الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
لقاء هناك
لقاء هناك
تأليف
ثروت أباظة
الفصل الأول
تأنق الشيخ سلطان عبد الصبور وبالغ في تألقه متخذا الجبة الخضراء الزيتونية اللون على القفطان ذي الأرضية الفستقية والخطوط الضاربة إلى الخضرة، وأحكم لف العمامة، وطالع نفسه في المرآة مرات عديدة، وحاول في كل مرة أن يستوحي من هذه الخضرة التي يكسو بها نفسه بعض إشراق يجوب نفسه الضيقة الملول، ولكنه لم يفلح في محاولاته جميعا. كان الشيخ يعد نفسه للذهاب إلى مكتبه بالوعظ والإرشاد بالأزهر الشريف، وهو مكتب ألفه منذ ترك وظيفته في التفتيش على خطباء المساجد في المنوفية، وقد مر على هذه النقلة سنوات وسنوات؛ فقد انتقل من هناك وابنه عباس في المهد، وها هو ذا عباس اليوم يتقدم لينال شهادة التوجيهية. سنوات وسنوات، وهو كل يوم ذاهب وعائد إلى المكتب، ومنه يشرف مع المشرفين على الوعظ والإرشاد في الدولة المصرية، فما أفلح وعظ ولا نجح إرشاد، والناس تسمع بآذان متعجلة تريد أن تسارع لتفرغ ما قد سمعته في حان، أو فيما هو شر من الحان، وإبليس اللعين يلاحق قسم الوعظ في العميق العميق من نفوس الناس، وخطباء القسم لا تمتد ألسنتهم لغير آذان إن سمعت لا تعي، وإن وعت فما هي إلا تسلية الصلاة حتى يقطعون ما بينهم وبين الله، ويرجعون إلى إبليس الذي يصاحب نفوسهم ولا يزال بها يغريها بكل ما يملكه من وسائل للإغراء، وإنها في يده كثيرة.
وأين وجه الشيخ عكاشة أفصح خطباء الوعظ والإرشاد من فتاة غيداء؟ بل أين أناقة الشيخ سلطان، وهي أناقة بالغة من فستان مهما يكن رخيصا؟ ... إنها حرب لا تكافؤ فيها ولا عدل. وماذا يمكن أن يصنعوا جميعهم إزاء نظرة حالمة، أو ابتسامة مستدعية، أو - والعياذ بالله - كلمة رقيقة؟ ألا إنها قسمة ضيزى، وإن نصيبهم لأبخس الأنصبة. وحسبه من الزمان أنه ذاهب كل يوم إلى مكتب الوعظ عائد منه. وحسبه أيضا أنه يؤدي الصلوات الخمس مع كل سنة، بل إنه لا يترك المأثور من شفع ووتر. وإنه ليطيل الركوع والسجود إطالة قد تضيق بها زوجته زكية في كثير من الأحايين، ولكنه لا يبالي ضيقها فهو يعلم أن إطالة السجود والركوع واجب في الصلاة لا سبيل إلى التغاضي عنه. وحسبه أنه يصلي الفجر في موقته؛ فلم يكن النوم عنده خيرا من الصلاة في يوم من الأيام. وإنه لحريص كل الحرص على أن يصلي ابنه عباس الصلوات جميعا، وكذلك تفعل ابنته وهيبة، لكن أين هذا جميعه مما هو مفروض عليه من وعظ وإرشاد؟
كان الشيخ قد أكمل ارتداء ملابسه ولم يبق إلا الحذاء، فجلس إلى الكنبة البلدية ذات الوسائد التي تعترض مقعدها وتذود ظهر الجالس إليها عن الحائط، وكانت المنضدة بجانب الكنبة لا تبتعد عنها أبدا، وكانت لبيسة الحذاء على المنضدة لا تبرح مكانها إلا إلى حذاء الشيخ ثم تعود. وهكذا مد الشيخ سلطان يده إلى اللبيسة دون أن يكلف نفسه عناء النظر إلى موضعها، وقد أصابت يده مرادها في غير تردد، ولبس الشيخ الحذاء وعادت اللبيسة، وصاح الشيخ كعادته: يا زكية!
وأصاب النداء الأذن التي أرسل إليها وصاحت زكية من البهو: هل انتهيت من اللبس يا شيخ سلطان؟
ويصيح الشيخ مرة أخرى: هل أعددت الإفطار؟ - دقيقة واحدة.
وتنحنح الشيخ وصمت هنيهة، ثم صاح: ألبس عباس؟
ولم يجبه أحد في هذه المرة ، فعاد إلى الصمت، ولكنه ما لبث أن ضاق به كما ضاق بنفسه داخل الحجرة لا يفعل شيئا، فقام مرة أخرى إلى الصوان وفتح ضلفته ذات المرآة وأخرج من الرف الأعلى زجاجة صغيرة الحجم يغشى الزيت ظاهرها ذات غطاء زجاجي دقيق، لا يقف عمله على تغطية الزجاجة، وإنما هو أيضا مرود يجعل من يتزود بعطرها حكيما غير جائر، فلا يصيب من العطر إلا قدرا قليلا ينم ولا يفضح. وتعطر الشيخ، ثم أعاد المرود إلى الزجاجة، والزجاجة إلى الصوان، ثم أقفل الضلفة وعاد ينظر إلى المرآة ... ويل للعطر! ... إنه لم يزد من أناقة الشيخ شيئا!
وقبل أن يمد الشيخ يده إلى شاربه الكث ليحاول أن يلم شعثه أو يهذب ثائره، تراءت له من تحت الجبة قطعة من القفطان تكوم تحتها الصدار، فراح يسوي ما تجمع ويعدل ما التوى، حتى عاد إلى ملبسه ما كان عليه من نظام قبل لبس الحذاء، ثم عاد هو ينظر إلى المرآة ... ما زال كما هو ... عينان واسعتان فيهما سطوة وفيهما قدرة على الخضوع، ووجه متردد بين الاستدارة والاستطالة يغشيه الشعر في غزارة وكرم؛ فاللحية كثة يكلفه حلقها كل يوم موسى جديدا ووقتا طويلا، والحاجبان كثيفان كقطعتين من ليلة في محاق، وإن كان الشعر الأبيض قد بدأ يرود طريقه فيهما فيبدو كالنجوم التي تسعى إلى السماء الداكنة خائفة تبحث عن الأنيس أو الرفيق، والشارب كث ضخم والشيخ دائما حائر فيه؛ فهو حينا يجور عليه بالمقص، حتى ليصبح غير جدير بوقار الشيخ ومكانته، وهو حينا يعفيه من التهذيب فترة طويلة فيبدو كالطفل المدلل دائم العربدة بادي الفوضى. وللشيخ بعد ذلك بقية من شعر في رأسه، ولكني أحسب أننا لن نرى هذه البقية أبدا؛ فالشيخ لا يترك العمامة إلا إذا لبس القلنسوة، فما هي إلا ومضة حتى تغطي واحدة منها رأس الشيخ، وما تكفي ومضة لندرك مقدار ما بقي له من شعره، إلا أن سالفيه غنيان بالشعر يكسبان العمامة والقلنسوة كلتيهما رواء، كما يكسبه هو طوله واتساع عارضيه مهابة وجلالا .
هذا هو الشيخ سلطان في مظهره العام، إلا أن في الشيخ خاصية يختلف بها عن سائر الناس اختلافا ما هو بالبعيد وما هو بالضئيل الذي تعبره العين ولا تلتقطه؛ كانت عينا الشيخ حمراوين دائما، سواء أكان الشيخ مريضا أم صحيحا، مصيبا من النوم حاجته أم قلق النوم غير هادئ. العينان حمراوان على أية حال، ولعل هذا الاحمرار هو الذي يضفي عليهما هذا البريق من السطوة، وهذا الاستعداد من الخضوع كأنهما عينا مخمور. ولن تجد محبا للسطوة مثل مخمور، أو مسارعا إلى الخضوع مثل مخمور أيضا، إلا أن الشيخ لم يكن مخمورا، بل أقسم غير حانث أنه لم يذق الخمر أبدا إلا ليلة واحدة تاب بعدها، وقد عذبه ضميره أي عذاب. إنها ليلة سحيقة الغور في أعماق تاريخ الشيخ، وما كان أحراني أن أكتبها على الشيخ فلا أفضحه وقد ألقى عليها الزمان أثوابا وأثوابا من الأيام.
ولكن ماذا أفعل وقد زل القلم كما يزل اللسان؟ وأصبحت الآن ولا بد لي أن أذكرها. وعلى أية حال فإنها حكاية صغيرة مرت بالجميع في هذه السن الباكرة التي كان عليها الشيخ.
عفا الله عنه الشيخ عبد التواب فلولاه ما سقط الشيخ سلطان، وقد كانا يومذاك مجاورين بالأزهر الشريف، وكانا قد تعودا أن يخرجا معا بعد الدرس فيرودا الشوارع في تؤدة ووقار، فهما ينقلان الخطوات بطيئة متعاظمة وكأنما أثقلهما العلم أن يطلقا لأقدامهما الحرية، وينفلتا إلى انطلاقة الشباب وبحبوحة الدماء الفائرة في عروقهما، وقد ضاقت بالوقار وبالجبة وبالعمامة جميعا. وكانت النزهة عندهما غاية النزهة أن يتنقلا بين مسجد الحسين والسيدة زينب والإمام الشافعي، أما الذهاب إلى الهرم فهو مغامرة يدبران لها التدابير، ويعدان العتاد، ويحكمان الخطط.
وكان الحديث بينهما تعليقا على الدروس والهوامش وآراء الأساتذة واختلاف العلماء. وكان غاية ما يذهبان إليه في أحاديثهما من جرأة أن يذكرا اختلاف مشايخ الأزهر وكره بعضهم لبعض - وكان المشايخ يهيئون لهم من هذا الحديث مادة لا تنفد - فقد كان جميعهم مختلفا مع جميعهم، وكان جميعهم لا يكتم غيظه وكرهه لجميعهم.
قد كان هذا، ولكن في ذلك اليوم المشهود من تاريخ الشيخ سلطان بدأ الشيخ عبد التواب حديثه بعد الدرس بداية لم تكن في أولها غريبة على الشيخ سلطان، إلا أنها أدت في آخر اليوم إلى قطعة من تاريخ الشيخ سلطان يجدها أحيانا قطعة جميلة فيها جرأة وفيها شباب وفيها حلاوة، ويجدها أحيانا أخرى قطعة شوهاء فيها معصية وفيها كفر وفيها مروق.
قال الشيخ عبد التواب: نصلي اليوم في جامع عمرو بن العاص. - لا بأس، ولكن لماذا اخترت عمرو بن العاص وقد كنا به منذ أيام قلائل؟ - عرفت عنه معلومات ما كانت لتخطر لي على بال. - وماذا عرفت؟ - ألا تحب أن تنتظر فتجمع إلى متعة المغامرة متعة المفاجأة؟
وداعبت صدر الشيخ سلطان عوامل اختلفت بين الخوف والرغبة والإقدام والإحجام: وهل هناك مغامرة؟ - سوف ترى.
وانتقل الشيخ عبد التواب إلى حديث آخر؛ فقد كان يخشى أن يتضح من نيته أكثر مما ظهر، وكان يخشى أن يثنيه الشيخ سلطان عما عزم عليه أمره. وبلغ الشيخان المسجد وأقاما الصلاة، حتى إذا أتماها قال الشيخ سلطان: ألا نقوم فنصلي المغرب في الحسين، ثم نذهب إلى البيت لنذاكر؟ - ألا نصلي السنة؟ - نصليها.
وصليا السنة، ثم أراد الشيخ سلطان أن ينصرف، فظل الشيخ عبد التواب يغريه بصلوات أخرى، حتى إذا انتهى ما يعرفه من أنواع الصلاة صارح الشيخ سلطان برغبته في أن يصليا المغرب حيث هما. وفهم الشيخ سلطان أن المغامرة تكمن لهما بعد المغرب، فتظاهر بالغفلة ومكث. وحلت صلاة المغرب وصلياها أيضا، وتظاهر الشيخ سلطان بالغفلة مرة أخرى، ومكث حيث هو ليرى المفاجأة التي أعدها له الشيخ عبد التواب. ولم يطل به الانتظار؛ إذ ما لبثت سيدة ملفوفة في ملاءة أن وقفت بباب المسجد وأخذت تجيل عينيها في أنحائه، حتى إذا اطمأنت إلى قلة من به خلعت حذاءها ودخلت. وما إن اقتربت من عمودين في وسط المسجد حتى خلعت ملاءتها، وحينئذ لكز الشيخ عبد التواب الشيخ سلطان ليرى إن لم يكن قد رأى، ولم يكن الشيخ سلطان في حاجة إلى هذه اللكزة؛ فقد كانت عينا الشيخ على الفتاة منذ لاحت بباب الجامع. ولم تعبأ المرأة بنظرات الشيخين، بل راحت تحشر جسمها بين العمودين وهي تتمتم بكلمات لم يسمع منها الشيخان شيئا. وبدت الدهشة في عيني الشيخ سلطان، وارتسمت على فم الشيخ عبد التواب ابتسامة العالم ببواطن الأمور، ولم يمهله الشيخ سلطان: ماذا تفعل؟ - تحمل.
وقفز الشيخ سلطان قفزة كادت توقعه على قدميه وهو يقول: ماذا؟! - إنهن يجئن هنا معتقدات أن المرور بين هذين العمودين يجعلهن يحملن.
ومص الشيخ سلطان شفتيه وهو يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله! ... ألمثل هذا جئت بي؟! - ماذا؟! ألا يعجبك؟ ... أنقوم؟
وتخاذل صوت الشيخ سلطان وقال في استخذاء: أما كان الأولى بك أن تخبرني؟ - إننا ما زلنا على البر، أتحب أن نقوم؟ - ماذا؟! على البر! ... أتنوي أن ننزل إلى البحر؟ - ويحك! لن نمضي من هنا إلا والبحر في يدنا. - يا شيخ حرام عليك! - إن كان الحال لا يعجبك نمشي. - أتعرف كيف تجيء بالبحر؟ - لقد وصف لي الشيخ عبد الباسط امرأة معينة، وقال إنها صديقة طلبة الأزهر، وإنها ترضى بالقليل. - وما القليل؟
وهكذا نمت التجربة للشيخ سلطان، فقد جاءت المرأة وكانت كما وصفها الشيخ عبد الباسط، وكانت ليلة.
ثم كان صباح غادر الشيخ سلطان القاهرة والأزهر الشريف وأخذ سمته إلى قريته ميت جحيش، وما هي إلا أيام قلائل حتى كان قد عاد إلى الأزهر وقد عقد عقده على خطيبته وابنة خالته زكية التي كانت تنتظره أن يتم علومه بالأزهر، ولكنه بعد مغامرته لم يطق أن ينتظر الشهادة. وكان أبوه ميسور الحال يستطيع أن يعينه على الحياة بلا عون من الوظيفة. وتم زواجه. شرب الشيخ سلطان الخمر في هذه الليلة الخالدة؛ فقد علمه الشيخ عبد التواب أن الأنس لا يتم إلا بالكأس، ولكنه لم يعد إليها بعد ذلك أبدا، كما لم يعد إلى أمثال هذه المغامرة، وإن كان الشيخ عبد التواب قد أعجبه هذا الحال وواصل جهاده فيه.
تلك هي المغامرة الوحيدة في حياة الشيخ سلطان؛ فاحمرار عينيه إذن لا صلة له بالخمر، كما أنه ليس مرضا فما يحس فيهما بألم، إنما هو احمرار ركب فيهما بدلا من البياض.
كان الشيخ سلطان أمام المرآة ما يزال يجري على شاربه محاولات يائسة، حين طرقت الباب ابنته وهيبة، فتنحنح الشيخ وقال في تؤدة: ادخل.
وبدت وهيبة على الباب فتاة في مطالع الشباب الأولى، يحرمها البيت أن تبدي من شبابها شيئا؛ فمنديل يكسو رأسها، وجلباب يوضع عليها لا أثر فيه للحلية أو الزينة. ولكن الطبيعة التي تحارب الشيخ سلطان في كل الناس تحاربه في ابنته أيضا؛ فعلى خديها حمرة الشباب، وفي عينيها إشراقة تطالع الشيخ في تحد يضيق به أشد الضيق، فلو يملك لقال لفتاته احجبي نور الشباب أن يسطع من محياك، ولو يملك لألقى على وجهها غلالة أو حجابا كثيفا، ولكن لا سبيل له أن يفعل. كل ما استطاعه الشيخ هو أن يأمر بها ألا تذهب إلى المدرسة، فمكثت مع أمها تدبر شئون البيت أو تتعلم تدبيرها.
وقالت وهيبة: الفطار جاهز يا آبا. - ألبس عباس؟ - لا أدري؛ فقد رأيته منذ الصباح مشغولا براديو يحاول إصلاحه. - عظيم! ... نفتحها ورشة إذن لراديوهات أصحاب سي عباس. - سأناديه حالا.
وخرج الشيخ إلى البهو وقد أعدت به المائدة، وصاح: يا عباس!
وجاءه الرد قبل أن يتم النداء: نعم يا أبي.
ومع الإجابة خرج عباس من غرفته مرتديا ملابسه وقد بدا عليه العجل في ارتدائها، وسأل الشيخ ابنه في حزم: أصليت؟!
وقال الابن وقد بدا وكأنه أعد الإجابة: نعم. - فهيا كل لتذهب إلى المدرسة.
وجلس عباس إلى أبيه في أدب صامتا، ومد يده إلى رغيف واقتطع منه لقمة وهم بإلقائها إلى فمه، ولكن أباه يعاجله: ابدأ باسم الله ... بسم الله الرحمن الرحيم.
وقال عباس في استخذاء: بسم الله الرحمن الرحيم.
ثم راح يأكل وقد بدا عليه حرج من نظرة أبيه التي ظلت عالقة به، وما إن أحس أن أباه انصرف عنه بالطعام حتى عاد إلى سجيته وراح يأكل في بعض هدوء.
وما إن أتم الاثنان إفطارهما حتى قام الشيخ وغسل يديه وتبعه ابنه، ثم نزل عباس يتبع أباه حتى بلغ باب البيت الخارجي، فالتفت الشيخ سلطان إلى ابنه وقال: مع السلامة، واحذر الطريق.
وافترق الشيخ عن ابنه، وما إن نظر عباس إلى ظهر أبيه وهو يولي عنه حتى عاد إلى كامل طبيعته الشابة المتوثبة ... ومضى إلى طريقه.
وما إن بلغ نهاية شارع الملك الناصر حتى التفت وراءه فوجد أباه في النهاية الأخرى من الشارع يكاد يصل إلى شارع خيرت، فعبر هو شارع نوبار ووقف على الطوار، وألقى نظرة أخرى إلى ظهر أبيه المتباعد وهدأ طائره، ومضى يسعى في شارع نوبار تاركا المدرسة إلى شارع المبتديان، وأمام منزل هناك وقف وظل رانيا.
الفصل الثاني
ذلك منزل مرقص أفندي عبد الملك الموظف بحسابات وزارة المالية، وهو صديق أثير للشيخ سلطان، كثيرا ما قضيا الليالي بقهوة السيدة يلعبان النرد ويجيلان بينهما الأحاديث. جمع بينهما المسكن المتقارب والأصدقاء المشتركون. وكان أطفال المنزلين يلعبون في مكان واحد، فكانت إيفون بنت مرقص أفندي تلعب مع عباس ابن الشيخ سلطان، وكان ملعبهما في شارع الملك الناصر حيث السيارات قليلة المرور.
جمعهما ذلك الملعب سنوات طوالا من العمر، وشب بينهما ذلك الهوى الطفل الذي يخفق مع خفق الطفولة الندي البريء. وأمسكت إيفون مرقص بفانوس رمضان ومشت به مع عباس وصحبه يصيحون إياحا الخالدة، وأمسك هو سعف النخل في أحد السعف، ولعبت إيفون الكرة، وقفر عباس الحبل، وعرفا الحب يومذاك. عرفاه حبا عفيفا جائحا، فإن غاب صعدت إلى منزله تستدعيه، وإن غابت صعد إلى منزلها يستدعيها، لا يجدان من ذلك حرجا، ولا من كلا البيتين أي عجب.
وتمر الأيام قاسية كشأنها حين تمر، فإذا بإيفون شابة وإذا بعباس فتى، وإذا البيت يحبس إيفون عن الملعب وعن عباس جميعا، وإذا بعباس إن طاف حول بيتها رمقته عيون غير راضية يحس فيها الاستنكار، وينصرف خجلا يتلفت وراءه في حسرة وألم.
ولكن هذا لم يمنعه أن يجد لنفسه مرقبا أمام بيتها يستطيع منه أن يراها وهي تسعى إلى المدرسة في العربة، ولم يمنعها أيضا أن تراه في مرقبه هذا. وحينئذ كانت تعلم أن الشوق قد بلغ أقصاه، فتحتال على أمها أن تسمح لها بزيارة وهيبة، وهكذا كانا يلتقيان، ولكن أي لقاء؟ ...
كان مرقص أفندي قد اتفق مع الأسطى جبر أن يأتي لابنته كل صباح ليذهب بها إلى المدرسة ويعود بها منها مقابل مائة قرش في كل شهر. وكان الأسطى جبر صادقا في مواعيده، وقد كان صدق مواعيده هذا هو الجحيم الذي يصلاه عباس.
فما استطاع يوما أن يختلس كلمة من إيفون، وما استطاع يوما أن يقترب منها، وكيف له بهذا والأسطى جبر بمشهد؟ وأما البيت فأهول من الأسطى جبر وأشد نكاية.
إن أمه لن تسمح مطلقا بجلوسه مع إيفون، بل إن أخته وهيبة أيضا لن تسمح. بحسبه أن يدخل إلى الحجرة مصطنعا أنه لا يدري أن أحدا غير أخته بها، أن يصطنع سؤالا عند وهيبة، وما هي إلا ريثما تلتقي العيون بومضة من نجوى، أو تلتقي الأيدي بلمسة من شوق عارم، حتى تفترق الأعين وتنفصم الأيدي ... ثم تمر الأيام ثقالا بطيئات حتى يذهب مرة أخرى إلى مرقبه، أو تأتي هي بلا دعوة من وقفته الصامتة على الطوار الآخر من منزلها.
ولم يكن يستطيع أن يذهب في كل يوم؛ فسكان المنازل المجاورة يعرفونه ويعرفونها، وهم يعرفون ألا عمل له بهذا الشارع، فإذا تعودوا رؤيته فلن تلبث الألسنة أن تتحرك، وما يلبث أبوه أن يمده وينهال عليه بعصاه التي لم يعفه منها أنه أصبح على أبواب الجامعة.
ولكن رجلا بعينه العجوز استطاع أن يراه وأن يتعود رؤيته أكثر من مرة في كل أسبوع. إنه رجل تعود أن يرى ويحسن الرؤية، وتعود أن يلاحظ ويحسن الملاحظة. وعلمته الأيام أن هذه الوقفة لا بد تخفي من ورائها شيئا. ولم يطل به التفكير فيما تخفيه؛ فما كان أيسر أن ينظر وراءه بعد أن يسعى بتلميذته إلى المدرسة، حتى يرى الواقف قد تحرك وعيناه ملتصقتان بظهر العربة لا تريمان عنها.
تحرى الأسطى جبر أن يأتي مبكرا عن موعد نزول إيفون، وكرر ذلك أياما متتالية حتى كان اليوم. ولم يضع الأسطى جبر وقتا؛ فقد أوقف العربة أمام منزل مرقص أفندي وقصد مسرعا إلى عباس في وقفته. وذهل عباس وأوشك أن يولي الفرار، ولكن رجليه لم تسعفاه، وما أسرع ما جابهه الأسطى جبر: ماذا تفعل هنا يا أفندي؟! - و... و... وأنت ما لك؟! - عجيبة! ... أنا ما لي؟! أأخبر أباها ليودي بك في داهية؟! - أنا ... أنا ماذا فعلت؟!
وابتسم الأسطى جبر وقال في حنان: أتعرفك هي؟
ودهش عباس من هذه اللهجة الناعمة، وسارع يقول وكأنما خشي عليها عاديا يمس سمعتها: لا ... لا ... أبدا.
وقال الأسطى جبر في ابتسامة: خسارة. - ما الخسارة؟ - لو كانت تعرفك لتغير الوضع. - كيف؟! - لو كانت تعرفك ... يعني لو كانت ... لو ... - هيه ... ماذا يحصل لو كانت تعرفني؟ - كنت جعلتك تركب معها. - ماذا؟! ... ماذا تقول؟! - ولكنها لا تعرفك.
وصمت عباس مستخزيا أن يبين عن كذبه، ولكن الأسطى جبر العجوز ذو دربة ومراس: يا بني قل الصراحة لعمك جبر.
واستجمع عباس شجاعته وقال: الصراحة يا عم جبر ... الصراحة. - فهي تعرفك إذن، كم تدفع لتركب معها كل يوم؟
وعاد الموقف إلى حرجه، بل لعله عاد إلى موقف أشد حرجا وضنكا. ماذا يدفع؟ وكيف يدفع؟ إن كل ما يملكه قرش واحد لا يملك في اليوم غيره. وقال عباس: أدفع ... أدفع ... ماذا أدفع؟ - فلوس، فلوس طبعا، أتريد أن تركب مجانا؟! - ولكن يا عم جبر أنا تلميذ. - وأنا عربجي. - ولكن من أين أجيء لك بالفلوس؟ - هذا يا حبيبي ليس عملي، يكفي أنني سأجعلك تركب معها، أما من أين تجيء بالفلوس فهذا عملك أنت. - كم تريد؟ - خمسة قروش. - في المرة! - طبعا، أم تظن في الشهر؟ - أمري لله يا عم جبر. - موافق؟ - لا أستطيع. من أين آتي بخمسة قروش؟ يكفيني النظر. - كم تستطيع أن تدفع؟ - أبي يعطيني قرش صاغ في اليوم. - قرش صاغ واحد؟! - واحد. - النظر كثير عليك. أتأخذ قرش صاغ واحدا وتريد أن تحب وتنظر؟! - وماذا أعمل؟ - اسمع! الطيبات لله، ادفع لي قرشين في المرة. - ليكن. - اذهب إلى العربة واركب، واحذر أن يراك أحد.
وحين همت إيفون بالركوب ارتدت في جزع، فما استطاعت الابتسامة الخبيثة المرسومة على وجه عم جبر أن تمهد عندها عن المفاجأة التي تخفيها لها العربة. وهمس عباس: اركبي، لا تخافي.
وعادت إيفون لترى عباس، ثم ألقت نظرة إلى عم جبر، ثم نظرت إلى أعلى لترى إن كان أحد من أهل بيتها بالشباك، ثم ركبت واجفة وهمست: كيف فعلت هذا؟!
وتحركت العربة، وقال عباس: اتفقت مع عم جبر. وبعد يا إيفون؟ - وبعد فيم؟ - كيف أستطيع أن أراك؟ - كيف أدري؟ لقد استطعت أن تركب العربة، يبدو أنك أنت الذي تستطيع أن تجد الحل دائما. - أهذا لقاء؟! إنها دقائق أختلسها اختلاسا؛ فأنا لا بد لي أن أذهب إلى المدرسة، كما أنني لا أستطيع أن أذهب معك إلى مدرستك أو قريبا منها؛ فقد تراني زميلاتك. كيف نلتقي؟ أنت لا تعرفين كم أشتاق إليك! - اكتب لي. - وماذا تنفع الكتابة؟ - وماذا نصنع. - اسمعي، إنني أستطيع أن أخرج بعد صلاة العشاء؛ فإن أبي لا يخرج من حجرته بعد صلاة العشاء. أتستطيعين أن تخرجي أنت أيضا؟ - أخرج؟! أخرج إلى أين؟
وقال عباس مفكرا: إلى أين؟ إلى أين؟ - أتريدني أن أخرج من البيت؟
وحينئذ وقف عم جبر بالعربة وهو يقول: تفضل يا أستاذ، سندخل إلى شارع المدرسة.
وقال عباس: فكري وسألقاك بعد غد.
وقال الأسطى جبر: وأحضر معك ثلاثة قروش؛ فأنت اليوم لم تدفع إلا قرشا واحدا.
وأطرقت إيفون وهي تقول: لا أدري ماذا نفعل.
وقال عباس فجأة: أليس لديك صورة؟ أريد منك صورة.
وقال الأسطى جبر: ميعاد المدرسة يا أفندي!
وقالت إيفون: ليس معي الآن صورة. أحضرها لك في المرة القادمة.
ويقول عباس هامسا: فأعطيني الآن أي شيء منك، أريد تذكارا.
وعاد الأسطى جبر يقول في ضيق: ميعاد المدرسة يا إخواننا!
وأخرجت إيفون من جيبها منديلا وأعطته مسرعة إلى عباس، فاختطفه في لهفة وقبله ووضعه في جيبه الداخلي ، ثم نظر إليها: فكري في طريقة، أي طريقة. لا يهمك أن أتعب أو أخاطر بحياتي؛ فإني أريد أن ألقاك.
وصاح الأسطى جبر: المدرسة يا أفندي!
ونزل عباس من العربة وهو يقول: بعد باكر ...
