ولما ذكرته انهملت دموعها، فجعلت تبكي حتى انحلت سحائب همها، ثم أشرقت كما تصحو السماء في أعقاب المطر، فلو رآها أشعر الناس في ذلك الجمال المشرق الحزين الذي تورد حتى التهب؛ لوقف عندها وقفة العابد في المحراب يشعر بالقوة الأزلية ولا يحسن أن يصفها. وأي شاعر تحيط نفسه بهذا الشقاء الذي رفعه جمالها الساحر من بين آلام الأرض وألحقه بذلك الألم المنفصل من السماء، الذي لم تشهده الأرض إلا مرة واحدة، يوم جلست حواء تبكي أول بكائها بعد خروجها من الجنة؟
ويا لله ما أروع الجمال حين يتألم ويحزن ويحضر الجميلة همها! إن مثل من يحاول أن يصف دموع هذه الجميلة وحسراتها وصفا ناطقا يتنفس به القلب، كمثل من يريد أن يخلق من سحر البيان زلزلة ترجف بها الأرض حين يبالغ في وصف الزلزلة؛ وما اللغة إلا أداة، فكيف - ويحك - تستعمل هذه الأداة في صفة قوة تعجز عندها كل وسيلة، حتى الشعور الذي أبدع اللغة؟
لقد جمعت المقاييس بين أقطار الأرض، وطوت ما بين الأرض والسماء، وداخلت ما بين أنجم السماء بعضها من بعض، ولكن أية أداة تعين لنا درجة الإحساس بين نفس عاشقة مدنفة تشهد آلام نفس معشوقة، وبين عيني شاعر غزل وثاب الخيال تنظران في عيني امرأة جميلة باكية، وبين ألم جامد جاف يضطرب في نفس الرجل، وألم سائل متدفق تضطرب فيه نفس المرأة؟
إن هذه الأنفس إنما تشعر بمقدار ما فيها من الإحساس، لا بمقدار ما في الحقيقة من مادة الشعور. وكأي من رجل أبله متغفل يدور مع الآلام والأوجاع دوران الغبار في العاصفة، فإذا رأيته توجعت له وداخلتك الرقة عليه وثارت نفسك من أجله ثورة السخط على هذا الاجتماع الإنساني، وتمر بالرجل ثم تنساه، ولكن هناك طفلة، طفلة صغيرة قريبة العهد بالغيب
38
قد ضلت بيت أبويها في المدينة المترامية، فمشت ذليلة ضائعة يتحير الدمع في عينيها كما تتحير الألفاظ بين شفتيها، وقد ساورها الخوف، وتوثبت نفسها فزعا لهول ما هي فيه، وجعلت عيناها تتوسلان إلى الناس بالبكاء، ولسانها يتلجلج بألفاظ مرتعدة كأنما ينتفض عليهن قلبها الصغير، وهي في ذلك لا تبرح تتمثل أبويها فتضطرب اضطراب الفرخ إذا سقط من وكره ولم ينتهض، وترى أن المصيبة قد انحصرت فيها وحدها من دون الناس، فتبكي بكاء تكاد تنشق له، ثم تعود إلى التوسل بعينيها الدامعتين وبألفاظها المتلجلجة؛
39
فانظر وأنت أبو مثلها ما عسى أن ينزل بك من الحسرة ويتغشاك من الهم، إذا رنت إليك هذه الطفلة من وراء دموعها تسألك أن تدلها على بيت أبويها الماثل في رأسها الصغير، وهي تحاول بذلة ومسكنة أن تنقله إلى نفسك وتبنيه فيها بألفاظها وإشاراتها الضعيفة لتهتدي أنت إليه؟
فالمصيبة ليست مصيبة بمادتها، ولكن بما يقابل هذه المادة من نفوسنا؛ ومن ثم فهي لا تؤثر فينا بنفسها، ولكن بالكيفية التي نقابلها بها.
قال «الشيخ علي»: ثم سكنت «لويز» هنيهة لذكرى أيامها الأولى، وهي تعلم أن لا رجعى لها، فقد استيقنت أن هذا الغنى ضرب بينها وبين الفقر حجابا، ولكنه رفع بينها وبين الشقاء حجابا آخر، كان ذلك الفقر وحده هو الذي يمنعها منه؛ وكأن القدر لما اختط لها التعاسة، رسم هذه الخطة بقلم من ذهب!
Bilinmeyen sayfa