يعرف عنها تجديد أو ابتكار.
ثم توالى الرؤساء على المدرسة، ويهمنا أن نتحدث قليلا عن الرئيس الحادي عشر، وهو أندرونيقوس الرودسي. وكانت مدته من 78 إلى 47 قبل الميلاد. وترجع أهميته إلى أنه هو المسئول عن ترتيب كتب أرسطو على النحو الموجود بين أيدينا الآن، أو أنه هو الذي أعد كتب أرسطو للنشر على هذا النحو. ولسنا نقصد بالنشر أنه طبعها؛ فلم تكن المطبعة قد اخترعت بعد، وإنما كانت الكتب تنسخ على لفائف من أوراق البردي أو رقائق الجلد. ويكفي أن تتصور «المكتبة» الملحقة بالمدرسة، والأبنية التي تتسع لمثل هذه الكتب الضخمة. وقد احتذت برجامون والإسكندرية في إنشاء مكتباتها حذو مكتبة أرسطو.
ولعلنا نترك حديث المدرسة بعض الوقت؛ لنتحدث عن قصة كتب أرسطو، تلك القصة التي تشبه الأسطورة؛ ذلك أن ثاوفراسطس حين حضرته الوفاة، أوصى بمكتبته إلى زميله وصاحبه نيلوس، وكان في تلك المكتبة الخاصة مؤلفات أرسطو. ولما كان نيلوس مواطنا من طروادة بآسيا الصغرى، فقد حمل الكتب معه هناك، حيث أنشأ حلقة أفلاطونية (وكان نيلوس يدرس بالأكاديمية مع ثاوفراسطس وأرسطو). وحين أراد حكام برجامون إنشاء مكتبة تنافس مكتبة الإسكندرية، خشي ورثة نيلوس أن يستولى على مكتبتهم، فأسرعوا بإخفائها في كهف، وظلت حبيسة المغارة قرنا ونصف قرن، إلى أن سمع بخبرها أبيليقون الضابط المرتزق في جيش ميثريادس، وكان جماعا للكتب، فاشتراها بثمن بخس. وكانت الرطوبة قد محت كثيرا من الكتابات الموجودة باللفائف، ولم يستطع أبيليقون أن يرتب هذه المؤلفات، وأن يصدر منها نشرة صحيحة. وأرسلت الكتب إلى روما، حيث أراد تيرانيون النحوي أمين مكتبة شيشرون أن يرتب الكتب، ولم يفلح. أما النشرة الصحيحة، فهي تلك التي أشرنا إليها من عمل أندرونيقوس الرودسي. ويعد عمله في هذا الترتيب والنشر شرحا لمؤلفات أرسطو؛ فهو أول شارح .
احتاج أرسطو إلى شراح؛ لأن العهد كان قد بعد بين تعليمه في القرن الرابع قبل الميلاد، وبين العصور الجديدة بعد ثلاثة قرون؛ أي منذ القرن الأول قبل الميلاد. وكانت فلسفات جديدة قد ظهرت إلى الوجود، وأصبحت هي السائدة؛ كالرواقية، والإبيقورية، والإسكندرانية، ثم الأفلاطونية المحدثة. ولما تدهورت مباحث الفلسفة، أخذ المشتغلون بها من المتأخرين يخلطون بين هذه الفلسفات كلها، على الرغم من أن الأسس التي تقوم كل منها عليها مختلفة. هذا إلى أن أوائل الخلفاء على مدرسة أرسطو لقرب عهدهم منه، كانوا يحسنون فهم كتبه واتجاهاته، فلما انقضى ذلك الرعيل الأول، خلف من بعدهم خلف أصبحت هذه المؤلفات بالنسبة إليهم أشبه بالطلاسم التي تحتاج إلى تفسير أو إلى شرح. ومن هنا ظهرت الحاجة إلى الشراح.
والشراح للمشائية كثيرون، وصلت بعض كتبهم إلى العرب الذين كانوا على معرفة وثيقة بهم، ولكن أشهر الشراح بإطلاق بالنسبة إلى العالم العربي الإسكندر الأفروديسي في القرن الثالث بعد الميلاد، وثامسطيوس في الرابع بعد الميلاد، وسمبلقيوس في القرن السادس بعد الميلاد. وقد اتصل العرب بهذه الحركة؛ فكان ابن رشد من أكبر شراح أرسطو، لا تقل منزلته عن الإسكندر الأفروديسي أو ثامسطيوس. وقد نقلت شروح ابن رشد إلى اللغة اللاتينية، وعرفت أوروبا أرسطو والمشائية عن طريق ابن رشد.