وهمست إيفون والعربة تتحرك بها: مع السلامة.
وسمع عباس الهمسة، وظل واقفا يرقب العربة حتى أخفاها عنه الشارع الذي حادت به، ثم أخذ سمته إلى المدرسة يعدو إليها في نشوة عارمة لا ينسى أن يضع يده على الجيب الذي يحوي المنديل ويحتضنه إلى صدره كأنه بعض من صدره.
الفصل الثالث
كانت وهيبة لا تدري ماذا تفعل بحياتها وبأيامها الطويلة إن لم يكن الله قد من عليها بزيارات إيفون القليلة وبزيارات ابنة خالتها الكثيرة؛ فما كان لها من الصديقات غير هاتين. وكان هناك الراديو أيضا، ولكنه كان ممنوعا عنها منذ يحل أبوها بالبيت؛ فما كان يرضى أن يسمع منه غير القرآن، وإن تسامح فالأحاديث، أما أن يسمع الغناء والتمثيليات وشتى أنواع الإذاعات الأخرى فذلك هو المستحيل؛ ولذلك كانت وهيبة ترجو صديقتيها دائما ألا تكون زيارتهما في وجود أبيها بالبيت؛ حتى يتاح لها أن تلتذ بالمتعتين معا؛ من الراديو والزيارة. ولو أن زيارة ليلى لوهيبة لم تكن زيارة خالصة المتعة؛ فقد كانت ليلى دائمة اللوم لوهيبة أنها لا ترعى شئون أخيها عباس، وأنها وأمها تبذلان كل جهدهما لإرضاء الشيخ سلطان، بينما لا ينظران في أهم شئون عباس، فزر ملابسه المقطوع هو من يخيطه، وطعامه بارد لا تهتم واحدة منهما بتجهيزه، وملابسه همل لا تهتم واحدة منهما بإحصائها وتنظيفها. وكانت وهيبة تجيبها أنها بحسبها ما تقوم به من شئون أبيها وشئون المنزل، ولكن ليلى كانت ترى من عباس الألم المرير مما يعامل به في البيت.
وطالما شكا لليلى على مسمع من أخته أن أباه وحده هو من يحظى بالخدمة والعناية، ويا طالما قال لها إنه يعرف أن أباها لا شك هو صاحب الحياة في البيت، وأن أي عناية تبذل لإرضائه هي بذل في المكان الجدير به، ولكن عباس يطمع أن يجد عند أخته شيئا ولو هينا من بعض رعاية. وكانت ليلى تلوم وهيبة، ولكن لم تكن وهيبة لتنيل ليلى أذنا مصغية؛ فقد كانت ترى أباها في البيت هو البيت، وكل ما تحويه جدران البيت إنما وجد وصنع لا لشيء إلا ليخدم أباها ويهيئ له الراحة والدعة. وكانت ترى أن كل شيء يضمه هذا البيت إنما هو قطعة من آلة لا يبعث الروح فيها أو يمدها بالحياة إلا أوامر أبيها، فإن قال يمينا فيمين، أو قال شمالا فشمال. هي في البيت لا في المدرسة؛ لأن أباها يريدها في البيت لا في المدرسة، وهي تقوم بالأعباء المنزلية؛ لأن أباها يريد أن تقوم بالأعمال المنزلية، وهي تصلي لأن أباها يريدها أن تصلي، وتصوم لأن أباها يقتلها إن أفطرت. ولقد تخفي عن أبيها إفطارها في الأيام التي أمر الله بها أن تفطر فيها، والتي لا يجوز لها فيها صيام. وكان يخيل إليها أن أباها لو شاء فقال لها صومي في هذه الأيام لصامت، ولأحست أن صيامها هذه الأيام شأنه شأن صيامها لأيام الشهر الأخرى، لا فارق بين الصيامين، فكلاهما لأبيها.
فيم إذن تلح عليها ليلى أن ترعى شأن أخيها؟! ألا تدري ليلى ما هم في هذا البيت؟ ولكن وهيبة مع ذلك كانت تحب أن تزورها ليلى، وتحب هذه الجلسة التي تجمع ثلاثتهم، بل وتحب أيضا مجيء لطفي عجلا دائما يطلب إلى أخته أن تقوم، ثم يهددها ألا يأتي معها إذا هي لم تقم. وكانت وهيبة تضحك من هذا النقاش الذي لا بد أن يدور بين ابني خالتها كلما زاراها وتسعد به.
وقد كانت خالة وهيبة الست حميدة زوجة لمدرس إلزامي تزوجها في القرية ميت جحيش، ثم شاءت له ظروف سعيدة صاحبها سعي منه حثيث أن ينقل إلى الديوان العام بالوزارة، فقدم مع زوجته إلى القاهرة واصطحب معه عادات الريف لم يتركها، إلا أن القاهرة ما لبثت أن طغت عليه بعض الشيء؛ فلم يخرج ابنته ليلى من المدرسة كما فعل عديله الشيخ سلطان. وهكذا بقيت ليلى تلميذة تواصل تعليمها في المرحلة الثانوية، وتجد في هذه الصفة مثارا لزهوها، فهي مقبلة على التعليم إقبال محب راغب، يقف أبوها رضوان أفندي من ورائها فرحا بها فخورا، يجد من إقبالها على التعليم وسيلة يلهب بها ابنه الوحيد لطفي أن يقبل هو أيضا على المذاكرة إقبال أخته، إلا أن لطفي لم تكن تغريه هذه الحيلة؛ فقد كان يجد في كرة أصدقائه بحارة البابلي إغراء أشد، ولكنه مع ذلك كان يسير في دراسته في غير تعثر، وإن كان في غير نشاط؛ فما كان من المتأخرين وما كان من المتقدمين، وكان على كل حال من المنقولين في آخر العام. وما كان له في النجاح حيلة؛ فقد تعود أبوه أن ينقطع لمذاكرته قبيل الامتحان فلا يخرج من البيت، بل يظل ملازما إياه، فيضطر لطفي مع هذه المراقبة الشديدة أن ينجح وأمره إلى الله.
كانت ليلى تصحب أخاها لطفي كلما شاءت أن تذهب إلى ابنة خالتها وهيبة، وكان لطفي يضيق بهذه الصحبة أشد الضيق، ولكن رضوان أفندي كان يأبى أن تخرج ابنته بعد الظهر دون أخيها، وإن كانت لم تتجاوز الرابعة عشرة ولم يتجاوز أخوها الثالثة عشرة.
أما الست حميدة فقد كانت ترى في مواصلة ليلى لدراستها عبثا لا طائل تحته ولا داعي له؛ فهي لا تراها خارجة في الصباح إلى مدرستها إلا مصت شفتيها وقالت: عشنا وشفنا بنات آخر زمن.
لا تخطئ مرة وتنساها أو تخطئ مرة وتغيرها. وكانت حجتها أن ابنة أختها مكثت منذ أعوام في البيت لا تخطو عتبته؛ فتعلمت كيف تخدم البيت وتقوم بأعبائه، في حين لا تستطيع ليلى أن تقيم وعاء على النار. وكان يلذ لرضوان أفندي أن يسمع هذا الحديث فيضحك من جهل زوجته، ويطمئن إلى ذكائه هو وسعة أفقه. أما ليلى فكانت تضيق بحديث أمها حينا، أو تقبلها وتدغدغها حينا آخر، ولكن الخوف كان يداخلها دائما أن تستطيع أمها في يوم من الأيام أن تؤثر على أبيها فيصرفها عن الدراسة كما صرف عمها الشيخ سلطان وهيبة عن المدرسة. ولا تجد لخوفها مكانا تفرغه فيه إلا المذاكرة الدائمة التي تبقي عليها زهو أبيها بها، وتمسكه بكمال تعليمها.
كانت ليلى فتاة طلقة المحيا، صحبت من أصلها الريفي براءة السمات وإشراقة النفس وبساطة التعبير؛ فشعرها ضفيرتان كبيرتان من الذهب، وعيناها صفاء ومحبة للحياة وإقبال عليها، إقبال هادئ مطمئن واثق. والألوان فيهما نقية؛ فالسواد قاتم في الحدق محوط بدائرة من صافي العسل، والبياض بياض صريح، والحديث يفيض منهما أنهما لا تخفيان من ورائهما إلا نقاء، أو تحجبان من دونهما إلا براءة وطهرا.
وكانت ليلى ناصعة البشرة بيضاء، لا يكاد يشوب لونها حمرة أو سمرة. وقد بدأت منذ قليل تنظر إلى المرآة وتضيق بهذا اللون الواحد الذي يأبى أن يتلون بحمرة عند خديها، أو بسمرة عند عينيها. وقد بدأت منذ قليل أيضا تمسك بخديها في غيظ فتترك أصابعها حيث أمسكت بعض حمرة ما يلبث لونها الأبيض أن يمتصها. ولم تكن ليلى بالنحيلة ولا هي بالسمينة، كما لم تكن بالطويلة ولا هي القصيرة، إنما هي في قوامها من هؤلاء اللواتي لا تستطيع أن ترى فيهن شيئا يدعو إلى العجب أو الإعجاب. أما أطرافها فقد كانت أكبر مما ينبغي لسنها؛ فيداها وقدماها أقرب إلى الضخامة منهما إلى الدقة التي كانت ترجوها هي، وإن كانت أصابع يديها تنتهي بأطراف دقيقة فتستطيع بذلك أن تخدع عين الرائي فيظن بها ما لا تتمتع به من أناقة.
هكذا كانت ليلى. لم أترك من وصفها شيئا إلا ذلك الفستان الأحمر الذي كانت تكثر من لبسه، والذي كان يدرك لطفي كلما رآها ترتديه أنها قد انتوت أن تخرج، وأنه مرغم على أن يقطع لعبه ويصحبها إلى زيارتها البغيضة. ولم يكن مخطئا في إدراكه هذا؛ فها هي ذي تفتح الشباك وقد ظهر النصف الأعلى من الفستان اللعين. وما إن يرى لطفي الشباك يفتح ويطل منه الفستان حتى يولي ظهره للبيت، وللكرة أيضا التي كانت قادمة في هذه اللحظة إلى أقدامه - وقد ظل ينتظرها منذ بدء اللعب - وتصيح: لطفي، يا لطفي .
ويسمع لطفي ولكنه يجري محاولا أن يسبق الكرة ليحقق أمنيته في الرمي بها إلى الهدف، ولكن الكرة تأبى أن تحقق ما يصبو إليه، ويعاجلها ظهير الفريق الآخر فيبعدها عن أقدام لطفي وعن آماله جميعا، فلا يملك آخر الأمر إلا أن يجيب هذا النداء المتلاحق الذي لم ينقطع طوال هذه المناورة: نعم يا ستي. الله يقطع لطفي وأيام لطفي. نعم. تفضلي انزلي، تفضلي، فما دمت لبست فستان الحصبة فهي الزيارة.
وتنزل ليلى، ويسير لطفي إلى جانبها وقد استبدلت قدمه الكرة بقطعة كبيرة من الحصى راح يركلها بقدمه، منصرفا إليها، مفكرا فيما كان خليقا أن يفعله في الملعب لو لم ترغمه أخته على أن يصحبها في هذه الزيارة. ويلتفت إليها فجأة ويسألها: أنا والله لا أعرف ما الذي يعجبك في هذه الزيارات؟ - إنه أنا والله لا أعرف ما الذي يعجبك في الكرة؟ - يا سلام! ألا تعرفين؟ ولكن لا عليك فأنت معذورة؛ لو كنت تلعبين الكرة لعرفت لذتها. - ألعب! ولماذا لا ألعب؟ - نعم هذا ما ينقصك، ألا تكفي المدرسة التي تذهبين إليها وأنت بهذا الطول؟ - رجعنا إلى الغيرة. - غيرة! من؟ أنا أغار منك؟! - طبعا. اجتهد يا أخي وأنت تصبح مثلي. - والله إن أبي جنى عليك وجعلك تفهمين أنك شيء مهم. - أنا شيء مهم طبعا. أنا الأولى. - يا بنتي الغرور ركبك وأصبح الكلام معك يحتاج إلى الصبر. - بل قل إنك تجد كلامي صحيحا ولا تعرف كيف تجيب. - لا بل أعرف، قولي لي، ماذا ستفعلين بالشهادة، إذا لا قدر الله ونلت الشهادة؟ - قل لي أنت ماذا ستفعل بها؟ - سأتوظف. - وأنا أيضا، سأتوظف. - يا عيني يا عيني، كملت. يا بنتي اعقلي. - هذا هو العقل، ثم أنت ما شأنك؟ أطال الله عمر أبي، ما دام راضيا فآراؤكم جميعا لا قيمة لها. - الله أكبر! آراؤكم هذه تقصدين بها أمك طبعا؟! - من جاء بسيرة أمي الآن؟ - أنت. - أنا؟ - والله لأقول لها إنك لا تهتمين برأيها. - عيب عليك يا لطفي لا تدخل نينا في الموضوع. - ما دامت آراؤنا كلها لا قيمة لها. - وهل قلت نينا؟ - ومن كلنا؟! قال يا جحا عد غنمك، قال واحدة قائمة والأخرى نائمة. فمن كلنا إن لم يكن أنا ونينا؟ - اسمع سأعطيك قرشا ولا تقل شيئا لنينا. - والله المسألة فيها نظر. - لأجل خاطري يا لطفي. - أنا لم أعد بشيء. - اعقل يا لطفي. - وحين أعود إليك تنزلين مباشرة؟ - آه يا لئيم، وما الضرر في أن أجلس بعض الوقت مع وهيبة، وأنت تعرف أنها لا تخرج من البيت ولا تزور أحدا ولا يزورها أحد إلا أنا وإيفون؟ - هذه هي شروطي. اقعد قليلا، انتظر خمس دقائق أخرى. كلمة من هذه أبلغ نينا مباشرة. - أمرك يا فرعون، وأنت أيضا لا تسرع بالعودة.
وانصرف لطفي وصعدت ليلى إلى وهيبة. كان عباس يسعد بجلسته إلى ليلى وكانت تسعد هي أيضا بها، وكان الحديث بينهما ينساب رخيا يحدثان وهيبة عن المدرسة وعن المدرسات وعن خلافاتهم مع الطلبة والطالبات، ووهيبة تسمع في لهفة ووجيب؛ فقد كانت تتوق أن تواصل تعليمها وإن كانت تعتبر هذه الرغبة جرما لا يجوز لأبيها أن يتعرف عليها؛ فهي تخفيها في نفسها لا تراها إلا نفسها.
وقد وجدت ليلى عباس جالسا إلى أخته، واستقبلها حين قدمت في فرح: أهلا. أين أنت؟ لم نرك من زمان. - مشغولة في المذاكرة.
وقالت وهيبة: تحتجين دائما بالمذاكرة، وأنا وحدي ولا تسألين عني.
وقالت ليلى: لو عرفت العذاب الذي ألقاه من لطفي كلما فكرت في المجيء لعذرتني.
وقال عباس في سذاجة: يا ستي لا يهمك لطفي، إذا أردت المجيء أرسلي لي سيدة وأنا أجيء إليك وأحضر معك.
وصعدت حمرة إلى وجه ليلى وأرتج عليها؛ فهي تعلم أن أباها لن يسمح أن تخرج مع عباس، وهي في نفس الوقت لا تستطيع أن تخبر عباس بهذا. فتلعثمت واختلطت في فمها بعض حروف لا تكمل لفظا أو تؤدي معنى، وفهم عباس حيرتها، وأدرك ما انزلق إليه لسانه. وسارعت وهيبة: لو قلت للطفي إننا سنعلب الكرة لجاء يجري.
واستطاع عباس بعد جهد أن يجد لسانه فقال: ماذا أخذتم في الإنجليزي؟
قالت ليلى: أشياء كثيرة، إلا أننا ما زلنا لا نستطيع فهم المدرسة تماما. - العجيبة أننا نتعلم الإنجليزي بسرعة، والمدرسون الإنجليز لا يتعلمون العربي أبدا. لو رأيت المستر جودمان وهو يحاول الكلام مع الفراش لما استطعت أن تمنعي نفسك من الضحك. - أما المس بنيت فلا تحاول حتى الكلام.
وتقول وهيبة وهي تحاول أن تجذب طرفا من الحديث: ماذا تفعل المس مع الخادمة في البيت؟
ويقول عباس: لا بد أنها تكلمها بالإنجليزي.
وتضحك وهيبة وليلى، وتقول ليلى: تصور لو تكلمت المس بنيت مع سيدة أم متولي.
وعادت وهيبة تحاول أن تجذب طرفا من الحديث: من أكثر مدرس تحبه يا عباس؟
ويقول عباس بلا ريث وتفكير: مدرس الرياضة.
وفزعت ليلى قائلة: أعوذ بالله! الرياضة؟
ويقول عباس: نعم. ما لها الرياضة؟
وتقول ليلى: أتعرف يا عباس أنني لولا الرياضة لأصبحت الأولى على القطر.
ويقول عباس عابثا: وهذا سبب جديد يجعلني أحب الرياضة.
وتقول ليلى بين الضحك والتعب: أنا لا أتصور كلمة الرياضة تأتي مرادفة للحب بحال من الأحوال.
ويقول عباس في استعلاء خفي: عقلك خيالي حالم. لو كنت تجيدين التفكير لأحببت الرياضة. ثم إن الرياضة التي نتعلمها أهم بكثير من الرياضة التي تتعلمينها.
وتقول ليلى في سرعة وكأنها تدافع عن كرامتها: الرياضة التي نتعلمها غاية في الصعوبة.
ويعود عباس إلى استعلائه وقد مازجه بعض سخرية: أتسمين هذه رياضة؟! هذه لعب عيال.
وتقول ليلى غاضبة: على كل حال أنا لا أنوي أن أتعلم لعب الرجال الذي تتعلمه؛ فأنا سأدخل القسم الأدبي.
وقال عباس في نفس اللهجة المستعلية: طبعا فأنت ما زلت خيالية، ولكنك حين تكبرين ستفضلين الرياضة. وعلى كل حال أين أنت من الاختيار؟ ما زالت أمامك فترة طويلة.
وأجابت ليلى متحدية: ولكني الأولى يا شاطر، هل استطعت أن تكون الأول في عمرك؟
ووجدت وهيبة نفسها مقصاه عن الحديث مرة أخرى، كما وجدت أخاها قد بالغ في إغاظة ليلى، فقطعت عليهما التصارع قائلة: وأنت يا ليلى أي المدرسات أحب إليك؟
ونظرت ليلى إلى وهيبة التي كانت قد نسيتها في غمرة هذا الهجوم الذي شنه عليها عباس، وهمت أن تجيب ولكن عباس سبقها: طبعا ليست مدرسة الرياضة.
وقالت ليلى: لا. أعوذ بالله. أحب مدرسة الديانة.
وقال عباس بسرعة وبلا وعي: أعوذ بالله!
ووجمت ليلى، ودقت وهيبة صدرها في ذعر: أعوذ بالله من الديانة يا عباس! هل جننت؟!
وتلجلج عباس قليلا، ثم قال في لعثمة: حصتها ثقيلة ...
وظلت ليلى على وجومها، وقالت وهيبة في استنكار: الديانة؟!
وقال عباس وعقدة من تردد ما تزال آخذة بلسانه: نعم الديانة، وماذا؟ كفرت! لو كنت رأيت الشيخ مدبولي الذي كان يعلمنا الديانة في السنة الأولى الابتدائية لعرفت أنني معذور.
ولاحت في عيني ليلى بوادر استفسار، ولكنها ظلت على وجومها، وقالت وهيبة في استنكار لم يفارقها: الشيخ مدبولي؟
ونظر عباس إلى ليلى التي لم تقل كلمة منذ بدأت هذا الحديث عن الديانة، ووجد علامات الجزع تمازج علامات الاستنكار على وجهها، كما وجد طلائع السؤال في عينيها أبت أن تفرج عنها شفتيها، مستأبية أن تحادث هذا الذي سمع كلمة الديانة ثم استعاذ بالله منها. ووجه عباس حديثه إليها: كان الشيخ مدبولي يمسك بأربع مساطر من حديد. أتعرفين المسطرة الحديد؟
ولم تجب ليلى، وأومأت وهيبة أن نعم. وواصل عباس حديثه: فمن لم يحفظ الآية منا راح يضربه بحد المساطر على عظام ظاهر اليد. أرأيت جبروتا كهذا؟
واستراحت ليلى قليلا حين وجدت كرهه للحصة لا للديانة. ولم تستطع وهيبة أن تقبل في نفسها هذا التفريق فقالت: ولكن لا يصح لك أن تقول أعوذ بالله، وهي تقول إنها تحب مدرسة الديانة.
وواصل عباس حديثه: كان الشيخ مدبولي هذا أقسى أستاذ شفته في حياتي؛ قلب من حجر، ويد من حديد. وكنت - وما زلت - أعجب أين الديانة في قلب هذا الرجل؟ وهل الديانة هي هذه القسوة وهذا الجبروت؟
وحين نقلت من المدرسة الابتدائية كان أكثر فرحتي أنني سأترك الشيخ مدبولي، ولكن حين دخلت الفصل في مدرسة الخديوي إسماعيل في الحصة الأولى من اليوم الأول للسنة الأولى، وجدت الشيخ مدبولي هو مدرس العربي والديانة معا. كان قد رقي واستقرت الترقية على رأسي أنا.
وقالت ليلى وهي تغالب الضحك: وهل ما زال الشيخ مدبولي في المدرسة؟
وقال عباس: لا.
وقالت ليلى ضاحكة: خسارة! وأين هو؟
وقال عباس: أترين ذهابه خسارة؟ ربنا يبلوك بمثله إن شاء الله.
وقالت وهيبة وقد غاظها أن أخاها يتجاهلها ويوجه حديثه إلى ليلى وحدها: ألأنه يضربك من أجل الحفظ تكرهه هذا الكره؟ إذن فأنت تكره أبي، إنه ما زال يضربك حتى الآن.
وقال عباس في سخط وتبرم: أنا؟! أنا أبي يضربني؟
وقالت وهيبة بعد أن أخرجت تهويمة طويلة: أظن علقة الشهر الفائت ما زالت آثارها على جسمك. الخيزرانة يا عم وهات.
وقال عباس متلعثما: أنا ... أنا.
وسارعت وهيبة: نعم أنت. ألم تكن أنت الذي لم تصل الفجر حاضرا، وعلم أبوك وسحب الخيزرانة و...
وقاطعتها ليلى وقد خفق قلبها بالعطف الشديد على عباس: وأين ذهب الشيخ مدبولي يا عباس؟
وقال عباس دون أن يلتفت إلى ليلى: طيب يا وهيبة، يا كذابة.
كان عباس يحس الطعنة غائرة في صميم كرامته، ولكن ليلى خففت ألمه وهي تسأله في براءة وكأنها لم تسمع قصة ضربه: يا أخي قل، أين ذهب الشيخ مدبولي؟
والتفت عباس إلى ليلى وكأنما يعود إليها من أعماق سحيقة: من؟ آه الشيخ مدبولي؟
وقالت ليلى: نعم الشيخ مدبولي، أين ذهب؟ - رفت، لا أرجعه الله. - رفت؟ - نعم. - لماذا؟
وتماوجت في عين عباس أضواء من بريق اللذة؛ فإنه يحب أن يخبرها لماذا رفت، ويخشى في الوقت ذاته أن يخبرها؛ يخشى ألا تقبل منه هذا الحديث، ويخشى هذه الوهيبة التي تقعد له كالعقلة في الزور، ولكنه لم شتات شجاعته آخر الأمر وقال: يبدو أنه لم يكن قاسيا قسوة كافية مع تلميذ معين بالذات.
وقالت وهيبة: ماذا؟
وقالت ليلى: لا أفهم شيئا.
وقال عباس: أتريدين أن تعرفي؟ - نعم. - على ألا تغضبي؟
وسكتت ليلى، وقالت وهيبة: قل يا عباس، قل والنبي.
وسكت عباس قليلا وهو يرقب هذه الحمرة التي تزحف على وجه ليلى الأبيض الناصع البياض، وحين أومأت له أن يقول قال: أنا لا شأن لي.
وقالت وهيبة: قل يا عباس، شوقتنا يا أخي!
وقال عباس في سرعة وكأنما يخشى أن تخذله شجاعته فلا يكمل جملته: لقد ضبط الشيخ وهو يقبل أحد التلاميذ.
واختلط الخجل بالوجوه المتوارية عن ضحك غرير خبيث جاهل لا يخلو من علم، واستقبل جو الغرفة كلمات من الفتاتين تحاول أن تكون جادة فيخذلها صوت من الهزل يكسر عنها حدة الجد. وتبتلع الألفاظ والابتسامة والخجل جميعا قهقهة عالية من عباس لهذه الحيرة التي أوقع فيها أخته وابنة خالته.
وقبل أن ينتهي الضحك يدخل لطفي عجلا كشأنه حين يزور. واستقبلته وهيبة: أهلا. أين أنت يا أخي؟ اقعد.
وطالعه من وهيبة هذا الترحيب، وطالعه منها أيضا وجه وضيء وابتسامة حلوة وجمال لم يلحظه قبل اليوم، ولكنه مع ذلك أصر أن يظهر تعجله وضيقه بمرافقته لأخته، فأطلق جملته التي كان أعدها منذ سمع الضحك العالي الذي سمعه على السلم أول ما سمع: عظيم يا ستي ليلى! ما دمت تضحكين فلن نقوم من هنا في ليلتنا.
واستمر عباس في ضحكه، وسكتت ليلى والخجل ما يزال يغشى وجهها.
وقالت وهيبة: يا أخي اقعد، ألا نراك إلا لتنصرف؟ اقعد. لنا زمان لم نرك.
ووجد لطفي نفسه جالسا! لماذا؟! إنه لا يدري، إلا أنه أحس شيئا جديدا في صوت وهيبة يدعوه إلى الجلوس، وقد استجاب لهذا الجديد وقعد.
وطال الكلام، وراح لطفي يستعرض مهاراته جميعا، ولكن ما أضأل الفرصة التي يتركها له عباس من الحديث؛ فهو يجتاح المجلس كله بنكاته. وإن ليلى لمستجيبة لهذا الحديث لا تبغي عنه حولا، ووهيبة جالسة إلى ليلى وعباس فاغرة فاها، فرحة بهذه العوالم الحبيبة التي حرمها منها أبوها، ولطفي تائه في هذه المشاعر المتماوجة بين إقبال ليلى على حديث عباس، وإقبال عباس على الحديث إلى ليلى، وإقبال وهيبة على المتحدث والمستمعة جميعا. تائه هو حائر ضائع في هذا الزحام من الأفكار والخلجات، لا يجد لنفسه مكانا في المزدحم الثلاثي الصغير، فما له إذن لا يهيب بأخته أن تقوم وهو من وضع لها الشروط، ويملك في يده السلاح القوي المتمكن الذي يستطيع به أن يقيمها قبل أن يكمل عباس لفظته التالية.
ما له لا يقوم؟ لقد أصبح لا يدري، أو هو يخيل له أنه يدري، وهو في نفسه عاجب من هذا الذي يدريه ولا يدريه. أي جديدة تراوحه من هذا المجلس الذي تعود أن يضيق به، والذي كان يخلق به أن يضيق منه الآن أكثر من أي وقت مضى؟! ولكن ها هو ذا جالس يلتذ حيرته، لا يأبه بهذا الخذلان الذي يلاقيه كلما وجد لنفسه ثغرة لحديث لا تلبث أن تقفل في وجهه إذا تحدث؛ فقد قطع جملته قبل أن تتم، أو تنزل جملته إذا اكتملت في مجال لا يرحب بها. وهو مع هذا مقيم، حائرا أو غير حائر، داريا أسباب إقامته أو غير داريها، فهو مقيم، مقيم، حتى يأتي الشيخ سلطان فيشتت الشمل الجميع، وإن كان قد حيا ليلى ولطفي في ترحاب وإيناس.
الفصل الرابع
عاد مرقص أفندي من الوزارة، وقد كانت نفس مرقص أفندي تعود إلى طبيعتها في اللحظة التي يصل فيها إلى باب شقته، وليس قبل ذلك. كأنما هو ونفسه الطبيعية المرحة الطيبة الصاخبة في بعض الأحيان، كأنما هو ونفسه هذه على موعد من المكان، يلتقيان عند باب شقته في عودته من الديوان، ويفترقان عند باب شقته في خروجه إلى الديوان. بل لقد كان يفارق نفسه أيضا إذا ما خرج إلى القهوة بعد الظهر، فهو وإن كان يلتقي ثمة بأصدقاء قدامى، إلا أنه لا يحس نفسه على سجيتها الكاملة إلا في بيته مع زوجته وابنته إيفون. فإذا جاء زائر مهما يكن قريبا - حتى وإن كان أخوه شفيق الذي يحبه ويقدره - عاد مرقص أفندي إلى اصطناع ما لا يصطنعه في بيته من حذر في الحديث، فلا يتكلم إلا إذا فكر فيما هو قائل، بل هو حتى إذا ضحك لم تنطلق ضحكته كرد فعل طبيعي لما استدعى الضحك. لا ، إنه يفكر هنيهة، هنيهة لا تكاد تلحظ، ثم هو يضحك. وهو إن فعل يترسل في ضحكته، ويخرج كل ما يكتمه في أغوار نفسه من قلق، وكأنما يخشى ألا يجد شيئا يضحكه بعد ذلك، وكأنما وجد فيما سمعه فرصة لا سبيل إلى مثلها؛ فهو ينتهزها في إقبال مطمئن، وقلما يطمئن مرقص أفندي.
