قلت: يا سيدي، جرت عادتي أن أكتب من غير تسويد؛ وذلك أني أنقل سانحاتي في إباناتها واقتصد من الزمان بقدر ما أستطيع. - أوه! لقد أخطأت الصواب، وددت لو عثر الرجلان عندك على تسويد هذا الكتاب فتفوز يومئذ فوزا عظيما، يا ليتني علمت ذلك من قبل. ثم صاح: يا غلام! فدخل خادمه، فقال: علي بحسن خالد الساعة، فما غاب الخادم إلا عاد ومعه ابن أبي الهدى، فأقبل حتى جلس إلى جانبي، وكان أبوه مطرقا ويمينه تعبث بلحيته، فانتبه على سعلة سعلها ابنه ليعلمه بمكانه وقال: جئت يا حسن؟ - ممتثلا أمرك يا مولاي.
فأخذ أبو الهدى يقص على ابنه ما سمع مني، فما أتمه إلا ابتدره ابنه مستعلما: والكتاب؟ - أخبرني البك أنهم لم يجدوه واعتذر لي بأنه لم يتعود تسويد ما يكتب. - قضي الأمر ولا حيلة في تلافي ما فات.
وإذا لم يكن من الجلد بد أقبل علي الرجلان يعزياني، وقال أبو الهدى: لا تخف، لن يبلغ الشر بنا غايته، وإن في الكنانة لسهاما أعددتها للأيام المحجلة، فكن بمكانك من النجدة لا تذهب بذماء قلبك هذه العظائم. وسأبيت الليلة تدبيرا يتحداه الفوز وتسير على إثره الرغائب. فشكرت للرجل دعواه ونهضت راجعا إلى منزلي، فبلغته وقد كاد يتمزق صدار الليل عن ترائب الصباح، وإذا الجواسيس يتهادون في الطريق، فجاوزتهم إلى الباب حتى إذا بلغت أعالي السلم تلقتني والدتي لائمة معنفة وقالت: أي بني، ما أبطأ بك إلى الساعة؟ ولقد تركتني وامرأتك على مثل جمر الغضا. فأجملت لها الرد وتعهدت امرأتي فرأيت منها ما راعني؛ وجها تعالاه الوجل وجوانح تملك عليها الرعب وقد تمشى السقم في جسدها حتى لا ينقطع لها أنين، فجعلت أهون عليها الأمر وأقول كانت أزمة ثم انفرجت وإنها لغير معاودتنا من بعد. وما زلت بها حتى خف وقرها وهدأت لوعتها فنامت.
إن في اليأس لسكونا تجده نفس المكروب إذا بلغت الأمور أقاصيها، وإني لأشهد بصدق ذلك. وهذه تجربة ثانية ذقت فيها موتة العزم بعد ما كان بيني وبين أبا لحية. ومتى استشعر المجاهد ضياع المساعي وأيقن بخيبة الأمل ثابت إليه راحة السكون وهي آخر إعياء يجده المجهود. رأيتني في منزل نام أهله مغلوبين وليس حولي من أفضي إليه بحاجات نفسي، وكنت أريد صديقا جلدا مستحكم رباط الجأش رحب الصدر مكين قرار الصبر أحدثه بما يحدثني به فؤادي، ولكن من لي بذاك وقد تخاذل عني إخوان الصفاء وولوا كأنهم النعائم المجفلة، وأضحى لا يزاورني إلا الرجل الفاضل والصديق الأوفى مصطفى بك المخزومي والعالم المرحوم محمد صديق خان الحسيني، وكلاهما من أعضاء مجلس المعارف إذ ذاك، ثم كلاهما ينتمي إلى بيت رفيع من بيوتات المجد، أولهما عربي وثانيهما هندي، وحسبك دلالة على طيب العنصر. وما فرغت من هواجسي إلا وقد غشيني الكرى، فما انتبهت إلا قرب الظهر، وصرت أجدني واهي العزيمة خامد جذوة الشباب، فجعلت أتمثل ببيت كثير:
فقلت لها يا عز: كل مصيبة
إذا وطنت يوما لها النفس ذلت
وبعد هذا كله اعترضني معضل أشكل علي استخراج غامضه واستنتاج الصواب من ثنيات شكوكه؛ وذلك أمر أبي الهدى. قلت إن كان الرجل أسر عني بغضه وأضمر لي انتقامه فما حمله على إفضائه إلي بأسرار يضارب الرجال دونها بالسيوف؟ وإن كان مخلصا لي في وده مستصفيا سريرته فما هذا اللعب الذي أراه؟ من أين جاء أبا الهدى أن ستدخل الشرطة داري وأن ستأخذ أوراقي حتى أعلمني بذلك قبل وقوعه؟ وما لبثت في استطلاع هذا السر طويل زمن، بل قيض لي الله من أطلعني على مكنونه وأسر إلي بنجواه، وسيأتي بيانه في موضعه.
