خوف
حيرة
مخاطرة
ركود
استفزاز
رعونة
قتل
خوف
حيرة
مخاطرة
Bilinmeyen sayfa
ركود
استفزاز
رعونة
قتل
خاتمة المطاف
خاتمة المطاف
تأليف
علي الجارم
خوف
لم تشهد مدينة الفسطاط منذ أن دق عمرو بن العاص بها أطنابه كهذين الفارسين، وقد التفا بعباءتيهما السوداوين فزادا ظلمة الليل البهيم وحشة وإرهابا، وخطا بهما جوادهما في حذر وخشية، فلم يكن يتردد من أنفاسهما إلا ما يتردد من همسات النسيم الوادع يهز أطراف الغصون. اخترق الفارسان خضم الظلام كأنهما شبحان من أشباح الظلام، لا تكاد تحس لهما حركة أو تسمع ركزا، أو كأنهما تمثالان من صنع الفراعين الأولين سرت إليهما روح خافتة خامدة فبقيا على ما عهد فيهما من جمود إلا ما كان من يد تقبض على العنان، ورجل تثبت في الركاب. صمت وإطراق مخيفان حقا، وليل وهدوء مخيفان حقا، والهدوء في ذاته رفيق بالنفس، حبيب إليها، ولكنه إذا اقترن بالظلام كان مخيفا، وكان مبعثا للهواجس ومثارا للخيال الجامح الذي يخلق ما شاء من صور، ويبتدع ما أراد من تهاويل. وخير لك ألف مرة إذا لفك الليل في مكان موحش أن تسمع حولك صخبا وضوضاء من أن تسمع هدوءا وصمتا، إذا صح أن الهدوء والصمت يسمعان؛ ذلك لأن الهدوء مظنة المفاجأة والاغتيال، وهل قتل الصيد إلا ذلك الهدوء الذي يتصنعه الصائد لينقض؟ وهل فتك القاتل بفريسته إلا بعد أن خدعها بجو من السكون الشامل؟ وهل يسرت الفطرة للحيوانات الضارية سبيل الفتك إلا بتلك الأقدام اللينة التي لا تحس إذا مست الثرى؟
Bilinmeyen sayfa
سار الفارسان في صمت وإطراق، وظللهما الليل بصمته وإطراقه، فكان لا يرى إلا سراج خافت هنا وهناك يلمع في نافذة، ولا يسمع إلا طنين بعوضة أتخمتها الدماء، فأرسلت صوتا ضعيفا متقطعا، ولا يحس إلا رفيف خفاش عاد من بعض الحدائق بعد أن نال من ثمارها.
سار الفارسان هكذا صامتين جامدين فمرا بجامع العسكر، وكان أبو هلال السبكي مؤذن المسجد ينام فوق سطحه، واتفق أن أيقظه بعض الهوام، فبدرت منه التفاتة، فرأى الفارسين. وكان من بين كبار المخرفين يحتفظ إلى حفظه القرآن الكريم بثروة واسعة من أقاصيص الجن والشياطين، فما كاد يرى الفارسين حتى حملق وتمتم بكل ما وعى صدره من صنوف الاستعاذات والأدعية، فلما جاوزاه تنفس الصعداء، وأخذ يسكن رعدة هزت أوصاله، ويحدث نفسه في همس لم تسمعه أذنه: أفارسان هما؟ لا. إنهما لم يكونا فارسين، أنا واثق بذلك ثقتي بوجود هذه المئذنة القائمة. وأنى لفارسين أن يسيرا في هذا الليل الداجي، وفي ليلة يسكن فيها كل رجل إلى أهله ويهدأ ليستقل العيد مرحا نشيطا؟ إنهما لم يتحركا ولم يتهامسا فكيف يكونان رجلين؟ لقد رأيت بعيني شرارا يتطاير من أعينهما، ورأيت بعيني أنهما كانا يركبان أسدين لا حصانين. نعم لقد كانا أسدين ما في ذلك شك. لقد سمعت زئيرهما بأذني. ولقد اتجه أحدهما ببصره إلى أعلى كأنه أحس بمكاني فأخفيت وجهي خلف شرفات المسجد.