كان يحس كلما خرج من بيته أنه في سبيله إلى مجهول من الحياة غامض، ليس فيه حنان أو شفقة. كان إحساسه بهذا المجهول مرهفا، وكانت نظرته إلى الأيام القادمة نظرة حافلة بالمخاوف والشك، فهو يصانع هذا المستقبل ويترضاه ما وسعه الجهد. وهو طيب النفس بطبيعته؛ فهو مع زملائه في المكتب لا يرد لهم رجاء، وهو مع رؤسائه مطيع كيس، وهو مع مرءوسيه مهذب يصدر الأمر بالرجاء، ويوجه اللوم بالهمس، ويستمع إلى شكواهم في أبوة، ويعين ضعيفهم على الأيام؛ ولكنه إلى هذا جميعا لا يسمح بتقصير يعرضه هو إلى غضب من رؤسائه، فإذا آنس من أحد مرءوسيه إهمالا متعمدا، أو تقصيرا لم يجد فيه اللوم الهادئ؛ انقلب الرجل الطيب إلى صراخ هائج عنيف، قد يصل في كثير من الأحيان إلى طلب خصم من مرتب الموظف المقصر. بل وصل في يوم من الأيام إلى رفت أحد مرءوسيه وقد أضاع أوراقا على جانب من الأهمية.
وقد كانت مكانة مرقص أفندي في الديوان خليقة أن تشيع الهدوء في نفسه، وتنفي عنه هذا القلق الذي يعانيه، ولكن كيف؟ قد صحبه هذا القلق منذ لا يذكر متى، فكيف يتركه؟ إنه لا يحاول ذلك؛ فقد كان يدري أنه لن يبلغ من محاولاته إلا الفشل ومزيدا من القلق.
لقد تعود هذا القلق، وتعود أن يتركه بجانب الباب الخارجي من منزله، فلا تراح نفسه إلا حين يدخل البيت ويثق أنه دخل، ثم يغلق الباب من خلفه ويثق أنه أغلقه. فإن خرج من باب البيت عاوده القلق. تعود أن يجده في نفسه كما تعود أن يجد طربوشه بجانب الباب من الداخل، هناك على المنضدة التي يضع عليها الطربوش بعد أن يترك القلق ويدخل، ويغلق من دون الحياة المخيفة خارج البيت بابه.
لم يكن مرقص أفندي سعيدا في يومه هذا، وما لبثت زوجته الست مريم أن تبينت على وجهه هذه الوجمة من العبوس التي تعرف حين تراها أنه يحمل في نفسه ألما. وقد تعودت مريم أن تتركه هو ليفضي إليها بدخيلة نفسه، وتعودت أيضا أن تبحث له عن موضوع من الحديث بعيد كل البعد عما يضطرب فيه من حياة، لعلها تصرفه بحديثها عما يلح عليه من ألم وأحزان.
وما أسرع ما تجد مريم الحديث! وما أبرع ما تلبس حديثها بالجد الصارم حتى ليحسب من يراها أنها لا تريد فيما تقول إلا أن تبسط ما يعرض لها من مشكلة تضيق بها! - تعال يا سي مرقص شف بنتك.
وتمص شفتيها، ثم تكمل الحديث: بنات آخر زمن. لا يعجبها ذوقي. لقد رفضت أن تفصل ما اشتريت لها من قماش.
ويقول مرقص أفندي في طيبة: يا ستي دعيها تختار ثيابها كما تريد، ما شأنك بها؟ هل أنت التي ستلبسين أم هي؟
وتوغل مريم في الحديث: والعذراء لقد أفسدتها وجعلتها تمشي على هواها، فكل ما تطلبه منك أمر لا تتأخر عنه.
ولم يكن مرقص أفندي في حال تسمح له بمواصلة الحديث، ولكنه أيضا لم يرد أن يصرف زوجته صرفا عنيفا فصمت، وأدركت مريم خلجات زوجها فسكتت. وطوفت بالردهة التي يجلسان بها لحظات من صمت، كانت مريم تعلم أنها لا بد أن تنتهي سريعا بزفرة عنيفة من مرقص. وكانت تعلم أنها عائدة بعد ذلك إلى بعض صمت، ثم ما تلبث أن تعلم هذا الذي يضيق به صدر زوجها. وتم الأمر كما توقعته، وتنهد مرقص أفندي، ثم تكلم: طارت الدرجة. إلام هذا الظلم؟! يا رب، يا رب رحمتك.
وقالت مريم: يا مرقص يا حبيبي صحتك أهم من كل شيء. أنت تعرف يا مرقص أننا ليس لنا في الدنيا إلا أنت. ارع صحتك لأجل بنتك يا مرقص، ولأجلي أنا. ألا نساوي عندك درجة؟ - يا مريم الظلم صعب. الظلم صعب يا مريم. - أليس من الظلم أن تسيء إلى صحتك وتضحي بنفسك وبنا من أجل درجة تأخرت؟ مصير الدرجة أن تأتي يا مرقص، ولكن صحتك أنت لا سبيل إلى تعويضها. - ما ذنبي؟! ماذا فعلت؟! ليس في مصر كلها موظف يؤدي واجبه كما أؤديه. أنا في مكتبي قبل أن يأتي الفراش. وينصرف الفراش وأظل أنا بالمكتب. كل هذا لا يعجب عبد السميع بك، ويفضل الغير دائما. طلبت نقلي فقال لا يمكن الاستغناء عنك. طبعا، ويظلم من إذا نقلت أنا؟ لا يرحم ولا يترك رحمة ربنا تنزل. - وبعد لك يا مرقص؟ أهي آخر درجة في الحكومة؟ صدقني حلمت لك حلما وسيتحقق وستنال الدرجة. رأيت كأنك في كنيسة كلها بالذهب، وحولك الناس يهنئونك وأنت تضحك، وأنا واقفة إلى جانبك والدنيا لا تسعني من الفرحة. وحياة إيفون، ألا ابتسمت يا مرقص. ابتسم يا أخي. هكذا، هكذا يا أخي. فداك ألف درجة. دخلتك علينا في البيت، وجلستك معنا أحسن من كل درجات الدنيا. قم، قم يا أخي غير ملابسك وتعال نأكل، لقد أعددت لك ملوخية بالأرانب، ستأكل أصابعك معها. قم، قم.
وقام مرقص وشعاع خائف متردد من الراحة يتسلل إلى نفسه، ولكن الراحة ما لبثت أن اطمأن بها المقام في نفسه، وعادت إليه هدأة البيت وضحكة زوجته وانتظاره لابنته بالطمأنينة التي تعودها كلما أقفل من خلفه الباب، تاركا هذه الحياة التي تظلمه إلى الحياة التي ترعاه.
وأقبلت إيفون بعد حين ولم تدخل إلى حجرتها التي يقع بابها على السلم، بل دخلت من باب الردهة إلى حيث تعلم أن أباها جالس، وألقت بحقيبتها على المنضدة، وأقبلت على أبيها فقبلته، ثم راحت تبسط له شكواها من أمها التي تريد أن تلبسها أثوابا ذات ذوق قديم، والتي تفرض عليها أيضا ذوقها في التفصيل. وإيفون حين تضيق بشيء من أمها تلمع عيناها في أسى، ويشترك وجهها الأسمر الدقيق القسمات في التعبير عن هذا الذي يهذر به لسانها في فيض الألفاظ الغاضبة - الرقيقة - فلا تنبو منها لفظة لا تريد أن تقولها، أو تخرج بحديثها عما ينبغي لبنية أن تتحدث به عن أمها. وقد كانت تدري أي مكانة رفيعة تحتلها أمها عند أبيها. وكان أبوها يستمع وابتسامته تترقرق على فمه؛ فقد كان جوابه معدا قبل أن تبدأ إيفون شكواها، فهو يستمتع بتدفقها في الشكوى، وبهذا الحديث الجاد الطويل الذي لم تكن تحتاج إليه لتقنعه؛ فقد كان طلبها وحده كافيا لإقناعه، وقد كانت ابتسامة منها كافية ليجيب لها كل ما تصبو إليه. وما لبثت إيفون أن تبينت الابتسامة على وجه أبيها، وما لبثت أن أدركت فيها بلوغها إلى ما تشتهي فسكتت. ونظرت إلى أبيها لحظة، ثم أغرقت في الضحك، ومالت على وجه أبيها تقبله في حب وإعزاز.
وقال أبوها وهو يبتسم: بدأت تهتمين بلون القماش ونوع التفصيل. خير يا إيفون خير. - وهل هذا عيب يا بابا؟ ألا يجب أن أهتم بما ألبس؟ - اهتمي، اهتمي يا بنتي، أرجو ألا يتعدى اهتمامك الملابس. - ألا تحب أن تراني جميلة يا أبي؟ - أتبذلين كل هذا الجهد لأراك أنا جميلة؟ إن كان هذا جميعه من أجلي أنا؛ فأنا أراك جميلة على أي حال.
وأدركت إيفون ما يرمي إليه أبوها، لكنها اصطنعت أنها لم تفهم، وقالت وهي تضع ذراعها على كتفي أبيها: أنت كل شيء لي يا أبي.
واحتضنته في عنف حتى لقد أحس أبوها من قوة ذراعيها ما لم يحس قبل اليوم. بل كاد يحس أنها تحتضن في جسمه شخصا آخر غيره، لكنه ما أسرع ما نفض هذه الخاطرة عن ذهنه وطوق ابنته بذارع حانية.
الفصل الخامس
بكرت إيفون إلى المرآة وراحت تتطلع إلى وجهها؛ فهي اليوم على موعد مع عباس أن يلتقيا بالعربة، شأنهما كلما جمع عباس أجر الركوب! وراحت إيفون تمشط شعرها في تأمل غائب؛ فهي تجري المشط في اتجاهات مختلفة غير منتظمة. وكلما أفاقت طالعتها المرآة بشعر لا يرضيها؛ فهي تعود إلى التمشيط واعية أول الأمر، ثم ما هي إلا لحظة أو لحظات حتى تعود مرة أخرى غائبة غير واعية.
كانت إيفون سمراء سمرة خفيفة. وكان شعرها أسود داكنا منسابا في سيولة وانسكاب. وكانت عيناها أجمل ما في وجهها؛ عينان كبيرتان يتعلق بهما سؤال عن مجهول من الأمر، فما كانت إيفون تدري ماذا تريد أن تعرف، وإنما يحس الناظر إلى عينيها أنها تسأل عن شيء لا تدريه ولا يدريه أحد. سؤال حائر يبحث عن شيء دون أن يعرف كنه هذا الشيء الذي يبحث عنه. وكانت إيفون دقيقة الجسم، رقيقة الأطراف، سريعة الحركات والأفكار معا، رشيقة في حركاتها، حائرة في فكرتها.
وقد أحبت عباس وإن حبها له ليطغى في كل يوم؛ فهو أول من أسمعها هذه اللفظة الساحرة «أحبك»، ولم تفكر يوما فيما سيؤدي إليه هذا الحب، كل ما تدريه أنها تحبه وأنه يحبها، ولا شأن لها بأعقاب هذا الحب أو نتائجه، إنما هي تهفو إلى هذا اللقاء المختلس في العربة، وإلى هذه الكلمات الهامسة التي تحاول أن تتخفى عن أذن عم جبر المتسمعة. وهي تفرح بهذا اللقاء وتضيق بانتهائه. وهي تفكر كيف يمكنها أن تطيل منه؟ لقد طالما سألها عباس وألح في السؤال كيف يستطيع أن يلقاها بغير حذر من جبر، وبغير خوف من شارع المدرسة الذي يتحتم عليه أن يتركها قبل أن تبلغ بهما العربة أوله؟ وطالما فكرت فكانت تعود من أفكارها بالفشل؛ فكرت أن يلتقيا في الحدائق، ولكن كيف تخرج؟ وفكرت أن يلتقيا فوق سطح المنزل، ولكن سطح المنزل مكان عام تقصد إليه ساكنات العمارة جميعا، ولا تنتهي الخادمات عن الذهاب إليه. وفكرت وفكرت ولكن لم يعد عليها التفكير بمكان واحد موفق يخفيها عن العيون. ولقد كانت تفكر أيضا وهي تمشط شعرها ولكن هيهات، وفجأة فتح باب حجرتها المؤدي إلى الشقة، وطالعتها أمها صائحة: ألم تلبسي بعد؟! والمسيح الحي إنك لن تفلحي عمرك، ماذا بك؟!
وكانت إيفون قد انتفضت في وقفتها فقد عادت بها أمها والباب الذي فتح فجأة إلى ما كانت غائبة عنه من موعد المدرسة، بل من موعد عباس نفسه. وأفاقت إيفون وهي تقول: حالا ... حالا يا ماما.
وقالت أمها وهي تخرج وتغلق الباب من خلفها: أسرعي.
وسارعت إيفون إلى ملابسها فارتدتها، واختطفت حقيبتها، ومدت يدها إلى أكرة الباب المؤدي إلى السلم تفتحه، وقبل أن ترفع يدها عن الأكرة أومضت في ذهنها فكرة: لماذا لا يأتي عباس إلى حجرتي هذه؟! لا! لا يصح! لماذا لا؟ لقد جعلوا لي هذه الحجرة بعد أن كانت حجرة الاستقبال لأتلقى فيها درس اللغة العربية من الشيخ عبد الوهاب؛ فقد كان أبي لا يريد الشيخ أن يخترق البيت إلى حجرتي القديمة. كان أبي لا يريد أمي أن تتحرج كلما جاء الشيخ، وتقوم من مكانها لتخلي له الطريق، فاقترح أن تكون حجرتي هي حجرة الجلوس هذه الواقعة على السلم. فما البأس أن أستقبل فيها عباس في الليل بعد أن ينام أبي وتنام أمي؟ ما البأس؟! في حجرة نومي؟ وهل هناك سبيل آخر؟ وما دمت ألقاه فما الفارق بين حجرة نومي والعربة أو أي مكان آخر؟ ماذا يقول عباس؟! وماذا تراه يقول؟ أليس هو من يلح علي في أن أهيئ مكانا ألقاه فيه؟ ماذا تراه يقول؟ لا بد أنه ...
وكانت إيفون قد استقرت في العربة، وكان عباس بداخلها، وما أسرع ما قال: صباح الخير. لكم اشتقت لك. - صحيح؟! - ألم تشتاقي لي؟ - جايز. - إذن فأنت لم تشتاقي لي. - من قال لك؟ - أنت. - أنا؟! - ما معنى جايز؟ - وماذا تريدني أن أقول؟ - مثلما أقول أنا. لكم اشتقت لك يا عباس. إنك لم تقولي هذا أبدا. - وهل لا بد أن أقول حتى تعرف؟ - وكيف أعرف إن لم تقولي؟ - وهل أدري؟ - فكيف أدري أنا؟ - أنا أعرف أنك مشتاق لي دون أن تقول. - فأنت أذكى مني. - لا ... ولكن ... - ولكن ماذا؟ - ولكني أراك بقلبي. - فكيف أراك أنا؟ - بعينيك. - الله يعلم كم أحبك، والله يعلم كيف أراك. إني أراك بعيني وبقلبي وبكل جارحة مني. - فلماذا تريدني أن أقول؟ ألم يخبرك قلبي؟ - أريد لأذني أن تستمتع بما يستمتع به قلبي وعيني. قولي، قولي ولو مرة واحدة، اشتقت لك، أو قولي أحبك، أو قولي أي شيء تطرب له أذني مثلما يطرب قلبي عند لقائك. - كأنك سمعت.
ووقفت العربة وارتفع صوت عم جبر: اتفضل يا سي عباس أفندي.
وهمس عباس: ألم تجدي مكانا؟
واصطنعت إيفون الجهل بالسؤال: مكان؟! - نعم لنلتقي. - ها نحن نلتقي. - إيفون! أرجوك.
وضاق الأسطى جبر بالهمس الذي لا يسمع منه شيئا فصاح: سي عباس!
فهمست إيفون: تستطيع أن تأتي إلينا في الساعة العاشرة؟
وفاجأت الجملة عباس فصمت برهة، ثم قال: إليكم! في بيتكم؟! - حجرة الجلوس القديمة أصبحت حجرتي الآن، ستجد بابها غير مغلق. - إيفون!
وصاح جبر وقد ازداد ضيقه بهذا الحديث الذي لا يسمع منه شيئا: سي عباس!
ولم يلتفت عباس إلى جبر بل همس: هل أنت جادة يا إيفون؟
وأومأت إيفون وقد شملت الحمرة وجهها أن نعم.
وهمس عباس مرة أخرى: أراك في العاشرة، العاشرة تماما.
ونزل من العربة وهو يقول: مع السلامة.
وساط الأسطى جبر خيله فاندفعت إلى الطريق، وظل عباس يرنو حائرا فرحا إلى العربة حتى أخفاها شارع المدرسة.
همس وهو يدخل: هل ناموا؟
وهمست دون أن تدري لماذا تهمس: نعم. - فلماذا تهمسين؟
وضحكت وهي تقول: لا أدري، لقيتك تهمس فهمست مثلك. - أين ينامون؟ - في الناحية الأخرى من البيت. أنت تعرف حجرة أبي، ألا تذكرها؟ - أنا لم أنس شيئا هنا أبدا. إذن فهم لن يسمعونا أبدا. - أبدا. - هل أنت خائفة؟ - أخائف أنت؟ - أنا ... أبدا ... أبدا. - بل أنت خائف. - ألا يستيقظ أحدهما في المساء؟ - إذا ما دخلا حجرة النوم فإن أحدا منهما لا يتركها إلا في الصباح. - إذن فلا داعي للخوف. - ولكنك خائف مع هذا. - أبدا. - ها نحن التقينا على انفراد. - نعم ... نعم. - هل كان عم الشيخ سلطان صاحيا حين نزلت؟ - هه، نعم. - ألم تخف أن يراك؟ - وماذا لو رآني؟! - يضربك. - يضربني؟! يضربني أنا؟! لم يبق لي إلا بعض شهور وأصبح في الجامعة ويضربني! - ألم يضربك منذ قريب لأنك لم تصل الفجر حاضرا؟
وارتسمت الدهشة على وجه عباس، وصمت، وأحس بالخزي يسري في دمائه جميعا، وانعقد لسانه، لم يدر ماذا يقول. وما لبث إحساس بالغيظ أن ملأ نفسه من أخته وهيبة، ثم ما لبث إحساس بالغيظ أن ملأ نفسه من الصلاة جميعا، وأقسم في نفسه ألا يصلي إلا إذا أجبره أبوه على الصلاة، ثم عاد إلى خزيه مرة أخرى ووجد نفسه واقفا إزاء إيفون في أول لقاء لهما بنجوة من العيون والآذان، ثم هو صامت ولكنه مع ذلك لم يجد شيئا يقوله. وأدركت إيفون ما يدور فيه من خزي فقالت في بساطة: ماذا؟ هل زعلت لأني قلت إن أباك ضربك؟
وأطرق عباس وهو يقول: لا أبدا. - وماذا يهمك؟ أنا أعرف أنه يضربك كلما قصرت في الصلاة، ومع ذلك فأنا ...
ورفع لها وجها مليئا بالأمل أن يسمع منها ما لم تقله، وقال في لهفة: هيه. - هيه ماذا؟ - فأنت ماذا؟ - ماذا تريد أن تسمع؟ - ألا تعرفين؟ - لا. - قوليها، قوليها وحياة النبي.
وضحكت إيفون ضحكة خبيثة فيستدرك: وحياة ... وحياة ... وحياتي أنا. - ماذا تريدني أن أقول؟ - أحبك. - وهل تريد دليلا؟ - أريد أن أسمعها. - أيهما أحسن عندك، أن أدعوك إلى حجرتي هنا، أم أن أقول لك؟ - هيه، قولي.
وهمست إيفون: أحبك.
واغرورقت عينا عباس بالدموع طفرت فجأة، ووجد نفسه وقد انتابه صمت فرحان؛ فقلبه وجيب وعيناه ضياء ووجهه فرحة. أراد أن يقول شيئا فلم يجد ما يقول، ثم التذ هذا الصمت الذي ما زال صدى الكلمة يرن فيه، وكأنما أراد لهذا الصمت المندى بما سمع ألا يقطعه شيء، وتمنى أن يظل فيه لا يخرج منه، وأن يظل هذا الصدى يملأ حوله، كل ما حوله، ويملأ من نفسه كل نفسه، لا يشوبه شيء من حديث يطمس ما أشاعته فيه «أحبك» من نغم كان نشيدته منذ سنوات وسنوات.
وأحست إيفون بالفرحة الكبيرة التي يحياها عباس، ووجدت نفسها تفرح معه فإذا فرحتها ابتسامة عريضة على فمها وهمسة مجنحة: استرحت؟
ولم يستطع عباس أن يجيب، وإنما كل ما استطاع هو أن يخطف يدها ويهوى عليها ليقبلها في جنون فرحان، وانحنت عليه إيفون تربت كتفه، فرفع عينيه إليها فوجد نفسه يلقفها بين أحضانه والتقت الشفاه في قبلة طويلة.
وحين أفاقت إيفون من حميا القبلة أخجلها أن تقبله مثلما قبلها، فقالت في حزم: انزل!
وأطرق عباس بين إحساس هين من الدهشة، وإحساس عميق بالخجل. وعادت إيفون تقول: انزل!
وقال عباس متلعثما: ومتى أجيء؟ - لا أدري، إنما يجب أن تنزل الآن. - أجيء غدا؟ - لا أدري ... أرجوك ... أرجوك ... انزل. - أمرك.
وتوجه عباس إلى باب الحجرة، وقبل أن يخرج هم أن يقول شيئا، ولكنه عاد إلى طريقه من الباب وخرج.
وما إن أغلق عباس الباب من خلفه حتى ارتمت إيفون على سريرها وراحت تحدق إلى سقف الحجرة مفكرة في ذهول خجل حيران.
الفصل السادس
كان ليوم الجمعة مراسم جامدة في بيت الشيخ سلطان لم تتغير منذ وعى عباس أمره، ويخيل إليه أنها لن تتغير أبد الدهر؛ فإن الشيخ يستيقظ في الفجر ويصلي الفجر جماعة يؤم أهل بيته جميعا، ثم يتناولون فطورهم، ويخرج الشيخ سلطان إلى بيت رضوان أفندي فيصحبه إلى قهوة السيدة، فيظلان يلعبان النرد، ويشترك معهما مرقص أفندي. وكان مرقص أفندي إذا لعب يحس رائيه أنه ينظر إلى متعبد راكع في معبده المقدس، لا شيء يتحرك فيه إلا يداه تلقيان الزهر، وعيناه تتابعان أصابع غريمه. بينما كان رضوان أفندي والشيخ سلطان يزيطان كلما أصابا أملا في النجاح. وما أسرع ما تجري على لسانيهما «العب سيجه»، «ما لك أنت وهذه المسائل المهمة يا عم مرقص؟»! وفي أغلب المرات يتغلب مرقص أفندي على هذا الزائط، ولم يكن مرقص أفندي حينئذ يهيج هياجهما ولا هو يسخر، وإنما يكتفي بنظرة لا بد أنه كان يعرف مدى ما تحمله من إيلام. وكان المغلوب منهما يحس وقع النظرة المخترقة الهازئة فيتمتم: «زهر أعمى ابن كلب.» ولا يكتفي مرقص أفندي بالإخجال الذي ألقى إليه صاحبه، وإنما هو يمد إصبعه السبابة ويحركها يمنة ويسرة يريد من المغلوب أن يقوم ليحل الآخر محله.
وكانت هذه الحركة الصامتة أشد إيلاما من النظرة. وكان الشيخ سلطان ورضوان أفندي كلاهما يتقبل هذا الذي يحصل لهما في مقابل الزياط الذي يهذران به طوال اللعب. وقد كانت المباراة بين ثلاثتهم يومية لا تنقطع، وقد يكون لهم متفرجون احترفوا التفرج كما احترف الثلاثة اللعب. وقد كان المغلوب يدفع الطلبات، وكان الشيخ سلطان يناقش نفسه في هذا الدفع: أليس هذا قمارا؟! وتجيبه نفسه الغاضبة لأنه دفع: إنه قمار. ولكن ما يلبث أن يتذكر الحديث الذي كان يقبل به أن يدفع له: إنما الأعمال بالنيات. وهو حين لعب لم يقصد القمار. كما أنهم الثلاثة أصدقاء، وأي واحد منهم يجوز أن يدفع عن الآخر بلا لعب، وإنما اللعب تسلية.
وتقتنع نفس الشيخ سلطان أنه ليس قمارا؛ فيهدأ ضميره الديني، وإن كان ضميره المادي الذي يحاسبه على صرف النقود فيما لا يفيد يظل ثائرا غير هادئ.
هكذا كان الحال مع الشيخ سلطان، أما الشأن مع عباس فهو مرتبط بأبيه غاية الارتباط؛ فقد كان أبوه ينتظره في القهوة حتى موعد خطبة الجمعة. وكان عباس يذهب مصطحبا صديقه الأثير شعبان نوار، وابن خالته لطفي الذي أخذ يصلي منذ أراد من الصلاة أن تشعره أنه كبير مثل الكبار، يضع المنديل على رأسه المبلل، وينتظم في الصف، له فيه مكان مثل مكان الرجل الكبير، ثم هو بعد ذلك يؤدي من الحركات ما يؤدون. وكان الثلاثة يقصدون إلى القهوة فيكون مجيئهم إيذانا للشيخ سلطان ورضوان أفندي أن يؤجلا العشرة مع مرقص أفندي إلى وقت آخر.
وقد كانت وظيفة الشيخ سلطان في الوعظ والإرشاد، وقدمه في هذه الوظيفة، تجعل الأئمة في المساجد يتنحون عن منابرهم ليلقي هو الخطبة. وقد كان فرحا غاية الفرح بما يتاح له من هذا التنحي، لم يقلل من هذا الفرح تكرار السنوات بعد السنوات، ولم تنل الفرحة ما تنال العادة وقدمها من كل فرحة فرحان. ولم ينس الشيخ سلطان في مرة من المرات أن يسأل ابنه وهو يلبس الحذاء خارجا من الجامع: هيه يا عباس، ما رأيك؟
وكان عباس في أول الجمع التي سمع فيها أباه يتدفق بالمديح له، وكان مؤمنا بما يقول فرحا به، ثم أصبح يتدفق بالمديح منافقا في بعضه صادقا في بعض منه آخر، ثم صار يتدفق به نفاقا جميعا، ثم ضاق بالتدفق فصار يقصر مديحه على كلمتين أو ثلاث أصبحت واحدة، ثم صار يدغمها فلا يسمعها أبوه وإنما يستنتجها. ولم تخف على الأب هذه التطورات التي مر بها مديح ابنه لخطبته، لكنه مع ذلك لم يعف ابنه من السؤال، أو يعف أذنه من تلمس هذه الكلمة المبهمة التي تنفرج عنها شفتا ابنه دون أسنانه.
أما رضوان أفندي فقد كان في كل جمعة يمدح عديله بنفس الهمة التي سمعه بها عباس أول ما سمعه، لم يفتر يوما، ولم ينقص كيل مديحة شيئا، هو هو منذ وعى عباس الصلاة. وقد كان عباس يعجب، كيف؟ والخطبة واحدة من عشر أو واحدة من عشرين لم يزد عليها شيئا منذ سمعها في الجمعات الأولى حتى هذه الجمعة التي يشرف على بواكيرها.
استيقظ عباس في الفجر مرغما على ذلك إرغاما، ووجد نفسه يذهب ليتوضأ، وأحس كأنه آلة، ثم وجد نفسه واقفا في الصف خلف أبيه. وبدأت مراسم الصلاة، ومرة أخرى أحس أنه يتحرك حركات آلية. قرأ القرآن فوجده في فمه ولم يحس به في قلبه. وكان يطرق بعينيه إلى الأرض، ولكنه لم يكن يحس الخشوع. وانتهت الصلاة، وعاد إلى حجرته، وراح يصلح الراديو الذي أحضره إليه صديقه شعبان. كان يفك المسامير ويربطها ممسكا في يده بالمفك، وأحس أن الصلة بينه وبين المسامير وبين قطع الراديو التي يصلحها قوية؛ فهو فرح أنه يلف المفك في يده فيربط المسمار، ويمسك السلكين ويلف أحدهما بالآخر فيرتبطان، وأنه يفتح زرا فيوقد مصباحا. أحس وهو يقوم بهذه العمليات جميعا أنه فرحان يستطيع أن يسيطر على هذه الآلة التي يصلحها، وأن يفعل بها ما يشاء. وأحس في الوقت ذاته أنه في بعض الأحيان يكون مثل هذه الآلة التي بين يديه، غير أنه أحس أيضا أن اليد التي تتولى الفك فيه والتركيب، لا تصلحه، وإن كانت تظن أنها تصلحه. داخله شعور أن هذه اليد تزيد نفسه تخريبا وهدما وتدميرا.
