يوجد أيضا نص أكثر قدما يعود إلى المملكة الوسطى (بردية برلين 3024؛ فوكنر 1956: 21-40)، يتوسل فيها رجل لروحه كي تنهي حياته. يقول هذا الرجل إن اسمه مبغوض أكثر من رائحة النسور (فوكنر 1956: 27، السطر 87)، ويقارن الموت «بتعافي رجل مريض، أشبه بالخروج من أبواب السجن بعد الاعتقال» (فوكنر 1956: 29، السطر 131). ومع ذلك لا أستطيع أن أرى في قراءة فوكنر للنص دليلا يشير إلى أن هذا الرجل يعتزم إزهاق حياته؛ فإنه يتوسل لروحه أن تخرج من جسده حتى يتسنى له خوض شعائر الانتقال الضرورية للحياة الأخرى. وينتقد المتحدث في هذا النص روحه لعدم قدرتها على التخفيف من معاناته ويتوسل إلى روحه أن تتصرف بعقلانية. وكما يشير فوكنر في تعليقه على النص، يذكرنا آخر سطرين بمشهد عودة الروح إلى الجسم بعد الموت، وأن هذا الرجل، وفقا للمعتقدات المصرية القديمة، إذا مات بأسباب طبيعية ودفن بالطريقة الصحيحة فإنه ليس ثمة ما يمنع روحه من العودة والسماح بميلاده مرة أخرى في الحياة الآخرة (1956: 40).
يتمثل المفتاح إلى الحياة الآخرة لدى المصريين في أن تظل أجسادهم الفانية سليمة حتى يتاح لروح الفرد العودة إلى جثمانه. وبمجرد أن يتمكن المتوفى من الإجابة عن مجموعة من الأسئلة ويظهر أن قلبه (ومن ثم ضميره) نقي وأخف فعليا من ريشة العدالة، فإنه يولد مرة أخرى في الحياة الآخرة عندما تشرق الشمس فوقه لمدة ساعة واحدة في كل ليلة (تايلور 2001: 15-44)؛ ومن ثم فإن مفتاح الحياة الآخرة لدى المصريين كان يتمثل في بقاء الجسم سليما. وكما يشير كثير من كتاب السيرة في العصر الحالي، لم تكن كليوباترا ملكة فحسب وإنما كانت إلهة في حياتها، ولهذا لم تكن تخشى الموت، كما تظهر النصوص. إن وجهة النظر هذه مبسطة إلى حد ما وبينما توجد روايات عن احتفال عامة الشعب بوفاة الملك؛ ومن ثم ولادته مرة أخرى في شكل أوزوريس، لم تتحول كليوباترا المتشبهة بإيزيس إلى حتحور الغرب بمثل هذه السهولة.
كان الملوك المصريون يحصلون على عبادة جنائزية، حيث يخصص مجموعة من الكهنة لرعاية المتوفى. كانت هذه المعابد منفصلة عادة عن القبور، حيث يرتاح الجسد، وتعبر عن الاستمرار الرمزي للاهتمام بروح المتوفى. يختلف هذا المفهوم عن العبادات البطلمية للملوك والملكات التي تظهر بعد موتهم، حيث يتحول المتوفى عند وفاته إلى إله؛ ففي السياقات المصرية التقليدية يمجد المتوفى في وضع الموت ولا يكتفى بمجرد الاحتفاء بحياته وانتقاله. تقع عبادة أرسينوي الثانية نوعا ما بين المفهومين؛ فنرى أن الملكة قبلت ضمن هيكل الآلهة، لكنها لم تحصل على هذه المكانة إلا بسبب وفاتها.