ويلي من هذه الأرواح الشريرة التي لا تدب إلا في حلك الظلام! وإلى أين كان يسير هذان الشيطانان؟ أغلب الظن أنهما لا ينتهيان إلى خير، أكان علي أن أصيح بملء صوتي حتى أوقظ النوام لينقضوا عليهما؟ لا. لو فعلت وتيقظ الناس لتسربا في الهواء، ولم يكن جزائي إلا أن أشتم وأرمى بالجنون. غدا أقص على الناس هذا الخبر الرائع، وسيكون حديث العيد، وسوف ينالني شيء من الخير كلما قصصته على من لهم ولوع بمثل هذه الأخبار.
ابتعد الفارسان عن جامع العسكر فمال أحدهما على صاحبه وقال هامسا: كيف نجتاز الباب الشرقي يا أبا الطيب؟ - هذا ما كنت أفكر فيه يا ابن يوسف، ومن العجيب أننا دبرنا كل شيء ولم يخطر ببال أحدنا أن الباب سيكون مغلقا، وأن الحارس قد يكون شريرا عنيفا. - لو كان الحارس شكسا صخابا لقضي الأمر وكتبت علينا الخيبة. - خل عنك اليأس يا ابن أخي، فإن من خصائص هذا الخنجر أنه يسكت الأصوات. - لن ألوث يدي بدماء الأبرياء. - إن من يقف في طريق عزيمتي لا يكون بريئا. فابتسم صاحبه ابتسامة ضاعت في الظلام، وقال: أخشى أن أقف في طريق عزيمتك. - لا تمزح يا خزاعي، فإنما نحن في جد عابس دميم. بم تشير إذا لم نقتل الرجل؟ - لقد اعتدت ألا أفكر في أمر إلا بعد أن أعرف ما يحيط به من شئون، وبعد أن ألتقي بصعابه وجها لوجه، فدعنا الآن من التفكير فلعل الله معقب فرجا.
كان المتكلم عبد العزيز الخزاعي زعيم العرب ببلبيس، وكان يخاطب صديقه وصفيه أحمد بن الحسين المتنبي، وقد عزم في تلك الليلة على الرحيل عن مصر والفرار من وجه كافور، بعد أن أقام أربع سنوات في ضيافة الأسود يمدحه بروائع الشعر، ويخلع عليه من صفات الجلال والبطولة ما يندر اجتماعه في إنسان. ولم يقصد كافورا إلا بعد أن خدعه عماله، أو خدع هو نفسه بأنه سينال عنده الحظوة الكاملة، والمنزلة الرفيعة، وأنه سيوليه إمارة تسكت صائح طموحه، وتشفي غلة نفسه، وترفعه من وهدة الشعراء المجتدين، إلى قمة الملوك الحاكمين. فأقام بمصر يتزلف إلى الأسود ويتملقه؛ ويضفي عليه حللا من الثناء لم ينسجها زهير لهرم بن سنان، ويثب بنسبه المجهول دفعة واحدة حتى يبلغ به ذروة معد بن عدنان. وقد أنفد الأسود حيله، فكان يستجديه ويسأله إنجاز وعده في لطف ووداعة، أو في خشونة وإلحاف. وكثيرا ما كان ييأس فيثور على كافور وعلى نفسه وعلى الناس جميعا، ويلعن الحظ العاثر الذي ساقه إلى مصر، وأوقعه بين براثن هذا الزنجي اللعين، ويبكي على أيام سيف الدولة وعلى سالف عهده بحلب، وما كان يتقلب فيه من نعيم في ظلال هذا العربي المجاهد الكريم الذي كان يفهم شعره، ويقدر مكانته، وينزله بين سمعه وبصره، ولكنه بطر وأشر فلاقى جزاء البطر والأشر. سخط على الجنة التي كان ينعم فيها بوارف من العيش هنيء، فخرج منها مذءوما شريدا، فساقه النحس وقاده نكد الطالع إلى جحيم تأجج فيها الخلف والكذب والمطل والخديعة والرياء. إلى جحيم يرى فيها نفسه وهو العربي العزوف، والشريف الأنوف، الذي تصغر في عينه العظائم، ويرمي بعزيمته إلى أبعد مطارح الآمال، مدفوعا إلى أن يقول للقرد: أنت آية الجمال ، وللكلب: أنت العزة في تمثال، ولابن آوى أنت صفوة الصحاب، وللثعبان أنت ملح اللمى عذب الرضاب. وأن يقول لكافور:
أنت شمس أنت بدر
أنت نور فوق نور
إلى جحيم أحرق فيها آماله ومطامحه وعزته وشممه، وهدم فيها كل مجد بناه، وشرف أثله وأعلاه، وأصبح من سوقة الناس شاعرا مستجديا بغيضا، يرمي إليه العبد بفتات موائده، ويلزمه أن يقول بكل لقمة يزدردها بيتا من الشعر في وصف آلائه الحسنى، وآيات عظمته الكبرى. إلى جحيم سلط فيها كافور عليه زبانيته ينتقصونه ويزدرونه ويتجسسون عليه، فلا ينطق بكلمة إلا وهي في كتاب، ولا يخطو خطوة إلا ولها عندهم حساب.
