فلما كان اليوم الثاني من شهر يناير في سنة 1902 جلست في حجرتي وجعلت أمامي ورقا وأقلاما، وأنشأت أكتب فصلا كان خطر ببالي. وقد أمسيت وأوقدت حولي المصابيح وأنا مستغرق في شغلي لا أستشعر شيئا من ذلك، فدخلت علي الخادمة تخبرني أن بأسفل الدار زائرين يريدان أن يرياني، وأن وراءهما جماعة من رجال البوليس وقوفا على باب الدار، قلت: لا ضير، أدخلي الضيفين إلى مجلس الضيوف. أما البوليس فيكونون أتوا من الثكنة المجاورة للبيت ليدلا عليه الطارقين، هنالك خرجت الخادمة، وأنا رفعت ما كان أمامي من ورق وغيره، ثم دخلت على الضيفين. فإذا هما لا يسر مرآهما ولا يبشر قدومهما؛ رجلان من أعوان النقمة وجنود العذاب، أعرفهما من وجهيهما اللذين محا الله تعالى منهما آية الأنس، وأجال في أديميهما صبيبا غساقا، وأسكن نفسيهما من السوء ما يكون معوانا لهما على أكل لحوم الناس وشرب دمائهم. أعوذ بالله من مثل تلك الوجوه! الضيفان الطارقان أحدهما محمد علي بك الذي كان رئيس الهيئة التحقيقية بنظارة الضابطة، وثانيهما إسماعيل حقي أفندي الذي كان مفتش البوليس في متصرفية «غلطة سراي». تلقيتهما بما يتلقى به الزائر غير المعروف، وناولتهما السيكارات وأسقيتهما القهوة وهما في محادثتهما لي يقلبان أوراقا وجرائد كانت على خوان قائم في وسط القاعة. وقد أحس قلبي أن وراء هذه الزيارة ما لا أحب، فأبديت التغابي وآثرت الصمت، حتى إذا فرغا مما يكرم به الضيف التفت نحوي محمد علي بك وقال: شفيق باشا ناظر الضابطة يقرئك السلام، ويقول لك إن السلطان أمره بتفتيش أوراقك وأخذ ما كان مخالفا لرضائه منها، والباشا يعلم أنك لا تدخر شيئا يغضب مولانا الأعظم، ولكن لا بد من الطاعة والجري على مشيئته، وها نحن عندك نرجي إذنك في التفتيش.
إسماعيل حقي أفندي: أترى ولي الدين بك يشك في محبة الباشا له وإيثاره إياه على كل عزيز عنده؟! ما أظنه مانعنا عن خدمة يعلم أننا مكرهان عليها، ولو خيرنا فيها لما اختار أحدنا أن يحرمه راحته ويكدر عليه صفاءه. قلت: لا بأس عليكما، لكما ما سألتما ولي إليكما رجاء فأعيناني على أكذوبة تنفعني ولا تضركما. - ما هي؟ - سأقول لامرأتي إن ناظر الضابطة محب لي، وإنه اتصل به أن سيفتش البوليس بيتي في هذه الأيام، فأرسلكما إلي لتأخذا له ما يكون عندي من الكتب والأوراق؛ فيخفيها عنده ويعيدها إلي بعد انقضاء تلك المحنة. - لك ما سألت.
هنالك دخلت على امرأتي وخاطبتها على ما توافقنا عليه، فلم تنفع الحيلة وفطنت لها، ولكنها تجلدت تجلدا لا تقوى عليه السيدات، وقعدت في فراشها وقالت: أدخلهما. فدخل الرجلان وأمالا رأسيهما سلاما، فلم ترد سلامهما، ثم أوغلا في التفتيش، فما أشكل عليهما فهم كتاب أو جريدة أو ورقة إلا أخذاها، ولما تدانيا من الصناديق التي بها ملابس سيدة البيت أعرضا عنها ولم يمد أحدهما إليها يدا. وقد وقع نظرهما على مسدس لي كان على خوان هناك فأخذاه أيضا، ثم دخلا حجرة والدتي وطلبا أن ينظرا الصندوق الذي كان فيها. قلت: هذا صندوق فيه ثياب والدتي، قالا: كلا، ليس الصندوق صندوق ثياب ولا بد من أن نراه، فتركتهما وشأنهما وقد وجدا به كل شيء؛ تلك أوراق وكتب وصور منها ما كتبه الأحرار ومنها ما كتبته أنا، ووجدا صورة عبد الحميد الفطغرافية في أوائل أيام ملكه، وصورة السلطان مراد الخامس الذي قضى شهيد السجن بجراغان، وغير ذلك مما يطول شرحه ويهول الخائنين ذكره.
