أخذ طب اليونان عن مدرستين؛ مدرسة أبقراط الذي توفي في القرن الثالث قبل الميلاد، ومدرسة جالينوس (توفي 200 بعد الميلاد). وأصل جالينوس من برجام بآسيا الصغرى، ولكنه عاش معظم حياته في روما، ولا بد أنه اتصل بالإسكندرية وأطبائها. واعتمدت مدرسة الإسكندرية على كتبه، واختاروا منها ستة عشر كتابا لا بد لطالب الطب من حفظها، وعليها اعتمدت مدرسة «جنديسابور» الطبية، ونقلتها إلى السريانية، وعن هذه الكتب المترجمة إلى السريانية نقلت إلى اللغة العربية في عصر الترجمة. ومن أطباء الإسكندرية الذين تابعوا جالينوس؛ أوريباسيوس، وإيتيوس، وأهرن، الذي يسميه العرب أهرن القس، وهو طبيب وكاهن يهودي عاش في الأغلب في القرن الخامس، وترجم «كناشه» أي كتابه الواقع في ثلاثين مقالة إلى السريانية ثم إلى العربية. ويلوح أن الذي أذاع كتب أهرن طبيب فارسي النشأة، يهودي المذهب، سرياني اللسان، يسمى ماسرجويه أو ماسرجيس، تولى نقل كتاب أهرن في خلافة مروان بن الحكم (64-65ه) إلى العربية.
ولكن مدرسة «جنديسابور» الطبية لم تقف عند طب بقراط وجالينوس، بل أخذت أيضا بالطب الهندي الذي يعتمد على الأعشاب المعروف أثرها بالتجربة، وعلى التعاويذ والتمائم لطرد الأرواح الشريرة التي كانوا يعتقدون أنها تسبب المرض. ويروى أن كسرى استدعى من الهند طبيبا ليعلم الطب على الطريقة الهندية في مدرسة «جنديسابور»، وكذلك عني كسرى بالأعشاب الهندية واستجلب بعضها إلى فارس وزرعها في ضواحي «جنديسابور»، ومنها «السكر» الذي يصنع من قصب «السكر». ولفظة «سكر» هذه سنسكريتية، درجت في اللغة الفارسية ومنها إلى العربية. وقد استخرج «السكر» من عصير القصب حوالي القرن الرابع الميلادي في الهند، فلما زرع في «جنديسابور» أنشئت معاصر خاصة له. وفي ذلك الوقت كان «السكر» يستخدم في العلاج، ولم يتخذ بدلا من عسل النحل وسيلة للتحلية إلا في زمان متأخر .
قلنا إن الفرس اهتموا بالطب والنجوم والفلسفة وعلم النجوم، وهو الذي نسميه علم الفلك، عنوا به عناية كبيرة، ووضعوا ب «جنديسابور» مرصدا على نسق ما كان موجودا في الإسكندرية. وعندما نقل العرب هذا العلم أخذوه عن الفرس؛ ولذلك نجد كثيرا من المصطلحات الفارسية المعربة؛ مثل زيج، وهو لفظة من اللغة البهلوية المستخدمة زمان الساسانيين معناه السدى الذي ينسج فيه لحمة النسيج، ثم أطلق على الجداول العددية لمشابهة خطوطها الرأسية بخيوط السدى. وأقدم كتاب ترجم في علم الفلك هو «زيج الشاه».
وأما الفلسفة فإن كتب أرسطو ومنطقه بوجه خاص كانت على رأس الكتب الفلسفية التي نقلها السريان لحاجتهم إليها في مباحثهم الدينية.
ويبدو أن اللغة الأساسية التي كانت مستخدمة في المدرسة هي السريانية، باعتبار أنها لغة الأساتذة من جهة، ولغة المراجع في شتى العلوم بعد نقلها من اليونانية إلى السريانية، فكان لا بد للطالب من تعلم السريانية ليتمكن من التحصيل. ولا نزاع أن الأسرى الذين نزلوا «جنديسابور» كانوا يتكلمون اليونانية إلى جانب السريانية، ثم تعلموا الفارسية. ويلوح أن بعض الكتب قد ترجم إلى الفارسية أيضا عن طريق السريانية، كما حدث فيما بعد حين نقلت العلوم والفلسفة من السريانية إلى العربية. وهذه الكتب السريانية في طب جالينوس، ومنطق أرسطو، وبعض الكتب الفلكية والرياضية، هي التي عنها نقل المترجمون في العصر العباسي، وذلك بعد إنشاء بغداد التي لم تكن مسرفة البعد عن «جنديسابور»، فاجتذبت العاصمة الجديدة بتشجيع الخلفاء والأمراء، وما كانوا يغدقونه على العلماء كثيرا من أطباء النساطرة وعلمائهم، فجعلوا يهجرون موطنهم الأصلي في المدرسة الفارسية ليستقروا في عاصمة الخلافة.
