Müzikle Birlikte: Anılar ve İncelemeler
مع الموسيقى: ذكريات ودراسات
Türler
وبينما كان شونبرج يقوم بأكبر انقلاب في ميدان الهارموني بسلمه الجديد، لم تظهر لديه الرغبة في تجديد «قالب» الموسيقى؛ فلا زال لمقطوعاته نفس الإطار القديم، وعدد الحركات وترتيبها كما عرفته الموسيقى الكلاسيكية؛ فنظريته الجديدة لم تخلق التركيب الموسيقي الملائم لها. أما الموسيقي الذي أتى بأكبر انقلاب في ميدان الصورة، بجانب ما استحدثه من كشوف في مادة الموسيقى، فهو «سترافنسكي»؛ فقد تأمل النظام القديم الذي كان يسير عليه اللحن، وهو أن يستمر في جمل وأنصاف جمل موسيقية منتظمة، وينتهي بسكون كما تنتهي الكتابة إلى نقطة، وأدرك أن هذا التوقف النهائي والتوقف الجزئي المتوسط لا داعي له على الإطلاق؛ فليس هناك ما يدعو إلى أن يتخذ ختام اللحن شكل النقطة النهائية؛ لأن اللحن ليس جملة، بل هو خط ممتد لا يتطلب قاعدة معينة ينتهي على أساسها، وإنما يتوقف حيثما يشاء مزاج كاتبه. كذلك لم ير داعيا لالتزام ذلك النظام المطرد في الإيقاع، أو التقيد بنفس عدد الضربات داخل الحاجز الموسيقي الواحد، بل يمكننا بتنويع نظام الضربات أن ندفع الملل عن نفس السامعين، ونقدم إليهم إيقاعا يتجدد دواما. ومن هنا تنوعت الإشارات الدالة على الزمن داخل الحواجز المختلفة في كثير من مؤلفات ديبوسي وسترافنسكي، بل لم تعد بالموسيقى الحديثة إلى التقسيم على أساس الحواجز حاجة.
ولقد حاول بعض الموسيقيين أن يستحدثوا انقلابا أوسع نطاقا، بتقسيم السلم إلى أربع وعشرين درجة، كما هي الحال في كثير من السلالم الشرقية. وليس في هذا التقسيم الجديد أي خطر؛ إذ إن الأذن تستطيع أن تميز «ربع» الصوت بسهولة. وهكذا تصبح إمكانيات اللحن والهارموني لا متناهية في هذا النظام الجديد، ولكن ينقص هذا الانقلاب بناء نظام موسيقي كامل، وخاصة في ميدان الهارموني، يتناسب مع ذلك الميدان الجديد للموسيقى. ومن العقبات التي تعترضه كذلك ضرورة تعديل كثير من آلات الأوركسترا الغربية؛ فالبيانو والآلات الهوائية سيعدل تركيبها على هذا الأساس تعديلا أساسيا، وتختلف طريقة العزف عليها اختلافا تاما، ويبدأ الفنانون في كشف طرق جديدة تناسب النظام الذي ابتكروه. وليس كل هذا مستحيلا أو غير معقول، ولكنه سابق لأوانه إلى حد ما؛ إذ إن سلم شونبرج ذا الدرجات الاثنتي عشرة المتساوية، ما زال منطويا على إمكانيات عديدة لم نحقق منها بعد شيئا.
والنتيجة لهذا كله أن تنتج مادة صوتية خام قد لا يجد فيها كثير من المستمعين إلا صخبا وجلبة. غير أن الفنان المتحمس لها يرى فيها ارتيادا لمناطق مجهولة في ميدان الأصوات الموسيقية لم يكشفها أحد من قبل؛ فإذا أصررت على أن تستمع إلى الموسيقى من خلال علم النفس؛ أي من حيث هي معبرة عن مشاعر معينة، فلن تجد لتلك الموسيقى أي معنى. أما إذا شئت أن تستمع إلى موسيقى خالصة لا تهدف إلا إلى ذاتها، فستجد في ذلك الانقلاب الحديث خير ما يكفل لك هذه المتعة الجمالية الخالصة.