وحاول أن ينفض عن نفسه هذا الشعور ولكنه لم يستطع. وجاء نداء أبيه من البهو فوجد نفسه يقول في سرعة: حاضر.
ثم وجد نفسه يقوم إلى أبيه. وكانت مائدة الفطار معدة فجلس إليها. وانتهى الطعام فقال أبوه وهو يفتح الباب الخارجي: لا تتأخر. - حاضر.
ونزل أبوه وعاد هو إلى حجرته، ووضع ملابسه ومكث ينتظر صديقه شعبان، وما لبث الصديق أن جاء، ونزلا معا وراحا يضربان في الطرقات الضيقة حتى بلغا حارة البابلي، وهناك رأى الصديقان أطفالا يقفون أمام قراجوز وقد فغرت أفواههم لا ينطقون إلا بالضحك، وشخوص القراجوز منهمكة في تمثيلها. ووقف عباس وشعبان، وحاول شعبان أن يسخر من هذا الذي يسر الأطفال، ولكن عباس لم يستجب لسخرية صديقه، بل ظل واجما. لقد أحس أنه مثل هذه الدمى التي تتحرك، ووجد نفسه دون أن يفكر يحرك يديه في حركات كثيرة متباينة، يريد الوثوق أن الخيوط التي تحرك الدمى لا تمسك خيوط مثلها بأذرعه ويديه، ولكن حركاته لم تستطع أن تقنعه أنه حر.
وحاول أن ينفي عن ذهنه هذه الخواطر فخذله تفكيره، والتفت إلى شعبان فجأة وقال له: سلام عليكم.
والتفت عنه وسار، وقال شعبان في دهشة: ماذا؟
ولم يجب عباس، وعاد شعبان يقول في صوت مرتفع: أين ستصلي الجمعة؟
وقال وهو سائر دون أن يقف: لن أصلي.
وعلا صوت شعبان: وماذا أقول لأبيك؟
ووقف عباس فجأة، ثم تابع مسيره دون أن يتكلم، وراح شعبان ينادي في إلحاح فلم يلتفت إليه، حتى إذا يئس صديقه من عودته أخذ يضرب كفا بكف وهو يقول: لا بد أنه جن.
سار عباس دون أن يختار طريقا، وراح يسرع الخطو أحيانا، ثم يعود فيتمهل محاولا دائما أن يؤكد لنفسه أنه يستطيع أن يسير بالسرعة التي يريدها لنفسه، وأنه ليس دمية، لن يصلي الجمعة، وأنه حر، حر، حر!
ولم يخل طريق اختاره من جامع والناس تدخله أفواجا، فكان يعرج عن الطريق إلى آخر، حتى يعترضه جامع آخر، لم يستطع أن يهرب من الجوامع أبدا. وأخيرا علا صوت الأذان «الله أكبر». وأحس لها صدى عميقا في نفسه؛ ما هذا الوجيب الذي يستقبل به الأذان؟ لماذا؟ ألأنه يحس أن هذا الأذان قد شق السنين، يسلمه جيل إلى جيل، لم يهن ولم يضعف على مدى الآلاف من الأيام، وما زال نديا جديدا فيه حلاوة الشباب وجلال المشيب؟ ما هذا الرنين الذي يحسه وهو يسمع «الله أكبر»؟ ألأنه أكبر فعلا؟ وإن لم يكن فمن أكبر؟ ومرة أخرى راح يسرع الخطو محاولا أن يبتعد عن الأذان، ولكن صوت الأذان ظل يلاحقه ويلاحقه، يزداد كلما ابتعد عن المئذنة.
وبلغ شارع الترام فعلا صوت الترام في أذنه حتى طغى على النداء الذي يلاحقه، وحين خيل إليه أنه تخلص من صوت الأذان وقف أمام الترام وراح يتطلع إليه في إعجاب.
عاد الشيخ إلى البيت ثائرا ثورة جامحة، ولقيته زوجته زكية، وراحت تحاول تهدئته ولكن كيف له أن يهدأ؟! حتى عباس، أما يكفيه هؤلاء الناس جميعا يخرجون عن الدين ولا يحتفون بأوامره ونواهيه حتى يفجعه ابنه، فلذة كبده؟! ابنه الوحيد لا يصلي الجمعة! ويا ليته كان مريضا إذن لهان الخطب! ولكن ابنه غير مريض، بل ها هو ذا حتى لم يعد إلى البيت. أيكون قد أصابه حادث؟ لا؛ فلو كان لقصد إليه شعبان في القهوة وعرف النبأ في حينه. هو المروق والعصيان لا شيء آخر. إذن فالويل له ثم الويل! أيظن أن ذهابه إلى الجامعة معفيه من العقاب؟ إن حق الله فوق كل شيء. وهل الجامعة تبعده عن يد الأبوة؟ ليعلمن أي جرم ارتكب، وليذوقن ويلا وثبورا.
ولم يطل انتظار الشيخ وإن خيل إليه أنه طال، وعاد عباس، ولقيه أبوه وقد اختلط احمرار وجهه باحمرار عينيه، وذهب به إلى حجرته، وأغلقها بالمفتاح وعاجله: أين كنت؟! - لم ... لم أكن. - لماذا لم تأت إلى الجامع؟
وصمت عباس وقال أبوه محنقا: انطق. - كنت ... كنت ... - انطق ... أين كنت؟ - كنت أسير في الطرقات. - ماذا؟! - أردت أن أسير في الطرقات. - أردت ماذا؟! - أليس هذا من حقي؟ - وحق الله يا كافر يا ملعون! - لا بد أن أكون مقتنعا بالصلاة حتى أصلي. - مقتنعا؟! - نعم، أليست الحرية هي أهم شيء في الوجود؟! - فأنت غير مقتنع بالصلاة؟ - لا. - أنا أقنعك.
وقام الشيخ سلطان إلى عصاه وانهال على فتاه في عنف مغيظ، ولكنه رأى عجبا. كان الفتى إذا ما تعرض للعصا راح يذود عن نفسه بذراعيه، ويتوسل إلى الكراسي والأثاث أن يحميه، ولكن عباس في هذه المرة ظل واقفا مكانه لم يتحرك، وترك العصا تنزل على كل مكان فيه وكأنما هي تضرب شيئا لا أثر فيه من الحياة. وانتبه الشيخ إلى جمود ولده، فجمدت العصا في يده، وراح يحملق في عباس حائرا بين الدهشة والغيظ. وقال عباس في جموده لا يزال: أتريد شيئا آخر يا أبي؟
وقال الشيخ سلطان في ثورة مشوبة بالدهش: اخرج، اخرج ولا ترني وجهك. اخرج يا كافر. اخرج، اخرج.
وظل يكرر الكلمة لم يسكت عنها حتى بعد أن غادر عباس الحجرة، وأغلق الباب من خلفه.
الفصل السابع
نعم ولكني تحررت من كل شيء، من ذلك الخوف الذي لا يزال يلازمني حتى وأنا أقبل إيفون. كنت أحس استسلامها بين ذراعي ولا أجرؤ على شيء فأنا خائف، الخوف ينبعث من داخلي لا أدري مأتاه ولا دوافعه، تحررت اليوم، نعم تحررت.
وخرج عباس من البيت وقد أحس أنه خفيف يكاد يشعر أنه على غير صلة بالأرض، ويكاد يظن أنه تخلص من الجسد؛ فروحه أثيرية مهومة بلا حدود، فما هي من ذلك الجسد المادي في شيء. حر، حر، لا يحس بألم العصا، بل يحس فقط أنه حر.
استطاع أن يقول ما يريد، ولا يشك في أنه يستطيع أن يفعل ما يريد، ما يريد هو لا ما يريد له أبوه. سيذهب حيث يحلو له أن يذهب، ولا صلاة في الفجر، ولا صلاة في يوم الجمعة، ولا صلاة على الإطلاق.
وإنه ليعجب كيف تأخر إلى اليوم ليعلن إلى أبيه عن حقيقة مشاعره؟ كيف استطاع أن يخادع نفسه ويخادع أباه طوال هذه الفترة؟ سنة ونصف سنة ، منذ أول يوم دخل إلى كلية الهندسة، منذ ذلك الحين أصبح واثقا أنه لا يؤمن بالله، ولا يؤمن بغير الإنسان، الإنسان وحده هو الحقيقة الثابتة في الوجود، إليه وإليه وحده يرجع الحق في تقرير مصير نفسه، لا شأن له بأي قوة أخرى غير قوته هو وإرادته هو. وهو وحده يحمل تبعة أعماله من واقع الحياة نفسها بغير هذا الخرف الذي يسوقه رجال الدين عن الجنة والنار والآخرة والأولى والثواب والعقاب.
عجيب أمر هؤلاء الناس؟! العالم يتحدث عن الذرة وبلوغ القمر، وهم لا يزالون يفكرون في هذه الحركات التي تشبه حركات القرود، وفي إبليس والملائكة؟ الإنسان وصل إلى السماء واخترق بعلمه الحجب وسابق النجوم في مسالكها، وشعب مصر المخدور ما يزال يدخل إلى الجوامع ويسمع من أفواه المشايخ أنباء السماء والجنة والنار! الإنسان يسيطر على السموات، وهؤلاء لا يزالون يظنون أن الجنة والنار مخبأتان في مكان لا يعرفه إلا علام الغيوب! ولا يكتفي أصحاب العمائم بهذا، بل ويريدوننا نحن رجال العلم أن نصدق ما يهرفون به.
ولا يكتفي أبي بأنه يريد، بل يضربني. أعمال عبيد، تعودوا العبودية منذ لا يذكرون متى، واتخذوا طريقهم في حياتهم تدفعهم المخاوف والسياط؛ فرجل الدين يصلي لأنه يخشى نار جهنم، لا لأنه يؤمن بالله، وأبي يضربني لأنه يخاف على نفسه أولا من هذه النار، ثم يخافها علي. لم يؤمنوا بأنفسهم ولا بحقهم في الحرية، وإنما آمنوا فقط بالرعب تلقوه جيلا عن جيل؛ فالرعب هو حياتهم، والقلق والخوف والرهبة من الدنيا والآخرة هي مسابح تفكيرهم، منها تكونت دوافعهم، ومن وحيها تبلورت آمالهم. عبيد يعجبون غاية الإعجاب بقواعد الدين وأوامره ونواهيه، كأنهم الأطفال يريدون السور تحددت معالمه لا يخرجون عنها. أي إنسان لا يعرف أين الخير وأين الشر؟ أنا أعرف وكل إنسان يستطيع أن يعرف الخير والشر من طريق الحياة الذي يخطه هو، في غير حاجة إلى هدى من السماء. يجب ألا تكون السماء بالنسبة إلينا نحن البشر من جيل الطاقة الذرية، يجب ألا تكون السماء إلا معملا لتجاربنا، وميدانا يتسابق فيه أبناء البشرية أيهم يبلغ من أسرارها ما لم يبلغه الآخر. السماء ليست إلا معملا للتجارب شأنها شأن المعمل الكيماوي سواء بسواء، وهي أيضا حلبة شأنها شأن ملعب الكرة سواء بسواء، إلا أن الأفكار تحل محل الكرة في لعبة السماء هذه. السماء والأرض ملك يميني أنا الانسان، ألعب فأبلغ أقصى قمم السماء، أو ألعب فأبلغ أعمق أعماق الأرض، لا أعرف شيئا في العالم أقوى مني، مني أنا الإنسان. أخيرا استطعت أن أجد نفسي وأعرف طريقي، لا خائفا ولا قلقا. أخيرا استطعت أن أنفض عني ذلك الرعب الذي كان يملأ نفسي وحياتي، وأحس به يمسك يدي وقدمي، بل أحس به يمسك عواطفي ومشاعري تخشى أن تنطلق، بل تخشى حتى أن تهجس بوجودها في نفسي.
كان عباس يسير مستغرقا في أفكاره هذه، ينقله طريق إلى طريق دون أن يختار؛ فقد كان ضجيج أفكاره في نفسه عاليا، وكان إحساسه بأنه حر يملأ عليه نفسه جميعا. وحين انتبه وجد نفسه في طريق مغلق لا يؤدي إلى شيء إلا إلى مسجد صغير تشرئب منه إلى السماء مئذنة جميلة.
ووقف عباس مذهولا؛ فما كان يدري أن قدميه ستقودانه إلى طريق مغلق، ولو أن شعورا لم يدر مأتاه داخله أن الطريق ليس مغلقا، فأنعم النظر وأنعم، ثم لم يجد أمامه بعد ذلك إلا أن يعود مطرقا يلتمس طريقا آخر، ولكن إلى أين؟ كانت الساعة قد شارفت الثانية، وقد تعود أن يأكل في هذا الموعد، وهكذا وجد نفسه جائعا، وتذكر أن أباه قال له: «لا ترني وجهك»، وأنه أزمع فعلا ألا يريه وجهه لبضعة أيام على الأقل. وهكذا انتهى إلى أنه لا سبيل له أن يذهب إلى البيت؛ فهو إذن لا سبيل له إلى الطعام؛ فالنقود معه لا تكفي أكل قطة. ومع تعذر وجود الطعام ازداد شعور عباس بالجوع، وفجأة وجد نفسه يفكر أن الحرية التي حصل عليها ليست كاملة، وضاق بهذا الجوع، هذا الشعور السخيف الذي ثلم شعوره بالحرية، والذي سخر - بعض السخرية - من فرحته بها، والذي ملأه سخطا وتبرما؛ فإن الشعور بالجوع كان دائما يسلمه إلى حالة من الضيق والغضب.
وخطر في ذهنه ألا سبيل له إلا أن يذهب إلى بيت خالته ويتناول غداءه معهم، ولا شك أن ليلى ستسر برؤيته. ليلى؟! ما له ذكر ليلى ولم يذكر خالته؟!
الفصل الثامن
كانت إيفون تجلس إلى ابنة عمها منى، وقد كانتا لا تحسان بالوقت إذا انفردت بهما الجلسة. كانت إيفون تعرف كل خافية لمنى، كما كانت منى تعرف كل خافية لإيفون. وكانت منى تعلم بين ما تعلم هذه العلاقة التي درجت بين عباس وبين إيفون، والتي بدأت باللقاء وانتهت إلى القبل، ثم تجمدت مظاهرها لم تتطور، وإن كان دبيبها في قلب المحبين يزداد ضجيجا، ونيرانها في عروقهما تزداد اشتعالا. وكانت منى لا تني تقول لإيفون كلما تحدثا عن هذا الحب: وما النتيجة؟
وتجيب إيفون: وأي نتيجة تريدين؟ - النتيجة الطبيعية لكل حب هو الزواج. - وما المانع؟ - كأنك لا تعرفين. - تقصدين اختلاف الدين؟ - وهل هذا قليل؟ أنت تعرفين شدة عمي مرقص وعمتي مريم في هذه الناحية. - الدين محبة، والمسيح سلام. - أجل، ولكن هناك تقاليد دينية لا يمكن الاعتداء عليها. - المسيح يقول: «أما أنا فأقول لكم أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم.» فكيف لا يريد مني أن أحب من يحبني وأبارك من يباركني وأحسن إلى من يحسن إلي. - أتحاولين أن تقنعيني أنا أم تحاولين أن تقنعي نفسك؟ - أنا لا أحاول إقناعك أو إقناع نفسي، إنما أقول لك ما يدور في نفسي. - هل أنت واثقة من حبه كل الثقة؟ - وثوقي من أنني أراك الآن. - وأين وقفت العلاقة بينكما؟ - على ما تعرفين. - لم تزد؟ - لم تزد! - حذار يا إيفون. - إنه أشد مني حذرا. - أبوك يقتلك! - لا تخافي. - أنا خائفة يا إيفون من عواقب هذه الصلة. - أنا مطمئنة إليها. - أرجو أن أطمئن مثلك. - وأنت ماذا فعلت مع ميشيل؟ - وماذا يمكن أن أعمل؟ - سيأخذ الليسانس هذا العام، أليس كذلك؟ - نعم، ولكنه سيتقدم إلى أبي قبل ذلك. - وماذا يدعو إلى العجلة ؟ - سمع أن هناك كلاما حول شخص آخر.
وضحكت إيفون في خبث. - سمع؟! طبعا لا بد أنه سمع من منوم مغناطيسي.
وفهمت منى الإشارة فابتسمت وقالت: ألم أقل لك إن المهندس الذي يعمل بالتليفونات، والذي يسكن البيت المقابل حاول أن يتعرف بأبي؟
وازدادت ابتسامة إيفون وهي تقول: منى، أتحسبينني ميشيل حتى تحاولي أن تضحكي علي أنا الأخرى؟ أي مهندس وأي تليفونات؟
وقالت منى بين الابتسامة والخجل: صحيح وحياتك. - دعي حياتي يا خبيثة، لفقت للشاب حكاية لتعجلي بالخطبة.
واستسلمت منى: وماذا أفعل؟ إنه يريد أن ينتظر حتى ينال الليسانس، ومن يدري لعله بعد الليسانس يقول انتظري حتى أنتهي من التمرين، وتمر السنون. لا بد أن نتصرف قليلا يا إيفون. - وهل أفادك التصرف؟ - طلب مقابلة أبي. - وماذا قال عمي شفيق؟ - سيقابله يوم الإثنين القادم. - نفعت الشغلة. - طبعا، وهل نلعب؟! - مبروك يا منى. - العقبى لك. - يا ليت! - ولو أني لا أدري كيف سيتم هذا. - سيتم كما يتم كل زواج. - الظاهر أن الحب أنساك أخلاق أبيك وشدة تدين أمك. - كل ما أعرفه أني أحبه وأريده، وأنه يحبني ويريدني.
والزوج والزوجة هما أهم عنصرين في الزواج، بل هما العنصران الوحيدان فيه، وكل ما عدا هذا قشور. - التقاليد والدين وأبوك وأمك. - المهم أنا وهو، وفقط. - كم أنا خائفة! - ولكني أنا غير خائفة، اطمئني. - أرجو أن أطمئن.
كانت الساعة قد جاوزت العاشرة وعباس ما زال يرود الشوارع بلا عمل، إلا أنه لا يريد أن يعود إلى أبيه. ولم يكن على موعد أن يذهب إلى إيفون في يومه هذا، ولكنه لسبب لا يدريه وجد نفسه مشوقا إليها، كما وجد في نفسه الجرأة أن يتجه إلى بيتها ويصعد إلى حجرتها دون أن يخشى مغبة هذا الذهاب المفاجئ، وما قد يكمن في حجرتها التي لم تتوقعه من مفاجآت. قدر هذه الأخطار جميعا، ولكنه استهان بها وانطلق في تصميم إلى حجرة إيفون.
وطرق الباب، وكانت إيفون قد ارتدت ملابس النوم، وما كانت هذه الملابس شفافة، ولا هي مما تزيد المرأة جمالا. كانت جلبابا من القماش العادي. وأدركت إيفون أنه هو الطارق، وفكرت أن تغير ملابسها، ولكنها خشيت وقفته الطويلة أمام الباب، فلم يطل ترددها. وفتحت لعباس الذي وقف صامتا جامدا إلى الحجرة. وقالت إيفون: خير يا عباس، هل هناك شيء؟ - لا أبدا، ألأنني جئت على غير موعد؟ لقد أردت أن أراك، هذا كل ما هناك. - وأنا أريد أن أراك دائما.
وفي هذه الليلة تطورت العلاقة بين إيفون وعباس بعد أن تخلص عباس من الخوف الذي كان يداخله. وباتت إيفون في ليلتها تلك وقد ودعت عهدا من العذرية والبراءة، لتستقبل عهدا جديدا لا تدري ما مصيرها فيه.
ذهب عباس إلى البيت، وحين شارفه رأى حجرة أبيه مضيئة، بل رأى الشقة جميعها مضيئة، فسارع الخطو، حتى إذا بلغ الباب الخارجي وجد وهيبة واقفة وحدها تكلم لطفي، وثار لهذه الوقفة، وغضب أن يرى لطفي وحيدا مع أخته، فقال له في حدة: ماذا تفعل هنا يا لطفي الآن؟! وأنت ماذا تفعلين؟
وكانت لهجة صارمة حتى لقد أحس الاثنان أنهما يرتكبان ذنبا هما براء منه. واستطاعت وهيبة في ثقة أن تخبره أن أباها وأمها والجميع قلقون لغيابه طول النهار، وأن لطفي كان يبحث عنه وقد جاء ينبئها أنه لم يجده.
واستأذن لطفي دون أن يقول شيئا إلا تحية واهية ألقاها عفوا، ثم استدار وانصرف.
وقال عباس لأخته: اذهبي فقولي لأبي إني جئت. - وأنت لماذا لا تدخل إليه؟ - إنه لا يريد أن يراني. أنا ذاهب إلى حجرتي.
وصعد الأخوان، واتجه عباس إلى حجرته، وذهبت وهيبة إلى أبيها وأمها فأخبرتهما بمجيء عباس، فإذا الشيخ سلطان يقول في غضب مرتاح هادئ: لا وعى يجيء. جاءته داهية.
وانتفضت زكية تقول في خوف: لا حول إلا بالله يا شيخ سلطان! لماذا يا رجل؟! إنه ابنك! - ابني ... ابني ... أنا براء منه ليوم القيامة.
وتقول الأم المسكينة في إذعان: لا حول ولا قوة إلا بالله! لا حول ولا قوة إلا بالله.
الفصل التاسع
كانت ليلى جالسة في حجرتها تقرأ، وتحاول أن تقرأ في إمعان ولكن بلا جدوى؛ فقد كان علمها بهذه القطيعة التي يعانيها ابن خالتها عباس من أبيه تأخذ عليها تفكيرها، وهي تعلم عن عمها الشيخ سلطان المبالغة في الغضب، وتخشى أن يشغل الغضب عباس عن المذاكرة والإخلاص في هذه المذاكرة؛ لأن كلية الهندسة تريد من الطالب كل وقته، وهي في الوقت نفسه حائرة لا تدري ماذا تفعل لتهيئ لعباس ما هو أشد الحاجة إليه ليفرغ لعلومه. أتذهب إليه ترجوه أن ينصرف إلى المذاكرة ولا يهتم بأي شيء سواها؟ كيف تلقاه على انفراد؟ أترسل له لطفي؟ قد يظن أنها رسالة لا يليق به أن يحملها؛ فإن معاني الرجولة في ذهنه ما زالت مبهمة غير واضحة. أترسل أمها؟ ما أيسر ما تقول أمها: «وأنت ما شأنك؟» فإن أمها تعتقد عن ثقة لا سبيل إلى الشك فيها أن كل صلة بين رجل وامرأة لا تقوم إلا على الزواج أو الرغبة في الزواج، ولن تقبل أمها مطلقا التفسير الذي تقول به ليلى وهو أن عباس كأخيها، وأن أمره يهمها لهذه الصفة وحدها. لا، لا تستطيع الست حميدة أن تعي هذا أو تفهمه. كيف إذن البلوغ إلى عباس؟ إنه لا يقيم بالبيت إلا ريثما يتناول غداءه منفردا في مواعيد غير منتظمة، متحريا ألا يلتقي بأبيه. كيف السبيل إليه إذن؟ لا بد أن تحاول. وتركت الكتاب من يدها وقامت إلى باب حجرتها ونادت: لطفي، لطفي.
وجاءها صوت لطفي من حيث يحاول أن يذاكر هو أيضا: نعم يا ليلى، ماذا تريدين؟ - تعال.
وحين جاء إلى حجرتها قالت له: أريد أن أذهب إلى بيت خالتي.
وطفرت ابتسامة إلى وجه لطفي، ثم أعقبتها وجمة، ثم وجد نفسه يقول في غير تشبث ولا غضب: لا، لا أريد أن أذهب إلى هناك.
ودهشت ليلى هنيهة، ثم قالت: عجيبة! منذ متى؟ لقد كنت أنت من تتمحك في أن تذهب إلى هناك، ماذا جد علينا؟ - كان عباس فظا معي في آخر مرة رأيته فيها. - عباس، ألا تعلم ما هو فيه الآن؟ - الذي أعرفه أنني لا أحب أن يكون أحد فظا معي. - يا أخي هو لا يقصد، وأنت تعرف الأزمة التي يعانيها الآن. هيا هيا، لا تكن عنيدا. - طيب، انتظريني حتى أغير ملابسي. - وما لهذه الملابس؟ إنها عظيمة. - لا، سألبس الحلة الجديدة، انتظريني.
وتخايلت ابتسامة على شفتي ليلى وقالت: إذن أسرع.
ولم يكن محتاجا لهذه التوصية فقد كان يريد أن يسرع فعلا، ولكنه أيضا كان يريد أن يتأنق. وبين الرغبتين المتناقضتين كثر دهان الشعر حتى أصبح رأسه كالحذاء اللامع، ولم يستطع أن يختار رباط الرقبة الذي يتفق مع الحلة الجديدة؛ فقد ظل يجرب الأربطة الأربعة التي يملكها، واختار أسوأها من العجلة، ولكنه على كل حال استطاع أن يلبس أخيرا وأن يخرج إلى ليلى. ولن يخطئ من يراه أن يدرك أنه بذل أقصى جهده ليبدو أنيقا، ولكن جهده خذله فلم يستطع أن ينال ما يصبو إليه. وترقرقت ابتسامة ذكية على شفتي ليلى أحنقت لطفي فقال: ما لك؟
وخشيت أن تثيره فقالت في جد: لا شيء. هيا.
ونزلا، كل منهما يدرك ما يريد، ولكنه يحس كثيرا من سدوف الضباب تقف بين خلجات نفسه وبين شعوره الواعي. كلاهما في حيرة ذاهلة، وكلاهما لا يبذل كثير جهد ليزيل حيرته أو يجلو الإبهام عن عميق مشاعره.
كان عباس قد سئم من كثرة بعده عن البيت، كما أحس أنه قد آن له العود إلى المذاكرة. وكان عباس أيضا يحس شعورا غريبا نحو إيفون؛ إنه منذ تحرر من خوفه أحس كأنه أيضا يريد أن يتحرر من حبه. لم يعد شغفه بالذهاب إليها ملحا كما كان قبل هذه الليلة التي ذهب إليها على غير موعد.
ما الحب؟! نوع آخر من العبودية، ولكنني مع هذا أحب أن أذهب إليها، بل وأحب أن أطيل من الجلوس معها. أحب ذلك ولكن لا كما كنت قبيل هذه الليلة. ويل لهذا الجسم إنه يستعبدنا كما تستعبدنا التقاليد وأوامر الآباء وآراء المجتمع وطقوس الدين. ما الفارق بين هذه العبودية التي أدين بها للجسم، وبين هذه الألوان من العبودية التي تحررت منها؟ هل أستطيع أن أتحرر من عبوديته؟ ما هذا التخريف؟ أتريد ألا تأكل؟ كيف أستطيع أن أقاوم الجوع؟ وكيف أستطيع أن أقاوم نزوعي إلى إيفون؟ وما لي لا أقول حبي لإيفون؟ إنه حب، وإن يكن الشوق الصديان قد بل، إلا أن حبها ما زال. نعم، ما زال في قلبي، وقد أصبحت وإياها اليوم أشد ارتباطا. وكيف لا؟ ألست أنا، أنا وحدي من شاركها فيما صارت إليه؟ لقد فعلت وعلي أن أتحمل مسئولية ما فعلت - وأنا بغير تفكير - في هذا الواجب الذي لا بد أن أحمله وحدي. أنا أحبها، نعم أحبها.
واستطاع عباس أخيرا أن يفرغ إلى مذاكرته على هذه الثقة التي أودعها نفسه من أنه يحب إيفون. واستمر عباس في مذاكرته مقدرا أن أباه لن يلبث أن ينزل إلى القهوة دون أن يحس بوجوده في البيت، ولكن خاطرا آخر شغله عن المذاكرة: إنه في حاجة إلى البيت ليذاكر، وفي حاجة إلى أبيه ليعيش، فكيف إذن يريد أن يتحرر من أبيه؟ وما لبث أن صرف هذه الخاطرة. لقد أحضره أبوه إلى الدنيا فعليه أن يتحمل المسئولية، وليس على عباس أن يقدم إليه ضميره في مقابل رعايته له. إنه يحترمه ولكنه لا يبيعه ضميره في مقابل إيوائه، وإن رأيه أكرم عنده من أن يذله، وحريته أحب إليه من الدنيا كلها، وقد نالها ولن يتركها تفلت من يده مرة أخرى. وعاد إلى المذاكرة.
وأقبلت ليلى، وسمع عباس صوتها من حجرتها، فقام إلى البهو يلقاها، وعاجلته ليلى: أنت هنا؟ الحمد لله، أريد أن أراك. - وأنا أيضا أريد أن أراك. - وقالت وهيبة: تعالوا نجلس في حجرتي. - وقال عباس: ولماذا لا تجلسون في حجرتي أنا؟
وظل لطفي رانيا إلى وهيبة غير واع لهذا الحوار، حتى دخلوا إلى حجرة عباس، فدخل لطفي معهم تابعا وهيبة. واستقر بهم المجلس، ولم يكد حتى قالت ليلى: ماذا جرى يا عباس؟ لم نرك منذ جئت إلينا وأخبرتنا أنك على خلاف مع عم الشيخ سلطان.
