تصدير1
كلمة المؤلف
القسم الأول: التحف الفنية في قصور الفاطميين
مقدمة في جمع التحف وتاريخ دور الآثار
الفاطميون
الرخاء في العصر الفاطمي
الشدة العظمى
مصادر ما نعرفه عن كنوز الفاطميين
خزائن القصر الفاطمي
كنوز الفاطميين بعد الشدة العظمى
تعليق على وصف المقريزي خزائن الفاطميين
القسم الثاني: الفنون الفرعية في العصر الفاطمي
القاعة الفاطمية في دار الآثار العربية
الخاتمة
ملحق صور
مراجع الكتاب
تصدير1
كلمة المؤلف
القسم الأول: التحف الفنية في قصور الفاطميين
مقدمة في جمع التحف وتاريخ دور الآثار
الفاطميون
الرخاء في العصر الفاطمي
الشدة العظمى
مصادر ما نعرفه عن كنوز الفاطميين
خزائن القصر الفاطمي
كنوز الفاطميين بعد الشدة العظمى
تعليق على وصف المقريزي خزائن الفاطميين
القسم الثاني: الفنون الفرعية في العصر الفاطمي
القاعة الفاطمية في دار الآثار العربية
الخاتمة
ملحق صور
مراجع الكتاب
الكنوز الفاطمية
الكنوز الفاطمية
تأليف
زكي محمد حسن
إلى
الأستاذ جاستون فييت
بعد عشر سنوات انتفعت فيها بعلمه
تصدير1
للأستاذ جاستون فييت مدير دار الآثار العربية
إنه لمما يشرفني عظيم الشرف أن يهدي المؤلف إلي هذا الكتاب، وإن هذه العاطفة النبيلة منه لتذكرني بتعاون متين منذ عشر سنين، بذلت فيها كل ما بوسعي في سبيل إرشاده، سواء في القاهرة أم في باريس، إرشاد الأكبر للأصغر سنا؛ وكنت كلما رأيت مثابرته، ويقظته العقلية المستطلعة، ونشاطه الذي لا يخمد، زدت له مساعدة وإرشادا.
وقد تعمق الدكتور زكي في التاريخ وسبر أغواره، وملك ناصية لغات أوروبية عديدة، وطاف بمعظم متاحف أوروبا دارسا ومنقبا؛ فهو إذن قد أعد إعدادا متينا ليكون مؤرخا ممتازا للفن الإسلامي، فضلا عن أنه في عنفوان الشباب ويبشر بمستقبل علمي عظيم سيؤتي أطيب الثمرات.
وكتابه هذا أبلغ دليل على ما أقول، فقد سلس للمؤلف قياد الموضوع، ولانت له قناته، مما يشهد بأنه أصبح مؤرخا فذا للفن، له طريقة علمية بلغت الغاية دقة، وله في النقد حاسة قوية نافذة.
ومعلوم أن تاريخ الفن مثله كمثل بقية العلوم من حيث جمع الحقائق وتمحيصها وشرحها وترتيبها، واستنتاج الأفكار العامة منها؛ غير أنه يختلف عنها من حيث إن مؤرخ الفن يجب أن يكون شغوفا بمادته، ولا شك في أن جوانح زكي حسن لتنطوي على هذا الشغف، الذي يسمو بصاحبه فوق الحقائق المادية وإن لم يغفلها، ويثير عنده شعور الإعجاب بتراث العصر الإسلامي الوسيط من تحف فنية يلتذ بها الحس وينعم بها العقل، ويولد في نفوس القراء حب هذه التحف التي تدل على مدنية عظيمة.
وقد أفصح موضوع الكتاب وأبان عن نفسه؛ غير أننا وإن لم ننكر ما للفن الإسلامي القديم من بساطة جذابة، وما لفن المماليك من هدوء وانسجام، لا بد لنا من الإعجاب بالتحف النفيسة التي أنتجها العصر الفاطمي، فدلت على ما كان لفن الفاطميين من قوة إبداع، وشخصية، وإحساس بالحياة شديد، وأثارت في نفوسنا روح الحمية والحماسة.
ولذا فإنك إذا قرأت هذا الكتاب أدركت تمام الإدراك أن المؤلف لم يكتبه إلا بدافع من الشغف عظيم، فبلغ به أقصى حدود الإتقان.
ألف إذن زكي حسن هذا الكتاب مدفوعا بعامل السرور وحده؛ أعني أنه بذل فيه جهده كله، وقد كنت أشاهده منذ شهور وهو يقوم بتأليفه، وكان يخيل إلي أن ما كان يعترضه من عقبات، ما كان إلا ليزكي نار الحماسة في قلبه.
بل إن العاطفة لتتجلى في اختياره موضوع الكتاب؛ فقد راعى الروح القومية، إذ يعد هذا الكتاب الخطوة الأولى في سبيل إحياء ذكرى مرور ألف عام على تأسيس القاهرة. ويحق لدار الآثار العربية أن تزهو، بل ومن واجبها أن تزهو بهذا السبق: أفليست تحوي كنوزا فاطمية عظيمة القيمة؟
قد يقال: إن دار الآثار العربية تسبق موعد هذه الذكرى؛ ولكننا نرى أننا بحاجة إلى بحوث متينة تذكرنا بما كان عليه الماضي العظيم من فخامة وروعة، فتمهد لأن يكون الاحتفال بهذا العيد احتفالا لائقا بذلك الماضي المجيد.
والكتاب قسمان: الأول مقدمة يلتمس فيها المؤلف ما دونه كتاب العصر الوسيط عن زخرف الحياة في الدولة الفاطمية. فهل تأثر المؤرخون العرب في هذا الموضوع بميلهم الغريزي إلى المبالغة في الإشادة والإطناب؟ كلا بل كانوا في وصفهم تلك الحياة صادقين، كما أثبت المؤلف هذه الحقيقة إثباتا قاطعا في القسم الثاني من كتابه، وقد عرض فيه التحف الفاطمية كلها.
ودار الآثار العربية تعد أغنى المتاحف رغم تسرب عدد كبير من التحف إلى أوروبا منذ زمان طويل، بل وقبل إنشاء متحفنا في القاهرة. والدار وإن لم تحتو من التحف العاجية والبللورية والبرنزية والنحاسية إلا على عدد يسير، فإن ثروتها من الأخشاب والمنسوجات والخزف لا تعادلها ثروة.
ولعل هذا الكتاب النفيس المحلى بكثير من اللوحات والرسوم يؤثر في القراء تأثيرا يدفعهم إلى تعرف دار الآثار، فنرى زوارها يزدادون يوما عن يوم.
وما أريد أن أتحدث عن المراجع الكثيرة التي تذيل الكتاب، فإنها قد جعلته جليل النفع عظيم الأثر للمدرسين؛ فالكتاب ومراجعه خير مرشد لهم في تدريسهم تاريخ الفن الإسلامي، وليست هذه المراجع مجرد ثبت يملأ العين؛ وإنما هي نتيجة مجهود وافر، وقد درسها المؤلف كلها، كما يتضح للقارئ عند قراءته ما كتبه من الحواشي في أسفل الصفحات.
وإني أتمنى أن يكون هذا الكتاب شيقا للقارئ كما كان للمؤلف نفسه، وأن يزيد عند المصريين - وكدت أن أسميهم بني وطني، إذ صارت مصر لي وطنا ثانيا - شعورهم بماضيهم الباهر وأن يقوي إيمانهم به واعتزازهم، فالإيمان بالماضي أساس وطيد لوطنية قوية متسامحة، كما أتمنى أن يضاعف الكتاب في نفوس المصريين حب البحث ويرهف فيهم الإحساس بالجمال.
كلمة المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم
كانت نواة هذا الكتاب أبحاثا أعددتها في السنتين الماضيتين وألقيت جزءا منها في المؤتمر الذي عقده المجمع المصري للثقافة العلمية بالقاهرة في مارس سنة 1937.
ويسرني أن أنتهز هذه الفرصة لأقدم للأستاذ فييت مدير دار الآثار العربية خالص الشكر على ثمين تشجيعه وجميل عونه.
كما أشكر حضرات الأساتذة وأصحاب السعادة والعزة أعضاء المجمع المصري للثقافة العلمية، فقد كان لحسن ثقتهم فضل كبير في تأليف هذا الكتاب.
ولن يفوتني أن أنوه بالعناية التي بذلها حضرة محمد نديم أفندي ملاحظ مطبعة دار الكتب المصرية في سبيل طبع الكتاب وحسن تنسيقه على هذا النحو الذي يفخر به فن الطباعة في مصر.
زكي محمد حسن
سبتمبر سنة 1937
القسم الأول
التحف الفنية في قصور الفاطميين
“the countless gifts, the stately walls, the royal palces and halls, all filled with gold. Plate wit armorial bearings wrought, Chambers with ample treasures fraught, of wealth untold”.
Longfellow’s Translation: Colpas de Maurique.
مقدمة في جمع التحف وتاريخ دور الآثار
إن المتاحف بالمعنى الذي نعرفه في الوقت الحاضر مؤسسات ليست قديمة العهد، وإن يكن اللورد بيكون
Lord Bacon
قد تخيل في مؤلفه نيو أطلانطس
New Atlantis
1
نحو عام 1625 وجود متحف أهلي كبير للعلوم والفنون، فإن أقدم المتاحف المعروفة ترجع إلى آخر القرن السابع عشر، وقليل منها يرجع إلى القرن الثامن عشر، بينما يرجع نمو هذه المؤسسات وازدهارها إلى القرن التاسع عشر، ولا سيما آخره.
والمتاحف معاهد للثقافة تفتح أبوابها للجميع، ويفيد منها الزائر في ساعة أكثر مما يفيده من قراءة عدة ساعات، فلا غرو إذن إن كانت مما تمخضت عنه العصور الحديثة: عصور الديمقراطية والسرعة، والأسفار والرحلات، ولا غرابة إن كان تقدمها وازدهارها مقرونين بتقدم العلم، ونمو روح البحث والتنقيب. (1) العالم القديم
وفي العصور القديمة كانت كلمة «متحف» باليونانية
mouseion
يقصد بها المؤسسات الجامعية التي يأوي إليها العلماء؛ يدرسون ما في مكاتبها من مخطوطات في شتى العلوم والمعارف، وتفسح لهم مجال البحث والدرس والتحصيل، وتبادل الأفكار، ومقارعة الحجج بالحجج، وكان سيد هذه المتاحف القديمة على الإطلاق متحف الإسكندرية،
2
ومن المحتمل أن مثل هذه المتاحف كانت تحوي بين جدرانها مجموعات من التحف الأثرية.
ومهما يكن من شيء، فنحن نعرف أن تاريخ جمع التحف يرجع إلى اليونان القدماء، وأن ملوك برجامن
peregame - وهي المستعمرة التي أسستها جالية من المهاجرين الإغريق بآسيا الصغرى في القرن الثالث قبل الميلاد - كانوا يجمعون التحف النفيسة، التي ترجع إلى عصور ازدهار الفن الإغريقي؛ بل إنهم أنشئوا مكتبة لم تكن تفوقها في ذلك العصر إلا مكتبة الإسكندرية.
ونسج الرومان على منوال الإغريق في جمع التحف، وتنبه القائد الروماني فبسانيوس أجريبا
Vipasanius Agrippa ، زوج ابنة أوغسطوس إلى أن الأفضل أن تفتح أبواب المجموعات الفنية الخاصة ليراها الشعب، ويعجب بما فيها من آيات الفن.
وصفوة القول: إن معابد اليونان والرومان، وقصور أغنيائهم كانت فيها مجموعات من الصور والتماثيل تتفاوت في الحجم والقيمة . (2) الغرب
على أن كلمة متحف باليونانية
mouseion
بطل استعمالها بعد أن ذهب متحف الإسكندرية طعمة للنار، وظلت ميتة حتى بعثت في القرن السابع عشر؛ لتكون اسما لدور الآثار على اختلاف نوعها.
وإن كنا لا نعرف شيئا عن جمع التحف في العصور الوسطى المظلمة، فإننا نعلم أن عصر النهضة في القرنين الرابع عشر والخامس عشر أحيا الاهتمام بالآثار القديمة؛ إذ بدأ القوم في إيطاليا يفطنون إلى تراث اليونان والرومان، فهبوا يجمعون التحف الفنية، كالمخطوطات، وقطع العملة، والأحجار النفيسة، والتماثيل النصفية، والكتابات التاريخية، والأيقونات؛ ولم يكن ذلك لأن القوم تنبهوا إلى قيمتها الأثرية فحسب؛ بل لأنهم أخذوا يقدرون ما فيها من متعة وجمال، فلم تلبث قصور الأسرات الشهيرة في إيطاليا وفي غيرها من البلاد الأوروبية أن ضاقت بما فيها من التحف الفنية.
ثم كان إنشاء المجامع العلمية في النصف الثاني من القرن السابع عشر أكبر حافز على البحث العلمي، فأقبل الملوك والأمراء والأثرياء على تكوين المجموعات الفنية؛ ولكن جمعهم الغريب من التحف، والجميل من الآثار لم يكن له غرض معين، ولم يكن منظما كل التنظيم، بيد أن علينا أن نذكر دائما أن عددا كبيرا من المتاحف الأوروبية قام على أساس تلك المجموعات الفنية الخاصة؛ بل إن بعض القصور التي كانت هذه المجموعات محفوظة فيها، وهبها أصحابها إلى أوطانهم أو باعوها، فحولت بمحتوياتها إلى متاحف أهلية. (3) الشرق
وقد عرف الشرق الأدنى في العصور القديمة جمع التحف، على أن ذلك كان لأغراض دينية وجنائزية؛ كما يتجلى لنا مما تكشف عنه الحفائر في معابد قدماء المصريين وقبورهم.
وكذلك عرف الشرق الأقصى، ولا سيما اليابان، جمع التحف الفنية؛ ولكن أكبر الظن أنهم كانوا يجمعونها لأغراض دينية أيضا، مثال ذلك: آلاف التحف التي أهدتها إمبراطورة يابانية إلى الإله بوذا، صدقة على روح زوجها في سنة 756 ميلادية، وحفظت التحف المذكورة في معبد بمدينة نارا، التي كانت عاصمة اليابان في القرن الثامن الميلادي. (4) العالم الإسلامي
أما المسلمون فقد عرفوا جمع التحف الغالية منذ اختلطوا بالأمم المعاصرة، وتقدمت مدنيتهم المادية، فكانت قصور الأمويين والعباسيين تضم بين جدرانها شتى الأواني والمنسوجات الفاخرة.
3
على أننا نظن أنهم كانوا يرمون بجمع هذه التحف إلى الانتفاع بها واستخدامها في حياتهم اليومية، وأكبر ظننا أن الفاطميين هم أول من عمل في الإسلام على جمع التحف الفنية جمعا منظما، ليس للانتفاع بها فحسب؛ بل تقديرا لقيمتها الفنية والأثرية، وقد وصل إلينا اسم تاجر يهودي في العصر الفاطمي - هو أبو سعد إبراهيم بن سهل التستري - كان تاجرا في التحف الثمينة النادرة.
4
الفاطميون
والفاطميون كما نعرف أسرة شيعية، قامت في المغرب الأدنى والأوسط حين أقبل دعاة الإسماعيلية على نشر مذهبهم، حتى أفلح عبيد الله - أول الخلفاء الفاطميين - في القضاء على حكم الأغالبة في إفريقية عام (296ه/909م)، ثم استطاع أن يبسط نفوذه على بلاد المغرب، واتخذ مدينة المهدية - على مقربة من تونس - مقرا لحكمه سنة (308ه/920م).
وكأن الفاطميين كانوا يشعرون منذ البداية بأن دولتهم في المغرب لم تكن قوية الدعائم، فنراهم يعملون على فتح مصر لثروتها ولضعف حكومتها في ذلك الوقت؛ ولتكون مركزا لقيصرية تتسع أرجاؤها فتنافس الدولة العباسية؛ ولكن سعي الفاطميين يفشل في عهد عبيد الله، وفي عهد ابنه وخليفته القائم بأمر الله، ولا ينجحون في بلوغ هذه الأمنية إلا في عهد المعز لدين الله، خليفتهم الرابع، الذي فتحت مصر على يد قائده جوهر سنة (357ه/969م) فاختط القاهرة، وشيد الجامع الأزهر، ورحل المعز وأفراد أسرته عن المغرب، ونقلوا مقر حكمهم إلى القاهرة، فكان ذلك فاتحة لضياع ممتلكاتهم في شمالي أفريقيا، وفي جزائر البحر الأبيض المتوسط؛ إذ لم يلبث عمالهم بنو زيري وبنو حماد أن استقلوا بالحكم في تونس والجزائر، كما سقطت صقلية ومالطة في يد النورمنديين بعد حوادث لا مجال لسردها هنا.
ولكن عوض الفاطميين عن هذه الخسارة ازدهار حكمهم في مصر وسورية، فأصبحت القاهرة تنافس بغداد وقرطبة، وازدادت ثروة البلاد، وعم الرخاء، وصارت الإسكندرية مركزا عظيما للتجارة بين الشرق والمغرب، ثم بدأ الضعف يدب في ملكهم الواسع في النصف الثاني من حكم المستنصر بالله، وفي عهد خلفائه، وزادت سلطة الوزراء والجند - كما سنذكر في الصفحات التالية - حتى أسس صلاح الدين الدولة الأيوبية في مصر سنة (567ه/1171م).
وقد بنى الفاطميون في مصر قصرين، لم يصل إلينا إلا وصفهما في بعض كتب الأدب والتاريخ، وكانت لهم في المهدية عاصمتهم الأولى، قصور عفت آثارها؛ على أن الجنرال الفرنسي دي بلييه
Général de Beylié
استطاع أن يكشف آثار بعض القصور في قلعة بني حماد، حاضرة الأسرة التي استقلت بحكم الجزائر بعد أن كان أمراؤها عمالا للفاطميين على تلك البلاد.
1
وعلى الرغم من أن صقلية سقطت في يد النورمنديين سنة (462ه/1071م) - بعد أن كان الفاطميون قد أخضعوها في أوائل حكمهم - فقد ظلت الثقافة الإسلامية والتقاليد الفنية الفاطمية سائدة فيها مدة طويلة تحت حكم النورمنديين المسيحيين، وشيدت في مدينة بلومر مبان عربية الطراز كقصر القبة
La Cuba
وقصر العزيزة
La Ziza
وهما ليسا عربيين باسميهما فقط؛ بل إن في عمارتهما عناصر إسلامية كثيرة.
2
كما أن باب كنيسة المارتورانا (1129-1143م) في بلرمو، وكذلك الزخارف المحفورة في السقف الخشبي بالكابلا بالاتينا،
3
تدل كلها على أن صناعة الحفر على الخشب إبان العصر الفاطمي أثرت تأثيرا بالغا في الأساليب الفنية بصقلية، وفضلا عن ذلك فإن النقوش والصور باكابلا بالاتينا مثال حي لصناعة التصوير التي ازدهرت في العصر الفاطمي، والتي تحدثنا عنها المصادر التاريخية، والتي عثرت دار الآثار العربية حديثا على مثال لها في قبة حمام فاطمي، كشفت عنه حفائرها في أبي السعود جنوبي القاهرة.
4
وسوف يأتي الكلام على هذا كله في القسم الثاني من هذا الكتاب.
الرخاء في العصر الفاطمي
كان زمن الفاطميين من أزهى عصور الفن الإسلامي، وإن يكن عصر المماليك قد بزه في ضخامة العمائر وإبداع زخارفها، فإن الفنون الفرعية
1
أو التطبيقية بلغت أوج عظمتها في حكم الدولة الفاطمية، الذي دام في وادي النيل من سنة (357-567ه/969-1171م)، ولا غرو فقد زادت الثروة في البلاد، وكانت مصر تجني أرباحا وافرة من تجارة المحيط الهندي، والعلاقات التجارية مع القسطنطينية.
رحلة ناصر خسرو
ونحن نعرف أن ناصر خسرو، الرحالة الفارسي المشهور طاف في كثير من بلاد العالم الإسلامي في القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي)، بعد أن ترك وطنه في وقت انتشرت فيه الاضطرابات، واشتد النزاع بين أمراء الأقاليم المختلفة؛ ولكنه رأى نفس البؤس في كل البلاد التي زارها، اللهم إلا في مصر: فقد وجد رخاء عظيما، وأسواقا عامرة، وتحفا فنية نادرة، وهدوءا شاملا،
2
وكان ذلك في عهد الدولة الفاطمية، الإسماعيلية المذهب، وظن ناصر خسرو أن الفضل في رخاء مصر راجع إلى المذهب الإسماعيلي، وأن هذا المذهب كفيل بإنقاذ العالم الإسلامي، فلم يلبث ناصر أن اتصل ببعض رؤساء الشيعة الإسماعيلية في مصر، واعتنق مذهبهم. والظاهر أن الخليفة المستنصر بالله أحسن استقباله، وكلفه بأن يدعو لمذهب الإسماعيلية في خراسان.
3
وقد وصف ناصر خسرو مدينة القاهرة المعزية - نسبة إلى المعز لدين الله الفاطمي - وصفا شائقا. وقدر أنها في ذلك الوقت (بين سنتي 439 و441 هجرية؛ أي: 1047 و1049 ميلادية) كانت قد ثبت عمارتها، وأصبح فيها ما لا يقل عن عشرين ألف دكان، كلها ملك السلطان، وكثير منها يؤجر بعشرة دنانير في الشهر، وليس بينها إلا قليل تبلغ أجرته في الشهر دينارين، وكان فيها من الخانات والحمامات ما لا يمكن حصره، وكانت كلها ملك السلطان.
4
أما قصر السلطان نفسه فقد كان في وسط القاهرة، وبينه وبين الأبنية المحيطة به فضاء يفصله عنها، وكان يحرسه في الليل خمسمائة حارس من الفرسان، وخمسمائة حارس من الرجالة، وكانت أسواره عالية؛ فلا يستطيع أحد رؤيته من داخل المدينة، بينما يبدو من خارجها كالجبل، وكان في القصر ألوف من الخدم والنساء والجواري، وله عشر بوابات فوق الأرض، وباب يقود إلى ممر تحت الأرض، يعبره الخليفة راكبا ليصل إلى قصر آخر، وكان كل كبار الموظفين في قصور الخليفة من الروم أو السود.
وقال ناصر خسرو: إن مدينة القاهرة كان لها خمسة أبواب كبيرة: باب النصر، وباب الفتوح، وباب زويلة، وباب القنطرة، وباب الخليج،
5
ولم يكن بالمدينة سور محصن،
6
ولكن أبنيتها كانت أعلى من الأسوار المحصنة، وفي كل منها خمس أو ست طبقات فكأنها القلاع الضخمة،
7
وكانت البيوت في المدينة مبنية بناء نظيفا محكما، وكانت مفصولة عن بعضها بحدائق ترويها مياه الآبار.
8
وفي الواقع أن هذه الظاهرة التي أعجب بها ناصر خسرو، أعجب بها غيره من الرحالة الأوروبيين الذين أتيحت لهم زيارة القاهرة في العصور الوسطى.
9
ووصف ناصر خسرو الاحتفال العظيم بقطع الخليج وخروج الخليفة الفاطمي على رأس جنده وخدمه، وأمراء الدولة وموظفي الحكومة للاشتراك في هذا العهد الشعبي الكبير.
وانتقل ناصر خسرو بعد ذلك إلى مدينة الفسطاط جنوب القاهرة، حيث كانت الحركة التجارية والصناعية، فوصف عظمتها، وبيوتها الشاهقة، وجوامعها الكبيرة، وحدائقها الغناء، وصناعتها الزاهرة، وأطنب في وصف الثروة في أسواقها، والازدحام فيها، وجمال أعيادها، وقال: «لو وصفت هذه الأعياد لما صدقني كثير من الناس ولرموني بالمبالغة والإغراق، فإن حوانيت القصارين
10
والصياغ، والحوانيت الأخرى مفعمة بالذهب والحلي والبضائع والأقمشة من الحرير والقصب لدرجة لا يجد فيها المشتري محلا يجلس فيه.»
11
ومما لفت نظره أن التجار كانوا يبيعون بأثمان محددة، وأن الذي كان يغش الناس كانوا يركبونه جملا ويضعون في يده جرسا يدقه، ويطوفون به البلد، وهو يصيح بأعلى صوته: لقد كذبت وها أنا ذا ألقى عقابي جزى الله الكاذبين.
وختم ناصر خسرو وصفه بأنه رأى في مصر ثروة عظيمة، وأموالا غزيرة، لو أراد وصفها لم يصدقه أحد من بلاد العجم.
12
وقد ذكر أشياء كثيرة عن صناعة النسيج، والخزف، والمعادن في مصر. وسوف نعود إليها في مواضع أخرى من هذا البحث.
وقصارى القول أن مصر كانت لها المكانة الأولى في العالم الإسلامي في الوقت الذي زارها فيه ناصر خسرو، وأن العراق لم يستطع بعد ذلك أن ينتزع منها تلك المكانة إلا بفضل الأمراء السلاجقة، الذين آلت إليهم مقاليد الأمور فيه، والذين امتدت فتوحاتهم حتى أزالوا سلطان الفاطميين عن سورية.
13
الشدة العظمى
على أن مصر لم تلبث بعد زيارة ناصر خسرو أن دب إليها الضعف، وكان أن قبض على أزمة الحكم الوزير اليازوري،
1
فأبعد خطر المجاعة؛ ولكنه لم يفلح في استئصال الداء من أساسه، وكان عزله وقتله سنة (450ه/1058م) إيذانا بقيام الفوضى، وبدء المجاعة، وانتشار الوباء، وتعاقبت الوزارات في الحكم ؛ دون أن يكون لها من النفوذ ما تكبح به الجند من الترك والبربر والسودان، فقاموا بكثير من أعمال السلب والنهب، والعنف والشدة، وكانت أم الخليفة
2
تتخذ الجنود السودانية عونا لها، وأداة لفرض إرادتها، وكان الجنود الأتراك يأخذون عليها هذا،
3
واستطاعوا أن يزيدوا نفوذهم حتى تمكنوا برئاسة زعيمهم ناصر الدولة من طرد غرمائهم من السودانيين إلى الصعيد، بعد أن هزموهم سنة (454ه/1062م) في واقعة كوم الريش، فعاثوا فيه فسادا وخلا الجو للترك، فقاموا بشيء كثير من أعمال العنف والشدة، ونهبوا قصور الخليفة والمخلصين له، وأخذوا ما كان فيها من تحف فنية، وأحجار كريمة، وبددوا ما كانت تفخر به من مخطوطات ثمينة.
والعجيب أن المقريزي يذكر ما يشعر بأن الحكومة كانت تغض الطرف عما ينهبه الجند من قصور الخليفة؛ لئلا يمتد شرهم إلى الشعب، فيزيدونه بؤسا وشقاء، فلم تعترضه الدولة، ولا التفتت إلى قدر الكنوز التي كانوا ينهبونها؛ بل جعلتها - على حد قول المقريزي - هي وغيرها فداء لأموال المسلمين، وحفظا له في منازلهم.
4
ولعل الحكومة كانت تبغي بسكوتها هذا أن تنفي شر ثورة الشعب، وقيام حرب أهلية، تهلك الحرث والنسل.
ولكن مصر كان مقضيا عليها بالبؤس في ذلك الحين، وانقطعت عن أسواق القاهرة المواد الغذائية التي كانت ترد إليها من الأقاليم، وغدت منعزلة عن بقية أجزاء البلاد؛ إذ بينما كانت السيادة فيها للجند التركية، كان الصعيد في يد السودانيين، وكانت الإسكندرية وجزء كبير من الدلتا في يد فريق آخر من الجند التركية تساعدهم قبائل من العرب والبربر،
5
فقلت الأقوات، وعلت الأسعار؛
6
فصارت البيضة بدينار، والرغيف بخمسة عشر دينارا،
7
وحتى الخيل، والبغال، والقطط، والكلاب ارتفعت أثمانها، ولم يكن يصل إلى أكلها إلا أهل السعة والغنى، وما لبثت حلي النساء ونفائسهن أن أصبحت زهيدة القيمة، يعرضنها للبيع فلا يتقدم إلى شرائها أحد، وكذلك ذهب ما في اصطبلات الخليفة من خيل كريمة، وأقبل الأمراء وكبار رجال الدولة على أحقر الأعمال في سبيل الحصول على قوتهم اليومي.
وزادت المسغبة حتى اضطر سكان القاهرة إلى أكل لحم الإنسان ، وصار يخطف بعضهم بعضا من الطرقات بواسطة خطاطيف يدلونها من النوافذ، ثم أصبح القصابون يبيعون لحم الإنسان في حوانيتهم، وجرى المؤرخون المسلمون على تسمية تلك السنين بالشدة العظمى؛
8
لما كان فيها من مصائب أذلت القاهرة، وأفقدت المستنصر كل شيء؛ بعد أن فرت أمه وزوجته وبناته إلى بغداد وسورية هربا من الطاعون، ونهب الجند والغوغاء قصره وممتلكاته، فصارت بنت أحد الفقهاء تجري عليه رغيفين كل يوم يسد بهما رمقه.
9
مصادر ما نعرفه عن كنوز الفاطميين
إذا نحن أردنا أن نتحدث عن قصور الخلفاء الفاطميين وما كان فيها من كنوز فنية، فإن مرجعنا الأساسي في هذا ما كتبه المؤرخون المصريون ابن ميسر وتقي الدين المقريزي.
أما ابن ميسر فهو محمد بن علي بن يوسف بن جلب راغب المتوفى سنة (677ه/1278م). وفي المكتبة الأهلية بباريس مخطوط به جزء من كتاب له اسمه «أخبار مصر» وقد وقف على نشره الأستاذ هنري ماسيه
Henri Massé
فطبعه في المعهد العلمي الفرنسي في القاهرة سنة (1919) وصدره بمقدمة قصيرة وألحق به الفهارس اللازمة. وكان المفهوم أن المخطوط المذكور يشتمل على الجزء الثاني من كتاب أخبار مصر.
ولكن الأستاذ فييت
G. Wiet
كتب نقدا طويلا وبحثا مسهبا في هذا المخطوط والطبعة التي ظهرت منه على يد الأستاذ ماسيه،
1
فأثبت أن النص المخطوط في المكتبة الأهلية بباريس ليس تاريخ ابن ميسر. وليس الجزء الثاني منه بتمامه؛ ولكنه نسخة من مقتطفات من هذا الكتاب، نقلها المقريزي سنة (814ه/1411م)، ثم وضع أكثر من خمسها في كتابين من كتبه، ونقل أكثر الأجزاء الباقية مع بعض تغيير أو إضافة أو حذف. والواقع أن في آخر المخطوط عبارة تؤيد ما أثبته الأستاذ فييت، وهي: «آخر المنتقى من الجزء الثاني من تاريخ مصر لابن ميسر، وتم على يد أحمد بن علي المقريزي في مساء يوم السبت أربع عشرة وثمانمائة.»
2
وقد درس الأستاذ فييت في بحثه الذي أشرنا إليه المصادر التي اعتمد عليها ابن ميسر، ولا سيما ابن زولاق المتوفى سنة (387ه/998م) - وهو أقدم الذين كتبوا في تاريخ الفاطميين، وإن كانت مؤلفاته لم يصل إلينا منها شيء - ثم المسبحي المتوفى سنة (420ه/1029م)، وقد ذكر ابن خلكان أنه كتب تاريخا لمصر في ثلاثة عشر ألف ورقة؛
3
ولكن لم يصل إلينا من مؤلفات المسبحي إلا الجزء الأربعون من تاريخه، وهو محفوظ الآن في مكتبة الإسكوريال بإسبانيا. ومهما يكن من شيء، فإن ابن ميسر اعتمد على مصادر طيبة، وقد شهد له بذلك ابن حجر فقال: إنه «عارف بالمصريين.»
4
وليست هذه ميزته الوحيدة، فإننا لا نجد في كتابه سب الفاطميين الذي نجده عند غيره من المؤرخين السنيين، الذين لبوا رغبة الأيوبيين والمماليك في التشهير بالفواطم والقسوة في نقدهم.
والظاهر أن الذي حدا بابن ميسر - وبالمقريزي من بعده - إلى الاسترسال في بيان كنوز الفاطميين، إنما هو أنها نهبت في أيام الشدة العظمى بين سنتي (459 و464ه/1067 و1072م). وذهبت بقيتها طعمة للنيران.
وقد ذكر ابن ميسر أنه في سنة (460ه/1068م) قويت شوكة الأتراك، وطمعوا في المستنصر، وزادت مرتباتهم من 28 ألفا إلى 400 ألف دينار في الشهر، وطالبوه بالأموال، فاعتذر بأنه لم يبق شيء عنده، فألزموه ببيع ذخائره، فأخرجها إليهم وأخذوها بأبخس الأثمان.
5
كما ذكر أيضا في حوادث سنة (462ه/1070م) أن الجند امتدت أيديهم إلى نهب العامة، وأن عددا من التجار قدم إلى بغداد ومعهم ثياب المستنصر وكنوزه وأشياء كثيرة مما نهب وقت القبض عليه.
6
على أن أهم ما يذكره ابن ميسر، هو أنه رأى مجلدا من نحو عشرين كراسا، فيه بيان ما خرج من التحف والأثاث والثياب والذهب وغير ذلك.
7
ولسنا ندري تماما هل كان المجلد سجلا لتحف القصر، أو كان بيانا بما نهب أو تفرق من التحف.
وفضلا عن ذلك فإن ابن ميسر وصف الكنوز الفنية التي تركها الوزير الأفضل بن بدر الجمالي وصفا شائقا سنعود إلى بحثه في هذا الكتاب.
وقد كتب الأستاذ حسن إبراهيم حسن في كتابه «الفاطميون في مصر»: «يقول ابن ميسر أيضا: إن من هذه النفائس ما أرسله البساسيري إلى مصر سنة (450ه) حين أقام الخطبة باسم الخليفة الفاطمي المستنصر على منابر بغداد، وقد استولى عليها الأتراك أيضا سنة (460ه)، وكان مما بعث به البساسيري ثلاثون ألف قطعة كبيرة من البلور، وخمسة وسبعون ألف ثوب من الحرير الخسرواني وعشرون ألف سيف محلى بالذهب.»
8
ولو صح هذا لكان على جانب كبير من الخطورة؛ لأننا نعتقد أن قطع البلور المشار إليها كانت مما اختصت مصر بصناعته، ولم يكن هناك محل لإرسالها من العراق، ولكن الواقع أن النص الموجود في ابن ميسر بهذا الشأن،
9
وكذلك النص الذي يرادفه في المقريزي،
10
لا يفهم منهما أن البلور والحرير الخسرواني والسيوف المكفتة
11
بالذهب أرسلت من العراق على يد البساسيري، وإنما جاء ذكرها في معرض التحف التي نهبت من خزانات المستنصر. وأكبر الظن أن الدكتور حسن إبراهيم إن كان لم يعن بتحقيق هذه المسألة؛ فإنما ذلك لأنها تكاد تكون ثانوية بالنسبة إلى التاريخ الإسلامي على الرغم من خطر شأنها للمشتغلين بالفنون والآثار الإسلامية.
أما تقي الدين المقريزي فقد ولد بالقاهرة سنة (766ه/1364م)، واشتغل بالقضاء فيها، وصار إماما لجامع الحاكم، وتنقل في وظائف كثيرة في القاهرة وفي دمشق، ثم انقطع للكتابة والتأليف حتى توفي سنة (845ه/1442م).
وأهم ما وصل إلينا من مؤلفاته كتاب المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، والغرض من تأليفه كما ذكر المؤلف في مقدمته، إنما هو «جمع ما تفرق من أخبار أرض مصر وأحوال سكانها.» وقد جمع المقريزي تلك الحقائق التاريخية في فصول وأبواب عقدها للكلام عن خطط مصر وآثارها، فوصفها وأتى في هذه المناسبة على ذكر تاريخها، والذين أسسوها أو زادوا فيها، ناسجا في ذلك على طريقة مؤرخي العرب في الخروج من موضوعاتهم الرئيسية، والاستطراد والتبسط فيما له بها علاقة، وفي الذي قد لا يرتبط بها إلا بأوهى الروابط.
12
ومهما يكن من شيء فقد جاء كتاب الخطط دائرة معارف عامة في تاريخ مصر وجغرافيتها، وفي المدنيات التي قامت في وادي النيل، وفي بعض العلوم الدينية والاجتماعية والفلسفية التي ازدهرت في العالم الإسلامي.
وقد أتيح للأستاذ فييت في الأجزاء التي طبعها من المقريزي في منشورات المجمع العلمي الفرنسي بالقاهرة،
13
وفي المقالات المختلفة التي كتبها في شتى المجلات العلمية أن يدرس المصادر التي اعتمد عليها المقريزي في تأليفه وعلاقته بمن سبق من المؤرخين كالكندي
14
وابن ميسر.
15
ولكن الذي يعنينا هنا بنوع خاص هو أن المقريزي نقل في كتاب الخطط مقتطفات كثيرة عن كتاب اسمه «كتاب الذخائر والتحف»، وأخطرها شأنا للمشتغلين بدراسة الآثار والفنون الإسلامية، إنما هو التحف الفنية التي غصت بها قصور الخلفاء الفاطميين.
وقد ذكر المقريزي في الخطط مؤلف كتاب الذخائر والتحف نحو خمس عشرة مرة؛ ولكن اسم هذا المؤلف غير معروف لنا حتى الآن، غير أننا نرجح أنه كان معاصرا للشدة العظمى، وأنه لقي بعض من شاهد بعيني رأسه ما حل بجزء من تلك الكنوز النفيسة، ومما يؤيد ذلك العبارة الآتية وقد نقلها المقريزي عن الكتاب المذكور: «قال في كتاب الذخائر والتحف: وحدثني من أثق به قال: كنت بالقاهرة يوما من شهور سنة تسع وخمسين وأربعمائة، وقد استفحل أمر المارقين وقويت شوكتهم، وامتدت أيديهم إلى أخذ الذخائر المصونة في قصر السلطان بغير أمره، فرأيت وقد دخل من باب الديلم
16
ابن سبكتكين، وأمير العرب ابن كيغلغ، والأعز بن سنان، وعدة من الأمراء أصحابهم البغداديين وغيرهم. وصاروا في الإيوان الصغير؛ فوقفوا عند ديوان الشام لكثرة عددهم وجماعتهم، وكان معهم أحد الفراشين والمستخدمين برسم القصور المعمورة، فدخلوا إلى حيث كان الديوان النظري في الإيوان المذكور، وصحبتهم فعلة، وانتهوا إلى حائط مجير؛ فأمروا الفعلة بكشف الجير عنه، فظهرت حنية باب مسدود؛ فأمروا بهدمه، فتوصلوا به إلى خزانة ذكر أنها عزيزية من أيام العزيز بالله؛ فوجدوا فيها من السلاح ما يروق للناظر، ومن الرماح العزيزية المطلية أسنتها بالذهب ذات مهارك
17
فضة مجراة بسواد ممسوح وفضة بياض ثقيلة الوزن عدة رزم، أعوادها من الزان الجيد، ومن السيوف المجوهرة النصول، ومن النشاب الخلنجي
18
وغيره، ومن الدرق اللمطي،
19
والجحف
20
التيني، وغير ذلك، ومن الدروع المكلل سلاح بعضها، والمحلى بعضها بالفضة المركبة عليه، ومن التجافيف
21
والجواشن
22
والكزاغندات
23
الملبسة ديباجا، المكوكبة بكواكب فضة وغير ذلك، مما ذكر أن قيمته تزيد على عشرين ألف دينار، فحملوا جميع ذلك بعد صلاة المغرب، ولقد شاهدت بعض حواشيهم وركابياتهم
24
يكسرون الرماح، ويتلفون بذلك أعوادها الزان ليأخذوا المهارك الفضة، ومنهم من يجعل ذلك في سراويله وعمامته وجيبه، ومنهم من يستوهب من صاحبه السيف الثمين.
وكان فيها من الرماح الطوال
25
الخطية السمر الجياد عدة؛ حملوا منها ما قدروا عليه، وبقي منها ما كسره الركابية ومن مجراهم، كانوا يبيعونه للمغازليين
26
وصناع المرادن،
27
حتى كثر هذا الصنف بالقاهرة، ولم تعترضهم الدولة ولا التفتت إلى قدر ذلك ولا احتفلت به؛ وجعلته هو وغيره فداء لأموال المسلمين وحفظا لما في منازلهم.
28
كما أن مؤلف كتاب الذخائر والتحف رأى بنفسه بعض حوادث الشدة العظمى وتشهد بذلك العبارة الآتية التي نقلها عنه المقريزي:
قال: وكنت بمصر في العشر الأول من محرم سنة إحدى وستين وأربعمائة، فرأيت فيها خمسة وعشرين جملا موقرة كتبا محمولة إلى دار الوزير أبي الفرج محمد بن جعفر المغربي، فسألت عنها فعرفت أن الوزير أخذها من خزائن القصر هو والخطير بن الموفق في الدين بإيجاب وجبت لها عما يستحقانه.
29
ومهما يكن من شيء فإن ما ورد في ابن ميسر والمقريزي عن كنوز المستنصر أشار إليه أكثر المشتغلين بالآثار الإسلامية في مؤلفاتهم المختلفة، ولا سيما في معرض الكلام عن ازدهار الفنون الإسلامية في عصر الفواطم.
30
وقد نقل المستشرقون إلى اللغات الأوروبية بعض ما جاء في المقريزي عن الكنوز المذكورة، فترجم كترمير
Quatremere
إلى الفرنسية جزءا منه في الفصل الي عقده للكلام عن المستنصر بالله في المذكرات الجغرافية والتاريخية التي نشرها عن مصر سنة (1811)؛
31
كما نقل الدكتور لام
Dr. Lamm
إلى الألمانية بعض ما كتبه المقريزي في وصف الكنوز البلورية والزجاجية في خزائن المستنصر.
32
وتنبه الأستاذ الروسي أنوسترانتزف
K. Inostranzew
إلى قيمة ما كتبه المقريزي، فنقله إلى الروسية وكتب معه شروح وتعليقات
K ، وذلك في بحث له عن مواكب الفاطميين وخروجهم في المواسم والأعياد،
33
وقد نشره سنة (1906)، ولكنه لم يترجم إلى إحدى اللغات الأوروبية التي نعرفها.
أما في اللغة العربية فإن بعض المؤرخين الذين خلفوا المقريزي نقلوا عنه كثيرا مما ذكره عن كنوز الفاطميين،
34
بينما أتى الدكتور حسن إبراهيم حسن في كتابه «الفاطميون في مصر» بجزء كبير مما كتبه ابن ميسر والمقريزي في وصف كنوز الفاطميين.
وأخيرا نقل الأستاذ كاله
Dr. P. Kahle
إلى الألمانية ما كتبه المقريزي في وصف خزانة الجوهر والطيب والطرائف، ونشره في بعض شروح وتعليقات في مجلة الجمعية الشرقية الألمانية.
35
خزائن القصر الفاطمي
يذكر المقريزي أن القصر الكبير الفاطمي كانت به عدة خزائن: منها خزانة الكتب، وخزانة البنود (الأعلام)، وخزائن السلاح، وخزائن الفرش، وخزائن الكسوات، وخزائن الخيم، وخزائن الجوهر والطيب والطرائف وغيرها، ومما لا علاقة لمحتوياته بالتحف الفنية التي ندرسها هنا؛ اللهم إلا إذا لاحظنا أن ما كان فيها من طعام أو شراب أو توابل أو عطور يدل على بحبوحة العيش في تلك الأيام.
وكان لكل خزانة من خزائن القصر عامل يدير شئونها، وصناع يشتغلون فيها إن كانت محتوياتها مما يتطلب ذلك، وفراش يقوم هو ومساعدوه بتنظيفها والسهر على سلامة محتوياتها، ولكل هؤلاء مرتب يتقاضونه من بيت المال.
وكانت هذه الخزائن قسما من حواصل الخليفة التي كانت على خمسة أنواع؛ الأول: الخزائن، والثاني: حواصل المواشي، والثالث: حواصل الغلال وشون الأتبان، والرابع: حواصل البضاعة، والخامس: الطواحين ودار الفطرة.
1
خزانة الكتب
2
أما خزانة الكتب فكانت مفخرة العصر الفاطمي، وأكبر دليل على تقدم الآداب والعلوم فيه. كان فيها أندر المؤلفات وأشهرها، وكان فيها من بعض المؤلفات نسخ كثيرة، كان الخلفاء والوزراء يحرصون على جمعها، حتى ينفردوا بالفخر ويحرموا منه المكاتب الأخرى في العالم الإسلامي، وكان بعض الكتب بخطوط المؤلفين أنفسهم؛ كالخليل بن أحمد والطبري.
وكان تجار الكتب يعرضون على موظفي مكتبة القصر أندر الكتب التي يعثرون عليها، وكانت معروضاتهم تفحص بعناية كبيرة. ويذكر المقريزي أن رجلا حمل إلى العزيز بالله نسخة من كتاب الطبري اشتراها بمائة دينار، فأمر العزيز أمناء المكتبة، فأخرجوا من الخزائن ما ينيف عن عشرين نسخة من تاريخ الطبري، منها نسخة بخطه، ولعله فعل ذلك لكي لا يركب الرجل متن الشطط في تقدير ثمن الكتاب. وحدث أن ذكر كتاب الجمهرة لابن دريد
3
فوجد العزيز أن في المكتبة مائة نسخة منه.
4
وكثيرا ما كان الخليفة يزور خزانة الكتب، فيجيئ راكبا، ثم يترجل ويتخذ مجلسه فوق دكة منصوبة، ويمثل بين يديه أمين الخزانة، ويأتيه بمصاحف مكتوبة بأقلام مشاهير الخطاطين، ويعرض عليهم ما يقترح شراءه من الكتب، أو ما يريد الخليفة حمله لقراءته في مجلسه الخاص.
5
وكان في خزانة الكتب مخطوطات محلاة بالذهب والفضة، وربما كان بعضها مزينا بالصور والرسومات الدقيقة، متأثرا بالصناعة الفارسية في هذا الميدان. وجمع الفاطميون في خزانتهم نماذج عديدة من كتابة مشاهير الخطاطين؛ كابن مقلة،
6
وابن البواب،
7
وغيرهما.
8
ويقال: إن خزانة الكتب الفاطمية كان فيها أربعون قسما: منها قسم فيه ثمانية عشر ألف كتاب في العلوم القديمة، وكان كل قسم يحتوي على رفوف عديدة مقطعة بحواجز، وعلى كل جانب باب مقفل بمفصلات وقفل، وبلغت جملة ما في الخزانة من الكتب نحو مليون وستمائة ألف - وقيل: مليونين - في الفقه والنحو واللغة والحديث والتاريخ وسير الملوك والنجامة والروحانيات والكيمياء.
9
وكان أكثر المخطوطات المذكورة في جلود جميلة النقوش بديعة الصناعة، نسج المماليك على منوالها في صناعة التجليد في عصرهم، وأخذ الغربيون عنهم في العصور الوسطى كثيرا من أساليبهم في هذا الميدان.
10
وقد استولى الجند والأمراء على نفائس ما في خزانة الكتب، فتفرقت أكثر محتوياتها، وكان بعض العبيد والإماء يتخذون من جلودها أمدسة يلبسونها في أرجلهم، كما كانوا يحرقون ورقها قائلين: إن فيها كلام المشارقة الذي يخالف مذهبهم. وأهمل من الكتب عدد كبير سفت عليه الرياح التراب، فصار تلالا كانت باقية في زمن المقريزي وكانت تسمى تلال الكتب.
11
وبالرغم من ذلك كله فقد بقي في خزائن القصر الداخلية كتب لم تصل إليها يد العبث في أيام الشدة العظمى، واستطاع الفاطميون بعد تلك الأيام العجاف أن يعوضوا بعض ما فقدوه فيها، وأن يكون له خزانة كتب عظيمة بيعت عندما استولى صلاح الدين الأيوبي على قصر العاضد آخر الخلفاء الفاطميين.
12
ونقل المقريزي عن ابن أبي طي في هذه المناسبة أنه لم يكن في جميع بلاد الإسلام دار كتب أعظم من التي كانت بالقصر في القاهرة، ومن عجائبها أنه كان فيها ألف ومائتا نسخة من تاريخ الطبري.
13
ومهما يكن من شيء؛ فإن خزانة الكتب الفاطمية ذاع صيتها في العالم الإسلامي، وتشهد بذلك حكاية رواها أسامة بن منقذ عن أبيه، وفيها: أن قاضيا سافر إلى مصر في أيام الحاكم بأمر الله، فأحسن إليه وأكرمه ووصله بصلات سنية، فطلب القاضي إلى الخليفة الفاطمي أن يعفيه منها، وسأله أن يجعل صلته كتبا يختارها من خزانة الكتب الفاطمية، فأجابه الخليفة إلى ما أراد، وحمل القاضي الكتب معه في مركب إلى ساحل الشام، فتغير عليه الهواء فرمى بالمركب إلى مدينة اللاذقية وفيها الروم، فخاف على نفسه وعلى ما معه من الكتب، فكتب إلى جد أسامة بن منقذ كتابا يقول فيه: قد حصلت بمدينة اللاذقية بين الروم ومعي كتب الإسلام، وقد وقعت لك رخيصا فهل أجدك حريصا؟ فبعث إليه بمن قام بحراسته وحمل ما معه.
14
وليس غريبا أن يجتمع للفاطميين مثل هذه المكتبة العظيمة، فقد كانوا يعتمدون على الدعاوة والمخطوطات في نشر مذهبهم، وإذا صح ما ذكره ابن الأثير فإن عميدهم عبيد الله المهدي كانت عنده كتب ملاحم لآبائه، وكان يحملها في متاعه عند مسيره إلى سجلماسه، وحدث أن لحق به لصوص عند موضع يقال له: الطاحونة وسرقوا منه الكتب المذكورة، فحزن لضياعها أكثر من حزنه لفقد سائر ما أخذوه من حاجياته؛ ولكن الظاهر أن أبا القاسم بن المهدي استطاع أن يستعيد هذه الكتب وهو في طريقه لغزو الديار المصرية سنة (300ه/912م).
15
ولسنا نظن أن الفاطميين وجدوا في مصر عند قدومهم من شمالي أفريقيا كتبا كثيرة كانت نواة لمكتبتهم العظيمة؛ ولكنا نرجح أن رغبتهم الأكيدة في منافسة الدولة العباسية، وعملهم على تشجيع العلم والعلماء، وسياستهم في تقريب الأدباء والشعراء، واتخاذهم إياهم صحفا حية تلهج بذكرهم،
16
ثم روح التسامح التي كانت تسود البلاد في أكثر أيام حكمهم، كان كل ذلك من شأنه أن يشجع الدرس والتحصيل والبحث والتأليف، ونسخ الكتب ومعارضتها، ونقدها، والتعليق عليها، وكتابة الذيول لها، كما كان من شأنه أيضا أن يسوقهم إلى اقتناء المخطوطات، إن لم يكن لولع خاص؛ فلأنه كان من واجبات الخلفاء وشارات الفضل والعلم،
17
فضلا عن أن المكتبات كانت قد انتشرت في العالم الإسلامي وأدرك المسلمون فائدتها.
18
ولم يكن وزراء الفاطميين أقل حماسا في هذا الميدان من أولياء الأمر في البلاد؛ ولا سيما أن المتأمل في تاريخ الدولة الفاطمية يرى أن خلفاءها كانوا يتقربون إلى الشعب بتكريم فقهائه وعلمائه، فهذا يعقوب بن كلس اليهودي الذي أسلم في خدمة كافور، واتصل بالمعز، ووزر للعزيز كان - كما كتب ابن خلكان - «يحب أهل العلم ويجمع عنده العلماء، ورتب لنفسه مجلسا في كل ليلة جمعة يقرأ فيه مصنفاته على الناس، وتحضره القضاة والفقهاء والقراء والنحاة، وجميع أرباب الفضائل وأعيان العدول وغيرهم من وجوه الدولة وأصحاب الحديث، فإذا فرغ من مجلسه قام الشعراء ينشدونه المدائح، وكان في بيته قوم يكتبون القرآن الكريم، وآخرون يكتبون كتب الحديث والفقه والأدب حتى الطب ويعارضون ويشكلون المصاحف وينقطونها.»
19
وفضلا عن ذلك فالمعروف أن الفضل في وقف الجامع الأزهر على العلم وخلق نواة الجامعة الأزهرية العظيمة إنما يرجع إلى ابن كلس.
ومهما يكن من شيء فإن حكام القيصريات الإسلامية الثلاث
20
في أواخر القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) كانوا مغرمين بجمع الكتب غراما كبيرا، وكانوا يتسابقون في ذلك ويتنافسون حتى إن الخليفة الحكم الثاني - من خلفاء الدولة الأموية في الأندلس - كان له رسل في أنحاء العالم الإسلامي يجمعون له الكتب الثمينة، ولا سيما ما كان منها بخطوط المؤلفين.
21
وقد أشار المستشرق متز
Mez
إلى فقر المكاتب المغربية في ذلك الحين؛ فذكر عدد المجلدات التي كانت تشتمل عليها المكاتب في بعض البلدان الأوروبية الشهيرة مثل: كونستانس التي كان بها في القرن التاسع 356 مجلدا، وبامبرج (من أعمال بافاريا) التي لم تكن تشمل إلا على 96 مجلدا،
22
بينما كان لبعض الأفراد في الشرق الإسلامي - كالجاحظ والفتح بن خاقان والقاضي إسماعيل بن إسحاق - مكاتب كبيرة.
23
وقد كتب أبو شامة
24
في مؤلفه «كتاب الروضتين في أخبار الدولتين» نبذة عن بيع الكتب من الخزانة الفاطمية في بداية عصر صلاح الدين، فنقل عن عماد الدين الأصفهاني أن بيع الكتب في القصر كان له يومان في كل أسبوع، وكانت الكتب تباع بأرخص الأثمان، وبعد أن كانت خزانتها في القصر مرتبة مفهرسة قيل للأمير بهاء الدين قراقوش متولي القصر وصاحب الأمر والنهي فيه: إن هذه الكتب قد عاث فيها العث ولا بد من تهويتها، وإخراجها من الرفوف إلى أرض الخزانة، وكان هذا الوزير «تركيا لا خبرة له بالكتب ولا درية له بأسفار الأدب»، بينما كان هذا الطلب حيلة مدبرة من تجار الكتب، يريدون بها تفريق المؤلفات وتوزيع أجزائها وخلط أنواعها ومزج بعضها ببعض، فتم ذلك واختلطت كتب الأدب بكتب النجوم، وكتب الشرع بكتب المنطق، وكتب الطب بكتب الهندسة، والتاريخ بالتفسير، والكتب المجهولة بالكتب المشهورة. وكان في خزانة الكتب مؤلفات يشتمل كل كتاب على خمسين أو ستين جزءا مجلدا، إذا فقد منها جزء لا يخلف أبدا؛ ففرق الدلالون هذه الأجزاء لتقل قيمة الكتب وتباع بأبخس الأثمان؛ بينما كانوا يعرفون مواضع أجزائها ويستطيعون جمع شملها بعد شرائها، وكان بعضهم يتشاركون في إتمام ذلك ثم يبيعون الكتب بعد ذلك بأضعاف الثمن الذي دفعوه فيها.
25
ومهما يكن من شيء فإن المعروف أن القاضي الفاضل أسس المدرسة الفاضلية سنة (580ه/1184م)، ووقفها على طائفتي الفقهاء الشافعية والمالكية، واشترى لها ألوفا من الكتب التي كانت تباع من خزائن الفاطميين، حتى بلغ ما في هذه المدرسة من الكتب نحو مائة ألف مجلد، كان مصيرها إلى الضياع، وسبب ذلك كما يقول المقريزي: «أن الطلبة التي كانت بها لما وقع الغلاء بمصر في سنة أربع وتسعين وستمائة والسلطان يومئذ الملك العادل كتبغا المنصوري مسهم الضر، فصاروا يبيعون كل مجلد برغيف خبز حتى ذهب معظم ما كان فيها من الكتب.»
26
ولسنا نظن أننا في حاجة إلى أن نكرر أن ما وقع في عصر صلاح الدين لما بقي في خزانة الكتب الفاطمية كان مقصودا به محاربة المذهب الشيعي قبل كل شيء،
27
ولعل أكثر الكتب التي بيعت أو استولى عليها المقربون إلى صلاح الدين، وأمكن إنقاذها كانت من المؤلفات العلمية أو الأدبية التي لا تمت إلى مذهب الشيعة بأدنى صلة.