ولا غنية عن ذكر ما كان بيني وبين القصر الحميدي، فعنه يتساءل القراء الكرام؛ وإجماله أن الباشكاتب تحسينا كان وجه إلي بعض حاشيته يستدعيني إلى «يلديز»، فقصدت إليه قبل مضيي إلى أبي الهدى، وكانت هذه أول زورة زرتها لهذا الخائن المائن بعد أن استعرت بيننا نيران العداوة، فما أخبر بمكاني إلا أمر بإدخالي عليه، فلما رآني تبسم لي تبسامة الخاتل، ولم يمهلني أن أسأله عما ندبني إليه بل تعجلني بقوله: كرهت أن أطيل انتظارك، وقصارى ما لك عندي أن مولانا السلطان يأمر بإحضار أوراقك من عند شفيق باشا ليكون فحصها واستطلاع ما فيها هنا بمرأى منك ومسمع. غير أن الأوراق لم تنفذ إلينا، والرأي أن تحضر غدا في هذه الساعة. قلت: لك ذلك. وخرجت غير مسلم، ثم اقتضيته في الغد فاعتذر، وقال إن الأوراق تأخرت عنه، فخرجت وأنا أقول: جعل الله عاليك سافلك أيها القصر وأوطأ الله أرجل الغالبين حجرك ومقاصيرك. وما اعتادني بعد ذا من هم جديد ولا ألم بي ملم يجدر بالذكر إلى اليوم السادس من شهر يناير الكائن في سنة اثنتين وتسعمائة وألف؛ وهو مستهل الكربة ومبدأ تاريخ الشقوة.
السجن
ما ذكر امرؤ عهده بنكبة حلت ساحته وخطر شهد هوله إلا تجددت فيه جزعاته وفزعاته، وعادته آلام كان استشعر بها في إبانات نزول الخطب واشتداد الويل. الآن يخيل لي أني بسجن الاستبداد، وأني أعاني ما خلتني فرغت من معاناته، ولولا أني قليل الاعتداد بما تأتي به الأوهام وما ينجاب عنه دخان الشك لطال همي وساء عيشي. وما ذاك الذي أذكره رجفان في الروع ولا خور في النفس، ولكنه أثر تستبقيه شدائد الأيام، لكل كارثة منه جانب ولكل فادحة منه سهم. على أني سأزجر فؤادي عن ذكر ما مضى وأنقطع من تلك العظائم إبقاء لرونق أمل أتلقى به هذا العيش الجديد الذي لبسنا لبوسه؛ فإن تجر الأقدار طوع ما أردنا من الخير فذلك نعم العوض، وإن تحل حوائل الأيام دون استتمام رغباتنا واستقرار أماننا فإن في لذة الادكار معوانا على التأسي. سبحان من جعلني راويا بعد أن جعلني شاهدا، وسبحان من أخلى تلك المعاقل بعد أن ظننا حقبة من الدهر أن لن يستفتح الزمان مغاليقها وأن لن يذل جبابرتها.
Bilinmeyen sayfa