ولا تزال مدرسة أرسطو على الرغم من أنها أغلقت نهائيا أبوابها في أثينا عندما طرد الإمبراطور جستنيان الفلاسفة سنة 529 حية حتى اليوم، ونقلت أفكارها إلى جميع اللغات، ولا يزال منطق أرسطو مستخدما، ولا تزال اتجاهاته الفلسفية الرئيسة باقية، وعلى رأسها أن الفلسفة هي العلم بالموجود، أو هي العلم بالعلل الأولى والغايات الأخيرة. وبقيت الأرسطية ولا تزال عنوانا على تفسير الموجودات بالهيولى والصورة، أي بمبدأين لا بمبدأ واحد. والقول بالقوة والفعل باعتبار أن القوة تقابل المادة، والفعل يقابل الصورة، وعلى القول بنظرية الوسط في الأخلاق.
الرواق والحديقة
كانت المدارس الفلسفية في اليونان كثيرة، أشرنا إلى أبرزها وأهمها وأعظمها أثرا في تاريخ الفكر البشري. وورد في أثناء ذلك ذكر بعض المدارس التي لم تلبث أن انقرضت بموت أصحابها. وفي أواخر القرن الرابع وأوائل الثالث قبل الميلاد، ظهرت أربع مدارس؛ هي الكلبية والشكاك والرواقية والإبيقورية، وأشهرها الرواقية والإبيقورية. فالرواقية نسبة إلى مكان التعليم في الرواق، والإبيقورية نسبة إلى صاحبها إبيقور، الذي كان يعلم في الحديقة.
وعلى الرغم من زوال المدرستين منذ القرن الأول للميلاد تقريبا، إلا أن روح الرواقية لا تزال سارية حتى اليوم، على حين اكتسبت الإبيقورية معنى منحرفا، وأصبح الشخص الذي يوصف بأنه إبيقوري إنما يدل ذلك على انهماكه في الشهوات وإسرافه في الملذات.
نبدأ بالحديث عن الرواقية فنقول: إن الذي أسس هذه المدرسة هو زينون الرواقي، أصله من مدينة أكتيوم بجزيرة قبرص، وهي مدينة يونانية استقر بها مهاجرون من فينيقيا التي تقع على الشاطئ المقابل للجزيرة. ويروى أنه خرج في تجارة فغرقت السفينة على مقربة من بيرايوس ميناء أثينا، فلما نجا توجه إلى أثينا، واستقر بها، ودرس فيها، وكان فيما يقال في الثلاثين من عمره. فلما استقر به المقام، اشترى من وراق كتاب زينوفون عن سقراط، وهو المذكرات المشهورة، فأعجب به وسأل: أين يوجد رجل مثل سقراط؟ فأشار عليه الوراق باتباع أقراطيس الكلبي. وتنقل زينون عشرين عاما بين المدارس الفلسفية في أثينا، ثم أخذ يعلم الفلسفة في رواق مشهور بأثينا كان محلى بنقوش بوليجبنوتس أشهر الرسامين اليونانيين في القرن الخامس قبل الميلاد. وكان ذلك الرواق فيما مضى منتدى للأدباء والشعراء يلتقون فيه، وكان إلى ذلك مباحا لكل طارق، فلما اتخذه زينون مكانا للتعليم، سمي وأتباعه بالرواقيين.
Bilinmeyen sayfa
الواقع كانت طريقة التعليم في اليونان، كما ذكرنا، تتم بين المعلم وتلاميذه؛ إما في رواق، وإما على ممشى بين الأشجار؛ أي في حديقة. فالأكاديمية - وهي التي سماها العرب أقاذيميا - كانت في الأصل حديقة سميت باسم البطل أكاديموس. وكان كبار السفسطائيين الذين علموا في بيوت أشراف أثينا يلقون دروسهم وهم يمشون في الرواق. ذلك أن القصور كانت تبنى بحيث يفسح فيها مكان لأروقة تقام على أعمدة تلقي ظلا يخفف من حرارة الجو. ولكن بعض المدارس اشتهرت تاريخيا بنسبتها إلى خاصية معينة؛ مثل مدرسة المشائين، وحديقة إبيقور، ورواق الرواقية.
