عندئذ هم رفيقي بالنهوض؛ لأنه رأى فوجا آخر مؤلفا من قادمين اقتربا من الباب، فكبست على ركبته وهمست في أذنه إني أريد أن أبقى، حتى نخرج كلنا معا، فسايرني بطرس مضطرا، ودخل القادمان فتليا أفشين التعزية وجلسا. وما هي إلا لحظة حتى فتح كبيرهما فاه بالكلام، فسمعته يقول: ما هان علينا موت المرحوم، ولكن أمر الله لا مرد له، هكذا قدر وكان، فسبحان الدائم. يحكى أن إسكندر ذا القرنين شعر بدنو أجله ...
هنا تنحنحت قليلا، فلاحت مني لفتة إلى صديقي بطرس، فرأيته يخط وجهه ابتسامة، ولكن في الحال أدرت وجهي عنه إلى ناحية المتكلم؛ لأسمع حكاية إسكندر ذي القرنين، وبعد سماعي جملتين من حديثه بدأ وجهي يخط ابتسامة عريضة، وللحال خوفا من أن تنتهي الابتسامة بضحكة، ونحن في هيكل الحزن والخشوع، نهضت ونهض معي رفيقي، فقلت: بالإذن بلا قطع حديث حضرة المتكلم، ونهاركم سعيد جميعا.
وخرجت وتبعني بطرس، ولما صرنا خارج البيت أمسكني صديقا مستوقفا، وقال والسم يقطر من وجهه: ما نفعك ونفع علمك، إذا كنت لا تفهم أن في بيوت أهل الموتى لا يقولون عبارة: «نهاركم سعيد»، وقد أفهمتك عندما دخلنا أن لا تلفظها فبلعتها، فلماذا نسيت هذا الأمر عندما خرجت؟
فقلت له: دعني من عتبك يا بطرس، وأخبرني أين قرأت القصة التي قلتها في بيت الميت؟ فقال إنه سمع جده يرويها في مأتم شيخ القرية. فقلت: وأين قرأها جدك؟ فقال: لا بد أنه سمعها من جده. فقلت له: إذن في مرة ثانية اضبط التاريخ وقل هكذا: «حدثني جدي عن جده عن جده، حتى تصل إلى معاصر لإسكندر الكبير.»
فضحك بطرس وصفح عني، وقال وهو يصافحني، ليأخذ سبيلا غير سبيلي: اضحك بسرك ، فإننا لم نكمل الساعة في بيت المرحوم، وإلا لكنا سمعنا حكاية إسكندر الكبير، لا أقل من عشرين مرة.
فأجبته ولعلني قلت الصواب: «لو كنت موضع أهل الميت لقلت للناس، المرحوم استراح من هذه الدنيا ومن مواعظكم.»
وودعت بطرس وسرت في طريقي، فالتقيت بجماعة عرفت منهم واحدا. ولما رآني دنا مني مسلما، وأخبرني أنه ذاهب ليأخذ بخاطر آل المر، فأخبرته أني آت من تعزيتهم، الله يساعدهم، فأعاد: «الله يساعدهم»، وزاد: «ويعينهم»، وقد أخبرته كيف أني دخلت بيت الميت ولم أقل عبارة تعزية أعزي بها المساكين؛ لأني لا أفهم الاصطلاحات، فضحك مني وقال: «أهي مسألة فلسفة، احك قصة فيها مغزى، وعز بها الجماعة.» فقلت: وما عساك أن تحكي أنت؟
فبدأ يخبرني قصة إسكندر ذي القرنين، ولكني قاطعته قائلا: إني أعرفها، وأشرت له أن يلحق بأصحابه؛ ليعزوا الجماعة وليساعدهم الله - ويعينهم - ويرحمهم. (3) رأس الحكمة
الطفل إذا خاف يفزع إلى أمه، كذلك كل ضعيف إذا شعر بخطر محدق به يفزع إلى قويه.
وللنفس كما للجسد مفزعة، وإنما ما لا ترى كالنفس. وكل شيء صفته من جنسه، فكما أن النفس لا ترى، كذلك مفزعتها لا ترى.
Bilinmeyen sayfa