من ثم، عندما يشير المؤرخون في العصر الحديث إلى عدم وجود ما يدعو كليوباترا إلى السعي إلى الخلود بسبب مكانتها كإلهة وهي على قيد الحياة (وايتهورن 1994: 193)، فإنهم لا يدركون بالكامل مفهوم الموت لدى المصريين. يختلف هذا المفهوم تماما عن مفهوم الإلهة الحية. إن عبادة كليوباترا بوصفها أحد الآلهة ستستمر، لكن دورها كحاكمة فانية يحتم عليها التأكد من اجتيازها موقف الحساب من أجل الوصول إلى الحياة الأخرى. ويمكننا بالطبع في هذه الحالة افتراض أن كليوباترا كانت تمارس شعائر الديانة المصرية، فإذا كان أفراد العائلة الملكية المتوفون يدفنون وفقا للشعائر المصرية في عهد قديم يرجع إلى القرن الثالث قبل الميلاد، فمن المرجح أن يحصل حاكم في القرن الأول على مثل هذا الشرف. وإذا كان المصريون مخطئين رغم كل شيء في تصورهم للحياة الآخرة، فإن كل شيء كان مهيأ لحياة الإغريق الآخرة، لكن إذا عكسنا هذا الوضع فلن تتحقق النتيجة نفسها. (3) القتل: نظرية بديلة
لا توجد نظرية مؤامرة قديمة تدور حول علاقة أوكتافيان بوفاة كليوباترا. ومع ذلك، شكك بعض المؤرخين في أواخر القرن التاسع عشر في درجة تورط أوكتافيان في الحادث (وايتهورن 1994: 194). لم يكن التساؤل يدور بشكل مباشر حول قتل أوكتافيان لكليوباترا، وإنما بتسهيله لانتحارها عن طريق عدم توفير حراس لمراقبتها، فكما يشير وايتهورن لم يكن يجب سجن ملكة بالطريقة نفسها التي تسجن بها الشخصيات غير الملكية (1994: 195)، ويشير إلى إشارتين قديمتين لمحاولة انتحارها في كتابات بلوتارخ للدلالة على أن رغبتها تلك كانت مؤكدة. وبالطبع من المحتمل أن بلوتارخ كان يمهد بذلك لختام روايته. يدرك وايتهورن هذا الأسلوب الأدبي جيدا ويشير إليه في بداية الفصل الذي يتحدث فيه عن وفاة كليوباترا، لكنه يستخدم الإشارتين هنا من أجل إظهار عزمها على الموت. وأنا أذكر هذه النقطة لأوضح مدى سهولة إمكانية تقبل المؤرخ للأجزاء التي تدعم حججه في إحدى الروايات في حين يرفض الأجزاء التي لا تدعمها.
مؤخرا أبدت حلقة تليفزيونية خاصة مدتها ساعة من إنتاج شركة أتلانتك لقناة ديسكفري الولايات المتحدة/القناة الخامسة اهتماما بوفاة الملكة. في هذه الحلقة بعنوان «غموض وفاة كليوباترا» استخدم المحلل الجنائي بات براون مصادر رومانية مختارة من أجل تحديد هل انتحرت كليوباترا أم قتلت. لم يشكك أي من المصادر الرومانية في إنهاء كليوباترا لحياتها؛ ففي الواقع يبدو كثير من الكتاب المعاصرين والقدماء على حد سواء، حريصين على التأكيد على تعامل أوكتافيان الرحيم مع مارك أنطونيو والملكة عند وفاتهما. ولن يعرف أحد أبدا ما إذا كانت هذه الشفقة الظاهرية تخفي وراءها قاتلا وليس مجرد قائد أراد استعراض كليوباترا في موكب انتصاره. ومع ذلك ليس ثمة ما يدعم هذه النظرية؛ فلا تقدم التقييمات النفسية للحكام المتوفين الموجودة في المصادر الثانوية أية مساعدة تذكر في تحديد قدرة شخص ما على الانتحار. وتوجد المشكلة نفسها في الروايات القديمة لكنها تسمح لنا على الأقل بمعرفة الرواية الرومانية الرسمية لوفاة كليوباترا.