ضاق المتنبي بمصر واختنق بعد أن رأى أنه فقد فيها كل شيء، ولم يحصل على شيء. وبعد أن رأى شبابه يولي قبل أن يبلغ من الدنيا مأربا، وغصن عوده يذوي وتسقط أوراقه جافة يابسة كما تسقط أوراق الخريف إذا عصفت بها الرياح، وبعد أن رأى الشر يلمع في عيني كافور، ورأى النمر يستجمع للوثوب، والصل الأسود يقترب منه رويدا رويدا ليقبله قبلة الوداع، وبعد أن تواترت إليه الأخبار بأن كافورا ووزيريه ابن الفرات وأبا بكر بن صالح يعدون الفخ لاصطياد الطائر الطموح المغرور، وبعد أن جلس الجواسيس والعيون حيال داره لا يفارقونها في صباح أو مساء.
ضاق المتنبي بمصر واختنق حينما تنكر له أهلها، وناصبه العداء علماؤها، ومشى له الضراء شعراؤها، وأصبح شعره فيها سخرية في كل مجلس، ومتندرا في كل سامر. ولو لم يخفف الله عنه هذه البلوى بحب عائشة بنت رشدين وصادق وفائها وحلو حديثها، وبإخلاص أخيها صالح وكريم حفاوته، وبمودة عبد العزيز الخزاعي، ورعاية إبراهيم العلوي، لبخع نفسه الحزن، ولقضى عليه الهم، ولذهبت نفسه في الهالكين. كان يحب عائشة، وكانت تحبه حبا عذريا قدسيا شريفا يناغم عزتها وكرم أرومتها، ويساوق شرفه وأنفته. وكان يزور بيت أخيها بين الحين والحين، فيجد في حنوها الجنة والنعيم، وكثيرا ما كان يضم المجلس الشريف إبراهيم العلوي والشاعر ابن أبي الجوع وشيخ العرب عبد العزيز الخزاعي .
Bilinmeyen sayfa
وكان للمتنبي بصيص من أمل في أبي شجاع فاتك، وهو من كبار قواد دولة الإخشيد، ولكن الموت عاجله فأطفأ آخر وميض لمطامع الشاعر، وتركه مع كافور يتنازعان البقاء، ويتباريان في فنون الدهاء والرياء.
لم يبق إذا لأبي الطيب عيش بمصر، ولم يبق له إلا أن يرحل وأن يرحل سريعا، فقد ينطبق عليه الفخ في أية لحظة، وقد تنقض عليه الصاعقة وهو يتأمل في جمال الأفق. ولكن ماذا يصنع وقد نصب له الأسود الأرصاد، وبث خلفه العيون، وعقد العزم على أن يحتبسه بمصر وألا يدع له إلى الفرار سبيلا؟ فقد كان العبد يخشى عاقبة فراره. وكان يخاف بعد أن أذاقه عذاب الهون بمصر أن ينطلق لسانه بهجائه إذا استدبر الفسطاط، وأن يجعل من اسمه سبة الأبد، وأضحوكة الأجيال.