وسكت عباس وقالت وهيبة: قولي له يا ليلى، أيصح أن يغضب أباه ويرفض أن يعتذر إليه؟
وقالت ليلى: وهيبة، هل خالتي هنا؟
فقالت وهيبة في دهشة: أهذا جواب سؤالي؟!
وأعادت ليلى سؤالها: هل هي هنا؟
وقالت وهيبة: لا، لقد ذهبت لزيارة أم إيفون.
وقالت ليلى في إصرار: إذن فأنا أريد أن أجلس وحدي مع عباس.
ودقت وهيبة صدرها قائلة: ماذا؟!
وقالت ليلى: هناك أشياء كثيرة أريد أن أحدثه فيها، ولن يقولها أمامكما.
وقال لطفي وكأنما صحا فجأة: هل جننت؟!
فقالت ليلى: لا تكن أنت مجنونا، اتركا الباب مفتوحا واجلسا في البهو حتى إذا جاء أحد فادخلا. لا بد أن أكلم عباس في هذا الخلاف بينه وبين أبيه.
وأثناء حديث ليلى خطر للطفي أن بقاء أخته وحدها مع عباس يفيد - ضمنا - أنه سيبقى وحده مع وهيبة، وأدرك أن لا حرج عليه أن يفعل؛ فهو يعلم أن الحديث بينهما دائر حول الخلاف الناشب في البيت، أما حديثه هو لوهيبة فاعتماده على الله وحده أن يهديه فيه سواء السبيل. وقال لطفي: تعالي يا وهيبة نجلس في البهو.
وقامت وهيبة وتركتهما، وبادرت ليلى عباس: أولا، هل لما كنت تشكوه من إهمال أختك وأمك لك دخل في هذا الخلاف؟ - لا، هذا شيء تعودت عليه. أصبحت أعلم أن أبي وحده هو رب البيت، وأن إليه وحده يتجه التقديس وتقدم الخدمات، أما أنا فشيء ضمن هذه الأشياء التي يقتنيها الناس، ولكن هذا وضع تعودته منذ نحن صغار، أما زلت تذكرين هذا الحديث؟ - إذن قل ما خلافك مع أبيك؟ - قلت له لا أريد أن أصلي لأني غير مقتنع بالصلاة.
ونظرت إليه ليلى عاجبة، ثم ما لبثت أن قالت: ماذا فعل؟ - ضربني.
ووجد نفسه يقولها دون أن يحس الغضاضة التي كان يحسها حين كانت ليلى أو إيفون تعلم أن أباه ضربه.
وقالت ليلى: وبعد؟ - لا بعد. هو لا يريد أن يرى وجهي، وأمي ووهيبة تلحان علي أن أذهب فأعتذر إليه، ومعنى اعتذاري أن أصلي وأنا لن أصلي. - فبماذا تؤمن؟ - بالإنسان، الإنسان الذي خلق الذرة وصنع الصواريخ . - ولكن أليس بين هؤلاء العلماء الذين صنعوا الذرة والصواريخ من يؤمن بالله. - لا يمكن. أيمكن لهذه العقول الجبارة أن تؤمن بالمعجزات؛ من شفاء العمى، والعصا التي أصبحت ثعبانا، والميت الذي أصبح حيا، وغيرها، أتعقلين أنت هذا؟! - وكيف لا أعقله؟ - أنت تصدقين هذه الأوهام. - أنا أصدق كل المعجزات التي جاءت في القرآن لا أستثنى منها شيئا. - لا يمكن. كنت أعتقد أنك أعقل من عرفت. - ولهذا أومن بهذه المعجزات. - أنا لا أصدق ما تقولين. أنت ما زلت أسيرة في قيود التقاليد والأوهام! - بل إني أعي ما أقول، وأقوله وأنا أحس بحرية كاملة في تفكيري. - كيف؟ - ألم تفكر لحظة في نفسك؟ إنك معجزة أعظم من كل هذه المعجزات. أنت أيها الإنسان المفكر الذي لا يؤمن بغير الإنسان. إن نفسك هي المعجزة الكبرى، ولم تستطع الوصول إلى أصلها. ما سر الروح فيك؟ عرف العلماء الجسم كيف يحيا، وعرفوا كهوف النفس وأغوارها، وأطلقوا الصواريخ وملئوا الدنيا علوما، ولكنهم لم يعرفوا سر الروح. سل هؤلاء العلماء الذين تؤمن بهم أن يخلقوا جناح ذبابة، ضعف الطالب والمطلوب. - ماذا تقولين؟! نحن أبناء الطبيعة. - ها أنت عاجز أيها الانسان المفكر، وعجزت أن تعرف سر نفسك فنسبت نفسك إلى الطبيعة إباء منك أن تنسب نفسك إلى خلق الله. ما الفارق إذن؟ ألا إنكم تحاولون أن تخلقوا شيئا تضعونه موضع هذا السر الأعظم الذي استغلق عليكم وسيظل مستغلقا. - لو أن العلماء شاءوا لعرفوا سر الروح. - لو أنهم شاءوا؟! ما لهم لم يشاءوا؟ وهل هناك أهم عند هؤلاء العلماء من أنفسهم؟ ألا يريدون أن يعيشوا فلا يموتون؟ ألا يريدون أن يعرفوا ما هم؟ ما هذه الحياة التي تدب فيهم على رغم أنوفهم، وتستلب منهم على رغم أنوفهم؟ أيريدون أن يتحكموا في الذرة والصاروخ، ولا يريدون أن يتعرفوا أنفسهم وهي أنفسهم، وحياتهم وهي حياتهم؟! - ما قلت إلا الحديث المعاد. أي نفع لهذه الصلاة وهذا الإيمان بما لم نر في عصر سيطرت فيه الآلة، الآلة التي صنعها الانسان. - أي نفع للصلاة؟! إنها الملجأ، إنها الملاذ. إن إحساسا أن هناك قوة عليا تحمينا وتشرف علينا يملؤنا إيمانا بها وطمأنينة. ولن يحتاج الإنسان إلى شيء في الحياة قدر حاجته إلى الهدوء والطمأنينة. - ضعف. لو آمنت بنفسك وبقوتك أنت الإنسان؛ لما احتجت إلى هذا الذي تقولين. - إن شعورنا بالسماء هو الذي يمدنا بالقوة في الأرض. - أنا لا أعرف السماء، وأحس نفسي قويا ماردا أفعل ما أريد. - ألا تفكر في الموت؟ - فناء. - ألا تجد أن تصوره حياة ثانية أجمل وأمتع. - كلام فارغ! أي حياة ثانية؟! وماذا أريد منها؟ ألا تكفيني حياتي هذه؟ لقد خلقت الذرة والصواريخ في هذه الحياة بلا حاجة إلى الحياة الثانية. نحن في عصر يأبى هذه الخزعبلات. - لكم أخشى عليك يوما تحتاج فيه إلى هذه الخزعبلات! - لا تخشي، لن يأتي هذا اليوم. - إذن لا فائدة. - لا فائدة في ماذا؟ - كنت أطمع أن أجعلك تعتذر إلى الشيخ سلطان. - لا تخافي. أنا محتاج لوقتي في المذاكرة، وهو لا يراني والأمور تسير. - هل أنت واثق أنها تسير؟ - لا بد أن تسير.
وقالت ليلى وهي تنادي: لطفي.
ورد لطفي من البهو: نعم. - هيا بنا.
وقال لطفي في غير سرور: هيا.
الفصل العاشر
لم يكن حديث لطفي إلى وهيبة قد انتهى؛ فقد أضاع لطفي وقتا طويلا ليستطيع أن يبدأ حديثا، أي حديث؛ فقد كان قلبه واجفا يريد أن يقول شيئا ولا يستطيع أن يقوله، فهو يبحث عما كان يريد أن يقوله فيجده قد راغ منه في طوايا نفس كثيرة التلافيف اضطرم هادئها فهي موج لا قرار له من الاضطراب والإقدام والخوف والحب والخجل.
وحين استطاع لطفي أن يجد شيئا يتحدث عنه، ما لبث أن تبين أنه يلقي بحديث لا قيمة له، وأنه لو ظل على هذا الحديث الذي أخذ فيه ما بلغ إلى شيء مما يريد. كان يتحدث عن المدرسة وعن تقدمه في الدروس، ولكن سرعان ما سكت. ثم عاد يبحث مرة أخرى عن طريق يؤدي به إلى ما تهفو إليه نفسه، ولكن وهيبة لم تسكت: قل لي بهذه المناسبة يا لطفي، ماذا جرى لك؟ - ماذا؟ - تخبرني خالتي أنك أصبحت من الأوائل، وأنك أصبحت تذاكر ليل نهار. - وما العجب في هذا؟ - والكرة؟ - ما شأنها؟ - هل تركت اللعب؟ - أصبحت أتفرج عليها. - ولماذا هذا التغير؟ - أريد أن أنجح، أريد أن آخذ الشهادة. - أنت لا تعرف يا لطفي كم أنا سعيدة بما سمعت منك! - أنت لا تعرفين السبب الذي يجعلني أحاول جهدي أن آخذ الليسانس. - وهل هناك سبب أقوى من الليسانس نفسه؟ - نعم، هناك سبب مهم جدا. - ما هو؟ - ألا تعرفينه؟
وابتسمت وهيبة وتجاهلت وأغضت عن خفر غير متجاهل، واستأنف لطفي: أهم شيء أسعى إليه ليس هو الشهادة. - إنك لا تزال في الثانوي. - أعلم، ولكني سأجتاح السنين، سآكلها أكلا، في غمضة عين سأصبح في الجامعة، وفي صحوة عين أكون قد خرجت من الجامعة. - إن شاء الله. - كل شيء بأمره، وسأذاكر، وأذاكر، ولا أفعل شيئا إلا أن أذاكر، ولكنني فقط، أريد أن تعرفي لماذا أذاكر. - لطفي؟ - وهيبة أنا لا أستطيع أن أقول أكثر مما قلت. وهيبة هل فهمتني؟ - لا أعرف. - بل يجب أن تعرفي، ويجب أن أعرف أنك قد عرفت. - لطفي أنت تعرف أنني ... أنني ... - أنك؟ - لطفي أرجوك. - أرجوك أنت. - أنت تعرف أنني ... - أنك ماذا؟ - لطفي لا أستطيع أن أتكلم ... - هل عرفت لماذا أذاكر؟ - يا لطفي يا لطفي ... أنت تعرف حياتنا ... لا أستطيع أن أتكلم ... - أنا لا يهمني إلا أنت. - وأنا لا أملك في نفسي شيئا ... - تقصدين عم الشيخ سلطان؟ - نعم. - المهم أن أعرف رأيك أنت، أنت أولا، ولا عليك بعد ذلك.
صمتت وهيبة وعادت إلى الإغضاء، فقال لطفي: ألا تقولين شيئا؟ - أنت تعرف ... أنت تعرف. - أنا لا أعرف شيئا، هذه أول مرة أكلمك فيها عما في نفسي. قولي. - ماذا أقول؟ - وهيبة. - لطفي. - وهيبة ... هل لي عندك مثل ما لك عندي؟ - نعم.
قالتها وهي خائفة، ثم قامت عنه في سرعة خجلانة لا تريد أن تراه بعدها، ولكنه قال قبل أن تغادر البهو: وهيبة، تعالي.
وجدت نفسها تعود إلى مجلسها مطرقة، وقال لطفي: المسألة تحتاج منك إلى شيء آخر.
وقالت وهيبة وهي مطرقة ما تزال: ماذا؟ ماذا يا لطفي؟ ألا يكفي هذا؟ - لا، لا يكفي أبدا، بل إن عليك واجبات مهمة جدا.
ورفعت وهيبة إليه رأسها في دهشة وسألته: واجبات؟! - نعم، فأنت الأن كبيرة ... وقد ... وقد ... - ماذا؟
وحينئذ جاء النداء من ليلى فلم يستطع إلا أن يهمس: سأكلمك ثانية فيما يجب عليك. - هيا ندخل لهما.
وقبل أن يدخلا كانت ليلى قد خرجت وصحبت أخاها إلى الخارج.
الفصل الحادي عشر
أحست إيفون أنها غريبة في بيت أبيها. كان حنانه وعطف أمها المشوب بالشدة، كما هما لم يتغير منهما شيء، ولكنها مع ذلك كانت تحس أنها غريبة. كان هذا الشعور يطالعها من داخلها هي، ليس لشيء مما يعاملها به أبوها أو أمها أي صلة به، إنها غريبة؛ أفكارها لا تنسجم وحياتها اليومية، آمالها بعيدة غاية البعد عن الآمال التي يرسمها لها أبوها أو تحلم بها أمها. غريبة هي في بيتها لا تدري لماذا؟ أهو هذا الذي حدث بينها وبين عباس؟ ولكنه السر الذي لم يعرفه أحد.
ولكني أنا أعرفه، أعرفه، وما الجديد فيه؟ ألم يكن العهد بيننا على الزواج، وقد تم الزواج؟ أهو قد تم؟ لا، لا، لم يتم؛ فأين زوجي إذن إن كان الزواج قد تم؟ أين عباس؟ هناك في بيته.
كانت تحس أن هذا السر الذي تخفيه هو الذي يجعلها غريبة. شتى من المشاعر، وألوان من المخاوف، ونيران من الحسرة تراوحها نسمات من الطمأنينة. تذكر مستقبلها إذا خذلها عباس فتراه أسود داكنا تطل منه المخاوف ويملؤه الرعب، ثم تذكر وجه عباس الصافي الأمين فتنفي عن قلبها الخوف ولا تذكر غير السعادة. أيقبل أبوها وأمها؟ وما لها هي؟ إنها ستتزوجه قبلا هذا أم لم يقبلاه.
فما مصيرها إذا هو لم يرد الزواج بها؟ وتنهدم الآمال وتطل عليها المخاوف مرة أخرى، فلا تجد وسيلة إلا أن تذكر وجه عباس الصافي الأمين؛ فتعود إليها الطمأنينة وانية كأنها طيف حذر يتلفت قبل أن يقدم، يستوثق دون خطاه.
وقد ترى أمها ما يلم بابنتها من قلق، ويداخلها ما يداخل أما تحب ابنتها فتسألها: ما لك؟
وتنظر إليها إيفون مليا، ثم تقول: ما لي؟ - ألا تعرفين؟ تفكرين وتطيلين التفكير، وتسكتين فتمر بك الساعات لا تنطقين. - يا سلام يا ماما! إنما يتهيأ لك. لا شيء بي.
وتسكت الأم، وقد تطمئن نفسها أن إيفون أصبحت في السن التي يجوز لها فيه أن تفكر وتسكت، ويصيب هذا النوع من التفكير مكانا في قلب الأم يحب أن يطمئن فتطمئن.
كان اليوم جمعة، وكانت إيفون جالسة إلى أمها في البهو تنتظر قدوم مرقص أفندي، وكانتا تعلمان أنه قادم مع الأذان بصلاة الجمعة؛ فقد كان أصدقاء القهوة يتركونه في هذا الموعد. وجاء مرقص أفندي وحياهما، ورأت مريم في وجه زوجها هذا الأسى الذي تعرفه فيه إذا صادف خارج البيت ما لا يرضيه. وعلى عادتها أخذت في حديث، وعلى عادتها صمتت. وتنهد مرقص أفندي وساد الصمت قليلا، ثم قال مرقص: مسكين أبو الأولاد. - خير يا مرقص؟ - الشيخ سلطان، الرجل الطيب على خلاف مع ابنه عباس. - خلاف؟! أي خلاف يمكن أن ينشأ بين أب وابنه؟ فليضربه فينتهي الخلاف. - لم يفد هذا العلاج في هذه المرة. - كيف؟ أنا أعرف الشيخ سلطان رجل شديد في بيته، وكلهم يرهبونه. - المسألة ليست مسألة إرهاب، عباس - طبعا - لم يقل لأبيه كلمة جافية، ولكن يبدو أن الخلاف أعمق من هذا. - وما الخلاف؟ - أنا ذاهب إليه بعد الظهر في القهوة وسأرى.
كانت إيفون صامتة لم تتكلم؛ فهي قد علمت من عباس أن هناك خلافا، ولكنه لم يبن لها عن أسبابه. وقد كانت تنتظر أن تعرف من عباس في زيارته القادمة ما لم تعرفه، ولكنها مع ذلك أبت أن تسكت فهي تقول لأبيها: لماذا لا تحاول أن تصلح ما بينهما؟
وقالت مريم: ونحن ما شأننا يا إيفون؟ لنكن في حالنا.
قال مرقص أفندي: كيف تقولين هذا يا مريم؟ الشيخ سلطان صديق العمر. طبعا سأفعل كل ما أستطيع أن أفعله.
وقالت إيفون في فرح: ربنا يبقيك يا بابا . - يا بنتي ربنا يحفظك ويبعد عنا السوء. يا إيفون يا بنتي، إن أعظم مصيبة يلاقيها الإنسان في حياته هي المصيبة التي تناله في أولاده.
وغامت عينا إيفون بالدمع وأوشكت أن تجهش لولا أنها قامت مسرعة إلى حجرتها، وتعلقت عين أبيها بها حتى اختفت عن ناظريه، ثم استرد هو الآخر دموعا أطلت فغاضت بين حب لابنته وإشفاق عليها مما أثاره في نفسها بحديثه.
وحين ألقت إيفون نفسها إلى السرير وأصبحت وحيدة لا أحد حولها، أطلقت الإجهاشة المكبوتة وهي تتساءل: ماذا هو فاعل حين يعلم؟ ماذا هو فاعل حين يعلم؟
وحين أتم الشيخ سلطان حديثه إلى مرقص أفندي قال: استكبرت يا مرقص أفندي أن أشكو همي لرضوان، وهو عديلي وزوج خالته. لم أرد أن يعلم أحد أن ابني يعصي أمري، ولكن المصيبة أكبر من أخفيها في نفسي. لم أجد بين أصدقائي من أروي له إلا أنت؟ ماذا أقول يا مرقص؟ ماذا أقول لهم؟ أأقول إن ابني ... ابني أنا مفتش الوعظ والإرشاد ملحد؟ كيف سينظر إلي زملائي؟ كيف أريهم وجهي؟ أيبلغ بي الفشل في عملي إلى درجة أنني لا أستطيع أن أجعل ... ابني ... ابني الوحيد مؤمنا؟! يجب أن أستقيل، وإذا استقلت ماذا نأكل وكيف نعيش؟ بل كيف يعيش حضرة الملحد الذي يضمه بيتي؟ لا رأيتها أبدا يا مرقص أفندي، لا رأيتها أبدا.
وصمت مرقص أفندي قليلا ورفع رأسه من إطراقه، ثم قال: هون عليك يا شيخ سلطان. - أمثل هذا الخطب يهون؟ - قل لي، ألا تحس أنك قد أديت واجبك نحوه؟ - وما فائدة أنني أديت واجبي إذا كان لم يثمر؟ - المفروض يا شيخ سلطان أننا نؤدي واجبنا نحو أولادنا، وحين يبلغون من السن ما بلغه عباس يصبحون هم مسئولون عن أنفسهم أمام الله والناس، هل قصرت في شيء؟ - وهل أدري؟ - كل إنسان يؤدي واجبه بالطريقة التي يعتقد أنها صحيحة، فهل أنت مقتنع أنك أديت واجبك بالطريقة التي يرضاها ضميرك؟ - كان ضميري مستريحا، أما الآن، فلا أدري. - لا أحد يدري إلا أنت، وإذا كنت مقتنعا أنك أديت واجبك فالنتائج ليست بيدك أنت. - إنه يرفض أن يصلي يا مرقص. - عدم الصلاة لا يدل على الإلحاد يا شيخ سلطان، كثير منا لا يذهبون إلى الكنيسة ولكنهم مؤمنون. - قال لي إنه غير مقتنع. - اسمع يا شيخ سلطان، أنا أعتقد أن أي ضغط في هذه الناحية سيؤدي إلى عكس النتيجة التي تريدها، اترك صلته بربه له هو يصنع فيها ما يشاء، وأكمل أنت واجبك. - أيظل في بيتي يأكل من شقائي ونظل متخاصمين؟ - أبدا يا شيخ سلطان، سأناديه أنا وأجعله يقبل يدك ويعتذر إليك. - والصلاة؟ - دع هذه لله يحاسبه عليها يا شيخ سلطان. - افعل ما تراه يا مرقص فأنا واثق من حسن تصرفك، وليست هذه أول مرة ألجأ إليك فيها لتحل مشكلاتي، وإن كانت هذه هي أعظم مصيبة واجهتها. - كل شيء يهون يا شيخ سلطان، كل شيء يهون.
الفصل الثاني عشر
كانت إيفون تنتظر عباس مشوقة إليه تحمل في نفسها كلاما كثيرا تريد أن تقوله له، ولم يطل بها الانتظار فقد جاء عباس في موعده المحدد، وما إن أغلق الباب من خلفه حتى احتواها في أحضانه وراح يقبلها في نهم، ولكن إيفون قطعت عليه قبلاته قائلة: عباس، انتظر، أريد أن أكلمك.
وتوقف عباس ونظر إليها، ثم جلس إلى السرير وجلست هي على المقعد وقالت: أليس هناك شيء تريد أن تقوله لي؟
ودهش عباس من السؤال وقال: مثل ماذا؟ - لا أدري، فإننا كنا نتكلم ... نتكلم كثيرا ... ولكننا منذ ... منذ ... منذ جئتني على غير موعد ... أتذكر تلك الليلة؟
وأومأ عباس برأسه أن نعم، فاستأنفت إيفون الحديث: منذ تلك الليلة لم تتكلم، أصبحت كأنك تجيء لغرض واحد تناله، ثم تنصرف.
وصمت عباس واستأنفت إيفون: اختلفت مع أبيك فلم تقل لي حتى عن سبب خلافك.
وقال عباس دون أن يبين في حديثه ما يعتمل بنفسه من ضيق: وماذا أقول؟ وعلى كل حال هذه المسألة قديمة وقد استطاع أبوك أن ينهيها على خير. - نعم، استطاع أن يجعلك ترى أباك فقط، ولكنه يعرف كما تعرف أنت أن أباك ما زال غاضبا عليك. - على كل حال هذه مسألة انتهت من زمان. - كنت أرجو أن أكون أنا موضع سرك وأعرف كل ما يدور في نفسك. - لم أكن أدري أنك تريدين أن تعرفي. - ماذا تظن بي؟ ماذا أنا عندك؟ - وما يهمك من هذا؟
وحملقت فيه إيفون ذاهلة حائرة غاضبة خائفة: ألا تدري ماذا يهمني؟
وأطرق عباس لحظة، ثم قال: لم أقصد ما يغضبك، وإنما نجتمع لوقت محدود وأعتقد أن الفرصة لا تسنح لمثل هذا الحديث. - عباس، أتحبني؟! - أتشكين في هذا؟ - نعم. - فأنت مجنونة. - أرجو أن أكون واهمة في هذا الشك. - أنت واهمة طبعا. - أتنوي أن تتزوجني؟ - ألم نتكلم في هذا من قبل؟ - أجب على سؤالي يا عباس. - أنت تعرفين جوابي، طبعا سنتزوج. - عباس! لا أحس روحك في ألفاظك! - ألا تصدقينني؟ - أرجو أن أصدقك. - أليست أمامنا سنوات طوال للبحث في هذا الأمر؟ - سنوات! هل نسيت؟ لم يعد أمامك إلا سنة واحدة وتتخرج. - وهل السنة شيء قليل؟ - ليست السنة شيئا قليلا؟ ولكنني أخاف بعد السنة ... أخاف ... - ما الذي بث هذا الخوف في نفسك؟ - ما صرت إليه. - فقط؟! - ومنى ... - ابنة عمك. - نعم. - ولماذا تخيفك؟ - إنها معذورة، تعرف أنني أحبك وترى العقبات التي تقف بيننا، وتخشى إذا تخليت عني ...
واغرورقت عينا إيفون بالدموع، فقال عباس: كنت أنتظر منها أن تشجعك لا أن تخيفك. - كيف؟! إنها واقعية، ترى الحقائق المجردة. - هل عرفت الحب؟ - إنها تحب زوجها. - وهل ما زالت تحبه؟
وامتقع وجه إيفون وقالت وقد جف ريقها من الخوف: وهل المفروض ألا تحبه بعد الزواج؟! - لا، لم أقصد، ولكن أعتقد أن الحب يقل بعد الزواج. - لماذا ... لماذا؟ - أعتقد أن النار تبرد بعض الشيء. - إذن، فقد بردت نارك! - وهل تزوجنا؟ - عباس ... حديثك يخفيني. - ماذا يخيفك؟ ماذا بك؟ - يخيل لي أنك نلت مني كل ما تريد. - إيفون كفي عن هذا الحديث. - لأنه الحق. - إيفون أرجوك. - أهو الحق؟ - تريدين أن تثيري شجارا، حسبنا، فأنا منصرف. - منصرف؟! بهذه السهولة؟! - ماذا أصنع معك؟ - أنت المسئول وحدك عما صرت إليه ، ولا بد أن تتحمل المسئولية؟ - يا إيفون الوقت لم يحن ...
وقبل أن يكمل عباس الجملة فتح باب الحجرة فجأة وبدا مرقص أفندي في جلبابه. وشمل الحجرة صمت مليء بالضجيج، بالثورة، بالخجل، بالرعب، بالأسى. لحظة مرت تجسم فيها الشقاء والعار والامتهان، صمت مرقص وظل ناظرا، وطال الصمت وطال حتى خيل للآخرين المطرقين في الأرض أن الصمت لن ينتهي. أحس عباس لأول مرة في حياته أن عقله لم يعد يفكر ... كل ما كان يفكر فيه لحظة ذاك أنه لم يعد يفكر. وأحست إيفون أنها لا تريد شيئا في لحظتها تلك إلا أن تسمع صوت أبيها، تريد أن تسمعه يقول أي شيء، ولا تدري لماذا أحست أنه لو تحدث ستستطيع أن تقول شيئا يرضيه. ثم أحست - ولا تدري لماذا - أنها لو ألقت بنفسها بين ذراعيه ستستطيع أن تنال منه قبلة. كأنما كانت تحس أن حضن أبيها لن يخذلها، ولكن هذا الصمت المليء بالضوضاء لا يريد أن ينقطع، وأبوها لا يريد أن يتكلم، لا يريد أن يقول شيئا، أي شيء.
وأخيرا انقطع الصمت ولكن لم يكن الأب هو من قطعة وإنما عباس: يا عم مرقص أفندي.
وكان مرقص أفندي قد تمالك نفسه فقاطع عباس في حزم: اخرس!
وقال عباس: المسألة ...
وقال مرقص: اخرس قلت لك! ... وامش ... انزل.
وقالت إيفون: يا بابا.
قال مرقص: لا تنطقي هذا الاسم مرة أخرى.
وقالت إيفون: إنه سيتزوجني.
وقال مرقص أفندي: انزل يا عباس! ولا ترني وجهك أبدا!
وقالت إيفون في تشبث: إنه يريد أن يتزوجني ... قل له ذلك ... قل له يا عباس.
ومشى عباس إلى باب السلم وفتحه وانزلق منه إلى الخارج صامتا لا يلوي على الحريق الذي أشعله في بيت كان آمنا.
الفصل الثالث عشر
حتى البيت يأبى على مرقص الطمأنينة والهدوء، بل إن البيت أصبح شر ما يواجهه في الحياة. لقد استطاع الشر الذي يتوقاه خارج باب البيت أن يتسلل إلى داخل أبوابه ويصرع أمله الوحيد الذي يحيا به وله. كيف استطاع هذا الشر أن ينفذ إلى بيته وهو حريص أشد الحرص أن يغلق الأبواب ويحكم الرتاج؟ وكيف استطاع أن يختار من البيت أعز من في البيت؟ أهكذا يخترق السهم قلبه مصوبا من خلال وحيدته التي ما أحاطت به الهموم وذكرها إلا هدأ ثائره وقر مضطربه؟ فقد أصبحت هي اليوم ثائره، وهي هي من أصبحت مضطربه، بل ومقتله! كيف يقوى على هذا المصيبة؟
كان جالسا بالبهو على الأريكة حين طلعت إليه مريم من حجرتها ورأته ورأت باب ابنتها مفتوحا. وسألت مرقص فرفع عينا شاخت فكأنما سعى بها العمر عشرات من السنين، ثم أطرق مرة أخرى. لا ليس هذا مرقص! ودخلت إلى ابنتها فوجدتها متكومة كقطعة مهملة من الملابس فوق السرير وقد اعتمدت رأسها على ركبتيها، وسألتها، فرفعت إليها عينين تحجرت فيهما الدموع، فصرخت: انطقي!
وقال مرقص من البهو في صوت متهدج حاسم: لا يعلو صوتك.
وقالت في إصرار: ماذا بكما؟
ثم ذهبت إلى زوجها وجلست إلى جانبه مبهورة الأنفاس والهة: ماذا يا مرقص؟! ماذا حل بنا؟!
ودون أن يرفع إليها بصره تمتم بكلمتين كانتا كافيتين غاية الكفاية. وهمت أن تقوم إلى ابنتها فأمسك زوجها بذراعها في قوة عنيفة: لن يعرف أحد ما حصل، حذار أن يعلو صوتك.