خزانة الكسوات
أنشأ المعز لدين الله أول الخلفاء الفاطميين في مصر دارا سماها دار الكسوات، كانت ترد إليها المقادير الوافرة من المنسوجات المختلفة المصنوعة في دار الطراز، أو الواردة من أنحاء العالم الإسلامي أو غيره من البلاد، فتفصل منها كسوات صيفية وكسوات شتوية لرجال القصر وأولادهم ونسائهم وأفراد أسراتهم، فضلا عن الذي كان يخلع على الأمراء والوزراء وكبار الموظفين من الثياب الحريرية المطرزة بالذهب كل بالدرجة التي تناسبه، ووضعت لذلك رسوم سجلت وتقاليد اتبعت، فكانوا يخلعون على الأمراء ثياب دبيقية.
28
وعمائم مطرزة بالذهب، وعلى الوزراء وكبار الموظفين غير ذلك.
وقد أتى المقريزي ببيانات طويلة عن ثياب المواسم والأعياد (التشريفية)، التي كان الخليفة يمنحها الأمراء والأميرات والأتباع وموظفي القصر بخزاناته المختلفة ودواوينه المتعددة، وكذلك نساء الكثيرين منهم وأطباء البلاط ووالي القاهرة ووالي مصر الفسطاط.
29
وكانوا يسمون العيد أحيانا عيد الحلل؛
30
لأن الحلل أو الثياب توزع فيه على أفراد أكثر عددا من الذين توزع عليهم في سائر المناسبات، كرضاء الخليفة عن عمل من الأعمال، أو تولي إمارة الحج
31
أو غير ذلك.
وقد كان للقواد نصيب وافر من الخلع، فالمعروف مثلا أن العزيز بالله ركب لرؤية الجند الذين أعدهم بقيادة منجوتكين التركي للسير سنة (381ه/1991م) إلى حلب لإخضاع ابن سعد الدولة، ثم عاد فخلع على منجوتكين، وحمل إليه عشرة أحمال مال، فيها مائة ألف دينار، ومائة قطعة من الثياب الملونة على أيدي خمسة وعشرين غلاما، وعشر قباب بأغشية ومناطق مثقلة وأهلة وفروش وخمسين بندا.
32
وكانت الكسوات التي تخلع على وجوه الدولة ترفق ببراءات أو رقعات من ديوان الإنشاء، وقد حفظ لنا المقريزي صورة رقعة من هذه الرقعات كتبها ابن الصيرفي،
33
مقترنة بكسوة عيد الفطر من سنة (535) هجرية، وهذا نصها: «ولم يزل أمير المؤمنين منعما بالرغائب، موليا إحسانه كل حاضر من أوليائه وغائب، مجزلا حظه من منائحه ومواهبه، موصلا إليهم من الحياء ما يقصر شكرهم عن حقه وواجبه. وإنك أيها الأمير لأولاهم من ذلك بجسيمه، وأحراهم باستنشاق نسيمه، وأخلقهم بالجزء الأوفى منه عند فضه وتقسيمه؛ إذ كنت في سماء المسابقة بدرا، وفي موائد المناصحة صدرا، وممن أخلص في الطاعة سرا وجهرا، وحظي في خدمة أمير المؤمنين بما عطر له وصفا، وسير له ذكرا، ولما أقبل هذا العيد السعيد، والعادة فيه أن يحسن الناس هيئتهم، ويأخذوا عند كل مسجد زينتهم، ومن وظائف كرم أمير المؤمنين تشريف أوليائه وخدمه فيه، وفي المواسم التي تجاريه، بكسوات على حسب منازلهم، تجمع بين الشرف والجمال، ولا يبقى بعدها مطمح للآمال، وكنت من أخص الأمراء المقدمين ...»
34
وقد نقل المقريزي عن كتاب الذخائر أن بعضهم قدر المنسوجات النفيسة التي أخرجت من خزائن القصر في سني الشدة أيام المستنصر، بما يزيد على خمسين ألف قطعة من الديباج الخسرواني
35
الفاخر، وكان أكثرها مذهبا. وقيل: إن أبا سعيد النهاوندي دون غيره من الدلالين الذين وكل إليهم بيع التحف أمام أبواب القصر، باع في مدة قصيرة أكثر من عشرين ألف قطعة من الخسرواني. كما نقل المقريزي أيضا أن ناصر الدولة زعيم الجند التركية أرسل يطالب المستنصر بما بقي لغلمانه، فذكر الخليفة أنه لم يبق عنده شيء إلا ملابسه، فأخرج ثمانمائة بدلة من ثيابه بجميع آلاتها كاملة، فقدرت قيمتها وحملت إلى الأمير المذكور.
وكان المشرف على خزائن الكسوات ذا رتبة عظيمة، وكانت الخزائن المذكورة قسمين: الخزانة الباطنة، لما هو خاص بلباس الخليفة، وتتولاها سيدة تنعت بزين الخزان، وتحت إمرتها ثلاثون جارية، ولا يغير الخليفة ثيابه إلا عندها. وكان من ملحقات هذه الخزانة بستان من أملاك الخليفة على شاطئ الخليج، تزرع فيه الزهور، وتحمل يوميا إلى الخزانة لتعطير الثياب.
36
أما الخزانة الظاهرة فكان يتولاها أكبر حاشية الخليفة، وكانت فيها كميات كبيرة من شتى أنواع النسيج الفاخر، وكان يحمل إليها ما يصنع في دار الطراز بتنيس ودمياط والإسكندرية، وبها صاحب المقص، وهو رئيس الخياطين، وتحت إمرته عدد منهم، لهم أماكن يفصلون ويخيطون فيها ما يؤمرون بخياطته من الثياب والكسوات، ثم ينقل منها إلى خزانة الكسوات الباطنة ما يخص الخليفة.
37
ولا يسعنا أن نختم الكلام عن خزانة الكسوات دون أن نشير إلى الكسوة التي أمر المعز لدين الله بنسجها للكعبة، وكانت مربعة الشكل من ديباج أحمر، وطرزت على حافتها الآيات التي وردت في الحج بحروف الزمرد الأخضر،
38
وقد كتب ابن ميسر في وصفها: «وفي يوم عرفة نصب المعز الشمسية التي عملها للكعبة على إيوان قصره، وسعتها اثنا عشر شبرا في اثني عشر شبرا، وأرضها ديباج أحمر، ودورها اثنا عشر هلالا ذهبا، في كل هلال أترجة ذهب مشبك، وجوف كل أترجة خمسون درة كبارا كبيض الحمام، وفيها الياقوت الأحمر والأصفر والأزرق، وفيها كتابة دورها آيات الحج زمرد أخضر، وحشو الكتابة در كبار لم ير مثله، وحشو الشمسية المسك المسحوق فرآها الناس في القصر ومن خارج القصر لعلو موضعها، وإنما نصبها عدة فراشين لثقل وزنها.»
39
ويظهر أيضا أن الخلفاء الفاطميين كانوا يحتفظون في خزائنهم بثياب بعض الخلفاء العباسيين. ويقول أبو المحاسن في هذا الصدد: «وكانت هذه الثياب التي لخلفاء بني العباس عند خلفاء مصر يحتفظون بها لبغضهم لبني العباس، فكانت هذه الثياب عندهم بمصر بسبب المعيرة لبني العباس.»
40
ولا حاجة بنا لأن نذكر أن أسواق القاهرة كانت عامرة بالمنسوجات النفيسة التي كانت تشرف الحكومة على إنتاجها، وتفرض عليها الضرائب الكبيرة، وقد وصف الكاتب الصيني
Chau Ju-Kua
أسواق القاهرة فقال: إنها «ملأى باللغط والضجيج والحركة وغاصة بالديباج والدمقس
41
المنسوج بخيوط الذهب والفضة، وأما الصناع ففيهم الروح الفنية الحقة.»
42
خزانة الجوهر والطيب والطرائف
أما خزانة الجوهر والطيب والطرائف، فإن ابن المأمون البطائحي
43
يذكر أنها كانت تحتوي على الأعلام والجوهر التي يركب بها الخليفة في الأعياد، وكان يؤخذ من الخزائن ما يحتاج إليه، ثم يعاد إليها بعد الغنى عنه، ومعه سيف الخليفة الخاص، والرماح الثلاثة التي تنسب إلى المعز.
وقد ذكر القلقشندي
44
في الكلام عن الآلات الملوكية المختصة بالمواكب العظام أن الأعلام أعلاها في المرتبة اللواءان المعروفان بلواءي الحمد، وهما رمحان برءوسهما أهلة من ذهب، وفي كل منهما سبع من الديباج أحمر وأصفر، وفي فمه طارة مستديرة يدخل فيها الرمح فيفتحان فيظهر شكلهما، وكان يحمل هذين الرمحين فارسان من صبيان الحرس الخاص؛ أي: فتيان حرس الخليفة، وكانت تجيء وراء الرمحين المذكورين إحدى وعشرون راية ملونة من الحرير ذي الزخارف والرسوم، ومكتوب عليها
نصر من الله وفتح قريب
وطول كل راية منها ذراعان في ذراع ونصف، ويحملها فتى من صبيان الخليفة يركب بغلة.
45
وقد كتب القلقشندي أيضا في الآلات الملوكية المختصة بالمواكب العظام عن الجوهر وأسماه الحافر، وذكر أنه قطعة ياقوت أحمر في شكل هلال زينتها أحد عشر مثقالا، ليس لها نظير في الدنيا، تخاط خياطة حسنة على خرقة من حرير، وبدائرها قضيب زمرد ذبابي عظيم الشأن، يجعل في وجه فرس الخليفة عند ركوبه في المواكب، والزمرد الذبابي، كما قال القلقشندي في مكان آخر:
46
هو أفضل أنواع الزمرد ولا يكاد يوجد.
وقد روى القلقشندي
47
أن صلاح الدين عندما استولى على القصر بعد وفاة العاضد آخر خلفاء الفاطميين، وجد فيه من التحف الثمينة ما يخرج عن حد الإحصاء، ومن جملته الحافر الذي تقدم ذكره.
48
وإذا صح ما كتبه الدكتور كاله
في ترجمته الألمانية لما جاء في المقريزي عن خزانة الجوهر والطيب والطرائف،
49
فإن الحافر المذكور وصل إلى يد وليم الثاني ملك صقلية سنة (1179م)، وأهداه وليم هذا إلى أبي يعقوب يوسف سلطان الموحدين.
ومما كان يحفظ في خزائن الجوهر والطيب والطرائف السيف الخاص، وقد كان يحمل مع الخليفة في المواكب، ويقال: إنه كان من صاعقة وقعت وأخذت فعمل منها هذا السيف محلى بالذهب ومرصعا بالجواهر، وله كيس مزين بالرسومات المذهبة وأمير من أعظم الأمراء يحمله عند ركوب الخليفة في الموكب.
50
وقد روى أحد الخبراء في الجواهر أنه استدعي ذات مرة في أيام الشدة هو وغيره من الجوهريين، وسئلوا في خزائن القصر عن قيمة صندوق مملوء بالزبرجد؛ فأجابوا بأنهم يعرفون قيمة الشيء إذا كان مثله موجودا، بينما الذي عرض عليهم لا مثل له ولا تقدر له قيمة، فاغتاظ من حضر من الوزراء المعزولين - أو المعطلين كما يقول المقريزي - وأعطوا الزمرد لأحد القواد وحسب عليه فيه خمسمائة دينار.
51
وليس بغريب وجود هذا القدر من الزمرد في خزائن القصر، إذا تذكرنا ما كتبه القلقشندي
52
عن خواص الديار المصرية، وأن أعظمها خطرا معدن الزمرد الذي لا نظير له في سائر أقطار الأرض، والذي يوجد عروقا خضرا في تطابيق حجر أبيض بمغارة في جبل على ثمانية أيام من مدينة قوص.
53
ويذكر المقريزي أن الزمرد لم يزل يستخرج من الجبل المذكور حتى زمن الناصر محمد بن قلاون الذي توفي سنة (741ه/1341م). وفضلا عن ذلك فإننا نعرف من الذيل الذي كتبه أبو زيد في القرن الرابع الهجري على وصف رحلة التاجر سليمان إلى الهند والصين، نقول: إننا نعرف من هذا الذيل أن ملوك الهند كان «يحمل إليهم الزمرد الذي يرد من مصر مركبا في الخواتيم مصونا في الحقاق.»
54
وأتيح للجوهريين أن يشهدوا منظرا آخر حين أتي بعقد جوهر فحصوه ورأوا أن قيمته لا تقل عن ثمانين ألف دينار؛ ولكن الوزراء ورؤساء الجند قدروه بألفي دينار غير أن سلكه انقطع، فتناثر حبه والتقطه الحاضرون من الرؤساء، واحتفظ كل منهم لنفسه بشيء منه، على نحو لا ترى الجماعات المنظمة مثاله إلا في أوقات الشدة والثورات.
ومما نهبه رؤساء الجند وكبار الموظفين المعزولين كمية كبيرة من الدر
55
والجواهر النفيسة بلغ كيلها نحو سبع ويبات، وكان قد بعث بها إلى الخلفاء الفاطميين أتباعهم بنو صليح من اليمن، ونهبوا كذلك من خزائن القصر ألفا ومائتي خاتم ذهبا وفضة، ذات فصوص من الأحجار الكريمة المختلفة الأنواع والألوان والأثمان، مما كان للمستنصر ولأجداده من قبله،
56
وما أهدي إليهم من عمالهم ووجوه دولتهم، وكان منها ثلاثة خواتم مربعة من الذهب عليها ثلاثة فصوص: أحدها زمرد والآخران ياقوت، بيعت باثني عشر ألف دينار.
وشاهد الجوهريون كيسا فيه نحو ويبة من الجواهر عجزوا عن تقدير قيمتها، وقالوا: إن مثلها لا يشتريه إلا الملوك؛ فقومها الأمراء ورؤساء الجند بعشرين ألف دينار، ودخل أحد كبار موظفي القصر إلى الخليفة المستنصر، وأعلمه أن تلك الجواهر اشتراها جده الحاكم بأمر الله بسبعمائة ألف دينار، وكان يرى حينئذ أنها تساوي أكثر من هذا الثمن الذي دفعه فيها.
ويذكر المقريزي - نقلا عن كتاب الذخائر والتحف - أن خزائن القصر كان فيها شيء كثير من البلور والتحف الفنية الزجاجية المحكمة الصنع والمموهة بالذهب وغير المموهة،
57
ومن الصيني والأواني المصنوعة من خشب الخلنج.
58
كما كانت خزائن الفرش والبسط والستور والتعاليق غنية بمحتوياتها النفيسة. وقد قال أحد المستخدمين في بيت المال: إن صندوقا من الصناديق التي نهبت من القصر ذات يوم كان مملوءا بأباريق من البلور النفيس، بعضها منقوش بزخارف ورسومات جميلة، وبعضها غير منقوش. والظاهر أنها كانت لشراب الفقاع وهو نوع من البيرة كان منتشرا في القاهرة في العصور الوسطى، وقد أشار إليه ناصر خسرو في كتابه «سفرنامه» عند الكلام على خلافة الحاكم،
59
فقال: إنه لم يكن مباحا لأي شخص أن يجفف زبيبا، وذلك خشية أن يستخدم في صنع الخمر، ولم يكن يجرؤ أحد على شرب الخمر أو الفقاع؛ لأن هذا الشراب الأخير كان يعتبر مسكرا وكان محرما لهذا السبب.
ويحدثنا المقريزي أن أحد الذين يوثق بهم نقل أن قدحا من البلور النفيس الذي لا زخارف عليه بيع أمامه بمائتين وعشرين دينارا، وأن خرداديا
60
من البلور بثلاثمائة وستين دينارا، وأن كوز بلور بيع بمائتين وعشرة دنانير، وأن صحونا مموهة بالمينا
61
كان يباع الواحد منها بمائة دينار أو أكثر.
وأكبر الظن أن كثيرا من الكنوز التي نهبت من قصور الفاطميين اشتراها أفراد نقلوها إلى أنحاء أخرى من القيصرية الإسلامية. وقد نقل المقريزي
62
حديث رجل رأى في طرابلس قطعتين من البلور النفيس غاية في النقاء وحسن الصنعة: إحداهما خردادي والأخرى باطية،
63
مكتوب على جانب كل منهما اسم العزيز بالله، وكان ذلك الرجل اشتراهما من مصر من جملة ما أخرج من خزائن المستنصر، وقد رفض بعد ذلك بيعهما بثمانمائة دينار لجلال الدين الملك أبي الحسن علي بن عمار.
64
وبلغ ما بيع من تحف القصر في مدة قصيرة على يد أبي سعيد النهاوندي، دون غيره ممن تولوا بيع تلك الكنوز الثمينة ثمانية عشر ألف قطعة من البلور والزجاج النفيس؛ كان يتراوح ثمن القطعة منها بين عشرة دنانير وألف دينار.
وكان في خزائن القصر عدد كبير من صواني الذهب، بعضها محلى بالمينا وعليه شتى أنواع الزخارف والألوان، كما وجد فيها أكثر من مائة كأس من حجر اليصب أو حجر الدم البازهر (نافي السم) وهو حجر غال من خواصه الوقاية من السم، فكانت الكئوس تصنع منه للأمراء والملوك لتوضع فيها الأشربة، فيتغير لونها إذا كان بها شيء من السم.
65
ومما يجدر ذكره أن الفاطميين لم يمنعهم من جمع بعض الكئوس المذكورة أن كان منقوشا عليها اسم الخليفة السني هارون الرشيد.
66
وقد بيع من خزائن القصر عدا ذلك صناديق كثيرة مملوءة سكاكين مذهبة ومفضضة ذات أياد من الأحجار الكريمة، وعدد كبير من المحابر المختلفة الأحجام والأشكال والمصنوعة من الذهب أو الفضة، أو خشب الصندل أو العود أو الأبنوس أو العاج
67
والمحلاة بالجواهر والمعادن النفيسة، وكانت كلها آية في دقة الصنعة، وكان بينها ما يساوي ألف دينار، وما يساوي أكثر أو أقل من ذلك.
أما المشارب والأقداح من الذهب أو الفضة، فقد كان منها في خزائن القصر كميات وافرة، مختلفة الصناعة والأحجام، وكان بعضها مزينا بزخارف محفورة ومملوءة بالمينا السوداء، على النحو الذي يعرف في الاصطلاح الفني الحديث بصناعة النيلو.
68
وقد بلغ من غرام الفاطميين بجمع التحف الفنية أن الأميرات كن ينافسن الأمراء في هذا الميدان، وأن بعضهن تركن كنوزا ثمينة، فرشيدة ابنة المعز ماتت سنة (443ه/1051م)، وتركت تحفا تقدر قيمتها بنحو مليون وسبعمائة ألف دينار،
69
منها ثلاثون ثوبا من الخز الثمين، والخز كما نعرف قماش من الصوف والحرير،
70
كما وجد في خزائنها بعض العمامات المرصعة بالجواهر، مما يذكر بعمامات الأمراء الهنود. ويقال أيضا: إنها كانت تمتلك الخيمة التي توفي فيها هارون الرشيد بمدينة طوس،
71
وقد كانت من الخز الأسود.
والغريب أن الخلفاء العزيز والحاكم والظاهر والمستنصر كانوا كلهم ينتظرون وفاة الأميرة رشيدة ليرثوا ثروتها وتحفها الفنية ،
72
ولكن لم يقض ذلك إلا المستنصر؛ فضم كل كنوزها إلى ما في خزانته من تحف ثمينة وزادته غنى على غنى.
وكذلك خلفت الأميرة عبدة بنت المعز التي ماتت سنة (442ه/1050م) ثروة طائلة، وتحفا لا تحصى، فقدر أن ما استخدم من الشمع في ختم خزائنها وصناديقها أربعون رطلا مصريا؛ أي: نحو 14 كيلوجراما، وأن القائمة التي ضمت بيان مخلفاتها من الأمتعة كتبت في ثلاثين رزمة من الورق، ومن التحف التي تركتها نحو أربعمائة سيف محلى بالذهب، ونحو أردب من الزمرد، وغير ذلك من الجواهر والأقمشة النفيسة والأباريق والطسوت من البلور الصافي.
73
وما وجد في خزائن القصر آنية من الصيني بعضها على شكل أنواع الحيوان المختلفة أو تحمله أرجل على هيئة الحيوان.
74
وقد صنع فنانوا العصر الفاطمي الأواني النحاسية والبرونزية على أشكال الحيوانات، مما اشتق منه في أوروبا إبان العصور الوسطى الآنية التي تسمى أكوامانيل - من اللاتينية
aqua
بمعنى ماء و
manus
بمعني يد - وكانت في الغالب أباريق من النحاس الأصفر على شكل فارس أو حيوان أو طائر، وكان القسس يستخدمونها في غسل أيديهم قبل القداس وفي أثنائه وبعده.
والظاهر أن الأواني الصينية الفاطمية السالفة الذكر كانت كبيرة الحجم؛ لأنها كانت تستخدم في غسل الثياب.
وكان من نفائس ما في خزائن القصر حصيرة ذهب وزنها ثمانية عشر رطلا
75 (نحو سبعة كيلوجرامات)، يقال: إن بوران بنت الحسن بن سهل
76
جلست عليها يوم زواجها بالمأمون، ذلك الزواج الذي أقيمت في مناسبته حفلات عظيمة وأفراح فاخرة، وصفها الطبري وابن الأثير وابن خلكان وغيرهم من مؤرخي العرب.
ومما وجد في القصر ثمان وعشرون صينية من المينا المحلاة بالذهب، وأكبر الظن أنها كانت من صناعة بيزنطية ؛ إذ إنها جاءت هدية للعزيز بالله الخليفة الفاطمي من بازيليوس الثاني إمبراطور بيزنطة. وقد قدرت كل صينية منها بثلاثة آلاف دينار، واستولى عليها ناصر الدولة الذي كان قائد الجند في ذلك الحين.
77
وكانت هناك أيضا صناديق مملوءة مرايا
78
من حديد محلاة بالذهب والفضة، وبعضها مكلل بالجواهر النفيسة، وله محفظات أو غلف من الكيمخت وهو نوع من الجلد المتين، وأخرى من الأقمشة الحريرية النفيسة، وكان للمرايا المذكورة مقابض من العقيق.
وقد أخذ من خزائن القصر آلاف الآلات المصنوعة من الفضة المكفتة بالذهب ذات النقش العجيب، والصنعة الدقيقة، كما وجدت كميات كبيرة من قطع الشطرنج والنرد المصنوعة من الجواهر والذهب والفضة والعاج والأبنوس، ولها رقاع من الحرير المنسوج بخيوط من الذهب.
وأخرج الجند من القصر نحو أربعمائة قفص مملوءة بالأواني الفضية الثمينة المكفتة بالذهب، وقد سبكت كلها ووزعت على الثوار، واستولوا كذلك على أربعة آلاف قنينة مذهبة للنرجس، وعلى ألفي قنينة للبنفسج، ووجد من السكاكين الثمينة ما بيع بأبخس الأثمان، وبلغت قيمته على الرغم من ذلك ستة وثلاثين ألف دينار؛ أي: خمسة عشر ألف جنيه.
79
ويذكر المقريزي بين عجائب ما أخذه الثوار متارد صيني،
80
محمولة على ثلاثة أرجل ملء كل مترد منها مائتا رطل من الطعام، كما يذكر الكلوته
81
المرصعة بالجوهر، وكانت من غريب ما في القصر ونفيسه، ويقول: إن قيمتها مائة وثلاثون ألف دينار، وإنها قدرت في ذلك الوقت بثمانين ألف دينار، وكان وزن ما فيها من الجوهر سبعة عشر رطلا.
ويشير المقريزي أيضا إلى قاطرميز
82
من البلور، فيه صور ناتئة وكان يسع سبعة عشر رطلا.
ومن أجمل النفائس التي كانت تزين القصر الكبير تحف على شكل حيوانات وطيور؛ منها طاوس من ذهب مرصع بالجواهر النفيسة، عيناه من ياقوت أحمر وريشه من الزجاج المموه بالمينا على ألوان ريش الطاوس، ومنها ديك من الذهب له عرف كبير من الياقوت الأحمر مرصع بالدر والجواهر، ومنها غزال مرصع أيضا بالجواهر النفيسة، ومائدة كبيرة واسعة من اليصب،
83
وأخرى من العقيق، ونخلة من الذهب مكللة ببديع الدر والجوهر يمثل أجزاءها وما تحمله من بلح، ثم دواج
84
مرصع بنفيس الجوهر ومئزرة مكللة بحب لؤلؤ نفيس. هذا كله عدا ما كان في الخزانة من الأثاث الفاخر المرصع بالجواهر، والذي كان معدا لتزيين القوارب النيلية
85
التي كانت تستخدم يوم فتح الخليج،
86
وعدا غيره من التحف التي كانت عظيمة القيمة بمادتها، وبما كان يزينها من الأحجار الكريمة، وما كان عليها من الزخارف في أغلب الأحيان.
87
ولا يسعنا أن نختم الكلام عن خزانة الجوهر والطيب والطرائف دون الإشارة إلى ما كتبه العالم الصيني شاويوكو
Chau Jo-Kua
في وصف مصر أو القاهرة، فقد سمع عنها من مصادر مختلفة وكان يظن أنها عاصمة بلاد العرب، وأتى في وصفها بحقائق قد تصدق على بغداد أو دمشق. ومهما يكن من شيء فقد ذكر أنها كانت مركزا خطير الشأن للتجارة مع البلاد الأجنبية، وأن ملكها كان يلبس عمامة من الديباج والقطن الأجنبي، وكان في كل هلال جديد وفي تمام كل قمر يضع على رأسه غطاء مسطحا من الذهب الخالص مثمن الجوانب ومرصعا بأثمن الجواهر، وكان ثوبه من السندس، وله منطقة من حجر اليشب وأحذية من الذهب، وكانت الدعائم في قصره من العقيق، والجدران من الرخام، والقراميد من البلور الحجري، والستر والأغطية من الديباج المنسوجة فيه الرسوم الفاخرة بشتى الألوان وبخيوط الذهب والحرير، أما العرش فمرصع بالدر والجواهر الثمينة وعتباته مغطاة بالذهب الخالص، بينما كانت كل الأواني والأدوات التي تحيط بالعرش من الذهب أو الفضة، وكان الحاجز الموضوع بجواره مرصعا بالدر النفيس.
88
وفي المواسم والحفلات العظيمة بالبلاط كان الملك يجلس خلف هذا الحاجز، وعلى جانبيه وزراؤه وهم يحملون الدرق الذهبية وعلى رءوسهم الخوذ من الذهب أيضا، وفي أيديهم السيوف الثمينة.
89
خزائن الفرش والأمتعة
نقل المقريزي عن ابن عبد العزيز الأنماطي أحد الدلالة الذين تولوا بيع نفائس القصر أن قطع الأقمشة النفيسة المذهبة، التي استولى عليها الثوار كانت أكثر من مائة ألف قطعة؛ منها خمسون ألف قطعة من النسيج الخسرواني كان أكثرها مذهبا، ومنها مرتبة بيعت بثلاثة آلاف وخمسمائة دينار ؛ وأخرى قلمونية
90
بيعت بألفين وأربعمائة دينار، وثلاثون سندسية بيعت كل واحدة منها بثلاثين دينارا، وقد بيع هذا كله بأقل القيم وأبخس الأثمان، وذلك في مدة خمسة عشر يوما من شهر صفر سنة (460ه/1067-1068م).
91
وأرسل الجند إلى خزائن من خزائن الفرش كانت تعرف باسم خزانة الرفوف، وسميت بذلك لكثرة رفوفها، فأخذوا منها ألفي عدل
92
من النسيج الخسرواني المذهب والمزين بالرسوم والصور والزخارف، ووجدوا في عدل منها أجلة أعدت لتلبسها الفيلة، وكانت أيضا من الخسرواني المذهب إلا في موضع نزول أفخاذ الفيل ورجليه.
ومما وجد في الخزائن المذكورة سجاجيد وفرش وستور مطرزة بالذهب والفضة وعليها شتى أنواع الزخارف،
93
ولا سيما رسوم الطيور والفيلة. وإن صح ما نقله المقريزي
94
فقد كان منسوجا بالذهب على بعض الستور صور الدول وملوكها والمشاهير فيها، مكتوب على صورة كل واحد اسمه ونبذة من أخباره. وقصارى القول أن الذي أخرجه الجند من خزائن الفرش كان يكفي لتأثيث بيوت كاملة بما تشتمل عليه من مراتب ووسائد ومساند وبسط، وقد استولى أحد رؤساء الجند على مقطع من الحرير الأزرق غريب الصنعة منسوج بالذهب وسائر ألوان الحرير، وفيه صورة أقاليم الأرض وجبالها وبحارها ومدنها وأنهارها وطرقها، وفيه صورة مكة والمدينة،
95
ومكتوب على كل مدينة وجبل وبلد ونهر وبحر وطريق اسمه أو اسمها بالذهب أو الفضة أو الحرير، وكان في نهاية المقطع العبارة الآتية: «مما أمر بعمله المعز لدين الله شوقا إلى حرم الله، وإشهارا لمعالم رسول الله في سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة.»
وذكر المقريزي أن المعز أنفق في سبيل إتمام هذا المقطع اثنين وعشرين ألف دينار. والواقع أن سياسة الفاطميين العامة، والأبهة والجلال اللذان كانا ميزة حكمهم، كل ذلك جعلهم يعنون كل العناية باختيار أجمل الفرش وأثمنها وأبدع الستور وأغلاها لقاعات قصورهم ولا سيما لقاعة الذهب التي أسسها العزيز ليجتمع فيها مجلس الملك.
خزائن السلاح
وكذلك كانت خزائن السلاح بالقصور الفاطمية عامرة غنية، وإن صح ما نقله المقريزي، فقد جمع الخلفاء الفاطميون فيها أسلحة عظيمة القيمة التاريخية كالسيف المسمى ذي الفقار،
96
وهو السيف المشهور الذي غنمه النبي في موقعة بدر بعد أن كان ملكا لعربي من المشركين اسمه منبه بن الحجاج، وقد ذاع صيت هذا السيف حتى قيل: لا سيف إلا ذو الفقار، وهي العبارة التي نراها منقوشة على السيوف الأثرية، وقد آل هذا السيف إلى علي بن أبي طالب بعد وفاة النبي، ثم إلى الخلفاء العباسيين
97
من بعده. ولسنا ندري كيف حصل عليه الخلفاء الفاطميون.
98
ويقال أيضا: إن خزانة السلاح الفاطمية كانت تحوي بين جدرانها صمصامة عمرو بن معدي كرب،
99
وسيف عبد الله بن وهب الراسبي،
100
وسيف كافور، وسيف المعز ودرعه، وسيف أبي المعز، وسيف الحسن بن علي بن أبي طالب، ودرقة حمزة بن عبد المطلب، وسيف جعفر الصادق.
وكان في خزانة السلاح آلاف القطع من الخوذ،
101
والدروع، والتجافيف،
102
والسيوف المحلاة بالذهب والفضة، والسيوف الحديدية، وصناديق النصول،
103
وجعاب السهام الخلنج،
104
وصناديق القسي، ورزم الرماح الزان الخطية، وشدات القنا
105
الطوال، والزرد،
106
والبيض.
107
وقد نقل المقريزي عن ابن الطوير أن الخليفة كان يزور خزانة السلاح فيطوفها، ثم يجلس على سرير أعد فيها ويتأمل ما فيها من الكزاغندات
108
المدفونة بالزرد، المغشاة بالديباج، المحكمة الصناعة، والجواشن المبطنة المذهبة، والزرديات السابلة
109
برءوسها، والخود المحلاة بالفضة، والزرديات والسيوف على اختلافها من العربيات، والقلجوريات،
110
والرماح القنا
111
والقنطاريات
112
المدهونة والمذهبة، والأسنة البرصانية،
113
والقسي
114
لرماية اليد المنسوبة إلى صناعها، مثل الخطوط المنسوبة إلى أربابها، فيحضر إليه منها ما يجربه، ويتأمل النشاب،
115
وكانت فصوله مثلثة الأركان على اختلافها، ثم قسي الرجل والركاب، وقسي اللولب الذي زنة نصله خمسة أرطال، ويرمي من كل سهم بين يديه، فينظر كيف مجراه، والنشاب الذي يقال له: الجراد وطوله شبر يرمي به عن قسي في مجار معمولة برسمه فلا يدري به الفارس أو الراجل إلا وقد نفذ، فإذا فرغ من نظر ذلك كله، خرج من خزانة الدرق وكانت في المكان الذي هو خان مسرور، وهي برسم الاستعمالات للأساطيل من الكبورة الخراجية والخود الجلودية إلى غير ذلك؛ فيعطي مستخدمها خمسة وعشرين دينارا ويخلع على متقدم الاستعمالات جوكانية
116
مزيدة حرير أو عمامة لطيفة.
117
وأكبر الظن أن خزانة السلاح كانت تشتمل على عدد كبير من الأدوات التي كانت توزع على حرس الخليفة وحاشيته للسير بها في المواكب والاحتفالات، وكانت تعاد بعد ذلك إلى خزانة السلاح، كما كان يحمل إليها سلاح من توفي من الأمراء ورجال الحاشية والحرس.
وطبيعي أن يكون في خزانة السلاح عمال يتعهدون محتوياتها، ويقومون في الوقت المناسب بالإصلاح التي تحتاجه من مسح ودهان وثقل وجلاء وشحذ وتثقيف وخرز وغير ذلك.
118
خزائن السروج
نقل المقريزي عن ابن الطوير أن خزائن السروج الفاطمية كانت تحتوي على ما لا تحتوي عليه مثلها في مملكة من الممالك، وهي قاعة كبيرة تحت جدرانها مصطبة علوها ذراعان؛ وعلى المصطبة متكآت، على كل متكأ ثلاثة سروج متطابقة، وفوقه في الحائط وتد مدهون مضروب في الحائط قبل تبييضه، ومعلق فيه ما يلزم السروج من لجم وقلائد وأطواق مصنوعة أكثر أجزائها من الذهب أو الفضة أو محلاة بهما.
119
وقد جاء في كتاب الذخائر والتحف أن الثوار أخرجوا من هذه الخزائن صناديق سروج محلاة بالفضة، وجد على صندوق منها: «الثامن والتسعون والثلاثمائة»؛ مما يجعلنا نظن أنها كانت تحمل أرقاما متسلسلة، وأنها كانت لا تقل عن ثمانية وتسعين وثلاثمائة.
وكان ثمن بعض السروج المحفوظة في الخزانة يتراوح بين ألف دينار وسبعة آلاف، وكان أقل ما فيها قيمة أحسن مما يمتلكه سائر الأفراد، وكان لكثير من أرباب الرتب ورجال الحاشية حق استعمال هذه السروج؛ إلا ما كان منها غالي القيمة، وجعل لركاب الخليفة خاصة.
وأما العمال والصناع الذين كانوا ملحقين بالخزانة، يدأبون على العمل فيها، فقد كان عددهم كبيرا؛ من صاغة وخرازين ومركبين.
وبعد فوات الشدة العظمى عاد إلى هذه الخزانة - كسائر الخزائن الفاطمية - بعض أبهتها، وجمع الخلفاء فيها عددا كبيرا من السروج النفيسة، منها نوع أمر بصنعه الآمر بأحكام الله سنة (495-524ه/1101-1130م) جعل قرابيصه
120
مجوفة، وبطنها بصفائح من قصدير؛ ليجعل فيها الماء، وجعل لها فما فيه صفارة، فإذا دعت الحاجة شرب منها الفارس، وكان كل سرج منها يسع سبعة أرطال ماء.
121
ومهما يكن من شيء فإن العرب كانوا يعنون بالركوب والصيد عناية فائقة؛ وكان السرج أهم أدوات الركوب، ولم تكن خزانة السروج عند الفواطم وقفا على ما يختصون به من السروج المغشاة بالذهب واللجم المطلية بالذهب والمحلاة جوانبها بالفضة، والكنابيش
122
والمهاميز من الذهب أو الفضة أو الحديد المطلي بالذهب أو الفضة؛ بل كان فيها من كل تلك الأدوات أنواع تقرب من التي اختص بها الخليفة، وأنواع لأرباب الرتب العالية من حشمة وأتباعه، وأنواع دون ذلك تعار إلى عامة الخدم والأتباع في أيام المواكب والاحتفالات.
123
وقد كان نظام خزائن السروج الفاطمية دقيقا، وكانت محتوياتها تجرد في بعض المواسم فيظهر ما ينقص منها، ويلزم عمالها بإحضاره أو دفع قيمته.
وكان الخليفة يزورها، فيطوف فيها من غير جلوس، ويعطي العامل عليها أو «حاميها» عشرين دينارا لتوزيعها على المستخدمين. ويروى أن الخليفة الحافظ لدين الله احتاج يوما إلى شيء فيها، فجاء إليها مع الحامي فوجد الشاهد
124
غير حاضر، ووجد ختمه عليها فرجع إلى مكانه وقال: «لا يفك ختم العدل إلا هو ونحن نعود في وقت حضوره.»
ومما يذكره المقريزي في الكلام عن خزانة السلاح أن أول من ركب أعيان دولته على خيوله بأدوات من الذهب في المواسم هو العزيز بالله، وليس هذا بمستغرب من هذا الخليفة الذي يؤثر عنه أنه قال: «يا عم! أحب أن أرى النعم عند الناس ظاهرة، وأرى عليهم الذهب والفضة والجواهر، ولهم الخيل
125
واللباس والضياع والعقار، وأن يكون ذلك كله من عندي.»
126
ولا يسعنا أن نختم الكلام عن خزانة السروج دون أن نشير إلى أن مصر كانت مشهورة منذ الفتح الإسلامي بصناعة أجلال الخيل، حتى كانت هذه الأدوات مما يرسله العمال إلى الخلفاء في حاضرة القيصرية الإسلامية. وقد كتب ابن إياس في هذا الصدد: «وكانت الخلفاء تشترط على عمال مصر في تقليدهم الخيل العربية، والأثواب الدبيقية شغل تنيس، والمقاطع الشرب الإسكندرانية، والطرز الصعيدية، وأجلال الخيل؛ ويشترط عليهم ضيافة العسل النحل المصري من عسل بنها ، وتشترط عليهم البغال والحمير وغير ذلك من الأصناف التي لا توجد إلا بمصر.»
127
خزائن الخيم
نقل المقريزي عن كتاب الذخائر والتحف أن الثوار أخرجوا من خزائن الخيم عددا كبيرا جدا من أنواعها المختلفة، مصنوعة من أجمل أنواع النسيج الدبيقي، والمخمل، والخسرواني، والديباج الملكي، والأرمني، والبهنساوي، والكردواني، «ومنها المفيل، والمسبع، والمخيل، والمطوس، والمطير، وغير ذلك من سائر الوحوش، والطير والآدميين من سائر الأشكال والصور البديعة» أي: ما كانت تزينه رسوم السباع والخيل والطواويس وسائر الوحوش والطيور، فضلا عن المحلى بالصور الآدمية الجميلة وبالنقوش النباتية والهندسية الرائعة، وكل ذلك يذكر بخيمة سيف الدولة التي وصفها المتنبي في أبيات سنأتي بها في القسم الثاني من هذا الكتاب.
وكانت بعض أعمدة الخيام ملبسة بأنابيب الفضة، كخيمة العزيز التي وصفها ابن ميسر.
128
ومما أخرجه الجند الثائرون في الشدة العظمى فسطاط ضخم جدا كان يسمى المدورة الكبرى، محيطه خمسمائة ذراع، وعدد قطع قماشه أربع وستون قطعة، نقش عليها شيء كثير من رسوم الحيوانات وشتى الزخارف والأشكال،
129
وكان هذا الفسطاط قد صنع للوزير اليازوري، واشتغل في صنعه مائة وخمسون صانعا وفنانا، وبلغت نفقته ثلاثين ألف دينار واستغرق إتمامه مدة تسع سنين.
130
وكان اليازوري قد أمر بعمل هذا الفسطاط على نسق فسطاط آخر،
131
كان الخليفة العزيز بالله قد أمر بصنعه لنفسه، وأرسل إلى ملك الروم في طلب عمودين له.
ومن نفائس ما نهب من خزائن الخيم مضرب الخليفة الظاهر، وكانت أعمدته وقوائمه من البلور أو الفضة، وقماشه منسوجا بخيوط الذهب، ونفقة إتمامه أربعة عشر ألف دينار، ومنها فسطاط كبير آخر صنعه بحلب أبو الحسن علي بن أحمد، المعروف بابن الأيسر في منتصف القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي)، وبلغت نفقة صنعه ونقشه ثلاثين ألف دينار، ونقل المقريزي أن عموده كان أطول من صواري الروم البنادقة، وأنه كان يحتاج إلى مائتي رجل لنصبه وإعداده.
ومهما يكن من شيء، فإن وجود هذا العدد الكثير من الخيم في خزائن الفاطميين أمر يسهل تصوره إذا تذكرنا ما كتبه ابن خلدون في المقدمة ، فقد قال هذا الفيلسوف الاجتماعي الكبير: «اعلم أن من شارات الملك وترفه اتخاذ الأخبية والفساطيط والفازات من ثياب الكتان والصوف والقطن، بجدل الكتان والقطن فيباهي بها في الأسفار، وتنوع منها الألوان ما بين كبير وصغير على نسبة الدولة في الثروة واليسار.»
132
وقد كتب ابن خلدون في هذه المناسبة أن أكثر العرب كانوا في أول عهدهم بادين، فلما تفننوا في مذاهب الحضارة والبذخ ونزلوا المدن والأمصار، انتقلوا من سكنى الخيام إلى سكنى القصور، ولكنهم اتخذوا للسكنى في أسفارهم ثياب الكتان يستعملون منها بيوتا مختلفة الأشكال يبدعون في زينتها.
خزانة البنود
133
ذكر المقريزي أن الذي بناها هو الخليفة القاهر لإعزاز دين الله، وأنها كانت تشتمل على كميات كبيرة من الرايات والأعلام وآلات الحرب، وأن الخليفة الظاهر اتخذ فيها ثلاثة آلاف صانع مبرزين في سائر الصنائع.
134
ونحن نظن أنها كانت جزءا من خزائن السلاح، أو كانت ملحقة بها، أو كانت خزانة عامة تجمع بعض نفائس القصور الفاطمية؛ لأن المقريزي كتب عما كان فيها من درق، وسيوف، ورماح، ونشاب، وقضب من الذهب والفضة، وثياب مذهبة، وسروج، ولجم، وغير ذلك من الأدوات المختلفة.
135
وإذا صح ما نقله المقريزي عن كتاب الذخائر والتحف، فإن الجند لم ينهبوا محتويات هذه الخزانة؛ إذ إن الخليفة المستنصر بالله وهبها لسعد الدولة المعروف بسلام عليك، وحدث في أثناء نقلها ليلا أن سقط من أحد الفراشين شمع موقد، فاحترق جميع ما في الخزانة وكان ذلك في اليوم السادس من صفر سنة إحدى وستين وأربعمائة (1068م).
ويقال: إن سعد الدولة وجد فيها ألفا وتسعمائة درقة، وغير ذلك من آلات الحرب، وقضب الفضة والذهب والبنود.
ونقل المقريزي أن الذي كان ينفق على هذه الخزانة في كل سنة من سبعين ألف دينار إلى ثمانين ألف دينار، وذلك منذ بنى القائد جوهر القصر الكبير سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة حتى ذهبت طعمة للنيران سنة (461ه) إلا جزءا منها عاد إليه عماره تدريجيا؛ حتى استطاع الخليفة أن يخرج منه ذات مرة خمسة عشر ألف سيف محلاة بالجوهر .
والمعروف أن خزانة البنود أو جزءا كبيرا منها جعل بعد هذا الحريق سجنا للأمراء والوزراء والأعيان، حتى سقطت الدولة الفاطمية؛ واتخذها الأيوبيون كذلك سجنا يعتقلون فيه الأمراء والمماليك، كما اتخذها سلاطين المماليك بعد ذلك مأوى للأسرى الفرنج.
136
كنوز الفاطميين بعد الشدة العظمى
تحدثنا حتى الآن عما في قصور الفواطم من كنوز فنية نهبها الجند في الشدة العظمى، وبقي أن نذكر أن ناصر الدولة الذي كان قائدا للجيش واستبد بالأمر ثار عليه الجنود الترك، واضطروه إلى الفرار إلى الإسكندرية، حيث جمع جيشا من الجند الترك الآخرين ومن العرب وعاث به فسادا في الدلتا، مفسدا في الترع والجسور، ومانعا الأطعمة عن مصر، وكان ذلك مع انخفاض النيل في بعض السنين سبب ما حل بالبلاد من القحط والمسغبة.
واستطاع ناصر الدولة أن يدخل القاهرة سنة (466ه/1073م)، واستولى على مقاليد الأمور، ولعله عقد العزم على عزل المستنصر، والخطبة في القاهرة للقائم الخليفة العباسي بعد أن فعل ذلك في الدلتا؛ ولكن أقرانه ومنافسيه من رؤساء الجند الترك قتلوه هو وأقاربه،
1
وخلا الجو للمستنصر فبعث إلى بدر الجمالي حاكم عكا يطلب إليه القدوم إلى مصر لإصلاح شأنها، وتطهيرها من عناصر الثورة والفساد، وقام بدر الجمالي بمهمته خير قيام فمنحه المستنصر لقب أمير الجيوش وماتا في سنة واحدة
2 (487ه/1094م).
وكان الذين جاءوا من بعد المستنصر من الخلفاء الفاطميين ضعافا، فكان الوزراء هم أصحاب الأمر والنهي في البلاد، على أن هذا لم يمنع عودة الرخاء إلى البلاد شيئا فشيئا، وعظمت ثروة الوزراء كما يظهر من وصف ابن ميسر لما خلفه الأفضل شاهنشاه ابن أمير الجيوش بدر الجمالي وصفا يذكرنا بما كان في قصور الفاطميين قبل الشدة العظمى من آنية نفيسة، وجواهر غالية، وأقمشة فاخرة، وخزف بديع، وبلور ثمين.
وقد وصف ابن ميسر مجلس شراب الأفضل، وقال: إنه كان يشتمل على تماثيل لثمان جوار متقابلات: أربع منهن بيض من كافور، وأربع سود من عنبر، وكن مرتديات أفخر الثياب، وممسكات بالجواهر الكريمة ومتزينات بالحلي الثمينة،
3
مما يذكر ببيت الذهب الذي شيده خمارويه وطلى حيطانه بالذهب، وجعل فيه تماثيل حظاياه، والمغنيات اللاتي تغنيه، وجعل على رءوسهن الأكاليل من الذهب وزينهن بأصناف الجواهر.
4
ومما كتبه ابن ميسر في وصف ما خلفه الأفضل أن الخليفة الآمر أخذ في نقل ما بدار وزيره إلى القصر، واستمر ذلك مدة شهرين وأيام، وذكر العامل على خزانة القصر أن ما وجد في دار الأفضل ستة آلاف وأربعمائة ألف دينار، وورق قيمته مائتا ألف وعشرون ألف دينار، وسبعمائة طبق فضة وذهب، ومن الصحاف والمشارب والأباريق والقدور والزبادي والقطع من الذهب والفضة المختلفة الأجناس ما لا يحصى كثرة، ومن براني الصيني الكبار المملوءة بالجواهر التي بعضها منظوم كالسبح، وبعضها منثور شيء كثير، ووجد له من أصناف الديباج تسعون ألف ثوب، وثلاث خزائن كبار مملوءة صناديق، كلها دبيق وشرب عمل بتنيس ودمياط، على كل صندوق شرح ما فيه وجنسه، ووجد له من المقاطع، والستور، والفرش، والمطارح، والمخاد، والمساند، والديباج، والدبيق الحرير، والذهب على اختلاف أجناسها أربع حجر، كل حجرة مملوءة من هذا الجنس.
5
بينما كتب ابن خلكان أن الأفضل خلف من الأموال ما لم يسمع بمثله، ومما تركه خمسة وسبعون ألف ثوب من الديباج، وثلاثين راحلة من أحقاق الذهب العراقي، ودواة ذهبية فيها جوهر قيمته اثنا عشر ألف دينار، وخمسمائة صندوق من الأقمشة النفيسة المنسوجة في تنيس ودمياط، ومائة مسمار من ذهب في عشرة مجالس له، وعلى كل مسمار منديل مذهب بلون من الألوان، وكان الأفضل يلبس منها ما يشاء.
6
وكتب الأبشيهي أن الأفضل «لما مات في شهر رمضان سنة (515ه) خلف بعده مائة ألف ألف دينار، ومن الدراهم مائة وخمسين أردبا، وخمسة وسبعين ألف ثوب ديباج، ودواة من الذهب، قوم ما عليها من الجواهر والياقوت بمائتي ألف دينار، وعشرة بيوت في كل بيت منها مسمار ذهب قيمته مائة دينار، على كل مسمار عمامة ملونة، وخلف كعبة عنبر يجعل عليه ثيابه إذا نزعها، وخلف عشر صناديق مملوءة من الجوهر الفائق الذي لا يوجد مثله، وخلف خمسمائة صندوق كبار لكسوة حشمه، وخلف من الزبادي الصيني والبلور المحكم وسق مائة جمل، وخلف عشرة آلاف ملعقة فضة، وثلاثة آلاف ملعقة ذهب، وعشرة آلاف زبدية فضة كبار وصغار، وأربع قدور ذهبا، كل قدر وزنها مائة رطل، وسبعمائة جرام ذهبا بفصوص زمرد، وألف خريطة مملوءة دراهم خارجا عن الأرادب، في كل خريطة عشرة آلاف درهم، وخلف من الخدم والرقيق، والخيل، والبغال، والجمال، وحلي النساء ما لا يحصي عدده إلا الله تعالى، وخلف ألف حسكة
7
ذهبا، وألفي حسكة فضة، وثلاثة آلاف نرجسة ذهبا، وخمسة آلاف نرجسة فضة، وألف صورة ذهبا، وألف صورة فضة، منقوشة عمل المغرب، وثلاثمائة ثور (شمعدان) ذهبا، وأربعة آلاف ثور فضة، وخلف من البسط الرومية والأندلسية ما ملأ به خزائن الإيوان، وداخل قصر الزمرد.»
8
وأكبر الظن أن الوزراء - وهم الحكام الحقيقيون للبلاد في ذلك العصر - لم يكونوا يأبون على الخلفاء جمع الثروة والتحف الفنية. ولا شك في أن خزائن القصور الفاطمية عاد إليها قسط وافر من عمارها قبل الشدة العظمى، وظل يتولى شئونها، والنظر فيها معقودا لكبير من رجال الدولة.
9
وقد ذكر ابن ميسر في حوادث سنة (542ه) أن الخليفة الحافظ بعث لظهير الدين صاحب دمشق هدايا وخلعا وتحفا،
10
ثم إننا نستطيع أن نتبين الثروة التي كانت في خزائن الفاطميين عند وفاة العاضد آخر خلفائهم، مما كتبه الذهبي في وصف الهدية التي قدمها صلاح الدين إلى نور الدين سنة (569) هجرية، وفيها مصاحف بخط مشاهير الكتاب، وأقمشة ثمينة من الديباج، وعقود من الجوهر والأحجار الكريمة، وأباريق من البلور، وأوان من الصيني،
11
فضلا عن أن المقريزي نفسه ذكر ما كان من أمر القصرين بعد زوال الدولة الفاطمية، وكتب أن صلاح الدين تسلم القصر بما فيه من الخزائن والدواوين وغيرها من الأموال والنفائس وكانت عظيمة الوصف، وفيها مائة صندوق كسوة فاخرة من موشح، ومرصع، وعقود ثمينة، وذخائر فخمة، وجواهر نفيسة وغير ذلك من التحف البديعة.
12
هذا وقد وصلتنا لحسن الحظ وثيقة خطيرة الشأن، تثبت عظمة القصر الفاطمي وأبهته، حين زاره رسولا الملك عموري (أملريك ) سنة (562ه/1167م)؛ ليعقدا معه باسم سيدهما تحالفا، قوامه أن يدفع الخليفة للصليبيين مائتي ألف دينار معجلة ومثلها مؤجلة، نظير دفاعهم عن مصر وصدهم الأعداء عنها.
وقد وصف غليوم رئيس أساقفة صور
13
Guillaume de Tyr
زيارة الرسولين الصليبيين وعبر عن حماسهما وإعجابهما بعظمة ما رأوه وروعة كثير مما شاهداه. وقد نقل جستاف شلمبرجيه
Gustave Schlumberger
إلى الفرنسية بعض ما كتبه غليوم في هذا الصدد،
14
كما لخص لين بول
Lane-Poole
بعضه في كتابه عن تاريخ مصر ،
15
وكتابه عن صلاح الدين،
16
ونقل الأستاذ محمد فريد أبو حديد إلى اللغة العربية ما كتبه لين بول عن هذه الزيارة،
17
وكتب الملازم أول عبد الرحمن زكي نبذة عن هذا الوصف في كتابه «القاهرة».
18
ونظرا لأن هذه الوثيقة خطيرة لقدم عهدها، وشائقة لصدورها من مؤرخ مسيحي، فقد آثرنا أن نأتي بالنص الفرنسي الذي لخصها فيه شلمبرجيه، وأن ننقلها إلى العربية بتصرف قليل: “Les envoyés francs, guidés par Shawer en personne, vivement emus, mais nullement intimidés, furent amenés d’abord à un premier palais “très beau et richement orné” (Guillaume de Tyr le nomme “Cascere” ou “Cascera”, c’est-à-dire le Palais du Caire). Ils y trouvèrent de nombreux appariteurs, on dirait aujourd’hui des huissiers qui, l’épée nue, leur firent cortège, les precedent. Conduits par de longues et étroites allées voûtées, tout à fait obscures, “où l’on ne voyait goutte”, probablement dans le but de les impressionner advantage, ils se trouvèrent, en revenant à la lumière, devant plusieurs portes successives. Auprès de chancune, de nombreux gardes sarrasins veillaient, qui se levaient aussitôt à l’approche de Shawer et la saluaient respectueusement. Ils débouchérent ensuite dans une vaste cour découverte qu’entouraient de magnifiques portiques à colonnades, cour toute pavée de marbres de diverses couleurs, avec des rehaussés d’or d’une richesse éxtraordinaire. “Li chevron en li tref étaient tuit couverts d’or”. C’était si beau, si agreeable que l’homme le plus occupé en divers lieux s’y serait arrêté. Une fontaine au centre, par des conduits, d’or et d’argent, amenait de toutes parts de l’eau d’une claret admirable dans des canaux et des basins paves de marbre. Ça et là voletait une infinite variété d’oiseaux des plus rares couleurs, des plus belles espèces, venus des diverses parties d’Orient, “que nul ne les vit qui ne s’en émerveillât, et n edit que vraiment la nature ne jouait quand elle les fit. Les uns parmi ces oiseaux se tenaient près des fontaines, les autres au loin, chacun selon sa nature; chacun avait s nourriture comme, il lui convenait”. Là, les premiers gardes qui avaient escorté jusqu’ici les guerriers francs prirent conge d’eux. Ils furent aussitôt remplacés par des hauts personages, choisis parmi les intimes familiers memes du khalife, des emirs que l’on appellait “amirauts des charters”. Ceux-ci leur firent traverser de nouvelle scours, plus belles encore, puis un jardin si riche et si délicieux que le premier ne leur semblait plus rien. Là, ils virent une menagerie de quadrupeds si estranges “que celui qui en ferait le récit serait accuse des mensonage et que nul peintre, meme en rêve, ne pourrait façonner de si estranges choses”. L’Occident n’avait jamais vu de tells animaux et ne les connaissait que par ouï dire.