والرواقية مذهب تغير على مر الزمن؛ فهي على يد مؤسسها زينون خلافها على يد أبكتيتوس أو مرقص أوريليوس مثلا. ولكنها على الرغم من تطورها، وعلى الرغم من هجرها لاتجاهات مادية أو طبيعية، فقد بقي لها طابع عام لا يزال حتى اليوم يميزها عن أي مدرسة فلسفية أخرى. والرواقي صفة تطلق - وبخاصة في اللغات الأوروبية - على الشخص الذي يمتاز بثلاثة أمور كلها أخلاقية؛ هي التحرر من الأهواء، وعدم الخضوع للأفراح والأحزان، والاستسلام لقانون القضاء. فإذا تيسر لأحد أن يملك زمام نفسه على هذا النحو؛ فهو الحكيم الرواقي. ويمكن القول بعبارة أخرى، إن الحكيم الرواقي هو الذي يصبر على أحداث الزمان، ويرضى بما يجري عليه ولا حيلة له فيه من العطاء أو الحرمان، وهذا شيء ليس من اليسير أن يتقبله كل إنسان.
والرواقية مدرسة عجيبة ظهرت في بلاد اليونان، ولكن مؤسسها غير يوناني، وجمعت بين السيد والعبد على صعيد واحد، ولم تميز بين شرقي ولا غربي، ولم تستقر في مكان واحد أو داخل جدران مدرسة واحدة، ومع ذلك انتشرت تعاليمها، ولا تزال سارية حتى الآن. وتطورت آراؤها على مر العصور، ولكنها احتفظت بطابع أخلاقي يميزها عما عداها.
استمرت رسميا خمسة قرون، من الثالث قبل الميلاد، إلى الثاني بعد الميلاد. أول ممثليها زينون، وآخرهم مرقص أوريليوس المتوفى 180ب.م. وتقسم المدرسة عادة إلى قديمة ووسطى وحديثة؛ فالقديمة في أثينا، ويمثلها زينون وكليانتس وكريسبوس. ووسطى يمثلها بناثيوس وبوزيدونيوس، وحديثة في روما يمثلها سينيكا وأبيكتيتوس ومرقص أوريليوس. ثم تسربت آراؤها إلى المسيحية واستمرت في التراث الغربي حتى الوقت الحاضر. وقد كان لها أثر كبير على الحكام والملوك الذين اعتنقوا هذه الفلسفة، حتى قيل إن معظم الملوك بعد الإسكندر المقدوني كانوا من أتباع الرواقية.
وتقوم الرواقية على مبدأين أساسيين مع التوفيق بينهما؛ وهما الحتمية الكونية والحرية الإنسانية . والأول منهما خاص بالطبيعة، والثاني بالإنسان؛ ذلك أن حوادث الكون محكومة بقوانين صارمة، وليس ثمة في نظر الرواقيين صدفة أو اتفاق. وعندهم أن كل شيء في هذا العالم مسوق نحو غاية ومدبر لخدمة الإنسان، وهذه هي نظرية العناية الإلهية. وعلى الإنسان أن يسعى بإرادته، ومحض حريته واختياره إلى أن يتوافق مع القوانين العامة للطبيعة. فالفضيلة إذن تقوم في حرية الإرادة الموافقة للطبيعة. وما دام الأمر كذلك، فلا بد أن يكون الحكيم الرواقي سيد نفسه، لا يهمه فقر أو غنى، ولا تصده أي قوة خارجية عن الفضيلة.
ولما كانت آراء هذه المدرسة غير منفصلة عن حياة أصحابها، فلنشرع في الحديث عن أبرزهم، مبتدئين بمؤسسها.
ذكرنا أن زينون الرواقي - وهو خلاف زينون الإيلي تلميذ بارمنيدس - من أصل فينيقي. ولد في قبرص بمدينة أكتيوم، وازدهر في أوائل القرن الثالث من قبل الميلاد. وكان أبوه تاجرا، فاشتغل زينون في صباه بالتجارة، وركب البحر متجها إلى بلاد اليونان يبيع شحنة من الأرجوان، غير أن السفينة تحطمت، فذهب إلى أثينا، وأخذ يدرس الفلسفة. ويحكى في سبب ذلك أنه اختلف إلى دكان وراق (أي صاحب مكتبة)، وقرأ عنده مذكرات زينوفون التي روى فيها أحاديث سقراط، فأعجب بالمحاورات إعجابا شديدا وسأل أين يمكن أن يجد شخصا مثل سقراط. ولقد ظلت شخصية سقراط المثل الأعلى للرواقية في شتى عصورها؛ إذ أعجب الرواقيون بموقفه في المحاكمة، ورفضه الهرب من السجن، وهدوئه في مواجهة الموت، وعلى الجملة سيرته الأخلاقية الفاضلة. كما أعجب الرواقيون كذلك ببساطة سقراط في الطعام والشراب والملبس، وعدم مبالاته بالحر أو البرد، وعزوفه عن الرفاهية والترف؛ من أجل ذلك اقترنت الرواقية بالزهد والأخلاق الفاضلة.