فالموسيقى الخالصة مقتصرة على ذاتها، بعيدة عن الإهابة بأي موضوع خارجي معين. وهي - إن شئنا أن نطلق عليها اسما فلسفيا - «موضوعية» تنظر إلى المعنى المادي أو العاطفي الذي يمكن أن تشير إليه الألحان نظرة محايدة. والواقع أن هذا الانقلاب إنما هو مثل من أمثلة ثورة الروح الحديثة على الخلط بين الفنون كما شاع في العصر الرومانتيكي؛ فقد أخذ كل فن يتجه إلى أن يصبح «خالصا»؛ أي مقتصرا على ذاته، منفصلا عن غيره من الفنون، لا يهيب بشيء؛ فأنت ترى اليوم شعرا خالصا، ورسما خالصا، وموسيقى خالصة (ومما له دلالته هنا أن سترافنسكي وبيكاسو قد أصبحا صديقين حميمين في النهاية، وأنهما تعاونا سويا في تأليف باليه راقص هو «بولتشينللو»)؛ فكل فن من هؤلاء يسعى إلى الاستقلال عن غيره، وإلى أن يتخذ له من ذاته وحدها غاية؛ أي إن الموسيقى لم تعد تسعى إلى أن تثير في ذهنك معاني شعرية، أو صورا مادية - ومن هنا كان عصر فاجنر وديبوسي يعد عتيقا بالنسبة إلى الفنانين المتطرفين في نزعتهم المحدثة، واستبعد تماما عنصر التعبير وإثارة المشاعر - وبعد أن كانت النغمة رمزا، وعلامة، وطريقة للتعبير مشحونة بمحتوى وصفي، أصبحت «نغمة» فحسب؛ أي مادة خالصة، ووجودا يكتفي بذاته ولا يشير إلى شيء. •••
فإذا انتقلنا إلى الجانب النقدي من هذا البحث، فلنؤكد أولا أن التجديد الموسيقي أمر لا مفر منه؛ إذ إن تقلب القواعد الموسيقية وتطورها في القرون الماضية خير شاهد على ذلك. والواقع أن مؤلفي الموسيقى في الفترة الأخيرة قد أحسوا بضيق نطاق قواعدهم القديمة إلى حد كان كفيلا بأن يبعث فيهم الجمود. والواقع أيضا أن كبار الموسيقيين كانوا دائما يخرجون عن القواعد المألوفة كلما واجهتهم مشكلة تعبيرية تعجز عن حلها القواعد؛ ففي الحركة الثانية من سيمفونية بيتهوفن الثالثة، وفي الحركة الرابعة لسيمفونية تشايكوفسكي السادسة، وفي مقدمات عديدة لفاجنر، مثل مقدمة «الهولندي الطائر»؛ في كل هذا كانت المعاني التي يعبر عنها المؤلف أوسع مما تحتمله القواعد الشائعة؛ ولهذا تجاوزوا تلك القواعد وتعدوها على نحو كان يبدو غريبا في أعين معاصريهم.
فمن مستلزمات الفن إذن، تلك الحرية والتلقائية التي تؤدي إلى التجديد. غير أن التجديد الذي لا يقصد منه شيء سوى الاختلاف عن كل ما عرف من قبل، ليس إلا شذوذا عقيما، ولو وجد فنان تبلغ أصالته وابتكاره حد الانفصال تماما عن التفاهم مع كل من يعيش معه، لما استحق منا تقديرا كبيرا. ومن هنا رأينا كبار الفنانين يبدءون بدراسة القواعد الموروثة في فنهم؛ إذ هي موجز لتجارب ذلك الفن الماضية، ولكنهم لا يدرسونها ليتقيدوا بها تقيدا حرفيا، وإنما لكي تتوافر لديهم القدرة على استعمالها استعمالا حرا مجددا. ومن هنا قيل إن المرء لا يدرس القواعد القديمة في الفن إلا ليتعلم كيف يخرج عنها. ولقد أكد شونبرج، وهو صاحب انقلاب من أكبر الانقلابات الموسيقية الحديثة، ضرورة مرور دارس الموسيقى بالتجارب الماضية، بحيث لا يتخلى عنها إلا تحت ضغط ينبع من باطن نفسه؛ فالحاجة إلى التجديد يجب أن تنشأ عن الشعور بعدم كفاية الصور القديمة، وعن كشف المرء في تاريخ تلك الصور عن ميل نحو وجهة جديدة يحاول هو تحقيقها وإبرازها إلى حيز الوجود؛ فدراسة الماضي إذن ضرورية؛ لأنها تكشف للمرء عن علاقات جديدة توحي لنا بالطريق الذي يجب أن نسير عليه في إعادة بناء تلك القواعد من جديد.
ولكن ما حدث في التطور الأخير للموسيقى هو أن يبحث بعض المؤلفين عن التجديد لذاته، وذلك في مذاهب مختلفة يعبرون عنها باسم «المدرسة المجددة» أو «المستقبلية»؛ فهنا يبعد الفنانون عن كل سابقة تاريخية في الفن، ظانين أن المثل الأعلى للفن هو التجديد بغير حدود. والواقع أنه إذا كان صحيحا أن كل عمل فني جميل يجب أن يتضمن شيئا من التجديد، فإن عكس هذه القضية، وهو أن كل جديد جميل، ليس صحيحا على الإطلاق؛ إذ إن السعي إلى الجدة لذاتها، في عمل لا شرط له إلا أن يكون مختلفا كل الاختلاف عما وجد من قبل، يؤدي بنا إلى إنتاج فني عقيم لا جدوى منه؛ فعلينا إذن ألا نثق بالانقلابات الفنية التي تزعم أنها تنكر الماضي كله دفعة واحدة؛ إذ إن تجديداتها ستكون عرضية زائلة، سرعان ما ينتهي عهدها بعد أن يتضح عجزها عن الاندماج في التطور التاريخي للموسيقى.