Après avoir franchi mainte autre porte, maint detour, rencontrant toujours choses nouvelles qui les ébahissaient daventage, nos preux arrivèrent enfin au Grand Palais, demeure meme du Calife. Celui-là dépassait en somptuosité tout ce qu’ils avaient vu jusque là. Les cours regorgeaient de guerriers sarrasins en armes, vêtus d’armures éclatantes d’or et d’argent, semblant fiers des trésors qu’ils gardaient. On introduisit les chefs francs dans une vaste sale divisée en deux d’une paroi à l’autre par une grande courtine ou tenture de fil d’or et de soie de toutes couleurs parsemée de dessins de bêtes, d’oiseaux, de ens, flamboyant de rubis, d’émeraudes et de mille riches pieces. Personne ne se trouvait dans cette sale. Shawer, cependant, aussitôt, entré, se prosterna, adora, puis se releva, puis se prosterna à nouveau, puis déposa l’épée qu’il portrait suspendue à son col. Une troisième fois, il se prosterna dans l’attitude de la plus humble adoration. Alors, soudain, avec la rapidité de l’éclair, la grande tapisserie d’or et de soie qui cachait le fond de la sale, enlevée par des cordes, se redressa vivement comme un voile que se lève et le Calife enfant (le sultan Al-'Âdid) apparut aux yeux éblouis des envoyés latins: le visage de ce prince était strictement voile. Il était assis sur un siege d’or, constellé de gemmes et de pierres précieuses.” «وسار السفراء الفرنج يقودهم الوزير شاور بنفسه إلى قصر له رونق وبهجة عظيمان، وفيه زخارف أنيقة نضيرة، وكان هؤلاء المبعوثون متأثرين بما حولهم جد التأثر، دون أن يتطرق إلى نفوسهم أي خوف أو رهبة، ووجدوا في هذا القصر حراسا عديدين، وسار الحراس في طليعة الموكب، وسيوفهم مسلولة، وقادوا الفرنج في ممرات طويلة وضيقة، وأقبية حالكة الظلمة، لا يستطيع الإنسان أن يتبين التأثير فيهم. وربما كان المقصود بذلك بعث الهيبة إلى قلوبهم، وزيادة التأثير فيهم. فلما خرجوا إلى النور اعترضتهم أبواب كثيرة متعاقبة، كان يسهر على كل منها عدد من الحرس المسلمين، الذين كانوا ينهضون عند اقتراب شاور، ويحيونه باحترام، ثم وصل الموكب إلى فناء مكشوف، تحيط به أروقة ذات أعمدة، وأرضيته مرصوفة بأنواع من الرخام متعددة الألوان، وفيها تذهيب خارق العادة بنضارته وبهائه، كما كانت ألواح السقف تزينها الزخارف الذهبية الجميلة.
وكان كل ذلك مونقا رائعا، وبهيا رائقا، بحيث لا يملك أشغل الناس بالا، وأكثرهم هما إلا أن يقف للإعجاب به، وكان في وسط الفناء نافورة، يجري الماء الصافي منها في أنابيب من الذهب والفضة إلى أحواض وقنوات مرصوفة بالرخام ، وكانت ترفرف في الفناء أنواع لا حد لها من الطيور الجميلة، ذات الألوان المفرطة في الندرة، مجلوبة من شتى أنحاء الشرق، ولم يكن أحد يرى هذه الطيور دون أن تصيبه الحيرة والدهشة إعجابا بها، ودون أن يقول: إن الطبيعة كانت تمرح وتلعب، حين كونت هذه المخلوقات الجميلة، ومن هذه الطيور ما كان يلزم النافورة، ومنها ما كان يظل بعيدا عنها، كل بحسب طبيعته؛ وكان لكل منها من الغذاء ما يوافقه.
وهنا استأذن في الرجوع الحراس الذين كانوا يسيرون في معية الفرسان الفرنج حتى ذلك الوقت، وحل محلهم بعض العظماء من الأمراء المقربين إلى الخليفة نفسه.
وسار هؤلاء الأمراء بالسفيرين الفرنجيين في أفنية جديدة، أشد جمالا وإبداعا، ثم إلى حديقة لطيفة وغناء، لم تكن الحديقة الأولى شيئا بجانبها، ورأوا في هذه الحديقة أنواعا من الحيوانات ذوات الأربع، غريبة بحيث يتهم المرء بالكذب إذا وصفها، أو تحدث عنها، وبحيث لا يستطيع أي مصور أن يتخيل أو أن يحلم بمثل هذه الكائنات العجيبة، فإن الغرب لم ير قط مثل هذه الحيوانات، ولم يكن يعرفها إلا بما كان يسمع من الأقوال.
وبعد أن عبروا أبوابا عديدة أخرى، وساروا في تعاريج كثيرة؛ كانوا يرون فيها أشياء جديدة تزيدهم دهشة وإعجابا، وصل الفرنج إلى القصر الكبير، حيث يقطن الخليفة، وفاق هذا القصر كل ما رأوه قبل ذلك، وكانت أفنيته تفيض بالمحاربين المسلمين متقلدين أسلحتهم، وعليهم الزرد والدروع، تلمع بالذهب والفضة، وعليهم سيماء الافتخار بما كانوا يحرسون من الكنوز، وأدخل المبعوثون في قاعة واسعة؛ تقسمها ستارة كبيرة من خيوط الذهب والحرير المختلف الألوان، وعليها رسوم الحيوان والطيور وبعض صور آدمية، وكانت تلمع بما عليها من الياقوت والزمرد والأحجار النفيسة، ولم يكن في هذه القاعة أحد؛ لكن شاور خر راكعا فور دخوله، ثم نهض واقفا، ثم قبل الأرض ثانية، وخلع السيف الذي كان يلبسه في عنقه؛ ثم خر ساجدا مرة ثالثة في ذلة وخشوع كأنه يسجد لله، وارتفعت الحبال فجأة، وانكشفت الستارة الحريرية الذهبية بسرعة البرق، كأنها ملاءة خفيفة وظهر الخليفة الطفل (السلطان العاضد) لأعين الفرنج المبعوثين، وكان على وجه هذا الأمير نقاب يخفيه تماما، وهو جالس على عرش من الذهب مرصع بالجواهر والأحجار الثمينة.»
ثم إن هناك شيئا أخر يشهد بأبهة الحياة الاجتماعية عند الخلفاء والوزراء في آخر العصر الفاطمي، ونقصد بذلك ما جاء على لسان بعض شعرائهم، مثال ذلك: القصيدة التي قالها عمارة اليمني
19
يصف دارا بناها الصالح طلائع بن رزيك وزير الخليفة الفائز الفاطمي ، ومنها الأبيات الآتية التي تدل على إبداع النقوش في تلك الدار:
أنشأت فيها للعيون بدائعا
دقت فأذهل حسنها من أبصرا
فمن الرخام مسيرا ومسهما
ومنمنما ومدرهما ومدنرا
قد كان منظرها بهيا رائقا
فجعلتها بالوشي أبهى منظرا
وسقيت من ذوب النضار سقوفها
حتى يكاد نضارها أن يقطرا
ألبستها بيض الستور وحمرها
فأتت كزهر الورد أبيض أحمرا
لم يبق نوع صامت أو ناطق
إلا غدا فيه الجميع مصورا
فيها حدائق لم تجدها ديمة
كلا ولا نبتت على وجه الثرى
لم يبد فيها الروض إلا مزهرا
والنخل والرمان إلا مثمرا
والطير مذ وقعت على أغصانها
وثمارها لم تستطع أن تنقرا
وبها من الحيوان كل مشبه
لبس الحرير العبقري مصورا
لا تعدم الأبصار بين مروجها
ليثا ولا ظبيا بوجرة
20
أعفرا
أنست نوافر وحشها لسباعها
فظباؤها لا تتقي أسد الشرى
21
وكأن صولتك المخيفة أمنت
أسرابها ألا تخاف فتذعرا
وبها زرافات كأن رقابها
في الطول ألوية تؤم العسكرا
22
تعليق على وصف المقريزي خزائن الفاطميين
ونحن حين نفرغ الآن من إيجاز ما جاء في خطط المقريزي وغيرها من كتب التاريخ عن وصف كنوز المستنصر، لا يسعنا إلا أن نلاحظ ما في حديث المقريزي من دقة وإطناب يدلان على أنه استعان - كما استعان الذين نقل عنهم - بأقوال خبراء ماهرين في الصناعة لهم كفاية في هذا الميدان ولهم اتصال بما يصفونه، ولا غرو فإن هذا الوصف يذكرنا بالبيانات الشاملة
inventaires
التي كانت تكتب بعد عصر النهضة في أوروبا عن المجموعات التي كان يمتلكها الأمراء والنبلاء والأثرياء من تحف وعجائب.
ولكن وصف المقريزي قد تظهر فيه مبالغة لا ندهش لها من مؤرخ عربي في عصره؛ بيد أن هذا الوصف في مجموعه صحيح إلى حد كبير، ونحن إن حسبنا حساب ما فيه من المغالاة والمبالغة، بقي لنا شيء كثير، يكفي لأن يكشف لنا عن ثروة البلاد في هذا العصر، وعن ازدهار الصناعات والفنون فيه، ويثبت لنا صحة ذلك كله القليل الذي وصل إلينا من التحف الفاطمية وما نعرفه عن الفنون الفرعية في عصر الفواطم، كما سنرى في القسم الثاني من هذا البحث.
وفضلا عن ذلك فإن هناك نصوصا تاريخية أخرى تدل على شغف الخلفاء الفاطميين بجمع التحف والآثار، والمعروف أن الخليفة الظاهر كان شديد الاتصال بأبي سعد التستري
1
تاجر التحف الثمينة والآثار، وأن هذا أهدى إليه أمة له، أنجب منها الخليفة الظاهر ابنه المستنصر بالله،
2
وبعد وفاة الظاهر كان التستري من أخص المقربين للمستنصر ولوالدته وانتهز هذه الفرصة فألحق بمناصب الدولة كثيرين من أبناء دينه؛ بل واضطهد المسلمين حتى قال أحد شعرائهم:
يهود هذا الزمان قد بلغوا
غاية آمالهم وقد ملكوا
العز فيهم والمال عندهم
ومنهم المستشار والملك
يا أهل مصر إني قد نصحت لكم
تهودوا قد تهود الفلك
3
وكان الظاهر والمستنصر يحصلان من أبي سعد التستري على كثير من التحف لخزانات القصر، وكان أبو سعد يقوم بالرحلات الطويلة والأسفار البعيدة لجمع التحف والآثار.
4
وقد وصف ناصر خسرو قتل التستري، وذكر في هذه المناسبة أن الخليفة كان يكلفه بإحضار الأحجار النفيسة له.
5
ثم إن المقريزي نقل عن ابن الطوير أن الخليفة الفاطمي المعز لدين الله كان يجمع مهرة الصناع، ويلحقهم بخدمة البلاط ومصانع الحكومة، ويفرد لهم مساكن خاصة بهم، كما كان يطلب إلى عماله على الأقاليم أن يرسلوا إليه من يتوسمون فيه الصلاح لمثل هذه الأعمال والصنائع.
6
ولا ريب عندنا أن قسطا وافرا من ازدهار الفنون في العصر الفاطمي يرجع إلى سياسة التسامح الديني التي سار عليها الخلفاء الفاطميون - إلا الحاكم - تلك السياسة التي كان صداها مثل الأبيات التي ذكرناها آنفا، ومثل قول أحد الشعراء:
تنصر فالتنصر دين حق
عليه زماننا هذا يدل
وقل بثلاثة عزوا وجلوا
وعطل ما سواهم فهو عطل
فيعقوب الوزير أب وهذا ال
عزيز ابن وروح القدس فضل
7
ولكن هذه السياسة أحاطت الخلفاء الفاطميين ببطانة من رجال مثقفين يميلون إلى تعضيد الفنانين، كما شجعت هؤلاء على العمل والإنتاج، حتى كان حكم الفاطميين العصر الذهبي للفنون الفرعية على ضفاف النيل.
8
والظاهر أن القاهرة كان بها في أواخر العصر الفاطمي حي سكنته جالية من الصناع الفرنج، ربما أتت بهم إلى مصر سفن الجمهوريات التجارية في شبه جزيرة إيطاليا. وعلى كل حال فقد كتب المقريزي عن المناخ السعيد وهو الوضع الذي كانت فيه طواحين القمح اللازمة للقصور الفاطمية؛ فنقل عن ابن الطوير أن هذا الحي كان مملوءا بعدد كبير جدا من حواصل الخشب والحديد وآلات الأساطيل من الأسلحة المعمولة بيد الفرنج القاطنين فيه، والقنب والكتان والمنجنيقات وغير ذلك من أدوات الصناعة، وقد ظل هذا الحي الصناعي حتى عصر الدولة الأيوبية.
9
كما أننا لا نشك أيضا في أن هذا الازدهار الفني الكبير يرجع إلى الثروة التي حصلت عليها البلاد في عصر الفواطم، والتي يكفي لبيان مقدارها قراءة ما كتبه ناصر خسرو في وصف أسواق الفسطاط وأبنية القاهرة، وفي وصف عيذاب، وذكر الضرائب التي كانت تحصل فيها على البضائع الواردة من اليمن وزنجبار والحبشة.
وكذلك في المصادر التاريخية والأوروبية في العصور الوسطى كثير من الأخبار التي تثبت امتداد تجارة الجمهوريات الإيطالية مع الدولة الفاطمية، والأرباح الطائلة التي كان الطرفان يكسبانها من هذه التجارة.
10
كما أننا نعرف أن الإسكندرية كانت لها في ذلك الحين تجارة واسعة مع صقلية والقسطنطينية، وأن التبادل بين مصر والأقطار المجاورة لم يكن في البضائع والمنتجات فحسب، بل كان في رجال الفن أيضا، فقد كان في مصر إذ ذاك فنانون ذاع صيتهم ووجدت إمضاءات بعضهم على أعمال الفسيفساء التي قاموا بها في مكة، وكان بعضهم يستدعى للعمل في البلاد الأجنبية.
11
وكذلك كان الخلفاء الفاطميون ترد إليهم الهدايا النفيسة من عمالهم على الأقاليم، ومن الملوك والأمراء الذين كانوا يبعثون بها خطبا لودهم، أو عربونا على صداقتهم، ومن ذلك ما كتبه الأبشيهي
12
من أن قسطنطين ملك الروم أهدى إلى المستنصر بالله في سنة سبع وثلاثين وأربعمائة هدية عظيمة، اشتملت قيمتها على ثلاثين قنطارا من الذهب الأحمر، كل قنطار منها عشرة آلاف دينار عربية.
ومما نعرفه في هذا الشأن أن الوزير البساسيري سير الأموال والتحف من بغداد إلى المستنصر بالله، وكان من جملة من بعث به منديل الخليفة العباسي القائم بأمر الله والشباك الذي كان يجلس فيه ويتكئ عليه، وقد بقي هذا محفوظا عند الخليفة حتى عمرت دار الوزارة على يد الأفضل بن بدر الجمالي، فجعل هذا الشباك بها يجلس فيه الوزير ويتكئ عليه، وما زال بها إلى أن عمر الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير الخانقاه الركنية، وأخذ من دار الوزارة أنقاضا منها الشباك العباسي فجعله في القبة. أما عمامة القائم أو منديله وكذلك رداؤه فما زالا في القصر حتى استولى صلاح الدين على محتوياته، فأرسلهما فيما أرسله إلى الخليفة العباسي المستضيء بالله في بغداد، ومعهما الكتاب الذي كان القائم قد اضطر إلى كتابته على يد وزيره البساسيري، وفيه: أنه لا حق لبني العباس في الخلافة مع وجود بني فاطمة الزهراء.
13
القسم الثاني
الفنون الفرعية في العصر الفاطمي
القاعة الفاطمية في دار الآثار العربية
يلاحظ زائرو الدار أن مقتنياتها رتبت في قاعاتها المختلفة بحسب موادها؛ فجمعت التحف المصنوعة من الأحجار والرخام والجص في القاعات الثلاث الأولى، تتلوها قاعات أفردت للخشب، فأخرى للمعاد، فغيرها للخزف، فأخرى للمنسوجات والسجاد، ثم تأتي قاعة كبرى للزجاج وأخرى للمخطوطات المصورة، وجلود الكتب، وأحدث المقتنيات.
ولعل السر في ذلك أن الذين تولوا الإشراف على الدار منذ إنشائها كانوا ينسجون في تنسيق قاعاتها على منوال النظم التي كانت متبعة إذ ذاك في سائر متاحف العالم، ولعلهم كانوا يخشون أيضا إن هم رتبوا التحف بحسب العصور أن يصبح في الدار قاعة واحدة لصدر الإسلام في مصر، ثم قاعة للعصر الطولوني، وقاعة أو قاعتان للعصر الفاطمي، بينما تزدحم سائر القاعات بتحف من عصر المماليك؛ لأن الذي وصلنا منها أكثر عددا من الذي وصلنا من التحف التي ترجع إلى العصور الأخرى.
ومهما يكن من شيء فقد تنبه الأستاذ فييت المدير الحالي إلى أهمية العصر الفاطمي في تاريخ الفنون الإسلامية في مصر، ورأى إعداد قاعة خاصة تعرض فيها نماذج مما وصل إلينا من التحف المصنوعة في ذلك العصر، وقد تم نقل بعض التحف من سائر قاعات الدار إلى القاعة الفاطمية الجديدة، وسوف يعاد النظر في ترتيب معروضات الدار ترتيبا أوفق وأصلح حين يتوفر لنا المكان اللازم.
ويجدر بنا كي نتفهم هذه التحف ونقدر قيمتها الفنية أن ننتقل إلى الكلام عن الفنون الفرعية في عصر الفواطم، وذلك في إيجاز يتفق والحجم الذي نريده لهذا البحث والغرض الذي نرمي إليه به. (1) النحت والتصوير
إن كون الدولة الفاطمية شيعية المذهب يدعونا إلى إيجاز ما فصلناه في كتاب «التصوير في الإسلام» عن حكم رقم الصور وصناعة التماثيل عند المسلمين،
1
فقد كتب المستشرقون وعلماء الغرب
2
كثيرا عن تحريم التصوير في الديانة الإسلامية، وزعم بعضهم أن القرآن حرم نقش الصور وعمل التماثيل؛ ولكن هذا باطل، لا نصيب له من الصحة. وفطن آخرون إلى أن تحريم التصوير جاء في الحديث الشريف، وهذا صحيح، وقد كان النبي - عليه السلام - يقصد به إبعاد المسلمين عن كل ما من شأنه أن يقربهم من عبادة الأوثان، على أن بعض هؤلاء العلماء والمستشرقين ظن أن حديث تحريم التصوير لا يقره من المسلمين إلا السنيون، بينما الشيعة لا يعتقدون أن التصوير حرام، وبهذا علل أولئك العلماء ازدهار صناعة التصوير في بلاد إيران، حيث يسود المذهب الشيعي، ووجود الصور الآدمية في التحف الفنية، التي ترجع إلى عصر الفواطم في مصر، وقد كانوا - كما نعرف - من أتباع المذهب الشيعي أيضا، ولكن هذا بعيد عن الصواب؛ فإن النحت والتصوير مكروهان عند علماء الشيعة كما هما مكروهان عند علماء أهل السنة. حقا إن الشيعيين لا يعترفون بكتب الحديث التي صنفها علماء أهل السنة؛ ولكن لهم كتبا خاصة جمعت الأحاديث النبوية التي يعترفون بها، والتي تتفق وعقائدهم، ونحن نجد في كتبهم هذه ما نعرفه في كتب أهل السنة من نهي عن التصوير وإنذار للمصورين بأنهم سوف يكلفون يوم القيامة أن ينفخوا في صورهم الروح، وليسوا بنافخين.
وأكبر الظن أن التفرقة بين المسلمين في موقفهم من النحت والتصوير راجعة إلى أن بلاد إيران - وهي بلا ريب أكبر ميدان ازدهر فيه التصوير الإسلامي - يقترن ذكرها بالمذهب الشيعي؛ ولكن المستشرقين الذين يستنتجون من ذلك أن الشيعة يحلون التصوير، فاتهم أن المذهب الشيعي لم يصبح الدين الرسمي لبلاد إيران إلا منذ أول القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي)، حين اعتلت العرش الأسرة الصفوية، وهم ينسون أيضا أن العرب لم يكونوا ليخسروا كثيرا بصرفهم عن التصوير؛ لأنهم منذ البداية لم يكن لهم كفاية في هذا الفن، كما كان للفرس؛ الذين كانوا مهرة فيه منذ الزمن القديم، والذين لم يكونوا بفطرتهم يعرضون عنه كالشعوب السامية،
3
فكان طبيعيا أن يسبق الفرس غيرهم في غض الطرف عن كراهية الإسلام له، ولم يكن بد من أن يغض سائر المسلمين الطرف عنها حين يختلطون بالروم أو بالفرس، وحين تسود بلاط ملوكهم روح دنيوية، ومدنية متأثرة ببيزنطة أو إيران، وحين تنمو الثروة وتزدهر الفنون؛ ولكن بالرغم من ذلك كله ظل المصورون مكروهين من رجال الدين، وظل النقش والتصوير بعيدين عن المساجد، وما يدخل فيها، أو في الأدوات المستعملة بها من زينة وزخارف.
4
ومهما يكن من شيء فإن العرب أنفسهم عرفوا في الجاهلية نوعا من نحت التماثيل ليتخذوها آلهة لهم، ثم إننا نجد في تاريخ الفن الإسلامي ملوكا وأمراء سنيين، استنفدوا وسعهم في رعاية المصورين وتشجعيهم. والخليفة الأموي الذي أمر فبني له في بادية الشام مقر للصيد والراحة - قصير عمرا - وزينت جدرانه وسقفه بالنقوش الجميلة، والخلفاء العباسيون الذين زينوا قصورهم في سامرا بالنقوش المختلفة الألوان، وملوك إيران من أسرة تيمور الذين كانوا من أكبر رعاة النقش والتصوير، فنشأ في بلاطهم بهزاد أعظم المصورين في الإسلام ،
5
وكذلك سلاطين المغول في الهند، وآل عثمان في تركيا، هؤلاء كلهم كانوا سنيين.
فالمسلمون إذن، من سنيين وشيعيين، كانوا في أول أمرهم مجمعين على كراهية النحت وتصوير الأحياء؛ لأنهم ظنوا أن فيهما تقليدا للخالق - سبحانه وتعالى؛ ولأنهم زعموا أن النبي - عليه السلام - قال: «إن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب ولا تصاوير» و«إن أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون» و«إن الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم» ... إلخ.
ومن ثم فقد اتجه المسلمون في زخرفتهم وجهة أخرى؛ فأبدعوا رسوما جميلة يندر تصوير الأحياء فيها، وإنما تتكون من أشكال نباتية وهندسية، يتداخل بعضها في بعض، وتكون زخارف أصبحت من ميزات الفن الإسلامي، كما اتخذوا الكتابة عنصرا أساسيا للزخرفة عندهم، وقد ساعدتهم طبيعة الخط العربي في ذلك أكبر مساعدة.
6
على أن انتشار الإسلام، وثبوت تعاليمه، وبعد الغرب عن الوثنية الجاهلية جعل من اليسير ألا يلتزم المسلمون حرفية الحديث النبوي في تحريم النحت والتصوير، وكان اختلاطهم بالأمم التي غلبوها على أمرها من أكبر العوامل التي ساقتهم إلى أخذ قسط يسير من هذين الفنين.
7
ولا غرو «فقد ورث العرب فيما ورثوا عن الأمم التي دخلت في حوزتهم الفنون والصنائع؛ وأخذوا يحذقونها ويبرعون فيها في مداس المورثين، إذ لم يكن في استطاعتهم أن يرتجلوا فنا كما ارتجلوا لهم ملكا، ومع ذلك لم يمض زمن طويل حتى نبغ فيهم البناءون والحفارون والمصورون والنقاشون؛ دون أن يروا في شيء من ذلك مخالفة لنصوص كتابهم أو معارضة لشريعة نبيهم، ولم يقفوا عند حد الحذق والبراعة بل تعدوه إلى التفنن والإبداع، فنقحوا وصححوا وحذفوا وأضافوا، ثم اخترعوا وابتكروا حتى طبعوا تلك الفنون بالطابع العربي، وصبغوها بالصبغة الإسلامية، حرصا على شخصيتهم أن تفنى، وعلى نبوغهم وعبقريتهم أن يذهبا؛ فأصبح الروح العربي بارزا واضحا يندمج فيه غيره ولا يندمج في شيء؛ ولهذا خلقت العرب لها فنا يوافق ذوقها، ويسير مع طبعها وسرعان ما انتشر في أرجاء تلك المملكة الواسعة انتشار الكهرباء.»
8
وهكذا نرى أن المسلمين عرفوا فن تصوير الأحياء، وكانت عصور ازدهر فيها ذلك الفن، وأعظم ما وصل إلينا من بقايا الصور في صدر الإسلام ما نجده على سقف قصير عمرا وجدرانه، ثم ما عثر عليه الألمان في سامرا.
9
وأما في العصر الفاطمي فلا شك في أن صناعة التصوير أينعت، وكانت لها ثمرات طيبة؛ إذ إننا إذا استثنينا الحاكم بأمر الله، فقد كان خلفاء الفواطم شديدي التسامح الديني، ويدل ما يرويه المؤرخون، ولا سيما المقريزي، على أنهم كانوا يشجعون المصورين ويشملونهم برعايتهم، وكان الوزراء وكبار رجال الدولة يحذون حذو الخلفاء، وطبيعي أيضا أن يقفو أثرهم الأغنياء وأعيان التجار.
وقد أشار المقريزي
10
إلى كتاب في طبقات المصورين؛
11
ولكن هذا الكتاب فقد، ولم يصل إلينا منه شيء مقتبس في كتابات مؤلفين آخرين، اللهم إلا ما رواه المقريزي في هذه المناسبة، وليست هذه الحقيقة المرة مما يشعر بأن المؤرخين والعلماء في عصر المماليك وفي العصور التي تلته كانوا يعنون بالمصورين ورجال الفنون قسطا من عنايتهم بالمحدثين، والأئمة، والشعراء، والأدباء، والفلاسفة، والأطباء والخطاطين. وقد كتب المقريزي عن كتاب طبقات المصورين فقال: إنه كان يسمى «ضوء النبراس وأنس الجلاس في أخبار المزوقين من الناس»، وذلك في الحديث الذي رواه عن المنافسة بين المصورين ابن عزيز وقصير.
وقد دعاه إلى ذكر هذا الحديث وصفه لصور ونقوش ملونة كانت في جامع القرافة الذي بنته على نسق الجامع الأزهر السيدة زوجة الخليفة المعز، على يد الحسن بن عبد العزيز الفارسي المحتسب.
12
وكانت فيه نقوش سماوية اللون وحمراء وخضراء، ورسوم ذات ألوان أخرى، وكانت السقوف مزوقة كلها وكذلك الحنايا وباطن العقود وظاهرها، كل ذلك على يد نقاشين أصلهم من البصرة، ومعهم بنو المعلم النقاشون المصريون، الذين تلقى عنهم هذه الصناعة فنانان آخران، هما الكتامي والنزوك، وكان أمام الباب السابع قنطرة قوس منقوش، في باطن عقدها رسم شادروان (سبيل) مدرج، عليه نقوش ورسوم سوداء وبيضاء وحمراء وخضراء وزرقاء وصفراء، إذا تطلع إليها من وقف في سهم قوسها، رافعا رأسه إليها، ظن أن المدرج المزوق كأنه خشب كالمقرنص، وإذا أتى إلى أحد قطري القوس عند تمام نصف الدائرة، ووقف عند أول القوس منها، ورفع رأسه رأى أن النقوش مسطحة لا نتوء فيها، وإنما إتقانها وإبداعها هما اللذان يسببان هذا الوهم، وكان مثل هذا العمل من آيات الفن عند النقاشين حينئذ. أما الذين صنعوا نقوش هذا العقد فهم بنو المعلم، وكان سائر النقاشين يأتون إليها، ويحاولون عبثا أن يصنعوا مثلها.
13
ومهما يكن من شيء فإن الكلام عن النقوش في جامع القرافة ساق المقريزي إلى ذكر ما حدث لقصير وابن عزيز في أيام اليازوري، وكان هذا الوزير الجليل يعمل على إذكاء نار المنافسة بينهما، ويحرض كل منهما على الآخر، فقد كان قصير مصريا له كفاية وغناء عظيمان في صناعتي النقش والتصوير؛ ولكن أصابه العجب والغرور، وأخذ يشتط في أجرته، فأراد اليازوري أن يخفف من غلوائه، وأرسل فاستدعى ابن عزيز من العراق؛ ليكون منافسا خطيرا له. وفي الحق أنه لم يكن يقل عنه حذقا ومهارة، حتى شبههما المقريزي بابن مقلة وابن البواب في صناعة الخط، وحدث أن جمعهما اليازوري يوما في مجلسه، وقال ابن عزيز: «أنا أصور صورة إذا رآها الناظر ظن أنها خارجة من الحائط.» فقال قصير: «لكن أنا أصورها فإذا نظرها الناظر ظن أنها داخلة في الحائط.» فقال الحاضرون: هذا أعجب. وأمر اليازوري المصورين أن يصنعا ما وعدا به. فرسما الصورتين في حنيتين متقابلتين، وكان رسم قصير راقصة بثياب بيض، فوق أرضية الحنية التي دهنها باللون الأسود؛ فظهرت الراقصة كأنها داخلة في الحنية، بينما كان رسم ابن عزيز راقصة بثياب حمر، فوق أرضية الحنية التي دهنها باللون الأصفر، فظهرت الراقصة كأنها بارزة من الحنية، فاستحسن اليازوري ذلك وخلع عليهما كثيرا من الذهب.
14
وذكر المقريزي أن دار النعمان بالقرافة كان فيها صورة سيدنا يوسف في الجب، وهي من عمل المصور الكتامي، وتمثل يوسف عاريا، ولون الجب أسود يخيل معه الناظر أن جسم يوسف باب مفتوح فيه.
15
وقد مر بنا ذكر الخيمة التي صنعت لليازوري، والتي كانت زخرفتها تمثل صور جميع الحيوانات المعروفة، على أن تزيين الخيام بالصور المختلفة - إما نسجا في قماشها أو نقشا عليه - لم يكن مما أحدثه الفنانون في العصر الفاطمي، فقد وصلتنا قصيدة للمتنبي قالها يمدح سيف الدولة عند رجوعه منصورا إلى أنطاكية بعد حروبه في أملاك الدولة البيزنطية، واستيلائه على حصن برزويه، الذي كان يضرب المثل بمناعته. وفي هذه القصيدة أبيات يصف فيها المتنبي فسطاطا كبيرا أقيم لسيف الدولة، وكان يزينه رسم قيصر الروم أسيرا في يدي سيف الدولة، وحوله كثيرون من الأمراء الروم المهزومين، وكانت حول هذا الرسم صور أخرى لحدائق وحيوانات وطيور. قال المتنبي:
16
عليها رياض لم تحكها سحابة
وأغصان دوح لم تغن حمائمه
17
وفوق حواشي كل ثوب موجه
من الدر سمط لم يثقبه ناظمه
18
ترى حيوان البر مصطلحا به
يحارب ضد ضده ويسالمه
19
إذا ضربته الريح ماج كأنه
تجول مذاكيه وتدأى ضراغمه
20
وفي صورة الرومي ذي التاج ذلة
لأبلخ لا تيجان إلا عمائمه
21
تقبل أفواه الملوك بساطه
ويكبر عنها كمه وبراجمه
22
قياما لمن يشفي من الداء كيه
ومن بين أذني كل قوم مواسمه
23
قبائعها تحت المرافق هيبة
وأنفذ مما في الجفون عزائمه
24
كما أن بعض كتب التاريخ تروي حكاية ظريفة عن الخليفة الفاطمي العزيز بالله. فالمعروف أنه استوزر عيسى بن نسطورس، واستعمل على الشام منشا اليهودي، ويقال: إن عيسى ومنشا اشتهرا بمحاباة اليهود والنصارى، وتعيينهم في مناصب الدولة، وإقصاء المسلمين عنها، فتذمر الأخيرون واحتجوا على تلك المحاباة. ويذكر أبو الفدا (2 / 138) في هذه المناسبة أن «أهل مصر عمدوا إلى قراطيس، فعلوهما على صورة امرأة ومعها قصة، وجعلوها في طريق العزيز، فأخذها العزيز، وفيها مكتوب: «بالذي أعز اليهود بمنشا، والنصارى بعيسى بن نسطورس، وأذل المسلمين بك، ألا كشفت عنا»؛ ولكن غيره من المؤرخين يذكرون أن هذه المظلمة كانت تحملها امرأة رغبها الشاكون بالمال لتعترض الخليفة. ويذكر ابن إياس أن بعض الناس عمد إلى مبخرة من حديد وألبسها ثياب النساء، وزينها بإزار وشعرية، وجعل في يدها قصة على جريدة، وكتب فيها «بالذي أعز النصارى ... إلخ.»
25
ويروي المقريزي أن الخليفة الفاطمي الآمر بأحكام الله بنى في بركة الحبش منظرة من خشب مدهون، وصور لها فيها شعراؤه، ثم طلب من كل واحد منهم قطعة من الشعر في المدح، كتبت بجوار صورته، وجعل إلى جانب كل صورة رف لطيف مذهب، فلما دخل الآمر وقرأ الأشعار، طلب أن توضع على كل رف صرة مختومة فيها خمسون دينارا، وأن يدخل كل شاعر فيأخذ صرته بيده. ففعلوا ذلك .
26
بيد أن النماذج التي وصلت إلينا من صناعات النقش والتصوير والحفر نادرة جدا، ولعل أهمها الآن النقوش المرسومة على الجص، والتي وجدت على جدران الحمام الفاطمي،
27
الذي عثرت عليه دار الآثار العربية سنة (1932) في الحفائر التي تقوم بها للتنقيب عن الآثار بجوار أبي السعود في جنوبي القاهرة،
28
وقد نقلت بقايا هذه الصور إلى دار الآثار العربية، حيث عرضت في القاعة الفاطمية، وهي ملونة بالأحمر والأسود، ولا يزال يزي في إحداها رسم إنسان تحيط برأسه هالة،
29
وعليه عمامة جميلة، وفي يده اليمنى كأس يحمله على النحو الذي نراه كثيرا على نقوش الخزف والأواني الفارسية الساسانية من فضة ونحاس،
30
وفي إحدى الصور الأخرى رسم طائرين متقابلين، تعلوهما فروع نباتية حمراء، وحولها شريط أسود به نقط بيضاء، وفي صورة ثالثة رأس شاب يلتفت إلى اليسار، وفي صورة رابعة أثر رسم سيدة تتدلى عصابة رأسها إلى الجهة اليمنى،
31
وهذه النقوش الجصية تدل في مجموعها على تأثر بأساليب النقش في إيران والعراق.
أما صناعة النحت عند الفاطميين، فالنماذج المعروفة منها ليست كثيرة العدد، وأهمها في دار الآثار العربية كتلة من الرخام (رقم السجل 2951)، عليها رسم سبع، نقش نقشا كبير البروز، ويخيل للرائي أن هذا السبع يزحف ببطء، وتدل دقة الرسم، وبيان العضلات، وصلابة الظهر على أنه من صناعة العصر الفاطمي،
32
فهو الفترة التي بلغ فيها الفنانون المصريون أقصى ما وصلوا إليه في دقة رسم الإنسان والحيوان والطيور.
وفي دار الآثار كذلك لوح من رخام (رقم السجل 6950) عليه زخارف نباتية، بها رسوم حمام وأسماك، وبقايا شريطين من الكتابة الكوفية،
33
وربما كان صانعوها متأثرين بتقاليد فنية مسيحية، إذا تذكرنا ما للحمام والسمك في الزخارف المسيحية من معان رمزية خاصة.
34
ومن مقتنيات الدار أيضا حمالة زير من رخام على شكل سلحفاة (رقم السج 97)، وفي مقدمتها كتابة كوفية، ومنقوش على أحد جانبيها رسم سبعين، لهما جناحان، وكل منهما يولي ظهره الآخر، ودقة رسم هذين الحيوانين، وطراز الكتابة الكوفية يدلان على أن هذه التحفة الأثرية ترجع إلى العصر الفاطمي.
35
وقد عثر في أطلال مدينة المهدية - العاصمة الفاطمية في شمالي أفريقيا - على لوح من المرمر، عليه نقش بارز يمثل رسم أمير في يده كأس وأمامه فتاة تعزف على مزمار،
36
ولا يفوتنا أن نلاحظ أن ملابس الأمير والعازفة وجلستهما، وشكل التاج الذي يلبسه، كل ذلك يدل على التأثر بالأساليب الفنية التي كانت سائدة في بلاد الجزيرة، والتي ورثتها هذه البلاد عن الأساليب الفنية الإيرانية.
37
والواقع أن تونس فيها أنموذج آخر من صناعة النقش في العصر الفاطمي؛ فإن المسجد الجامع بالقيروان لا تزال فيه بقايا سقف، عليه نقوش ترجع إلى عهد المعز أحد أمراء بن زيري
38
في إفريقية، وهي موجودة فوق عوارض خشبية خارجة من إفريز تسنده كوابيل خشبية أيضا.
وقد حلل الأستاذ جورج مارسيه
Georges Marçais
هذه النقوش في كتابه عن الفن الإسلامي،
39
وفي كتاب صغير أصدرته إدارة الآثار في تونس.
40
ومهما يكن من شيء فإن الزخارف المنقوشة على هذه الأخشاب تتألف من فروع نباتية، منفصلة أو متصلة، ومن أشكال هندسية تذكر كلها بالموضوعات الزخرفية الموجودة في الفسيفساء التي تزين قبة الصخرة، وكذلك بالزخارف التي نراها في ضرب من الخزف المصري، محفورة حفرا غير عميق تحت طبقة من الطلاء الملون.
وكذلك كتب الأستاذ جروهمان عن بعض قطع من الأوراق عثر عليها في الأشمونين، ومحفوظة الآن في المكتبة الأهلية بفينا؛ وعليها رسوم ونقوش، ولكن الذي يرجع إلى العصر الفاطمي من هذه الأوراق عدد قليل جدا؛ فإن أكثرها يرجع إلى القرنين الثالث والرابع الهجريين (التاسع والعاشر الميلاديين)، وقد تحدثنا عن جزء منها في كتابنا عن الفن الإسلامي في مصر.
41
ومن القطع التي قد تكون من العصر الفاطمي واحدة عليها رسم عصفورين، وأخرى عليها رسم سبع، وثالثة عليه زخارف نباتية وهندسية.
42
كما أن مجموعة المسيو رالف هراري فيها ورقة عليها صورة إنسان في يده كأس وبجانبه بعض أواني النبيذ، وليس بعيدا أن تكون هذه الصورة من العصر الفاطمي.
43
ومما يؤسف له أننا لا نعرف شيئا عن المخطوطات الفاطمية المزينة بالرسوم والصور، والتي لا ريب في أن زخارفها كانت على جانب كبير جدا من الدقة والجمال والإبداع، ذلك إذا حكمنا بما نعرفه من الزخارف في الخزف والنسيج الفاطمي، ومن الكتابات الكوفية ذات الحروف المزينة بالزهور والنباتات، كما في جامع الحاكم؛ وإن كنا نعرف أن الزخارف على المواد التي يسهل العمل بها؛ كالجبس والخزف أسرع في التطور منها على سائر المواد.
ولعل المخطوطات الفاطمية التي سلمت من الشدة العظمى، أو التي جمعها الوزراء والخلفاء في أواخر العصر الفاطمي، ذهبت ضحية قيام الدولة الأيوبية وترك المذهب الشيعي.
44
وعلى كل حال فإن المتحف البريطاني فيه قرآن خطي
Add 11735
يشتمل على زخارف غاية في الجمال، وأكبر الظن أنه يرجع إلى العصر الفاطمي؛ وإن كانت الآراء تختلف في تحديد تاريخه، ولا تتفق في أنه من صدر العصر الفاطمي أو من آخره، على أن الأستاذ فلوري
S. Flury
استنبط من الأشرطة المزخرفة فيه، ومن الوردات الموجودة في هوامشه أنه صنع في القرن العاشر الميلادي؛ لأن العناصر الزخرفية فيه تشبه العناصر الزخرفية في الجامع الأزهر.
45
وقد ذكر فلوري في هذه المناسبة أننا يمكننا أن نتصور النقوش الإسلامية في مخطوطات القرن الحادي عشر الميلادي، بما نعرفه من النقوش في المخطوطات اليهودية التي ترجع إلى هذا العهد، ولا غرو فإن الشبه عظيم جدا بين النقوش والزخارف فيها، وبين الزخارف التي نراها على سائر التحف الإسلامية في نفس العصر.
46
ودرس فلوري مخطوطا يونانيا في المتحف البريطاني، وأشار إلى الزخارف الإسلامية الموجودة فيه، والتي يرجع تاريخها إلى النصف الثاني من القرن الحادي عشر الميلادي، ومن صور هذا المخطوط واحدة تمثل تتويج سيدنا داود ؛ وفيها لوحة مذهبة بيضية الشكل لها إطار من فروع نباتية عربية، وفي وسطها كتابة كوفية غير مقروءة؛ مما يدل على أن المصور كان يعرف شيئا من التحف الإسلامية، ويعجب بها إعجابا يحمله على تقليدها.
47
ومهما يكن من شيء فإن الأشخاص الموجودين في صور هذا المخطوط على سحنتهم مسحة غير إسلامية؛ ولكن فيه رسوما ونقوشا نباتية وهندسية أخرى تشبه كل الشبهه الموضوعات الزخرفية التي نراها في التحف الخشبية وفي المنسوجات الفاطمية، وفي بعض صناديق العاج الصغيرة المصنوعة في صقلية أو في مصر إبان العصر الفاطمي، وربما أمكن تفسير وجود هذين الطرازين من النقوش (البيزنطي والإسلامي) في المخطوط بأن مصورا بيزنطيا قد اشتغل في تذهيبه وزخرفته، كما اشتغل فيها مصور آخر له دراية بأساليب الفنون الإسلامية حينئذ، ولا سيما أن الفرق بين الصور ليس ملحوظا في طراز النقوش فحسب، بل في إبداعها ودرجة إتقانها على العموم، وإذا لاحظنا أن المخطوط متعلق بالفلك، وأن المسلمين كانت لهم شهرة ذائعة في هذا الميدان أمكننا القول بأن الصور الإسلامية الطراز منقولة عن مخطوط عربي في الفلك.
48
وعلى كل حال فقد كانت القاهرة في القرن الخامس الهجري (الحادي عشر) مركزا رئيسيا للصناعات الفنية المختلفة؛ ومن المحتمل أنها كانت تصدر إلى سائر أنحاء الشرق الأدنى كثيرا من المخطوطات المذهبة والمصورة، تضاهي في الجمال تحفة وصلت إلينا، وهي إنجيل من القاهرة تاريخه سنة (1010م) وغني بزخارفه وألوانه الزرقاء والحمراء والذهبية.
49
وقد حصلت دار الآثار العربية على تحفة كشفها الأستاذ فييت عند أحد تجار العاديات في القاهرة، وهي ورقة عليها رسم رجلين في إطار من زخرفة مجدولة وفوقهما شريط من كتابة بالخط الكوفي ذي الزخارف النباتية نصها: «عز وإقبال للقائد أبي منص.»
وبين الفارسين زخرفة نباتية فاطمية الطراز، فيها أوراق شجر مزهرة، ورسم أربعة طيور جميلة، والفارس الأيمن في يده رمح وعلى رأسه عمامة في طرفها شريط عليه كلمة «بركة»، وله ذؤابتان وشارب يتدلى، والفارس الأيسر في منطقته سيف عليه عبارة «عز وإقبال» وفي يده رمح، وعلى رأسه غطاء رأس غريب الشكل، كما تتدلى من وسطه أشرطة من الجلد أو النسيج تنتهي بحلي هلالية الشكل، وكلا الفارسين تحيط برأسه هالة.
50
وقد ألقى الأستاذ فييت في المجمع العلمي المصري بحثا عن هذا الرسم في أبريل سنة (1937)، وتفضل فسمح لنا بأن نجعله بين لوحات هذا الكتاب.
51
ولن يفوتنا أن نتحدث هنا عن الأثر الذي كان للفنون التصويرية الفاطمية في تطور الفن بجزيرة صقلية، بعد أن أشرنا إلى ذلك في أول هذا الكتاب.
والمعروف أن الأمير الأغلبي زيادة الله نجح سنة (212ه/827م) في الاستيلاء على تلك الجزيرة، وطرد البيزنطيين منها.
52
ولما خلف الفاطميون بني الأغلب في شمالي أفريقيا أتموا إخضاع صقلية، وجعلوها ولاية إسلامية ظلت تحتفظ رغم ذلك بكثير من مظاهر الاستقلال؛ نظرا لطبيعة العرب الذين كانوا هاجروا إليها منذ البداية، واتخذوها وطنا لهم، وكانوا لا يرتاحون إلى تدخل الحكام المبعوثين من إفريقية في شئونهم الخاصة، أو في أمور البلد الذي كانوا يعتقدون بأحقيتهم في حكمه والسيطرة على شئونه. ولما رحل الفاطميون إلى مصر أخرجوا صقلية من دائرة اختصاص الأمراء الذين فوضوا إليهم حكم إفريقية، وتركوها تحت سيطرة أسرة عربية الأصل كان منها ولاتهم على الجزيرة في ذلك الوقت.
ولكن المنافسات بين العرب في صقلية والحروب الأهلية فيها، ثم ظهور النورمنديين، كل هذا قضى على سيادة المسلمين في غربي البحر الأبيض المتوسط، وانتهى الأمر باستيلاء النورمنديين على صقلية سنة (1089م)، ولكن المدنية الإسلامية كانت قد رسخت قدمها في البلاد،
53
وبقيت الأساليب الفنية الإسلامية غالبة فترة طويلة من الزمن، وانتشرت من صقلية إلى جنوبي إيطاليا وسائر أنحاء القارة الأوروبية؛ لأن النورمنديين اتبعوا سياسة تسامح ديني عظيم وعملوا على اتخاذ عادات البلاد والمساواة بين رعاياهم من العرب والبيزنطيين وسائر المسيحيين.
54
وقد جاء في رحلة ابن جبير كثير مما يؤيد ازدهار الثقافة الإسلامية في صقلية تحت حكم النورمنديين، فقد كتب هذا الرحالة المسلم الذي زار صقلية في الربع الأخير من القرن السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي): «ملكها غليام ... وهو كثير الثقة بالمسلمين، وساكن إليهم في أحواله، والمهم من أشغاله حتى إن الناظر في مطبخه رجل من المسلمين ...
وهو يتشبه في الانغماس في نعيم الملك، وترتيب قوانينه، ووضع أساليبه، وتقسيم مراتب رجاله، وتفخيم أبهة الملك، وإظهار زينته بملوك المسلمين ... ومن عجيب شأنه المتحدث به أنه يقرأ ويكتب بالعربية، وعلامته على ما علمنا به أحد خدمته المختصين به: «الحمد لله حق حمده» وكانت علامة أبيه: «الحمد لله شكرا لأنعمه.»
55
وقال ابن جبير في وصفه عاصمة صقلية: «وللمسلمين بهذه المدينة رسم باق من الإيمان يعمرون أكثر مساجدهم، ويقيمون الصلاة بأذان مسموع، ولهم أرباض قد انفردوا فيها بسكناهم عن النصارى، والأسواق معمورة بهم وهم التجار فيها، ولا جمعة لهم بسبب الخطبة المحظورة عليهم، ويصلون الأعياد بخطبة، دعاؤهم فيها للعباسي، ولهم بها قاض يرتفعون إليه في أحكامهم، وجامع يجتمعون للصلاة فيه ... وأما المساجد فكثيرة وأكثرها محاضر لمعلمي القرآن.»
56
ومهما يكن من شيء فإن تأثير الأساليب الفنية الإسلامية ظاهر في بعض أبنية نورمندية بصقلية كقصر القبة
La Cuba ، الذي بناه وليم الثاني نحو سنة (1180م)، وتذكر بعض عناصره بقصور الأمراء في قلعة بني حماد، وكقصر العزيزة
La Ziza
الذي بدأه وليم الأول، وأتمه وليم الثاني؛ وكذلك كنيسة المارتورانا، والكابلا بالاتينا، فإن في سقف الكنيسة الأخيرة، وفي سقف آخر محفوظ بالمتحف الأهلي في بلرمو زخارف فيها حيوانات، وفروع نباتية، وأشكال هندسية فاطمية الطراز؛ وكذلك أبواب كنيسة المارتورانا بزخارفها في الخشب تشبه كل الشبه أبواب جامع الحاكم.
57
على أن الذي يعنينا هنا بنوع خاص إنما هو ما في الكابلا بالاتينا من نقوش آدمية، وحيوانية، ونباتية وهندسية، غطى بها الفنانون في عصر روجر الثاني كل الفراغ في السقف؛ فنجد مناظر الرقص والطرب والموسيقى، ومناظر الصيد، والمصارعة، ولعب الشطرنج، ونرى السباع والجمال، والطواويس، وسائر الطيور؛ كما نلاحظ طيورا لها رءوس آدمية، وغير ذلك من الموضوعات الزخرفية التي نمت وترعرت في الشرق الأدنى، ولا سيما في فارس والعراق، ثم وصلت إلى صقلية عابرة في مصر الفاطمية، القنطرة العظمى بين الشرق والغرب في ذلك الحين.
58 (2) التجليد
لم يصل إلينا، لسوء الحظ، عدد من جلود الكتب، يكفي لأن ندرس في شيء من الدقة والتفصيل نشأة صناعة التجليد عند المسلمين؛ فجلود الكتب الإسلامية المحفوظة في المتاحف والمجموعات الأثرية، جلها يرجع إلى عصر المماليك في مصر، أو إلى قبل هذا العصر بقليل في بعض البلاد الإسلامية الأخرى.
59
وقد وصف الأستاذ جروهمان في الكتاب الإسلامي
The Islamic Book
الذي ألفه مع السير توماس أرنولد
Sir Tomas Arnold
بعض قطع من جلود كتب محفوظة بالمكتبة الأهلية في مدينة فينا، وأتى بصورها مع رسوم جديدة لما يظن أنها كانت عليه في حالتها الأولى.
وبعض هذه الجلود يمثل الصناعة القبطية في أوائل العصر العربي، وبعضها يرجع إلى القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي)، ويمكننا أن نرى فيه ما كان لصناعة التجليد القبطية من تأثير بالغ في نشأة هذه الصناعة عند المسلمين.
60
والواقع أن المسلمين عامة مدينون للمسيحيين بمعرفة المصحف (أي: ما جمع من الصحف بين دفتي كتاب مشدود)، كما قال الجاحظ نفسه.
61
فلا ريب أن النصارى في الشام والجزيرة وبلاد العرب الجنوبية، كان لديهم من الكتب الدينية المجلدة ما أتيح لبعض العرب رؤيته، والإعجاب بالجلود التي كانت تحفظ ما فيها حق الحفظ، ومن الطبيعي أن يفكر المسلمون في اتباع الطريقة نفسها، وفي جمع صحف القرآن بين لوحين لحفظها، ثم في استخدام الغلف من الخشب قبل أن يتاح لهم تعلم صناعة الجلود عن القبط وإتقانها؛ لتأخذ عنهم مدينة البندقية بعد ذلك كثيرا من أساليبها، وتنشرها في سائر أنحاء القارة الأوروبية.
62
ولكن بعض الجلود التي كتب عنها الأستاذ جروهمان ترجع إلى العصر الفاطمي، وأهمها واحدة يستنبط من طراز الكتابة في الورق المقوى (الدشت)، الذي لصقت فوقه الجلدة أنها من القرن الرابع الهجري (العاشر والحادي عشر الميلادي)، وهي خطيرة الشأن؛ لأن تأثير الصناعة القبطية ظاهر فيها، كما أن فيها أيضا الأساليب الفنية في صناعة التجليد الإسلامية كما نراها في العصور المتأخرة، فلا يزال باقيا بها قطعة من «اللسان» الذي يطوى لحماية الأطراف الأمامية من الكتاب، وأكبر الظن أن اللسان كان في هذه الجلدة مثلث الشكل، والجلدة نفسها من جلد عجل مدبوغ قاتم اللون، سمكها نحو مليمتر واحد، وذات حجم متوسط، وأما زخرفتها فمحفورة ومضغوطة، وقوامها إطار مملوء بورق شجر مرسوم رسما تقليديا مهذبا،
63
وأحيط هذا الإطار بمستطيل، فيه رسم شريط مجدول، به نقطة في كل مسافة من المسافات الصغيرة التي يكونها الشريط في سيره.
64
وهناك قطع أخرى ليست في حالة جيدة من الحفظ تسمح بدارستها، أو فهم شيء يذكر من صورها. وحسبنا هنا أن نلفت النظر إلى ما فيها من زخارف مجدولة، ومن وريقات شجر مهذبة تقليدية، تتخذ أحيانا شكل القلب، وفي بطانة جلدة منها نرى آثار رسوم هندسية ونباتية، ورسم طائر صغير ووريدات جميلة.
65
وعلى كل حال فإنه من الصعب التمييز بين جلود العصر الفاطمي، والجلود التي صنعت في القرن الذي سبق قدوم الفواطم إلى مصر؛ فإن التطور كان بطيئا، وقد استقرت أساليب الصناعة في العصر الفاطمي، وازدهر هذا الفن طبقا لناموس العرض والطلب.
66
ويجدر بنا في هذه المناسبة أن نشير إلى جلود الكتب التي كشفت منذ بضع سنين في تونس، ويرجع تاريخها إلى عصر بني الأغلب، وتشبه في زخارفها جلود الكتب القبطية. وقد ألقى الأستاذ جرج مارسيه بحثا عن هذه الجلود التونسية في مؤتمر اللغة والآداب والفنون العربية الذي عقد بتونس في ديسمبر سنة (1931)، والمنتظر أن يصدر عنها بحثا مفصلا بالاشتراك مع المسيو بوانسو
M. L. Poinssot
مدير الآثار والفنون في تونس.
67
وكشف الأستاذ ريكار
M. Prosper Ricard
في مكتبة مدرسة أبي يوسف بمراكش نوعا من جلود الكتب الإسلامية، التي يرجع تاريخها إلى منتصف السابع الهجري (القرن الثالث عشر الميلادي)، وفي زخارفها بعض العناصر التي رأيناها في الجلود التي صنعت في العصر الطولوني وعصر الأخشيديين والفاطميين.
68
ومن الكتب العربية في فن التجليد كتاب «صناعة تسفير الكتب وحل الذهب» للفقيه أبي العباس أحمد بن محمد السفياني، انتهى من تصنيفه عام (1029ه/1619م) في بلاد المغرب، وقد طبعه الأستاذ ريكار في فارس سنة (1919م) مصحوبا بتفسير الكلمات المصطلح عليها في صناعة التجليد. وليس هذا الكتاب خطير الشأن من ناحية تاريخ الفن؛ ولكن ما فيه من المصطلحات الصناعية والموضوعات المختلفة تجعله وثيقة ثمينة؛ ولا سيما في إحياء المترادفات العربية الصحيحة للمصطلحات الأوروبية في الفن والصناعة. (3) المنسوجات
كانت عناية الخلفاء الفاطميين عظيمة بصناعة النسيج. وفي الحق أن المصريين كانوا حاذقين فيها منذ العصور القديمة، وأنها تقدمت على يدهم في العصر القبطي، متأثرة في الوقت نفسه بالأساليب الزخرفية الساسانية والبيزنطية، وظل التقدم مضطردا في العصر الإسلامي؛
69
إذ بقيت الصناعة في يد أهل البلاد سواء اعتنقوا الإسلام أو ظلوا على دين المسيح.
70
وقد تحدثنا في كتاب الفن الإسلامي عن صناعة النسيج في مصر منذ فتحها العرب حتى نهاية العصر الطولوني، وتكلمنا عن احتكار الحكومة لها إلى حد كبير، وعن نظام الطراز: طراز الخاصة حيث كانت تصنع المنسوجات للخليفة والأقمشة التي كان يخلعها على كبار رجال الدولة وأفراد حاشيته، وطراز العامة: الذي كان يشتغل فضلا عن هذا بإنتاج المنسوجات اللازمة للشعب. أما المصانع الأهلية فكانت تسير جنبا إلى جنب مع الطراز الحكومي، وتثقلها الحكومة بضرائب فادحة ورقابة شديدة؛
71
كما يظهر مما كتبه المقدسي في هذا الشأن.