وتخلصت مريم من يده وقامت إلى إيفون: ماذا بينكما؟
وصمتت إيفون، فقالت الأم في بهرها الآخذ يكاد الخوف يعقد لسانها: هل أنت عذراء؟
وحينئذ اندفعت إيفون في نشيج مجنون وأرادت أن تلقي بنفسها إلى حضن أمها، ولكن أمها - وقد فهمت - ألقت بها إلى مكانها لتصبح مرة أخرى قطعة من الملابس المهملة ملقاة في السرير.
لم ينم ثلاثتهم ولم يتحدث أحد. وطلع الصبح فما أحسوا بمطلعه، وألقيت الجريدة وجاء اللبن ولكن أحدا لم يستقبل الجريدة أو اللبن. وجاء موعد الديوان فما خف له مرقص أفندي ولا حتى أحس به، وظلوا ثلاثتهم في أماكنهم الضجيج في رأس كل منهم يقطع ما بينه وبين الآخرين. وكانت مريم أسبقهم إلى الإفاقة، قالت لمرقص: ماذا تنوي أن تفعل؟
وقال مرقص: ناديها.
وحين جاءت إيفون وجلست إزاء أبيها قال: ماذا تريدين أن تفعلي؟ - سيتزوجني.
ودقت مريم صدرها في غيظ وقالت: ماذا؟
وقال مرقص في هدوء عاصف: أتدرين ما تقولين؟ - نعم. - واختلاف الدين. - ديننا دين المحبة. - هذا زواج لا تقره الكنيسة؛ فهو زنا؛ كفر. - المسيح يقول: «إني أريد رحمة لا ذبيحة.» - لو تزوجته فقد خرجت من ديننا، دين المسيح.
وقالت أمها: اقتلها قبل أن تتزوجه.
وقال مرقص أفندي في حزم: لا يراك بعد اليوم ولا ترينه.
وحاولت إيفون أن تقول: ولكن يا أبي ... - لا مناقشة! قومي، اذهبي إلى حجرتك، ولا تريني وجهك.
ثم التفت إلى مريم وقال لها: اجمعي ملابسنا، سنترك هذا البيت، سنترك هذا الحي جميعه.
الفصل الرابع عشر
خرج عباس إلى الطريق مطرقا خزيان، ينتابه شعور لم يعهده قبل. كان يتمنى أن يكون أبوه راضيا عنه في لحظته ليستطيع فقط أن يجلس إليه دون أن يكلمه. كان يريد قلبا حانيا يلجأ إليه، أي قلب. كان مناه جميعا أن يرى إنسانا ويحادثه، أي حديث. لأول مرة يجابه الحياة وحده. كان يردد في نفسه أنه لا بد أن يكفر عن خطئه ولا بد أن يتحمل المسئولية، مسئولية تحرره، تحرره؟ «ما لحريتي ولهذا الذي أنا فيه؟» إنها هي الذي أنا فيه؛ لقد فعلت ما فعلت يوم تحررت من سلطان أبي وأعلنت تحرري من الدين؟ ما لي ولهذا؟ لقد صنعت بحريتي ما أردت أن أصنع، وأنا كفيل أن أصلح ما فعلت وأتحمل مسئوليتي. سأتزوجها، أتزوجها. نعم، أتزوجها. إن أباها اليوم ثائر ولكنه بعد أيام سيهدأ، وسأذهب أنا إلى أبي أطلب إليه الزواج منها. أتراه يقبل؟ فإذا رفض؟ أعمل وأتزوج. والكلية؟ ولماذا لا أعمل وأذاكر في وقت معا؟ نعم، أعمل وأذاكر وأتزوج في وقت واحد. هل أنا أول من فعل ذلك؟ ولن أكون آخرهم. ولكنها كلية الهندسة، وقد أوشكت على النهاية. وماذا يهم؟ في سبيل، في سبيل ماذا؟ هل أحب إيفون؟ لا أدري. نعم أحبها، حبا يكفي للحياة القادمة كلها، حبا لا يزول باللحظة النشوى، حبا لا يختلف بعد اللقاء عنه قبل اللقاء، حبا يجمع القلب والجسد في بوتقة واحدة فهما مزيج مؤتلف مشع قاهر عاصف بكل العراقيل. أحبها هذا الحب؟ لا بد أن أتحمل مسئولية ما صنعت، أريد أن أحادث إنسانا. فإذا رفض أبي؟ فإذا رفض أبوها؟ أكون قد أديت واجبي. أأكون قد أديت واجبي؟ لماذا أفكر في أبيها وأبي ولا أفكر فيها هي؟ هي التي نفيتها عن عالم الطهر، وهي التي وثقت في؟ ولكنها هي من أسلمتني نفسها، هي شريكتي. ألم أعدها بالزواج؟ كان عليها أن تحذر، إنه مستقبلها. لقد ذكرت وقوفي أمام بيتها واحتيالي لأركب العربة وفرحتي باللقاء، وسنة ونصف سنة من اللقاء العفيف فاطمأنت. ما كان لها أن تطمئن. أريد أن أحادث أحدا. هل أنا سعيد بحريتي الآن؟ هل أنا حر؟ لا، ألا تستعبدني هذه الأفكار؟ ألا تفرض علي نفسها فرضا؟ أأستطيع أن أتحرر من أفكاري؟ أأستطيع أن أفكر في أي شيء آخر؟ فيم أريد أن أفكر؟ في ليلي. وكيف أفكر في ليلي وأنا في هذا الموقف الضنك؟ لعلي أفكر فيها لأنها الوحيدة بين كل الناس التي تهتم بأمري، ألا تهتم إيفون؟ أما كان في وثوقها بي وإلقاء شرفها ومستقبلها بين يدي أكبر دليل على اهتمامها بي؟ أجل ولكن، ماذا؟ لم يكن لها أن تفعل. لماذا؟! لماذا؟! لأننا ... لأننا لم نكن زوجين؛ إذن فأنت عبد ما تزال، عبد ترسف في أشد الأغلال عنفا، وأقسى القيود جمودا. ما الزواج أيها الحر؟ إنه مباركة الدين للعلاقة التي قامت بينك وبين إيفون، لا أقل ولا أكثر. لا، لا، بل انتظر، إنه إعلان العلاقة، إنه إشهارها على ملأ الناس. الناس؟! عبد، عبد، ألم أقل لك إنك عبد سجين الدين والتقاليد معا لا تستطيع منها فكاكا. أين هي الحرية التي نلت؟ أين هي الحرية التي زعمت أنك ملكتها لا تبيعها بالحياة؟! عبد، عبد، وسادتك الدين والناس والتقاليد. أنت غير راض إذن عن العلاقة بينك وبين إيفون لأنكما لم تتزوجا، فلو كنتما تزوجتما؟ إذن فلا جناح عليها ولا ملامة. ومن قال إنني غير راض عنها؟ ها أنا أريد أن أتزوجها. أتحمل لها في نفسك احترام المحب لحبيبته أو الزوج لزوجته؟ وإن لم فلماذا؟ لأنكما لم تتزوجا. أجل أحبها، وسأتزوجها. أريد أن ألقى إنسانا. أليس لي أصدقاء؟ نعم لقد كنت أمارس حريتي حين التقيت بها، ولكن أكانت هي أيضا تفكر هذا التفكير؟ لا أخشى إذا تزوجتها أن تخدعني مع غيري كما خدعت أباها وأمها معي. كيف أطمئن إلى بيتي ومن فيه قد تزوجتني قبل الزواج؟ نعم قد وثقت بي، وأحبتني. كيف تطمئن أنها لن تثق في رجل آخر وتحبه؟ يا لها من أفكار! كيف أطمئن إلى أي زوجة أخرى؟ فيم تختلف إيفون عن أي فتاه أخرى؟ إنها سلمت نفسها لي بغير زواج؛ أي بغير ورقة من المأذون الذي يمثل شرع الله، ويمثل المجتمع والتقاليد وكل ما أحاول التحرر منه. أحاول؟! بل إنه يمثل كل ما تحررت منه فعلا. أنا لا أومن بغير الإنسان، الإنسان وحده، وهو القوة العظمى في الحياة. وإيفون إنسان فعل ما يريد أن يفعل، وإني أحبها لأنها فعلت ما تريد أن تفعل. هل أحبها؟ لا بد لي من صديق أكلمه في غير هذا الحديث. شعبان، شعبان، أين شعبان الآن؟ ما لي ولشعبان الخيالي الحالم؟ وهل أريد الآن إلا خياليا حالما؟ لا بد أنه في البار، نعم، يسكر ويصلي مسرورا في الصباح بالصلاة وفي المساء بالخمر، يقول إن الخمر تشعشع الروح. ما لي وللخمر؟ إني أريد شعبان. هو في ذلك البار الضيق الصغير بشارع عماد الدين، هناك أجده خلف الحاجز الذي يستخفي وراءه الشاربون عن عيون الناس. مم يستخفون؟ إن الدين جعل الشعور بالإثم يلازم النفوس لا يتركها. كم هم مجانين هؤلاء الناس! لماذا لا يشربون ما داموا يريدون أن يشربوا؟ أفسد الدين حياتهم. أسعيد أنا بغير الدين؟ نعم سعيد. عدنا إلى إيفون، ماذا يهم ما دمت سأصلح خطئي؟ وما شأن الدين بهذا؟ إن حريتي ملكي وأنا وحدي من أتحمل مسئوليتها وسأتحملها. على أية حال سأتزوج من إيفون.
وكان قد ركب السيارة الكهربائية التي تؤدي به إلى صديقه، ونظر إلى الساعة.
قيد آخر، هذا الزمن قيد لا يمكن الفكاك منه شأنه شأن الطعام وإيفون، عدنا إلى إيفون، لن أفكر فيها، لن أفكر مطلقا حتى أصل إلى شعبان. السيارة حافلة بالناس. ما هذا الزحام؟ ولكن ما لي غير ضيق بالناس أو بزحامهم اليوم؟ أليسوا هؤلاء هم المجتمع والتقاليد؟ ما لي لا أضيق بهم الآن؟ بل ها أنا ذا أبحث بينهم عن صديق. أما لي بين هؤلاء جميعا صديق؟ مساكين الناس! التعب باد عليهم، كل فرد منهم قطعة من الإجهاد تسعى حياتها في رهق، تدفعهم الحياة فيندفعون، وتلهب ظهورهم بالسياط فيجهدون؛ منهم من لا حياة له إلا إذا عمل، ومنهم من لا حياة لأولاده إلا إذا اجتهد. أيلقون من حياتهم كفء ما يدفعون لها من جهد؟ أو يلقون من أولادهم عدل ما يبذلون في سبيلهم من شقاء؟ بل مساكين. ها هو ذا مرقص أفندي لم ير شقاء أشد من شقائه بابنته الليلة. أنا من صنعت هذا الشقاء. ذئاب هؤلاء الناس. ما ذنب الناس؟ إني أنا وحدي الذئب. قلنا سأصلح خطئي، سأتزوجها. هذا الرجل الواقف مكدود ضيق متبرم، مسكين ترى أي مصيبة يعانيها؟ أأترك له مكاني؟ لن يصدق، سيحسبني أسخر منه. لماذا يتقبل الناس الخير في حذر؟ لأن الشر من طباعهم. مسكين مرقص أفندي. يبدو أن الشر طبعي أنا وحدي. ما لهذه السيارة بطيئة؟ ألا يأتي شارع عماد الدين أبدا؟ أريد صديقا. أتراني ألجأ إلى المجتمع؟ ما لي وللمجتمع؟ فما لي أبحث عن صديقي؟ أف من طول الطريق! ما أطول الطريق! ألا يأتي شارع؟ ها هو ذا أخيرا.
ولم ينتظر أن تقف السيارة، بل قفز منها إلى الطريق، وكبا وكاد يقع، ولكن اثنين من المارة أمسكا به وأوقفاه، وسأله أحدهما في إشفاق: هل حدث شيء؟
وقال بلا وعي: لا شكرا، بسيطة.
وقال الرجل: طيب مع السلامة، وعلى مهلك.
وقال وهو يمضي: شكرا.
واندفع في طريقه إلى البار الذي يجلس فيه صديقه، وحين دلف عباس من الساتر المقام أمام باب البار أشرق وجهه بالسرور؛ فقد رأى شعبان جالسا هناك بين رفقة يؤلف هو بينهم على مزاجه، جماعة ليس فيها اثنان يمثلان رأيا واحدا ولا فكرة واحدة؛ لا انسجام بينهم في الرأي، ولا صلة لأحدهم بالآخر في العمل، لكل منهم عمل يختلف كل الاختلاف عن الآخر. شيئان يؤلفان بينهم هما شعبان والخمر، وما كان شعبان ليستطيع أن يجمع هذا الشتيت من الناس إن لم يجعل لهم الخمر إغراء؛ فهو يقدم لهم كأسا هدية ويترك كئوسهم الأخرى تتولاها جيوبهم، ويشترط إزاء ذلك أن يشرب ليلتين في الأسبوع على حسابهم مجتمعين. وكان يخسر في سبيل ذلك جنيهين أو ثلاثة في الشهر، ولكنه كان يجعل من جلستهم عوضا له عن كل الملاهي الأخرى؛ فقد كانت أسباب الخلاف بينهم لا تنتهي، ومن هذا الاختلاف كانت متعته ضحكا عاليا يرطب به صراع النقاش وصراع الدنيا معا. ولكن خلافهم على اتساعه حين وصل إلى الخمر أصبح اتفاقا؛ فهم يشربونها في تلذذ، ولو أتاحت مواردهم لهم مزيدا ما تركوها ليلهم أو نهارهم. ولكم كانوا يقومون والأسف يملأ نفسوهم أنهم لم يصلوا إلى مرتبة السكر الكامل؛ فيلعنون الفقر الذي يقف بهم دون أمانيهم. كانوا ثلاثة نفر رابعهم شعبان؛ فأما شعبان فقد فرغ من كلية الحقوق منذ قريب، فهو الآن محام وإن كان تحت التمرين. وأما الأصدقاء فهم محمد حسن موظف بوزارة الشئون الاجتماعية، ولكن الصفة التي يريدها أن تغلب عليه أنه شاعر. وإلهام الزيني ويعمل مديرا لنادي الأخوة. وسليم فوزي ويعمل كاتبا لدى سمسار في بورصة الأوراق المالية، ويقول إنه سمسار. يجلس بينهم شعبان يغري كلا منهم بالآخر، فإذا أبوا ليلة أن يختلفوا تركهم وقام إلى بيته آسفا. وكان عباس يعرف بهذه الخلافات التي يثيرها شعبان بين أصدقاء الليل. وكان يعجب كيف يتاح لشعبان الذي لا يراه أحد في الصباح إلا مطرقا خجلا يتمتم الألفاظ ولا ينطقها، ويهينم بالحديث لا يقوله، كيف يتاح له أن يصبح عند الليل هذا العربيد المشاكس الضاحك الصاخب ؟ بل كيف يشرب الخمر وهو لا يترك فرضا من الصلاة إلا أداه؟
سأله يوما: أتصلي وتشرب الخمر؟
فقال باسما في سخرية: كل بثوابه. - ما ثواب الخمر؟
فيقول شعبان: الحرية، أحس كأن لا صلة لي بخجلي هذا الذي تراه، ولا صلة لي بالمكتب ولا بالقضايا، إنما هي نشوة تستخفني وضحك سادر متحرر.
ويلح عباس: ألا تجد فيما يسمح به الدين ما تنشده من الحرية؟
فيحمر وجه شعبان ويقول: والله ما شربت الكأس الأولى إلا قلت: اللهم إنه منكر لا يرضيك. ولكني يا عباس أريد أن أضحك ولا أجد في هذه الدنيا ما يضحك. أنا أشترى الضحك بالمعصية. وإني أحاسب نفسي عليها حسابا عسيرا. لعلي إذا تزوجت ووجدت زوجتي وأطفالي من حولي، لعلي أسعد بهم ولا أحتاج إلى الضحك.
وكان عباس يقول: إنك ضعيف، تستعين بالخمر لتنال حريتك وهي في يدك، ما الذي يربطك بالمجتمع والتقاليد؟ ما الذي يربطك بهذا الأسف الذي تحسه حين تشرب الخمر وأنت تسعد بشربها؟ انطلق، حطم الأغلال، مزق القيود، وانطلق. اشرب لأنك تريد أن تشرب، واسعد لأنك حر ولا تؤذي أحدا بحريتك.
وينظر إليه شعبان مليا، ثم يقول: الكلام سهل. - والعمل أسهل لو أنك حازم.
ويقول شعبان في وعي: سأجرب فيك الحرية، إذا نفعت ألحق بك.
كثيرا ما كان مثل هذا النقاش يدور بين الاثنين إذا اجتمعا في الصباح وشعبان مفيق، أما في الليل فقلما كان يأتي عباس إليه، فإذا جاء فإنه لا يناقشه هذا النقاش الطويل، وإنما يكتفي بسؤال عابر أو لمحة من رأيه خاطفة، ثم ينصرف إلى الخلاف الذي يكون مستعرا بين الأطراف الثلاثة.
حين أهل عباس على الجلسة في ليلته تلك خالجت نفسه ومضة من هدوء ما لبثت أن زالت: أأكون قد جئت اليوم لأنني مخذول بحريتي فشلت أن أواجه بها الحياة؟ ثم سرعان ما نفى عن ذهنه هذه الخاطرة. قلنا سأتزوجها، أي فشل إذن وأي خذلان؟ وأقبل على الجلسة، ورحب به الأصدقاء الخصوم في إقبال سكارى. وندت عنه ابتسامة ذهلوا عنها فما أبصروها . وقال شعبان في مرح: المباراة الليلة في أروع حالاتها، لا بد أن تشرب كأسا.
ودهش عباس قائلا: أشرب؟! أنت تعرف أنني لا أشرب. - نعم أعرف ولكن ما البأس أن تجرب؟ - ولماذا أجرب؟ - لتنال حريتك ... آه نسيت ... أنت عندك حريتك. ألا تريد حرية أخرى جديدة؟ ... لا بأس بكثرة الحريات فيما أعلم. - أنت سكران. - لا ... أنا منسجم ... من الشجار لا من الخمر ... الشجار حياة ... وأنا أحب الحياة ... أتشرب كأسا؟
وصمت عباس هنيهة، ثم قال: أشرب.
وضحك شعبان: يبدو أن حريتك تريد أن تتركك.
وذعر عباس كأنما مسته جمرة،ث أحس كأن شعبان قد لمس بجملته الهازلة مكمن الصراع في نفسه، وكمن يخاف الحق قال في غضب: هل جننت؟
وضحك شعبان هازلا وقال: لا تخف ... الله ... آه أنت لا تريدني أن أدعو لك فأنت لا تؤمن بالدعاء ... إذن فقل لي كيف أرجو لك الخير؟ ... أسأل من إذا شئت أن أتمنى لك دوام الحرية؟
وقال عباس: هل انتهى الخلاف بين إخواننا وأصبحت لا تجد غيري؟
وقال شعبان: لا ... لا ... أبدا ... يالمبو ... هات كأسا ... اشرب واسمع ولن أكلمك ... أنت حر ...
ودون وعي قال عباس: طبعا حر.
والتفت شعبان إلى إلهام الزيني وقال: هيه يا إلهام ... ألا تريد أن تدعو محمد حسن ليلقي شعره في النادي؟ - شعره! ... أي شعر هذا؟ ... ما رأيت له عمري قصيدة في مجلة أو حتى قصيدة مطبوعة ولو في نشرة.
ويقول محمد حسن في غضب: وأنت ما شانك بالمجلات التي نشرت فيها؟ ... ما الذي يوصلك أنت لقراء المجلات الأدبية الراقية؟
ويدخل سليم فوزي في الموضوع ويتحدث في تؤدة وثقة بالنفس: أتعرف يا محمد ما هي مشكلتك؟ ... إنها اسمك ... محمد حسن. كم مليونا لهم هذا الاسم؟ ... اسم عادي جدا لا يجذب الأنظار.
ويقول شعبان ضاحكا: فعلا ... لماذا لا تستعير اسم إلهام؟ ... إن اسمه أقرب إلى الشاعرية.
ويقول محمد: لم يبق إلا السمسار ليتحدث في الشعر أيضا.
ويقول سليم في وقاره لا يزال: يا أخي أنا أتحدث عن اسمك لا عن شعرك.
ويدور النقاش ويدور عباس يتبع الكأس بأخرى وبثالثة. وينصرف عن الحديث الصاخب، وقد صعدت حميا الخمر إلى رأسه. يتحدثون، يتحدثون ويقضون أيامهم ولياليهم يتحدثون، لا يبحثون في الحرية ولا في المجتمع ولا في التقاليد ولا في إيفون, سأتزوجها، سأتزوجها، فما لي لا أفعل مثلهم؟ أأرضى أن أكون مثلهم؟ ما هذه الخمر؟ ما لي وكأنما يقف بيني وبين تفكيري ستار لا أدري كنهه، مزيج من الشفافية والعتمة وألوان من الهروب لا أريدها، وأريدها. لقد استطاعوا بحديثهم أن يصرفوني عما أنا فيه، ولكن ها أنا ذا أعود إلى نفسي وحيدا وأنا بينهم. أهي الخمر، أم أنا الذي ضربت دون الناس ودوني حجابا صفيقا؟ لا، ليست الخمر هي ما أريد، لقد كنت أريد صديقا فحين وجدته عزلتني عنه الخمر وأفكاري. حلقة مفرغة، دوامة لا أدري لها بداية من نهاية.
ودون أن يكلم أحدا من الجالسين قام صامتا وأخذ سمته إلى بيته، ضاربا في المساء المظلم لا يحفل بالمصابيح على جوانب الطريق.
الفصل الخامس عشر
كان الشيخ سلطان جالسا إلى رضوان أفندي في المقهى، وكان صندوق النرد بينهما مقفلا لا يحس واحد منهما الرغبة في فتحه، وقد خيم عليهما صمت لم يتنبها إليه حتى قال رضوان أفندي في محاولة تبسط: ألا تلعب عشرة؟!
ونظر إليه الشيخ سلطان وظل رانيا إلى وجهه لحظات، ثم قال في غير إقبال: نلعب.
ثم صمت لحظات أخرى وقال: يا أخي أنا مشغول على مرقص أفندي.
وقال رضوان أفندي: وأنا مثلك، لماذا لا نقوم إلى بيته لنعرف سبب غيابه؟ - لقد ذهبت إلى بيته أمس. - هيه، ماذا؟ - لقد ترك البيت. - ماذا؟! - وجدته قد ترك البيت، وقال لي الجيران إنه ذهب إلى مصر الجديدة.
وقال رضوان أفندي في دهشة: مصر الجديدة! لماذا؟! إن بيته هنا أحسن بيوت المنطقة وهو قريب من عمله، وقضى فيه سنوات طويلة. - قرابة عشرين سنة. - فلماذا؟! - والأغرب من هذا أنه ترك البيت لصاحب الملك ولم يطلب مقابل إخلائه شيئا، وحين حاول المالك أن يساومه قال له لا أريد شيئا، وترك البيت. - ألا تعرف عنوانه الجديد؟ - حاولت اليوم أن أترك المكتب لمدة نصف ساعة لأذهب إليه في الوزارة ولكني لم أستطع، كنت مشغولا طول اليوم.
ونظر رضوان إليه مليا، ثم قال: الواقع أنني لم أرد أن أشغلك، لقد ذهبت أنا إلى مكتبه في الوزارة.
وقال الشيخ سلطان في لهفة: هيه، وماذا قال لك؟ - لم أجده، وجدته في إجازة تنتهي غدا. - إجازة، ونقل من الحي، لعله طلب الإجازة ليتفرغ للنقل. - انظر. - ماذا؟ - أليس هذا مرقص أفندي؟ - أين؟ - هذا القادم من هناك. - ماذا؟ ... نعم ... لا ... نعم ... ما هذا؟ ... كأنه خارج من قبر ... ماذا به؟
وقام الرجلان يخفان لاستقبال صديقهما، وأخفى كلاهما المشاعر التي تتماوج في نفسيهما من خوف بثه إليهما منظر مرقص أفندي المتهدم كالصريع، وما إن اطمأنت بهم الجلسة حتى قال الشيخ سلطان: أين أنت؟
وقال رضوان أفندي: لماذا أخذت إجازة؟
وقال مرقص: كنت متعبا بعض الشيء.
وقال الشيخ سلطان: لا، سلامتك.
وقال رضوان: ماذا بك؟
وقال مرقص بعد أن أخرج تنهيدة عميقة: تعب يا رضوان، تعب، الدنيا كلها تعب.
وقال الشيخ سلطان: يا أخي قل لنا ماذا بك.
وقال: لا عليك يا شيخ سلطان، لا عليك.
وصمت، وكأنما أراد أن يصمتا ولكن رضوان أصر: ما المرض؟
وصمت مرقص لم يتكلم، وقال الشيخ سلطان: ماذا يا مرقص أفندي؟ لماذا لا تتكلم؟
وسكت مرقص لحظة، ثم قال: سأقول لك يا شيخ سلطان، سأقول لك.
وقبل أن يتم جملته جاء صديقان ممن تعودا أن يشهدا مبارياتهم وجلسا. وقال أحدهما: ألم تبدءوا بعد؟
ولكن السائل رأى الوجوم ماثلا على وجوه اللاعبين فسكت، وما لبث مرقص أفندي أن قال للشيخ سلطان: أتسمح بكلمة يا شيخ سلطان؟
وقام الشيخ سلطان مع صديقه وانفرادا. وقص مرقص مصيبته، وظل الشيخ سلطان ذاهلا بضع دقائق لا يقول شيئا إلا: لا حول ولا قوة إلا بالله! لا حول ولا قوة إلا بالله!
وظل مرقص أفندي مطرقا يكبح دمعه وألمه وخزيه. وقال الشيخ سلطان: ألا تأتي المصيبة إلا مني؟ مني أنا؟ حكمتك يا رب.
وقال مرقص أفندي: هذه حكمة الشيطان يا شيخ سلطان.
وقال الشيخ سلطان: اسمع يا مرقص أفندي، عباس سيتزوج إيفون، سيتزوجها ورجله فوق رقبته، سيتزوجها شاء هذا أو أبى، أقسم بالله العلي العظيم ثلاثا!
وقاطعه مرقص: انتظر يا شيخ سلطان، انتظر، كيف يتزوجها؟ - يصلح خطأه. - لو تزوجها لأصبحت المصيبة أعظم. - ماذا؟ - أنسيت؟ نحن مسيحيون يا شيخ سلطان. لو تزوجها لأصبحت البنت على غير الملة، وكفاني وكفاها مذلة واحدة! - وكيف نصلح هذا الخطأ يا مرقص أفندي؟ سأفعل كل ما تأمر به. - كان الولد قد وعدها بالزواج، وسيكون هذا الزواج هو الفضيحة التي لا أحتملها. إن كل ما أرجوه منك أن تبعده عنها، ونحن يتولانا الله. - ماذا ستفعل يا مرقص أفندي؟ - أمها وعدتني أن تدبر الأمر، إنما المهم أن يبعد عباس عن البنت. كفانا ما حصل. - أكل ما تريده أن يبعد عباس عن البنت؟ ألا أستطيع أن أصنع شيئا آخر؟ - هذا كل ما أريده منك. - يا مرقص هذا طلب بسيط، أنا لن أشعر حين أنفذ لك هذا الطلب أنني كفرت عن الجريمة التي ارتكبها الولد. - أرجوك يا شيخ سلطان، كل ما أرجوه أن يبعد عنا ويتركنا في حالنا. أنت على كل حال لن تستطيع التكفير عن هذه الجريمة. - اعتبر أن طلبك قد تم. - ليس لي غير إيفون يا شيخ سلطان، لا أريد أن أفقدها.
وأطرق الشيخ سلطان متأثرا وهو يقول: ربنا يعطيك القوة يا مرقص أفندي.
وقام مرقص دون أن يزيد شيئا وأخذ سمته إلى الترام، ومكث الشيخ سلطان مكانه قليلا، ثم قام قائلا: أنا ذاهب إلى البيت يا رضوان أفندي، هل ستبقى أم ستجيء معي؟
وقام رضوان أفندي قائلا: أنا قادم معك.
وفي الطريق سأل رضوان: ماذا قال لك مرقص أفندي؟ - لا شيء يا رضوان.
وسكت قليلا، ثم قال: لن نرى مرقص بعد اليوم.
وقال رضوان دهشا: ماذا؟!
وقال الشيخ سلطان: لن نراه بعد اليوم، مسكنه في مصر الجديدة سيبعده عنا ولن يستطيع المجيء إلينا.
وقال رضوان في دهشة لا تفارقه: هل أغضبناه في شيء؟
وأطرق الشيخ سلطان ولم يجب، ولم يجد رضوان بدا من السكوت هو أيضا، وواصلا طريقهما صامتين.
ما كاد الشيخ سلطان يبلغ البيت حتى سأل وهيبة وهي تفتح له الباب: الولد عباس هنا؟
وقالت وهيبة في دهشة: نعم يا أبي. - أين هو؟ - في حجرته.
فاتجه إلى حجرة ابنه وهو يقول: لا تجعلي أحدا يأتي إلينا.