ومن ذلك النقد السابق يتفرع نقد آخر على جانب كبير من الأهمية؛ إذ إن سعي هؤلاء المحدثين إلى التجديد لذاته قد جعلهم ينحدرون إلى مستوى «المجربين» فحسب؛ فأعمالهم «تجارب» في عالم الموسيقى، يهدف كل منها إلى كشف عنصر صوتي لم يكشف من قبل. وهنا تتبدى لنا صفة أساسية في هذا النوع من التأليف الموسيقي، هو أنه يبدأ ب «نظرية». وأيا ما كانت فكرة المرء عن خلق العمل الفني، فسيسلم حتما بأن نقطة البداية في الإنتاج الفني هي عاطفة أو إحساس معين، لا نظرية عقلية - وهذه العاطفة تؤدي في كثير من الأحيان إلى التعبير عنها بقواعد تستخلص منها نظرية جديدة - أي إن النظرية نتيجة وليست سببا؛ فنقطة بداية الفنان «المستقبلي» إذن باطلة؛ إذ يبدأ بأن يقصد ابتداع أسلوب جديد، ولا يكون له من هدف سوى الجدة في الأسلوب، فيكون الدافع له في إنتاجه دافعا نظريا خالصا، وتختفي من عمله كل آثار الحساسية الفنية الشعورية. والواقع أن بدء الفنان بوضع منهج تجديدي معين، يعني سبق القواعد على الإلهام، ويعني - فوق ذلك - فهما سيئا لمهمة علم الجمال؛ فهنا يظن الفنان أن هدف ذلك العلم هو أن يرشد الخلق الفني مقدما؛ أي أن تسبق القيم الفنية عمل الفنان ذاته وتفرض عليه مقدما، بينما الواقع أن العمل الفني ذاته هو الذي يخلق تلك القيم خلال عملية الإبداع؛ فعلم الجمال لا يتحكم في مصير العمل الفني ولا يحدد اتجاهاته، بل هو لاحق لعملية الخلق مستمد منها. ولا شك في أن كل نظرية توضع مقدما، ويكون مكانها خارج تجربة الفعل الإبداعي ذاته، تعوق المسار الحر للفنان، ولا تمكنه من بلوغ القيم الأصلية التي تكمن فيه، والتي يتجه إليها تلقائيا. حقا إن الجمال علم معياري، ولكنه ليس معياريا بمعنى أنه يفرض قيم الجمال على الفنان ويوجهه مقدما، بل بمعنى تحليله وتقنينه لتلك القيم فحسب.
والواقع أن اتخاذ الفنان نقطة بدايته من نظرية معينة، يعني أن إعجابنا به عقلي محض؛ فعن طريق التحليل العقلي وحده نصل إلى تقدير من يأتي لنا بنظرية جديدة أو بكشف مبتكر في ميدان الموسيقى. ولكن الحقيقة أن هذا التقدير العقلي إنما يكون الأساس الخلفي للعمل الفني؛ لأن النظرية تمهيد للخلق الفني وليست أساسا لإعجابنا به. ولقد شبه أحد الكتاب الموسيقيين ذلك الاهتمام بالأساس العقلي للموسيقى بأنه أقرب ما يكون إلى اهتمام المرء - عند تأمله منظرا مسرحيا بديعا - بالأساس المادي الذي يجري وراء المسرح، بحيث يظل يفكر طوال الوقت في الأسلاك والأجهزة الكهربائية والحبال والأصوات المختلفة التي تدور خلف المسرح، وينتج عن تأثيرها هذا المنظر الذي يشاهده؛ فإعجابنا العقلي لا يجب أن يطغى بأي حال على تقديرنا النهائي للإنتاج الفني في صورته التامة؛ أي كما ينتقل إلى آذاننا على أكتاف النظرية العقلية الممهدة له.
ونتيجة ذلك أن أصبح كثير من موسيقيينا اليوم يفتقرون إلى العنصر الأساسي لكل إنتاج فني، وهو الإلهام. وأيا ما كانت نظريتك في تفسير الإبداع الفني فستعترف - ولا شك - بأهمية هذا العنصر الغامض الذي لا نملك عنه إلا تعبيرات شعرية غير دقيقة. هذا العنصر كان دائما القوة الأولى الدافعة لكبار الموسيقيين؛ فعلى الرغم مما كان يجده فنان مثل بيتهوفن من عناء في الخروج بألحانه إلى الصورة التي نلمسها، وعلى الرغم من طول الوقت الذي كان يستغرقه تأليف سيمفونية عند برامز، على الرغم من ذلك فإن هذا العناء كان، في أغلب الأحيان، راجعا إلى صقل القطعة وتهذيبها، وإلى إخراجها على الصورة النهائية التي تصل بها إلى آذاننا، أما التيار الأصلي لها، والاتجاهات الأولى للحن، فغالبا ما كانت تصدر مستقلة عن كل نظرية سابقة عن طريق مفاجئ هو الذي اصطلحنا على تسميته بالإلهام.
Bilinmeyen sayfa