72
أما في العصر الفاطمي فقد بلغ نظام الطراز من الجودة والدقة درجة زادت كثيرا في كمية منتجاته وفي نفاسة نوعها، وقد كانت هناك أصناف من الأقمشة الغالية المشغولة بالحرير لا تنسج إلا للخليفة نفسه؛ ولكن أفراد الرعية كانوا يحصلون على قطع أخرى نفيسة جدا، فكانت الجلاليب والأقمصة والعمائم والأحزمة تصنع من أقمشة غالية، تزينها أشرطة مشغولة بالحرير، أخذ حجمها في الزيادة حتى صارت في القرن السادس الهجري (الثاني عشر) تغطي أكثر الأرضية الكتانية في الأقمشة.
وكثيرا ما أمر الخلفاء بصناعة منسوجات فاخرة لإهدائها إلى الأمراء والملوك الذين كانوا يخطبون ودهم أو تربطهم بهم علاقات الصداقة وحسن الجوار، وقد كان الخلفاء الفاطميون يعلمون حق العلم أن قياصرة بيزنطة والأمراء والحكام في أوروبا الجنوبية يعجبون بالمنسوجات المصرية إعجابا شديدا.
وقد روى المقريزي أن دار الوزير يعقوب بن كلس حولت بعد وفاته إلى مصنع حكومي للنسج وصارت تعرف باسم دار الديباج.
73
وكتب أيضا في كلامه عن منظرة الغزالة أنها كانت مسكنا للأمير أبي القاسم بن المستنصر، ثم أصبحت بعد ذلك مقرا لناظر الطراز وكانت ميزانيتها في وزارة الأفضل بن بدر الجمالي واحدا وثلاثين ألف دينار؛ منها خمسة عشر ألفا للقماش نفسه، وستة عشر ألفا للذهب الذي يستخدم في نسجه، وزادت هذه الميزانية في عصر الوزير المأمون فبلغت ثلاثة وأربعين ألفا وتضاعفت في الأيام التي كان الخليفة الآمر يحكم فيها بنفسه.
ونقل المقريزي عن ابن الطوير حديثا طويلا عن صاحب الطراز وحقوقه وواجباته ، وهذا نصه:
الخدمة في الطراز، وينعت بالطراز الشريف، ولا يتولاه إلا أعيان المستخدمين من أرباب العمائم والسيوف،
74
وله اختصاص بالخليفة دون كافة المستخدمين، ومقامة بدمياط وتنيس وغيرهما،
75
وجارية أمير الجواري،
76
وبين يديه من المندوبين مائة رجل لتنفيذ الاستعمالات بالقرى،
77
وله عشارى دتماس
78
مجرد معه،
79
وثلاثة مراكب من الدكاسات،
80
ولها رؤساء ونواتية لا يبرحون، ونفقاتهم جارية من مال الديوان، فإذا وصل بالاستعمالات الخاصة
81
التي منها المظلة،
82
وبدلتها، والبدنة،
83
واللباس الخاص الجمعي،
84
وغيره هيئ بكرامة عظيمة، وندب له دابة من مراكيب الخليفة، لا تزال تحته حتى يعود إلى خدمته، وينزل في الغزالة على شاطئ الخليج ... ولو كان لصاحب الطراز في القاهرة عشرة دور لا يمكن من نزوله إلا بالغزالة، وتجري عليه الضيافة كالغرباء الواردين على الدولة، فيتمثل بين يدي الخليفة بعد حمل الأسفاط المشدودة على تلك الكساوي العظيمة،
85
ويعرض جميع ما معه وهو ينبه على شيء فشيء بيد فراشي الخاص في دار الخليفة مكان سكنه، ولهذا حرمة عظيمة؛
86
ولا سيما إذا وافق استعماله غرضهم.
فإذا انقضى عرض لك بالمدرج الذي يحضره، سلم لمستخدم الكسوات، وخلع عليه بين يدي الخليفة باطنا،
87
ويخلع على أحد كذلك سواه ثم ينكفئ إلى مكانه، وله في بعض الأوقات التي لا يتسع له الانفصال نائب يصل عنه بذلك غير غريب عنه، ولا يمكن أن يكون إلا ولدا أو أخا، فإن الرتبة عظيمة، والمطلق له من الجامكية
88
في الشهر سبعون دينارا، ولهذا النائب عشرون دينارا؛ لأنه يتولى عنه إذا وصل بنفسه، ويقوم إذا غاب في الاستعمال مقامه. ومن أدواته
89
أنه إذا عبى ذلك عن الأسفاط استدعى والي ذلك المكان، ليشاهده عند ذلك، ويكون الناس كلهم قياما لحلول نفس المظلة وما يليها من خاص الخليفة في مجلس دار الطراز وهو جالس في مرتبته، والوالي واقف على رأسه خدمة لذلك، وهذا من رسوم خدمته وميزتها.
90
وليس غريبا أن يعنى الخلفاء بصناعة النسج إلى هذا الحد؛ فقد كانت للبلاد تقاليد فنية قديمة في هذا الميدان، وكان الخلفاء في حاجة ماسة إلى كميات هائلة من المنسوجات لأنفسهم، ولرجال بلاطهم، وللكسوة الشريفة،
91
وللخلع التي كانوا يمنحونها أتباعهم، ورجال حكومتهم في كثير من المناسبات على نحو ما تفعله الحكومات في العصور الحديثة من منح الرتب والأوسمة. ولم نذهب بعيدا ومنح الخلع النفيسة لرجال الدين لا يزال قائما في بعض الدول الإسلامية حتى الآن؟
وقد تحدث ناصر خسرو في وصف رحلته عن مدينة تنيس، وأعجب بما كان ينسج فيها من قصب
92
ملون، تصنع منه العمائم والطواقي وملابس النساء، ولا ينسج في أي مكان آخر قصب يوازيه في الجودة والجمال، وذكر أيضا أن القصب الأبيض كان يصنع في دمياط، وأن الذي كان ينسج في طراز الخاصة أي: في مصانع السلطان كان لا يباع ولا يستطيع أحد الوصول إليه؛ حتى إنه ليروى أن أمير إقليم فارس في بلاد العجم أرسل عشرين ألف دينار إلى تنيس؛ ليشتري له بها حلة كاملة من النسيج السلطاني؛ ولكن رسله ظلوا في المدينة بضع سنين دون أن يوفقوا في المهمة التي ندبوا لها.
93
وأعجب ناصر خسرو كل الإعجاب بمهارة النساجين الذين كانوا يشتغلون في المصانع السلطانية،
94
وذكر أن واحدا منهم نسج قطعة من الديباج لتصنع منها عمامة السلطان، فمنح خمسمائة دينار. وكتب كذلك أن تنيس كان ينسج فيها دون غيرها من بلاد العالم قماش البوقلمون الذي يتغير لونه باختلاف ساعات النهار، ويصدره المصريون إلى بلاد الشرق والغرب.
ونحن نعرف أن مدينة تنيس كانت تقع على جزيرة في بحيرة المنزلة، ويمكن الوقوف على أهميتها في تاريخ الصناعات الإسلامية في العصور الوسطى من الحكاية التي كان الشعب يرددها والتي نقلها ناصر خسرو، وفيها يزعم القوم أن ملك الروم طلب إلى الخليفة أن يمنحه مدينة تنيس، على أن يأخذ بدلها مائة مدينة رومية؛ ولكن المصريين - الذين عرفوا بأن سواد الشعب فيهم يعتقد بأن مصر جنة الله في أرضه - كانوا يصرون على القول بأن الخليفة أبى قبول هذا الطلب!
وقد ذكر ناصر خسرو أن الجزيرة التي كانت تنيس مبنية فوقها، كانت تحيط بها سفن كثيرة أغلبها من سفن الحكومة، كما كانت فيها حامية عسكرية دائمة على قدم الاستعداد لصد غارات الروم أو الفرنج، ويروون أن الضرائب التي كانت تدخل يوميا خزانة السلطان من مدينة تنيس ألف دينار ذهب يجمعها شخص واحد، ويوصلها إلى خزينة السلطان، دون أن يرفض أحد دفع ما عليه من الضرائب، أو يجبي من أحد أكثر مما يستحق أن يفرض عليه. وقد لاحظ ناصر خسرو أن العمال الذين كانوا ينسجون القصب والبوقلمون في المصانع الحكومية كانوا يتقاضون أجورا طيبة، ولم يكن ديوان الخليفة يظلمهم، كما كان الحال في الأقاليم الإسلامية الأخرى.
وكانت أكثر ما تقوم صناعة النسج في الجهات التي يكثر فيها الأقباط،
95
وكان الكتان والقطن ينسجان في أنحاء عديدة من الديار المصرية ولا سيما في تنيس والإسكندرية وشطا
96
ودمياط ودبيق والفرما بالدلتا، واشتهرت أيضا بنسجهما مدينة البهنسا في مصر الوسطى وكذلك مدينة دميرة. أما الأقمشة المنسوجة بالحرير فكانت تصنع في الإسكندرية وفي دبيق. وكما كانت إخميم وأسيوط مشهورتين بصناعة النسج في العصر القبطي، فقد ظلتا كذلك في العصر الإسلامي، وكانتا تصدران إلى بيزنطة وإلى روما والجمهوريات التجارية في إيطاليا كثيرا من الأقمشة النفيسة التي كان يوهب جزء كبير منها إلى الكنائس والأديرة، فيستخدم في عمل بعض الملابس أو تحفظ فيه بعض التحف التذكارية، وإلى هذا يرجع الفضل في بقاء بعض التحف المشهورة في أوروبا.
وعلى كل حال فقد اشتهرت بعض بلدان الصعيد، ولا سيما أسيوط، بنسج الكتان حتى لقد أعجب ناصر خسرو بما كان ينسج منه في تلك المدينة، وقال: إن الإنسان يظنه من الحرير.
97
على أننا لا نعرف تماما هل اشتغلت المصانع المصرية في العصر الفاطمي بنسج الحرير الصافي، أو أن ذلك لم يكن قبل عصر المماليك.
98
وكانت أسماء الخلفاء تنسج في الأقمشة الثمينة بلحمة من الذهب أو الفضة أو الخطوط المتعددة الألوان تمجيدا لهم، وإشارة بذكرهم، ودليلا على أنها صنعت في عصرهم، ووثيقة لمن خلعت عليه، تدل بنوعها على درجته ووظيفته، وتشير إلى رضاء الأمير عنه.
99
وقد تكون العبارة المنسوجة في الطراز طويلة كالتي نراها في قطعة من الشاش بمتحف فكتوريا وألبرت ونصها:
بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلا الله، محمد رسول الله، علي ولي الله صلى الله عليه ... المستنصر بالله أمير المؤمنين - صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين وأبنائه المنتظرين.
100
ونجد مثل هذه الكتابة على كثير من قطع النسيج الفاطمية في دور الآثار والمجموعات الأثرية المختلفة،
101
كما قد يكون الطراز قاصرا على عبارات تبريك نحو: «العز الدائم والصبر والدولة لصاحبه.»
102
وعلى كل حال فإن كتابة اسم الخليفة أو الأمير في الطراز شارة من شارات الملك أو الإمارة كنقش اسمه على السكة والدعاء له في الخطبة، ولكن الخليفة كان يأذن بكتابة اسم وزيره على الطراز
103
تكريما له أو خشية منه وتسليما بحقيقة واقعة هي استيلاء الوزير على السلطان الفعلي في البلاد، فالعزيز بالله وضع في الطراز اسم وزيره يعقوب بن كلس، وكذلك يظهر من قطعة نسيج محفوظة في مكتبة الفاتيكان أن الوزير الأفضل حصل من الخليفة المستعلي بالله على مثل هذا الحق، كما يتجلى ذلك أيضا من «ملاءة سانت آن» في مدينة آبت
Apt
التي سيأتي الكلام عنها.
ومع ذلك فقد حدث أن بعض الأمراء كانت له مصانع نسيج أخرجت أقمشة عليها اسمه: ففي متحف فكتوريا وألبرت بلندن قطعة من الحرير الأصفر القائم من طراز العراق في منتصف القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي)، وفيها شريطان من الكتابة نصهما واحد وهو: السيد الأجل نصر الدولة أبو نصر أطال الله بقاءه.
104
وهناك بعض قطع فاطمية من هذا النوع، وردت في سجل الكتابات التاريخية العربية
Répertoire Chronolgique d’Epigraphie Arabe .
ومن العبارات التي تراها مكتوبة على الأقمشة الفاطمية: «الملك لله» و«نصر من الله» و«العز من الله» و«بسم الله الرحمن الرحيم الملك الحق» و«ما شاء الله كان» و«العز الدائم».
105
ومما يدل على أهمية مصانع النسج في مصر ودخل الحكومة منها ما ذكره المقريزي من أن الضرائب التي جمعت في يوم واحد من تنيس والأشمونين ودمياط في عهد الوزير يعقوب بن كلس بلغت مائتي ألف دينار. ويعلق المقريزي على هذه الرواية بقوله: «وهذا شيء لم يسمع قط بمثله في بلد.»
106
على أننا في الواقع لا نستطيع أن نعرف تماما كيف كانت ملكية هذه المصانع، ولا سيما ما يعرف منها باسم طراز العامة، ولا غرو فإننا نعرف عن «الطراز»
107
حقائق متفرقة؛ ولكن تغيب عنا أشياء لا بد من معرفتها، إذا أردنا أن نتبين تماما علاقة الحكومة بصناعة النسج الأهلية والضرائب التي كانت تثقلها بها، وازدهار هذه الصناعة على الرغم من ذلك كله، وانخفاض أجور العمال، وتسرب الأرباح إلى خزائن الحكومة، أو إلى جيوب موظفيها، أو جيوب أصحاب المصانع من علية القوم، أو إذا أردنا أن نعرف إلى أي حد كانت تبلغ رقابة الحكومة على صناعة النسج في مراحلها المختلفة، وهل كانت الأقمشة تختم بخاتم رسمي، ولا يتولى البيع والتجارة إلا تجار تعينهم الحكومة، يقيدون ما يبيعونه في سجلات رسمية، كما كان لف الأقمشة وحزمها وربطها وشحنها يقوم به عمال حكوميون يتناول كل منهم ضريبة معينة.
ومهما يكن من شيء فإن نظام الطراز انتشر في سائر أنحاء العالم الإسلامي، وكان لجزيرة صقلية نصيبها منه؛ فازدهرت صناعة النسج فيها على يد حكامها من المسلمين، حتى لقد يصعب كثيرا التمييز بين الأقمشة المنسوجة في مصانعها والأقمشة المنسوجة في مصر وسورية والأندلس. وإن صح ما ذكره المقريزي من أن الأميرة عبدة ابنة المعز لدين الله تركت فيما خلفته «ثلاثين ألف شقة صقلية»،
108
فإن ذلك يدل على كثرة ما كانت تنتجه المصانع الصقلية، ويثبت أن منتجاتها كانت تقدر في مصر حق قدرها؛ فكان القوم يستوردون منها بعض الأقمشة النفيسة.
وقد ظلت صناعة النسج بصقلية زاهرة في عصر النورمنديين، وتمت مصانع النسج في القصر الملكي، ويشير ابن جبير في رحلته إلى فنى اسمه يحيى من فتيان الطراز، كان ممن يطرزون بالذهب في المصانع الملكية بعاصمة جزيرة صقلية،
109
على أن المشاهد في الموضوعات الزخرفية على الأقمشة المنسوجة بصقلية في العصر النورمندي هو أنها ذات صلة وثيقة بالأساليب الزخرفية البيزنطية؛ وذلك بتأثير النساجين اليونانيين الذين أسرهم روجر الثاني في إحدى الغارات البحرية في بحر الأرخبيل سنة (1147م)، وألحقوا بمصانع النسج في القصر الملكي، وأمرهم بأن يعلموا رعاياه أسرار صناعتهم. واتسع نطاق صناعة النسج في صقلية،
110
حتى أقبلت سفن البنادقة على الاتجار بمنتجاتها وتوزيعها في العالم المسيحي وعلى الصليبيين.
111
وقد بدأت بشائر العصر الفاطمي تظهر في صناعة المنسوجات الإسلامية في أواخر القرن الرابع الهجري (العاشر)؛ فأخذ الميل يزداد إلى الرقة في الزخارف والإبداع في تنسيقها، ووصل الفنانون الفاطميون إلى حد الإتقان في جمال الزخرفة، وكذلك سارت الألوان تزداد تدريجيا في الهدوء والتناسق والائتلاف، أما الكتابة فكانت تشبه أولا طراز الخليفة المطيع لله، ثم تطورت تدريجيا حتى أصبح فيها كثير من الرشاقة، كما كبر حجم الحروف أحيانا، وسارت سيقانها تتصل ببعضها، وينتهي كثير منها في أعلاه بزخارف صغيرة على شكل وريقات شجر تقليدية.
ولعل أكثر الأنواع المعروفة من المنسوجات في العصر الفاطمي هي الأنواع الآتية:
الأول:
وهو أقدمها، وقوام زخارفه أشرطة من الكتابة، توازيها أشرطة أخرى بها جامات سداسية أو بيضية الشكل أو معينات قد تتداخل في بعضها، وفيها رسم حيوان أو طائر أو رسم حيوانين أو طائرين متقابلين أو يولي أحدهما الآخر ظهره. وقد كانت هذه الأشرطة في البداية ضيقة وقليل عددها؛ ولكنها منذ القرن الرابع الهجري (العاشر) أخذت في الاتساع، وأخذ عددها في الازدياد.
الثاني:
عظم الشغف به في القرن الخامس الهجري (الحادي عشر) وألوانه غير زاهية، ويسود فيه لون ذهبي، وتزينه أشرطة وجامات متداخلة، قد يكثر عددها وفيها أيضا رسوم وحيوانات أو طيور تقليدية أو أشكال آدمية.
112
وتكاد الأقمشة التي نسجت في هذا القرن تكون أبدع ما أنتجته المصانع المصرية في حكم الدولة الفاطمية؛ ولا غرو فهو العصر الذهبي في تاريخ هذه الدولة.
الثالث:
يرجع تاريخه إلى أواخر القرن الخامس الهجري (الحادي عشر)، وتتطور فيه الزخرفة؛ فترى إلى جانب العناصر القديمة عناصر أخرى جديدة؛ إذ يقل استخدام الجامات في الزخرفة، وتحل محلها شبكات من الأشرطة، تتداخل في بعضها وتزينها معينات صغيرة وتمزج ألوانها، وتوزع بطريقة يخيل معها للرائي أن في الزخارف شيئا من البروز.
113
الرابع:
يمثل القرن السادس الهجري (الثاني عشر)، ويسوده اللون الأزرق الغامق، وتبدأ فيه الحروف الكوفية في الاستدارة لتصبح حروفا نسخية؛ كما تظهر في الزخارف الفروع النباتية والأرابسك والحروف المستديرة التي لا تقرأ والتي يظهر أن الغرض منها زخرفي بحت.
والملاحظ في عناصر الزخرفة على المنسوجات الفاطمية أن الحروف تطورت تطورا كبيرا فقدت معه في النهاية خواصها وأصبحت خطوطا لا تقرأ بل تتكرر، لا لغرض إلا الحلية والزينة؛ كما أن رسوم الحيوانات والطيور التي بلغت أحيانا درجة عظيمة من الإتقان، ومحاكاة الطبيعة بأمانة كبيرة، تطورت أيضا حتى فقدت خواصها، وصارت أشكالا تقليدية مهذبة لا تمت إلى الطبيعة بصلة كبيرة.
ولعل خير وسيلة لتفهم مزايا المنسوجات الفاطمية ومظاهرها أن ندرس بعض القطع الشهيرة المحفوظة في دار الآثار العربية، أو في المتاحف الأجنبية والأديرة والكنائس والمجموعات الخاصة.
وإننا نظن أن أبدع المحفوظ منها في متاحفنا بالقاهرة قطعتان من المجموعة التي أهداها المغفور له الملك «فؤاد الأول» إلى الدار، وهما باسم الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله.
والأولى (رقم السجل 16م) من شاش أسود، وعليها كتابة كوفية بحروف كبيرة في سطرين متوازيين، وأحدهما مقلوب، ويقرأ في عكس اتجاه الآخر. ونص السطر العلوي:
بسم الله الرحمن الرحيم نصر من الله لعبد.
ونص السطر السفلي:
الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين - صلوات الله عليه وعا.
وتحت الكتابة شريط أصفر فيه رسم مكرر لطائرين متقابلين باللون الأزرق.
114
والقطعة الثانية (رقم السجل 15م) من شاش أسود أيضا، وعليها كتابة نصها في كل من السطرين:
بسم الله الرحمن الرحيم، نصر من الله لعبد الله ووليه المنصور أبي علي الإمام الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين.
وفوق الكتابة شريط من حرير أصفر، فيه كذلك رسم مكرر لطائرين متقابلين ولونهما أزرق.
115
ومما يلفت النظر في هاتين التحفتين الثمينتين ما في كتابتهما من الخطأ بالرغم من إبداع صناعتهما.
وفي دار الآثار العربية قطع باسم الخليفة المعز لدين الله، وهي في أغلب الأحيان من نسيج أبيض بسيط، وعليها سطر بالخط الكوفي ذي الحروف الصغيرة (كالقطعة رقم 8934)، وذي الحروف الكبيرة التي تنتهي أطرافها بزخارف نباتية (كالقطعة رقم 9160)، وقد عثر على هاتين القطعتين في حفائر دار الآثار العربية بمقابر عين الصيرة.
116
وهناك أيضا قطع باسم الخليفة العزيز، وباسم الخليفة الحاكم، بعضها كتابته بحروف كبيرة، وعلى الأخرى كتابات بحروف صغيرة، ومنها قطعة من شاش أبيض (رقم السجل 8264) عليها ثلاثة أشرطة منسوجة من حرير أحمر وأزرق، والشريط العلوي مكون من ثلاث مناطق: في الوسطى منها رسم طيور، كل اثنين منها متقابلان، وذلك باللون الأبيض على أرضية زرقاء، وفي المنطقتين العليا والسفلى؛ أي: فوق الطيور وتحتها، سطران من كتابة كوفية بحروف دقيقة بيضاء اللون على أرضية حمراء، ونص هذه الكتابة:
بسم الله الرحمن الرحيم لا إله إلا الله ... ربك له محمد رسول ... عليه ... الله عليه نصر من الله لعبد الله ووليه المنصور أبي علي الإمام الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين ابن الإمام العزيز بالله ... (منين) وولي عهد المسلمين وخليفة أمير المؤمنين أبو القاسم عبد الرحمن بن إلياس بن أحمد بن المهدي بالله أمير المؤمنين ... سلاما ... لعبد الله ووليه المنصور أبي علي الحاكم بأمر ... الإمام.
وبأسفل هذا الشريط شريط ثان أصغر منه، وفي وسطه زخرفة الطيور التي وصفناها في الشريط الأول وحولها عبارة: «الملك لله» بالخط الكوفي مكررة نيفا وسبعين مرة.
أما الشريط الثالث في هذه القطعة فمكون من منطقة زرقاء، فوقها وتحتها منطقتان حمراوان، عليهما زخارف رفيعة مستديرة وبيضاء اللون.
117
وفي الدار كذلك قطع عديدة ترجع إلى عصر الخليفة الظاهر لإعزاز دين الله بعضها غير مؤرخ، ومنها قطعة (رقم السجل 8175) عليها شريطان أحمران: أحدهما فيه رسوم حيوانات بيضاء وسوداء، والآخر به مثل هذه الرسوم وفوقها وتحتها كتابة كوفية فيها تاريخ القطعة (خمس وعشرين وأربعمائة).
118
أما عصر الخليفة المستنصر بالله
119
فتمثله في مجموعات المنسوجات بدار الآثار العربية عدة قطع: إحداها (رقم السجل 9058) من نسيج دقيق، وعليها ثلاثة أشرطة: الأعلى والأسفل منهما فيهما زخرفة من جامات على شكل معين، وفي كل جامعة رسم طائرين متقابلين بألوان مختلفة من أحمر وأصفر وأزرق وأسود. والشريط الأوسط فيه مثل هذه الجامات محصورة بين سطرين من الكتابة الكوفية باسم الخليفة المستنصر ووزيره بدر الجمالي.
وفي الدار قطع أخرى باسم المستنصر، كما أن فيها قطع لا كتابة فيها؛ ولكن أشرطتها الزخرفية التي تجعلها تشبه سائر القطع المؤرخة من عصر المستنصر تحملنا على أن نرجح نسبتها إلى هذا العصر.
والواقع أن في المتاحف والمجموعات الأثرية الخاصة قطعا تجمعها مميزاتها الزخرفية، وتكون منها نوعا ينسب إلى عصر المستنصر. وأهم هذه القطع في دار الآثار العربية وفي متحف فكتوريا وألبرت،
120
وفي متحف المتروبوليتان بنيويورك،
121
وفي متحف الفنون الجميلة بمدينة بوستن بالولايات المتحدة،
122
وفي القسم الإسلامي من متاحف برلين،
123
وفي متحف بناكي.
124
وفي دار الآثار العربية قطعة (رقم السجل 12395) باسم اليازوري وزير المستنصر، عليها كتابة بالخط الكوفي المزهر، وحروفها باللون الأخضر تزينها فروع نباتية بيضاء وسوداء، وفيها جامات عنابية موزعة بانتظام بين سيقان الحروف،
125
كما أن فيها أيضا قطعا باسم الخلفاء المستعلي والآمر والحافظ.
126
فضلا عن أن مجموعة دار الآثار العربية تشتمل على قطع فاطمية يتجلى فيها جمال الزخرفة؛ منها قطع من النسيج الأبيض (رقم السجل 10836)، عليها شريطان من الزخارف في وسطهما سطر من الكتابة الكوفية، وفي أعلاهما سطر ثان، وفي أسفلهما سطر ثالث، وهذه الزخارف كلها مطبوعة وليست منسوجة في القماش، والشريط العلوي عرضه خمسة سنتيمترات، وبه زخرفة مطبوعة باللون الذهبي، وقوامها فرع نباتي كبير، ورسم باز أو نسر باسط جناحيه ينقض على أوزة أدارت رأسها نحوه، ورسم نسر آخر ينقض على غزال في حركة استطاع الفنان أن يحتفظ في رسهما برشاقة الغزال وخفته وقوة الطائر وشدته. والشريط السفلي عرضه 38 مليمترا، وفيه زخارف من فروع نباتية كبيرة وغاية في الدقة والإبداع، وفيه رسم نسر ينقض على أرنب وفهد يهاجم حمارا وحشيا تتجلى في مظهره الذلة والاستكانة.
والرسوم محدودة بخطوط رفيعة سوداء، ورسم الأرنب مموه بلون أزرق، والكتابة الكوفية أرضيتها مموهة بالذهب، وحروفها محدودة بخطوط رفيعة سوداء، وهي أدعية مكررة نحو: «بركة» و«نعمة » و«سلامة»، ورسوم هذه القطع غاية في الدقة وتمثل الطبيعة أصدق تمثيل، وهي تدل كما يدل طراز الكتابة على أنها ترجع إلى النصف الأول من القرن السادس الهجري (الثاني عشر)،
127
وتشبه زخارفها كل الشبه الزخارف الموجودة على علبة من العاج حصل عليه حديثا القسم الإسلامي من متاحف برلين، ونرجح مع الأستاذ فييت، والدكتور كونل مدير المتحف المذكور أن هذا الصندوق من صناعة صقلية في العصر الفاطمي.
128
وفي متحفنا بالقاهرة عدة قطع (رقم السجل 8033 و13006 إلخ) من صناعة القرن الخامس الهجري (الحادي عشر) مزينة بزخارف مختلفة الألوان؛ من أبيض وأزرق وأحمر وأخضر وأصفر، وذلك في أشرطة بها جامات تشتمل على صور الطيور أو الأرانب المتتالية أو المتقابلة.
وفيه كذلك قطعة (رقم السجل 3311) من كتاب وحرير ذات لون أصفر ذهبي ينتهي أسفلها بشراريب، وتزينها زخارف على شكل معينات تتخللها من كتابات ذات حروف حمراء وبيضاء على أرضية زرقاء وحمراء، وهي تمنيات بالسعادة والإقبال، ويرجع تاريخها إلى القرن السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي).
129
أما المنسوجات الأثرية الفاطمية في أوروبا وأمريكا، فقد عرف منها عدد بأسماء الخلفاء كما اشتهر بعضها بزخارفه الجميلة.
ففي كنوز كاتدرائية نتردام بباريس قطعة عليها جامات مثمنة تشتمل على رسوم أرانب بآذان طويلة ورسوم طيور وبط، وفي كنارها كتابة طويلة باسم الحاكم بأمر الله ثالث الخلفاء الفاطميين في مصر.
130
ومن أبدع الأقمشة الفاطمية في أوروبا الملاءة المحفوظة في كنيسة سانت آن بمدينة آبت
Apt
جنوبي فرنسا، والتي تعرف باسم ملاءة سانت آن، وقد نشر الأستاذان جورج مارسيه
G. Marçais
وجاستون فييت
G. Wiet
بحثا شائقا عنها.
131
وأكبر الظن أن هذه القطعة أتي بها إلى أوروبا بعد الحرب الصليبية الأولى على يد شريف من الذين اشتركوا في الحروب الصليبية، وقد ثبت في بعض المستندات التاريخية أن بعض أشراف المقاطعة الموجودة فيها هذه الملاءة الآن قد اشتركوا في الحرب الصليبية الأولى.
والملاءة منسوجة من كتان رقيق جدا، وهي من المخلفات المقدسة التي تنسب خطأ إلى القديسة آن والدة العذراء، وكان النساء يتبركن بها طلبا للذرية؛ وقد فعلت ذلك الملكة آن النمسوية
Anne d’Autriche
في مارس سنة (1660)،
132
وطول هذه الملاءة 310 وعرضها 150 سنتيمترا وبها ثلاثة أشرطة متوازية تمتد في طولها، والشريطان الخارجيان يزينهما جامات، وتحف بهما كتابة بحروف دقيقة زرقاء، والشريط الأوسط عليه زخارف من دوائر ذهبية متداخلة في بعضها، وتقطعها ثلاث جامات مستديرة، محاطة بكتابة من حروف كوفية كبيرة، ومنسوجة باللون الأحمر. وقد ثبت من الكتابات في الجامات الثلاث أن هذه الملاءة نسجت في طراز الخاصة بدمياط، وأن عليها اسم الخليفة المستعلي،
133
الذي حكم من سنة 487 إلى سنة 495ه/1094-1101م واسم وزيره الأفضل شاهنشاه، وأنها نسجت سنة تسع وثمانين وأربعمائة أو تسعين وأربعمائة (1096-1097م).
134
وزخارف الشريط الأوسط في الملاءة تتكون من دوائر متداخلة في بعضها كحلقة السلسلة، وأرضيتها مذهبة، وفيها خطوط سوداء قصيرة تقسمها إلى مناطق متجاورة، والفراغ الناشئ بين الدوائر عند اتصالها ببعضها مزين برسوم وريقات شجر ذات فصين أو ثلاثة.
135
وقد ذكرنا أن هذا الشريط الأوسط فيه ثلاثة جامات مستديرة، ونضيف الآن أن اثنتين منها - قطر الواحدة نحو 140 مليمترا - مكونتان من دائرتين متحدتي المركز، في الدائرة الخارجية شريط من الكتابة الكوفية الحمراء، وفي الدائرة الداخلية رسم حيوانين وهميين لكل منهما جسم أسد ووجه امرأة وعلى رأسه تويج، وكل منهما يولي الآخر ظهره، والجسم مذهب إلا البطن فأبيض، فيه مربعات صغيرة سوداء، وذيلا الحيوانين ملتفان بطريقة زخرفية، كما أن كل حيوان منهما له شبه جناحين، والجناحان يلتقيان، ثم ينتهيان بزهرة زخرفية جميلة.
أما الجامة الثالثة فأكبر حجما؛ ولكن زخارفها تشبه في مجموعها زخارف الجامتين السالفتي الذكر، غير أنها أقل وضوحا.
والشريطان الآخران كل منهما ثلاث مناطق: الوسطى بها دوائر، في كل منها حيوان له أذنان طويلتان وعقد حول رقبته، وتصل هذه الدوائر ببعضها أشكال متعددة الأضلاع تشبه النجوم السداسية الفصوص؛ وفي كل منها رسم طائرين، وتحد كلا من هذين الشريطين من أسفل ومن أعلى كتابة كوفية زرقاء.
تلك هي أهم العناصر الزخرفية في هذه التحفة الثمينة، ولا يتسع المجال هنا للاستطراد في شرحها، ولا سيما أن الأستاذين مارسيه وفييت قد كتبا عنها في بحثهما كتابة وافية،
136
وقارنا بينها وبين النقوش والتماثيل في الأديرة المصرية، وأظهرا نصيب الأقباط والإيرانيين في الأساليب الفنية الفاطمية؛ كما تساءلا عن الغرض الذي كانت تستخدم فيه هذه الملاءة، وقالا بأنها ربما كانت عباءة كالتي تلبس اليوم في بعض بلاد الشرق الإسلامية،
137
وإنها قد تكون خلعة من الخليفة الفاطمي.
ومهما يكن من شيء فإن لهذه القطعة شأنا خطيرا في دراسة المنسوجات الفاطمية، ولا سيما بعد أن قامت بإصلاحها مصانع جوبلان
Gobelins
بباريس؛ فإنها مثال حي ومؤرخ لغيرها من الأقمشة النفيسة في هذا العصر، والزخارف التي نراها عليها - من جامات وحيوانات ورءوس حيوانات وفروع نباتية أنيقة، تذكر بما كان يزين الحروف الكوفية في العصر الفاطمي - كل هذه الزخارف نراها على عدد كبير من القطع التي تكشف عنها دار الآثار العربية في حفائرها بالفسطاط أو المحفوظة في شتى المتاحف والكنائس، فضلا عن أن الذي تصوره الأستاذان مرسيه وفييت في الشكل الذي كانت عليه هذه الملاءة معقول جدا ويوافق كل الموافقة سير الزخارف فيها.
138
ومن الأقمشة الفاطمية التي أذاع صيتها أخيرا قطعة في دير كادوان
l’Abbaye de Cadouin
بمدينة بريجورد
في جنوبي فرنسا، وهي كفن مقدس من كتان، طوله 281 وعرضه 113 سنتيمترا، وعليه كتابة بالخط الكوفي المشجر باسم الخليفة الفاطمي المستعلي بالله ووزيره الأفضل شاهنشاه، وقد درس الأستاذ فييت هذه التحفة ولاحظ استخدام الكتابة للغرض الزخرفي، وما ترتب على الرغبة في التناسق والتناسب من حذف بعض سيقان الحروف، ووجود سيقان لا حاجة إليها، وإنما أتي بها للزخرفة فحسب. ومهما يكن من شيء فقد استطاع فييت أن يقرأ الكتابة المنسوجة في هذه القطعة من النسيج، وساعدته خبرته بالكتابات الأثرية وطول ممارسته إياها على معرفة جزء كبير من الكلمات التي بليت حروفها، فأمكنه أن يقرر أن نص هذه الكتابة التاريخية هو:
بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، محمد رسول الله، علي ولي الله صلى الله عليهما وعلى أهل بيتهما الأئمة الطاهرين ... الإمام المستعلي بالله أمير المؤمنين - صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين وأبنائه الأكرمين ، سيف الإسلام ناصر الإمام كافل قضاة المسلمين وهادي دعاة المؤمنين أبو القسم شاهنشاه المستعلي عضد الله به الدين.
بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، محمد رسول الله، علي ولي الله - صلى الله عليهما وعلى أهل بيتهما الأئمة الطاهرين ... الإمام أحمد أبو القاسم المستعلي بالله أمير المؤمنين - صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين وأبنائه الأكرمين.
ما أمر بعمله السيد الأجل الأفضل أمير الجيوش ... المستعلي ... سيف الإسلام، ناصر الإمام، كافل قضاة المسلمين وهادي دعاة المؤمنين أبو القسم شاهنشاه المستعلي عضد الله به الدين.
139
أما زخارف هذا الكفن المقدس فمثال لما نعرفه من الأشرطة ذات لجامات والطيور في العصر الفاطمي.
ونحن إن استطردنا في حديث التحفتين السالفتي الذكر؛ فلأن ما عليهما من الكتابة يؤيد ما تعرفه على الكتابات الأخرى من ألقاب الخليفة ووزيره في ذلك العصر؛
140
ولأن هاتين القطعتين أصبحتا مثالا يشار إليه، وتقارن به كثير من المنسوجات الفاطمية التي يعثر عليها ويكتب عنها علماء الآثار ومؤرخو الفنون الإسلامية.
141
كما أن متحف كلوني
Cluny
بباريس فيه نماذج جميلة من المنسوجات الفاطمية؛ أحدها يشتمل على دوائر فيها سباع وطيور، وتتكون الزخارف في قطعة أخرى من جامات سداسية، بها طاوس، على جانبيه طاوسان صغيران.
142
ولا يسع المرء أمام هذه القطع ومثيلاتها في المتاحف والكنائس والأديرة إلا أن يلاحظ الشأن الخطير الذي كان للحيوانات والطيور، وللتناسب والتوافق، وللتابع والتكرار في الزخارف الفاطمية.
وفي اللوفر قطعة تتكون زخرفتها من ثلاث جامات، بها رسم حيوان، وفوق الجامات وتحتها شريط من الكتابة فيه البسملة وتاريخ سنة (448ه)، فهي من عصر المستنصر كما يظهر أيضا من القطعة التي تكملها وهي محفوظة في متحف فكتوريا وألبرت.
143
وفي هذا المتحف الأخير نخبة من الأقمشة الفاطمية بأسماء الخلفاء الحاكم والمستنصر والظاهر، وأخرى فيها زخارف مكونة من أشرطة ذات جامات تشتمل على حيوانات وطيور، فضلا عما عليها من فروع نباتية وأشكال هندسية، وكل هذا يثبت أنها من صناعة العصر الفاطمي.
144
والقسم الإسلامي من متاحف برلين يمتلك كذلك نماذج جميلة من منسوجات العصر الفاطمي، درسها الأستاذ الدكتور كونل
Kühnel
في كتابه عن الأقمشة الإسلامية.
145
ومنها قطعة من نسيج رخو، فيه شريطان، ارتفاع كل منهما سنتيمتران، وبينهما مسافة ستة سنتيمترات، فيها كتابة كوفية مكررة نصها «الملك لله» وهي سوداء وبيضاء على أرضية حمراء، ونراها في أحد السطرين مقلوبة ومعكوسة بالنسبة لاتجاهها في السطر الأخير، وفوق هذين الشريطين ثلاث جامات بيضية الشكل، في وسط كل منها نسر مرسوم رسما تقليديا مهذبا، وفي الجوانب الأربعة رسم أربع بطات تفصلها أربعة خطوط تخرج من زوايا المعين الذي يحيط بالنسر وتنتهي بشكل شبه بيضي. وهذه القطعة جميلة بتناسق ما فيها من الألوان: الأحمر والأخضر والأزرق الفاتح والأسود، وتمثل العصر الفاطمي بطراز كتابتها وبزخارفها وألوانها، ومسحتها الفنية العامة، ويرجع تاريخها إلى نهاية القرن الرابع أو أوائل القرن الخامس الهجري (العاشر أو الحادي عشر).
146
كما أن مجموعة متاحف برلين فيها عدا ذلك قطعة عليها شريط من جامات سداسية متصلة، وفي كل منها صورة كلب يعدو إلى اليمين، وبين كل جامتين زخرفة مكونة من رأسي طائرين فوق الجديلة التي تصل الجامتين، ورأسي طائرين تحتها، وفوق هذا الشريط وأسفله شريط آخر من الكتابة الكوفية الزخرفية التي لا تقرأ، وأكبر الظن أن هذه القطعة من صناعة القرن الخامس الهجري (الحادي عشر). وأهم ما يلفت النظر فيها الغرض الزخرفي الذي استخدمت فيه الكتابة، والمسحة الهندسية التي تسود رسوم الحيوانات التقليدية المهذبة، فضلا عن تنوع الألوان وتوافقها.
147
وفي المتاحف المتروبوليتان بنيويورك بعض الأقمشة الفاطمية أيضا: ففيه قطعة باسم العزيز بالله؛ أي: من أواخر القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)، وفيه كذلك قطعة تمثل الطراز الفاطمي خير تمثيل، وترجع إلى منتصف القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي)، وزخارفها مكونة من أشرطة ذات مناطق عديدة تتداخل في بعضها فتكون مناطق على شكل معينات أو مستطيلات أو مثلثات تشتمل على رسوم طيور أو غزلان.
148
ولكن متحف بناكي بأثينا يمتاز في هذا الميدان بقطعة كبيرة من النسيج الحريري عليها رسوم أشخاص جالسين.
149
كما أن متحف الآثار في بروكسل فيه قطعة عليها رسم طيور متقابلة، ترى على أجنحتها عبارات البركة لصاحبه، ويفصل كل زوجين متقابلين منها قرص مكون من دوائر متحدة المركز، وتحت القرص زخرفة من فروع نباتية تقليدية مهذبة.
150
على أن هذه القطعة لا يمكن الجزم بأنها من صناعة مصر في العصر الفاطمي؛ بل إننا نرجح أنها من صناعة صقلية على الرغم من أن الطيور المرسومة عليها تشبه كثيرا تلك التي نراها مرسومة بالبريق المعدني على بعض التحف الخزفية من العصر الفاطمي، ونحن إن كنا نكاد نجزم بأن هذه القطعة ليست من مصانع الطراز الفاطمي في مصر؛ فلأن النماذج التي وصلتنا حتى اليوم ليست بها أي رسوم لحيوانات على هذا النحو؛ فضلا عن أن مستحها الفنية العامة تختلف كثيرا عن مسحة القطعة التي نحن بصددها الآن.
وفي المتاحف الملكية للفنون الزخرفية ببروكسل قطع فاطمية، تمتاز إحداها بزخرفتها التي تتكون من أشرطة ليس فيها جامات أو حيوانات أو طيور.
151
ويجدر بنا أن نشير هنا إلى مجموعة القطع التي تنسب إلى الفيوم في القرون الثالث والرابع والخامس الهجري (التاسع والعاشر والحادي عشر). والمعروف أن إقليم الفيوم اشتهر في تاريخ الفن الإسلامي ببعض منتجاته التي كانت بعيدة في أغلب الأحيان عن الرقة ودقة الصناعة وجمال الذوق، وعرف صناعه بأنهم كانوا ينسجون في الأقمشة أشرطة ليس في زخارفها شيء إسلامي الطراز، اللهم إلا الكتابة بخط كوفي غريب الشكل تتصاعد به سيقان الحروف على شكل مدرج؛ ولا غرو فهم أقرب الصناع إلى الأساليب الفنية القبطية القديمة.
152
والواقع أن هذا النوع من الأقمشة مصنوع من الصوف أو من الكتان والصوف، وتبدو في صناعته وزخارفه مسحة ريفية أولية غريبة، هي عين المسحة التي تبدو على مجموعة الفخار المطلي ذي الأرضية البيضاء والزخارف السوداء أو السمراء، المكونة من أشرطة ونقط ودوائر وكتابات وطيور.
153
وقد قر الرأي على نسبة هذه المجموعة إلى الفيوم نظرا لورود اسم هذا الإقليم في كتابة على قطعة من هذا الطراز محفوظة في دار الآثار العربية (رقم السجل 9061)، ومساحة هذه التحفة 73 × 27 سنتيمترا، وفيها شريط أحمر به جمال بيضاء وخضراء مرسومة بطريقة تخطيطية بسيطة، دون مراعاة للنسب أو محاكاة للطبيعة، وتحت هذه الرسوم كتابة إما بيضاء أو سمراء وحروفها غريبة، ولها ذاتية خاصة بما في سيقانها من زخارف مدرجة الشكل، وبما بين هذه السيقان من شتى الزخارف الصغيرة باللون الأصفر أو الأخضر. ونص هذه الكتابة: ونعمة كاملة لصاحبه مما عمل في طراز الخاصة بمطمور من كورة الفيوم»، واسم هذه البلدة غير معروف لنا؛ ولكن الكتابة خطيرة الشأن بما تدعونا إليه من نسبة هذه المجموعة من الأقمشة إلى إقليم الفيوم.
154
وفي دار الآثار العربية قطعة أخرى من هذه المجموعة (رقم السجل 9050)، وهي تحفة كبيرة الحجم إلى حد ما؛ إذ إنها ملاءة تكاد تكون تامة، وأرضيتها سوداء، وطولها 262، وعرضها 130 سنتيمترا، ولا تزال في طرفها بضع شرابات حمراء وزرقاء، وفي أعلى هذه القطعة شريط من رسوم حيوانات تتجه يمينا، وتفصل كل منها عن الذي يليه زخرفة هندسية مكونة من مثلثين متساويي الساقين يلتقيان عند رأسهما، وتحت هذا الشريط مستطيل كبير يحيط به إطار من كتابة كوفية، قوامها كلمة أو عبارة لم يمكن قراءتها. والمستطيل مقسم إلى ست مناطق: الأولى من جهة اليمين بها رسم أسدين متواجهين، والأولى من اليسار بها رسم عنزتين متواجهتين، ترضع كل منهما صغيرا لها، وفي منطقتين زخارف هندسية، وفي الاثنتين الباقيتين زخارف هندسية بينها رسوم حيوانات.
وهذه القطعة أصدق نموذج لمجموعة الفيوم بحيواناتها الغريبة الرسم وزخارفها الكتابية والهندسية المدرجة ، وألوانها الزاهية المتفارقة.
155
ولا يتسع المقام هنا لوصف ما في دار الآثار من قطع نسيج تنسب إلى هذه المجموعة، وتشتمل على أشرطة متعددة الألوان بها جامات فيها طيور وحيوانات ووريدات وحروف كوفية مدرجة، كما تزين بعضها رسوم آدمية مختلفة (كالقطعة رقم السجل 9552).
156
أما القطع الموجودة في المتاحف الأجنبية من هذه المجموعة، فأهمها واحدة في متحف المتروبوليتان بنيويورك،
157
وقد أهدى الدكتور لام
Lamm
إلى دار الآثار قطعة (رقم السجل 13164) من مجموعة الفيوم وهي من صوف أخضر، ومنسوج فيها شريط به طيور بين زخارف نباتية وهندسية، وعليها كتابة تشتمل على اسم طراز لم يمكن قراءته، وعليها تاريخ بالحروف ربما كان سنة (375ه/985-986م) أو سنة (395ه/1004-1005م).
ولن يفوتنا أن نشير إلى النظرية التي يحاول الدكتور لام إثباتها، فهو يذكر أن أبا منصور عبد الملك بن محمد بن إسماعيل الثعالبي المتوفى سنة (429ه/1038م) كتب في مؤلفه «لطائف المعارف» أن «قد علم القوم أن القطن لخراسان وأن الكتان لمصر.»
158
ويرى الدكتور لام أن هذا يتفق وما أسفر عليه فحصه بالمنظار المكبر عددا كبيرا من قطع النسيج ذات الكتابات التي يتراوح تاريخها بين القرن التاسع والقرن الحادي عشر الميلاديين، والتي كشف أغلبها في حفائر دار الآثار العربية من جهة البساتين شرقي القاهرة؛ فإن هذا الفحص جعله يذهب إلى أن أغلب المنسوجات التي استوردت إلى مصر في المدة المذكورة كانت من مواد غير الكتان، والقطع التي قام بفحصها كلها ظهر أنها من القطن، وبعضها له لحمة من الحرير، وبينها عدد قليل من الحرير غير المصبوغ.
ومهما يكن من شيء فإنها كلها من صناعة إيران أو العراق أو اليمن، كما يظهر من الأسماء التي ترى عليها: مرو أو نيسابور أو مدينة السلام (بغداد) أو صنعا. ومن ناحية أخرى فإن لام
Lamm
يقرر أن جميع القطع التي فحصها والتي تدل كتاباتها على أنها صنعت في طراز بالقطر المصري أو تشبه القطع التي ثبت أنها صنعت في مصر، نقول: إنه يقرر أن هذه القطع جميعها مصنوعة من الكتان؛
159
ولكنه يذكر في الوقت نفسه أنه لا يستطيع أن يؤكد أن القطن لم يكن معروفا في مصر قبل العصر المذكور
160
أو في القرون التي سبقته؛ فإن المصادر التاريخية تذكر أن قدماء المصريين كانوا يعرفون القطن،
161
وأن توران شاه حين أرسله أخوه صلاح الدين سنة (573 / 1173م) لإخضاع الثورات في إقليم قوص وأسوان أفلح في الاستيلاء على أبريم في بلاد النوبة، ووجد فيها كمية من القطن حملها إلى قوص وباعها بثمن كبير.
162
بينما نعرف أن الكتان كان من المحاصيل الرئيسية في العصور الوسطى بمصر وكازرون (من أعمال إقليم فارس بإيران)، وتذكر لنا بعض النصوص التي ترجع إلى القرن الرابع الهجري (العاشر) أن كازرون كانت تصدر المنسوجات الكتانية، وكانت تعرف باسم دمياط فارس.
163
وأما أشهر القطع التي تنسب إلى طراز بلرمو بصقلية، فهي لا ريب عباءة التتويج التي نسجت في عاصمة صقلية سنة (528ه/1133م) أي: في حكم روجر الثاني ملك صقلية، وهي أرجوانية اللون على شكل غفارة (حرملة) كنسية، وفي وسطها رسم نخلة تقسمها قسمين، كل منهما يمثل ربع دائرة، منسوج فيه بخطوط الذهب واللآلئ رسم أسد ينقض على جمل ليفترسه،
164
وفي العباءة كنار منسوج فيه بالخيوط الذهبية الكتابة الآتي نصها:
مما عمل للخزانة الملكية المعمورة بالسعد والإجلال والمجد والكمال والطول والإفضال والقبول والإقبال والسماحة والجلال والفخر والجمال وبلوغ الأماني والآمال وطيب الأيام والليال بلا زوال ولا انتقال بالعز والدعاية والحفظ والحماية والسعد والسلامة والنصر والكفاية بمدينة صقلية سنة ثمان وعشرين وخمسمائة.
165
ولا حجة بنا إلى أن نقول: إن هذه العباءة تحير الناظرين بعظمة زخرفتها وجلال مظهرها وجمال نسجها. ولا غرو أن وقع عليها الاختيار لزيادة أبهة التتويج منذ قدم بها هنري السادس إلى ألمانيا بعد تتويجه في بلرمو.
ومهما يكن من شيء فإن نسبة كثير من المنسوجات إلى صقلية أمر لا يزال موضعا للجدل، ولا سيما فيما يراد إرجاعه إلى العصر الإسلامي البحت؛ إذ يذكر البعض ما جاء في بعض المصادر التاريخية من أن أميرا من صقلية تحدث عن أقمشة استولى عليها الصقليون في سفينة سنة (975) ميلادية، فقال: إنها أحسن نسجا من الأقمشة الصقلية. كما أن أميرا مسلما في بلرمو أهدى في النصف الثاني من القرن الخامس الهجري (الحادي عشر) إلى أحد الأمراء المسيحيين أقمشة إسبانية وليست صقلية. وقد يستنبط من الروايتين أن الأقمشة الصقلية لم تكن بلغت حتى أواخر القرن الخامس (الحادي عشر) ما بلغته بعد ذلك من الجمال والإتقان.
166
ومن المنسوجات الشهيرة التي ساد الجدل بشأنها حينا من الزمن قطعة حريرية محفوظة في كنيسة سانت أتيين دي شينون
Saint-Etienne de Chinon
كان يظن في البداية أنها ساسانية من القرن الخامس الميلادي، ثم ظهر أن فيها كتابة كوفية ؛ فذهب البعض إلى أنها فاطمية من صناعة مصر في القرن الخامس الهجري (الحادي عشر)؛ ولكننا نرجح أنها من مناسج صقلية. وزخرفة هذه القطعة تتكون من صفوف أفقية من نمور متقابلة ومقيدة بسلاسل تربطها، وهي بيضاء وصفراء وخضراء على أرضية زرقاء قاتمة، ويفصل كل نمرين خط ينتهي في أعلاه بزخرفة كآنية الزهور، ويتدلى على جانبيه في أسفله زهرتان، وهناك رسم طائر يتأهب لأن يحط على ظهر كل نمر من النمور المرسومة، ورسم حيوان صغير بين أرجل كل واحد منها.
167
وفي رأينا أن المسحة الفنية العامة على هذه القطعة لا تدع مجالا للشك في أنها من منتجات فن تأثر بالأساليب الفاطمية كل التأثير، كالفن في جزيرة صقلية.
وفي كاتدرائية راتسبون
Ratisbonne
قطعتان من الحرير، يقال: إنهما هدية من الإمبراطور هنري السادس (1165-1197م) الذي ورث أملاك النورمنديين الإيطالية بزواجه الأميرة كونستانس؛ فتوج ملكا على صقلية سنة (1194م)؛ وعلى إحدى هاتين القطعتين كتابة يفهم منها أنها نسجت لوليم الثاني ملك صقلية (1169-1189م)، على يد صانع اسمه عبد العزيز، وعليها كتابة أخرى فيها أدعية وتمنيات طيبة. وهذه القطعة نموذج جيد يمثل ما تميزت به الأقمشة الصقلية من زخارف مكونة من حيوانات مفترسة وطيور ووريدات ودوائر وجامات بها رسوم هندسية على نحو لا نرى مثيلا له إلا في صناعة النسج عند المسلمين في الأندلس، حتى إنه ليصعب في كثير من الأحيان التمييز بين المنسوجات الأثرية المصنوعة في هذين الإقليمين.
ومن النماذج المعروفة للمنسوجات الصقلية قطعة من ثوب حريري لونه وردي وذهبي، وكان قد دفن به الإمبراطور هنري السادس في كاتدرائية بلرمو، وظل مدفونا فيها من سنة (1197) حتى سنة (1784). وتتكون زخرفة هذه القطعة من غزلان وببغاوات متواجهة، وهي محفوظة الآن بالمتحف البريطاني.
168
ومهما يكن من شيء فإن في بعض الكنائس والمتاحف نماذج من منسوجات ثمينة، وفي زخارفها ما قد يجعلنا نذهب إلى أنها من صناعة صقلية بتأثير الأساليب الفنية الفاطمية؛ ولكن آراء مؤرخي الفن غير واحدة في هذا الميدان؛ فإن بعضهم ينسبها إلى مصانع الأندلس، كما يظن آخرون أنها من نسيج بعض المدن الإيطالية. ولا يتسع المجال هنا للاستطراد في دراستها؛ فضلا عن أن هذا - في مذهبنا - غير مجد؛ لأن الآراء المختلفة غير مدعومة بحجج قوية، بقدر ما تقوم على شعور وذوق واتجاه فكري، كما نرى في موقف الباحثين في كثير من أسرار تاريخ الفن ومعمياته.
وقد حصلت دار الآثار العربية على قطعة جميلة من نسيج الحرير والكتان، عثر عليها الأستاذ فييت عند أحد تجار العاديات في القاهرة، وأرضيتها بيضاء مائلة إلى الاصفرار، وطولها 62 وعرضها 32 سنتيمترا، وفي وسطها عصابة من خمسة أشرطة عرضها نحو عشرة سنتيمترات.
والشريط الأوسط في هذه العصابة ذو أرضية حمراء، مكون من مثمنات ذات أرضية صفراء، وداخل كل منها نجمة ذات ثمانية أركان وأرضيتها حمراء، وفي هذه النجمة نجوم أخرى متشابكة.
ويعلو هذا الشريط الأوسط شريط ضيق، فآخر مثله وفيه معينات وأشكال هندسية بألوان متعددة، فثالث أزرق، فرابع أعرض وذو أرضية بيضاء منسوج فيها باللون الأحمر أزواج من الطيور المتقابلة، يفصلها خط أزرق يتفرع في أعلاه إلى فرعين، وينتهي في أسفله بشكل معين صغير، كما ينتهي ذيل كل طائر بزخرفة على شكل علامة الاستفهام، وفوق هذا الشريط شريط أصفر، فآخر في طرفيه حبات، وفي وسطه زخرفة حمراء هندسية، ترى فيها حيوانات متقابلة ومرسومة رسما تقليديا مهذبا.
وأما أسفل الشريط الأوسط ففيه أشرطة كالتي في أعلاه.