عاش زينون حتى بلغ التسعين، وظفر بشهرة واسعة، وكان له تلاميذ كثيرون في المدرسة التي خلفه على رئاستها كليانتس. اشتهر بأمرين؛ الأول: التمسك بأن الأرض مركز الكون؛ ولذلك يجب الحكم على أرسطارخوس بالإعدام لإلحاده بسبب قوله إن الشمس مركز الكون لا الأرض. والثاني: قصيدته التي نظمها في تقديس زيوس.
غير أن خليفته في المدرسة وهو كريسيبوس (280-207ق.م.) هو الذي يعزى إليه تثبيت دعائم المدرسة، وتنظيم المذهب، والعناية بالمنطق ونظرية المعرفة. وكان زينون يقول إن الفلسفة بستان والمنطق سوره، والطبيعة شجره، والأخلاق ثمره؛ وبذلك جعل الأخلاق لب الفلسفة، والمباحث النظرية من طبيعة ومنطق تابعة لها. ولكن يبدو أن كريسبوس أفرد للدراسة النظرية مكانا أوسع، وبخاصة المنطق، الذي أضحى جزءا من الفلسفة، لا كما ذهب أرسطو آلة لتحصيلها فقط. ومن أقواله في الأخلاق إن الرجل الفاضل سعيد دائما، والشرير شقي أبدا، وإن النفس تبقى بعد فناء البدن إلى أن يحين الاحتراق العام.
ثم انتقلت الرواقية إلى روما غربا، مع ظهور الإمبراطورية الرومانية. وتعدل المذهب أولا على يد بناثيوس (توفي 110ق.م)، الذي أدخل في الرواقية عناصر أفلاطونية، وهجر مادية المدرسة القديمة، وكان صديقا لشيبيو. كما أثر في شيشرون صاحب الفضل في نشر الرواقية بين الرومان. وقد تعلم بوزيدونيوس من بناتيوس وخلفه. وبوزيدونيوس إغريقي من سوريا، شهد في صباه نهاية الدولة السلوقية في سوريا، ودفعه ما رآه من فوضى إلى الهجرة غربا، فذهب أولا إلى أثينا، حيث رضع لبان الرواقية في ظل الرواق. غرب إلى أقصى غرب الإمبراطورية الرومانية في شمال أفريقيا وإسبانيا وفرنسا. وقد تعلم شيشرون على بوزيدونيوس في رودس وعنه أخذ هذا المذهب. وقد اتجه وجهة رياضية موفقا بين تعاليم أفلاطون الأصلية - لا تعاليم الأكاديمية التي اصطنعت مذهب الشك - وبين الأخلاق الرواقية.
Bilinmeyen sayfa
ذكرنا أن الرواقية في عصرها المتأخر اشتهرت برجال ثلاثة، على رأسهم سنيكا (من 3ق.م. إلى 65ب.م)، أصله إسباني، عاش أبوه في روما، تثقف ثقافة سياسية هيأته للاشتغال بالسياسة، فأصبح وزيرا للإمبراطور كلاوديوس، الذي نفاه إلى كورسيكا بسبب عداوته لزوجته مسالينا، ثم استدعته أجريبا زوجة الإمبراطور الثانية، وعينته معلما لابنها البالغ من العمر إحدى عشرة سنة. وهذا الصبي هو الذي أصبح فيما بعد الإمبراطور نيرون. وهكذا كان سنيكا معلم الإمبراطور، كما كان أرسطو معلم الإسكندر، ولكن شتان بين التلميذين، وبين المعلمين. وقد لقي سنيكا من تلميذه جزاء سنمار؛ إذ غضب نيرون عليه عقب اتهامه بالتآمر على حياته، ومحاولة تنصيب إمبراطور آخر على العرش. وقد سمح له أن ينفذ حكم الإعدام على الطريقة الرومانية بأن ينتحر، فاختار أن يقطع شريانه. ومع أنه كان يزدري المال، إلا أنه جمع ثروة كبيرة، قيل إنها بلغت مليونا من الجنيهات.
أما أبكتيتوس (60-100 بعد الميلاد) فكان عبدا إغريقيا، حرره نيرون واتخذه وزيرا. عاش في روما وعلم بها حتى سنة 90، إلى أن نفاه الإمبراطور دومتيان - ولم يكن يحب أرباب الفكر والنظر - مع من نفاهم من الفلاسفة. وذهب أبكتيتوس إلى نيقوبوليس في أبيروس، حيث أخذ يعلم ويؤلف.
