وعلا صوت شعبان: وماذا أقول لأبيك؟
ووقف عباس فجأة، ثم تابع مسيره دون أن يتكلم، وراح شعبان ينادي في إلحاح فلم يلتفت إليه، حتى إذا يئس صديقه من عودته أخذ يضرب كفا بكف وهو يقول: لا بد أنه جن.
سار عباس دون أن يختار طريقا، وراح يسرع الخطو أحيانا، ثم يعود فيتمهل محاولا دائما أن يؤكد لنفسه أنه يستطيع أن يسير بالسرعة التي يريدها لنفسه، وأنه ليس دمية، لن يصلي الجمعة، وأنه حر، حر، حر!
ولم يخل طريق اختاره من جامع والناس تدخله أفواجا، فكان يعرج عن الطريق إلى آخر، حتى يعترضه جامع آخر، لم يستطع أن يهرب من الجوامع أبدا. وأخيرا علا صوت الأذان «الله أكبر». وأحس لها صدى عميقا في نفسه؛ ما هذا الوجيب الذي يستقبل به الأذان؟ لماذا؟ ألأنه يحس أن هذا الأذان قد شق السنين، يسلمه جيل إلى جيل، لم يهن ولم يضعف على مدى الآلاف من الأيام، وما زال نديا جديدا فيه حلاوة الشباب وجلال المشيب؟ ما هذا الرنين الذي يحسه وهو يسمع «الله أكبر»؟ ألأنه أكبر فعلا؟ وإن لم يكن فمن أكبر؟ ومرة أخرى راح يسرع الخطو محاولا أن يبتعد عن الأذان، ولكن صوت الأذان ظل يلاحقه ويلاحقه، يزداد كلما ابتعد عن المئذنة.
وبلغ شارع الترام فعلا صوت الترام في أذنه حتى طغى على النداء الذي يلاحقه، وحين خيل إليه أنه تخلص من صوت الأذان وقف أمام الترام وراح يتطلع إليه في إعجاب.
عاد الشيخ إلى البيت ثائرا ثورة جامحة، ولقيته زوجته زكية، وراحت تحاول تهدئته ولكن كيف له أن يهدأ؟! حتى عباس، أما يكفيه هؤلاء الناس جميعا يخرجون عن الدين ولا يحتفون بأوامره ونواهيه حتى يفجعه ابنه، فلذة كبده؟! ابنه الوحيد لا يصلي الجمعة! ويا ليته كان مريضا إذن لهان الخطب! ولكن ابنه غير مريض، بل ها هو ذا حتى لم يعد إلى البيت. أيكون قد أصابه حادث؟ لا؛ فلو كان لقصد إليه شعبان في القهوة وعرف النبأ في حينه. هو المروق والعصيان لا شيء آخر. إذن فالويل له ثم الويل! أيظن أن ذهابه إلى الجامعة معفيه من العقاب؟ إن حق الله فوق كل شيء. وهل الجامعة تبعده عن يد الأبوة؟ ليعلمن أي جرم ارتكب، وليذوقن ويلا وثبورا.
ولم يطل انتظار الشيخ وإن خيل إليه أنه طال، وعاد عباس، ولقيه أبوه وقد اختلط احمرار وجهه باحمرار عينيه، وذهب به إلى حجرته، وأغلقها بالمفتاح وعاجله: أين كنت؟! - لم ... لم أكن. - لماذا لم تأت إلى الجامع؟
وصمت عباس وقال أبوه محنقا: انطق. - كنت ... كنت ... - انطق ... أين كنت؟ - كنت أسير في الطرقات. - ماذا؟! - أردت أن أسير في الطرقات. - أردت ماذا؟! - أليس هذا من حقي؟ - وحق الله يا كافر يا ملعون! - لا بد أن أكون مقتنعا بالصلاة حتى أصلي. - مقتنعا؟! - نعم، أليست الحرية هي أهم شيء في الوجود؟! - فأنت غير مقتنع بالصلاة؟ - لا. - أنا أقنعك.
وقام الشيخ سلطان إلى عصاه وانهال على فتاه في عنف مغيظ، ولكنه رأى عجبا. كان الفتى إذا ما تعرض للعصا راح يذود عن نفسه بذراعيه، ويتوسل إلى الكراسي والأثاث أن يحميه، ولكن عباس في هذه المرة ظل واقفا مكانه لم يتحرك، وترك العصا تنزل على كل مكان فيه وكأنما هي تضرب شيئا لا أثر فيه من الحياة. وانتبه الشيخ إلى جمود ولده، فجمدت العصا في يده، وراح يحملق في عباس حائرا بين الدهشة والغيظ. وقال عباس في جموده لا يزال: أتريد شيئا آخر يا أبي؟
وقال الشيخ سلطان في ثورة مشوبة بالدهش: اخرج، اخرج ولا ترني وجهك. اخرج يا كافر. اخرج، اخرج.
Bilinmeyen sayfa