169
وألوان هذه القطعة حية ورائعة ولا سيما الأحمر والأخضر، ولا شك في أن أسلوب زخرفتها متأثر بالزخارف الفاطمية؛ ولكنا لا نستطيع أن نعين تماما الإقليم الذي نسجت فيه، فهي في الواقع أول مثال نراه من نوعها ولا يمكننا أن نلحقها دون تردد بمجموعة من المجموعات المعروفة؛ إذ إنها تشبه كلا منها في شيء وتختلف في أشياء، على أننا نميل رغم ذلك كله إلى نسبتها إلى مصانع صقلية في القرن السادس الهجري (الثاني عشر) دون أن نستطيع أن ننفي إمكان نسبتها إلى الأندلس أو إلى مصر نفسها في العصر الأيوبي.
170
وليست صعوبة التحديد أمرا غريبا إذا تذكرنا أن زخرفة الأقمشة بالأشرطة والعصابات أمر ذاع في الشرق الإسلامي كله من الهند إلى الأندلس، كما أن تكرار الموضوعات الزخرفية مع مراعاة التناسب والتعادل لم يكن قاصرا على إقليم دون آخر. (4) الخزف
الخزف من أقدم المصنوعات التي عرفها الإنسان، وهو من أهم الأشياء التي يعثر عليها المنقبون عن الآثار، والتي يستنبطون منها درجة المدنية ونوع الحضارة التي بلغتها الشعوب المختلفة في شتى العصور.
171
والخزف في اللغة: ما عمل من الطين وشوي بالنار فصار فخارا. ولا حاجة بنا إلى أن نذكر هنا تطور صناعته، وكيف كان الإنسان يصنعه في أول الأمر عاريا عن الزينة، أو مزخرفا ببعض الرسوم الهندسية أو رسوم الحيوانات والطيور بطريقة أولية وتقليدية تشعر بأن الإنسان الذي كان يعيش وسط الطبيعة لم يكن يحسن محاكاتها بعد، ثم اهتدى إلى مواد زجاجية يصنع بها طلاء ليسد مسام الفخار، ويكسبه نظافة وجمالا، ثم عمد إلى تزيينه بالرسوم المختلفة قبل أن يكسوه بالمينا، وهي المادة الزجاجية التي تجمد في الفرن فتكسب الخزف صقلا ولمعانا.
وقد كانت صناعة الخزف زاهرة في أكثر البلاد التي أخضعها الإسلام لسلطانه،
172
وتطورت هذه الصناعة في سبيل التقدم والرقي بعد أن ساد الإسلام في الشرق الأدنى وعلى ضفاف البحر الأبيض المتوسط. ولعل كثرة العناصر التي قامت عليها صناعة الخزف في الإسلام سبب ما نراه في دراسته من صعوبة، وما يكتنف بعض مسائلها من إبهام وغموض.
وحسبنا أن نشير إلى مسألة الخزف ذي البريق المعدني
Lustre
واختلاف الآراء في نشأته؛ فمن قائل: بأنه نشأ في مصر ومدل بحججه في هذا الميدان، إلى آخر يفند هذه الحجج ويقول بأن الفخاريين العراقيين هم الذين كشفوا سر هذه الصناعة، إلى ثالث يرى في إيران مهدها وموطنها. وقد عرضنا لهذا الموضوع في كتابنا الفن الإسلامي في مصر؛
173
ولاحظنا أننا لا نملك أي دليل على وجود أي خزف ذي بريق معدني في الفسطاط قبل القرن الثالث الهجري، ولا سيما قبل العصر الطولوني، وقلنا: إننا نميل إلى أن ننسب إلى العراق نشأة الخزف المذكور، وإننا نظن أن صناعته نقلت إلى مصر على يد أحمد بن طولون.
ومهما يكن من شيء فإن أنواع الخزف التي سادت صناعتها في العصر الفاطمي لم تكن وليدة هذا العصر؛ بل مهدت لقيامها القرون السابقة، وكان قدوم أحمد بن طولون إلى وادي النيل باعثا على ازدهار الفنون الإسلامية في مصر، وتأثرها بالأساليب الفنية العراقية فنمت صناعة الخزف ذي البريق المعدني،
174
حتى جاء العصر الفاطمي فكانت راسخة القدم، وأتيح للخزفيين الفاطميين أن ينتجوا من الأواني ما ذاعت شهرته، وأعجب به المعاصرون - وعلى رأسهم ناصر خسرو - إعجابنا بما وصلنا منه. وإن يكن مما يؤسف له أن النماذج السليمة التي نعرفها منه نادرة جدا؛ فإن جل ما نعرفه منه وجد في أطلال مدينة الفسطاط التي كانت عامرة في عصر الفاطميين، قبل أن يأمر الوزير شاور سنة (564ه/1168م) بحرقها، حتى لا تقع في يد الصليبيين حين تدخلوا فيما كان بين وزراء الفواطم من نزاع ومنافسات.
175
والمعروف أن سكان القاهرة وسكان الأجزاء التي عمرت من الفسطاط بعد هذا الحريق كانوا يلقون نفاية منازلهم فوق الأطلال القريبة منهم.
176
وعلى كل حال فإننا نرى أن فخر صناعة الفخار في العصر الفاطمي هو ذلك الخزف ذو البريق المعدني الذي ذكرنا أنه كان يرد من العراق إلى مصر منذ قيام الدولة الطولونية، والذي نعرف أن الفخاريين المصريين علموا على تقليده كما يظهر من قطع ذات بريق معدني عثر عليها في أطلال الفسطاط، وأكثرها ذو لون واحد، وتمتاز بطبيعتها التي تميل إلى الاحمرار، وبرقة الطلاء الذي يغطي مسطحها الخارجي، وتشبه زخارفها ما نعرفه في الخزف المصنوع في سامرا.
وقد أشار ناصر خسرو إلى صناعة الخزف في العصر الفاطمي فقال: إن المصريين كانوا يصنعون أنواع الخزف المختلفة، وأن الخزف المصري كان رقيقا وشفافا، حتى لقد كان ميسورا أن ترى من باطن الإناء الخزفي اليد الموضوعة خلفه. وكانت تصنع بمصر الفناجين والقدور والبراني والصحون والمواعين الأخرى، وتزين بألوان تشبه لون القماش المسمى بوقلمون وهي ألوان تختلف باختلاف أوضاع الآنية.
177
وقد كان قول ناصر خسرو في هذا الصدد بين الحجج التي أقامها بتلر
Butler ؛ ليثبت نظريته في أن البريق المعدني
Lustre
كان معروفا في وادي النيل منذ العصر الروماني ولم يكن مهده العراق أو إيران.
178
ومما يدل على ازدهار صناعة الفخار عامة في العصر الفاطمي ما كتبه هذا الرحالة الفارسي عن استخدام التجار والبقالين الأواني الخزفية، فيما يستخدم فيه التجار الورق في العصر الحاضر؛ فقد كانوا يضعون فيها ما يبيعونه، ويأخذها المشترون بالمجان.
وعلى الرغم من ازدهار تلك الصناعة، فإن من الصعب أن نجزم بأن نماذج الخزف ذي البريق المعدني التي نجدها في أطلال الفسطاط، أصلها كلها من صناعة الفخاريين المصريين؛ إذ قد يكون من المحتمل أن بعضها صنع في سورية، أو استورد من العراق. وعلى كل حال فإننا نميز طينة فخار الفسطاط بأنها ناعمة وهشة وسميكة ومائلة إلى الاحمرار، وفضلا عن ذلك فإننا نرى أن الخزف ذي البريق المعدني في سورية أحدث عهدا منه في مصر، ونعتقد أن الفنانين المصريين هم الذين أدخلوا صناعته في سورية، وأن هذه الصناعة ازدهرت فيها كما ازدهرت في إسبانيا، بينما كان حريق الفسطاط سنة (564ه/1068) وسقوط الدولة الفاطمية إيذانا باندثار هذه الصناعة في وادي النيل، ولعل أخلاق صلاح الدين وبعده عن الترف واشتغاله بالحروب الصليبية، نقول لعل ذلك كله يفسر بعض التفسير ما نذكره من اندثار صناعة الخزف ذي البريق المعدني بعد سقوط الفواطم.
ومهما يكن من شيء فإن عصر الفاطميين في مصر شاهد تطور صناعة الخزف ذي البريق المعدني تطورا يكاد يؤدي بها إلى غاية في الجمال والإتقان، ولولا ما نعرفه من وجوه الآنية والفضة والذهب عند الفاطميين لقلنا إنهم كانوا يكتفون بتلك الآنية المذهبة ويتجنبون استخدام الآنية الفضية والذهبية التي كانت مكروهة في الإسلام كما كان الأمر في بعض أنحاء العالم الإسلامي.
ومهما يكن من شيء فقد كانت الأواني الفاطمية تدهن بطلاء أبيض أو أبيض مائل إلى الزرقة أو الاخضرار، وتعلو هذا الدهان الرسوم ذات البريق المعدني الذي كان في الأغلب ذهبي اللون، وكان أحيانا أحمر أو أسمر، أما الزخارف فكانت من الحيوانات والطيور والفروع النباتية.
وعلى الرغم من أن المعروف في الفنون الشرقية أن الفنانين لم تنم شخصياتهم ولم يفطنوا إلى حقهم في الافتخار بما تصنع أيديهم، وذلك بالتوقيع على منتجاتهم،
179
نقول: على الرغم من ذلك فقد وصل إلينا أسماء بعض الفنانين ممن شذوا عن هذه القاعدة، وكان ذلك على الخصوص في صناعة التصوير بإيران، وفي صناعة بعض أنواع الخزف في عصر المماليك.
180
وكان لعصر الفاطميين نصيب في هذا الميدان؛ فقد وصلت إلينا إمضاءات على قطع من الخزف الفاطمي، يظهر منها أسماء بعض أعلام هذه الصناعة في ذلك الوقت، مثل: مسلم، وسعد، وطبيب علي، وإبراهيم المصري، وساجي، وأبو الفرج، وابن نظيف، والدهان، ويوسف، ولطفي، والحسين، ممن أنقذوا صناعة الخزف المصري من الركود الذي حل بها في عصر الإخشيديين، حين قضي على دقة الصنعة وجمال الزخرفة المعروفين عن الخزف الطولوني، حل محلهما كبر في حجم الأواني، وفي نسبة زخرفتها، التي كان أكثرها من الفروع النباتية وأوراق الشجر المدببة، والتي لم يكن بينها في أكثر الأحيان التناسق والتناسب اللذان نراهما في الخزف الطولوني أو في الخزف الفاطمي.
وعلى كل حال فإننا لا نستطيع أن نعرف في شيء من الثقة متى عاش أولئك الخزفيون الفاطميون، ومن الذي كان منهم أقدم من غيره. وقد قام بين فئة من المشتغلين بالآثار بعض الجدل بهذا الشأن، دون أن يستطيع أحد أن يثبت ببراهين قاطعة ما يراه فيه.
ومهما يكن من شيء فإن أسماء «طبيب علي» و«ساجي» و«أبو الفرج» و«ابن نظيف» و«الدهان» و«يوسف» و«الحسين» توجد على قطع خزفية محفوظة بدار الآثار العربية، وأكبر الظن أنها ترجع إلى أواخر القرن الرابع أو أوائل القرن الخامس الهجري (العاشر والحادي عشر الميلادي). وقد صورت هذه القطع في كتاب الخزف الإسلامي في مصر لعلي بك بهجت وفيلكس ماسول (اللوحتين الحادية والعشرين والثانية والعشرين).
أما ابن نظيف فأكبر الظن أنه كان تلميذا لسعد الذي سوف نشرح مميزات مدرسته؛ أو هو كان على الأقل ممن قلدوه ونسجوا على منواله، بينما الخزفيون الآخرون كانوا لا يزالون قريبي العهد بعصر الإخشيديين والطولونيين، كما يبدو من زخرفة القطع التي عليها إمضاءاتهم.
181
بينما تظهر إمضاء «إبراهيم» على سلطانية من خزف ذي بريق معدني بمجموعة حضرة صاحب السعادة الدكتور علي باشا إبراهيم،
182
وقد كتب الأستاذ فييت عن هذه القطعة في الجزء الثالث من مجلة الفنون الإسلامية
Ars Islamica ،
183
وذكر أن لونها أصفر زيتوني، وأن الزخرفة الرئيسية فيها رسم فيل؛ ولا غرو فقد كانت الرسوم الآدمية ورسوم الحيوان العنصر الأساسي في زخارف الخزف الفاطمي، بينما كانت الفروع النباتية والأوراق عنصرا ثانويا يصحب الموضوع الرئيسي الذي يسوده بكبر حجمه وظهور أهميته. وعلى كل حال فإن الفيل يكاد يغطي السلطانية كلها، وهو مرسوم بدقة كبيرة، وإن كان ذيله أطول مما يجب أن يكون، كما أن عينه مرسومة على النحو الذي جرى عليه الفنانون في ذلك العصر، وهو حجز دائرة في أرضية الرسم، ووضع نقطة سوداء في هذه الدائرة، وحافة السلطانية عليها زخرفة تشبه «الركامة»، وقوامها شريط من قطاعات دوائر متصلة. أما السطح الخارجي فعليه زخرفة كانت منتشرة كل الانتشار في تزيين السطوح الخارجية للأواني منذ العصر الطولوني إلى عصر الفواطم، ونقصد بذلك تغطية أرضية السطح الخارجي بخطوط صغيرة منثورة فوقه دون عناية أو مراعاة دقة، ونجد بين هذه الخطوط المبذورة أربع دوائر كبيرة في كل منها دائرة أصغر منها حجما، وتتحد معها في المركز، وترى فيها نفس الزخرفة المكونة من الخطوط المنثورة سالفة الذكر. وعلى كل حال فإننا نرى العبارة الآتية في النصف الخارجي لإحدى الدوائر الكبيرة: «عمل إبراهيم بمصر.»
كما أن على قاع السلطانية من الخارج كلمة «صح»
184
التي ترى على بعض قطع خزفية أخرى، والتي فسرها علي بهجت بك، والمسيو فيلكس ماسول بأن الصانع يعلن فيها فخره بهذه القطعة التي بلغت الإتقان وصحت صناعتها، بينما يرى الأستاذ فييت في هذه الكلمة إشعارا برؤية القطعة وإذنا بتسويتها؛ أي: إحراقها،
185
ولسنا ندري على أي التفسيرين نوافق، فإن رأي الأستاذ فييت يقوم ضده أن كثيرا من القطع التي نعثر عليها ليست عليها هذه الشارة أو «الإذن» بإحراقها، بينما رأي بهجت بك والمسيو ماسول يغلب عليه الخيال والحماس.
وعلى كل حال فإن هذه التحفة الثمينة تشبه في زخارفها الخزف الطولوني؛ ولكن أكبر الظن أنها من صناعة أواخر القرن الرابع الهجري (أواخر القرن العاشر أو أوائل القرن الحادي عشر).
وفي دار الآثار العربية بعض قطع من خزف ذي بريق ذهبي (رقم السجل 12997)، وقد كتب عنها الأستاذ فييت في المقال السالف الذكر، ولفت النظر إلى أهميتها نظرا لإتقان زخارفها؛ ولأنها تحمل اسم الخليفة الحاكم بأمر الله.
186
وغير خاف أن قطع الخزف المعروفة ليست باسم أحد من الخلفاء أو السلاطين
187
اللهم إلا قطعتين؛ الأولى: قاع باسم أمير أيوبي من حمص توفي سنة (638ه/1240م). والثانية: صحن مؤرخ في جمادى الثانية سنة (607ه/1210م)؛
188
وذلك على عكس تحف البرنز والمشكاوات المموهة بالمينا، فإن كثيرا منها بأسماء الخلفاء والأمراء والسلاطين.
وقد كانت هذه القطع الخزفية أجزاء من صحن كبير قطره 52، وارتفاعه 13 سنتيمترا، وقوام زخرفته مراوح نخيلية (بالمت)، تلتقي أطرافها في قاع الصحن، وتتصل بها فروع نباتية، ووريقات غاية في الجمال والإتقان، وتتبع الطراز الزخرفي الذي نقله الطوليون إلى مصر. أما حافة الصحن فكان عليها شريط دائر من كتابة كوفية بسيطة وجميلة بحروف ذهبية اللون على أرضية بيضاء، ونص الباقي منها:
حاكم بأمر ... وعلى آبائه.
ولا ريب في أن هذا الصحن بجمال زخرفته، ودقة صنعته، وروعة الحروف الكوفية فيه، كان حقا تحفة ملكية بديعة.
189
ولننتقل الآن إلى مدرستي سعد ومسلم، فقد كانا على رأس هذه الصناعة في عصرهما، واشتغل بإشرافهما وإرشادهما، كما نسج على منوالها عدد كبير من الخزفيين، فكان لكل منهما مدرسة في هذا الفن، لها ذاتيتها، ولها ميزات سنحاول استقصاءها مما وصل إلينا من القطع، دون أن نذهب إلى أن آراءنا تعتبر فصل القول في هذا الشأن.
على أننا إذا جاز لنا أن نستنبط شيئا من التناسق والانسجام والرقة والرشاقة التي نراها في طراز سعد، أكثر مما نراها في طراز مسلم، ومن الشبه الكبير الذي نجده بين منتجات مسلم وبين منتجات العصر الطولوني، ومن المسحة الأولية التي تسودها القوة والحرية في الخزف الذي صنعه مسلم، نقول: إذا جاز لنا أن نستنبط شيئا من هذا كله، فربما استطعنا - دون قرائن أو أدلة قوية - أن نرجح أن مسلما عاش في أوائل العصر الفاطمي، وأن سعدا عاش بعده بقليل، أو لعله أدرك حكم المستنصر الطويل؛ ولكن الواقع أننا لا نستطيع أن نجزم بقول في هذا الشأن، ولا سيما إذا لاحظنا أن اسمي هذين الفنانين ليسا مكتوبين على كل القطع التي خرجت من مصنعيهما؛ فإن هناك تحفا كثيرة ليس عليها اسم صانع ما، ولكنها تنطق بنوع بريقها الذهبي، وأسلوب زخرفتها، وطريقة صنعتها بأنها من صناعة سعد أو مسلم، أو من صناعة خزفيين تربطهم وأحد هذين الصانعين رابطة الأستاذ وتلميذه أو الناسج على منواله، ومن ثم فإن الأفضل أن يكون حديثنا عن طراز مسلم أو مدرسته، وعن طراز سعد أو مدرسته وليس عنهما بالذات، فأكبر الظن أنهما كانا علمين اهتدي بهما في هذه الصناعة، وكان لكل منهما في عصره السلطان الأعظم على أهلها.
طراز مسلم
نرى الأواني في هذا الطراز مدهونة كلها بالطلاء حتى تكاد تختفي طينتها، أما حرف قاعدتها فمنخفض جدا، وتكسوه المينا فتخفي عجينته.
والبريق المعدني الذي نجده في هذا الطراز ذو لون واحد في أغلب الأحيان، وهو اللون الذهبي الناشئ عن مزيج من الفضة والقصدير؛ على أننا نشاهد على بعض القطع بريقا أحمر نحاسي اللون.
وقد استخدم مسلم وتلاميذه الزخارف الحيوانية والآدمية والنباتية، فضلا عن الحروف الكوفية. والحيوانات في زخارف هذا الطراز يبدو عليها شيء من المسحة الأولية والقوة والحرية في الرسم، يذكرنا بالمنتجات الخزفية في القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي).
على أن أفضل الزخارف التي كان يميل إليها أصحاب هذا الطراز إنما هي تلك التي تتكون من حيوان أو طائر، له الصدارة في الموضوع الزخرفي، وتحيط به أو تتفرع منه خطوط متداخلة ومتشابكة، وفروع نباتية تزين الأرضية، وتزيد الموضوع الزخرفي الأساسي رونقا وبهاء،
190
وقد وصل الخزفيون في هذه المدرسة إلى دقة عظيمة في رسم الحيوان فأسبغوا عليه ثوبا من الحياة وجعلوه صورة صادقة لطبيعته،
191
على الرغم من بعض الأساليب التقليدية المهذبة التي لم ينج منها الفنانون المسلمون في أغلب الأحيان،
192
والصور الآدمية التي نراها على بعض منتجات مسلم وأتباعه فيها قوة تعبير تشهد بتفوقهم في هذا الميدان.
193
وهناك بعض موضوعات زخرفية تشعر بتأثير فارس في رسوم هذه المدرسة، وهذا واضح في قطعة بدار الآثار العربية،
194
عليها إمضاء مسلم وفيها رسم طائرين متواجهين وبينهما رسم شجرة الحياة.
195
وقد لوحظ كذلك الشبه بين بعض رسوم الحيوانات على خزف مسلم ومدرسته، وبين رسوم الحيوانات على قطع الخشب الفاطمي التي وجدت في مارستان قلاون، والتي يرجع تاريخها إلى بداية القرن الخامس الهجري (الحادي عشر)، كما سنرى عند الكلام عن صناعة النقش في الخشب عند الفاطميين.
196
وقد وصلت إلينا قطع خزفية عديدة عليها اسم مسلم، وأكثر ما نرى هذا الاسم إنما على قاعدة الأواني، وبخط كوفي بسيط؛ ولكنا نراه أحيانا مكتوبا بطريقة زخرفية بالقرب من حافة الإناء.
وقد ذهب المرحوم علي بك بهجت والمسيو ماسول إلى أن مسلما لم يكتب اسمه على كل القطع التي أنتجها مصنعه، مكتفيا بعلامة (ماركة) كانت معروفة لكل من يهمهم الأمر، وأن هذه العلامة معروفة لنا، بفضل قطعة وجدت في الفسطاط وهي من القطع التي لم تصلح عند التسوية في الفرن؛ وعلى كل حال فإن عليها إمضاء سعد ومعها العلامة التي نحن بصددها، وهي تتكون من دائرتين متحدتي المركز، والدائرة الداخلية مملوءة بخطوط قصيرة ومتوازية، بينما المسافة التي بين الدائرتين عادية لا زخارف فيها، وهذه العلامة تشبه العلامات المستخدمة في خزف القرن الثالث الهجري (التاسع).
197
وأكبر الظن أن مصنع مسلم كان في مدينة الفسطاط نفسها، كما يظهر مع وجود القطعة التالفة في الفرن؛ لأن مثل هذه القطعة لا محل لاستيرادها من بلد آخر.
ومن المحتمل أيضا أن ورثته أو تلاميذه ظلوا يعملون باسمه، وينسجون على منواله؛ فإن هذا الفرض يفسر وجود قطع من طراز صنعته دون أن تكون لها الدقة التي نعرفها في القطع التي عليها اسمه، أو التي يمكننا أن نجزم بنسبتها إلى مدرسته ودار الآثار العربية غنية بالخزف ذي البريق المعدني؛ ولكن بعض القطع الكاملة وذات الشهرة العالمية من هذا النوع محفوظة في متاحف أوروبا أو مجموعاتها الخاصة.
ومن القطع التي قد يمكن نسبتها إلى مدرسة مسلم الصحن المحفوظ بدار الآثار العربية (رقم السجل 5502)، وعليه زخارف بالبريق المعدني ذي اللون الذهبي المائل إلى الخضرة، وتتكون من ديك رافع ذيله، ويتدلى من منقاره فرع نباتي على النحو الذي ترسم عليه الطيور أحيانا في الفن الساساني، وحول الدائرة المرسوم فيها هذا الديك دائرة أخرى فيها زخرفة نباتية مع تسع ورقات تقليدية مهذبة، رءوسها نحو حافة الإناء وتفصلها فروع نباتية بها نقط وخطوط صغيرة.
198
وفي الدار سلطانية (رقم السجل 12974)، أرضيتها أقل بياضا من أرضية الصحن السابق، وبريقها المعدني أميل إلى اللون الذهبي، وجسمها مفرطح على قاعدتها دون استدارة تذكر، وزخرفة قاعها مكونة من طائر في وسط فروع نباتية متقنة، ويتدلى من منقاره فرع نباتي آخر، أما زخرفة دائر السلطانية فمكونة من حروف كوفية مشجرة، بينها فروع نباتية ووريقات جميلة.
199
وفيها سلطانية أخرى أصغر حجما (رقم السجل 12975) وعليها زخرفة بالبريق المعدني ذي اللون الذهبي على شكل أرنب يتدلى من فمه فرع فيه زهرة.
200
والواقع أن الناظر إلى هذه الأواني الفاطمية من الخزف ذي البريق المعدني يمكنه أن يفهم ما بعث كثيرين من مؤرخي الفن الإسلامي على القول بأن هذه الأواني قصد بها الاستغناء عن الأواني الذهبية والفضية، كما أن في استطاعته أيضا أن يحكم بتفوق الصناع المصريين في ذلك العصر الزاهر، وبما كان لهم من سلامة الذوق ودقة الصنعة، وبقدرتهم الفائقة على هضم ما استعاروه من الأساليب الفنية عن الأمم التي كان لهم بها اتصال، والتي كانوا يعترفون بها بالأسبقية في أي ناحية من نواحي الفن والصناعة.
طراز سعد
وصلت إلينا قطع كثيرة عليها اسم سعد، وقطع أخرى يمكن الجزم بأنها من صناعة مدرسته، وقد شوهد أن بعض العناصر النباتية في زخارف هذه المدرسة تذكر بالعناصر الزخرفية النباتية على ألواح الخشب التي عثر عليها في مارستان قلاون، والتي يرجع تاريخها - كما ذكرنا - إلى القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي). وكذلك إذا جاز لنا أن نستأنس بشكل الحروف في إمضاء سعد، ظهر لنا بمقارنتها بكتابات شواهد القبور المؤرخة أن مدرسة هذا الفنان ازدهرت في نصف القرن السالف الذكر.
والمعروف أن الآنية التي صنعها سعد وأتباعه لا تكون كلها مغطاة بالطلاء إلا نادرا جدا، وإنما نرى ارتفاع سنتيمترين أو ثلاثة من أسفلها لا دهان عليه، إلا إذا كان الإناء قد ترك في الفرن مدة أطول مما يلزم، فسالت المينا إلى أسفل، وركزت منها نقط سميكة عند قاعدته. وإمضاء سعد نجده مكتوبا بالحروف الكوفية المشجرة على السطح الخارجي للإناء. والمينا التي يستخدمها سعد وتلاميذه؛ إما بيضاء اللون نقية وغنية بما فيها من قصدير، وإما زرقاء مائلة إلى الخضرة بما فيها من نحاس، وإما حمراء وردية بما فيها من منجانيز. وفضلا عن ذلك فإن سعدا كان يستخدم في بعض الحالات طلاء بسيطا من مادة زجاجية، شديد اللمعان، ويميل لونه إلى الخضرة أو لون العاج.
201
وعلى كل حال فإن البريق المعدني الذي نراه على قطع هذه المدرسة قد يكون ذهبي اللون، وقد يكون زيتونيا مائلا إلى الاصفرار.
والظاهر أن مدرسة سعد في الزخرفة بالبريق المعدني لم تقتصر على الخزف فقط بل تجاوزته إلى الزجاج؛ فدار الآثار العربية فيها قطع زجاج يذكر زخارفها بطراز سعد في زخرفة الخزف ذي البريق المعدني، وكذلك متحف بناكي به قطعة مزخرفة بالطريقة نفسها.
ومهما يكن من شيء فإن زخارف سعد ذات البريق المعدني متنوعة وغنية، وأكثر الموضوعات الزخرفية ورودا رسوم الحيوانات والطيور، تحيط بها الفروع النباتية والزهور والمراوج النخيلية (البالمت) والجديلات؛ كل ذلك بدقة وعناية فائقتين، هما اللتان أعلتا شأن سعد ومدرسته.
أما الرسوم الآدمية في منتجات سعد وأتباعه، ففيها أنوثة ورقة تذكر برسوم الأشخاص في صور رضا عباسي، وإن كانت هذه من طراز آخر.
202
وطبيعي أن يكون سعد قد أخذ أكثر موضوعاته الزخرفية عن الأساليب الفنية التي كانت معروفة في ذلك الوقت؛ فالأسماك والطيور المتقابلة، والأشجار التي يتدلى منها الثمر، والسلال المملوءة بالفاكهة، ورسوم الأرابسك والفروع النباتية، كل هذه نراها في الزخارف الإيرانية والبيزنطية والمصرية قبل ذلك العهد.
203
وفي دار الآثار العربية قطعة من خزف ذي بريق معدني (رقم السجل 1 / 5397) عليها رسم رأس السيد المسيح مرسومة بأسلوب بيزنطي ناطق، وحولها إكليل النور المعروف،
204
وينسب هذا الرسم إلى مدرسة سعد،
205
وإلى نفس المدرسة يمكننا أن ننسب قطعة أخرى (رقم 2 / 5396) عليها رسم ثلاثة أشخاص، كتب فوق أوسطهم اسم «أبو طالب»، ولعل المقصود عم النبي - عليه السلام - ولا سيما أن هناك كلمة اخرى يمكن قراءتها: «رسول.»
206
كما أننا نرى إمضاء سعد على إناء في مجموعة ديكران كليكان المعروضة الآن في متحف فكتوريا وألبرت بلندن. وقطر هذا الإناء 22 سنتيمترا، وقد وجد بالقرب من الأقصر، وهو من خزف فاطمي مدهون بطلاء أبيض وعليه باللون المعدني الأسمر البراق صورة رجل تتدلى من يده اليمنى مبخرة على شكل مشكاة،
207
على أننا لم نكن لنستطيع أن نحكم من أول نظرة أن هذا الإناء من صناعة سعد؛ وذلك لأن عليه مسحة بيزنطية، فلا تظهر خصائص الزخارف التي استخدمها هذا الفنان إلا في أرضية الإناء، وعلى رداء الرجل الذي يحمل المبخرة. وقد ذهب الدكتور لام
Dr. Lamm
إلى أن بين الزخارف التي تغطي أرضية الإناء علامة «عنخ» أي: علامة الحياة عند المصريين القدماء،
208
وقد صارت بعد ذلك علامة الصليب عند الأقباط وظن لذلك ولوجود صورة المسيح على القطعة السالفة الذكر أنه من المحتمل أن سعدا كان من سلالة الأقباط،
209
ونحن لا نستطيع أن ننفي هذا القول أو نؤيده؛ ولكننا نظن أن الزخرفة التي يرى فيها الدكتور لام علامة «عنخ» ليست إلا ورقة نباتية تقليدية ومهذبة، ويتفرع منها ورقتان صغيرتان من الجانبين يخيل للرائي أنهما ذراعا صليب قبطي.
ومهما يكن من شيء فإن هذه التحفة آية في الجمال ودقة الصنعة، والطلاء الذي يغطيها دقيق جدا.
وفي دار الآثار العربية والمجموعات الأثرية التي يمتلكها الهواة قطع ليست عليها إمضاء سعد، ولكن لا مجال للشك في نسبتها إلى مدرسته.
ولعل أشهر هذه القطع القدر التي كانت في مجموعة الدكتور فوكيه
Dr. Fouquet
بالقاهرة، والتي انتقلت إلى مجموعة كيليكيان حيث نراها معروضة في متحف فكتوريا وألبرت، وقد وجدت هذه القدر في صعيد مصر، وارتفاعها نحو 32 سنتيمترا، وهي من الخزف الفاطمي ذي البريق المعدني، وطلاؤها رمادي اللون، وزخرفتها تتكون من ثلاثة أشرطة: أعلاها تحت عنق القدر وفيه سمك يسبح في الماء، وثانيها فيه مراوح نخيلية (بالمت)، وثالثها فيه زخرفة مجدولة، وكل هذا معروف لنا في الزخارف التي استخدمتها مدرسة سعد، والتي نراها في القطع التي عليها توقيعه.
210
وتشبه القدر السالفة الذكر قدرا أخرى من الخزف الفاطمي محفوظة في دار الآثار العربية (رقم السجل 4300)، وهي مدهونة بالمينا البيضاء، وعليها بالبريق المعدني ذي اللون المائل إلى الخضرة شريط عريض من الزخرفة، فيه أربع جامات بكل منها رسم طاوس،
211
وفي الدار قدر ثانية (رقم السجل 13511)، عليها زخارف في أشرطة دائرة: أكبرها به فروع نباتية وأوراق، وأحدها به خطوط منكسرة، والثالث فيه دوائر متماسة.
212
ومما يؤسف له أن النماذج السليمة من الخزف ذي البريق المعدني نادرة جدا، والقاعة الفاطمية في دار الآثار العربية بها آنية تنقص بعض أجزائها، كما أن قاعة الخزف في نفس الدار تحوي بين جدرانها نماذج جميلة سوف تعنى الدار بالكتابة عنها في مؤلف جامع عن الخزف الإسلامي. وحسبنا الآن أن نستعرض بعض التحف المهمة فيها:
فهناك صحن كبير (رقم السجل 13123) مدهون بطلاء أبيض فوقه باللون الذهبي البراق ثلاث جامات، وفي كل منها صورة أسد أو نمر يعدو ويتدلى من فمه فرع نباتي، وعلى أرضية الصحن زخرفة نباتية من ورقة كبيرة وفروع نباتية، وعلى حافة الإناء زخرفة على شكل أسنان المنشار. ومما يسترعي الانتباه في هذه التحفة مسحة العظمة والخيلاء في صورة الحيوان، وروح التناسق والتناسب في زخرفة الصحن كله.
213
وفي الدار صحن آخر (رقم السجل 13205) عليه باللون المعدني الأسمر البراق رسم ثور كبير، وفوقه وتحته زخرفة من فرع نباتي جميل.
وفيها صحن (رقم السجل 13477) به رسم فارس على ذراعه باز،
214
وأجزاء من صحن لآخر لا يزال ظاهر من زخرفتها رسم باز وصورة فارس على رأسه خوذة غريبة الشكل.
215
وفي الدار كذلك صحن صغير (رقم السجل 13487) عليه رسم شخص بيده كأس وبجواره إبريق، وعلى ردائه زخارف من دوائر مظللة بخطوط متعارضة وخطوط تشبه سيقان الحروف.
216
الخزف الصيني وتقليده
وقد وجدت في حفريات الفسطاط قطع كثيرة من الخزف الصيني، أو من خزف حاول فيه الصناع المصريون تقليد الخزف المصنوع في الشرق الأقصى، وأكبر الظن أن استيراد الخزف الصيني إلى مصر راجع إلى عصر ابن طولون الذي عرف هذا الخزف في سامرا،
217
حيث تشهد بوجوده القطع التي عثرت عليها البعثة الألمانية في أنقاض هذه العاصمة والتي توجد منها مجموعة نفيسة في القسم الإسلامي من متاحف برلين.
218
وليس غريبا أن يسعى الخزفيون المصريون في تقليد الخزف الصيني إرضاء للذوق السائد في ذلك العصر؛ فقد كان الخزف الصيني مشهورا في الشرق الأدنى، وكان المسلمون يعجبون بتفوق أهل الصين في صناعة الطرف عامة، وخير شاهد على ذلك ما كتبه النويري عن إقليم «الصين» وما اختص به. قال: فإن العرب تقول لكل طرفة من الأواني: صينية، كائنة ما كانت لاختصاص الصين بالطرائف. وأهل الصين خصوا بصناعة الطرف والملح وخرط التماثيل والإبداع في عمل النقوش والتصاوير ؛ حتى إن مصورهم يصور الإنسان فلا يغادر شيئا إلا الروح، ثم لا يرضى بذلك حتى يفصل بين ضحك الشامت وضحك الخجل، وبين المبتسم والمستغرب، وبين ضحك المسرور والهازئ، ويركب صورة في صورة ... إلخ.
219
فضلا عن أن الطبري أشار إلى بعض طرف الصين حين ذكر فتح مدينة كش من أعمال سمرقند على يد خالد بن إبراهيم والي بلخ سنة (134ه/751م)، فقال: وفي هذه السنة غزا أبو داود خالد بن إبراهيم أهل كش، فقتل الإخريد ملكها، وهو سميع مطيع قدم عليه قبل ذلك بلخ، ثم تلقاه بكندك مما يلي كش، وأخذ أبو داود من الإخريد وأصحابه حين قتلهم من الأواني الصينية المنقوشة المذهبة التي لم ير مثلها ، ومن السروج الصينية، ومتاع الصين كله من الديباج وغيره، ومن طرف الصين شيئا كثيرا.
220
وقد أشار ابن خرداذبه في القرن الثالث الهجري (التاسع) إلى الغضار (الخزف) الجيد الصيني.
221
وهناك نصوص تاريخية أخرى تثبت إعجاب المسلمين بالخزف الصيني؛ ولكن لا يتسع المجال هنا لكتابتها أو الإشارة إليها بعد أن جمعها الأستاذ كاله
Dr. P. Kahle ، ودرسها في مقال له عن «المصادر الإسلامية لدراسة الخزف الصيني».
222
وقد كانت العلاقة التجارية بين الصين والعالم الإسلامي ودية ووثيقة، وهي ترجع إلى عهد أسرة طنج (618-906م) التي ساد على يدها الرخاء في الشرق الأقصى، والتي يقال: إن النبي أرسل إلى أحد ملوكها يدعوه إلى الإسلام، فاهتم هذا القيصر بالجماعة الإسلامية الناشئة، وأحسن وفادة مبعوثها، وساعده على إنشاء مسجد في كنتون، رغبة في أن ينشئ مع المسلمين علاقات تجارية،
223
وقد نجح في الوصول إلى هذا الغرض، وبدأ منذ هذا التاريخ تبادل تجاري بين الصين والعالم الإسلامي، أتيح له أن يكبر وينمو، ويكون ذا أثر بالغ في تطور الفن الإسلامي ولا سيما صناعة الخزف.
224
ويدل وجود الخزف الصيني في أطلال سامرا والفسطاط على تجارته الزاهرة بين الشرق الأقصى والبلاد الإسلامية، وقد ذكر ابن خرداذبه شيئا عن استيراد الخزف الصيني من الشرق الأقصى، وكانت تقوم بهذه التجارة سفن صينية وسفن عربية، كانت السفن الصينية تقبل إلى قرب مدينة البصرة التي كانت مركز توزيع الواردات الصينية على العالم الإسلامي،
225
وفضلا عن ذلك فقد أشار اليعقوبي إلى شارع في بغداد كان مركزا لبيع التحف الواردة من الصين.
226
وقد وصلنا وصف سياحة رحالة عربي اسمه سليمان في الهند والصين، كتب
Mez
سنة (237ه/851م)، ومعه ذيل كتبه نحو سنة (304ه/916م) مؤلف اسمه أبو زيد حسن. وفيه بيانات دقيقة عن علاقة المسلمين بالصين في القرنين الثالث والرابع بعد الهجرة (التاسع والعاشر).
227
وقد طبع لانجلس
Langlés
هذه الرحلة سنة (1811)، ثم نشرها رينو
Reinaud
مع ترجمة فرنسية سنة (1845).
ومما جاء في وصف هذه الرحلة العبارات الآتية: «وذكر سليمان التاجر أن بخانفو، وهو مجتمع التجار، رجلا مسلما يوليه صاحب الصين الحكم بين المسلمين الذين يقصدون إلى تلك الناحية يتوخى ملك الصين ذلك، وإذا كان في العيد صلى بالمسلمين وخطب، ودعا لسلطان المسلمين،
228
وأن التجار العراقيين لا ينكرون من ولايته شيئا من أحكامه وعمله بالحق، وبما في كتاب الله - عز وجل - وأحكام الإسلام. فأما المواضع التي يردونها ويرقون إليها فذكروا أن أكثر السفن الصينية تحمل من سيراف، وأن المتاع يحمل من البصرة وعمان وغيرها إلى سيراف، فيعبى في السفن الصينية بسيراف وذلك لكثرة الأمواج في هذا البحر وقلة الماء في مواضع منه. والمسافة بين البصرة وسيراف في الماء مائة وعشرون فرسخا، فإذا عبى المتاع بسيراف استعذبوا منها الماء وخطفوا - وهذه لفظة يستعملها أهل البحر يعني يقلعون - إلى موضع يقال له: مسقط وهو آخر عمل عمان، والمسافة من سيراف إليه نحو مائتي فرسخ.»
229
ويصف سليمان بعد ذلك المحطات المختلفة التي تقف فيها السفن في طريقها إلى الصين، ويبدأ الكلام عن «أخبار بلاد الهند والصين أيضا وملوكها». ويحدثنا «أن أهل الهند والصين مجمعون على أن ملوك الدنيا المعدودين أربعة»: فأول من يعدون من الأربعة ملك العرب، وهو عندهم إجماع لا اختلاف بينهم فيه أنه أعظم الملوك، وأكثرهم مالا وأبهاهم جمالا (كذا)، وأنه ملك الدين الكبير الذي ليس فوقه شيء، ويعد ملك الصين نفسه بعد ملك العرب!
230
ثم يذكر سليمان أن السفن التي كانت تصل إلى المواني الصينية كان يقابلها موظفون يخزنون حمولتها مدة ستة أشهر على ضمانتهم، وبعد انتهاء موسم التجارة والإبحار يخرجون البضائع، ويستولون على ثلثها للدولة ويسلم الباقي إلى التجار.
231
وأما الذيل الذي كتبه أبو زيد حسن، ففيه أحاديث طلية عن علاقة المسلمين بالصين؛ كحديث القرشي المسمى ابن وهب، الذي زار بلاط ملك الصين، ورأى فيه صور الرسل، وبينها صورة محمد - عليه السلام - راكبا جملا وأصحابه محدقون به؛
232
ولكن الذي يهمنا هنا أن أبا زيد يذكر أن السفن الصينية القادمة من سيراف كانت إذا وصلت جدة أقامت بها ونقل ما فيها من الأمتعة التي تحمل إلى مصر في مراكب خاصة كانت تسمى مراكب القلزم؛ لأن مراكب السيرافيين كانت لا تستطيع الملاحة في شمالي البحر الأحمر.
233
وهو يحدثنا فوق ذلك عن اللؤلؤ وتجارته مما يساعد على تصور اللآلئ التي امتلأت بها خزائن الفاطميين،
234
وفضلا عن ذلك فإننا نجد في المسعودي وأبي الفدا وابن بطوطة وغيرهم من مؤرخي المسلمين ورحالتهم أخبارا كثيرة عن العلاقات التجارية بين العرب والشرق الأوسط والأقصى.
235
كما أن الرحالة البندقي ماركو بولو
Marco Polo
أتى في وصف رحلته بكثير من البيانات عن هذا الموضوع. أما عن المدة المحصورة بين المؤرخين العرب في القرنين الثالث والرابع الهجريين (التاسع والعاشر بعد الميلاد)، وماركو بولو في أواخر القرن الثالث عشر الميلادي، فإن لدينا مصدرا صينيا هو
Chau Ju-Kua
الذي كان مفتشا للتجارة الخارجية في إقليم فوكين بالصين. وكتب في أواخر القرن الثاني عشر الميلادي مؤلفا عنوانه
Chu-fan-chi
وصف الأمم الأجنبية، درس فيه التجارة الصينية العربية في القرن الثاني عشر الميلادي.
236
ومهما يكن من شيء فإن صناعة الخزف ازدهرت في عصر الفواطم، وأصبحت مصر تستورد من الشرق الأقصى كثيرا من الخزف الثمين؛ بل وصارت مركز تجارته بين الشرق والغرب، واتسعت هذه التجارة، ولا سيما منذ القرن الثاني عشر حين استخدم الصينيون البوصلة، وظلت مصر مركز هذه التجارة، حتى كشف فاسكو دي جاما طريق رأس الرجا الصالح سنة (1497م).
لا غرابة إذن إن كان الخزفيون الفاطميون تأثروا بمنتجات زملائهم في الشرق الأقصى، وإن كانت مدرسة سعد أنتجت نوعا من الخزف الصيني ذي الزخارف المحفورة تحت الدهان كانت تقلد بها خزف سونج
Song
الصيني. وفي دار الآثار العربية كمية كبيرة من الخزف الذي كان الصناع المصريون المختلفون - ولا سيما سعد وتلاميذه - يقلدون به خزف سونج؛ ولكن الخزف الذي أنتجه هؤلاء الصناع المصريون كان مزينا بالبريق المعدني الذي لم يكن معروفا في الشرق الأقصى.
ولعل هذا يثبت أن المصريين لم يقلدوا تقليدا أعمى؛ وإنما كانوا يعملون على اقتباس أشكال بعض الأواني الصينية، وبعض زخارفها، وعلى إنتاج آنية تضارع الخزف الصيني في جودته وبهائه؛ ولكن الظاهر أن تقليد الخزف الصيني تقليدا جيدا لم تتسع دائرته في مصر إلا في عصر المماليك.
تحدثنا حتى الآن عن الخزف ذي البريق المعدني، وهو أبرز أنواع الخزف في العصر الفاطمي. وطبيعي أن أنواعا أخرى قامت إلى جانبه، وكانت صناعتها امتدادا للتقاليد الموروثة عند الفخاريين على ضفاف النيل.
فالفخار غير المدهون كانت تصنع منه أبسط الأواني اللازمة لطبقات الشعب؛ ولا سيما القلل التي كانت من الفخار غير المطلي؛ إلا في النادر جدا؛ لأن المقصود منها تبريد الماء ولا بد من المسام للوصول إلى هذا الغرض؛ ومن ثم فإن الذي وصل إلينا منها يكاد يكون خاليا من أي دهان زجاجي، على أن شبابيك القلل كانت تزينها زخارف دقيقة هندسية أو حيوانية، وعلى بعضها عبارات دعاء وتبريك، وربما كان أقدم ما في دار الآثار العربية يرجع إلى العصر الطولوني؛ ولكن طراز الحيوانات وشكل الكتابة على بعض هذه الشبابيك يجعلنا نذهب إلى أن جزءا منها يرجع إلى عصر الفواطم؛
237
لأنها تذكر بالحيوانات والكتابة، التي نراها على تحف الخزف المطلي، والخشب والنسيج من العصر المذكور.
وفضلا عن ذلك فإن في الدار قطعتين: كلتاهما من عنق إناء (رقم السجل 167 / 8577 و168 / 8577)، وقد بقي في كل منهما شباك، وهذان الجزءان مدهونان بطلاء أزرق عليه زخارف نباتية ببريق معدني من طراز الزخارف التي نراها على الخزف في القرنين الرابع والخامس بعد الهجرة (العاشر والحادي عشر).
وفي الدار كذلك جزء من عنق إناء (رقم السجل 167 / 8577) عليه بالبريق المعدني بقايا زخارف هندسية ونباتية، وأثر صورة سمكة على أرضية بيضاء، وشبابيك القطع الثلاث ليس عليها أي دهان.
وفي مجموعة صاحب العزة كامل غالب بك نخبة طيبة من شبابيك القلل تمثل جل الأنواع التي تعرفها من هذه التحف الدقيقة.
ولا شك في أن شبابيك القلل التي عثر عليها في أطلال الفسطاط،
238
قد صنعت في الفسطاط نفسها؛ لأن بعض القطع التي عثر عليها كانت مما تلف أثناء صناعتها أو تسويتها، ولم يكن ثمة داع لجلبها من مكان بعيد وهي في هذه الحال من التلف.
وقد وصلت إلينا قطع عليها اسم صناع شبابيك القلل، فإن في دار الآثار قطعة (رقم السجل 90 / 3856) عليها بالكتابة النسخية «عمل عابد» كما أن فيها قطعا عليها بعض عبارات أخرى نحو: «من صبر قدر» و«من شرب سر» و«من اتقا فاز» و«العز الدائم» و«اقنع تعز»؛ ولكن كل هذه القطع ذات الكتابات يرجح أنها من عصر المماليك، اللهم إلا الشباك المسجل في الدار برقم (7102)، والمهدي إليها سنة (1926) من الأستاذ مارتن، فإن عليه بالخط الكوفي المشجر كلمة «كاملة»، وأكبر الظن أنه من العصر الفاطمي.
239
ومما صنعه الفخاريون المصريون قوارير النفط (قنابل صغيرة) من عجينة ثخينة، وعلى أشكال مختلفة محببة، وفي بعض أجزائها بروز ليسهل مسكها، وقد استخدمت كميات كبيرة من هذه القوارير في حرق الفسطاط سنة (564ه/1168م). وكتب المقريزي في وصف هذا الحريق: «وبعث شاور إلى مصر بعشرين ألف قارورة نفط، وعشرة آلاف مشعل نار، فرق ذلك فيها؛ فارتفع لهب النار ودخان الحريق إلى السماء، فصار منظرا مهولا، واستمرت النار تأتي على مساكن مصر من اليوم التاسع والعشرين من صفر لتمام أربعة وخمسين يوما.»
240
الخزف ذو الزخارف المحفورة تحت الدهان
ومن أنواع الفخار التي عرفت في العصر الفاطمي الخزف ذو الزخارف المحفورة أو المحزوزة في طينة الإناء تحت طلاء ذي لون واحد، وقد وجدت في أطلال الفسطاط قطع من هذا النوع لم تصلح صناعتها أو تسويتها في الفرن، مما يمكن أن يستنبط منه أن مدينة الفسطاط نفسها كانت مركزا لصناعة هذا الخزف.
ومهما يكن من شيء فإن هذا النوع أقل نفقة من الخزف ذي البريق المعدني، وكان أكثر إنتاجه في القرن السابع الهجري (الثالث عشر)، وزخارفه نباتية أو حيوانية، ويمكن مقارنة بعضها بأنواع من الزخارف النباتية المحفورة على بعض التحف الخشبية الفاطمية. أما الحيوانات المحفورة على هذا النوع من الخزف فلا تشبه الحيوانات في الزخارف الفاطمية شبها كبيرا،
241
مما يجعلنا نظن أن الأرجح أن ننسبه كله إلى العصر الأيوبي. والمشاهد أن ألوان الطلاء فيه متنوعة وغاية في النقاوة، ومنها الأبيض، والأخضر، والأزرق، والبنفسجي، والأصفر؛ فضلا عن اللون الأخضر البحري السيلادون
celadon
بدرجاته المختلفة، ويشاهد كذلك أن الدهان يتجمع في أجزاء الزخارف المحفورة فيجعلها أقتم لونا من سائر القطعة.
وهناك أنواع أخرى من الفخار في العصر الفاطمي، منها الخزف المدهون في بعض أجزائه، وقد وجدت نماذج منه في مصر وفي العراق، ومنها خزف زخارفه منقوشة تحت الدهان، وكان الفخاريون ينقشونها على الإناء ثم يسوونه في الفرن تسوية أولى؛ لتثبيت النقوش وتقوية الإناء قبل دهنه بالطلاء وتسويته في الفرن تسوية ثانية؛ ولكن علي بك بهجت، والمسيو ماسول نسب هذا النوع إلى العصر الأيوبي.
242
ونحن نميل إلى اتباعهما في هذا الرأي وإن كنا لا نملك لإثباته أي دليل قوي، اللهم إلا الشعور بأن هذا الأسلوب في الصناعة أكثر تقدما في التطور العام من سائر الأساليب التي نعرفها في العصر الفاطمي، فضلا عن أنه يناسب ما نعرفه عن العصر الأيوبي من رجوع عن أبهة الفواطم وبذخهم.
ولسنا نستطيع أن نختم كلامنا عن الخزف الفاطمي دون أن نكرر ما ذكرناه عن صعوبة دراسة الخزف الإسلامي في الوقت الحاضر، وفي اعتقادنا أن مثل هذه الدراسة لن تكون مجدية نافعة قبل الانتهاء من دراسة مجموعة دار الآثار العربية درسا وافيا، وكتابة المؤلف الجامع الذي تعتزم الدار إخراجه عن هذا الموضوع. (5) صناعة الزجاج
لم تكن هذه الصناعة في مصر وليدة العصر الإسلامي؛ بل إنها ترجع إلى الأسرة الثامنة عشرة من حكم الفراعنة، فقد كشف فلندرز بتري
Flinders Petrie
آثار مصنع من مصانع الزجاج في تل العمارنة، كما حفظ قبر أمينوفيس الثاني في بيبان الملوك كثيرا من الأواني الزجاجية المتعددة الألوان،
243
وظلت هذه الصناعة زاهرة في العصر الإغريقي الروماني،
244
ثم تطرق إليها الانحلال قبيل الفتح العربي؛ ولكنها أخذت تتقدم سريعا في العصر الإسلامي.
وكذلك ازدهرت صناعة الزجاج في سورية منذ العصور القديمة، وظلت هذه البلاد في العصر العربي موطن تلك الصناعة بعد أن أصابها شيء من الركود قبيل الفتح العربي؛ بسبب احتلال الفرس والاضطرابات السياسية؛ بل إنها أثرت في العصر الإسلامي على صناعة الزجاج في الشرق الأدنى بتمامه، فكان صانعو الزجاج في العراق - وحتى في مصر - يقلدون أشكال الأواني، والأساليب الزخرفية في التحف
245
الزجاجية التي كانت تنتجها أمهات المدن في سورية وفلسطين، كصور وأنطاكية وعكا والخليل ودمشق وحلب.
وهكذا نرى أن مصر وسورية كانت لهما القيادة في صناعة الزجاج منذ العصور القديمة، وإن هذه القيادة ظلت لهما في العصر الإسلامي، وطبيعي أن يكون صناع الزجاج في الإسلام ورثوا قسطا كبيرا من الأساليب الفنية عن أجدادهم القدماء، وأن يكون التطور في هذه الصناعة تدريجيا حتى إننا لا نستطيع في أكثر الأحيان أن نجزم بنسبة تحفة زجاجية إلى العصر الإسلامي، إلا إذا كان في شكلها أو في أساليب زخرفتها ما ينطق تماما بأنها إسلامية. ولا غرو فإن الحفائر في أطلال المدن الإسلامية كشفت عن عدد كبير من القناني والقوارير والأواني الزجاجية، هيئتها هلنستية أو رومانية، وقد يكون عليها من الكمخ أو التقزيح
246
ما نراه على الأواني التي صنعت في العصور القديمة.
وقد جاء ذكر الزجاج الإسلامي في كثير من كتب الأدب والتاريخ والرحلات، ولا محل لأن نأتي هنا بكل النصوص الخطيرة الشأن في هذا الموضوع، بعد أن جمعها الدكتور لام
C. J. Lamm
ونقلها إلى الألمانية في الكتاب الذي ألفه عن زجاج الشرق الأدنى في العصور الوسطى.
247
وهو أوفى المراجع وأتمها في هذه الناحية من دراسات الفنون الإسلامية.
وحسبنا الآن أن نشير إلى الشهرة التي كانت لليهود في صناعة الزجاج بصور وأنطاكية،
248
وأن نذكر أن الثعالبي المتوفى في القرن الخامس الهجري (الحادي عشر) كتب أن المثل كان يضرب برقة الزجاج السوري ونقاوته،
249
كما أننا نعرف أن ابن النديم ذكر اسم إسحاق بن نصير في أخبار الكيميائيين والصنعويين من الفلاسفة القدماء والمحدثين، وكتب أنه كان ممن يتعاطى الصنعة وله معرفة بالتلويحات وأعمال الزجاج، وأن له من الكتب كتاب التلويح،
250
وسيول الزجاج، وكتاب صناعة الدر الثمين.
251
ومن النصوص التاريخية التي جاء فيها ما يشهد بتقدم مدينة حلب في صناعة الزجاج حكاية في باب فضل القناعة من كتاب «جلستان» لسعدي، الشاعر الإيراني، تحدث فيها عن تاجر ثرثار أخبره أنه يستعد لرحلة جديدة، فسأله سعدي: أين تكون تلك السفرة؟ وأجاب التاجر: «أريد أن أحمل الكبريت من إيران إلى الصين، فقد سمعت أن له قيمة عظيمة فيها، ومن هناك آخذ الخزف الصيني إلى بلاد الروم، ثم أحمل الديباج الرومي إلى الهند، والفولاذ الهندي إلى حلب، وآخذ الزجاج الحلبي إلى اليمن، والأقمشة اليمنية إلى إيران.»
252
والواقع أن حلب ذاع صيتها في إنتاج الأواني الزجاجية، ولا سيما في عصر المماليك، فكان سوق الزجاج فيها قبلة التجار والغواة والأثرياء، وكانت مصنوعاتها ذات الصفة الدقيقة والزخارف البديعة من أثمن الهدايا وأجمل المقتنيات.
253
ونحن إذا استطردنا في الكلام عن صناعة الزجاج في المدن السورية؛ فذلك لأن سورية ومصر كانتا في أكثر عصور التاريخ جزأين من حكومة واحدة، أو أن حكام وادي النيل كانت تدفعهم الضرورة الحربية إلى السيطرة على سورية. والذي يعنينا في هذا المقام أن الطولونيين والفاطميين والأيوبيين ثم المماليك كانوا يسيطرون على أجزاء واسعة من سورية، إلا في فترات قصيرة.
