فمن الواضح إذن أن أخبار الرواة عن الخلل الجنسي في بنية امرئ القيس صحيحة لا يستطيع الرواة أن يلفقوها، ويجمعوا بين دلالتها على هذه الصورة، ومن الواضح كذلك أن تعليل رائحة العرق برضاع لبن الكلبة وهم باطل؛ لأن هذا الرضاع لو حدث لم تحدث منه تلك الرائحة ... ونفهم من هذه القرائن بالبداهة أن قصة الحلة المسمومة وهم كهذا الوهم؛ لأن القروح لا بد أن تنشأ من ذلك المرض الجنسي بعد طول العهد بالإصابة؛ ولأن الرجل الذي تبغضه زوجته لعيوبه الجنسية لا يبلغ من غوايته للمرأة أن يستهوي ابنة قيصر، وأن يتعرض في جريرة ذلك للوشاية والانتقام. •••
وننتقل من روايات زواجه ومرضه إلى روايات أخلاقه، فنعلم من جملتها ما يفسر لنا سمعته، وما اشتهر به من الإباحة وافتضاح السيرة في أمور النساء: (1)
ظهر مذهب مزدك على عهد الملك الفارسي قباذ، وهو مذهب يدعو إلى المشاركة في الأموال والزوجات، وأراد الملك الفارسي أن ينشره بين العرب، فأنكره المنذر بن ماء السماء ملك الحيرة وارتضاه الحارث بن عمرو ملك كنده. (2)
وكان المهلهل الشاعر خال امرئ القيس ماجنا مستهترا بمصاحبة النساء، ولقب من أجل ذلك بالزير وهو الرجل الذي يكثر من مزاورة النساء. (3)
وكان امرؤ القيس يبيح في شعره ما لا يباح من التحدث بالفسوق والخيانة وغشيان الخدور، فلا جرم يقال عنه: إنه غوي داعر ويتردد وصفه بهذه الصفة على ألسنة رواته.
فهذه أخبار عدة تفسر لنا سمعة الشاعر، وتبين لنا البواعث النفسية التي تنبعث بها تلك الخليقة، وتهيئ لها جوها الاجتماعي ولوازمها العاطفية «أولا» من خلائق القبيلة التي ولد فيها، وسمحت لها أحوالها الاجتماعية بقبول مذهب مزدك، ومطاوعة الملك الفارسي حيث خالفه ملك الحيرة.
ويأتي جو الأسرة بعد جو القبيلة، فلا يستغرب من امرئ القيس الناشئ أن يشبه خاله زير النساء من جانب الطبيعة ومن جانب الصناعة الفنية؛ إذ كان خاله شاعرا يقول بفنه ما طبع عليه بوراثته، وقد يزيد امرأ القيس تماديا في المجون والخلاعة أنه يدفع بهما شبهة النقص ويعوض بهما قولا، ما ليس له في الحقيقة. •••
وعلى هذا النحو من المقابلة بين الروايات نعلم حدود الكذب، أو حدود الوضع حتى عند ثبوت الوضع، أو ثبوت التناقض بين الروايات في الخبر الواحد.
فإن كذب الوضاع ينتهي عند حدود الاستطاعة التي لا يقدرون على مجاوزتها، فليس في مقدورهم أن يختلقوا العوارض الطبية التي تصلح دون غيرها لتفسير أخبارهم ونقائضهم، واستخراج الحقائق الظاهرة أو المستترة بين طواياها ...
وليس في مقدورهم أن يصنعوا بيئة القبيلة ولا بيئة الأسرة، ولا بيئة الجو النفساني الذي نشأ فيه الشاعر، وعاش فيه حتى اتفقت هذه البيئات جميعا على التمهيد لتكوين إنسان موجود، ولا بد أن يكون موجودا إذا تلازمت مقدمات وجوده، ونتائجها على وجه يمتنع فيه الكذب؛ لأنه كذب لا يستطيعه من يأتي به ولو أراده وتحراه. •••
Bilinmeyen sayfa