استنتج مقال عام 1990 أن كليوباترا كانت تعاني من اضطراب الشخصية النرجسية (أورلاند وآخرون، 1990: 169-175). يوصف اضطراب الشخصية النرجسية بأنه نمط متغلغل من الشعور بالعظمة، سواء كانت العظمة حقيقية أم خيالية. يشتهي المصابون بهذه الحالة الإعجاب ويفتقرون إلى التعاطف مع الآخرين. قد تصل المؤشرات على المرض إلى خمسة أو أكثر من الأعراض التالية: تضخم الإحساس بأهمية الذات، تضخيم المصابين لإنجازاتهم، تخيل النجاح أو الجمال أو الذكاء أو السلطة أو الحب المثالي، الاعتقاد في تميزهم أو تفردهم، الحاجة إلى إعجاب الأخرين المفرط بهم، وجود توقعات غير منطقية، استغلال الآخرين من أجل تحقيق أهدافهم، عدم الاستعداد لإدراك مشاعر الآخرين أو الاعتراف بها، الشعور بالحسد تجاه الآخرين أو الاعتقاد في حسد الآخرين لهم، التصرف بتكبر. من الواضح أن نقاد كليوباترا اعتقدوا أنها كانت تعاني من اضطراب الشخصية النرجسية، رغم أنهم لم يطلعوا بالتأكيد على مثل هذا التشخيص. وربما من الجدير بالذكر أن معظم الزعماء في التاريخ، كما يرد في المصادر الأدبية، لديهم على ما يبدو بعض من السمات السابقة. ولا يسعني إلا افتراض أن حقيقة كون كليوباترا امرأة جعلت السمات الشخصية التي تبديها، والتي عادة ما تدعم في الرجال، غير مقبولة أو مستهجنة. (4) مراسم الدفن القديمة والمعاصرة
في القرن الثالث قبل الميلاد حرق بعض الإغريق في الإسكندرية وحفظ رمادهم في إناء خزفي شاع استخدامه في حفظ الماء (يدعى هيدريا). وفي الجزء الأول من القرن العشرين عثر على كثير من هذه الأواني في الضاحية الشرقية الجنائزية من الحضرة في الإسكندرية؛ ولذلك عرفت هذه الأواني، التي ينقش عليها عادة اسم المتوفى، باسم «أواني الحضرة». أظهر التحليل أن كثيرا من هذه الأواني تم استيرادها من جزيرة كريت اليونانية ثم أضاف أهالي الإسكندرية عليها بصمتهم. ومع ذلك، لم يمض وقت طويل حتى بدأ الحرفيون المصريون في تقليد شكل هذه الأواني وزخارفها، وبالتالي سمحوا لعائلة المتوفى باختيار مشهد مناسب يعبر عن مهنة المتوفى أو هوايته المفضلة. ومن المرجح أيضا أن هذه الأواني كانت تصنع قبل الوفاة (لايتفوت في كتاب من تحرير ووكر وهيجز، 2001: 117-120).
من ناحية أخرى، كان قسم آخر من أهالي الإسكندرية - الصفوة على الأرجح - يدفنون في مقابر مزخرفة بإتقان. حمل بعض من غرف الدفن هذه ملامح مصرية، لكن سيطر الطراز الإغريقي على زخارفها وتوابيتها. حفرت جميع هذه القبور في الصخر لذا توجد تحت سطح الأرض، ويمكن الوصول إليها عن طريق درج (فنيت 2002: 46)، وتظهر القبور في منطقة الفنار القديم بحي الأنفوشي (القبر 2) المشاهد والسمات المعمارية التي تميز القبور المصرية التقليدية متجسدة في قبور إغريقية خالصة أقيمت في وقت قديم يرجع إلى القرن الثاني قبل الميلاد (فنيت 2002: 77-85). وتشبهها القبور الموجودة في منطقة مصطفى باشا كامل (فيداك 1990: 131-132). يحتوي القبر رقم 1 في هذا الموقع على سمات معمارية ورسومات على الطراز الإغريقي، لكنه يحتوي على تماثيل لأبي الهول تحمي المداخل إلى الحجرات المتعددة (فنيت 2002: 50-61). يقترب استخدام تماثيل أبي الهول في مقابر مصطفى باشا من الأسلوب الإغريقي، حيث كانت الحيوانات، خاصة الأسود، تحرس المقابر في القرن الرابع قبل الميلاد. في الثقافة المصرية تحمي عادة تماثيل أبي الهول أروقة المواكب في المعابد. كانت هذه القبور تنتمي إلى مواطن إغريقي غني لكنها لم تكن تذكارية على غرار القبور الملكية.
يوجد قبران آخران تجدر الإشارة إليهما في هذا السياق. يعرف الأول باسم قبر الألباستر (بوناكاسا ومينا 2000)، وارتبط عادة بقبر الإسكندر. كان كثيرا ما يفترض أن هذا البناء الصخري المنفرد يوجد فوق مجموعة من الحجرات الموجودة تحت الأرض، لكن عمليات السبر التي أجريت مؤخرا تحت البناء دحضت هذه الفرضية (أمبرور، مراسلات شخصية 2004). يوجد هذا القبر حاليا في منطقة تسمى المقابر اللاتينية، تقع على حدود المنطقة التي عرفت بأنها وسط المدينة القديمة. رغم مقارنة تصميم قبر الألباستر بالمقابر المقدونية، فإنه أكثر شبها بمقام مقدس في مظهره الخارجي، وربما كان جزءا مخصصا للدفن من معبد صغير أو ربما كان مجرد مقام.
Bilinmeyen sayfa