أما المتنبي فأخفق في دعواه ولم يخفق في فنه الشعري، والمعري عكس الآية، أخفق في الشعر وفاز بالتوحيد؛ أعني التوحيد الذي يفهمه هو و«الجماعة» القائلون: «الإسلام باب الإيمان، والإيمان باب التوحيد.»
المعري رجل كلام وجدل، مفكر حر حطم سلاسل الوراثة وأغلالها، فلم يشل عقله إذ واجه المعضلات الأبدية التي لم تحل. ألقى مشكلات عصره في قفص الاتهام وقعد يستنطق الأجيال ويقلب ما تركت من الآثار بطنا لظهر، ثم حبس أحكامه عليها في سجون الأوزان والقوافي. ناقش كل معضلة فمضى وكأنه لم يحل واحدة منها. أما عارفو سره فيدركون بوضوح ما يعنيه صاحبهم إذ يقول:
غدوت مريض العقل والدين فالقني
لتعلم أنباء الأمور الصحائح
بني زمني، هل تعلمون سرائرا
علمت ولكني بها غير بائح؟
إن المعلم من «سره» هذا في جهد جهيد، مثله مثل امرأة أدركها المخاض، فهي تتوجع وتتألم، والوضع منها بعيد.
أشعرنا أبو العلاء في مقدمة لزومياته أنه يكتب كتابا، لا ينظم ديوانا، ولولا الاجترار والتكرار لقلت إنه أعد لكل فكرة زندانا؛ أي فصلا. شك القدماء في كتبه النثرية فاتهموه بمحاكاة القرآن الكريم في كتابه الفصول والغايات. وها أنا ألحظ أيضا - وبعض الظن إثم - أن كتابه الشعري، لزوم ما لا يلزم، مؤلف من مائة وثلاثة عشر فصلا، وسور القرآن العزيز مائة وثلاث عشرة سورة، فهل قصد ذلك يا ترى؟
إن الشيخ، رحمه الله، متهم، وهو ماكر على فضله وتقاه. لقد قال: «وإني وإن كنت الأخير زمانه ...» فمن ينفي عنه حسبان نفسه «صاحب الزمان الأخير» المنتظر في دهره بفارغ الصبر؟ وإني لأرى رسالته «ملقى السبيل» أعلى ذرى التقليد المزعوم.
كل هذه المزاعم جائزة، بل هي عندي تشبه اليقين، أما ظن الفرنسيون مريدو «لامنه» شيئا من هذا بكاتبهم العظيم، فالتفوا حوله؟
Bilinmeyen sayfa