وأقبل لزيارة المتنبي كبار العلماء والأدباء في المدينة، وتوافد عليه الطلاب يسألونه ويقيدون عنه ما يلي، وكان يجلس على كرسي ضخم في صدر القاعة وبجانبه محسد، وقد وقف عند الباب عبده مفلح، وكان بين زواره الشريف الحسن العلوي وابنه الحسين، وكان فتى في العشرين وسيم الطلعة حسن الحديث حاضر البديهة، فقال العلوي: لقد كانت الكوفة تتشوق إلى قدومك يا أبا الطيب بعد أن تراجع مجدها، وكادت تذوي أفنان الأدب والشعر فيها. - إننا رأينا ما رأينا من ملوك وأمم وممالك، فعرفنا أن كل شيء في هذه الدنيا هباء، وأن آمال المرء فيها هواء. - لقد نلت في هذه الرحلة ما لم ينله شاعر، وبلغت منزلة تتقطع دونها أعناق الآمال. - وماذا حصلت عليه بعد ذلك يا ابن الرسول؟ لا شيء إلا أني عدت إلى داري في الكوفة أحمل فوق كتفي أثقال السنين، بعد أن خرجت منها يافعا ريان الشباب. - خرجت سنة تسع عشرة وثلثمائة فارا من القرامطة؟ - نعم يا سيدي، فلقد كان القرامطة بلاء على الكوفة وعلى العراق كله. - لقد دمروا وأحرقوا كثيرا من الدور والمساجد، وكم نهبوا وسلبوا وفعلوا الأفاعيل. - وكنت في ذلك الحين شاديا في الشعر فنظمت قصيدة أهجو فيها زعيمهم أبا طاهر فبلغه خبرها فأهدر دمي، فخرجت فارا مع أبي في حماية الليل وستاره حتى بلغنا بغداد، فلم أقم بها طويلا حتى ودعت أبي واتخذت طريقي إلى شمالي الشام. - وقد مضى منذ ذلك الحين أكثر من ثلاثين عاما، ولا يزال هؤلاء القرامطة يعيثون بالفساد حول الكوفة، إنهم قوم فجرة يستحلون كل شيء، ولا يخضعون لحاكم، ولا يرجعون إلى شرع. وبينما هما في الحديث إذ دخل مفلح ينبئ المتنبي بقدوم الوالي، فهنأه بسلامة قدومه ورد المتنبي تحيته بتحية امتزج فيها الإجلال بتواضع الكبراء، وذهب الحديث مذاهب شتى، وجاء ذكر سيف الدولة وكافور فقال الوالي: لقد كانت تصل إلينا قصائدك في الأسود، فكنا نقرؤها وتطرب لها من جهة أنها شعر، لا من وجهة أنها قيلت في كافور. ويعجبني فيك يا أبا الطيب أنك لا تصرف القصيدة كلها إلى ممدوحك كما تفعل جمهرة الشعراء، ولكنك تتصدق عليه بأبيات قليلة، ثم تتجه في بقية القصيدة إلى الحكمة العالية وخوالج النفوس وما يجيش به صدرك من همم وعزائم، ولقد أحزنني حقا أن تقول في كافور:
لو الفلك الدوار أبغضت سعيه
لعوقه شيء عن الدوران
هذا بيت لم تتفتح عن مثله شفة شاعر منذ عرفت الأوزان وقيلت الأشعار. وكان من مصائب القدر أن يبقى دره مخزونا في أطواء الزمان حتى ينثر على الأسود الحبشي. ما أجل المعنى، وما أروع اللفظ، وما أبعد الخيال. وأبدع ما في البيت كله كلمة «شيء» هذه. فما أحلى هذا التنكير وهذا التجهيل الذي تضمنته. كان مولانا معز الدولة أحق بهذا البيت وأجدر. فهو زند الخلافة وعضدها، وحامي حمى المسلمين، ومعلي كلمة الدين، والملك الذي له من القوة والسلطان ما يصح أن يقال فيه مثل هذا الكلام. أذاهب أنت إلى بغداد يا أبا الطيب بعد أن تستريح قليلا بالكوفة؟ - إنني سأستريح طويلا يا سيدي، وسيستريح معي شعري. - لا. إن شعرك لا يستريح، إن الطائر لا يستطيع إلا أن يغرد، والمسك لا يملك إلا أن يفوح. قل لي بالله متى تذهب إلى بغداد حتى أكتب إلى مولاي معز الدولة؟ لقد كتبت اليوم رسالة إلى الوزير المهلبي أخبره فيها بقدومك، وأكبر الظن أنه لن يدعك تستريح يا أبا الطيب. إن الناس يطمعون في أدبك وشعرك، لقد رفعت سيف الدولة إلى القمة، وملأت الدنيا بمديح كافور ثم بهجائه، وأظنك لا تبخل على الخلافة ورجالها ببعض ما نثرته على تابعيها من الأمراء. - سأنظر في هذا يا سيدي، ولكني الآن أوثر الهدوء والاستقرار بعد أن طوحت بي الطوائح. - لست ملكا لنفسك يا أبا محسد، وإنما أنت ملك العرب وملك الخلافة، وكان يجب على ابن العراق ألا يشيد إلا بمجد العراق. خلصني بالله يا أبا الطيب، فقد ينالني لوم من دار الخلافة إذا لم تسرع إليها. - لا لوم ولا تثريب يا سيدي، والأمور مرهونة بأوقاتها. وانقض المجلس، وتوالت الأيام وتوالت المجالس، وفي كل يوم يزيد أبو الطيب سأما وتبرما. إنه لا يستطيع أن يعيش كما يعيش الناس، لقد عاد إلى ديوان شعره فرتبه وكتبه وأسقط منه ما أراد أن يسقط وزاد فيه ما راق له أن يزيد، وانتهى الديوان، وعادت الحياة إلى ركودها. ورأى أن يتخذ الصيد مسلاة فما مرت أيام، حتى ضجر بالصيد ومل الركوب، ورجاه صديقه الحسن العلوي أن يمدح بني هاشم بقصيدة فسقط القلم من بين أنامله ولم يستطع أن يخط حرفا، ماذا جرى له؟ وما هذا الحنين إلى الغربة والانتقال؟ إنه اليوم بين أهله وولده يعيش في أرغد عيش وأرفه حال، فما هذا الضجر الذي ينتابه في كل حين؟ وما هذا النزوع إلى القلق والاضطراب في الأرض؟ إن من الناس من تتبعهم الراحة ويضنيهم طول الجمام، يجب أن يرحل عن الكوفة، ويجب ألا يحصره وطن، إن العباقرة لا وطن لهم أو إن وطنهم الأرض كلها. ولكن أين يذهب؟ لقد رجاه صديقه علي بن حمزة في أن يزوره ببغداد، ولقد توالت كتبه وتتابعت رسائله، وكان في هذه الرسائل ملحا ملحفا، فهو لا يريد أن يدفن أبو الطيب نفسه حيا بين عجائز الكوفة وشيوخها، وهو يضن بهذه الجذوة المتوقدة أن تخمد، وبهذا النبوغ النادر أن ينطفئ، وبهذا الشعر الرائع أن يجبل. ويقول: أن بغداد تتشوف إلى لقائه، وتمد أعناقها لترقبه من الخليفة ومعز الدولة والوزير المهلبي إلى صغار المتأدبين. فلم لا يذهب إلى بغداد؟ ولم لا يعلم دعاة الشعر فيها أن الشعر شيء غير نظم الكلام؟ ولم لا يلوح بشعره لمعز الدولة أو للمهلبي حتى يأتيا إليه حبوا؟ ولم لا يضرب من كانوا يتيهون عليه ويخدعونه كسيف الدولة وكافور ضربة قاصمة بما يناله من الحظوة وعظيم المنزلة عند معز الدولة؟ ولم يستبعد أن ينال من معز الدولة ما تصبو إليه نفسه من الولايات إذا أحسن التأتي وأتقن الخداع، وعرف الطريق إلى نفسه؟ يجب أن يذهب إلى بغداد غدا. نعم غدا يرحل إلى بغداد. ويفيق المتنبي من هذه الغمرات فيسمع صوته وهو ينادي محسدا، ويقبل محسد فيبتدره قائلا: قل لمفلح يعد الخيل والإبل فسنرحل غدا إلى بغداد. وتدخل فاطمة وعلى وجهها مسحة من الحزن لهول ما علمت من وشك رحيله، وتقول: أتطول هذه الرحلة يا سيدي؟ - لا أدري يا فاطمة، ولكني لن أتركك وحدك هذه المرة، فإذا اطمأن بي المقام ببغداد أرسلت مفلحا لإحضارك.
وجاء الغد وأعدت الركائب في الصباح، ووقف المتنبي وفي وجهه لمحات يختلط فيها اليأس بالأمل، فقبل زوجه ثم صاح في وديعة الله. وامتطى جواده وهو يردد:
ليس التعلل بالآمال من أربي
ولا القناعة بالإقلال من شيمي
ولا أظن بنات الدهر تتركني
حتى تسد عليها طرقها هممي
استفزاز
Bilinmeyen sayfa