254
ولنعرج الآن على تاريخ تلك الصناعة في مصر نفسها؛ فيسترعي انتباهنا منذ البداية أننا لا نكاد نملك شيئا يثبت لنا تقدمها وازدهارها في القرون الثلاثة الأولى بعد الفتح العربي، فالقوارير التي عثر عليها وتنسب إلى تلك الفترة ليست لها قيمة فنية كبيرة؛ لبساطة زخارفها أو لخلوها من الزخارف، فضلا عن أن صنعتها ليست دقيقة جدا. أما إبداع شكلها واعتدال نسبها في بعض الأحيان فراجع إلى بقية من الأساليب الفنية المورثة منذ القدم، ولكن نوعا من المصنوعات الزجاجية كان رائجا في هذا العصر وفي العصر الفاطمي، ونقصد بذلك الأقراص الزجاجية التي كانت تتخذ عيارات وزن وكيل، فكان يطبع بها على الأواني لبيان أحجامها المختلفة،
255
وكثير منها بأسماء ولاة مصر وبأسماء الخلفاء الفاطميين. وقد أهدى المغفور له الملك «فؤاد الأول» إلى دار الآثار العربية مجموعة خطيرة الشأن من هذه الأقراص الزجاجية، والمعروف أن الزجاج كان مستعملا بمصر في هذا الشأن إبان العصر الروماني.
ويحدثنا المقريزي عند الكلام على قرية سمناي من قرى تنيس، أن قوما كشفوا فيها سنة (837ه/1433م) عن «غضارات زجاج كثيرة مكتوب على بعضها اسم الإمام المعز لدين الله، وعلى بعضها اسم الإمام العزيز بالله نزار، ومنها ما عليه اسم الحاكم بأمر الله، ومنها ما عليه الإمام الظاهر لإعزاز دين الله، ومنها ما عليه اسم المستنصر وهو أكثرها.»
256
ومهما يكن من شيء فإن صناعة الزجاج تقدمت في العصر الفاطمي تقدما عظيما، كان سبيلا إلى بلوغها الذروة العليا في عصر المماليك، الذي صنعت فيه المشكاوات المموهة بالمينا وهي فخر صناعة الزجاج عند المسلمين على الإطلاق.
ويقوم على جودة الأواني الزجاجية الفاطمية أدلة تاريخية، وأدلة مادية: الأخيرة مستمدة مما وصلنا من كئوس وقوارير وغيرها، وأما الأولى فقوامها ما كتبه ناصر خسرو عن رحلتيه في مصر بين عامي (439 و441ه/1046 و1050م).
فقد كتب هذا الرحالة الفارسي أن البقالين والعطارين وبائعي الخردة كانوا يأخذون على عاتقهم إعطاء الزجاج والأواني الخزفية والورق ليوضع فيها ما يبيعونه؛ فلم يكن لازما أن يبحث المشتري عن شيء يضع فيه ما يبتاعه.
257
كما كتب أيضا أن التجار الذين يذهبون إلى بلاد النوبة كانوا يبيعون فيها الخرز والأمشاط والمرجان،
258
وأن المصريين كانوا يصنعون في مصر زجاجا شفافا عظيم النقاوة يشبه الزمرد ويباع بالوزن.
259
وكان ناصر خسرو شديد الإعجاب بسوق القناديل - بجوار جامع عمرو - فقال: إنه لم يعرف مثله في أي بلد آخر، ووصف رواج التجارية فيه، ذاكرا أن أثمن التحف وأندرها كانت ترد إلى هذه السوق من جميع أنحاء الدنيا،
260
ولسنا نزعم أن هذه السوق كان يسمى «سوق القناديل» نسبة إلى مصابيح كانت تصنع فيه كما زعم بعض مؤرخي الفن الإسلامي، فقد نبه الأستاذ فييت إلى أن منشأ هذه التسمية أن سكان هذا الحي كان لكل منه قنديل معلق على باب مسكنه؛
261
ولكننا رغم ذلك نعلم أن المصنوعات الزجاجية كانت من البضائع الرائجة في ذلك السوق.
ومهما يكن من شيء فإن مراكز صناعة الزجاج في مصر الإسلامية كانت في الفسطاط ومدينة الفيوم والأشمونين والشيخ عبادة، ولا ريب في أن الإسكندرية لم تفقد كل ما كان لها من خطير شأن في هذا الميدان، على الرغم من أن الفسطاط انتزعت منها القيادة فيه.
ومع ذلك فقد عثر على بقايا تحف زجاجية في غير هذه المراكز التي ذكرناها؛ فكشفت بعض النماذج في مدينة حابو، وكوم بلال، وقوص، وأبيدوس، وأخميم، وأسيوط، والمنيا، والبهنسا، وأهناسية المدينة، وهوارة، وأطفيح، وسقارة، وميت رهينة، وكوم الأتريب
262 ... ولكننا لسنا نظن أن كل هذه النماذج ترجع إلى العصر الإسلامي.
ثم إننا يجب أن نذكر الزجاج الذي وجد في أطلال الفسطاط أو غيرها من المدن التي أشرنا إليها ليس كله من منتجات الصناعة؛ فإن بعضه وارد من سورية، كما كانت سورية نفسها بل والبلاد الأوروبية ترد إليها كثير من التحف الزجاجية المصنوعة على ضفاف النيل.
ولا شك أيضا في أن زخرفة الزجاج في بداية العصر الفاطمي لم تكن تختلف كثيرا عن زخرفته في عصر الإخشيديين، وأنها أخذت تتطور بعد ذلك في خطوات سريعة ليكون لها الطابع الفاطمي الخاص؛ على أن هذا التطور كان في دقة الصنعة وإتقان الزخرفة وغناها أكثر مما كان في الأساليب الفنية أو في الهيئة نفسها، فإننا نرى أن في عصر الفواطم ما كنا نراه قبله من زخرفة الأواني بخيوط رفيعة من الزجاج تلف وتضغط عليها، كما نرى فيه أيضا القناني الصغيرة ذات الأضلاع التي تزينها الخطوط المتعددة الألوان.
ودار الآثار العربية غنية بما فيها من القناني والزجاجات الصغيرة المصنوعة بطريقة القطع والنفخ، وبعضها ملون، بينما أغلبها لا لون عليه ولا يستخدم في غير العطر.
وفيها قطعة من سلطانية (رقم السجل 2463)، مادتها من الزجاج الأبيض اللبني وعليها زخارف زرقاء عظيمة البروز، كان قوامها شريطا فيه رسم تيوس متقابلة وفوق هذا الشريط كتابة بالخط الكوفي، وأكبر الظن أن هذه القطعة ترجع إلى بداية العصر الفاطمي.
263
ومن القناني التي عرف بها العصر الفاطمي نوع كروي الجسم وله رقبة أسطوانية طويلة، وعليه زخارف هندسية أو حيوانات في جامات، ومثال ذلك: قنينة في القسم الإسلامي من متاحف برلين ترجع إلى القرن الخامس أو السادس الهجري (الحادي عشر أو الثاني عشر)،
264
واثنتان في متحف المتروبوليتان بنيويورك.
265
وفي دار الآثار العربية قطع شطرنج من الزجاج، عليها زخارف بيضاء فوق أرضية حمراء، وتشبه هذه القطع الزجاجية القطع التي كانت تصنع في العصر الفاطمي من مواد أخرى كالعاج والعظم والبلور الحجري؛ ولذا أمكن نسبتها إلى عصر الفواطم، وإن كانت في الواقع لا تختلف كثيرا عما كان يصنع من نوعها في عصر العباسيين.
على أن أرقى المصنوعات الزجاجية الفاطمية وأكبرها قيمة فنية، إنما هو الزجاج المذهب والمزين بزخارف ذات بريق معدني، وقد وصلت إلينا بعض نماذج كاملة منه؛ ولكنها ليست لسوء الحظ من النوع الممتاز، الذي لا نعرفه إلا بقطع مكسورة عثر عليها في حفائر الفسطاط، وحفظت في دار الآثار العربية أو أمكن إرسالها إلى متحف بناكي بأثينا وبعض المتاحف الأجنبية الأخرى.
ومن أهم أنواع الزجاج ذي البريق المعدني نوع أحمر عليه زخارف من رسوم طيور بالبريق المعدني، تمت بصلة كبيرة إلى الرسوم التي نعرفها على الخزف الفاطمي ذي البريق المعدني؛ بل إن هناك قطعة من هذا النوع عليها إمضاء سعد وهي محفوظة في متحف بناكي بأثينا. والمشاهد أن القطع غير الممتازة من هذا النوع تتكون زخارفها من رسوم نباتية أو من أشرطة وخيوط متعرجة ونحو ذلك من الزخارف الهندسية.
وهناك نوع آخر يميل لونه إلى الخضرة وزخارفه المعدنية، ليس فيها لمعان البريق المعدني المعهود. وقوام هذه الزخارف أشكال نجمية وهندسية متداخلة في بعضها أو وريدات متعددة الفصوص أو خطوط لولبية الشكل.
266
وقد وصل إلينا نوع ثالث نظن أن الفاطميين كانوا يتخذونه عوضا عن الخزف. وعلى كل حال فهو غير شفاف، وقد يكون أخضر اللون - كالسيلادون - كما قد يكون أبيض أو أحمر، أما زخارفه ذات البريق المعدني فتعلو السطحين الداخلي والخارجي في الإناء، وهي كثيرة الشبه بالزخارف في الخزف ذي البريق المعدني.
ومهما يكن من شيء فإن استخدام الزخارف ذات البريق المعدني في الزجاج من مستحدثات الفنون الإسلامية، ولعل الباعث عليه كراهية استعمال الأواني الذهبية في الدين الإسلامي، والرغبة - على الرغم من ذلك - في شيء يتفق وأبهة الخلفاء والأمراء وثروة البلاد وميل الشرق إلى الترف والعظمة، ويخرج في الوقت نفسه عن نطاق التحريم.
وقد وجدت في سامرا بعض قطع زجاجية عليها رسوم فروع نباتية بالبريق المعدني
267
مما يحمل على القول بأن استخدام البريق المعدني في زخرفة الزجاج نشأ بالعراق في القرن الثالث الهجري (التاسع)، ثم قلده القوم على ضفاف النيل، حيث نرى أن القطع الزجاجية المزخرفة على هذا النحو أحدث عهدا وأقل دقة في الرسم واللون.
268
وفي القسم الإسلامي من متاحف برلين قنينة من القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي) وعلى جسمها المخروطي الشكل شريط من زخرفة بالبريق المعدني، قوامها فرع نباتي دائر (أرابسك)، كما أن على رقبتها شبه زخرفة كتابية بالبريق المعدني أيضا.
269
ومن التحف الزجاجية النادرة محبرة من القرن السادس الهجري (الثاني عشر) محفوظة في القسم الإسلامي من متاحف برلين،
270
وهي من زجاج سميك يقلدون به البلور الصخري.
والواقع أن دار الآثار العربية والقسم الإسلامي من متاحف برلين غنيان بنماذج القناني والكئوس الزجاجية، ولا سيما ما كان منها ذا زخارف مضغوطة،
271
كما أن في دار الآثار عددا من القماقم (رقم السجل 13504 و13506) الجميلة بزخارفها المضغوطة، وبالأسلاك الزجاجية الملفوفة حول كل رقبة منها، فضلا عن شكلها الممشوق ولونها الطبيعي. بينما نرى في القسم الإسلامي من متاحف برلين كأسا ذات أذنين جميلتي الشكل، وعليها زخارف مضغوطة في الزجاج الأزرق اللون أو ملصوقة به، وهيئة هذه الكأس غاية في التناسب والتناسق والإبداع،
272
وأكبر الظن أنها من صناعة سورية.
بقي علينا الكلام عن نوع من الأقداح الزجاجية يسميه الغربيون كئوس القديسة هدويج
Hedwigsglas
وهو من الزجاج السميك الثقيل، ذي الزخارف المقطوعة والمضغوطة. والأصل في هذه التسمية أن كأسين من هذا النوع كانت في حيازة الدوقة القديسة هدويج الألمانية المتوفاة سنة (1243) ميلادية، وتتميز هذه الأقداح بأنها في هيئتها العامة تشبه شكل الدلو أو السطل، وبأن دائر قاعدتها بارز إلى الخارج، وبأن سطحها تغطيه زخارف مقطوعة تمتد على مساحته كلها حتى لا يسهل تمييز الأرضية من الموضوعات الزخرفية،
273
وتتكون تلك الزخارف من أسود وطيور ناشرة أجنحتها، وأشجار خلد ومراوح نخيلية (بالمت)، وعلى إحدى هذه الكئوس رسم هلال وعدد من النجوم كأنها رنك،
274
كما أن بعضها رسم ترسة غريبة تشبه شكل العين.
275
والمعروف من كئوس القديسة هدويج نحو عشر تحف، أهمها موجود في كاتدرائية مدينة مندن
Minden
بمقاطعة بروسيا،
276
وفي كاتدرائية كراكاو ببولنده،
277
وفي متحف امسترام
278
Rijksinuseum
وفي المتحف الألماني بمدينة نورنبرج،
279
وفي متحفي غوطا وبرزلاو، وفي كاتدرائية هلبرشتاد
Halberstadt
بمقاطعة بروسيا.
280
وقد كان الاختلاف كبيرا بين علماء الآثار ومؤرخي الفن على تعيين الإقليم الذي صنعت فيه هذه الكئوس، فنسبها بعضهم إلى بوهيميا وإلى أقاليم ألمانية أخرى، كما نسبها أكثرهم إلى مصر في القرن السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي) في نهاية العصر الفاطمي وفي بداية عصر الأيوبيين. وقد كشفت قنينة عليها زخارف تشبه زخارف كئوس القديسة هدويج؛ وهي محفوظة الآن في متحف بناكي بأثينا، وهي ترجح نسبة هذه الكئوس إلى مصر.
ومهما يكن من شيء فإننا يجب أن نذكر أن جل هذه الكئوس انتقلت إلى أوروبا منذ زمن بعيد؛ فالقديسة هدويج حصلت على ما كانت تملكه منها قبل وفاتها سنة (1243)، وربما تكون قد أحضرتها معها حين زيارتها للحج في الأماكن المقدسة. (6) البلور الصخري
نقل القزويني عن أرسطو أن حجر البلور صنف من الزجاج، إلا أنه أصلب، وقال: إنه يصبغ بألوان الياقوت فيشبه الياقوت، وإن الملوك يتخذون من البلور أواني، معتقدين أن للشرب فيها فوائد.
281
وعلى كل حال فقد استخدم المسلمون البلور الصخري في عمل الكئوس والأباريق وغيرها من التحف الثمينة، وقد جاء في بعض المصادر الأدبية والتاريخية أن الخليفة الراضي بالله (322-329ه أو 933-940م) كان يجمع التحف ولا سيما ما كان منها من البلور الصخري، وأنه كان ينفق في هذا السبيل أكثر مما كان ينفقه في أي شيء آخر،
282
حتى قال الصولي: «ما رأيت عند ملك أكثر منه عند الراضي، ولا عمل ملك منه ما عمل، ولا بذل في أثمانه ما بذل، حتى اجتمع منه له ما لم يجتمع لملك قط.»
283
وقد كتب الغزولي
284
في مؤلفه «مطالع البدور في منازل السرور» عن كنوز البلور في قصور الفاطميين،
285
كما تحدث عن البلور وأنواعه وخواصه وخاصيته، وذكر أنه يوجد ببلاد العرب ويؤتى به من الصين ومن بلاد أفرنجة؛ والنوع الصيني دون النوع العربي، بينما الفرنجي جيد جدا. وأشار إلى وجوده بالمغرب الأقصى على مقربة من مراكش؛ ونقل أن تاجرا من تجار الأفرنجة أهدى إلى ملك من ملوك المغرب قبة من البلور قطعتين، يجلس فيها أربعة نفر، ورأى من البلور صورة ديك مخروطا، إذا صب فيه الشراب ظهر لونه في أظفار الديك ورءوس أجنحته، وكان هذا من صنعة بلاد الفرنجة،
286
والظاهر أن المسلمين كانوا يعتقدون أن من علق عليه شيء من البلور لم ير منام سوء قط.
287
ويروون أن الجامع الأموي بدمشق كان به في محراب الصحابة إناء من البلور، يلمع ويضيء مثل السراج ويسمى القليلة، وكان الخليفة الأمين يحب البلور، فكتب إلى صاحب الشرطة في دمشق أن ينفذ إليه القليلة، فسرقها ليلا، وبعث بها إليه، فلما قتل الأمين، رد المأمون القليلة إلى دمشق، ليشنع بها على الأمين.
288
وقد مر بنا حديث ناصر خسرو عن سوق القناديل ونضيف هنا أنه أعجب أشد الإعجاب بما شاهده من البلور الصخري فيه، وأثبت أنه كان غاية في الجمال والإبداع، وأنه كان مشغولا بأسلوب فني، على يد صناع لهم ذوق رقيق، وذكر في هذه المناسبة أن البلور كان يجلب من بلاد الغرب، حتى قبل رحلته إلى مصر بزمن وجيز، حين جيء ببعضه من إقليم البحر الأحمر، وكان هذا النوع الجديد أجمل من المغربي وأكثر منه شفافية.
289
ومن المحتمل أن جلب البلور الصخري من مصر نفسها كان سببا في انخفاض ثمنه، وإنتاج التحف الكثيرة منه حتى كان منها في كنوز الخلفاء الفاطميين ووزرائهم وكبار رجال دولتهم ما مر بنا ذكره في القسم الأول من هذا الكتاب، وما نقرأ من أخباره في كتاب المستطرف للأبشيهي وكتاب مطالع البدور للغزولي.
وليس في دار الآثار العربية نماذج خطيرة الشأن من التحف المصنوعة من البلور الصخري، فإن أكثرها محفوظ الآن في كنائس الغرب ومتاحفه، ولعل السر في الحرص عليه وبقائه حتى الآن أن البلور الصخري كان يعتبر رمزا للنقاء الروحي؛ نظرا لشفافيته ونقاوته، فكان الغربيون يحفظون فيه بعض المخلفات المقدسة التي كانوا شديدي التعلق بها في العصور الوسطى.
وتشتمل مجموعة المسيو رالف هراري على بعض قطع من البلور الصخري، ولكن ليست لها شهرة القطع المعروفة في المتاحف والكنائس،
290
على الرغم من أن فيها قنينات صغيرة غاية في الدقة والجمال.
291
وليس تحديد التاريخ الذي ترجع إليه التحف المصنوعة من البلور الصخري أمرا عسيرا؛ فبعض تلك التحف يرجع إلى ما قبل العصر الفاطمي، وقد يكون من مصر في العصر البيزنطي أو من بيزنطه، أو من إيران، أو من العراق، أو من مصر في القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي)،
292
وبينها سلطانية
293
عليها شريط زخرفي من الفصيلة التي عرفناها في سامرا وفي الفن الطولوني.
294
أما القطع الباقية، فإننا نعرف منها اثنين، على كل منهما كتابة تحدد تاريخها:
الأولى:
إبريق على شكل كمثرى، محفوظ في كنوز كاتدرائية سان ماركو بمدينة البندقية،
295
ومقطوع فيه زخارف، قوامها رسم أسدين بينهما شجرة الخلد، وعلى المقبض خروف صغير، وبين رقبة الإبريق وبدنه شريط من الكتابة الكوفية نصها:
بركة من الله للإمام العزيز بالله.
296
الثانية:
حلقة من البلور على شكل هلال في المتحف الجرماني بمدينة نورنبرج بألمانيا،
297
وعليها بالخط الكوفي العبارة الآتية: «لله الدين كله الظاهر لإعزاز دين الله أمير المؤمنين.»
298
على أن كاتدرائية مدينة فرمو
Fermo
بإيطاليا تحوي بين كنوزها إبريقا من البلور الصخري، رقبته مفقودة، وعلى بدنه زخرفة من طائرين متواجهين، بينهما فروع نباتية غاية في الدقة، وفوق ذلك شريط من الكتابة الكوفية نصه:
299 «بالسيد الملك المنصور.»
ولا يمكن أن يكون المقصود هنا الخليفة الحاكم بأمر الله أبو علي المنصور (386-411ه أو 996-1020م)، كما لا يمكن أن تكون الإشارة إلى الخليفة الآمر بأحكام الله أبو علي المنصور (495-534ه أو 1101-1130م)، كما يظن الدكتور لام؛ فإن لقب السيد الملك يشير إلى الوزراء إلى آخر العصر الفاطمي،
300
ولكننا لا نستطيع أن نجزم بصحة نسبة هذا الإبريق إلى مصر؛ فإن أسلوب الفروع النباتية فيه، وشكل الكتابة الكوفية، ونصها، كل ذلك يجعلنا نظن أنها صنعت في أوروبا تقليدا للتحف المصرية.
وهناك عامل آخر يساعد على تحديد التاريخ الذي صنعت فيه التحف البلورية المحفوظة في كنائس أوروبا ومتاحفها، ذلك أن بعضها مركب على قطع أخرى أوروبية الصنعة، ويمكن معرفة تاريخها بطرازها الفني أو بما تتصل به من حوادث.
301
والمشاهد في التحف المصنوعة من البلور الصخري أن أقدمها تكون زخارفه تامة البروز، وقطعها في البدن ظاهرا، بينما نرى في التحف التي ترجع إلى نهاية العصر الفاطمي أن بروز الزخارف لا يكاد يفصلها تماما عن بدن التحفة، أو أرضية الرسم.
ومهما يكن من شيء فإن الذي وصلنا من هذه التحف متنوع الأشكال والأحجام من أباريق على هيئة الكمثرى، إلى فناجين وأطباق، وقناني وكئوس، وعلب وصحون، وقطع شطرنج.
أما الأباريق فمعروف منها واحد في متحف اللوفر، أصله من كاتدرائية سان دني
Saint Denis
وعليه زخرفة من شجرة فيها مراوح نخيلة (بالمت)، في كل من جانبيها ببغاء على أحد فروعها،
302
وفوق هذه الزخرفة شريط من كتابة دعائية بالخط الكوفي، ويظن أن هذه التحفة كانت هدية من روجر الثاني ملك صقلية إلى الكونت تيبولت من شمبانيا
Thibauld de Champagne ، وأن هذا أعطاها إلى الأب سوجر المتوفى سنة (1151م).
303
وفي متحف فكتوريا وألبرت إبريق آخر، قوام زخرفته مجموعتان من الحيوان، تتكون كل منهما من صقر ينقض على غزال ليفترسه.
304
وهناك إبريق ثالث في بتي بفلورنسة بتي بفلورنسة
، وهو على شكل الكمثرى أيضا؛ وتتكون زخرفته من بجعتين، بينهما فرع نباتي متقن، وفوقهما كتابة دعائية بالخط الكوفي.
305
كما أن متحف الهرميتاج
Ermitage
بليننغراد، فيه إبريق ذو مقبض قائم الزاوية، وحول عنقه القصير شريط، به زخرفة من فرع نباتي دائر، وأما بدنه فعليه رسم أربعة أسود، كل اثنين منها متواجهان.
306
على أن ضيق المقام في هذا الكتاب يحول دون استعراض بقية النماذج المعروفة من هذا النوع؛ أن نذكر أن أكثرها كان له مقبض مستقيم، وفي أعلاه هيئة حيوان أو طائر صغير ليرتكز عليه الإبهام عند مسك الإبريق. أما البدن فكان مزينا بزخارف مقطوعة فيه، وقوامها حيوانات أو طيور، أو فروع نباتية، مرسومة بدقة وانسجام، وتناسب وتناسق، تدعو بجدة منظرها في بعض تلك النماذج إلى الشك في صحة نسبته إلى الفن الإسلامي، وتجعلنا نرجح أنه صنع في الغرب، تقليدا للنماذج التي لا شك في صحة نسبتها إلى الشرق.
ومن أهم الأنواع الأخرى التي وصلتنا من التحف المصنوعة من البلور الصخري زجاجات ذات جسم كروي ورقبة أسطوانية؛ ففي كاتدرائية استورجا
Astorga
بمقاطعة ليون بإسبانيا قارورة من هذا النوع، كتب الدكتور لام أنها من صناعة مصر في بداية القرن الحادي عشر الميلادي؛
307
ولكننا لا نرى هذا الرأي؛ لأن الزخارف الموجودة على بدن الزجاجة طرازا يجعلنا نميل إلى القول بأنها صنعت في أوروبا. وهناك قارورة أخرى من هذا النوع في كاتدرائية هلبرشتات
Halberstadt
بألمانيا،
308
على بدنها ورقبتها وقاعدتها زخارف نباتية.
كما أن هناك بعض كئوس أسطوانية الشكل، بينها ما له رقبة وما لا رقبة له، أما زخارفها فمن فروع نباتية وأرابسك، ومن أحسن نماذج هذه الكئوس واحدة في كنوز كاتدرائية سان ماركو بمدينة البندقية،
309
لها رقبة ضيقة وعليها كتابة دعائية، ويزعم القوم أنها تحتوي على نقط من دم السيد المسيح.
وفي بعض المتاحف والمجموعات الأثرية أباريق من البلور الصخري، بدنها على شكل كمثرى؛ ولكنه ذو فصوص، ومنها واحد في متحف تاريخ الفنون بفينا، له مقبضان جميلان.
310
ويقال: إنه كان من جهاز الأميرة الإسبانية ماريا تيرنزيا، الزوجة الأولى للقصير ليوبولد الأول.
311
أما قطع الشطرنج فأهمها في مجموعة الكونتس دي بهاج في باريس
Contesse de Béhague .
312
ولسنا نريد هنا أن نستطرد في استعراض بقية المعروف من تحف البلور الصخري، من علب وصحون، وفناجين وأطباق، وزجاجات متنوعة الشكل؛ فإنها لا تختلف في جوهر زخرفتها عما أشرنا إليه حتى الآن. (7) الفسيفساء
لا يسعنا أن نتحدث عن الفنون الفرعية الفاطمية، دون أن نذكر ازدهار صناعة الزخرفة بالفسيفساء؛ ولكننا لسوء الحظ لا نملك أي مثال في مصر نقيمه حجة لإثبات ذلك، اللهم إلا ما جاء في وصف ما شاهده السفيران اللذان أرسلهما الملك عموري إلى الخليفة العاضد، وما يفهم من بعض أشعار عمارة اليمني. فقد كانت بيوت كثيرين من أعيان الدولة في العصر الفاطمي مزدانة بالفسيفساء الجميلة المحلاة بزخارف جميلة مصنوعة بالفسيفساء على يد عمال لهم خبرة نادرة وذوق جميل.
313
وفضلا عن ذلك فالكتابة التاريخية الموجودة في قبة الصخرة ببيت المقدس تثبت أن ما كان فيها من الفسيفساء، جددت صناعته في عصر الخليفة الظاهر سنة (418ه/1027م)،
314
كما أن المعروف أن الفسيفساء في قبة الجامع الأقصى ببيت المقدس صنعت في عصر هذا الخليفة بأمر الوزير أبي القاسم علي الجرجرائي، وجاء في الكتابة التي تخلد ذلك ذكر عبد الله بن الحسن المصري صانع الفسيفساء أو المزوق.
315
والمعروف أن المقدسي رأى على بعض الفسيفساء في الكعبة توقيع صناع من مصر وسورية،
316
وأن الهروي الذي حج إلى الكعبة الشريفة حفظ لنا نص كتابة بالفسيفساء عليها إمضاء صانع مصري،
317
وأن راهبا من مون كاسان
Mont Cassin «استقدم من القسطنطينية والإسكندرية صناعا من البيزنطيين والمسلمين، ولا سيما لعمل الفسيفساء، التي كانوا في صناعتها أمهر من الإيطاليين.»
318 (8) النقش في الخشب
ربما كان النقش في الخشب بالحفر أحسن فروع الفن الفاطمي حظا، في وفرة النماذج التي وصلت إلينا منه، فبينما لا نعرف في سائر الصناعات نماذج كثيرة من الطراز الأول، تعبر حق التعبير عما كانت عليه تلك الصناعات من تقدم وازدهار، إذ نرى المتاحف والمجموعات الأثرية الخاصة، والمساجد، والكنائس القبطية، تضم بين جدرانها تحفا خشبية، لا تزال في حالة جيدة من الحفظ، ويمكن في الوقت نفسه معرفة التاريخ الذي صنعت فيه؛ إما بما عليها من كتابات، أو بتاريخ المساجد والقصور والكنائس التي استخدمت فيها، والتي تحمل على القول بأن هذه القطع لم تكن من النماذج العادية، وفضلا عن ذلك كله، فإن النتائج التي حصلنا عليها من دراسة هذه القطع المؤرخة، أو التي يمكن معرفة تاريخها، تجعل من اليسير علينا أن نتبين أن بعض التحف الخشبية المعروفة ترجع إلى العصر الفاطمي؛ لأنها من نفس طراز القطع السالفة الذكر.
ومهما يكن من شيء فإن المصريين عنوا بإتقان صناعة النجارة والنقش في الخشب بالحفر منذ الأزمنة القديمة، كما تشهد بذلك التحف الخشبية المحفوظة في المتحفين المصري والقبطي، وهذا كله على الرغم من أن مصر كانت ولا تزال فقيرة في إنتاج الخشب، ولا سيما ما يصلح منه للحفر والزخرفة والأعمال التي تتطلب متانة النوع ودقة الصنعة، فالواقع أن ما في وادي النيل من الخشب كالجميز، والسنط، والنبق، والسرور، والزيتون، لا يصلح إلا لأعمال النجارة البسيطة.
فالمصريون إذن كانوا يعتمدون إلى درجة كبيرة على الأنواع الطيبة من الخشب الذي كانوا يستوردونه من الأقطار المجاورة، كالأرز والصنوبر، من أسيا الصغرى وسورية، والتك من الهند، والآبنوس من السودان، وكانت بلدان أوروبا الجنوبية من المصادر التي أمدت مصر بالخشب في العصور الوسطى.
319
وعلى كل حال فقد كان للخشب في الفسطاط أسواق عامرة منذ العصر الطولوني،
320
وأخذت الحكومة منذ قيام الدولة الفاطمية تعني بالغابات وزرع الأشجار، وحق أنها كانت ترمي بذلك إلى استخراج الخشب اللازم لمراكب الأسطول؛ ولكن جزءا كبيرا من الخشب الذي أمكن إنتاجه استخدم في صناعة الأثاث وأعمال العمارة.
321
وقد ذكرنا في الجزء الأول من كتابنا عن الفن الإسلامي في مصر (ص92) أن الأخشاب ذات الزخارف المحفورة كان لها شأن خطير في تأثيث الكنائس والأبنية القبطية وتزيينها، وأن المسلمين لم يحتاجوا إلى استخدام الخشب في مساجدهم بمثل هذه الوفرة؛ فإن جل استعمالهم إياه كان في عمل السقوف، والأبواب، والمنابر، والدكك، وأشرطة الكتابة التاريخية أو الزخرفية، وفي صناعة القباب أو تقويتها، وفي ربط القوائم والأعمدة ببعضها، كما استخدموه إبان العصر الفاطمي في صناعة محاريب غير ثابتة.
وقد تحدثنا في الكتاب المذكور عن التحف الخشبية التي يرجع تاريخها إلى عصر الانتقال من الطراز القبطي إلى الطراز الإسلامي، وعن التحف الخشبية الطولونية، وتأثرها بطراز سامرا فلا محل للرجوع إلى ذلك هنا.
322
أما التحف الخشبية التي ترجع إلى عصر الفاطميين فعظيمة القيمة بنوعها، ودقة صناعتها، وجمال زخارفها، وخطر المناسبات التي صنعت فيها، أو الأبنية التي استخدمت بها.
وهي موزعة على عصر الفاطميين كله، فبينها ما يرجع إلى حكمهم في شمالي أفريقيا، وما يرجع إلى بداية حكمهم في وادي النيل، أو إلى أوج عزهم فيه، أو إلى نهاية دولتهم وبدء اضمحلالها، وبينها ما صنع في صقلية وتأثر بأساليبهم الفنية، وما ينسب إلى بني زيري، خلفائهم في شمالي أفريقيا، الذين كانوا أتباعهم فنيا، كما كانوا أتباعهم سياسيا، فترة غير قصيرة من الزمن.
أما الذي يرجع تاريخه إلى حكمهم في شمالي أفريقيا فباب في جامع سيدي عقبة على مقربة من مدينة بسكرة بالجزائر، ويظن أنه صنع بأمر الخليفة الفاطمي المنصور (334-341ه/946-953م) لضريح سيدي عقبة في جامع طبنة وهي بلدة قريبة من بسكرة،
323
وهذا الباب من خشب الأرز، وله مصراعان، في كل منهما قضيب خشبي يقسمه قسمين عدا القضيب الخشبي الذي يغطي ملتقى المصراعين، وعلى كل حال فإن إطار الباب وعتبته الفوقانية، والقضبان الخشبية الثلاثة، كلها مغطاة بزخارف محفورة من رسوم هندسية، وفروع نباتية، وخطوط منحنية على شكل حرف
S ، والناظر إلى طراز هذه الزخارف يرى لأول وهلة أن ثمة علاقة بينها وبين طراز الزخرفة العباسي، وأنها ليست غريبة عن بعض الزخارف التي ترى فوق بواطن بعض العقود بالجامع الطولوني.
324
ولا ينفي كل هذا أن زخارف هذا الباب تقوم على أساليب من الفنين الأغلبي والبيزنطي، ووجود العلاقة الوثيقة بين كل هذه الأساليب الفنية التي سادت على ضفاف البحر الأبيض المتوسط أمر مفروغ منه، ومهما يكن من شيء فإننا سنرى أن الزخارف المحفورة على الأخشاب الفاطمية تأخذ في التطور، حتى تبتعد الشقة بينها وبين زخارف الباب السالف الذكر.
ولعل أقرب التحف إلى طراز هذا الباب هي - بطبيعة الحال - التحف التي ترجع إلى العصر الذي كان يحكم فيه بنو زيري في إفريقية، تابعين للفاطميين أولا، ثم مستقلين عنهم بعد ذلك.
وأهم تلك التحف أخشاب صنعت بأمر المعز بن باديس لجامع القيروان في منتصف القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي)، وهي المقصورة ومدخل المكتبة.
325
أما المقصورة فمن الخشب المشبك، وفيها زخارف محفورة، وفي أعلاها شريط من الكتابة الكوفية المشجرة على أرضية من الفروع النباتية،
326
ويشبه طراز هذه الكتابة طراز الكتابة المعاصرة عند الغزنونيين.
327
بينما مدخل المكتبة فيه ألواح مكونة من حشوات؛ محفور عليها زخارف نباتية، غنية ومتقنة، وفي توزيعها تناسق وتناسب على الرغم من وفرتها، وهي تكون في مجموعها أشكالا متوازية الأضلاع، موزعة توزيعا غير منظم،
328
وليست هي الأشكال الهندسية النجمية والمتعددة الأضلاع والرءوس، مما اعتدنا رؤيته في الزخارف الإسلامية بعد العصر الفاطمي، ولا سيما في تزاويق مخطوطات القرآن، وفي زخارف السقوف والجدران والأبواب والمنابر والمحاريب.
أما ما نجده من التحف الخشبية في صقلية متأثرا بالطراز الفاطمي فألواح باب في كنيسة المرتورانا
Santa Maria dell’Ammiraglio
التي شيدت في بلرمو سنة (1136) ميلادية على يد أحد أمراء البحر في خدمة الملك روجر الثاني. والمعروف أن هذه الكنيسة من الأبنية الصقلية التي يظهر في ترتيب قبابها وأساليب زخارفها تأثير الفنين الإسلامي والبيزنطي، والألواح المذكورة تتجلى فيها الأساليب الفنية التي نعرفها في أزهى عصور الفاطميين في مصر، فتمتاز بعمق الرسوم ودقة صنعتها.
329
وفضلا عن ذلك فإن سقف الكنيسة الصغيرة الموجودة في القصر الملكي بمدينة بلرمو، والتي تعرف باسم الكابلا بالاتينا
Capella Palatina ، غني بالزخارف المنقوشة ويشهد بتأثير الصناعة والأساليب الفنية الإسلامية، وبين تلك الزخارف النباتية صور طيور وحيوانات، مما تمتاز به التحف الفاطمية التي كانت تزين سقوف القصور الفاطمية وأبوابها وجدرانها؛
330
ولكننا نلاحظ أن الحيوانات المنقوشة على الحشوات الخشبية الفاطمية ليست في دقة التي نراها في سقف الكابلا بالاتينا؛ فإن الأخيرة أحدث عهدا من الأولى، ورسومها أكثر تطورا، وأصدق في تمثيل الطبيعة، وأكثر تعبيرا عن الحركة والحياة، وليس هذا غريبا إذا تذكرنا ما نراه في الفن الإسلامي عامة من نقص في هذا الميدان، يرجع إلى كراهية التصوير في الإسلام وإلى اتخاذ الفنانين المسلمين تقاليد خاصة في رسم المخلوقات الحية، دون اهتمام بمراعاة الدقة في تأمل الطبيعة، والأمانة في تصويرها؛ حتى ليمكن أن نقول: إن الفنان المسلم كان يرسم الحيوانات مجردة عن طبيعتها، ومتخذا منها رمزا لا حياة فيه ولا روح.
وإذا نحن عرجنا الآن على التحف الخشبية التي صنعت بمصر في عصر الفواطم أمكننا أن نقسم حكمهم إلى فترات؛ لنستطيع أن ندرس في وضوح وإيجاز خصائص الأساليب الفنية في كل فترة منه.
وطبيعي أن تكون الفترة الأولى عصر انتقال بين طراز الحفر الذي كان سائدا في العصرين الطولوني، والإخشيدي، وبين الطراز الذي عم في الفترة التالية. فالدعامات الخشبية تحت قبة جامع الحاكم عليها زخارف من فروع نباتية متصلة، وتكون رسوم أوراق شجر محفورة حفرا عميقا.
331
وتبدو العلاقة الوثيقة بينها وبين الطراز الطولوني في الحفر على الخشب والجص.
332
ومن التحف التي يمكن نسبتها إلى هذه الفترة باب ذو مصراعين من خشب شوح تركي، وهو محفوظ الآن بدار الآثار العربية (رقم السجل 551)، وأصله من الجامع الأزهر،
333
وفي كل مصراع منه سبع حشوات مستطيلة: الأولى والثالثة والأخيرة موضوعة وضعا أفقيا، وبين الأولى والثالثة حشوتان متجاورتان، وموضوعتان وضعا عموديا، وبين الثالثة والأخيرة الحشوتان الباقيتان، وهما عموديتان أيضا، وعلى الحشوة العليا في كلا المصراعين كتابة بالخط الكوفي؛ ولكن الواضح أن هاتين الحشوتين انقلبتا عند إعادة تركيبهما، فاختلف وضع الكتابة وانتقلت كتابة اليمين إلى الشمال، والشمال إلى اليمين فصارتا على النحو الآتي: (الحشوة اليسرى) (الحشوة اليمنى)
مولانا أمير المؤمنين
الإمام الحاكم بأمر الله
صلوات الله عليه وعلى
آبائه الطاهرين وأبنائه * *
راجع:
j. David Weill: Les Bois à Epigraphes Jusqu à l’Epoque Mamelouke
ص16-17.
وتدل هذه الكتابة على أن الباب صنع حين قام الخليفة الحاكم بعمارة الجامع الأزهر والتجديد فيه سنة (400ه/1010م).
334
أما سائر حشوات هذا الباب فعليها زخارف نباتية محفورة حفرا عميقا، وليست الشقة بعيدة بينها وبين الطراز الطولوني، وإن كانت تقل عنه روعة وقوة تعبير، والظاهر أن بعض هذه الحشوات يرجع إلى عصر متأخر؛ ولكنه صنع على نمط الحشوات القديمة، وقد حلل المسيو بوتي
E. Pauty
زخارف هذه الحشوات تحليلا دقيقا في الفهرس العلمي، الذي كتبه عن الأخشاب ذات الزخارف في دار الآثار العربية.
335
ولسنا نريد أن نستطرد هنا في وصف الموضوعات الزخرفية فيها وصفا تغني عنه - في رأينا - نظرة تمحيص وتدقيق في صورة الباب؛ وحسبنا أن ننبه إلى ما تشهد به كل هذه الحشوات من قدرة الصانع في الفن الإسلامي على مراعاة التناظر والتقابل فضلا عن البساطة والغنى في الوقت نفسه.
وفي دار الآثار العربية حشوات وألواح خشبية أخرى ترجع إلى الفترة الأولى من حكم الفاطميين في مصر، وزخارف أكثر هذه الحشوات مكونة من فروع نباتية وتشبه في طرازها وصنعتها زخارف الحشوات الموجودة في الباب السالف الذكر؛
336
غير أن بعضها محفور فيه رسوم طيور وحيوانات.
ومما يمكن نسبته إلى بداية العصر الفاطمي حشوات على شكل محاريب صغيرة، وفي دار الآثار العربية خمس
337
منها؛ وإحداها (رقم السجل 8464) فيه رسم عقد مدبب يقوم على عمودين حلزونيين، ولكل منهما محمل وقاعدة رمانية الشكل، ونرى البسملة مكتوبة بين العقد والعمودين بخط كوفي فاطمي، وحولهما إطار فيه أسماء النبي وعلي والحسن والحسين وسائر الأئمة من ذريتهم.
338
وإذا ذكرنا ما نعرفه من أن القبط كانت لهم القيادة في صناعة النجارة، وأن الفاطميين عرفوا في أكثر أيامهم التسامح الديني العظيم، لم ندهش إذا رأينا في الكنائس القبطية نفس الزخارف التي نراها على خشب الجوامع والأثاث الإسلامي؛ ففي المتحف القبطي قبة مذبح أصلها من الكنيسة المعلقة وعلى جزئها السفلي عقود وصلبان في فروع نباتية محفورة حفرا دقيقا تذكر بالزخارف الجصية في الجامع الأزهر.
339
ومن أهم التحف الخشبية التي ترجع إلى بداية العصر الفاطمي حجاب الهيكل في كنيسة بربارة بمصر القديمة، وهو محفوظ الآن في المتحف القبطي، وقد وصفه مرقص سميكة باشا في دليله بالعبارة الآتية: «حجاب من كنيسة الست بربارة مكون من 45 حشوة خلاف دائرة العتبة العليا، وعلى الحشوات نقوش بارزة من حيوان مفترس وطيور وغزلان وأشخاص ومناظر للصيد والقنص، يتخلل بعضها صلبان، ويعتبر هذا الحجاب أجمل ما بقي من صناعة العصر الفاطمي الزاهر، ويرى فيه تأثير الفن الفارسي - من القرن العاشر - (مقاسه 127 × 218 سنتيمترا).»
340
والواقع أن هذا الحجاب غني جدا بزخارفه الوافرة؛ فلا غرو إن كان من أصدق الأمثلة على ازدهار صناعة الحفر في الخشب إبان العصر الفاطمي، على يد الفنانين من القبط ومن المسلمين على السواء.
341
ونلاحظ أن في وسطه مدخلا من مصراعين، في أعلاهما من اليمين واليسار ركنان (كوشتان)، ولكل مصراع أربع حشوات مستطيلة وأفقية، ونرى سائر الحشوات مركبة على جانبي هذا المدخل في تناظر وتقابل جميلين.
342
والزخارف المحفورة في حشوات الحجاب متنوعة الموضوعات، وقوامها فروع نباتية تقوم بينها صور آدمية أو رسوم حيوانات.
أما الركنان ففي وسط كل منهما دائرة تضم رسم فارس يصطاد بالباز، وفوق رأسه عمامة، وعلى قبضة يده طائر جارح على أهبة الانطلاق،
343
بينما نرى في حشوات الباب رسوم صيادين آخرين ومع كل منهم الباز الذي يصطاد به والطائر الذي اصطاده، وفي الجزء السفلي من كل حشوة رسم إناء تخرج منه الفروع النباتية الملتوية، ويحف به من الجانبين رسم وعلة،
344
ومهما يكن من شيء فإن دقة الحفر وإتقان الصنعة يتجليان في استيعاب الأجزاء الدقيقة في أجسام الحيوانات والطيور، وفي حسن أداء الزخارف التي تزين ملابس الفارس.
ومن الموضوعات الزخرفية التي نراها محفورة في الحشوات الأخرى رسم صراع بين أسد وإنسان،
345
ورسم سلطانية تخرج منها فروع نباتية، فوقها لبؤتان، تولي كل منهما الأخرى ظهرها، وفوق اللبؤتين طاوسان متواجهان.
346
كما نرى على حشوات أخرى رسم أسد ينقض على وعلة لافتراسها، أو رسم موسيقيين يعزفان على العود وحولهما أشخاص يرقصون رقصا توقيعيا، وقد روعي في رسم الأشخاص تقابل دقيق.
347
ومن الرسوم الغريبة المنقوشة في بعض تلك الحشوات مناظر قتال بين فارس ورجلين يهجم أحدهما عليه من خلفه والآخر من أمامه،
348
وطريقة رسم هذين الرجلين تذكر بالرسوم البارزة على المعابد المصرية القديمة وبالتماثيل الفرعونية.
ولسنا نستطيع أن نستعرض كل الموضوعات الزخرفية في الحشوات التي يتكون منها حجاب الست بربارة، فلا نملك إلا أن نحيل القارئ إلى الأبحاث التي كتبها في هذا الصدد باتريكولو ومونريه دي فيلار وبوتي ولام وغيرهم.
وحسبنا أن نختم حديثنا عن الحجاب المذكور بالتنبيه إلى الشبه بين الزخارف النباتية في أرضية هذه الحشوات، وبين بعض أنواع الزخارف الموجودة في منارتي جامع الحاكم وذات الصلة الوثيقة بالأساليب الزخرفية البيزنطية، كما أننا نلاحظ أيضا أن الرسوم الآدمية في تلك الحشوات عليها مسحة من الدقة تدل على صدق تصوير الطبيعة وعدم الخلود إلى الرسوم الخيالية المهذبة، وأن الموضوعات الزخرفية فيها تشبه ما نراه على حشوات كثيرة أخرى من العصر الفاطمي، أغلبها محفوظ في دار الآثار العربية. وأكبر الظن أن كثيرا من هذه الموضوعات الزخرفية يرجع إلى أصول كانت معروفة في الشرق الأدنى منذ الأزمان القديمة، وهضمت بيزنطة جل هذه الأصول ثم أحيتها في بلاد البحر الأبيض المتوسط.
وربما كانت حشوات هذا الحجاب أصدق مثال لتأثير الأساليب البيزنطية في الفنون الفاطمية، ولا سيما على يد الصناع من القبط؛ ولكن علينا أن نذكر في الوقت نفسه أن الأساليب الفنية الفاطمية كان لها في مواضع أخرى تأثيرات كبيرة في الفنون البيزنطية، كما يظهر من وجود تقليد الكتابة الكوفية على أحجار بيزنطية من القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي). على أننا لا نعني أن تأثير الفنون البيزنطية حدث حتما في العصر الإسلامي؛ إذ إننا نعرف أنه كان ملموسا في مصر قبل الفتح العربي، فضلا عن ذلك كله فإن جل العناصر الزخرفية في حجاب الست بربارة لم يكن وقفا على مصر في العصور الوسطى؛ إذ إن الأشكال الآدمية تذكر بمثيلاتها في التحف العاجية التي كانت تصنع في الأندلس؛
349
بينما نرى في الفن البيزنطي رسوم الحيوانات والطيور التي نعرف أنها تقل كثيرا منها عن الفن الساساني.
ونحن إذا عرجنا الآن على الفترة الوسطى من عصر الفاطميين في مصر - وتشمل حكم الخليفين الظاهر والمستنصر - رأينا ما يعظم به إعجابنا من نماذج لصناعة النقش من الخشب، نلاحظ فيها تطور هذا الفن إلى أقصى ما بلغه في عهد الفواطم، ونرى الأساليب الزخرفية الطولونية تقل شيئا فشيئا، وعلى كل حال فإن هذه الفترة ممثلة خير تمثيل في مجموعة دار الآثار العربية، وهي كما نعلم أغنى المجموعات الخشبية في متاحف العالم أجمع.
ففي متحفنا جزء من مصراع باب (رقم السجل 4128) لم يبق منه إلا ثلاث حشوات،
350
وهو من مجموعة التحف الخشبية التي جيء بها من مارستان قلاون، والتي يرجح أنها كانت مستعملة بالقصر الغربي في العصر الفاطمي وهو القصر الذي قام في مكانه مارستان قلاون وضريحه.
351
وعلى كل حال فإن أرضية هذه الحشوات مكونة من زخارف نباتية دقيقة، قوامها سيقان وأوراق ذات ثلاثة فصوص، أما الزخرفة الأساسية فأكبر حجما، وتتكون من سيقان وأوراق ذات فصين، وتلتف الأوراق في تماثل وتعادل، وفي وسطها غزالان متواجهان (في إحدى الحشوات) أو حمامتان متواجهتان (في الحشوتين الوسطى والسفلى)، وفي جانبيهما طائران كأنهما جزء من الزخارف النباتية التي تبرز في كل حشوة.
352
وفي دار الآثار قطعة أخرى (رقم السجل 3553)، أصلها جزء من مصراع باب، وهي كذلك من مجموعة التحف الخشبية التي جيء بها من مارستان قلاون، وقد بقي فيها ثلاث حشوات عليها زخارف نباتية من سيقان وأوراق تحيط بموضوع زخرفي رئيسي، مكون من رأسي فرسين تتجه إحداهما إلى الجانب الأيمن للحشوة والأخرى إلى الجانب الأيسر، وبينها زخارف نباتية أخرى مفرغة بدقة وعناية.
353
وعلى أن هذه الحشوات ليست في حالة جيدة من الحفظ؛ ولكننا نستطيع أن نعرف حالتها الأولى بفضل حشوة خشبية أخرى في المتحف نفسه
354 (رقم السجل 3391)، وقد اشترتها الدار سنة (1909)، ولا يزال لهذه الحشوة جمالها الأول وتتجلى فيها الدقة والإتقان اللذين كانا رائد الصانع في نقش السيقان والزهور ورأسي الحصانين بما في كل منهما من لجام وأدوات، وهناك تحفة أخرى تشبه هذه الحشوة كل الشبه، وهي محفوظة الآن في متحف المتروبوليتان بنيويورك،
355
ويتجلى في زخرفتها انسجام وتناسق عظيمان.
وهناك مجموعة من حشوات خشبية صغيرة مخرمة، أبدعها قطعة بدار الآثار العربية (رقم السجل 5827)، وقد عثر عليها في أطلال الفسطاط، وهي تمثل أسدا يفترس أيلة في حركة، بها من العنف ودقة الرسم وقوة التعبير ما يذكرنا بمثل هذه المناظر في منتجات التحف المعدنية
356
من الفن السيتي.
وثمة قطعة أخرى من هذا النوع محفوظة في المتحف المصري (رقم السجل 45081) عثر عليها في دندرة، وتمثل فارسا يعدو على حصانه، وقد التفت إلى الخلف ليطلق سهما من قوسه.
357
وفي دار الآثار العربية ومتحف فكتوريا وألبرت بلندن مجموعة فريدة من التحف الخشبية الفاطمية، وهي أجزاء من ألواح خشبية، عثر عليها بضريح السلطان الناصر محمد بن قلاون وبمارستان قلاون في سنة (1911) والسنين التي تلتها، وكانت هذه الألواح مستخدمة في تغطية الإفريز الأعلى بالجدران، وطراز زخارفها ليست له علاقة بعصر المماليك؛ وإنما يقوم شاهدا على أنها من العصر الفاطمي؛ ولأن عليها - كما سنرى - زخارف آدمية فلا يمكننا القول بأنها أخذت من إحدى الأبنية الدينية الفاطمية، وأعيد استعمالها في أبنية السلطان قلاون وابنه السلطان الناصر؛ ولكن غنى الزخارف وإتقان الصنعة في هذه الألواح يحملان على الظن بأن مصدرها لم يكن مسكنا عاديا. ومن ثم فقد استنبط العلماء أنها كانت في القصر الغربي الفاطمي؛ وهو القصر الذي بناه الخليفة العزيز، وأتمه المستنصر وأقيم على أنقاضه بعد ذلك مارستان قلاون.
358
ولم يكن غير مألوف في ذلك الوقت أن يستخدم الأمراء والعاملون على البناء بعض أجزاء الأبنية القديمة وأخشابها في الأبنية الجديدة، وخير شاهد على ذلك ما ذكره المقريزي عن الملك الظاهر بيبرس حين «بنى خانا للسبيل بظاهر مدينة القدس، ونقل إليه باب العيد (من أبواب القصر الشرقي الفاطمي) فعمله بابا له سنة 662 هجرية.»
359
وعلى كل حال فإن عرض هذه الألواح نحو ثلاثين سنتيمترا، وفي كل منها إفريز من أعلى وإفريز من أسفل، ويشتمل هذان الإفريزان على فروع نباتية بين شريطين عاريين عن الزخرفة، وترتفع هذه الفروع وتنخفض مكونة زخرفة نباتية قوامها أقواس تحصر بينها من أسفل وريدات ذات ثلاثة فصوص، ومن أعلى شكلا مكونا من نصفي مروحتين نخيلتين (بالمت).
وبين الإفريزين عصابة رئيسية عليها مناظر من رسوم آدمية وحيوانية فوق أرضية من فروع نباتية أقل بروزا،
360
والرسوم المذكورة موضوعة في خانات تتكون - على التعاقب - من أشكال هندسية سداسية وممدودة ومن جامات رباعية الشكل،
361
ونرى في الخانات السداسية الشكل أن الرسوم منقوشة بين أقواس تتفرع أحيانا من إناء من رسمين.
وكانت هذه الرسوم مدهونة الألوان مما كان يظهر دقائقها ويزيدها وضوحا. وعلى كل حال فإن أول ما يلاحظه المشاهد المدقق أن توزيع المناظر المنقوشة روعي فيه التناظر والتقابل، فتتوسط اللوح جامة رباعية الشكل ثم تتلوها من اليمين واليسار بقية المناظر في تناسب وحسن ترتيب؛ ولكن التنوع في الموضوعات المنقوشة ليس كبيرا، ولا غرو فإن الصناع كانوا يصورون موضوعات تقليدية في الفن الإسلامي، ولم يكن لهم في ميدان الصور الآدمية ما كان لهم في الزخارف الهندسية من رغبة في التشعيب والتعقيد وقدرة على الخلق والابتكار والتنويع.
وعلى كل حال فهي مناظر طرب أو موسيقى أو صيد أو سفر أو قتال، بينها صور طيور وحيوانات يقلد الفنان في رسمها الطبيعة بأمانة وبساطة، لم يبلغها تصوير الإنسان والحيوان في الفن الإسلامي المصري إلا في عصر الدولة الفاطمية.
فموضوعات هذه الزخارف مأخوذة إذن عن حياة الترف التي كان يقضيها الأمراء، ومناظر الصيد على أنواعها، ورسم الأمير وفي يده الكأس كل ذلك مألوف في الفن الساساني، ويذكرنا بقول أبي نواس يصف كأسا مذهبة مرقوم في أسفلها صورة كسرى، وفي جوانبها صور بقر وحشي يطارده الفرسان:
تدار علينا الكأس في عسجدية
حبتها بأنواع التصاوير فارس
قرارتها كسرى وفي جنباتها
مها تدريها بالقسي الفوارس
فللخمر ما زرت عليه جيوبها
وللماء ما دارت عليه القلانس
362
وقصارى القول أن أهم المناظر المنقوشة في الأخشاب التي نحن بصددها الآن هي: (1)
رسم الأمير جالسا على أريكة، وفي يده اليمنى كأس، وفي اليسرى زهرة، وعلى رأسه عمامة ضخمة، وإلى يساره الساقي يصب الخمر في كأس، وإلى يمينه تابع يقدم إليه صينية ذات غطاء، ربما كان المفروض أن تحته شيئا من الطعام أو الحلوى.
363 (2)
رسوم المطربين أو المطربات من عازفين أو عازفات على القيثارة أو العود أو القانون أو الناي أو المزمار أو النقارة.
