وكان كل ذلك مونقا رائعا، وبهيا رائقا، بحيث لا يملك أشغل الناس بالا، وأكثرهم هما إلا أن يقف للإعجاب به، وكان في وسط الفناء نافورة، يجري الماء الصافي منها في أنابيب من الذهب والفضة إلى أحواض وقنوات مرصوفة بالرخام ، وكانت ترفرف في الفناء أنواع لا حد لها من الطيور الجميلة، ذات الألوان المفرطة في الندرة، مجلوبة من شتى أنحاء الشرق، ولم يكن أحد يرى هذه الطيور دون أن تصيبه الحيرة والدهشة إعجابا بها، ودون أن يقول: إن الطبيعة كانت تمرح وتلعب، حين كونت هذه المخلوقات الجميلة، ومن هذه الطيور ما كان يلزم النافورة، ومنها ما كان يظل بعيدا عنها، كل بحسب طبيعته؛ وكان لكل منها من الغذاء ما يوافقه.
وهنا استأذن في الرجوع الحراس الذين كانوا يسيرون في معية الفرسان الفرنج حتى ذلك الوقت، وحل محلهم بعض العظماء من الأمراء المقربين إلى الخليفة نفسه.
وسار هؤلاء الأمراء بالسفيرين الفرنجيين في أفنية جديدة، أشد جمالا وإبداعا، ثم إلى حديقة لطيفة وغناء، لم تكن الحديقة الأولى شيئا بجانبها، ورأوا في هذه الحديقة أنواعا من الحيوانات ذوات الأربع، غريبة بحيث يتهم المرء بالكذب إذا وصفها، أو تحدث عنها، وبحيث لا يستطيع أي مصور أن يتخيل أو أن يحلم بمثل هذه الكائنات العجيبة، فإن الغرب لم ير قط مثل هذه الحيوانات، ولم يكن يعرفها إلا بما كان يسمع من الأقوال.
وبعد أن عبروا أبوابا عديدة أخرى، وساروا في تعاريج كثيرة؛ كانوا يرون فيها أشياء جديدة تزيدهم دهشة وإعجابا، وصل الفرنج إلى القصر الكبير، حيث يقطن الخليفة، وفاق هذا القصر كل ما رأوه قبل ذلك، وكانت أفنيته تفيض بالمحاربين المسلمين متقلدين أسلحتهم، وعليهم الزرد والدروع، تلمع بالذهب والفضة، وعليهم سيماء الافتخار بما كانوا يحرسون من الكنوز، وأدخل المبعوثون في قاعة واسعة؛ تقسمها ستارة كبيرة من خيوط الذهب والحرير المختلف الألوان، وعليها رسوم الحيوان والطيور وبعض صور آدمية، وكانت تلمع بما عليها من الياقوت والزمرد والأحجار النفيسة، ولم يكن في هذه القاعة أحد؛ لكن شاور خر راكعا فور دخوله، ثم نهض واقفا، ثم قبل الأرض ثانية، وخلع السيف الذي كان يلبسه في عنقه؛ ثم خر ساجدا مرة ثالثة في ذلة وخشوع كأنه يسجد لله، وارتفعت الحبال فجأة، وانكشفت الستارة الحريرية الذهبية بسرعة البرق، كأنها ملاءة خفيفة وظهر الخليفة الطفل (السلطان العاضد) لأعين الفرنج المبعوثين، وكان على وجه هذا الأمير نقاب يخفيه تماما، وهو جالس على عرش من الذهب مرصع بالجواهر والأحجار الثمينة.»
ثم إن هناك شيئا أخر يشهد بأبهة الحياة الاجتماعية عند الخلفاء والوزراء في آخر العصر الفاطمي، ونقصد بذلك ما جاء على لسان بعض شعرائهم، مثال ذلك: القصيدة التي قالها عمارة اليمني
19
يصف دارا بناها الصالح طلائع بن رزيك وزير الخليفة الفائز الفاطمي ، ومنها الأبيات الآتية التي تدل على إبداع النقوش في تلك الدار:
أنشأت فيها للعيون بدائعا
دقت فأذهل حسنها من أبصرا
فمن الرخام مسيرا ومسهما
Bilinmeyen sayfa