وحين دخل حجرة عباس أقفل الباب من خلفه، ثم استقر على كرسي. وقام عباس واقفا، وظل الشيخ سلطان ينظر إليه بعينيه الحمراوين، وطال صمته وعباس يكاد يدرك ما ينوي أبوه أن يحدثه عنه، وأخيرا قال الشيخ سلطان: ماذا فعلت بمرقص أفندي صديق العمر؟
وقال عباس بلا ريث تفكير: سأتزوجها.
وارتكز الشيخ سلطان بيديه على ركبتيه وتشبث بهما في غيظ وقال: اسمع! والله العظيم، والله العظيم، والله العظيم ثلاثة، وأنت تدرك قيمة هذه اليمين عندي، لو فكرت يوما أن تذهب إلى بيتهم، أو فكرت أن تتزوجها كما تقول لتظهر لنفسك أنك حر لأبرأ منك لا ترى مني مليما واحدا، وسأبيع كل ما أملك بيعا صوريا لأختك. لن تنال مليما واحدا بعد موتي، ولا أراك في حياتي ولا أعرفك، بل وأقاطع كل من يحاول أن يتصل بك.
وأحس عباس بشعور عجب له، أحس بالراحة، أحس كأن نوعا من القلق الذي يلازمه يزول عنه، هدوء ساد قلبه لم يستطع أن يتبين سببه، وصمت عباس وأطرق واستأنف أبوه: لو كنت أعلم أن قتلك يمحو العار الذي ألحقته بهذه الأسرة المفجوعة لقتلتك وأنا مرتاح الضمير هادئ النفس. وقد كنت أعلم يوم هزأت بدينك أنك ستنحط إلى أسفل درك، ولكن لم أن أتصور أنك تبلغ من حقارة الشأن إلى الدرك الذي يسمح لك أن تغول أسرة كانت صديقتنا طول العمر، وتهتك حرمتها، ولكنك سافل، سافل ووضيع، وإني أطعمك في هذا البيت ولا أريد أن أراك فاجتهد ألا تريني وجهك. سأكون سعيدا يوم تنتهي من كليتك لا لأنك تعلمت ولكن لأني أنا سأكون قد أديت واجبي، ولو أني أكون قد أديته لكلب لا يستحق. وعلى كل حال سأبحث عن أحسن طريقة تحميني من رؤيتك. خيبة الله عليك، وأخزاك في الدنيا كما أخزيتني، وأنزلك إلى جهنم في الآخرة وبئس القرار.
وقام الشيخ سلطان هادئ الحركة ثائر النفس، وخرج وأغلق الباب من خلفه وهو يقول: حسبي الله ونعم الوكيل! حسبي الله ونعم الوكيل!
الفصل السادس عشر
انتقلت إيفون إلى مدرسة بمصر الجديدة وعلمت بما كان من أبيها، واستغلقت من دونها الطرق، وفكرت أن تهجر البيت ولكن إلى أين؟ كيف تعيش؟ إنها تستطيع أن تعمل وعلى هذا الرأي استقرت إيفون، وأخذت تدبر الحيل لتصل إلى صديقة لها تعرف أن أباها ذو شأن في الشركات.
وفي يوم ادعت المرض واستطاعت أن تجعل المدرسة تعطيها إذنا بالخروج فخرجت. وذهبت إلى صديقتها في مدرستها القديمة، وقدمت إليها رجاءها وأعطتها عنوانها على المدرسة. وما هي إلا أيام حتى جاء البريد بالخطاب وتم تعيينها.
وفي الليل استطاعت إيفون أن تتسلل من البيت، جميع ما تملكه خمسة جنيهات وحقيبة مليئة بالملابس ونزلت إلى الطريق. إلى أين؟ واجهت الطريق وهي جاهلة به لا تدري فيه المتجه ولا السبيل. مشت. أهذه هي المسيحية؟ أهذا هو الدين الذي يقول: «فإن قدمت قربانك إلى المذبح وهناك تذكرت أن لأخيك شيئا عليك، فاترك قربانك قدام المذبح واذهب أولا اصطلح مع أخيك»؟ أليس عباس وقوم عباس إخواني، فما هذا العداء بيني وبينهم؟ أليس الدين محبة؟ أليس الله محبة؟ فما هذا العداء؟ ولماذا تحرمنا الكنيسة من التآخي؟ هل جاء المسيح ولقي هذا العذاب والأهوال وانتهى به الأمر إلى الصليب لنظل نحن أعداء البشر من غير ديننا؟ ما الدين بغير حب وأخوة وسلام؟ أين السلام؟ أين الحب؟ لماذا يحرمونني منه ولماذا يحرمونه مني؟ ماذا جنيت أو جنى؟ لقد ولدت مسيحية وولد مسلما فأي ذنب اقترفت؟ وأي ذنب اقترف؟ ليس هذا هو الدين الذين أحببت. براء أنا منه. لا أدخل كنيسة ألقت بي إلى الضياع. لا، هذا الدين هو الرحمة التي نرجوها. براء أنا منه. ولكن أين أذهب؟ غدا موعدي مع العمل ولكن ... كيف أعيش؟ أين يستقر بي المكان؟ أين أذهب؟
ركبت إيفون المترو وظلت به حتى انتهى به المسير إلى قلب القاهرة فنزلت، وعادت إلى الضياع مرة أخرى. إلى أين؟ ونظرت حولها فوجدت أمام المحطة التي انتهى إليها المترو كنيسة، فنظرت إليها مليا وقالت دون أن تتكلم: أدخلك لأن بك مقاعد أستريح عليها حتى يطلع الصباح، ولكن غير مؤمنة بك أدخلك.
ودخلت الكنيسة وانتظرت بها الصباح حتى جاء.
وتوجهت إيفون إلى مقر الشركة، وكان جمالها بين يديها لا يحتاج إلى وساطة، فسرعان ما تسلمت عملها بعد أن حاول كل رئيس ضمها إلى قسمه، فما انتهى بين الرؤساء جذبها إلا حين رآها مدير الشركة فأصبحت في مكتبه. ووجدت زميلات لها بالعمل استطاعت أن تعرف منهن بنسيونا تقيم فيه فأقامت.
ومرت بعض الأيام حتى وجدت في غياب المدير فرصة أن تترك العمل قبل موعده المحدد، وأخذت سمتها إلى كلية الهندسة.
وعلى مبعدة قريبة من الباب وقفت ترقب الخارجين والداخلين، وطالت بها الوقفة وطالت فلم تمل، وأخيرا بدا عباس خارجا من الكلية، وكان بين رفقة فلم تحفل وإنما اقتربت ونادت: عباس!
وسمع عباس النداء وعرف الصوت، ولكنه لم يملك نفسه أن يقول في دهشة: من؟
والتفت الرفاق إلى مصدر الصوت ونظروا إلى عباس، وقال عباس في سرعة: عن إذنكم.
ولم ينتظر إجابة منهم، بل قصد في خطوات متسارعة إلى إيفون: ماذا يا إيفون؟ ما الذي جاء بك؟
وقالت في حزم: أريدك. - تعالي!
ومشيا. كانت أول مرة يسيران معا في طريق، وكان عباس يتلفت حواليه كأنما يخشى أن يراه أحد. وكان قسم أبيه المغلظ ما يزال يطن في أذنيه فتموج له نفسه في رعب، وأحست إيفون خوفه وتلفته فصمتت قليلا، ثم قالت: ماذا يخيفك يا عباس؟
فأفاق من خوفه ليقول في لعثمة: أنا ... أنا ... لا أبدا ... أنا غير خائف.
وقالت: أين نستطيع أن نتكلم؟ - كما تشائين. - أريد أن أحادثك حديثا طويلا.
فقال بعد تردد: في جنينة الأورمان.
ووجدا مكانا خاليا في الحديقة وجلسا. وقالت: ماذا تنوي أن تفعل؟ - فيم؟ - ألا تعرف فيم؟ في مستقبلنا. - ألم تعرفي ماذا فعل أبوك؟ - نعم أعرف. - ماذا بيدي أن أفعل؟ - ماذا بيدك أن تفعل؟! أهذا كل ما تستطيع أن تقدمه لي؟! ماذا بيدك أن تفعل؟! - لقد حرم علي أبي أن أراك بناء على طلب أبيك. - ألم تكن تتوقع هذه المعارضة؟ - كنت أتوقع ألا يجد أبي مناصا من قبول الزواج. - أفكرت في أبيك وحدك ولم تفكر في أبي أنا؟! - لم أكن أتوقع أن يعارض هذه المعارضة القاسية. - ألم تتوقع أن تعتمد أنت على نفسك؟ ألم يدخل في حسبانك أن تحتمل أنت مسئولية ما؟ - ماذا أستطيع أن أفعل؟ - عباس، حين جئت إليك لم أكن أعتقد أنني سأناديك باسم الواجب أو المسئولية، وإنما كنت أعتقد أن الحب بيننا هو الذي سيصنع كل شيء.
وصمت عباس قليلا، ثم قال: وماذا جرى؟
فقالت في حسم: إنك لم تعد تحبني. - من قال هذا؟ - رأيته على وجهك صريحا واضحا. - أنا! ... على وجهي؟ - رأيت الدهشة في عينك حين رأيتني، وكنت أرجو، بل كنت أعتقد أنني سأجد الحب. ورأيت تلفتك في الطريق وكنت أعتقد أنني سأجد اللهفة على مكان تجلسني فيه. ورأيت نفسي أنا من أسألك أن تجد مكانا ولم تكن أنت من فكرت.
وكان عباس مطرقا فحين سكتت قال في استخزاء: كنت أفكر ماذا نستطيع أن نصنع. - كانت ثقتي أننا سنترك للحب أن يصنع كل شيء، لقد فقدتك يا عباس يوم أعطيتك نفسي. - لا ... لا أبدا يا إيفون ... كل ما في الأمر أنني لا أدري ماذا يمكن أن نصنع.
وقالت إيفون في ثقة وجمود وتحد: لقد صنعت أنا.
وفي دهشة منتفضة قال عباس: ماذا صنعت؟ - تركت بيت أبي وتسلمت وظيفة، وجئت اليوم أدعوك أن نتزوج ونعيش معا ونحقق الآمال التي كنا نبنيها للمستقبل. - ماذا؟!
ونظرت إليه إيفون مليا دون أن تقول شيئا، ومضى عباس يقول بعد تفكير قليل: والكلية؟ وأبي؟ - إن مرتبي يكفي ونستطيع أن نعيش. - أترك أبي؟ - لقد تركت أنا أبي . - ولكن ... ولكن ...
وظلت إيفون ناظرة إليه تنتظر حجته القادمة، ولكنها أدركت في لحظتها تلك أنها فقدت عباس إلى الأبد. ولم يطل عباس السكوت بل قال: ولكن هل أعيش على نفقتك؟ - أنا إيفون، أنسيت من أنا؟ أنا أنت. - ولكنك على كل حال امرأة. أنا لا أقبل أن أعيش من إنفاق امرأة.
وفي وجوم جامد قالت إيفون: عجيبة!
وكأنما أحس عباس أن حجته قوية فهو يوغل في الاعتماد عليها. - وما العجيبة في هذا؟! العجيبة أن أقبل ... - إذن فهي التقاليد، وأحكام المجتمع، وكل ما كنت تدعي أنك تكفر به. - بل إني ... بل إني ... بل إني أنا مقتنع أنه لا يجوز لامرأة أن تنفق على رجل. - أليس اقتناعك هذا من قوانين المجتمع التي كنت تقول إنك غير مؤمن بها. - بل ... بل من وحي اقتناعي أنا ... هذا مبدأ أنا أحترمه ولا أقبل غيره ... أأعيش من إنفاقك؟ أهذه أخلاق؟! - إذن فالأخلاق أن تعتدي علي وتحطم حياتي كلها وتجعل مني شقاء لأبي وعارا لأسرتي ولا تقبل أن تعيش من كدي الشريف النقي؟! أين الأخلاق فيما تقول؟! أين الشرف الذي تحاول أن تدعيه؟ - هذه مسألة مبدأ. - كن ما تريد أن تكون، ولكن لا تحتمي من عجزك وراء الشرف والتقاليد والأخلاق. - إيفون!
واندفعت إيفون في غير توقف: أن تحطم حياتي وتقتلني بين أهلي وبين الناس أهون عندك من أن تعيش من كسبي الشريف. أهذا هو الشرف عندك؟! أنا لن أقول لك اعتبر ما أدفعه لك أثناء تعليمك سلفة تردها حين تستطيع؛ لأني أعرف أنك لا تؤمن حقا بما تقول، وإنما أنت تجعل من حديثك الزائف ستارا تحتمي خلفه وهيهات! لن أقول لك شيئا فأنا أعرف أن شيئا لن يفيد، وداعا ولن أراك.
وقامت إيفون وأولته ظهرها وهمت بالمسير، وقال عباس في اضطراب: إيفون.
وتوقفت لحظة، ثم لم تسمع شيئا فمشت عنه في خطوات حازمة وقلب مليء بالقلق والخوف والغضب.
ورنا إليها عباس وهي تمضي وظلت عيناه عالقتين بها حتى غابت عن عينيه، فأطرق معتمدا رأسه على كفه المرتعشة، وتساقطت الدموع من عينيه، ووجد نفسه يقول بلا وعي: سافل ... سافل ... سافل ...
الفصل السابع عشر
تخرج عباس في كلية الهندسة؛ فقد استطاع أن يفرغ لمذاكرته من هذه الأحداث حتى نجح. ولم يكن لقاؤه لأبيه يسمح له أن يخبره بنجاحه؛ فقد كان أبوه لا يراه إلا إذا شاءت الصدفة أن يراه. وعرفت أمه بالنجاح فأقبلت على أبيه فرحانة أن تزيل بهذا النبأ الهام في تاريخ الأسرة ما يحمله الأب على ابنه من غضب وسخط، ولكن لم يفلح حصول عباس على شهادة الهندسة أن يمحو بعضا من غضب أبيه، وإنما كل ما قاله في غير اهتمام: غريبة.
وصمتت الأم قليلا فقال الشيخ سلطان: اسمعي يا زكية، أنا لا أريد هذا الولد في البيت، ولم يبق له في عنقي إلا أن يتزوج فاسأليه؛ فإني أريده أن يخرج من البيت بسبب مقبول أمام الناس، كما أني أريد أن أتخلص من مسئوليته تماما.
وقالت زكية في طيبة ساذجة: ألا تريد ابنك في البيت؟
ونظر إليها الشيخ سلطان وأوشك أن يثور، ولكنه رأى السذاجة على وجهها، فقال في غضب مكبوت: ابني الكافر الملحد الزنديق خراب البيوت الزاني. ابني هذا ليس ابني، إنه لم يصبح عندي إلا مسئولية أريد أن ألقيها عن عاتقي، أفهمت!
وأطرقت زكية في استسلام وقالت: أمرك.
وقامت عنه كسيفة. ورآها عباس تعود إليه بوجهها الشفاف الذي لم يستطع يوما أن يخفي شيئا يعتمل في نفسها، وعرف ما تحمل أمه من فرحة صريعة وبهجة وأدها أبوه قبل أن تتنفس، فقام تاركا البيت يبحث عن مكان آخر يستطيع فيه أن يقول نجحت، ويجد انعكاس كلمته فرحة على وجه، وابتسامة طليقة غير موءودة.
واستقبله بيت خالته في حنان. كانت ليلى هناك وكان لطفي وكانت الخالة وكان رضوان أفندي، كانوا جميعا وكانوا فرحين؛ فقد نجحت ليلى كما نجح لطفي، وحين رأوا عباس والفرحة الحائرة على وجهه قالت ليلى: نجحت؟ أخذت الدبلوم أليس كذلك؟
وامتلأت نفس عباس غبطة أن أدركت ليلى ما بنفسه وقال: نعم. - وأطلقت خالته زغرودة كبيرة ، ثم قالت: ألف مبروك يا بني، ألف مبروك.
وقال عباس: الله يبارك فيك يا خالتي.
وضحكت ليلى وهمست في تساؤل: قلت الله؟!
لم يكن المجال متسعا ليناقش؛ فقد عاجله رضوان أفندي بالتهنئة وتقدم إليه لطفي يقبله. وقال عباس وهو بين أحضان لطفي: وأنت نجحت يا لطفي طبعا، إنك لا تتنازل عن مرتبة الامتياز.
وقالت ليلى: وأنا نجحت بجيد فقط، أصبح لطفي أحسن مني. زمن!
وقال لطفي: لو أحسنت المذاكرة لما كنت في حاجة إلى الحسد.
وقالت الأم في جد: ماذا جرى لك يا ليلى؟! ستحسدينه. سأرقيك يا لطفي يا بني، ما يحسد المال إلا أصحابه.
وضحكت ليلى قائلة: لا تخافي يا نينا سأحضر له أنا خرزة زرقاء.
ودار الحديث وأحس عباس أنه مطمئن غير قلق، وأنه في المكان الذي يجب أن يكون فيه. ولم يكن هذا الشعور جديدا عليه؛ فقد تعوده في هذه الجلسة، بل تعوده! نعم لقد تعوده كلما نظر في عيني ليلى. إنه يرى الاطمئنان ينثال من عينيها فيعصف بالقلق الذي لا يزايل قلبه. ويرى في وجهها الأبيض الناصع نورا يرود نفسه المظلمة فيمحق الظلام في نفسه، وبراح إلى لون من الهدوء والأمن هما غاية ما يصبو إليه فلا يجده.
ماذا تحاول الفلسفات جميعا أن تصنع؟ بل ماذا تحاول الأديان كلها؟ أي غرض للأنظمة السماوية وغير السماوية إلا أن تشيع الأمن في نفوس الناس وتجعلهم يقبلون على الحياة إقبالة مطمئن؟ كفرت بالدين وآمنت بنفسي لأن الدين كان يتمثل في نفسي قلقا وخوفا من أبي. وكفرت بنفسي وأصبحت أومن بالعلم لأن نفسي خذلتني ولم تستطع أن تقف إلى جانبي حين احتجت لها أن تقف إلى جانبي.
يوم تركتني إيفون في مقعدي بالحديقة أحسست أنني الإنسان الضعيف، لا أستطيع أن أفعل ما يجب علي أن أفعل، وإنما تسيرني الأهواء، ويرسم لي المجتمع طريقي لا أستطيع عنه حولا. واليوم بماذا أومن؟ بالآلة، إنها الشيء الذي يسير في طريقه المرسوم، لا تؤثر عليها عوامل الحب والكرة، أو الخوف والجرأة، أو الرغبة والعزوف ، إنما هي تسير طريقها فتجتاح العالم وتسيطر على مسالك الحياة فيه. ولكني مع ذلك أخاف هذا الإيمان الجديد. أنا لا أجد الأمن إلا في وجه ليلى. إنها مطمئنة دائما. أراها فأطمئن. هادئة دائما. أراها فأهدأ. ما الذي ألقى في نفسها هذا الهدوء وهذا الاطمئنان؟ أهو فلسفتها البسيطة من إيمانها بالسماء، ومن أن المعجزات مقبولة ما دام الإنسان لم يستطع أن يصل إلى سر نفسه؟ لعل الأمر كذلك، فما لي لا أفعل مثلها؟ ولكن كيف؟ كيف أومن بما لم أر، وما أراه جبارا شاهقا؟ الإنسان يصك جبين القمر ويسير آلته حول الأرض، وأنا أسير وراء هؤلاء القوم الطيبين الذين لا يرون شيئا إلا قالوا في خدر وسذاجة: «سبحان الله! علم الإنسان ما لم يعلم.» ولكني أطمئن حين أرى ليلى، فلألتمس من وجهها الهدوء، وليكن لها رأيها وليكن لي رأيي، وأي ضير في ذلك؟
وصحا عباس من تفكيره على صوت ليلى تقول: هيه، أين أنت؟ فيم تفكر؟ طبعا ليس في خالق السموات والأرض.
وقال عباس: كم الساعة الآن؟
وقالت ليلى: أنت ستتغدى عندنا اليوم. - ولكن ... ولكنهم في البيت لا يعرفون. - لا عليك، سأرسل لهم سيدة تخبرهم.
واستراح إلى هذا ومكث.
وحين طالت جلسته بعد الغداء أحس أنه لا بد أن ينزل، وكان الوقت بعد الظهيرة، وكان يريد أن يرى شعبان، فقصد إليه في بيته فوجده يلبس، فجلس معه في الحجرة حتى يتم لبسه، ولكنه وجده يحاول التأنق محاولة واضحة لا سبيل إلى التغاضي عنها. - إلى أين؟ أراك مهتما بملبسك. - أقول لك ولا تضحك؟ - قل. - لا، ستعرف في الوقت المناسب. - إذن فأنت بسبيلك إلى الزواج. - أعتقد أنك لم تكن محتاجا إلى ذكاء كثير لتعرف؛ فقد كانت إجابتي موحية بهذه الفكرة. - مبروك يا شعبان. والبار، والرفاق؟ - لي شهر الآن لم أشرب نقطة خمر، ولم أطأ البار بقدمي. - كل هذا التغير في الفترة التي تركتك فيها. - كنت محتاجا إليك في هذه الفترة يا عباس لأقول لك ما لم أقله لأحد، ولكني كنت أخشى أن أعطلك عن المذاكرة. - قل، قل يا شعبان. - أصبحت لا أحتاج إلى الضحك، نفسي كلها مشرقة بغير حاجة إلى صنع الضحك. أصبحت أصلي يا عباس فأحس بخشوع كبير أمام الله. عرفت الحب فأحببت الله. كنت أعبده إيمانا به، فأصبحت أعبده لأني أحبه، ولأنه هيأ لي كل هذه السعادة. نفسي تضحك، تضحك دائما فالقهقهة التي كنت أدبرها. أصبحت إذا قارنتها بالضحك في نفسي ضجة لا لزوم لها. - ما أسعدك! - ألم تحب؟ أحب يا عباس. إذا أحببت استطعت أن تفهم المعجزات التي تراها في الدين، واستطعت أن تستسيغها، بل إنك سترى أن كل من لا يؤمن بها مجنون لا يفهم. ألم تحب يا عباس؟ ألم تحب أبدا؟!
وأطرق عباس وطافت بذهنه ليلى، ثم تذكر إيفون، ثم هز رأسه وهو يقول: لا أدري، لا أدري يا شعبان. - لا تدري؟! هذا غير معقول! أنت فقط لا تريد أن تدري، ولكن هيهات لك أن تخادع نفسك في الحب! إنه طاغ قاهر يفرض نفسه عليك، شئت هذا أم أبيت. - يفرض نفسه علي؟! - إلى الجحيم حريتك، إلى الجحيم. كم ستسعد لو أنك صارحت نفسك بحبك! وكم ستسعد وأنت ترى حريتك مهزومة أمام حبك، تتخلص من سيطرتها عليك؛ لتترك المحب وحده يسيطر عليك. - حريتي مهزومة؟! - الحرية حرية القلب. إذا أحببت ستحس أنك تستطيع أن تقول كل ما تريد أن تقول، وأن تفعل كل ما تريد أن تفعل. اترك قلبك يحب. لا تقف أمامه بحريتك هذه البغيضة، ولا تحاول أن ترده عما يريد. - كلام شعراء. - لقد عاش أجدادك وأجدادي آلاف السنين على كلام الشعراء هذا. لولا كلام الشعراء لانقرضت البشرية. - البشرية حقيقة ثابتة، وكلامك خيال وأوهام. - يا أخي صل على النبي! أيستطيع أحد أن يعرف أين الوهم وأين الحقيقة في هذا العالم؟ من الأوهام والأحلام تولد الحقائق، وعن الحقائق تنثال الأحلام والأوهام. ما الطائرة؟ لقد كانت حلما. وما الصعود إلى القمر؟ حلم امتزج بالحقائق. دع عنك هذا التفريق. - كلام محب. - أليس جميلا؟ - لست أدري. - أطلق لحبك العنان. لا تمسك به. اقبله وأحب حبك وسترى. - هل حان موعدك؟ - هيا بنا.
ونزلا وذهب شعبان إلى موعده، وراح عباس يضرب في الطريق على غير هدى.
كان الوقت متأخرا حين عاد إلى البيت، فوجد أمه جالسة في حجرته وقد عبقت الحجرة بالبخور، والأم ممسكة بسبحة تسبح عليها في هدوء خاشع: أتتركنا يوم نجاحك ولا تجعلني أراك طول اليوم؟ - كنت عند خالتي. - قل لي يا عباس، ألا تفكر في الزواج؟ - يبدو أنني لا أقابل أحدا اليوم إلا وكلمني في الزواج. - يا ابني أجبني. - افرضي أنني فكرت، كيف أستطيع أن أدفع المهر وأنفق؟ - لا شأن لك. - أبي لن يقبل. - قلت لا شأن لك. - إذن.
وصمت، لماذا لا يتزوج؟ إنه يعرف من يريد، ويستطيع أن يترك البيت فيريح أباه ويستريح هو أيضا. وقالت أمه: لماذا لا تجيب يا عباس؟ - نعم يا أم، أتزوج. - أتترك لي أن أخطب أم؟ ...
وقال عباس فجأة ودون مداورة: اخطبي لي ليلى.
ونظرت الأم إلى ابنها في فرحة غير مصدقة، ثم قالت والفرح يكاد يعقد لسانها وقلبها شديد الخفق عالي الوجيب: هل أنت جاد يا عباس؟
وقبل أن تسمع جوابه اندفعت في الليل البهيم زغرودة مجلجلة، أطلقت فيها زكية فرحها الذي ظل يملأ قلبها طوال اليوم، محاذرا أن يعبر عن نفسه في غير الابتسامة المتوارية عن عين الشيخ سلطان.
الفصل الثامن عشر
ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان.
ظلت هذه الكلمة تلح على ذهن إيفون أياما كثيرة، تحاول أن تنساها فتعجز.
إنها كلمة المسيح، وقد كفرت بالأديان جميعها فما لهذه الكلمة تأبى أن تفارق نفسي؟ ما لي وللأديان؟ وما لي وما يقول المسيح؟ ولكن هذه ليست وعظا دينيا ولا هي تشريع، إنما هي حق.
حق أحسته بعد فترة من عملها بوظيفتها الجديدة. إنها تأكل وتحيا وتعمل، ولكن ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان. كانت تريد قلبا. كانت تريد أباها وأمها. كانت تريد أقاربها ولكن، كيف السبيل إليهم؟
ما أعظم الفراغ في هذه الحياة إذا ما أصبح الإنسان في حياته فردا بلا قلوب حوله تجعل كيانه ينسجم في نسيج البشرية، فيصبح قطعة من قماشها لا يتسم بسمة الوحدة الكريهة!
وطال الصراع في نفس إيفون أياما وشهورا، ثم عزمت أمرها وراحت تزور أقاربها. يا لها من نفسها ومما صنعت! وجوه تلتوي عن ازدراء، واستقبال إن رق فهو العطف البغيض، وإن ظهر على طبيعته فهو تحية تعلن إلى إيفون ألا تعود. ولم تكن تعود. أبواب مقفلة في وجهها، وإن فتحت مصاريعها. وليس بالخبز وحده يحيا الإنسان. بيت واحد استقبلها لم يضق بها هو بيت منى، فيه لقيت ما كانت تشتهي أن تجد. وفرحت إيفون بهذا القلب الجديد القديم، وإن شابت فرحتها غصة جاهدت أن تغضي العين عنها. لم يكن ميشيل زوج منى يلقاها بهذا الترحاب، كان يمشي ويترك البيت، أو يمشي ويترك الغرفة، ولكن ما لها وما له؟ إنها تريد مني ولا تريد ميشيل.
وكانت منى تنقل إليها أنباء أبويها، وكانت تستمع إلى هذه الأنباء في حسرة أليمة. أبوها لا يخرج من البيت منذ يعود من الديوان، وأمها لا تقابل أحدا ولا تحتفي بزائر. وقل الزائرون فلم يعد من يذهب إلى البيت إلا شفيق. ويحاول شفيق أن يسلي أخاه فيشتري نردا ليلاعبه فلا تفيد التسلية، ويحاول أن يحادثه فلا يجد لحديثه مجيبا. وتمضي الأيام بأبيها وأمها كئيبة الخطى ثقيلة، يحسان الخزي والألم والعار، ولا يجدان لدفعها سبيلا.
وكانت منى إذا أحست ما أنزلته أخبارها بإيفون من ألم حادت بموضوع الحديث إلى غيره، واستدرت هي أحاديث إيفون.
فرغت إيفون من عملها بالشركة في يومها ذاك، وذهبت إلى البنسيون الذي تقيم فيه، وتناولت غداءها، ثم بدلت ملابسها ونزلت قاصدة بيت منى.
واستقبلتها منى في إشراقة مبتدرة ما لبث غيم من ألم أن غشاها، كأنه الغصة تحسها عند رفيقك ولا تراها. وتجاهلت إيفون هذه الإلمامة العارضة التي شابت استقبال منى، وجلستا. وقالت إيفون: هل ذهبت إلى هناك؟
وقالت منى في اقتضاب: أبدا. - ألم تسمعي شيئا جديدا من عمي شفيق؟ - أبدا. ما أخبارك أنت؟ - أنا مبسوطة، جميع من في المكتب يحبني وعملي يسليني دائما، وأتعلم الآن الآلة الكاتبة، وأعتقد أنهم سيعطونني علاوة، والرئيس يقول إنه سيرقيني و...