فلما وقع نظر الرجلين على هذه الأوراق لمعت أعينهما وافترت نواجذهما سرورا. وكان محمد علي أخبث الرجلين، فجعل يقلب الأوراق بين يديه ويهز رأسه كمن هاله أمر عظيم، فقلت في نفسي: ما له يعطو كما يعطو حمار الوحش! وما لهذه الرأس تدور بين كتفيه وكأن تحتها لولبا يديرها! فالتفت نحوي وقال: وجدنا عندك أكثر مما أملنا.
فلم أجاوبه بكلمة، ثم استخرج صاحبه من الصندوق كيسا صغيرا كانت به أوراق بخط والدي المرحوم وصكوك وعقود وغيرها، فحاولت استرجاع الكيس غير أني لم أفلح. وإذ فرغ كلاهما من جمع الورق جعلا ما أخذاه في كيس كبير وختما عليه بالشمع الأحمر وختمت كذلك معهما، واحتملا حملهما وودعاني ذاهبين، ثم حين عاودت حجرة امرأتي وجدتها تنتفض انتفاض العصفور في ليلة قر ممطرة حتى لم أشك أن ستقضي بين يدي، فصحت بوالدتي لتعينني على مساعفة تلك المسكينة بشيء من الدواء، وإذا هي لا تقدر أن تنهض من مكانها، فأدركتني الخادمة وأخذت تعالج معي المرأتين حتى هدأ روعهما وسكنت الرعدة في جسديهما، ولكن بعد أن كادت الروح تزهق. ولما اطمأن عليهما فؤادي خرجت إلى بيت الجنرال أحمد جلال الدين، فرأيت هناك مرادا الداغستاني ولم يكن يعرفني وجها، وعلمت أن الجنرال مريض وأنه لم يقابل أحدا في يومه، فأخبرت وكيله بما كان من دخول الرجلين بيتي وأخذهما أوراقي، وأظهرت له ما بت أتوقعه من الخطر، وكان الداغستاني يصغي لحديثنا وسمع الوكيل ينطق باسمي، فعرفني وتذكر ما كان بيني وبينه من شر، فتركني حتى أتممت حديثي، فالتفت إلى وكيل الجنرال واسمه رشيد بك وهو رجل عاقل كامل التهذيب، فقال له مراد: أهذا ولي الدين بك يكن؟ - نعم، هو من تراه.
فنهض مراد واقفا وجعل يحدق في ببصره حتى لظننت أن الرجل قد جن، ومشى خطوات إلى أن صار أمامي، فكلمني قائلا: ما كنت أحسبني أحيا إلى زمن تشكو أنت فيه هذه الشكاية. - وما يريبك من شكايتي؟ - يريبني منها أنها شكاية رجل حر يصيح بها رجل مستبد. - ما رأيت من استبدادي؟ - منازلتك لي أيام كنت أصدر جريدتي «ميزان» بوادي النيل، ووقوفك في وجهي ودفاعك عمن تشكو ظلمه اليوم. هذا الذي كنا نشكوه قبلك وكنت أنت تكذبنا فيه وتمطر علينا صواعقك، وجريدة النيل شاهدة عليك. وإني لأعرف لك فضلا حدثت به كل من لقيته أيام تلك المصاولات؛ وذلك أنك مظفر الحجة شديد الوطأة غزير مادة الكلام. ولقد قلت لهم إنك للخصم يقذع خصمه، ولكن يعلمه ويهذبه وكنت أوصي من معي بترك مغاضبتك والتعرض لقارعاتك. - أما ما ذكرت من منازلتي لك فما كان ذلك مكابرة في الحق، ولكن كرها مني أن أراك زعيما للأحرار. إني ذكرت في أول كلامي عنك أني تاركك حتى أسبر غورك وأستبين نفسك من خلال كلامك، فسقطت سقطة بغضتك إلى فؤادي وتخذتك بعدها عدوا لوطني وعرفتك لنفسي عدوا لدودا. وإن ترجع اليوم زعيما على الأحرار أرجع عدوا لهم. لن تجمعني وإياك وحدة حال ولو كانت في سبيل الوطن. واعلم أني امرؤ لا أثق بعلمي ولكني أثق بيراعي ونفسي، وما دام لي نفس يتردد بين جوانحي فذلك عزمي الذي أنازل به الصروف وأجاهد به في تأييد ما أعلم أنه الحق، ولندع هذا إلى لقاء آخر؛ فإني منذ ليلتنا ممن هدرت دماؤهم، وكان كلامي لمراد آخر ما تحدثت به في بيت الجنرال أحمد جلال الدين. وأيقنت أن لا فائدة من بقائي هناك، فودعت