94

Denizlerin Ötesi

ما وراء البحار

Türler

عندما تحدق بالمرء المخاطر، تفزع نفسه إلى أمها الخفية، كما يفزع الطفل إلى أمه إذا خاف على مرأى منا.

أما فزع النفس إلى أمها، فيظهر للناس بالخشوع، إذا اشتمل عليهم الخوف من قوة، لا قبل لهم على مقاومتها جسديا. لم أكن منذ سنين لأثق بالخشوع والمتخشعين، وكثيرا ما أضحكني إبصاري أناسا جامدين، أمام غير مرئي تخشعوا له بعيون مغربة، وأياد مكتفة، وشفاه متمتمة، إلا أني لم أعد أضحك منهم بعد حادثة عرضت لي، فاكتشفت سر غير المرئي، الذي يقف الناس أمامه مصلين.

كان ذلك في البرية، حيث انفردت بنفسي آمنا من الوحش والإنسان، بل من الإنس والجان. وما أن اكتنفتني وحشة الخلوة، حتى تلبدت السماء بالغيوم، فاكفهر النهار، وانقلب ظلاما، وأخذت الرعود تقرقع بملايين ملايين طبولها، وانبثق من الفضاء العالي سهم من نار، وصل أوله لأرض لولبيا من بعيد ، ولم يخرج ثمت نصفه من الشفق، فشعرت بخوف لم أكن لأشعر به لو أني وجدت بين نابي جيش معاد، وأنا في ساحة الحرب أعزل. ثم أحسست بأن نفسي كذلك قد خافت، ففزعت إلى أمها في السموات، ولم أدر إلا وأنا متخشع أمام ما لا أرى منه إلا الجبروت على ما ندعوه كونا. فلما ذهب عني الخوف، إذ هدأت الحال، وجدتني في تلك البرية واقفا أمام غير المرئي، كواحد من الذين ضحكت من وقوفهم جامدين مكتفين متمتمين متخشعين.

إن المرء يدرك عن طريق نفسه سرا في المخاطر غريبا في كيانه؛ إذ تفزع نفسه إلى أصلها العظيم الذي لا يرى كذاتها، كما تفزع صغار الأفراخ إلى أمهاتها بدافع غريزي، هو في الحيوان كما هو في الإنسان، حينئذ يخشع الصغير الضعيف، أمام العظيم القوي المنبثق منه، والنفس شيء من «ما لا حد له»، فإذا ما نبهتها المخاطر، ودت الالتحاق بأصلها العظيم فازعة، ودليلنا على ذلك خشوعا إبان الخطر.

والنفس لا تكلمنا لنفهم منها أصلها وفصلها، ولكنا نعلم أنها إذ تحتك بأسلاكها المرتبطة بها مع الألوهية، نرتجف لقوة ما لا ندركه مما لا يرى، فنخشع مضطرين بقصد أم بغير قصد، خشوع الصغير أمام الكبير.

صعدت يوما إلى جسر بروكلن؛ لاجتيازه مشيا على قدمي، فأرى وألمس عظمة وصل إليها العقل البشري المخترع، ولما صرت في منتصفه مددت بصري إلى نصفه أمامي، ثم التفت فمددت بصري إلى نصفه ورائي، فأدهشني بناء عجيب فوق الماء، ينقل شطر المدينة العظمى إلى شطرها الثاني، ولكني ما لبثت حتى شخصت إلى العلاء، فرأيت من النجوم في الفضاء ما لا عد له، فحملتني نفسي على جسر هيولي إلى فوق، حيث ديار أهلها، ولما بان لي ذلك الجسر الهائل قلت في داخلي: «عظيم جسر بروكلن يشيده العقل البشري، ولكن ما هي نسبته لذلك الجسر الهائل، الذي يحمل ملايين ملايين ملايين الأجرام بين سيارات، وثوابت، ويربطها ببعضها بقوة لا ندرك كنهها.»

فسمعت إذ ذاك نفسي تهتف قائلة: تخشع أيها الإنسان أمام ما لا تدركه العقول .

فقلت وقد جمدت، وكتفت ساعدي، وتخشعت: الخشوع أيها النفس، خوف، فهل خلق الإنسان ليخاف؟

فأجابت نفسي وقالت: بلى الخشوع من الخوف، والخوف من الفكر، والفكر من النفس، والنفس من اللانهاية، التي كل ما تراه أمامك، وفوقك، ووراءك، وتحتك، وما لا تراه بعض بعضها، فإذا احتكت النفس بأسلاك توصلها بأصولها، نبهت الفكر، فتنفس الفكر بالخوف، والخوف بعث الخشوع، والخشوع أمام القوة غير المحدودة، همس الإنسان الصغير في أذن الفضاء العظيم، عن أن المرء قد عرف ما هو في هذا العالم، ومن هو من هذا العالم، ولهذا فهو يفزع إلى ربه كما يفزع الطفل إلى أمه، والضعيف إلى قويه.

إذ ذاك أدركت الحكمة، بقول ذلك الحكيم القائل: «رأس الحكمة مخافة الله.»

Bilinmeyen sayfa