364 (3)
مناظر رقص ليست جديدة في الفن الإسلامي فقد عرفها الفراعنة والإغريق والفرس قبل أن صورها المسلمون في قصير عمرا وفي سامرا.
365
ولم يكن الرقص وقفا على النساء؛ فإن في متحف اللوفر قطعة من العاج عليها رسم شخص يرقص، ويظهر من جبته وعمامته أنه فتى. وأكثر الراقصات أو الراقصين في الصور التي نحن بصددها هنا يقفون وقفة تشبه وقفة لاعبي الشيش، وفي يدي كل منهن أو منهم منديلان، ورقصاتهم لا تشبه في شيء «رقص البطن» الذي يتسرب إلى الذهن كلما جاء الحديث عن الرقص في الشرق؛ بل هي تذكر ببعض الرقصات التي لا تزال حية في بلاد الأندلس حتى الآن، ويرقص الرجال في كثير من بلاد الشرق الإسلامي حتى العصر الحاضر. (4)
رسوم عرض لشبه قتال بين رجلين أو لرقصة عسكرية تبدو كأنها قتال، بما يحمله كلا الرجلين من سيف ودرقة.
366 (5)
رسوم رجال تسير منفردة أو بجانب إبل عليها هودج أو أحمال من البضائع. ورجلان منهما يلبسان خوذتين وفي يد كل منهما رمح طويل، وأحدهما رابط في ظهره درقة مستديرة على النحو الذي نراه في قطعة من العاج محفوظة في دار الآثار العربية (رقم السجل 5024).
367 (6)
رسوم صيد كثيرة، ولا غرو فقد كان للصيد في العالم الإسلامي في العصور الوسطى شأن خطير،
368
ومناظر للصيد كثيرة جدا على مختلف التحف الإسلامية، ونحن نرى على هذه الألواح الفاطمية رسم الأمير يصيد بالباز، أو يصيد الأسد وهو راكب فرسه، أو يهجم عليه وهو راجل يشهر سيفه ويحتمي بترسه. (7)
رسوم طيور جارحة ومعها فريستها؛ كالأسد والغزال والبط. (8)
رسوم حيوانات خرافية أهمها أبو الهول وله جسم أسد وجناحان ورأس امرأة وتذكر هيئته بالبراق؛ مطية النبي - عليه السلام - وهناك عدا ذلك رسوم طائر له رأس امرأة. (9)
رسوم حيوانات وطيور مختلفة؛ كالباز والتيس والطاوس والأرنب.
أما اللوحان المحفوظان من هذه المجموعة في المتحف القبطي فأصلهما من دير البنات بمار جرجس؛ وعلى إحداهما مناظر طرب من رقص وموسيقى، وعلى الأخرى رسوم بارزة لأرنب وفيل وإيل وشخص يقود فرسا،
369
وأكبر الظن أن هذين اللوحين أصلهما أيضا من القصر الفاطمي الغربي.
وقد قامت لجنة حفظ الآثار العربية في سنة (1932) باستخراج بعض الأخشاب الفاطمية من سقف مارستان قلاون، وهي محفوظة الآن بدار الآثار العربية، وفي بعضها نماذج جميلة من الخط الكوفي المزهر ورسوم حيوانات عديدة؛ كالفرس والأسد والغزال والأرنب وأكثرها مرسوم في أشكال بحمية متنوعة.
370
ومن التحف الخشبية الفاطمية التي تختلف في أسلوب زخرفتها، وإتقان نقشها عما تحدثنا عنه حتى الآن ثلاث لوحات محفوظة بدار الآثار العربية (رقم السجل 6432 و6433 و6434)، وقد اشترتها الدار في سنة (1917)، وأكبرها القطعة الأولى (6432) فطولها 75 وعرضها 26,5 سم، وزخارف أرضيتها مكونة من رسوم نباتية مقطوعة بدون دقة أو عناية، وفوقها رسوم أرانب وطيور، وفي وسط القطعة مربع به رسم شخص جالس القرفصاء على أريكة أو عرش،
371
وعلى القطعتين الباقيتين رسوم طواويس وأرانب مقطوعة في الخشب، وليست بارزة بروزا يذكر وهي كرسوم الحيوانات في القطعة الأولى، جانبية وليست صنعتها دقيقة كل الدقة.
ولعل أكثر ما يشبه هذه النقوش في عدم بروزها وفي هيئتها العامة الرسوم المنقوشة على حشوتين أعيد استخدامهما في محراب السيدة رقية المحفوظ بدار الآثار العربية، والذي سيأتي الكلام عليه.
372
وفي وسط إحدى هاتين الحشوتين نجمة ذات سبعة أطراف، فيها حيوان متجه إلى اليمين؛ وحول هذه النجمة وريدات وفروع نباتية تخرج من إناء في أسفل الحشوة.
373
أما الحشوة الثانية ففي وسطها نجمة ذات ستة أطراف تشتمل على رسم حيوانين أو طائرين، وفوق النجمة دائرتان، في كل منهما حيوان آخر، وتصل النجمة بالدائرتين فروع نباتية ووريقات متعددة الفصوص.
374
على أن أبدع التحف الخشبية التي تنسب إلى هذه الفترة التي نحن بصددها من حكم الدولة الفاطمية هي بلا ريب منبر حرم الخليل في فلسطين. وقد نقشت على بابه وعلى جانبيه كتابة تاريخية من اثني عشر سطرا بخط كوفي مزهر وباز ودقيق، باسم الخليفة المستنصر ووزيره بدر الجمالي في سنة (484ه/1091-1092م).
375
والمعروف أن المنبر صنع في هذه السنة لمشهد الحسين الذي بناه بدر الجمالي بعسقلان، ويظن أنه نقل إلى الخليل على يد صلاح الدين سنة (587ه/1191م).
وعلى كل حال فإن أهم ما يلفت النظر في زخارف هذا المنبر هو دقة الفروع النباتية المنقوشة في مناطق من أشكال هندسية، ومن نجمات مكونة من سير عصابات من سيقان نباتية بين شريطين عاديين عن الزخرفة. والواقع أننا نشاهد لأول مرة في هذا المنبر أسلوب الحشوات الخشبية الصغيرة المجمعة، كما نرى دقة في رسم السيقان وحبات العنب والوريقات تحملنا على القول بأن المنبر لم يصنع في مصر؛ لأن صناعة النقش في الخشب لم تتطور فيها فتصل إلى مثل هذه الدقة قبل القرن السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي). والناظر إلى زخارف هذا المنبر لا يسعه إلا أن يلاحظ أن البارز فيها، والذي يشغل المكانة الخطيرة إنما هي الزخارف النباتية، بينما الأشكال الهندسية التي تصحبها تبدو كأنها تابعة لها ولا تحجب أهميتها، كما نرى في بعض الزخارف المصرية في العصور التالية.
376
ولكن إذا صح ما ذكره ابن دقاق فقد كان في أسيوط منبر يشبه المنبر السالف الذكر،
377
وفي دار الآثار العربية جزء من عتب باب منبر يظن أنه هو الذي ذكره ابن دقاق. وعلى كل حال فإن على هذه القطعة (رقم السجل 415) كتابة بالخط الكوفي المشجر الصغير، وهذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم والعاقبة للمتقين، مولانا وسيدنا الإمام المستنصر بالله أمير المؤمنين - صلوات الله عليه و[على آبائه] الطاهرين ونصر عساكره وأولياءه وأهلك أضداده وأعداءه، وحرس الإسلام والمسلمين بتخليد ملكه وإطا[لة] عمره ...
378
وقد كانت هذه القطعة الخشبية في المسجد الجامع بأسيوط (الجامع العمري أو الأموي)، وحروف كتابتها جميلة مع بساطتها وروعتها، وقد استنبط فان برشم أن تاريخها - على الأرجح - سنة (470ه/1077)، وهي السنة التي مر فيها بدر الجمالي بأسيوط حين أخضع الثائرين على المستنصر.
379
ولا يزال هناك أثر زخرفة باقية في طرفها، قوامها ساقان نباتيان منحنيان.
380
أما التحف الخشبية في العصر الأخير من حكم الدولة الفاطمية، فإن أقدم ما يسترعي انتباهنا منها قطعة في دار الآثار الوطنية بدمشق (خ44)، وقد وصفها الأمير جعفر السني في الدليل الذي وضعه لمقتنيات تلك الدار، بالعبارة الآتية: «جانب سدة جامع من خشب الحور الرومي، آية في جمال الصنع وحسن الذوق مزينة بنقوش بديعة، وبمشربيات من الخشب المخروط وكتابات قرآنية مشجرة متناسقة جميلة جدا، وقد رقم في أعلاها هذه العبارة: «... بن محمد بن الحسن بن علي صفي أمير المؤمنين تقبل الله منه، وذلك في شهور سنة 497» وجدت في جامع مصلى العيدين (جامع باب المصلى) في دمشق.»
381
كذلك نجد على المنبر الخشبي في مسجد دير سانت كاترين بشبه جزيرة سينا كتابة بارزة بالخط الكوفي المشجر باسم الإمام الآمر بأحكام الله ووزيره الأفضل شاهنشاه في ربيع الأول سنة (500ه/1106م)،
382
ويشبه هذا المنبر منبر الخليل بعض الشبه ولا سيما في الهيئة؛ ولكن الزخارف أقل غنى وتطورا بالرغم من أنها أحدث من زخارف منبر الخليل.
383
وعلى كل حال فإن أكثر حشواته مستطيلة وتشتمل على فروع نباتية ووريدات ومراوح نخيلية، وهي فضلا عن ذلك مرتبة ترتيبا هندسيا يذكر بوضع اللبن والآجر في البناء.
وفي الجامع السالف الذكر كرسي من الخشب على شكل هرم مقطوع من أعلاه، ويدور حول جوانبه الأربعة شريطان من الكتابة الكوفية المشجرة باسم «الأمير الموفق المنتخب منير الدولة وفارسها أبي منصور أنوشتكين الآمري».
384
ومن أشهر التحف التي ترجع إلى الفترة الأخيرة من حكم الفاطميين في مصر المحاريب الثلاثة الخشبية المحفوظة بدار الآثار العربية؛ أقدمها كان في الجامع الأزهر، والثاني من جامع السيدة نفيسة والثالث أتى به من مشهد السيدة رقية.
أما الأول فأقلها خطرا من الناحية الفنية، وقد كان أعلاه لوح خشب منقوش عليه بالخط الكوفي المشجر العبارة الآتية:
بسم الله الرحمن الرحيم:
حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين ،
إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا
مما أمر بعمل هذا المحراب المبارك برسم الجامع الأزهر الشريف بالمعزية القاهرة مولانا وسيدنا المنصور أبي علي الإمام الآمر بأحكام الله أمير المؤمنين - صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين وأبنائه الأكرمين - ابن الإمام المستعلي بالله أمير المؤمنين ابن الإمام المستنصر بالله أمير المؤمنين - صلوات الله عليهم أجمعين - وعلى آبائهم الأئمة الطاهرين بني الهداة الراشدين وسلم تسليما إلى يوم الدين في شهور سنة تسع عشرة وخمسمائة، الحمد لله وحده.
385
والمحراب مكون من قبلة من خشب الفلق، على جانبيها عمودان ينتهي كل منهما بمحمل وبقاعدة رمانية الشكل ويرتكز عليها عقد فارسي كعقود الرواق الرئيسي في الجامع الأزهر، ويحيط بالقبلة شبه إطار، في كل من جانبيه الأيمن والأيسر أربع حشوات من خشب النبق، فيها زخارف نباتية ووريقات ذات ثلاثة أو خمسة فصوص .
أما محراب السيدة نفيسة فالظاهر أنه صنع في خلافة الحافظ حين عمر مسجد السيدة نفيسة سنة (541ه/1145-1146)، وهو مكون من حشوات مجمعة ورسومات هندسية أخرى فيها زخارف نباتية دقيقة وله إطار يجري في شريط من الكتابة الكوفية التي تؤذن ببدء الخط النسخي،
386
ويجري شريط آخر حول حنية القبلة نفسها.
ولكن أهم ما يلفت النظر في هذا المحراب إنما هو دقة الزخارف النباتية فيه؛ ففي الفروع سيقان ووريقات بينها أوراق العنب وحباته مرسومة بأسلوب يمثل الطبيعة أحسن تمثيل. أما زخرفة حنية القبلة فتختلف عن زخارف سائر أجزاء المحراب، وفيها رسوم هندسية مشبكة، والوريقات في فروعها النباتية أكبر حجما، وأغنى بما فيها من مراوح نخيلية وموضوعات زخرفية من أوراق العنب وحباته.
والمحراب الثالث أصله من مشهد السيدة رقية،
387
وهو آية في دقة الصنعة، ولا يزال في حالة جيدة جدا، ويشبه محراب السيدة نفيسة في هيئته، ويختلف عنه في أنه مزين بالزخارف من الظهر والجانبين.
388
وحنية القبلة في هذا المحراب مكونة من حشوات سداسية الشكل، مجمعة بحيث تحصر بينها حشوة على شكل نجمة ذات ستة أطراف، وتزين كل حشوة من تلك الحشوات سيقان نباتية دقيقة فيها وريقات ذات فصوص طويلة وتحيط بحنية القبلة كتابة بالخط الكوفي المشجر تتضمن بعض آيات قرآنية.
389
وأما وجهة المحراب فمن خشب قرو ومزخرفة بحشوات من ساج هندي وخشب زيتون على شكل نجوم وأشكال هندسية أخرى كثيرة الأضلاع وغنية بما فيها من سيقان ووريقات دقيقة، ويحيط بالزخارف إطار من كتابة كوفية مشجرة، منها النص الآتي: «مما أمر بعمله الجهة الجليلة المحروسة الكبرى الآمرية
390
التي كان يقوم بأمر خدمتها القاضي أبو الحسن مكنون، ويقوم بأمر خدمتها الآن الأمير السديد عفيف الدولة أبو الحسن يمن الفائزي الصالحي
391
برسم السيدة رقية ابنة أمير المؤمنين علي.»
392
وظهر المحراب مزين بتسع حشوات كبيرة، بين رسومها تباين جميل؛ فالمعينات والأشكال النجمية مزينة بفروع نباتية قليلة الحفر، بينما الحشوات الأخرى محلاة بأوراق عنب وعناقيد عميقة الحفر.
393
ومهما يكن من شيء فإن العبارة التاريخية التي جاءت في هذا المحراب تحمل على القول بأنه صنع في حياة الخليفة الفائز ووزيره الصالح طلائع؛ أي: بين سنتي (549 و555 هجرية / 1154 و1160 ميلادية).
394
وهناك تحفة خشبية أخرى ترجع إلى نهاية حكم الفواطم في مصر، ولا تقل خطرا عن المحاريب الثلاثة التي انتهينا الآن من الحديث عنها.
فالجامع العمري بقوص فيه منبر عليه لوحة من الخشب تشتمل على العبارة الآتية مكتوبة بخط كوفي مشجر وذي حروف صغيرة:
بسم الله الرحمن الرحيم
ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة
أمر بعمل هذا المنبر المبارك الشريف مولانا وسيدنا الإمام الفائز بنصر الله أمير المؤمنين - صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين وأبنائه المنتظرين - على يد فتاه وخليله السيد الأجل الملك الصالح ناصر الأئمة، وكاشف الغمة أمير الجيوش سيف الإسلام غياث الأنام كافل قضاة المسلمين وهادي دعاة المؤمنين عضد الله به الدين وأمتع بطول بقائه أمير المؤمنين، وأدام قدرته وأعلى كلمته في سنة خمسين وخمسمائة.
395
ويشبه هذا المنبر في شكله منبر الخليل والمنبر الموجود في جامع دير سانت كاترين بطور سينا، على أن جنبيه تكسوهما زخارف من حشوات تكون أشكالا هندسية من مستطيلات ونجوم ومسدسات ممدودة مغطاة كلها بفروع نباتية ومراوح نخيلية وعناقيد عنب،
396
وفي القسم الإسلامي من متاحف برلين حشوة من هذا الطراز، حتى ليظن أنها مأخوذة من هذا المنبر.
397
وفي دار الآثار العربية باب ذو مصراعين (رقم السجل 1055) كان في جامع الملك الصالح طلائع الذي شيد في سنة (555ه/1160م)، ويشتمل كل مصراع على ثلاث حشوات مستطيلة وأفقية، بين الأولى والثانية حشوتان قائمتان وعموديتان، وبين الثانية والثالثة مثلثهما، والحشوات تزينها زخارف نباتية من سيقان ووريقات، محفورة بعمق عظيم في مثمنات ونجوم ذات ستة أطراف أو اثني عشر طرفا.
398
وقد عثرت لجنة حفظ الآثار العربية في مسجد الصالح طلائع على عدد من القطع الخشبية المنقوشة، أمكن تجميعها واستنباط شكل السقف التي كانت مستخدمة فيه.
399
وقد أمدنا المسجد المذكور بقطعة من الأثاث الفاطمي نادرة المثال، وهي واجهة خزانة (دولاب) كانت في إحدى جدرانه قبل أن تنقل إلى دار الآثار العربية (رقم السجل 672)، وتنقسم هذه التحفة إلى أربع مناطق:
الأولى:
مكونة من أربع كوات على كل منها عقد ذو فصوص وفيه زخارف نباتية.
والثانية:
تشتمل على ثلاثة صفوف من مربعات فيها زخارف نباتية أو مستطيلات بها عبارات بالخط الكوفي أو النسخي، نصها: «البركة الكاملة» أو «الجد الصاعد» أو «البقا لصاحبه».
والمنطقة الثالثة:
من ثلاث كوات، على أوسطها عقد ذو فصوص.
والمنطقة الأخيرة:
بها مربعات ذات زخارف نباتية أو مستطيلات فيها عبارات نسخية أو كوفية ونصها: «العز الدائم» أو «العمر الطويل» أو «البركة الكاملة» أو «الملك لله وحده».
400
ولا يسعنا أن نختم حديثنا عن النقش في الخشب عند الفاطميين دون أن نشير إلى بعض النماذج البديعة، التي لا يتسع المقام هنا لدراستها جميعا؛ كباب دير سانت كاترين في طور سينا،
401
وكالتابوت المحفوظ في مشهد السيدة رقية بالقاهرة،
402
وحجاب كنيسة أبي سيفين.
403 (9) العاج
يظهر أن أكثر ما استخدم فيه العاج على يد الصناع المصريين إنما كان في التطعيم، وطبيعي أن يكون المسلمون قد تأثروا بأساليب الفن القبطي في عمل حشوات العاج الكاملة؛ لأن وادي النيل كانت له شهرة طيبة في هذا الميدان منذ ازدهار الإسكندرية؛ لأننا نظن أن صناعة النقش في العاج ظلت تقوم في الأقاليم المصرية التي يكثر فيها السكان القبط، كما لا يزال الحال حتى العصر الحاضر.
وإذا نحن استثنيا قطع الشطرنج التي عثر عليها في حفائر الفسطاط، والتي إن اشتملت على زخرفة، فمن دوائر محفورة ومتحدة المركز،
404
نقول: إن استثنيا ذلك فأحسن التحف العاجية المصرية التي نعرفها حشوات ذات نقوش يمكن مقارنتها ببعض النقوش على التحف الخشبية والخزفية، وتحمل على القول بأن هذه الحشوات يرجع تاريخها إلى القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي).
وقد مر بنا الكلام على إحدى هذه الحشوات، التي عثر عليها في حفائر الفسطاط ثم حفظت في دار الآثار العربية (رقم السجل 5024)،
405
وفيها رسم سيدة في هودج، وجندي في يده رمح وترس، وصائد بالباز على ظهر جواده، وفي نفس المتحف قطع صغيرة أخرى من العاج على إحداهما (رقم السجل 5027) رسم شخص في يده رمح، يظهر أنه كان يطعن به أسدا ذهب رسمه في الجزء المفقود من هذه القطعة، وفي بعض الحشوات الأخرى رسوم طيور وحيوانات كالأرنب والطاوس.
وفي مجموعة كران بمتحف قصر بارجلو بمدينة فلورنسة سبع حشوات من العاج، يظهر أن ستا منها كانت جزءا من علبة صغيرة، والقطعة السابعة منقوش عليها رسم عقابين متواجهين على أرضية من سيقان وعناقيد عنب، وفي يمين الحشوة ثلاث مراوح نخيلية، وفي طرفها الأيسر ثلاث مثلها،
406
بينما القطع الست الأخرى عليها رسوم طرب أو موسيقى أو صيد أو فلاحة أو حصاد.
407
وعلماء الآثار الإسلامية مختلفون في أمر هذه الحشوات؛ فبعضهم ينسبها إلى مصر وبعضهم إلى صقلية. ونحن نرى أن الشقة بعيدة بين نقوش هذه القطع والنقوش التي نعرفها في الأخشاب الفاطمية أو قطع العاج التي عثر عليها في الفسطاط، وأكبر الظن عندنا أن حشوات متحف بارجلو قد صنعت في صقلية في القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي) إن لم تكن قد صنعت في إقليم أوروبي وروعي فيها تقليد المناظر الشرقية المصرية تقليدا لم يكن له من النجاح نصيب يذكر، فإحدى الراقصات يكاد يكون رسمها هندي الأسلوب، ومنظر الصيد ضعيف لا قوة فيه ولا روح، وهناك رسم عازف على المزمار يبدو كأنه يدخن شيشة، ورسم شخص معه كلبه ولا أثر للروح الشرقية في المنظر كله.
ومهما يكن من شيء فإن حشوات متحف بارجلو تمتاز بدقة وعناية وافرتين في إظهار رسوم هندسية فوق ملابس الأشخاص، فتظهر كأنها حشوات من منبر أو محراب، ولسنا نعرف أقمشة إسلامية كانت زخارفها على هذا النحو.
وقد أشار ميجون
migeon
إلى حشوات من العاج بمجموعة ألبرت فجدور
Albert Figdor
بفينا، وقد ركبت في إطار مرآة في عصر متأخر، وهو يميل إلى اعتبارها من منتجات الصناعة العراقية في العصر العباسي.
408
وفي متحف اللوفر حشوتان من العاج المشبك عليهما رسوم راقص وصائد بالباز، وشخص يحتسي الخمر وثالث يقبض على حيوان أو طائر، كل ذلك فوق أرضية من الفروع النباتية وحبات العنب، وطراز هذه الرسوم قريب جدا من اللوحات التي عثر عليها في مارستان قلاون، ومن حشوات العاج الفاطمية المحفوظة بدار الآثار العربية.
409
والغريب أن ميجون كتب أن حشوات متحف بارجلو ومجموعة فجدور من نفس العلبة التي منها حشوتا اللوفر.
410
ونحن نظن أن ذلك بعيد عن الصواب؛ لأن الفرق بين أسلوبي النقش وبين دقة الصنعة في هذه الحشوات المختلفة بين وشاسع.
أما ما نعرفه من تحف عاجية غير الحشوات السالفة الذكر، فليس بينه ما يمكن نسبته على وجه التحقيق إلى العصر الفاطمي في مصر، ولعل أهم هذه التحف أبواق للصيد
411
عليها زخارف بارزة من حيوانات وطيور، ومناظر صيد في دوائر أو أشرطة، وتختلف كل الاختلاف عن زخارف أبواق الصيد المعروفة بأوروبا في العصور الوسطى، فتبدو عليها مسحة إسلامية قوية، وقد اختلف العلماء في تحديد المكان الذي صنعت فيه هذه الأبواق؛ فبعضهم ينسبها إلى صقلية، كما يظن آخرون أنها صنعت في جنوبي إيطاليا، ومن مؤرخي الفنون من يذهب إلى أنها صنعت في مصر أو في العراق أو في الأندلس، ولكن الذي لا شك فيه هو أن زخارف هذه الأبواق تمت بصلة كبيرة إلى الزخارف الفاطمية في الخشب والعاج، حتى إننا نرجح أنها صنعت في صقلية على يد فنانين من المسلمين في القرنين الخامس والسادس بعد الهجرة (الحادي عشر والثاني عشر للميلاد)،
412
وليس بعيدا أن يكون الصناع في الجمهوريات التجارية بشبه جزيرة إيطاليا قد قلدوها، كما قلدوا غيرها من المنتجات الإسلامية في ذلك العهد.
413
وثمة علب صغيرة مستطيلة الشكل وذات غطاء على شكل هرم ناقص، وزخارف تشبه زخارف أبواق الصيد المذكورة ويصدق عليها ما ذكرناه عن أبواق الصيد من تاريخ وأسلوب؛ على أننا نجد في زخارفها رسوم رجال ذوي لحى في أطراف العلب،
414
وعليهم ملابس شرقية، وهناك نماذج من هذه العلب في القسم الإسلامي من متاحف برلين، وفي متحف المتروبوليتان بنيويورك،
415
وفي متحف فكتوريا وألبرت
416
بلندن.
وفضلا عن ذلك فإن متحف المتروبوليتان به محبرة من العاج تدخل بزخارفها في مجموعة أبواق الصيد والعلب التي ذكرناها الآن، وتتكون زخارف هذه المحبرة من رسوم غزلان وأسود وأرانب وسباع، كما نجد عليها رسم طاوسين متقابلين، وعنقاهما مجدولان في بعضهما
417
على النحو الذي نراه في بعض التحف العاجية المصنوعة على يد بني أمية في الأندلس.
418
وهكذا نرى أن الأساليب الفنية في القرنين الخامس والسادس بعد الهجرة كانت زاهرة في العالم الإسلامي على يد الفاطميين في مصر، وامتد تأثيرهم إلى صقلية وجنوبي شبه جزيرة إيطاليا والأندلس.
ولا يزال في بعض المتاحف وكنوز الكنائس الغربية عدد كبير من علب عاجية ليست نقوشها محفورة أو بارزة، وإنما هي مرسومة عليها، والموضوعات الزخرفية فيها متنوعة جدا؛ فنرى فيها الصياد بالباز والعازف على آلات الطرب والجامات ذات الزخارف النباتية، والحيوانات والطيور المختلفة، والعبارات بالخط الكوفي أو النسخي، كل ذلك بالألوان: الأزرق والأحمر والأخضر.
وقد نسب ديتز
Diez
هذه المجموعة من العلب العاجية إلى العراق في بداية الأمر؛
419
ولكن كونل قال بأنها من صناعة صقلية في العصر النورمندي.
420
ونحن نميل إلى الأخذ بهذا الرأي؛ لأن زخارف تلك العلب فيها شيء غربي على الرغم من مسحتها الشرقية العامة.
وشكل هذا التحف إما مستطيل ولها غطاء مسطح أو على هيئة هرم غير كامل، وإما أسطواني، ومن أهم نماذجها علبة في القسم الإسلامي من متاحف برلين؛ عليها نقوش نباتية وحيوانات وطيور وآثار تذهيب،
421
كما أن كاتدرائية ورتزبرج
Würzburg
بها علبة خشبية عليها طبقة من العاج، مرسوم فوقها دوائر فيها حيوانات وطيور، وعلى جوانب العلبة كلها رسوم عقود تحتها أشخاص بينها أمير على أريكة، وبينها عازفات على الموسيقى.
422
وفي متحف فكتوريا وألبرت نماذج من هذه العلب،
423
وكذلك في متحف قصر بارجلو بمدينة فلورنسة، وفي متحف كلوني والمتحف البريطاني، وبعض التحف المذكورة عليها رسوم رسل وقديسين وموضوعات زخرفية مما يحمل على القول بأنه هذه العلب كانت تصنع خصيصا للغرب، وإن كان صانعوها من المسلمين.
424
وفي دار الآثار العربية علبة أسطوانية من سن الفيل (رقم السجل 12633) ذات غطاء، وعلى قاعها من الداخل رسم طائرين وفرعين نباتيين باللونين الأسود والأصفر، من المحتمل أن تكون هذه التحفة من العصر الفاطمي.
بقي أن نشير إلى التطعيم بالعاج، وإن كنا لا نعرف أي تحفة يمكن نسبتها إلى الصناعة المصرية في العصر الفاطمي؛ فجل الذي وصل إلينا من نماذج هذه الصناعة نرجح أنه من صناعة الأندلس.
وقد عثر في الحفائر التي عملت في كاريون دي لوس كونديس
Carrion de los Condes
من أعمال بلنسية بإسبانيا على علبة من العاج، صنعت في إفريقية للخليفة المعز لدين الله الفاطمي بين عامي (341 و362) هجرية، وهي محفوظة الآن في المتحف الأهلي للآثار بمدريد، وعلى غطائها كتابة مطعمة بالأحمر والأخضر، ونصها:
بسم الله الرحمن الرحيم
نصر من الله وفتح قريب
لعبد الله ووليه معد أو تميم الإمام المعز لد[ين الله] أمير المؤمنين - صلوات الله عليه وعلى آبائه الطيبين وذريته الطاهرين - مما أمر بعمله بالمنصورية المرضية ... صنعه ...د الخراساني.
425
والظاهر أن صناعة التطعيم بالعاج ازدهرت في صقلية؛ فإن في الكابلا بالاتينا ببلرمو علبة من الخشب ذات غطاء مقبب، وعليها طبقة من الدهان الأدكن اللون، وتزينها زخارف مطعمة، قوامها عبارات مكتوبة بالخط النسخي، ودوائر تشتمل على أزواج من الحيوانات أو الطيور أو الصور الآدمية؛ وهذه الأخيرة نراها مهذبة تهذيبا يبعدها عن الطبيعة، فتصبح رمزا وحلية فحسب، ولا سيما إذا لاحظنا أن كل دائرة تشتمل على صورة شخصين نرى فيها رسم أحدهما مقلوبا، فيكون رأسه بجوار قدمي الشخص الآخر.
426
وأكبر الظن أن هذه العلبة من صناعة صقلية في القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي).
وقصارى القول أن النماذج التي نعرفها من هذه الصناعة ليست من صناعة مصر في العصر الفاطمي؛ ولكننا نجد في زخارفها صدى لازدهار الفن في ذلك العصر بما نراه من تأثير باق من موضوعاته الزخرفية وأساليبه الفنية. (10) المعادن
البرنز
إذا تذكرنا أن الفن الإسلامي لم يكن يحبذ الكائنات الحية، وأن الميول الفنية التي كانت تبدو من بعض أمراء المسلمين - على الرغم من ذلك - لم تفلح في منع هذا الفن من اتخاذ أصول للجمال، أبعدته عن تمثيل الطبيعة الحية، ودفعت به إلى الافتنان في الزخارف الهندسية، والنباتية، مع مراعاة الرشاقة وتناسب الأقسام، والوفرة في التنويع والترتيب، نقول: إذا تذكرنا ذلك كله، لا يبدو لنا غريبا أن الفن الإسلامي لم ينجب مثالين يمجدون جمال الطبيعة، بقدرة على التشكيل والنحت والتصوير، تضارع ما كان لقدماء المصريين، والإغريق والرومان، ما نراه في الفنون الغربية، وفنون الشرق الأقصى.
ليس لدينا إذا تماثيل بمعنى الكلمة، اللهم إلا أمثلة نادرة؛ أغلبها من البرنز، وللعصر الفاطمي فيها النصيب الأوفر؛ ولكنه نصيب لا يعطي إلا فكرة بسيطة وغير تامة عن ازدهار صناعة المعادن عند الفواطم، كما يتجلى لنا في أحاديث المقريزي وغيره، عما كانت تحتويه قصورهم من كنوز ونفائس.
والواقع أن هذه التماثيل الصغيرة من البرنز تكاد تكون جل ما بقي من منتجات صناعة المعادن في ذلك الوقت؛ على أننا نعرف من فصيلتها ما صنع في إيران منذ بداية العصر الإسلامي، وكان يستخدم على الخصوص كمبخرة
427
أو كصنبور لإبريق أو إناء، ولكن الظاهر أن التماثيل الفاطمية كان الغرض منها زخرفيا قبل كل شيء، اللهم إلا حين نرى إناء صنع على شكل طائر أو حيوان، يذكر بما كان معروفا في إيران وما وراء النهرين في نهاية العصر الساساني، وفي فجر الإسلام، وما عرف في الغرب، إبان العصر الفاطمي، باسم أكوامانيل
428
كما ذكرنا في القسم الأول من هذا الكتاب.
429
ومهما يكن من أمر، فإن أشهر التماثيل الفاطمية المعروفة عقاب البرنز الموجود الآن فوق إحدى أروقة الكامبو سانتو (المقبرة أو الجبانة) بمدينة بيزا في إيطاليا، وارتفاعه 105 وطوله 85 سنتيمترا. ويزعمون أنه جلب من مصر إلى شبه الجزيرة الإيطالية على يد عموري ملك بيت المقدس بين سنتي (559-569ه/1162-1173 ميلادية)؛ كما يظنون أنه كان جزءا من فوارة مائية، وعنق هذا العقاب وجناحاه مغطاة بريش على شكل قشور السمك، وجسمه مغطى بزخارف محفورة فيه، يتجلى فيها ميل الفنانين المسلمين إلى تغطية المساحات، وهربهم من تركها بدون زينة أو زخرفة؛
430
كما يتجلى فيها خصب زخارفهم، النباتية منها والهندسية والخطية، فضلا عن رسوم الطيور والحيوانات؛ حتى إن بدن هذا الطائر الجارح يبدو كأن عليه ثوبا من الزخارف قد حبك عليه حبكا بديعا،
431
وهذا الطائر كغيره من الحيوانات والطيور المصنوعة من البرنز في العصر الفاطمي لا يمثل الطبيعة الحية، على الرغم من أن الفنان نجح في إكسابه شكلا وهيئة، فيهما قسط وافر من الحركة والحياة والخيلاء والثقة بالنفس، فإن له جسم أسد ورأس نسر أو عقاب كما أن له جناحين، ونرى فوق أوراكه مساحات محجوزة على شكل الكمثرى، ومحفور عليها رسم صقور وسباع، محوطة بخطوط لولبية الشكل، والجامات المستديرة التي تزين ظهر هذا الطائر تنتهي في طرفها بكتابة بالخط الكوفي، لها بقية في شريط آخر يدور حول الرقبة، وعبارات الكتابة فيها مدح وإطراء وأدعية لصاحب التحفة، وليس فيها ذكر لتاريخ صنعها، ولا للمكان الذي صنعت فيه.
432
وفي دار الآثار العربية مثال من هذه الحيوانات؛ هو أسد (رقم السجل 4505) ارتفاعه 21 وطوله 20 سنتيمترا، وذنبه مجدول ينتهي بشكل رأس حيوان، وفمه مفتوح، كما أن في بطنه وفي صدره وعينيه ثقوبا، ويظن أن هذا التمثال الصغير كان من أجزاء فسقية من العصر الفاطمي.
433
وفي متاحف أوروبا أمثلة أخرى على بعضها إمضاءات صانعيها؛ ففي متحف اللوفر بباريس إناء من النوع الذي كانوا يسمونه في العصور الوسطى أكوامانيل وهو على شكل طاوس، فوق رأسه شوشة، وله مقبض مجوف، ينتهي برأس نسر يعض عنق الطاوس، ويسمح للماء - على هذا النحو - بالجري من بطنه إلى فوهته،
434
وعلى صدر هذا الطائر الجميل كتابتان؛ إحداهما لاتينية ونصها:
Opus Salomonis erat
أي: عمل سليمان،
435
وقد كان المقصود بمثل هذه العبارة في العصور الوسطى إطراء التحفة، وإظهار الإعجاب بدقة الصنعة؛ وذلك لأن سيدنا سليمان كان مثالا للحكمة.
وأما الكتابة الأخرى فعربية ونصها: «عمل عبد الملك النصراني.» وقد ادعى ميجون
Megeon
أن النص على أن الصانع كان مسيحيا لا يمكن أن يحدث في بلد إسلامي ومتعصب، واستنبط من ذلك أن هذا الطاوس صنع في صقلية.
436
ونحن لا نظن أننا في حاجة إلى التنويه بخطأ هذا الرأي، بعد ما كتبناه في القسم الأول من هذا الكتاب عن تسامح الفاطميين وتعضيدهم الفنانين ورجال الحكومة من كل جنس ودين، فمن المحتمل إذن أن تكون هذه التحفة قد صنعت في مصر في القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي)، وأن تكون الكتابة اللاتينية قد أضيفت إليها في أوروبا تقديرا لها، وإعجابا بجمالها.
ومن أدق التماثيل الفاطمية المعروفة أيل مجوف من البرنز محفوظ في المتحف البافاري بمدينة ميونخ،
437
ارتفاعه 46 وطوله 30 سنتيمترا، ومحفور على جسمه زخارف نباتية من جذوع وأوراق دقيقة ومتشابكة، وعلى بطنه من الجهتين كتابة كوفية، كان يظن أن نصها: «عمل غسان المصري»؛
438
ولكن الأستاذ فييت حدثني أنه فحص صورة هذه الكتابة وأنها عبارة دعائية ليس فيها اسم ما.
439
ومما يزيده روعة وجمالا قرن طويل وذنب قصير، وفي رقبته وبدنه ثقبان، يحملان على القول بأنه كان ذا مقبض متصل برقبته ومؤخره، وقد كان هذا الإيل حتى سنة (1868) في مجموعة لويس الأول ملك بافاريا.
وفي القسم الإسلامي من متاحف برلين أسد مجوف من البرنز يشبه الأسد المحفوظ في دار الآثار العربية والذي تحدثنا عنه آنفا،
440
كما أن فيه حيوانا آخر من البرنز قد يكون حصانا أو وعلا أو أرنبا.
441
وفي مجموعة ستوكليه
Stoclet
بمدينة بروكسل أرنب مجوف من البرنز،
442
وعثرت دائر الآثار العربية في حفائرها بالفسطاط على أرنب آخر (رقم السجل 13485)؛ ولكنه ليس في حالة جيدة من الحفظ؛ فإن رأسه مفقود وبه تآكل وثقوب عديدة.
وفي متحف مدينة كاسل
Kassel
بألمانيا أسد مجوف من البرنز ذنبه مفقود وارتفاعه وطوله نحو 30 سنتيمترا، ومحفور عليه كتابة نصها: «عمل عبد الله ...» ثم كلمة أخرى لا يمكن قراءتها، وليس مستحيلا أن تكون: «مثال.»
443
وقد لاحظ ميجون
Migeon
أن اسم صانع هذه التحفة «عبد الله» يكثر حمله بين الذين يتركون دينهم ويعتنقون الإسلام، واستنبط من ذلك أننا ربما استطعنا أن نرى فيه واحدا من هؤلاء! «حرص على الاحتفاظ بصفته المسيحية الأصلية»،
444
ولكننا لا نوافق الأستاذ على هذا الرأي، الذي لم يبنه على مقدمات منطقية صحيحة، بل ساق عليه دليلا، ينطبق عليه قول الفرنسيين: «إنه مشدود من شعره.»
وفي متحف قصر بارجلو
Bargello
بمدينة فلورنسة حيوان من البرنز يشبه الحصان، ومحفور عليه زخارف من دوائر، وفروع نباتية، وكتابة دعائية بالخط الكوفي،
445
وهو يذكر بحصان من البرنز، عثر عليه في مدينة الزهراء بالأندلس، ومحفوظ الآن في متحف قرطبة، ويرجع تاريخه إلى القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)، وتتكون زخارفه من أقواس متصلة، تؤلف أشكالا بيضية، داخلها أوراق شجر، مرسومة فيها عروقها.
446
ومن تماثيل البرنز التي يمكن نسبتها إلى مصر في عصر الفواطم أسد، عثر عليه في منزون
Monzon
من أعمال بلنسية في إسبانيا، وهو محفوظ الآن في متحف اللوفر،
447
ومع أن العثور عليه في الأندلس لا يجعل نسبته إلى وادي النيل أمرا مقطوعا بصحته، فإن الزخارف النباتية ورسوم الوريدات والطيور التي تغطيه، وطراز الكتابة الكوفية على جنبيه،
448
كل ذلك يثبت أنه يمت بصلة كبيرة إلى طراز التماثيل البرنزية التي نحن بصددها الآن، وفضلا عن ذلك فإن إناء على شكل أسد يشبهه كل الشبه محفوظ الآن في متحف فكتوريا وألبرت بلندن.
449
وفي مجموعة المسيو رالف هراري تمثال وعل من العصر الفاطمي، لا يختلف كثيرا عن سائر التماثيل التي وصفناها آنفا.
ولا يسعنا أن نختم الكلام عن هذه التماثيل الفاطمية التي كانت تستخدم للزينة كما كان بعضها مركبا في فسقيات أو يستخدم لحمل الماء، نقول: لا يسعنا أن نفعل ذلك بدون أن نستطرد قليلا فيما أجملناه عن آنية المياه الأوروبية التي كانت تسمى في العصور الوسطى أكوامانيل، فمنذ القرن السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي) أخذ الغرب عن الشرق الأدنى هذا النوع من الآنية المجوفة، التي كانت تزود بثقب يدخل منه الماء وآخر يخرج منه، وكان أكثر استعمالها في الكنائس؛ ولكن الأفراد استخدموها أيضا في بيوتهم. والظاهر أن الصليبيين هم الذين أتوا بنماذجها الأولى من الشرق الأدنى إلى الغرب، حيث كان القوم يقبلون على كل جديد طريف، وكان الأسد أحب الحيوانات التي اتخذت هذه الآنية على هيئتها، وأكثرها ذيوعا، كما استخدم الديك
450
والكلب والحصان والوعل والعقاب وغيرها.
451
أما المباخر التي كانت تصنع على شكل طيور، فأهم المعروف منها في متحف اللوفر، والمتحف البريطاني، ومجموعة المسيو رالف هراري، ومجموعة الكونتيس دي بيهاج؛ ولكن أكثر النماذج المعروفة من هذا النوع عليها كتابة بالخط النسخي، تحملنا على أن نرجح أن هذه المباخر يرجع تاريخها إلى نهاية الدولة الفاطمية وبداية العصر الأيوبي.
452
والمشاهد أن المباخر ذاع استخدامها في البلاد الإسلامية؛ ولكن المسلمين لم يتخذوها لأي طقس من طقوس العبادة، بينما تجدها أداة لازمة في جل طقوس العبادة والزواج في الكنيسة المسيحية منذ عهد بعيد.
453
ومهما يكن من أمر فإن المبخرة المحفوظة في متحف اللوفر بها هيئة ببغاء، وبها ثقوب، وفي ظهرها «مفصلة»، وحول رقبتها كتابة بالخط النسخي،
454
وعلى جسمها زخارف محفورة، أوفر مما على ببغاء أخرى في المتحف البريطاني تشبهها كل الشبه.
455
أما ما بقي من تحف البرنز المصنوعة في العصر الفاطمي عدا ما ذكرناه من تماثيل وآنية ومباخر، فأهمه ضرب من التحف، محفوظ منه ثلاثة نماذج في دار الآثار العربية؛ أكملها وأدقها صنعة واحدة (رقم السجل 8483) لها ثلاث أرجل،
456
فوقها قاعدة، تزينها زخارف نباتية وكتابة كوفية مشجرة، تتضمن بعض عبارات الدعاء والتبريك، هذه القاعدة أو القرص السفلي مفصولة عن قرص علوي برقبة، جزؤها الأوسط مسدس الأضلاع، فوقه وتحته كرة، سطحها مضلع ولها أوجه عديدة، وفوق القرص العلوي كتابة كوفية نصها: «عمل ابن المكي.»
457
على أن اتساع القرص يجعل من العسير أن نجزم بأن هذه التحف كانت شماعد، كما يقول أكثر مؤرخي الفن الإسلامي، فمن المحتمل أيضا أنها كانت موائد صغيرة للزينة، أو لتوضع فيها أشياء صغيرة، ولكن في كنيسة المجدلية بمدينة هلدسهايم
Hidsheim
بألمانيا شمعدانا من بداية القرن الحادي عشر الميلادي ينسبونه إلى برنفارت
Bernwart ، الذي كان أسقفا لتلك المدينة، ويحملنا شكل هذا الشمعدان
458
على أن نرجح أن التحف التي نحن بصددها كانت شماعد أيضا، أو كانت حوامل توضع فوقها المسارج.
ومهما يكن من شيء فإن القسم الإسلامي من متاحف برلين به واحد قرصه مفقود،
459
وقد محا الصدأ أغلب زخارفه حتى ليصعب تعيين تاريخ صناعته، على أن فيه اثنين آخرين؛
460
أحدهما أبدع شكلا، وفي حالة جيدة من الحفظ، وقطر قرصه العلوي 38 سنتيمترا، وقاعدته ذات تسعة جوانب وتقوم على ثلاث أرجل لكل منها دعامة (تصليبة)، ورقبة الشمعدان مكونة من ثلاثة أجزاء: الأوسط له ستة جوانب في كل منها زخرفة من مستطيل بارز، وفوق هذا الجزء الأوسط وتحته كرة ذات ستة جوانب في كل جنب منها زخارف مضلعة وبارزة.
وفي مجموعة المسيو رالف هراري شمعدان من هذا الطراز، وأكبر الظن أن هذه الشماعد صنعت في القرن الخامس والسادس بعد الهجرة (الحادي عشر والثاني عشر) ويرجح أن شمعدان «ابن المكي» يرجع إلى نهاية العصر الفاطمي أو بداية العصر الأيوبي، ولا ريب في أنها منقولة عن نماذج قديمة في وادي النيل؛ لأننا نعرف نماذج تشبهها من العصر القبطي.
461
وفي المتحف المصري تحفتان من هذا النوع (رقم 9124 و9125)، لا يزال مثبتا فوق كل منهما مسرجة، وفيه شمعدانان آخران (9127 و9128)، أحدهما لا شيء فوق قرصه العلوي، والآخر قرصه العلوي مفقود.
462
ومن القطع الفاطمية المعروفة هاون في القسم الإسلامي من متاحف برلين عليه شريطان من كتابة بالخط الكوفي، وبينهما زخارف نباتية، وطيور محفورة بدقة وإتقان عظيمين.
463
وأكبر الظن أنه من صناعة القرن السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي)، كما أن مجموعة المسيو رالف هراري بها طاس نصف كروية، محفور في وسطها رسم أرنب. وفي القسم الإسلامي من متاحف برلين جزء من صحن أو طاس عليه زخارف نباتية ورسوم طيور محفورة في جامات،
464
تحمل على القول بأنه من العصر الفاطمي.
465
والواقع أن الأدوات والآنية المعدنية والمباخر التي كشفت منها نماذج في حفائر الفسطاط، والتي يرجع تاريخها إلى ما قبل العصر الفاطمي لا تختلف كثيرا عما كان معروفا في مصر قبيل الفتح العربي؛ حتى إن التمييز بينها وبين منتجات العصر القبطي ليس هينا في بعض الأحيان؛ ولكن التحف الممتازة منها في عصر الفاطميين تكسوها موضوعات زخرفية محفورة فيها، ومكونة من فروع نباتية، أو أشكال هندسية، أو كتابة بالخط الكوفي، تكسبها مسحة إسلامية ظاهرة، غير أن أكثر ما كشف من هذه النماذج قد أكل الصدأ جل زخارفه.
وعلى الرغم من أننا لا نستطيع أن ننكر أن الفن الفارسي كان له تأثير يذكر في الأساليب الفنية الفاطمية، ليس في سبك المعادن وزخرفتها فحسب؛ بل في غير ذلك من ميادين الفن والصناعة، نقول: إننا لا يسعنا - رغم ذلك - أن ننسى أن المسلمين في وادي النيل أخذوا بطبيعة الحال شيئا كثيرا من أسرار هذه الصناعة عن الأقباط، ولا غرو فقد كانت تقاليدها ثابتة في مصر منذ عصر الفراعنة، ونظرة إلى ما في المتحف المصري من الطرف والأدوات والأواني والحلي قمينة بإثبات ما نقول.
كما أننا لا نملك أن ننتقل إلى كلام عن المينا والحلي، قبل أن نشير إلى الطرف المعدنية الموجودة في المتحف القبطي بمصر القديمة؛ فإن كثيرا منها يرجع إلى أيام الفواطم. وسواء أكان من صناعة فنانين مسيحيين، أو مسلمين، فهو دليل ازدهار هذه الصناعة في عصرهم، فضلا عن أن التحف القبطية العادية قل أن تختلف عن التحف الإسلامية، إلا في إضافة صليب أو نص قبطي إلى زخرفتها. ومن تلك التحف صينية وأطباق من النحاس ، عليها رسوم أسماك ونصوص قبطية، كما نقش عليها اسم صاحبها وتاريخها، وقد وجدت في خرائب كنائس الفيوم وترجع إلى القرن العاشر الميلادي،
466
ومنها قدران من نحاس، ومباخر، وقبة ترتكز على أربعة أعمدة، على كل منها صليب مفرغ، وعلى دائرة القبة والصلبان نصوص قبطية باسم الصانع، والتاريخ (في القرن العاشر الميلادي).
467
بقي أن نذكر أن المسلمين لم يبرعوا في زخرفة البرنز والنحاس بالرسوم المحفورة أو البارزة فحسب؛ بل نبغوا في تكفيتهما (تطعيمهما) بالذهب والفضة، على أن العصر الذهبي لفن تكفيت المعادن يمتد من نهاية القرن السادس (الثاني عشر) حتى القرن الثامن الهجري (الرابع عشر الميلادي)، فهو لا يدخل في نطاق بحثنا هنا، وحسبنا أن نذكر أن التحف المعدنية الممتازة التي تكون طريقة الزخرفة فيها مقصورة على الحفر، يرجح أنها صنعت قبل العصر الذهبي السالف الذكر، أو بعده.
المينا
المعروف أن زخرفة المعادن بالمينا تكون على طريقتين:
الأولى:
طريقة تركيب المينا ذات الفصوص
émail eloisonné ، وفيها نصب المينا في حواجز رقيقة ذهبية تلصق على المعدن.
الثانية:
طريقة الحفر
champlevé
وفيها توضع المينا في تجاويف حفرت خصيصا لها على صحيفة من المعدن، ثم تسوى التحفة في النار فتثبت بالمينا.
468
وهذه الطريقة الأخيرة خلفت الأولى في القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي)؛ لأنها تحتاج إلى تعب ومهارة أقل، وتوفر كثيرا من الجهود التي كان يبذلها الصناع في طريقة تركيب المينا ذات الفصوص.
ومهما يكن من أمر فإن الباحثين يظنون أن الشرق وبيزنطة هما مهد صناعة المينا ذات الفصوص، كما يظهر من نخبة من التحف المحفوظة في المتاحف الأوروبية.
469
وقد جاء في وصف الكنوز الفاطمية ذكر كثير من التحف واللوحات الذهبية المزخرفة بالمينا المتعددة الألوان؛ ولكن الواقع أن شيئا كثيرا لم يصل إلينا منها، ولعل أهم الطرف المعروفة من هذا النوع قرص صغير مستدير من الذهب عثر عليه في أطلال الفسطاط ومحفوظ الآن في دار الآثار العربية، وجهه مقعر ومغطى بالمينا ومقسم إلى ثلاثة أقسام؛ في الأوسط كتابة كوفية بيضاء مزخرفة باللون الأحمر على أرضية سنجابية، ونصها: «الله خير حافظا»،
470
وبالقسمين الأعلى والأسفل زخرفة حمراء محدودة بالذهب على أرضية خضراء، وأكبر الظن أن هذه التحفة ترجع إلى القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي)
471 (الشكل رقم
1 ).
وهناك قطع أخرى صغيرة في دار الآثار العربية عليها زخارف بالمينا ذات الفصوص «الممنطقة بالذهب»، كما يسمونها في سجل الدار؛ أي: المصبوبة في حواجز رقيقة من الذهب.
فقد اشترى متحفنا سنة (1930) قطعة صغيرة من الذهب على شكل هلال (رقم السجل 9455)، وفيها بالمينا رسم طائرين (الشكل رقم
2 ).
شكل 1
شكل 2
واشترى في السنة نفسها هلالا آخر من ذهب (رقم السجل 9460)، عليه زخرفة بالمينا، وفيه كتابة نصها: «عز دائم» (الشكل رقم
3 ).
وحصل سنة (1933) على قطعة حلي من الفضة المذهبة (رقم السجل 12137) على شكل دائرة تنقصها من داخلها دائرة أخرى تمس المحيط، فتجعل التحفة تشبه الهلال. أما زينتها فزخارف على الوجهين؛ نباتية وهندسية بارزة وصناعتها غاية في الدقة، وفي أحد الوجهين دائرة صغيرة فيها بالمينا المتعددة الألوان رسم طائر في منقاره فرع نباتي (الشكل رقم
4 ).
شكل 3
شكل 4
واشترى في سنة (1936) قطعة ذهب صغيرة ومستديرة (رقم السجل 13187)، وعلى أحد وجهيها طبقة من المينا المتعددة الألوان، بها رسم طائرين متواجهين في إطار مستدير (الشكل رقم
5 ).
كما ابتاع في السنة نفسها قطعة ذهب أخرى (رقم السجل 13344) مثلثة وصغيرة، وعلى أحد وجهيها زخارف بالمينا فيها رسم زهرة (الشكل رقم
6 ).
شكل 5
شكل 6
وفي مجموعة المسيو رالف هراري بعض تحف صغيرة من المعدن المزخرف بالمينا.
وأكبر ظننا أن هذه النماذج من صناعة العصر الفاطمي؛ اللهم إلا الهلال الذهبي الصغير المحفوظ في دار الآثار العربية (رقم السجل 9460)؛ فإن طراز الكتابة الموجودة فيه يحملنا على القول بأنه يرجع إلى بداية العصر الأيوبي أو نهاية الدولة الفاطمية.
472
الحلي والمعادن النفيسة
أشار الذين كتبوا عن كنوز الفاطميين إلى ما كانوا يمتلكونه من الأواني الذهبية أو المصنوعة من الفضة الذهبية، وإلى ما كان في خزانتهم من الأحجار الكريمة، التي كان بعضها مستقلا، وبعضها مركبا في شتى الحلي والتحف.
ولكن النماذج التي وصلت إلينا من الحلي الإسلامية نادرة جدا ، وأكبر الظن أن ما نعرفه في هذا الميدان لا يرجع إلى عصر قديم، على الرغم من الزخارف التي توجد عليه، ويمكن نسبتها إلى العصر الطولوني، أو الفاطمي، أو العباسي. ولعل السر في ذلك أن الحلي والمعادن النفيسة كانت تصهر ويعاد سكبها عندما يتقادم بها العهد، فضلا عن أن قيمتها المادية كانت تبعث على التصرف فيها، وما أكثر الأوقات التي كان يسود فيها القحط أو يضطرب حبل الأمن!
أما المصادر التاريخية فإن جل ما فيها بيانات بعدد القطع ونوعها؛ ولكننا نخطئ إن توقعنا أن نجد في بعضها وصفا دقيقا للتحف المختلفة يمكننا أن نقف منه على طرازها، ونوع زخارفها، وأسلوب صناعتها.
473
ويرجع قصور المؤلفين في هذا الميدان إلى أن أكثرهم لم ير تلك التحف التي كتب عنها؛ إما لأنها كانت محفوظة في خزائن لم يكونوا يستطيعون الوصول إليها؛ أو لأنها كانت زينة للأميرات والمحظيات؛ وإما لأن ما كتبوه كان منقولا عن مصادر ليس لها بالحلي والجواهر دراية كبيرة.
ومهما يكن من شيء فالمعروف أن الحلي في العصر الإسلامي كانت متأثرة في طراز زخارفها، وأسلوب صناعتها بالنماذج الساسانية والبيزنطية تأثيرا كبيرا.
والواقع أننا نعتقد أن من العسير تحديد المكان الذي صنعت فيه أي قطعة من الحلي الإسلامية، أو تاريخ صناعتها، تحديدا فيه قسط وافر من الثقة والاطمئنان.
وقد عثر في الفسطاط على أسورة وخواتم وأقراط من الذهب أو الفضة، ويظن مما عليها من الزخارف النباتية الدقيقة أنها ترجع إلى العصر الفاطمي؛ ولكن الجزم بشيء في هذا الصدد يقوم في رأينا على حجج غير كافية. ومهما يكن من شيء فإن أكثر هذه الحلي محفوظة في دار الآثار العربية،
474
وفي مجموعة المسيو رالف هراراي،
475
وفي متحف بناكي بأثينا.
476
والواقع أن شكل هذه الحلي ليس مثالا للرقة وحسن الذوق؛ ولكن زخارفها المشبكة والبارزة وذات الخروم، كلها دقيقة وجميلة، فضلا عن أن فيها تنوعا ينم عن قدرة في الصنعة.