أما الإمبراطور مرقص أوريليوس (121-180) فقد عاش حياة رواقية فاضلة. تميز عصره بوقوع كوارث عديدة؛ من زلازل، وأوبئة، وحروب طويلة دامية. وكان ابنه الإمبراطور كومودس من أسوأ الأباطرة سيرة، ولكنه أخفى نواياه الشريرة عن أبيه مدة حياته. وقد اشتهر مرقص أوريليوس بكتابه الذي نشر بعد وفاته، وهو «التأملات». وهو عبارة عن خواطر كان يدونها لنفسه، ولم يكن يعدها للنشر. وقد اتهمت زوجته «فاوستينا» بفساد السيرة، ولكن زوجها لم يشك في شرفها. وقد اضطهد أوريليوس المسيحيين لخروجهم على دين الدولة الذي كان يعتبره ضرورة سياسية. وعلى الجملة عاش مرقص أوريليوس حسن السيرة نقي السريرة.
كانت فلسفة أبكتيتوس ومرقص أوريليوس ملائمة للعصر الذي عاشا فيه، ذلك العصر الذي تميز بالقلاقل والاضطرابات والكوارث، ولم يكن ثمة أمل في تحسين تلك الأحوال التي سارت من سيئ إلى أسوأ، حتى انتهى الأمر بسقوط الإمبراطورية الرومانية؛ من أجل ذلك كانت الأخلاق الرواقية التي بشرا بها وسارا عليها أفضل أخلاق ملائمة لذلك الصبر؛ إذ كانت تدعو إلى الصبر على الأذى، واحتمال المصائب، والرضا بالقضاء، أكثر منها رسالة أمل ورجاء.
وفلسفتهما متشابهة إلى حد كبير. ومن أقوال أبكتيتوس: إننا نعيش مساجين على الأرض، وفي بدن أرضي. ومن أقوال مرقص أوريليوس: ما أنت أيها الإنسان سوى روح ضئيلة تحمل على كاهلها جثة. •••
وقد أصبحت حديقة إبيقور عنوانا على البحث الفلسفي في الأخلاق واعتمادها على اللذة، وعلى الصحبة الفلسفية لتبادل الآراء. وقد شاع عن إبيقور أن مذهبه هو الإقبال على اللذة، والحق أن أحدا لم يظلم مثلما ظلم إبيقور، إن في سيرته أو في مذهبه. وقد أشاع عنه خصومه الشائعات وألصقوا به التهم جزافا. وأكبر الظن أن خصومه في الفكر هم الرواقيون أصحاب الرواق، والذين كانت مدرستهم تنافس حديقته. قيل مثلا إن أمه كانت كاهنة مشعوذة، وكان يطوف معها من دار إلى أخرى يرتلان الأدعية الدينية. كما كان يساعد أباه في مهنة تعليم الصبيان لقاء أجر ضئيل. ولو صحت الرواية السابقة عن أمه، فيكون في ذلك السر في كراهية إبيبقور فيما بعد للخرافات الدينية التي تميزت بها تعاليمه.
أبوه أثيني استقر في ساموس، وهناك أنجب ابنه إبيقور سنة 342ق.م، وفيها أمضى الصبي حداثته، وشرع يدرس الفلسفة وهو في الرابعة عشر من عمره. وفي الثامنة عشر ذهب إلى أثينا يبغي أن يكون مواطنا أثينيا، ولكن في ذلك الوقت طرد المستعمرون في ساموس، فلجأ مع أسرته إلى آسيا الصغرى. وقد تعلم إبيقور المذهب الذري على يد ناوزيفانس أحد أتباع ديمقريطس.
بدأ يفتتح مدرسة فلسفية سنة 311 في ميتلين، ثم في لامباسكوس.
وفي سنة 307 افتتح مدرسته في أثينا، وظل يعلم بها إلى أن توفي سنة 270، فكانت بذلك رابع مدرسة كبرى في أثينا بعد الأكاديمية و«اللوقيون» والرواق. وتعد حديقة إبيقور مدرسة منظمة كالثلاث الأخرى، وهذا سر بقائها حتى نهاية القرن الأول قبل الميلاد؛ إذ تعلقت بمكان ثابت، وكان لها رؤساء تولوا إدارتها بعد موت صاحبها، وهذا على عكس المدرستين اللتين أشرنا إليهما في بداية هذا الفصل؛ وهما مدرسة الكلبيين ومدرسة الشكاك.
اشترى إبيقور في أثينا بيتا وحديقة هي التي كان يقوم بالتدريس فيها، ومنذ ذلك الوقت أصبحت حياته هادئة لا يعكر صفوها سوى اعتلال صحته.
Bilinmeyen sayfa