القوم وصرت إلى إدارة التلغراف الكائنة في بيرا «بك أوغلي»، فكتبت رسالة برقية نسخت منها صورا عدة؛ خصصت كل صورة برجل من عظماء الرجال، منهم: كوجك سعيد باشا وكان ولي الصدارة إذ ذاك، وممدوح ناظر الداخلية، وعزت العابد، وتحسين الباشكاتب. وكانت إدارة التلغراف تقبل كل رسالة إذا كان صاحبها معروفا ولو كانت تلك الرسالة تسوء عبد الحميد، ولكنها امتنعت عن قبول رسالتي زاعمة أن قد جاءها أمر بأن لا تقبل رسائل إلا إذا كانت موجهة إلى السلطان، وأن يكتب عليها هكذا: «إلى الأعتاب العليا»، فرضيت بما اشترطه مأمور التلغراف مكرها. وهاك فحوى رسالتي:
دخل رجال الضابط الليلة بيتي وأخذوا أوراقي وكتبي، وملئوا قلوب من بالبيت فزعا. وإنما يصنع مثل هذا باللصوص وأهل الجنايات لا بمن اختارتهم الدولة لخدمتها ورفعت مراتبهم في حكومتها. وها أنا اليوم أتظلم لصاحب هذه البلاد وأسأله إنصافي، وأن يصدر أمره بمحاكمتي لأنال براءتي مما وصمت به أو يلحقني جزائي.
ولما فرغت من الرسالة ودفعتها للمأمور رجعت إلى البيت، فما اغتمض لي جفن ولا استقر لي جنب، وقاسيت ليلة لا تكشف أهاويلها ولا تنجاب ظلماؤها إلى أن نصل صبغها ورقت حواشيها، فتهادت إلي سنة في طيات نسائم السحر تخطر على إيقاع الطير في وكناتها، فملت على وسادة إلى جانبي وحيل بيني وبين الشهود، ثم ما لبثت أن نبهني بكاء بنيتي في مهدها. قلت: تعلمي البكاء أيتها المسكينة، إني لأرى أمامك أياما تبكين فيها على أبيك إما شهيدا وإما أسيرا. وما تكامل الصباح في ضيائه إلا أقبلت أمي وامرأتي تبكيان إلى جانبي، فنهيتهما عن البكاء وقلت: اصبرا، لعل لنا في جوانب هذا المأزق منفرجا. وأخذت امرأتي تنصح لي بالسفر قبل أن يتعاظم الأمر، وقالت: نحن امرأتان ولا يلحق بنا من الحكومة أذى ولا نلبث أن نلحق بك إذا بلغت مأمنك. قلت: وكيف السبيل إلى ذلك؟ هذه دارنا أقامت على جوانبها الأرصاد، وإن بالباب لقوما ألفت السهاد محاجرهم لا يفارقون مصراعيه قيد شبر، وما مشيت في الطريق إلا رأيت ورائي قوما يطلبونني بأوجههم الكاسفة وأعينهم الخائنة، يلازمونني ملازمة الظل حتى لأتمنى أن تخسف بي الأرض فأتوارى عن أبصارهم. ثم هبي أني أحكمت الحيلة ودانت لي فجاج الأرض وصرت إلى حيث لا يطول إلي باع الظالم المطارد، فما الحيلة في سفرك مع أمي وهذين الطفلين؟ تظلون وليس عندكم من يعولكم، ولا تدعكم الحكومة حتى تلحقوا بي، وتمنع عنكم ما أبعث به إليكم من المال، ولا ألبث أن أعود صاغرا فتكون العودة الثانية شرا من الأولى. - وماذا تريد أن تصنع؟ - سأنظر في أمري، عسى أن أهتدي إلى ما فيه خلاصنا.
هذا وعد وعدت به من عندي وأنا غير واثق بإنجازه. ولما كان المساء مضيت إلى أبي الهدى، فلما رآني صاح بي: ما وراءك؟ قلت: ورائي ما يسوء كل صديق ويسر كل عدو. - وما ذلك؟
فقصصت عليه القصة لم أدع منها حرفا إلا ذكرته، فأطرق يفكر وبدت على وجهه كآبة استكبرتها في نفسي، ثم رفع طرفه إلي وقال: وهل وجدوا عندك الكتاب؟ يريد كتابا كنت أخبرته أني وضعته وسميته «العصر الجديد»، أتيت فيه على بعض الوقائع التي جرت بين مصر وفروق، ولكني لم أتعرض فيه لعبد الحميد بسوء. وهذا كتاب كنت أنفذته إلى مصر ليطبع فيها، ولكنه تلاعبت به الأيدي ولم يسمع له ذكر.
Bilinmeyen sayfa