وأول خليفة استقدم طبيبا من «جنديسابور» هو المنصور العباسي؛ حين أصيب بعلة شديدة ترجع إلى اضطراب الهضم، وكان ممعودا، فدعا جرجيس بن بختيشوع رئيس مدرسة «جنديسابور» وبيمارستانها. وظل جرجيس في بلاط الخليفة ببغداد، من سنة 148 إلى 152 هجرية، حيث استأذن في العودة إلى «جنديسابور». وفي خلافة الهادي استقدم بختيشوع بن جرجيس بن بختيشوع؛ ليكون طبيب البلاط، ولكن نشأ بينه وبين أبي قريش طبيب زوجة الهادي نزاع، فرئي أن يستغنى عنه. فلما تولى هارون الرشيد طلبه لمداواته من صداع مزمن، ثم استمر في خدمة الخلافة من أسرة بختيشوع الابن الثالث وهو جرجيس بن بختيشوع الذي كان طبيبا لجعفر بن يحيى البرمكي، ثم أصبح طبيب الرشيد ورئيس الأطباء، وخدم الأمين والمأمون، وله مؤلفات طبية باللغة العربية، توفي سنة 213ه.
وأنشأ المأمون سنة 215 هجرية بيت الحكمة في بغداد، وجعله مقرا للترجمة من السريانية، ومن اليونانية إلى العربية، وجعل على رأسه يوحنا بن ماسويه، وهو طبيب سرياني من مدرسة «جنديسابور»، هاجر إلى بغداد وأنشأ بها بيمارستانا إلى أن قلده المأمون رئاسة بيت الحكمة. وكان حنين بن إسحاق أشهر المترجمين من تلاميذه.
ورب معترض يقول إن بيت الحكمة لم يكن مدرسة فلسفية، بل دار للترجمة، وليست ترجمة الكتب فلسفة، بل إن مدرسة «جنديسابور» نفسها لم تكن مدرسة فلسفية؛ لأنه لم يؤثر عنها أنه قد ظهر منها فلاسفة يعرفون بهذا الوصف، وإنما الذي برز منهم أطباء يقومون بالعلاج ويديرون البيمارستانات.
وهو اعتراض له وجاهته، ولكن الحق أن مدرسة الإسكندرية نفسها في عصرها المتأخر في القرنين الرابع والخامس، لم تكن مدرسة فلسفية بمقدار ما كانت مدرسة علمية رياضية وطبية، فيما عدا الأفلاطونية الجديدة التي أنشأها أمونيوس سكاس وأعلنها أفلوطين. وفيما عدا ذلك فهل يمكن أن نسمي بطليموس صاحب المجسطي، أو منيلاوس، أو نيقوماخوس، أو بابوس وغيرهم فلاسفة. وكذلك الأطباء من أمثال أوريباسيوس وأهرن. وفضلا عن ذلك، فإن هؤلاء الرياضيين والأطباء لم يكونوا من الأعلام كإقليدس أو جالينوس، بل كانوا أصحاب مختصرات وشروح بغية مصلحة التعليم. هذا وقد كانوا إلى جانب ذلك يعرفون مذاهب أفلاطون وأرسطو والرواقيين وغيرهم من الفلاسفة، فهم وإن لم يكونوا فلاسفة، إلا أنهم كانوا مؤثرين للحكمة ومعلمين لها، إلى جانب معرفتهم بالرياضيات والطبيعيات والطب. وكان ذلك حال مدرسة «جنديسابور»؛ فهي استمرار للتعليم الإسكندراني وبخاصة في الطب. ولما انتقل أطباؤها إلى بغداد، كان لا بد أن ينهضوا أول الأمر بحركة الترجمة، تلك الحركة التي استغرقت زهاء قرن من الزمان .
ولكن ظهر من بين هؤلاء المترجمين وفي إبان حركة النقل، فيلسوف إسلامي هو أول من سمي من العرب فيلسوفا، وكان صاحب مدرسة، وهو الكندي.
Bilinmeyen sayfa