وقبل أن تكمل وجدت نفسها تبكي بكاء حاولت جاهدة ألا تصل به إلى النشيج، ولكن هو البركان لا يوقفه شيء. وحزرت منى ما يبكي ابنة عمها فراحت تربت كتفها في حدب وألم، ثم قامت عنها وأحضرت لها كوب ماء وكولونيا. واستطاعت إيفون أن تسكت أخيرا وقالت: آسفة يا منى. - لا عليك يا إيفون أنا فاهمة.
وأقامت إيفون بعد ذلك، وراحت تلقي الحديث محاولة أن تبدو أمام منى أنها تمالكت نفسها، ومنى ترنو إليها في إشفاق. وضاقت إيفون بإشفاق منى، وودت لو تستطيع أن تقول لها: أنا بخير. أنا سعيدة. أنا في غير حاجة إلى شفقة من أحد، حتى ولا منك، أنت التي لا أستطيع أن أدخل بيتا غير بيتها.
ولكنها لم تستطع أن تقول شيئا. كيف تقول؟! ولم تجد ما تفعله إلا أن تقوم فقامت وهمت بالانصراف، وفتحت الباب الخارجي وهي تتباطأ. هناك سؤال لم تسأله منى، سؤال كانت تسأله لها في كل مرة تزورها فيها، لم تسأله لها هذه المرة: متى تجيئين؟ لعلها نسيت، تباطأت مرة أخرى، ولكن السؤال لم يدر بذهن منى. لا بد أنها ناسية. ماذا أفعل حتى أذكرها؟! تحدثت عن فراغها وعن السعادة التي تلقاها بزيارتها لها، ولكن الحديث الدائر البعد لم يفد شيئا، ولما أخفقت الإشارة عمدت إلى التصريح: منى هل أنت في البيت بعد غد؟
وصمتت منى قليلا، وسارعت إيفون: لا عليك، آتي في اليوم الذي يليه.
وصمتت منى مرة أخرى، وقالت إيفون في تشبث: لا عليك ... آتي ...
وقبل أن تكمل قالت منى في ألم متخاذل خجلان: والله يا إيفون لا أدري ماذا أقول لك؟
وبهتت إيفون، ثم قالت: إذن فهم يمنعونني عنك أنت أيضا.
أطرقت منى وقالت إيفون: من طلب منك هذا؟
وظلت منى مطرقة لا تجيب، وقالت إيفون: أهو أبي؟
وقالت منى في استخذاء: ميشيل.
وأحست إيفون كأن الطعنة تخف عنها هونا فقالت: حسنا، وداعا.
ونزلت السلم وخرجت إلى الطريق، ومشت لا تعي شيئا ولا تدري أين تولي وجهها. وطال بها السير وطال، هي تمشي من طريق إلى طريق، تقودها قدماها لا عيناها. دموعها تنثال في سكون فلا تستطيع أن تخفف مما بها شيئا. كانت الشمس قد أخذت في المغيب، ولكن النور كان لا يزال يغمر الكون. وأحست إيفون لذعة من برد فأمسكت ذراعيها بيديها، فبدت كأنها تحتضن نفسها. ونظرت حواليها وكأنها تلتمس ملجأ. ودارت بعينها في المكان فوجدت بيوتا أبوابها جميعا مقفلة، ثم رأت كنيسة بابها مفتوح على مصراعيه، وفي حزم مشت إلى الكنيسة فدخلتها. وطالعها تمثال المسيح في صدرها، وركعت أمامه في إجلال، وراحت تحادثه كأنما تكلم شخصا تراه ويراها: أيها المسيح الحي، يخيل إلي أنهم صلبوك لتظل إلى الأزل مفتوح الذراعين مرحبا بالتائبين. يا أيها الروح القدس إنني تائبة، إنني أعود إليك وأعلم أنك قد قبلت عودتي.
وظلت إيفون راكعة في مكانها. وأطالت الركوع حتى أحست أنها أصبحت تستطيع أن تصنع ما كانت تخاف أن تصنعه منذ زمن طويل.
قامت إيفون وخرجت من الكنيسة، وعلى ضوء المصابيح الباهرة أخذت طريقها إلى بيت أبيها.
الفصل التاسع عشر
أرادت زكية أن تقيم لابنها فرحا، ولكن الشيخ سلطان أبى عليها ذلك. أما حميدة فقد استطاعت أن تقنع رضوان أفندي بإقامة الفرح فأقامه. وكانت ليلة. واستطاع لطفي أن يخلو إلى وهيبة، والناس في شغل عنهم بالعروسين، وقال لطفي: مبروك يا وهيبة!
وقالت وهيبة في خجل: مبروك أنت أيضا.
وقال: العقبى لنا.
وأطرقت وهيبة وقد ملأت الحمرة وجهها، وقال لطفي: أشكرك يا وهيبة. - علام؟! - عرفت بالخطيب الذي جاء لكم.
وضحكت وهيبة وسكتت، وقال لطفي: ماذا فعلت لتجعليه ينصرف؟ - قمت بواجباتي. ألم تقل لي إن عليك واجبات؟ - نعم، كيف نفذتها؟
وضحكت ثانية وقالت: بسيطة. - كيف؟ - لبست منديلا على رأسي، واخترت ثوبا أعرف أنه يجعلني أبدو غاية في الغباء. - ولكن الشيخ سلطان كيف قبل أن يراك العريس؟ - كنت متأكدة أنه سيقبل؛ عملا بالحديث الشريف. - «أن يراها مقبلة مدبرة، فإنه أحرى أن يؤدم بينهما.» - هو هذا. - وطبعا حين رآك في المنديل والفستان. - لا تقل فستان، ثوب، ثوب، لم ألبسه إلا في البلد.
وقهقه لطفي وقال: لم يعد العريس طبعا. وماذا فعل الشيخ سلطان؟ - فهم أني لا أريد العريس وسكت. - عظيم، ولكن ...
وأطرقت وهيبة، وقال لطفي: أخشى أن يجيء غيره.
وظلت وهيبة ساكنة، وإذا لطفي يقول فجأة: اسمعي! ما رأيك؟ أكلم أبي يكلم الشيخ سلطان الآن.
وقالت وهيبة في فرح خجلان: الآن؟ - نعم، وهل نجد مناسبة مثل هذه؟ - أتستطيع أن تكلم أباك؟ - البركة في أمي. - الآن! - نعم الآن، وهل هناك أحسن من الآن؟
الفصل العشرون
كانت حياة عباس في بيته حياة سعيدة، استطاع فيها أن يجد نفسه، استطاع أن يجد كل شيء يعد لراحته ولراحته وحده. وكان سعيدا في عمله أيضا؛ فقد عين في وظيفة هندسية.
ومرت بعباس شهور هانئة، ولكن خالته أبت عليه هذه الهناءة؛ فهي تهمس في جلسة جمعتهما وحدهما: عباس، ألم تذهب بليلى إلى الدكتور؟
وجزع عباس قائلا: الدكتور! لماذا كفى الله الشر؟ - يا بني لقد مرت شهور ولم تحمل.
وتنفس عباس من أعماقه: يا خالتي، ظننت الأمر هاما.
ودقت الست حميدة صدرها وقالت: هاما! وهل هناك أهم من هذا يا ابني؟ - يا خالتي ما زالت أمامنا الأيام طويلة. - لا، لا يا عباس، إن الزوجة إن لم تحمل في الشهور الأولى فلا بد أن هناك عيبا. - يا خالتي لا تفكري في هذا الأمر.
ونظرت إليه مليا، ثم قالت: عباس، هل العيب منك؟
وضحك عباس وقال: يا خالتي نحن لم نبحث الموضوع بالمرة، وأنا أعتقد أننا يجب أن ننتظر قليلا، ما العجلة؟ - اسمع يا عباس هذا الكلام لا يعجبني، لم أر في حياتي رجلا لا يريد الأطفال إلا أنت. - يا خالتي أنبحث عن المسئولية ونحن ما زلنا في أول العمر؟ لا نريد أطفالا يا خالتي. - يا بني قل كلاما غير هذا، لا حرمكم الله منهم. - يا خالتي حالتنا المالية لا تتحمل. - الذي يأتي بهم يتولى رزقهم. - يا خالتي يجب أن يفكر الناس قبل أن يعتمدوا على الذي يأتي بهم.
وعادت خالته إلى الهمس مرة أخرى برغم أن الحجرة كانت خالية بهما. - يا بني إذا كان العيب منك فلا تخجل، كل شيء له علاج.
وضحك عباس: يا خالتي أبدا. - يا بني أنا مثل أمك، ومعي والحمد لله فلوس تكفي ما تريد وزيادة. لا تفكر في الفلوس.
وظل عباس يضحك، ثم قال حسما للنزاع: يا خالتي أنت تريدين أن أذهب بليلى إلى الدكتور، سأذهب. - متى؟ - غدا. - ولم لا يكون اليوم؟ - اليوم.
وكانت ليلى فعلا تحتاج إلى علاج، وعلاج طويل، وقد استطاعت أمها أن ترغمها على تنفيذ أوامر الطبيب في دقة متناهية. فكانت تأتي إلى بيتها منذ الصباح لا تغادره إلا عند المساء حين تطمئن أن كل ما يريده الطبيب قد تم.
وإزاء هذا الإصرار لم يجد الطفل بدا من أن يبدأ في التكوين، فبدأ.
الفصل الحادي والعشرون
كانت ليلى في الشهر الأخير من حملها، وكانت مستلقية على كرسي يحنو عليها وقد أرخت رأسها إلى ظهره، وجلس عباس أمامها ينظر إلى عينيها فينساب الهدوء إلى نفسه أنيسا مطمئنا. وفاجأته زوجته: ماذا سنسميه يا عباس؟
وابتسم عباس وقال في دعة: هل وصلتك الأنباء أنه ولد؟
وفي استرخائها الحالم قالت: قل يا رب. - أتظنين أنها تفيد؟ أعتقد أن هذه المسالة تتم دون الالتفات إلى الدعوات. - وماذا يضيرك أن تقول يا رب؟! - لا أحب أن أقول شيئا لا يفيد. - ألا تحس بالراحة أن تجد من تلجأ إليه؟ عجيبة! - أنا لا أعرف إلا نفسي ألجأ إليها. - ولكني أظن أن عم الشيخ سلطان هو الذي أنفق عليك حتى تخرجت، وأنفق عليك حتى تزوجت. - هذا واجبه. - وهل يؤدي كل إنسان واجبه؟
وأحس عباس أن السؤال يخفي وراءه شيئا، وإن كان واثقا أنها تجهل موضوع إيفون جهلا تاما، ولكنه قال بلا وعي: ماذا تقصدين؟ - حكمة عامة، لا أقصد شيئا معينا. - آه.
وصمتت ليلى قليلا، ثم قالت: قل لي يا عباس، ألا تحس أن غضب أبيك ومقاطعته لنا تجعلك تحتاج إلى شيء؟ ألا تحس الآن أكثر من أي وقت مضى أنك في حاجة إلى قوة عليا؟ - أحس أنني في حاجة إلى نفسي. - كم أنت مغرور. - أنا أبصر، ولا أصدق إلا ما أبصر.
وسكتت ليلى وسكت، ثم قالت فجأة: ماذا نسميه؟
وابتسم عباس وقال لها: وإن كانت بنية؟ - لا، أريد ولدا يا رب، والنبي يا رب، ولد. - وحين تكون بنية جميلة مثلك هادئة حلوة تشيع الأمن والطمأنينة في كل الحياة التي تحيط بها.
وفجأة كست وجه ليلى مسحة من الجد، وزال عنها كل الخمول الذي كانت تحسه: كيف تنوي أن تنشئ هذا الطفل؟ - على حريته، سأترك له مطلق الحرية. - أي حرية؟! أموت ولا يكون هذا، لا، إلا هذا يا عباس، إلا هذا. - ماذا تريدين؟ - لا بد أن يعرف أسس دينه وقواعده، هذا واجبنا يا عباس. - حتى أنت التي درست الفلسفة في الكلية ترين أن هذا مهم؟ - لقد عرفت مما درست ومن عقيدتي أن الإنسان بغير دين ضائع، وبغير عقيدة يؤمن بها إيمانا ثابتا سيكون تائها في هذا الوجود. وعرفت أن القلق والضياع وتيه الأفكار التي لا تعتمد على المشاعر الروحية هي شر ما يلاقيه الإنسان في الوجود. - أنا لا أحس بذلك. - بل أنت، أنت بالذات أكبر مثل أمامي لهذا الذي أقوله. أرجوك يا عباس، اترك لي تربية ابني. - أتحسين أني ضائع؟ - أتظن أنني لم أحس بفترة القلق الطويلة التي عانيتها؟ - أنا الآن مطمئن. - مطمئن لأني أشعرك بالاطمئنان، مطمئن لأني هادئة بجانبك واثقة. إذا فقدتني ...
وقفز عباس من كرسيه صارخا: لا! لا تقولي هذا. - لماذا لا أقول؟ إنني بعد أسابيع قليلة سأكون بين يدي الله، إذا اختارني إلى جواره؟
وصرخ عباس مرة أخرى: أرجوك! أرجوك! أستحلفك بكل عزيز لديك، بالله، لا تقولي هذا. - يجب أن تتوقعه ويجب أن نتفق على الطريقة التي سيربى بها ابننا. إن شر ما نلقيه إليه هو الضياع وعدم الثقة والقلق. إياك، إياك يا عباس، إذا لم أعش. أنا ...
وقال عباس: أرجوك!
واستأنفت ليلى حديثها كأنها لم تسمعه: إذا لم أعش فبحياتي عندك، بحياتي عليك، بكل ما تؤمن به ولو أني أصبحت لا أعرف بماذا تؤمن. أستحلفك بأي شيء ذي قيمة عندك أن تجعل الولد يتلقى تعاليمه الدينية في إخلاص وفي إيمان عميق. - ما ترين، ما ترين فقط، لا تقولي هذا الذي تقولينه. - لماذا يا عباس؟ من يدري ما يخفيه لي المستقبل؟ - أنت لا تعرفين ما أنت عندي. - أعرف. - فإذا ... إذا فقدتك. - نلتقي في السماء. - أي سماء؟ - السماء، الحياة الثانية، اللقاء الذي لا انفصال له. - كيف أومن به؟ كيف أضمن هذا اللقاء؟ - يجب أن تؤمن بالله لتؤمن بهذا اللقاء. - أرجو أن أومن. - حاول.
وهز عباس رأسه وقد وضع يده على عينيه: لا، لا، لا أريد أن أفكر في هذا! لا أريد أن أفقدك! لا، أنا لن أفقدك! لن أفقدك أبدا، أبدا، أبدا.
وارتمى على كرسيه باكيا، واحتضنته ليلى وضمته إلى قلبها في حب وإعزاز كأنما تحتضن طفلا، وراحت تربت ظهره قائلة في تأثر وإيمان: لا تخف، لا تخف يا عباس. لن تفقدني، لن تفقدني أبدا.
ملأ الخوف قلب عباس منذ ذلك اليوم، أصبح يترك عمله ويسارع إلى البيت فيظل مقيما بجانب ليلى لا يتركها، وأحست ليلى الهلع الذي يحيا فيه فحاذرت أن تحادثه مرة أخرى عن موتها، وكانت هي نفسها تعجب كيف لا تخشى على نفسها الموت مثلما يخشاه عليها عباس، ولم تكن تحاول أن تحلل السبب في اطمئنانها وذعره، وإنما كانت تكتفي بالتعجب لهذا التناقض في الشعور. أما عباس فقد كان لا يستطيع أن يتصور الحياة بدونها، وكأنما جعله حديثه يفكر في يوم يفقدها فيه فهو في بحرين من الخوف والقلق، يصب غضبه حينا على أمها التي سعت إلى هذا الحمل، وحينا على هذا الجنين الذي يسعى طريقه إلى الحياة، وحينا يصب كل غضبه على نفسه أن اشترك في هذه الجريمة التي توشك أن تقع. أصبح ميلاد ابنه يتمثل في نظره كارثة وشيكة الوقوع لا يستطيع أن يذكرها إلا ويذكر هذا الحديث الذي ملأه رعبا.
ولم يستطع أن يفرغ لعمله كما تعود أن يفرغ له، وبدأ رئيسه في العمل يلاحظ عليه هذا التخلف فهو يناديه ويستقبله في جمود: وبعدين يا أستاذ عباس؟ - فيم؟ - ألا تدري؟ إن عليك واجبات لا بد أن تؤديها.
وقال في نفسه: «قيد آخر، وعبودية أخرى.» وصمت وقال الرئيس: أهي فوضى؟! تخرج كما تشاء وتدخل كما تشاء! ألا تدري أنها وظيفة أنت مقيد بها وملزم بقوانينها حتى تستحق ما تناله من مرتب آخر الشهر؟
وقال في نفسه: «مرتب آخر الشهر. عبودية أخرى. يبدو أن هذه الحياة لا تتم إلا بالعبودية.»
وصمت وقال الرئيس: لماذا لا تجيب؟
وأطرق عباس وهو يقول: ظروف عائلية.
وبدا على رئيسه شيء من العطف وقال له: اقعد.
وأحس عباس وهو يجلس مزيجا من العواطف المتضاربة. كان عطف الناس وتجاوبهم مع مشاعره يجعلانه يحس أن هذا المجتمع لا بأس به. ومن هذا الإحساس كان يداخله خوف على إيمانه بكره المجتمع، فهو حيران بين شكرانه لهذه العواطف، وبين إحساسه بأن آراءه ليست جميعها سديدة.
وقال الرئيس: ما هي ظروفك؟
وأطرق عباس قليلا، فقال الرجل: أنا هنا لست رئيسا فحسب، بل إني أعتبر نفسي والدا لك أيضا. وقلبان في الأزمة أقدر على مواجهتها من قلب واحد. لعل ما تضيق به أستطيع أنا حله. الناس بالناس يا بني.
وأحس في رحمة الرجل ما يدعوه إلى الحديث فهو يقول في صوت واهن متعثر: زوجتي حامل في شهرها الأخير.
وقال الرئيس في بساطة وإشراق: شيء عظيم! هذا أمر يدعو للفرح.
ولكنه بعد أن صمت هنيهة قال: أتكون محتاجا لأجر الولادة؟
وقال عباس: لا ... لا ... أبدا ... إنما أخشى ... أخشى ...
فقال الرجل في طيبة: قل ماذا تخشى يا ابني. - أخشى أن يصيبها شيء في الولادة. - وأي شيطان أوحى إليك بهذه الفكرة؟ ألا تعرف أن تسعين في المائة من الأمهات يلدن بلا أي صعوبة؟ - ولكن هناك عشرة في المائة ...
ولم يستطيع أن يكمل الجلة فقال الرجل: ولماذا تحسب أن زوجتك بين العشرة في المائة وليست من التسعين في المائة؟ أظن التسعين في المائة أكثر.
وسكت عباس قليلا وقال: إني خائف. - أنت الذي تخلق الخوف في نفسك. مم خوفك؟ - لا أدري. - قل يا رب.
وسكت عباس قليلا وظل مطرقا. لقد كان يتمنى في لحظته تلك أن يستطيع إرسال هذه المناجاة إلى السماء، ولكنه يحس أن السماء مغلقة دونه. وعاد الرئيس يقول: قل يا رب، وقبيل موعد الولادة خذ إجازة لتستطيع أن تبقى إلى جوار زوجتك.
وقال عباس: أشكرك. - لا، هذا واجبي، واجبي كوالد يا عباس، مع السلامة يا ابني.
الفصل الثاني والعشرون
لم يكن نائما حين قالت له ليلى: أظن الوقت قد حان.
فقفز عن السرير وراح يهرول ليوقظ خالته التي ألح عليها أن تلازم ابنتها قبيل الولادة بأيام، ثم عاد يهرول إلى الغرفة ويسألها: هيه، هل حصل شيء؟
وتضحك ليلى قائلة: ماذا يمكن أن يحصل في اللحظة غبتها عني؟ - حسبت ... خشيت ...
وراح يضع على نفسه ملابسه في ارتباك وليلى تنظر إليه في ابتسامة هادئة لا تفارقها، وفجأة قالت: مم تخاف؟ - ألا تعرفين؟ - إنني أنا مطمئنة، وكان عليك أيضا أن تطمئن. - من أين يأتي الاطمئنان؟ من أين يأتي؟ لو كنت أستطيع أن أطمئن مثلك، لو كنت أستطيع. - أنا مطمئنة لأنني سأكون بين يدي الله، وإني لراضية بالمصير الذي يريده لي من موت أو ...
ويقاطعها عباس: أرجوك! قومي، قومي، أرجوك، ألم تقولي إن الوقت قد حان؟ - نعم، حان لنذهب إلى المستشفى، أما الولادة فلا أظنها تتم قبل ساعات. - إذن قومي. - دعني أولا أتم حديثي. أنا مطمئنة لأنني سأكون بين يدي الله، وأنت يجب أن تطمئن لأنني سأكون بين يدي الإنسان العظيم الرائع الذي بلغ الفضاء ومزق السماء. ماذا؟! أيعجز هذا الإنسان المارد الجبار أن يستقبل طفلا ... مجرد طفل الحياة فيه معدة جاهزة، لا تحتاج إلى أي مجهود؟ كل ما على الإنسان العبقري أن يستقبل طفلي هذا بعلمه. ألا يستطيع الإنسان الذي بلغ الفضاء أن يخرج طفلا من ظلمات الرحم إلى نور الدنيا التي اكتشف خوافيها؟ - أهذا وقته؟ - لو كنت مؤمنا بالإنسان والآلة، وبالتقدم الذي شق السماء إلى الفضاء لما خفت الآن. لماذا أنت خائف؟
وجلس عباس منهوك القوى: أتسخرين مني؟! يبدو أن لا حاجة بك إلى المستشفى الآن؟ - أنت لا تجيب.
وكيف أستطيع أن أفكر الآن؟ - أسمعت ما كنت أقوله؟ - نعم. - فاذكره دائما، واذكره وأنا بين يدي الله في رأيي، وبين يدي الآلات والإنسان والعلم الحديث في رأيك أنت.
ودخلت أمها الحجرة، وحين رأتها جالسة في هدوئها وابتسامتها المطمئنة قالت وهي تضحك: ماذا؟ هل أجل بسلامته موعد الوصول؟
وأحست ليلى الألم يعاودها، فمدت يدها إلى أمها التي سارعت إليها وأمسكت بها وهي تقول: لا، لقد حان موعده.
وقفز عباس خائفا: ماذا؟! أتلد هنا؟! بلا أطباء ولا مستشفى ولا ...
وقالت الأم الخبيرة: لا، لا، من قال هذا؟ ما زال أمامنا الوقت متسعا. - ولكنها تتألم. - وهل تظن أنكم جئتم إلى الدنيا إلا بآلامنا هذه؟ - هل أرسلت إلى أمي؟ - نعم.
ثم التفت إلى ليلى في اضطراب: هل أنت متعبة يا ليلى؟
وكان الألم قد زايل ليلى فافترت شفتاها عن ابتسامة واهنة وقالت: لا، هيا بنا.
وقاموا ولكن عباس يسأل: هل أحضرت سيدة سيارة؟
وقالت خالته: لقد طلبت منها أن تأتي بها قبل أن تذهب إلى بيتكم.
وفي السيارة قالت ليلى: عباس لن أراك إلا بعد الولادة، فإذا ...
وأمسك عباس يدها في تشبث وقال: أرجوك! أتوسل إليك!
وواصلت ليلى حديثها: الولد، أريده مسلما، وليس لي رجاء في الدنيا إلا أن يكون ابني مؤمنا، مؤمنا بقلبه وعقله وشعوره، رجاء أحاسبك عليه عندما نلتقي عند الله في السماء.
ودقت أمها صدرها وهي تقول: ما هذا الكلام الذي تقولينه؟!
وقال عباس: وهل أسمع غير هذا الكلام؟
وقالت الست حميدة: هل جننت؟
وواصلت ليلى حديثها دون أن تلتفت إلى كلام أمها أو زوجها: إذا كنت لا تستطيع هذا فأعطه أمي.
وقال عباس في تخاذل: أرجوك، أنت التي ستربينه، وسيكون كما تريدينه أن يكون، ولكن لا تذكري هذا الآن. أرجوك لا تذكريه! - لا أريد منك غير هذا يا عباس.
وأطرق عباس صامتا، وقالت الأم بعد أن مصت شفتيها: له في ذلك حكم.
وتوقفت السيارة فجأة، ونظر عباس يرى ما أوقف ركبهم، فوجد الشرطي يعترض سبيلهم، وأوشك أن يقول للسائق امض، ولكنه كان يعلم أنه لن يطيع؛ فيد الشرطي أقدس من أي أوامر. وأوشك أن ينزل إلى الشرطي يرجوه أن يسمح لهم بالمرور؛ فقد خيل إليه أن امرأته ستلد في السيارة، ولكنه تذكر أن الشرطي لن يأبه برجائه؛ فالقانون أهم من زوجته والوليد المنتظر. وحين وجد أن لا سبيل له إلا أن يسكت، تضاءل أمام نفسه عاجزا يرنو إلى زوجته وقد عادها الألم. وأمسك يد ليلى في تشبث ملهوف يردد النظر بين الشرطي ووجه زوجته الذي غضنه الألم المرير. وأخيرا سمح الشرطي لهم أن يسيروا.
وبلغت السيارة المستشفى، وأدخلت ليلى إلى غرفة الولادة، وصحبتها أمها، وظل عباس وحده. أحاطت به الوحدة، وحدة كاملة، فراغ، فراغ كبير من حوله. أحس كأنه هباءة في الهواء يبحث عن شيء يتعلق به، ولكن يده لا تمسك بغير الفضاء. يقوم إلى باب الحجرة يحاول أن يدخل ولكن أمر الطبيب الصارم يقذف به مرة أخرى إلى الوحدة والفراغ والفضاء.
وجاءت أمه ومعها وهيبة ولطفي، وحاول أن يجد فيهم الشيء الذي يتعلق به. وتركته أمه ووهيبة ودخلتا إلى ليلى، وظل هو مع لطفي. وأحس أنه ما يزال يمسك بالفضاء، وخيم عليهما الصمت، وطال. وخرجت وهيبة فزعة من الحجرة، ولقفها عباس: ماذا؟! ... ماذا يا وهيبة؟ - لا أدري. إنها متعبة ... متعبة ... الطبيب يريد طبيبا آخر. لطفي ... نريد ... نريد ...
واندفع عباس إلى الحجرة، وحاول الطبيب أن يمنعه ولكنه لم يعبأ بأوامره، ووقف إلى جانب ليلى شاحبة بلا لون ولا نأمة إلا صفرة وابتسامة تسللت إلى شفتيها حين رأته وهمست: لا تخف، لا تخف يا عباس، كفاك خوفا. - أريد أن تعيشي، أريد أن تظلي بجانبي؟ - سأكون بجانبك دائما، هنا أو هناك سأكون بجانبك.
وصرخ عباس: لا! لا!
وقال له الطبيب في حزم: حياتها في خطر، أي هزة قد تودي بها، أرجوك.
وأمسك بذراعه يقوده إلى خارج الغرفة فاستسلم له، ولكن قبل أن يصل إلى الباب وقف مرة أخرى في إصرار: أراها ضعيفة، ولكن الأمل كبير، أليس كذلك يا دكتور؟ - أملنا في وجه الله، لا تضع هذا الأمل، أرجوك.
ونظر إلى الطبيب نظرة داهشة، ثم استسلم له وخرج، ولكنه ظل ملاصقا لباب الغرفة يتحسسه في خوف والدموع تملأ عينيه، وفجأة وجد نفسه يقول بلا وعي: يا رب.
وأحس أنه وجد ما يريد أن يتعلق به: يا رب. يا رب.
وظل يقولها، ولا يقول شيئا غيرها. يا رب. يارب. وربتت كتفه يد فاستدار ليجد أباه يسأله: خير يا عباس؟
وارتمى عباس بين أحضان أبيه باكيا يقول: ادع لها الله يا أبي، إنها بين يدي الله.
واحتوى الشيخ ابنه في حنان، وفجأة ارتفع صراخ الطفل الوليد، فاندفع عباس إلى الحجرة وسأل الطبيب الذي كان ممسكا بالطفل: وهي؟ هي؟
وقال الطبيب: ربنا معها.
وركع عباس إلى جانب سرير زوجته وسمعها تهمس: أريده مؤمنا يا عباس.
وقال عباس في ثقة وهدوء: سيكون.
وأشرق وجه ليلى وهي تسمع هذه النغمة الجديدة من الوثوق في صوت زوجها، وأحست أنها بلغت أقصى آمالها، وقالت في راحة: الحمد لله.
وظل عباس بجانب زوجته ممسكا بيدها صامتا، وراح الطبيب يبذل كل ما يستطيع لإنقاذها.
ولكن الله قد هيأ لها مكانا في جواره.
وعند الفجر كانت ليلى قد صعدت إلى السماء، ورنا عباس إلى وجهها، وقال صامتا في حب والدموع تنهمر على وجهه: إذن فهو كما قلت يا ليلى، لقاء هناك، في السماء.
Bilinmeyen sayfa