وهناك عقد من الذهب محفوظ في مجموعة كران
Carrand
بمتحف قصر بارجلو
Bargello
في مدينة فلورنسة ويظن أنه من العصر الفاطمي.
477
كما أننا سمعنا أن في كنوز الفاتيكان قنينة من البلور الصخري كروية الشكل، ومركبة في حلية ذهبية، زخارفها مشبكة، وتشبه ما نراه على سائر الأقارط والخواتم والأسورة، التي يظن أنها ترجع إلى العصر الفاطمي، ومن ثم فقد اتجه الظن إلى أن هذه الحلية قد تكون أيضا من العصر الفاطمي؛ ولكننا نرجح أنها ليست من الصناعة الإسلامية؛ لأننا نلاحظ أن الأوروبيين هم الذين اعتادوا تركيب البلور على قواعد وحليات من المعادن النفيسة، ومهما يكن من شيء فإننا لم نر هذه التحفة بعد، ولا يمكن أن يكون لنا فيها رأي جازم.
بقي أن نشير إلى علبتين من العاج؛ إحداهما في كاتدرائية مدينة باييه
Bayeux
بفرنسا، والأخرى في كاتدرائية مدينة كوار
Coire
بسويسرا.
أما العلبة الأولى فمستطيلة الشكل، طولها 42 وعرضها 27 سنتيمترا، وغطاؤها مستو، وتقوم على أربعة أرجل، وفيها مفصلات وتصليبات وأركان وأشرطة من الفضة المذهبة، محفور فيها زخارف من طيور وطواويس، كل اثنين منها متواجهان، وعلى صفيحة القفل كتابة بالخط الكوفي نصها: «بسم الله الرحمن الرحيم، بركة كاملة ونعمة شاملة.»
478
وأكبر الظن أن هذه العلبة جلبت من الشرق في القرن السادس أو السابع الهجري (الثاني عشر أو الثالث عشر)، والأدوات الفضية المذهبة والمركبة فيها تحملنا على القول بأن له علاقة وثيقة بالفن الفاطمي، ومن المحتمل أنها من صناعة صقلية كما ظن لونجيرييه
Longperier
وميجون وغيرهما.
479
والعلبة المحفوظة في كاتدرائية كوار تشبه العلبة السابقة، ولكنها أصغر منها حجما، فضلا عن أن زخارف الأدوات الفضية المركبة فيها مكونة من فروع نباتية وحيوانات متخيلة.
والواقع أن هناك علبا أخرى صغيرة من العاج، محفوظة في كنوز بعض الكنائس الأوروبية، وعليها أدوات فضية وتصليبات ومفصلات فيها زخارف إسلامية لا يمكن تحديد الإقليم الذي صنعت فيه؛ فبعضها يمكن نسبته إلى إيران والعراق، وبعضها إلى مصر وصقلية والبقية إلى بلاد الأندلس، أما التاريخ الذي صنعت فيه فيتراوح بين القرن الخامس والسابع الهجريين (الحادي عشر والثالث عشر بعد الميلاد).
480
ولا يفوتنا قبل الانتهاء من الكلام عن صناعة المعادن في العصر الفاطمي أن نشير إلى تنور من النحاس محفوظ في المسجد الجامع بالقيروان، وفي أسفله شريط من الكتابة بالخط الكوفي البسيط ونصها: «عمل محمد بن علي القيسي الصفار للمعز أبي تميم.»
481
فهي إذن باسم الأمير المعز من بني زيري، وقد حكم من سنة 406 إلى سنة 453ه (1015-1061م) في إفريقية، التي ترك الفاطميون إدارة شئونها لأسرته، حين رحلوا إلى مصر، فكانت هذه الأسرة تابعة للدولة الفاطمية إلى حد ما، حتى شقت عليها عصا الطاعة وقطعت كل صلة بها على يد المعز بن باديس نفسه سنة (443ه/1054)، فبعث إليهم اليازوري بني هلال وبني سليم، عاثوا في أرضهم فسادا وانتقموا للدولة الفاطمية أشد انتقام.
الأسلحة
إذا تذكرنا ما كتبه المؤرخون - ولا سيما المقريزي - عن خزانة السلاح عند الفاطميين، وما كان فيها من الزرد والدروع والحراب والسيوف وغير ذلك من الأسلحة المصنوعة من الصلب، والذي كان بعضها مرصعا بالأحجار النفيسة، نقول: إذا تذكرنا هذا كله حسبنا أن الذي بقي حتى العصر الحاضر لا بد أن يكون كافيا لكتابة نبذة وافية عن أسرار هذه الصناعة وأساليبها الفنية.
ولكن الواقع أن أقدم الأسلحة الإسلامية المصرية التي وصلت إلينا، إنما يرجع إلى عصر المماليك، على الرغم من أننا نعرف أن صناعة الأسلحة كانت سوقها نافقة في وادي النيل إبان العصر الطولوني،
482
ثم في العصر الفاطمي، وعلى الرغم من أن المؤرخين يذكرون سوقا للسلاح كان قائما بين القصرين في القاهرة إبان القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي)، والمعقول أنه قديم في ذلك الحي وأنه قام فيه منذ بداية العصر الفاطمي.
على أننا نعتقد أن مصر الفاطمية لم تكن لها القيادة في صناعة السلاح، وأن جزءا كبيرا جدا من الأسلحة التي كانت تضمنها خزائن الفاطميين كان يجلب من الخارج. (11) العنصر الخطي في الزخارف الفاطمية
أفسح الفن الإسلامي للكتابة مكانا عظيما بين عناصره الزخرفية، ولا غرو فإن كراهية النحت والتصوير دفعت المسلمين إلى التفنن في الزخارف النباتية والهندسية والخطية، فكان لهم في كل منها شأو بعيد وخصب عجيب وقدرة لا تجارى.
والحروف العربية فيها من المرونة وجلال المنظر ما يجعلها صالحة للتزيين والزخرفة؛ ولكنها على الرغم من أناقة شكلها تجعل مهمة الفنان صعبة، إذ أراد أن يحقق المثل الأعلى للزخرفة الإسلامية بتوزيع الرسوم توزيعا مناسبا على كل أجزاء السطح المراد زخرفته؛ وذلك لأن سيقان الحروف العمودية - كالألف واللام - تحصر بينها مسافات تظل خالية.
وقد كان الخط الكوفي حتى القرن الثالث الهجري لا يقصد به أي تجميل أو زخرفة؛ ولكن الفنانين في نهاية القرن الرابع تنبهوا إلى استغلال الكتابة للأغراض الزخرفية، فتطور الخط الكوفي من مظهره البسيط وأخذ في الرشاقة والانسجام، وعمد الفنانون إلى المسافات الخالية بين سيقان الحروف فزينوها بالفروع النباتية المتشابكة، وإلى أطراف السيقان فزخرفوها بالوريدات، أو جعلوا نهايتها العليا تشبه قط القلم البوص حين يقطع رأسه عرضا في بريه.
ولسنا نريد أن ندرس هنا تطور الكتابة الكوفية منذ نشأتها حتى القرن السادس، حين قامت الدولة الأيوبية، وقضت على آثار الفاطميين وعقائدهم ونصرت الخط النسخي، حتى كاد الكوفي أن يختفي لولا أن الفنانين في العصور التالية أحسوا بحاجتهم إليه في الزينة والزخرفة، فاحتفظوا به لهذين الغرضين. نقول: لا نريد أن ندرس ذلك التطور؛ لأن مثل هذا الدرس يخرج عن نطاق البحث الذي نحن بصدده، فضلا عن أن المواد اللازمة لهذا الدرس لم تجمع كلها بعد.
وفي الحق أننا إذا استثنينا ما كتبه فلوري
Flury
عن الكتابات الكوفية في آمد (ديار بكر)،
483
وعن زخارف الجامع الأزهر وجامع الحاكم،
484
وما كتبه الأستاذ فييت عن شواهد القبور المحفوظة في دار الآثار العربية،
485
وما ضمنه الأستاذ مرسيه كتابه عن الفن الإسلامي من حديث عن الزخارف الفنية الفاطمية في إفريقية،
486
إذا استثنينا ذلك وجدنا أن الذي كتب عن الخط الكوفي قليل، ولا يكفي لأن يكون أساس دراسات تفصيلية دقيقة.
487
فالذي نريده هنا هو أن ننبه إلى جمال الزخارف الخطية الفاطمية وتنوعها؛ فتارة نرى سيقان الحروف تطول، وأواخر الكلمات تخرج منها فروع نباتية تميل إلى اليمين وتشتق منها فروع أخرى تنتهي برسوم وريقات وزهور؛ وتارة نرى الزخارف تزداد تطورا فتخرج الفروع النباتية من جسم الحرف نفسه، ثم تتشعب راسمة من الوريقات والزهور ما يكسو كل فراغ بين الحروف، ويملأ الأرضية فتبدو كأنها بساط من النقوش النباتية الجميلة، بل إننا نرى في بعض الأحيان زخارف في الأبنية من سطحين متباينين: فالأرضية تكسوها رسوم دقيقة من الزهور والفروع النباتية والكتابة الكوفية تقوم بينها منقوشة نقشا وافر البروز.
على أننا نلاحظ أيضا أن الزخرفة بالخط الكوفي تطورت في القرن السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي)، فرجعت القهقري واختفت الرسوم التي كانت تزين سيقان الحروف العمودية، واتصلت بعض الحروف ببعضها حتى أصبحت القراءة عسيرة؛ وكان ذلك كله فاتحة لسيادة الخط النسخي.
وطبيعي أن يختلف طراز الحروف في الخط الكوفي المشجر أو المزهر
coufique fleuri
باختلاف المادة، فهو على الخزف غيره على النسيج، كما أنه على الجص أقرب ما يكون إلى الرشاقة وتناسب الأقسام. وقد جئنا في لوحات هذا الكتاب ببعض تحف عليها كتابات بالخط الكوفي البسيط أو الكوفي المزهر، ونضيف الآن رسوم بعض كتابات أخرى؛ فالشكل رقم
7
يبين قطع الخزف المحفوظة في دار الآثار العربية والتي تحمل اسم الخليفة الحاكم بأمر الله.
488
والشكل رقم
8
يمثل نافذة في جدار القبلة بجامع الحاكم، والشكلان رقم
9
ورقم
10
يمثلان شريطين من الكتابة الكوفية في رواق بالجامع المذكور.
489
شكل 7
شكل 8
شكل 9
شكل 10
الخاتمة
تحدثنا في القسم الأول من هذا الكتاب عن كنوز الفاطميين كما تصورها لنا المصادر التاريخية والأدبية المختلفة، وانتقلنا في القسم الثاني إلى بحث التحف الفنية التي أنتجها عصر الفواطم، والتي لا يزال بعضها محفوظا في دار الآثار العربية أو في المتاحف الأوروبية أو في المجموعات الأثرية التي يعتز بها كبار الهواة وتجار العاديات، أو في المتحف القبطي بالقاهرة وفي بعض الأديرة والكنائس المصرية، أو في كثير من الكنائس والأديرة الأوروبية.
وهكذا أقمنا الدليل غير مرة على عظم تقدم الفنون في ذلك العصر، بفضل ازدهار التجارة، واستتباب الأمن، وما ساد البلاد من رخاء ومن تسامح ديني، وأتيح لنا أن نرى العناصر المختلفة التي أثرت في أساليبها الفنية، وأن ندرك أحيانا إلى أي حد كان هذا التأثير. وفي الحق إن العالم الإسلامي في ذلك العصر الذهبي كان من ناحية الفن والثقافة كتلة يشد كل جزء منها أزر الأجزاء الأخرى، ويؤثر فيها، ويتأثر بها إلى حد كبير، وكان اختلاف أجزائه في ناحيتي السياسة والعقيدة الدينية يبعث على التنافس والتسابق بينها، كما كان الاتحاد في هاتين الناحيتين يدعو إلى التضامن والتعاون.
وقصارى القول أننا استطعنا أن نرى الخلفاء الفاطميين في أوج عزهم لا يقفون عند شيء في سبيل إعلان مجدهم، وإظهار أبهتهم، وتضافرت على إجابة طلبهم العناصر المختلفة والأساليب الفنية المتنوعة. أجل، تجمعت العناصر العربية والبربرية والقبطية والفارسية والتركية على السمو بملكهم، وساهم كل عنصر منها بشيء من تراثه الفني؛ لكي يكون للفاطميين بلاط لا يضارعه بلاط، وعظمة لا تقاربها عظمة أمراء آخرين.
وكانت الإسكندرية حلقة الاتصال بين الشرق والغرب، تتجمع فيها البضائع، وتشتد فيها حركة التجارة بين أوروبا، وبين الهند والصين وبلاد العرب؛ فكانت البلاد تجني من ذلك كله أرباحا طائلة، وكان ذلك فرصة للاتصال بالغرب اتصالا شاهدنا صداه في مصير كثير من التحف الفاطمية، وفي حسن التقدير التي كانت تلقاه في أوروبا، وفي الزخارف التي كانت تزين بعض هذه التحف.
واليوم يقبل المصريون على الاحتفال بمضي ألف عام على تأسيس القاهرة، فيذكرون أبهة الفاطميين وجلال ملكهم وما لهم من عظيم المكانة في تراثنا الفني.
ملحق صور
اللوحة رقم 1: رسم على ورق، بدار الآثار العربية (رقم 13703)، من العصر الفاطمي (عن فبيت).
اللوحة رقم 2: صحيفة من قرآن بالخط الكوفي، في المتحف الإسلامي ببرلين، القرن الحادي عشر أو الثاني عشر الميلادي (عن كوفل).
اللوحة رقم 3: أجزاء من نقوش جصية وجدت في حمام فاطمي بجهة أبي السعود، محفوظ بدار الآثار العربية (رقم 12881 و12882) (عن فبيت).
اللوحة رقم 4: أجزاء من نقوش جصية وجدت في حمام فاطمي بجهة أبي السعود، محفوظ بدار الآثار العربية (رقم 12881 و12883) (عن فبيت).
نقش على جص وجد في حمام فاطمي بجهة أبي السعود، محفوظ بدار الآثار العربية (رقم 13880) (عن فبيت).
نقش في سقف الكابلا بالاتينا بيلرمو، القرن الثاني عشر الميلادي (عن كوفل).
اللوحة رقم 5.
كلجة من رخام، بدار الآثار العربية (رقم 97)، القرن الثاني عشر الميلادي وعليها زير (رقم 35) من القرن الخامس عشر.
لوح من رخام، بدار الآثار العربية (رقم 6950)، القرن الحادي عشر الميلادي.
اللوحة رقم 6.
اللوحة رقم 7: كلجة (حمالة زير) من رخام، بدار الآثار العربية (رقم 4328)، القرن الثاني عشر الميلادي.
اللوحة رقم 8: ملاءة من الصوف والكتان، بدار الآثار العربية (رقم 9050)، صناعة الفيوم من القرن العاشر الميلادي (عن فبيت).
اللوحة رقم 9: قطعة من كتان وحرير باسم الخليفة الحاكم بأمر الله، في دار الآثار العربية (رقم 16م)، بداية القرن الحادي عشر الميلادي (عن فبيت).
اللوحة رقم 10: قطعة من نسيج الكتان والحرير باسم الخليفة الحاكم بأمر الله في دار الآثار العربية (رقم 15م) بداية القرن الحادي عشر الميلادي (عن فبيت).
قطعة من نسيج الحرير والكتان، بدار الآثار العربية (رقم 7061)، القرن الحادي عشر الميلادي.
قطع نسيج من الحرير بمجموعة كليكان ومتحف اللوفر، القرن الحادي عشر الميلادي (عن مهجون وككلان).
اللوحة رقم 11.
اللوحة رقم 12: قطعة نسيج من كتان، بدار الآثار العربية (رقم 4230)، القرن الحادي عشر الميلادي.
اللوحة رقم 13: قطعة من نسيج الكتان والحرير باسم الخليفة المستنصر ووزيره بدر الجمالي، في دار الآثار العربية (رقم 9058) نهاية القرن الحادي عشر الميلادي.
اللوحة رقم 14: قطعة نسيج كتان وحرير باسم الخليفة الحاكم بأمر الله وولي عهده، بدار الآثار العربية (رقم 8264)، بداية القرن الحادي عشر الميلادي (عن فبيت).
اللوحة رقم 15: قطعة نسيج كتان وحرير، بدار الآثار العربية (رقم 3311) القرن الثاني عشر الميلادي.
اللوحة رقم 16: قطعة نسيج من الكتان والحرير، بدار الآثار العربية (رقم 2593)، نهاية القرن الحادي عشر الميلادي.
اللوحة رقم 17: قطعة يحمل على أربعمائة جمل أو أكثر، بدار الآثار العربية (رقم 10836) النصف الأول من القرن الثاني عشر الميلادي (عن فبيت).
قطعة نسيج من الكتان والحرير، بدار الآثار العربية (رقم 4320)، القرن الحادي عشر الميلادي.
قطعة نسيج من الكتان والحرير، من مجموعة أريرا بمتحف الآثار في بروكسل، القرن الثاني عشر الميلادي.
اللوحة رقم 18.
اللوحة رقم 19: قطعة من كتان، بدار الآثار العربية (رقم 13735)، القرن الثاني عشر الميلادي.
اللوحة رقم 20: عباءة التتويج القيصرية التي نسجت من الحرير لروجر الثاني في بلرمو سنة (1123 ميلادية)، والتي كانت بعد ذلك من كنوز البيت المالك النمسوي (متحف الكنوز
Schatzkammer
في فينا).
قطعة نسيج من الحرير، بمتحف فكتوريا وألبرت، صقلية في القرن الثاني عشر الميلادي.
نسيج من الحرير الفاطمي في شينون، صقلية في القرن الحادي عشر أو الثاني عشر الميلادي.
اللوحة رقم 21.
اللوحة رقم 22: صحن من خزف ذي بريق معدني، بدار الآثار العربية (رقم 5502)، القرن الحادي عشر الميلادي.
اللوحة رقم 23: صحن من خزف ذي بريق معدني، بدار الآثار العربية (رقم 13123)، القرن الحادي عشر الميلادي.
اللوحة رقم 24: صحن من خزف ذي بريق معدني، بدار الآثار العربية (رقم 12974)، القرن الحادي عشر الميلادي.
اللوحة رقم 25: سلطانية من خزف ذي بريق معدني بمجموعة حضرة صاحب السعادة علي باشا إبراهيم، القرن العاشر أو الحادي عشر الميلادي (عن فبيت).
اللوحة رقم 26: السطح الخارجي للسلطانية المرسومة في اللوحة السابقة بمجموعة حضرة صاحب السعادة علي باشا إبراهيم، القرن العاشر والحادي عشر الميلادي (عن فبيت).
اللوحة رقم 27: جزء من صحن خزفي ذي بريق معدني، بدار الآثار العربية (رقم 13080)، القرن الحادي عشر أو الثاني عشر الميلادي.
اللوحة رقم 28: قدر من خزف ذي بريق معدني، بدار الآثار العربية (رقم 4300)، القرن الحادي عشر الميلادي.
صحن وقدر من الخزف ذي البريق المعدني، في المتحف الإسلامي ببرلين، في القرن الحادي عشر الميلادي (كليشيه متحف برلين).
صحن من الخزف ذي البريق المعدني، بدار الآثار العربية (رقم 12975)، القرن الحادي عشر الميلادي.
اللوحة رقم 29.
اللوحة رقم 30: أجزاء من صحن خزفي ذي بريق معدني، بدار الآثار العربية (رقم 13110)، القرن الحادي عشر أو الثاني عشر الميلادي (عن فبيت).
اللوحة رقم 31: قدران من الخزف ذي البريق المعدني، بمجموعة كليكان، القرن الحادي عشر الميلادي.
اللوحة رقم 32: (أ) جزء من صحن خزفي ذي بريق معدني، بدار الآثار العربية (رقم 12998) القرن الحادي عشر الميلادي. (ب) قدر من الخزف ذي البريق المعدني، بدار الآثار العربية (رقم 13511) القرن الحادي عشر الميلادي.
قدح من الخزف ذي البريق المعدني بمجموعة كوت في ليون، القرن الحادي عشر الميلادي.
قدح من الخزف ذي البريق المعدني، بمجموعة كليكان، القرن الحادي عشر الميلادي.
اللوحة رقم 33.
اللوحة رقم 34: قطع من خزف ذي زخارف محفورة تحت الدهان، القطعة العليا محفوظة بدار الآثار العربية (رقم 6226)، القرن الثاني عشر أو الثالث عشر الميلادي (عن بوجيت وماسول).
اللوحة رقم 35: قطعة من خزف ذي زخارف محفورة تحت الدهان، بدار الآثار العربية (رقم 10 / 5346) القرن الثاني عشر أو الثالث عشر الميلادي.
اللوحة رقم 36: شبابيك قلل بدار الآثار العربية، من العصر الفاطمي.
اللوحة رقم 37: شبابيك قلل بدار الآثار العربية، من العصر الفاطمي.
اللوحة رقم 38: إبريق من البلور الصخري، بمتحف فكتوريا وألبرت، القرن العاشر أو الحادي عشر الميلادي.
اللوحة رقم 39: إبريق من البلور الصخري بمتحف اللوفر، القرن العاشر أو الحادي عشر الميلادي.
اللوحة رقم 40: إناء من البلور الصخري، بمتحف تاريخ الفنون في فينا، القرن الحادي عشر أو الثاني عشر الميلادي.
إحدى الكئوس الزجاجية المعروفة باسم كئوس القديسة هدويج في متحف أمستردام، القرن الحادي عشر الميلادي.
محبرة من الزجاج في المتحف الإسلامي ببرلين، القرن الثاني عشر الميلادي (كليشيه متحف برلين).
اللوحة رقم 41.
اللوحة رقم 42: قدر وكأس من الزجاج في المتحف الإسلامي ببرلين، القرن العاشر أو الحادي عشر الميلادي (كليشيه متحف برلين).
اللوحة رقم 43: قنينة وكأس من الزجاج في المتحف الإسلامي ببرلين، القرن العاشر أو الحادي عشر الميلادي (كليشيه متحف برلين).
اللوحة رقم 44: سياج خشبي من العصر الفاطمي، في كنيسة أبي سيفين بمصر القديمة.
اللوحة رقم 45: أجزاء من ألواح الخشب، أصلها من أحد قصور الخلفاء الفاطميين، بدار الآثار العربية (رقم 3469 و3466)، القرن العاشر الميلادي.
اللوحة رقم 46: أجزاء من ألواح من الخشب، أصلها من أحد قصور الخلفاء الفاطميين، بدار الآثار العربية (رقم 3471 و3472)، القرن العاشر الميلادي.
اللوحة رقم 47: أجزاء من ألواح من الخشب، أصلها من أحد قصور الخلفاء الفاطميين، بدار الآثار العربية (رقم 3465 و3470) القرن العاشر الميلادي.
اللوحة رقم 48: محراب من خشب أصله من مشهد السيدة رقية. بدار الآثار العربية (رقم 446) القرن الثاني عشر الميلادي.
اللوحة رقم 49: ظهر المحراب السابق.
اللوحة رقم 50: (أ) حشوة من الخشب. بدار الآثار العربية (رقم 3391)، القرن الحادي عشر الميلادي. (ب) حشوة من الخشب. بدار الآثار العربية (رقم 3390)، القرن الحادي عشر الميلادي.
اللوحة رقم 51: مصراع باب خشبي أصله من مارستان قلاوون. بدار الآثار العربية (رقم 554)، القرن الحادي عشر الميلادي.
اللوحة رقم 52: مصراعي باب من الخشب باسم الخليفة الحاكم بأمر الله. في دار الآثار العربية (رقم 551)، بداية القرن الحادي عشر الميلادي.
اللوحة رقم 53: حشوات من الخشب. في المتحف الإسلامي ببرلين. القرن الحادي عشر أو الثاني عشر الميلادي (كليشيه متحف برلين).
اللوحة رقم 54: حشوة من الخشب. في المتحف الإسلامي ببرلين. منتصف القرن الثاني عشر الميلادي (كليشيه متحف برلين).
اللوحة رقم 55: صندوق من الخشب مرصع بالعاج وعليه نقوش في المتحف الإسلامي ببرلين. من صقلية في القرن الثالث عشر الميلادي (كليشيه متحف برلين).
اللوحة رقم 56: (أ) قطع صغيرة من العاج. بدار الآثار العربية (رقم 5010، 5023، 5044، 5026، 5027)، القرن الحادي عشر الميلادي. (ب) بوق صيد من العاج. في المتحف الإسلامي ببرلين، القرن الحادي عشر (كليشيه متحف برلين).
اللوحة رقم 57: صندوق من العاج. في المتحف الإسلامي ببرلين. من صقلية في القرن الثاني عشر (كليشيه متحف برلين).
اللوحة رقم 58: عقاب من البرنز بالكاسبوسانتوبييزا. القرن الحادي عشر الميلادي.
وعل من البرنز في المتحف الإسلامي ببرلين (القرن الحادي عشر الميلادي) (كليشيه متحف برلين).
حيوان من البرنز. بدار الآثار العربية (رقم 4305) القرن الثاني عشر الميلادي.
اللوحة رقم 59.
اللوحة رقم 60: (أ) أيل من البرنز، في المتحف الأهلي بميونخ. القرن العاشر أو الحادي عشر الميلادي. (ب) طائر من البرنز. في المتحف الإسلامي ببرلين. القرن الحادي عشر الميلادي (كليشيه متحف برلين).
جزء من قاع صحن أو صينية من البرنز.
مسرجة من البرنز.
اللوحة رقم 61: في المتحف الإسلامي ببرلين في القرن الحادي عشر أو الثاني عشر. (أ) شمعدان من البرنز في المتحف الإسلامي ببرلين، القرن العاشر أو الحادي عشر (كليشيه متحف برلين). (ب) شمعدان من البرنز في المتحف الإسلامي ببرلين، القرن العاشر أو الحادي عشر (كليشيه متحف برلين). اللوحة رقم 62. (أ) شمعدان من البرنز في المتحف الإسلامي ببرلين، القرن العاشر أو الحادي عشر. (ب) شمعدان من البرنز في المتحف الإسلامي ببرلين، القرن العاشر أو الحادي عشر. اللوحة رقم 63.
اللوحة رقم 64: عقد وسواران وخاتم وأقراط من العصر الفاطمي، من مجموعة المسيو رالف هراري.
مراجع الكتاب
الإبشيهي:
المستطرف في كل فن مستظرف.
ابن الأثير:
الكامل في التاريخ.
ابن إياس:
تاريخ مصر المشهور ببدائع الزهور في وقائع الدهور.
ابن بطوطة:
تحفة الأنظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار (طبعة وترجمة سابخنتي وديفريمري).
ابن تغري بردي:
النجوم الزاهرة في أخبار مصر والقاهرة لأبي المحاسن بن تغري بردي (طبعة دار الكتب المصرية).
ابن جبير:
رحلة ابن جبير (طبعة رايت).
ابن خرداذبه:
المسالك والممالك (المكتبة الجغرافية العربية).
ابن خلدون:
المقدمة.
ابن خلكان:
وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان.
ابن دقماق:
الانتصار لواسطة عقد الأمصار (الجزءان الرابع والخامس طبعة فولرس سنة 1893 بمصر).
ابن رسته:
الأعلاق النفيسة (المكتبة الجغرافية العربية، ليدن سنة 1892).
ابن الصيرفي:
قانون ديوان الرسائل (طبعة علي بك بهجت بمصر سنة 1905).
ابن عبد ربه:
العقد الفريد.
ابن فضل الله العمري:
مسالك الأبصار في ممالك الأمصار (طبعة دار الكتب المصرية).
ابن الفقيه:
كتاب البلدان (المكتبة الجغرافية العربية).
ابن مسكويه:
تجارب الأمم وتعاقب الهمم (طبعة أمدروز).
ابن مماتي:
قوانين الدواوين (طبعة مصر سنة 1299).
ابن ميسر:
أخبار مصر (طبعة ماسيه في المعهد العلمي الفرنسي سنة 1919).
ابن النديم:
الفهرست (طبعة مصر).
أبو شامة:
كتاب الروضتين في أخبار الدولتين.
أبو صالح الأرمني:
كتاب كنائس وأديرة مصر (طبعة إيفنس).
أبو الفداء:
تاريخ أبي الفداء أو المختصر في أخبار البشر (طبعة مصر سنة 1325).
أبو الفرج الأصهباني:
كتاب الأغاني (طبعة دار الكتب المصرية).
أحمد أمين:
فجر الإسلام (مطبوعات لجنة التأليف والترجمة والنشر).
أحمد أمين:
ضحى الإسلام (مطبوعات لجنة التأليف والترجمة والنشر).
أحمد عيسى بك:
آلات الطب والجراحة عند العرب.
الإدريسي:
نزهة المشتاق في اختراق الآفاق (طبعة دوزي ودي جويه بليدن سنة 1866).
الأزرقي:
أخبار مكة وما جاء فيها من آثار (من مجموعة تواريخ مكة التي طبعت على يد وستنفلد سنة 1858).
أسامة بن منقذ:
كتاب الاعتبار أو حياة أسامة (طبعة درنبورج، باريس سنة 1889).
الإسحاقي:
لطائف أخبار الأول في من تصرف في مصر من أرباب الدول.
الإصطخري:
مسالك الممالك (طبعة دي جويه في المكتبة الجغرافية العربية).
الثعالبي:
ثمار القلوب في المضاف والمنسوب (طبعة القاهرة سنة 1326).
الثعالبي:
لطائف المعارف (طبعة دي يونج بليدن سنة 1867).
جعفر الحسني (الأمير):
دليل مختصر لمقتنيات دار الآثار الوطنية بدمشق.
حسن إبراهيم حسن:
الفاطميون في مصر.
حسن محمد الهواري:
رسالة في وصف محتويات دار الآثار العربية.
محمود حمزة:
كتاب الآثار تأليف جاردنر، نقله إلى العربية الأستاذ محمود حمزة والدكتور زكي محمد حسن.
زكي محمد حسن:
الفن الإسلامي في مصر (من مطبوعات دار الآثار العربية).
زكي محمد حسن:
التصوير في الإسلام (من مطبوعات لجنة التأليف والترجمة والنشر).
زكي محمد حسن:
بعض التأثيرات القبطية في الفنون الإسلامية (المجلد الثالث من مجلة جمعية محبي الفن القبطي ص1-22 مع خمس لوحات).
زكي محمد حسن:
أثر الفن الإسلامي في فنون العرب (مجلة الرسالة، العدد 93 بتاريخ 15 أبريل سنة 1935).
زكي محمد حسن:
المنسوجات الإسلامية في معرض جوبلان (مجلة الرسالة، العدد 102 بتاريخ 17 يونيه سنة 1935).
زكي محمد حسن:
الجزء الثاني من تراث الإسلام، في العمارة والفنون الفرعية، تأليف: أرنولد وكرستي وبريجز، عربه وشرحه وكتب حواشيه: الدكتور زكي محمد حسن (مطبوعات لجنة الجامعيين لنشر العلم).
زكي محمد حسن:
كتاب الآثار، تأليف: جاردنر، عربه: الأستاذ محمود حمزة الأمين بالمتحف المصري والدكتور زكي محمد حسن، أمين دار الآثار العربية (مطبوعات لجنة التأليف والترجمة والنشر).
زكي محمد حسن:
في مصر الإسلامية (أخرجه الدكتور زكي محمد حسن والملازم الأول عبد الرحمن زكي، هدية المقتطف سنة 1937).
محمد مصطفى زيادة:
انظر السلوك للمقريزي، نشره وكتب حواشيه الدكتور محمد مصطفى زيادة.
سليمان التاجر:
سلسلة التواريخ (فيه وصف السياحات البحرية بين بلاد العرب وبلاد الهند والصين، كتبه سليمان التاجر وفيه ذيل لأبي زيد حسن). طبع على يد الأستاذ رينو مع مقدمة طويلة وترجمة باللغة الفرنسية، في باريس سنة (1815).
السمهودي:
وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى (طبعة مصر سنة 1326ه).
مرقس سميكة باشا:
دليل المتحف القبطي.
السيوطي:
تاريخ الخلفاء.
السيوطي:
حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة.
الطبري:
تاريخ الأمم والملوك (طبعة مصر).
عبد الرحمن زكي:
القاهرة.
عبد الرحمن زكي:
الخزف الفاطمي للدكتور لام، ترجمة وتعليق: الملازم الأول عبد الرحمن زكي (مجلة المقتطف، عدد مايو سنة 1937).
عبد الرحمن زكي:
انظر زكي محمد حسن «في مصر الإسلامية» أخرجه الدكتور زكي محمد حسن والملازم الأول عبد الرحمن زكي.
عبد اللطيف البغدادي:
الإفادة والاعتبار في الأمور المشاهدة والحوادث المعاينة بأرض مصر.
علي بك بهجت:
فهرست مقتنيات دار الآثار العربية، تأليف: هرتز بك، وتعريب: علي بك بهجت.
علي بك بهجت:
حفريات الفسطاط لعلي بك بهجت وألبير جبريل.
علي باشا مبارك:
الخطط التوفيقية الجديدة.
عمارة اليمني:
النكت العصرية في أخبار الوزراء المصرية (طبعة درنبوغ، في مطبوعات مدرسة اللغات الشرقية بباريس سنة 1897).
الغزولي:
مطالع البدور في منازل السرور.
جاستون فييت:
أصول الجمال في الفن الإسلامي (مجلة المشرق تشرين 1، كانون 1 سنة 1396).
جاستون فييت:
انظر المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار للمقريزي.
جاستون فييت:
انظر زكي محمد حسن «في مصر الإسلامية» أخرجه الدكتور زكي محمد حسن والملازم الأول عبد الرحمن زكي، واشترك في الكتابة فيه الأستاذ جاستون فييت.
القزويني:
عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات (طبعة مصر).
القلقشندي:
صبح الأعشى في كتابة الإنشا (طبعة دار الكتب المصرية).
محمد كرد علي:
الإسلام والحضارة العربية.
المتنبي:
ديوان أبي الطيب المتنبي بشروح الواحدي (طبعة ديتريتشي
Dietrici ).
محمد عبد العزيز:
المنسوجات الأثرية في مصر الإسلامية (ملخص بحث بالفرنسية للأستاذ جاستون فييت نقله إلى العربية محمد عبد العزيز أفندي في عدد يوليو سنة 1937 من مجلة المقتطف).
محمد فريد أبو حديد:
فتح العرب لمصر، تأليف: بتلر، وتعريب: الأستاذ محمد فريد أبو حديد.
محمد فريد أبو حديد:
صلاح الدين الأيوبي (مطبوعات لجنة التأليف والترجمة والنشر).
محمود أحمد:
انظر زكي محمد حسن «في مصر الإسلامية»، أخرجه الدكتور زكي محمد حسن والملازم الأول عبد الرحمن زكي ، وكتب مقال العمارة الإسلامية فيه الأستاذ محمود أحمد.
المسعودي:
مروج الذهب ومعادن الجوهر (طبعة مصر).
المسعودي:
التنبيه والإشراف (المكتبة الجغرافية العربية).
مسكويه:
انظر ابن مسكويه.
المقدسي:
أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم (طبعة دي جويه بالمكتبة الجغرافية العربية سنة 1877).
المقريزي:
اتعاظ الحنفاء بأخبار الأئمة والخلفاء (طبعة بنتز
H. Bunz ).
المقريزي:
السلوك لمعرفة دول الملوك، نشره وكتب حواشيه: الدكتور محمد مصطفى زيادة، (مطبوعات لجنة التأليف والترجمة والنشر).
المقريزي:
المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار (طبعة بولاق، جزءان، وطبعة فييت ظهر منها خمسة أجزاء).
المكتبة الجغرافية العربية:
B.G.A.
سلسلة من كتب الجغرافيا نشرها دي جويه وفريق من المستشرقين في ليدن من سنة 1870 إلى سنة 1894، وتشتمل على الكتب الآتية: (1)
مسالك الممالك للإصطخري. (2)
المسالك والممالك لابن حوقل. (3)
أحسن التقاسيم للمقدسي. (4)
فهارس وشروح وحواشي للأجزاء الثلاثة الأولى. (5)
البلدان لابن الفقيه. (6)
المسالك والممالك لابن خرداذبه. (7)
الأعلاق النفيسة لابن رسته وكتاب البلدان لليعقوبي. (8)
التنبيه والإشراف للمسعودي.
المكتبة الصقلية:
جمعها المستشرق الإيطالي أماري من شتى المراجع العربية، في تاريخ صقلية.
النويري:
نهاية الأرب في فنون الأدب (طبعة دار الكتب).
ياقوت الحموي:
إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب (معجم الأدباء، طبعة مرجوليوث).
ياقوت الحموي:
معجم البلدان (طبعة وستنفلد).
اليعقوبي:
كتاب البلدان (من المكتبة الجغرافية العربية)، ترجمه إلى الفرنسية وكتب حواشيه: الأستاذ فييت سنة (1937).
Ahlenstiel-Engel, E. :
Arabische Kunst, Breslau 1923.
Aly Bey Bahgat :
Les Forêts en Egypte (M.I.E. 1903).
Aly Bey Bahgat :
Les manufactures d’étoofes en Egypte (M.I.E. 1903).
Aly Bey Bahgat Et Gabriel A. :
Fouilles d’al-Foustat, Le Caire.
Aly Bey Bahgat Et Massoul. F. :
La céramique musulmane de l’Egypte, Le Caire, 1930.
Arnold, Th. :
1928.
Arnold & Grohmann, A. :
The Islamic Book, London 1929.
Ashton, L. :
An Exhibition of Textiles from Egypt (B.M. vol. LXVII).
Becker, C. H. :
Beiträge zur Geschichte Agyptons unter dem Islam, Strassburg 1902.
Becker, C. H. :
Islamstudien, Erster Band, Leipzig 1924.
Van Berchem, M. :
Matériaux pour un Corpus inscriptionum arabicarum, Egypte t. l (M.M.F.A.O., vol. XIX).
VAN Berchem :
Notes d’archéologie arabe, 3 parties, Paris 1891-1904.
Bourgoin, J. :
Les art arabes. Paris 1873.
Briggs. MS. :
Muhammadan Architecture in Egypt and Palestine, Oxford 1924.
Brockelmann, C. :
Geschichte der arabischen Litterature, Weimer 1898-1902.
Bulter A. J. :
Islamic Pottery, London 1926.
Chau-Ju-Kua :
A work on the Chinese and Arab trade in the 12
th
and 13
th
centuries, entitlend Chu-fan-chï. Translated from the Chinese and annotated by Fr. Hirth and W.W. Rockhill. St. Petersburg, 1912
Christie, A. H. :
Fatimid Wood-carvings in the Victoria and Albert Museum (B.M. 1925).
Cohn-Wiener, E. :
Das kunstgewerbe des Ostens, Berlin 1923.
Combe, E. :
Notes d’archéologic musulmane (B.I.F.A.O. 1916, 1918, 1920).
Combe, E. :
Tissus fatimides du Musée Benaki (Mélanges Maspero, M.I.F.A.O., t. LXVIII, vol. 3).
Creswell. K. A. C. :
Early Muslim Architecture, Oxford 1932.
Creswell. K. A. C. :
A Brief Chronology of Muhammadan Monuments of Egypt (B.I.F.A.O. t. XVI).
Creswell. K. A. C. :
The Foundation of Cairo (Bulletin of the Faculty of Arts. University OF Egypt. Vol. I part 2, Dec. 1933).
David Weill. J. :
Les bois à épigraphes jusqu’à l’éopque mamelouke (Catalogue general du Musée Ärabe) Le Caire 19.
Denison Ross, E. :
The Arts of Egypt through the Ages, (edited by sir Denison Ross, London 1931).
Devonshire, Mme. R. L. :
L’Egypte musulmane et les fondateurs de ses monuments, Paris 1926.
Devonshire, Mme. R. L. :
Rambles in Cairo, 1917.
Devonshire, Mme. R. L. :
Quatre-vingts mosques et autres monuments musulmans du Caire, 1925.
Devonshire, Mme. R. L. :
Quelques influences islamiques sur les arts de l’Europe. Schindler, Le Caire 1935.
Diez, E. :
Die Kunst der Islamischen Völker, Berlin 1917.
Diez, E. :
Bemalte Elfenbeinkästchen und Pyxiden der islamischen Kunst (in Jahrbuch der Königlich preussischen Kunstsammlungen, 1910, vol. XXXI).
Dimand, M. S. :
A Handbook of Mohammedan Decorative Arts, New York, 1930.
Dozy, R. :
Dictionnaire détaillé des noms des vêtements chez les Arabes, Amesterdam 1845.
Dozy, R. :
Supplément aux dictionnaires arabes, Leyde 1886.
Enani, A. :
Beurteilung der Bilderfrage im Islam nach der Ansicht eines Muslim, Berlin 1918.
Encyclopédie de l’Islam, en cours de publication depuis 1908.
Ettinghausen, R. :
Ägyptische Holzschnitzereien aus Islamischer Zeit (Berliner Museen, Berichte aus den Preuss. Kanstsammlungen, LIV, 1, 1933).
Fago, V. :
Arte Araba, ROMA 1909.
Falke, O. von :
Kunstgeschichte der Seidenweberei, Berlin 1913.
Farrugia De Candia, J. :
Dénéraux en verres Arabes (Revue Tunisienne, nouvelle série n° J3-24).
Fernandis, J. :
Marfiles y azabaches españoles, Barcelona 1928.
Ferrand, G. :
Relations de voyages et texts géographiques arabes, persans et turcs, relatifs à l’Extréme Orient, du VIII
e
au XVII
e
siècles, traduits, revus et annotés par G. Ferrand, Paris 1913-14.
Flemming. E. :
Textile Kunst, Berlin 1923.
Flury, s. :
Islamische Ornamente in einem griechischen psalter von ca.1090. (der Islam 1917).
Flury, s. :
Die Ornamente der Hakim und Ashar-Moschee, Heidelberg 1912.
Fouquet, Dr. :
Contribution à l’étude de la céramique orientale (M.I.E., t. IV).
Eraenkel, S. :
Die aramäischen Fremdwörter im Arabischen, Leiden 1886.
Franz Pascha :
Die Baukunst des Islam, Darmstadt 1887.
Franz Pascha :
Kairo, Leipzig 1903.
Gabriel Rousseau :
L’art decorative musulman, Paris 1934.
Gaudefroy-Demombynes, M. et
:
Le monde musulman et byzantin jusqu’aux croisades,
Gayet, A. :
L’art arabe, Paris.
Glazier, R. :
Historic Textile Fabrics.
Glück und Diez :
Die Kunst des Islam, Berlin 1925.
Gottschalk, W, :
Die Bibliotheken der Araber im Zeitalter der Abbasiden (Zentralblatt für Bibliothekswesen, Johrg. 47, Heft 1-2).
Gratzl, E. :
Islamische Bucheinbände des 14 bis 19 Jahrhunderts, Leipzig 1924.
Grohmann, A. :
Arabic Papyri in the Egyptian Library, Cairo 1934, 37.
Grohmann, A. :
Arabische Eichungsstempel. Glasgewichte und Maulette aus Wiener Sammlungen (Islamica, I, 1925).
Guest, R. :
Relations between Persia and Egypt under Islam up to the Fatimid Period (in a Volume of Oriental Studies presented to E. Browne, Cambridge 1932).
Hautecoeur et Wiet :
Les Mosquées du Caire, Paris 1932.
Herz. M. :
catalogue raisonné du caire, 2
e
éd.1906.
Herz. M. :
Boiseries fatimites aux sculptures figurales (Orientales Archiv t. III).
Herzfeld E. :
Die Genesis der islamischen kunst und das Mschatta problem (der Islam 1910).
Herzfeld E. :
Der Wandschmuck der Bauten von Samarra und seine Ornamentik, Berlin 1923.
Herzfeld E. :
Die Malereien von Samarra, Berlin 1927.
Heyd :
Histoire du commerce du Levant au moyen âge.
Hbson. R. :
A Guide to the Islamic Pottery of the Near East, British Museum 1932.
Jaussen. R. P. :
Insceriptions arabes du Sinaï (Melanges Maspero vol. III).
Kahle. P. :
Die Schätze der Fatimiden (Z.D.M.G., Neue Folge, Band 14).
Karabachek. J. J. Krall und K. Wessely :
ausstellung, Wien 1894.
Kendrick :
Catalogue of Muhammedan Textiles of the Medieval
Kremer. A. von :
Culturgeschichte des Orient unter den Chalifen, Wien 1875-77.
Kühnel. E. :
Islamische Kléinkunst, Berlin 1925.
Kühnel. E. :
Die Islamische Kunst (Spinger, Handbuch der Kunstgeschichte, Bd, VI, Leipzig 1929).
Kühnel. E. :
Miniaturmalerei im islamischen Orient, Berlin 1932.
Kühnel. E. :
Islamische Stoffe aus aegyptischen Gräbern im der islamischen Kunstabteilung und in der Stoffsammlung des Schlossmuseums, Berlin 1927.
Kühnel. E. :
Kritische Bibliographie, islamische Kunst (der Islam 1928).
Kühnel. E. :
Sizlien und die islamische Elfenbeinmalcrei, (Zeitschrift für Bildende Kunst, 25, 1914).
Kühnel. E. :
Die orientalische Olifanthörner, (Kunstchronik 1921).
Kühnel. E. :
Islamische Kunst (in “Der Orient und Wir” sechs Vorträge des Deutschen-Orient Vereins, Berlin, Oktober 1234-Februar 1935, Berlin, Walter de Gruyter).
Kühnel. E. :
Islamisches Räuchergerät (Berliner Museen, Berichte aus d. Preuss. Kunstsammlungen, 41, 1919-1920).
Lamm. C. J. :
Mittelalterliche Gläser und Steinschnittarbeiten aus dem Naken Osten, Berlin 1930.
Lamm. C. J. :
Das Glas von Samarra, Berlin 1928.
Lamm. C. J. :
Fatimid Woodwork (B.I.E., t. XVIII).
Lamm. C. J. :
Some Woollen Tapestry Weavings from Egypt in Swedish Museums, (Le Monde Oriental. t. XXX 1936).
Lamm. C. J. :
The Spirit of Moslem Art, (Bulletin of the Faculty of Arts, University of Egypt, vol. III, part 1, May 1935).
Lane-Poole, S. :
History of Egypt in the Middle Ages, London 1925
Lane-Poole, S. :
The Art of the Saracens in Egypt. London 1886.
Lane-Poole, S. :
Cairo: Sketches of its history, Monuments and Social Life, London 1892.
Lane-Poole, S. :
Saladin and The Fall of the Kingdom of Jerusalem. London 1926.
Longhurst, M. H. :
Catalogue of Carvings in Ivory, Victoria and Albert Museum, 1929.
Longhurst, M. H. :
Some Crystals of the Fatimid Period (B.M. 1926).
Mann, J. :
The Jews in Egypt and Palestine under the Fatimid Caliphs. Oxford 1920.
Marçais, G. :
Manuel d’Art musulman, 2 vols., Paris 1926.
Marçais, G. :
Les Figures d’hommes et de bêtes dans les bois sculptés d’époque Fatimite conserves au Musée Arabe du Caire, (Mélanges Maspero, t. I).
Marçais, G. :
L’art musulman du XI
e
Siécle n Tunisie d’aprés quelques trouvailles récentes, (Revue de l’Art Ancien et Moderne 44, 1923).
Marçais, G. :
Coupole et plafonds de la Grande Mosquées de Kairouan, 1925, (Notes et Documents Publiés par la Direction des Antiquites et Arts, Gouvernement Tunisien).
Marçais, G. :
L’art musulman (dans Nouvelle Histoire Universelle de l’Art, publié sous la direction de Marcel Aubert. Vol. II).
Marçais, G. et G. Wiet :
Le “Voile de Sainte Anne” (Fondation E. Piot, Monuments et Mémoires publiés par l’Académie des Inscriptions et Belles letters, t. XXXIX).
Margoliouth, D.S. :
Cairo, Jerusalem and Damascus, London 1907.
Massignon, L. :
Les methods de realization artistiques des peoples de l’Islam (dans Syria, 1921).
Mayer, L.A. :
Saracenic Heraldry, Oxford 1932.
Mayer, L.A. :
Annual Bibliography of Islamic art and Archoeology, vol I, 1935, edited by L.A. Mayer.
Mélanfes Maspero, (Mém. De I’Inst. Fr. D’Archeol. Or. Vol. LXVIII, le Caire 1935).
Mercier, L. :
La chasse et les sports chez les Arabes, Paris 1927.
Mez. A. :
Die Rénaissanse des Islams, Heidelberg 1922.
Migeon, G. :
Manuel d’art musulman 2
e
edition, 2 vol. Paris 1927.
Migeon, G. :
Les arts musulmans (Paris 1926).
Migeon, G. :
Musée du Louvre, L’Orient musulman, Paris 1927.
Musée de l’Art Arabe du Caire, La céramique égyptienne de l’époque musulmane (Bâle 1922).
Nasir-I-Khusraa :
Safer Nameh, éd. Chefer, Paris 1881.
Nicholson, R. :
Literary History of the Arabs, London 1907.
O’Leary, de Lacy :
A short Hsitory of the Fatimid Khliphate.
Olmer, P. :
Filtres de gargoulettes, (Catalogue general du Musée Arab du Caire, 1932).
:
Su, tre mihrab o nicchie da preghiera portatile del Museo Arabo di Cairo (Dedalo IV, 1923, 24).
:
and Monmeret de villard: The Cruch of sitt barabra in old cairo florence 1922.
:
Les bois sculptés jusqu’à l’époque ayyoubide (Cat. General du Musée Arabe du Caire) 1931.
:
Les Hammams du Caire (M.I.F.A.O. t. LXIV).
:
Bois sculptés d’églises coptes (époque Fatimide) avec une introduction historique par Gaston Wiet, (Publications du Musée Arabe du Caire) 1930.
:
un dispositif de plafond Fatimite (B.I.E. t. XV).
:
Le Minbar de qous (Mélanges Maspero vol. III).
:
La céramique archaïque de l’Islam, Paris 1920.
:
Le Biblioteche degle Arabe, Paris 1873-77.
Quatremère, E. :
Mémoires historiques sur la dynastie des Khalifes Fatimites, (Journal Asiatique, Août 1836).
Quatremère, E. :
Mémoires géographique et historiques sur l’Egypte et sur quelques contrées voisines, Paris 1811.
Quatremère, E. :
Histoire des Sultans Mamlouks d’Egypte, trad. Quantremère, Paris 1837-1845.
Rabino, M.H.L. :
Le Monastère de Sainte-Cathering (Mont-Sinai), Bulletin de la Société Royale de Géographie d’Egypte, t. XIX-1
er
fascicule, pp. 21 à 126.
Ravaisse, P. :
Sur Trois miharbs en bois sculptés (M.I.E. t. II).
Ravaisse, P. :
Essai sur l’histoire et la topograhie du Caire (M.M.A.F.O.t.I,III).
Répertoire chronolgique d’épigraphie arabe, Le Caire depuis 1931.
Ricard, P. :
et en Espangne, Paris 1924.
Ricard, P. :
Sur un type de reliure des temps almohades, (Ars Islamica vol. I 1934).
Rivière, H. :
La céramique dans l’art musulman, Paris 1914.
Röder, K :
Das Mina im Bericht über die Schätze der Fatimiden, (Z.D.M.G., Neue Folge Band 14).
Röder, K :
Über glasierte Irdenware und chinesisches Porzellan in islamischen Landern (in Studien zur Geschichte und Kultur des Nahen und Fernen Ostens, Paul Kahle Zum 60 Géburstag überreicht, herausgegeben von W. Heffening und W. Kirfel, Leiden 1935).
Salles, G. et Ballot, M.J. :
Les Collections de l’Orient Musulman, Musée du Louvre 1929.
Sarre, F. :
Die Keramik von Samarra, Berlin 1925.
Sarre, F. :
Islamische Bucheinbände, Berlin 1923.
Sarre, F. :
Wechselbeziehungen zwischen ostaisatischer und vorderaisatischer Kermik (Ostasiatische Zeitschrift, 8, 1919-20).
Sarre, F. :
Festschrift-Sarre: Jahrbuch der Asiatischen Kunst, Herausgegeben von G. Biermann, Bd. II, 2; Beiträge zur Kunst des Islam, Festschrift F. Sarre zur Vollendung seines 60 Lebensjahres, Leipzig 1925.
Schwarzlose, F.W. :
Die Waffen der Alten Araber, Leipzig 1886.
Le Strange :
1890.
Strzygowski, J. :
Altai-Iran und Völkerwanderung, Leipzig 1917.
Strzygowski, J. :
Die Bildende Kunst des Ostens, Leipzig 1916.
Strzygowski, J. :
Zwei ältere Schnitztafeln, Wiederverwendet im Mihrab der Sitta Rukaia, in Kairo vom J. 1132 n. chr. (Festschrift Sarre) 1925.
Tarchi, Ugo :
L’Architettura e l’Arte Musulmana in Egitto e nella
Terrace, H. :
L’art hispano-Mauresque des origins au XIII
e
sièlc, Paris 1932.
Toussoun, S. A. Prince Omar :
Mémoires sur les finances de l’Egypte depuis les
1924.
Toussoun, S. A. Prince Omar :
Mémoires sur l’histoire du Nil (M.I.F) t. VIII, IX, X, 1925.
Toussoun, S. A. Prince Omar :
La géographie de l’Egypte à l’époque arabe (in Mém. De la Soc. Roy. De Géogr. d’Egypte, vol. VIII, Le Caire 1926).
Weil G. :
Geschichte der Chalifen, Mannheim, 1845-51.
White H.E. :
The Monasteries of the Wadi’n Natrun, III, the Architecture and Archeology, New York 1932.
Wiet, Gaston :
Corpus inscriptionum arabicarum, Egypte, (M.I.F.A.O.t. 52, 1930).
Wiet, Gaston :
Album du Musée Arabe, La Caire 1930.
Wiet, Gaston :
Les objets mobiliers en cuivre et en Branze à inscriptions historiques (Cat. gén. Du Musée Arabe du Caire) 1932.
Wiet, Gaston :
L’Expostion persane de 1931 (Publication du Musée de l’Art Arabe du Caire) 1933.
Wiet, Gaston :
L’Expostion d’art presan de Londres (dans Syria t. XIII, 1932).
Wiet, Gaston :
1930.
Wiet, Gaston :
Exposition des tapisseries et tissues du Musée Arabe du Caire. Du VII
e
au XVII
e
siècle (Musée des Gobelins,
Wiet, Gaston :
Notes d’épigraphie Syro-Musulmane (dans Syria vol. VII).
Wiet, Gaston :
Tissus et Tapisseries du Musée Arabe du Caire (dans Syria t. XVI).
Wiet, Gaston :
Un Nouveau tissues Fatimide (dans Orientalia, vol. V, fasc. 314).
Wiet, Gaston :
La valeur decorative de l’alphabet arabe (dans Arts et Metiers Graphiques, n° 49, Paris 15 October 1935).
Wiet, Gaston :
Exposition d’art persan, La Caire 1935, (Société des Amis de l’Art, 2 vols. 72 pl.).
Wiet, Gaston :
Un Bol en Faïence du Xll
e
siècle (dans Ars Islamica, vol. I, part 1).
Wiet, Gaston :
Voir Hautecoeur et Wiet; Les Mosquée du Caire.
Wiet, Gaston :
Voir Marçais et Wiet: Le voile de Sainte Anne.
Wüstenfeld :
Die Chroniker der Stadt Mekka (Leipzing 1857-61)
Wüstenfeld :
Geschichte der Fatimiden Chalifen, Göttingen 1881.
Zaky Mohamed Hassan :
Les Tulunides, Étude de l’Egypte musulmane à la fin du IX
e
Siècle, Paris, Geuthner, 1933.
ABRÉVIATIONS
B.I.E. :
Bulletin de l’Institut d’Egypte.
B.I.F.A.O. :
Bulletin de l’Institut Français d’Archéologie Orientale au Caire.
B.M. :
Burlington Magazine.
M.I.E. :
Mémoires de l’Institut d’Egypte.
Z.D.M.G. :
Zeitschrift der Deutschen Morgenländischen Gesellschaft.
Bilinmeyen sayfa