ضاقت الدنيا في وجه المتنبي، ورأى أن حبل كافور أخذ يقترب من رقبته رويدا رويدا، فدبر مع أصدقائه أن يفر من مصر ليلة عيد الأضحى من سنة خمسين وثلاثمائة، وأن يساعده على الفرار صديقه عبد العزيز الخزاعي، وأن يرحل ابنه وعبيده عن مصر قبل فراره بأيام.
وقد تمت المؤامرة ونفذت دون أن يخرم منها حرف، وتسلل الشاعر في هذه الليلة من داره في صحبة صديقه الخزاعي بعد أن ترك تحت غطاء سريره ورقة كتب بها قصيدة في ذم كافور نفث فيها سمه، وشفى غليل صدره، ولطخ كافورا بهجاء مر مقذع يمحي جلده الأسود ولا يمحى، وتزول بشاعة وجهه ولا يزول، ورماه بسخرية لاذعة وكلم ممض أصغت إليه الآفاق، وتداولته الأزمان وتندرت به الأجيال، وبقى بقاء الشمس، وترك للعبد ذكرا خالدا لو كان يطمع في مثل هذا الخلود. ولا يزال أبناؤنا وبناتنا وشبابنا وشيبنا ينصتون في شغف وشوق إلى:
عيد بأية حال عدت يا عيد
بما مضى أم لأمر فيك تجديد؟
فيضحكون ويطربون.
خرج المتنبي في هذه الليلة من الفسطاط فارا من وجه كافور ومعه صاحبه الخزاعي، فلما اقتربا من الباب الشرقي ألفيا عنده رجلا ضخما مفرطا في الطول، قوي العضل، موثق الخلق، كأنه صخرة نحتت على هيئة الرجال. ولم يكن فراج القوصي حارس الباب، ولكنه كان ينوب في هذه الليلة عن زوج أخته علقمة السباعي، الذي أراد أن يرفه عن نفسه ليلة العيد بالراحة وبعض اللهو، وكان فراج على قوة جسمه ضعيف العقل خامد الإدراك، ساذجا إلى حد البلاهة، عنيفا إلى حد الجنون، كأنه الهر المستوحش لا تراه إلا متنمرا متوجسا، نشأ في أعلى الصعيد ببلدة قوص نشأة جافية، بين جهل وبداوة وشظف في العيش، فلم تعطف عليه إلا بقليل من الإدراك لا يخرجه من نطاق الحيوان الأعجم إلا بشق الأنفس وبعد لأي وجهد. كان بقوص يرعى الماشية ويعيش معها: يأكل مما تأكل، ويشرب مما تشرب، ويسبح في النيل كما تسبح، وينام حيث تنام ويفهم لغتها وتفهم لغته، ولم يكن بينه وبينها من الفروق إلا أن هذا قائم يمشي على رجلين. وتلك متطامنة تمشي على أربع. وإن أحدا لا يدري إلى الآن أمنها أخذ عقله أم منه أخذت عقلها؟ ولكن الناس كانوا يرون قطيع الجاموس وفيه فراج فيظنونه مالا سائبا، وكانوا في أحيان قليلة يرون فراجا وحده، فيعجبون كيف شرد هذا الحيوان عن القطيع، وكيف ترك هكذا هملا؟ وكان شباب القرية ومجانها كثيرا ما يتندرون به ويهارشونه: جلسوا مساء يوم عند شاطئ النيل، وقد جاء ليسقي قطيعه ويشرب، فسأله خبيث منهم معاجزا: كم عدد قطيعك يا فراج؟ فوقف ذاهلا وقد فتح فاه، ثم بدا على وجهه الجد، وقال في تلعثم: عدد القطيع؟ وماذا أريد من عدد القطيع؟ إنه يأكل ويشرب وكفى. - لو سرق سارق إحدى هذه الجواميس، أكنت تعرف إذا لم تعرف عددها؟ - أعرف كل شيء، والذي أعرفه أكثر وأكثر أن سارقا لو جرؤ على أن يمد يده إلى جاموسة منها لشربت دمه شربا. ثم نظر إلى سائله في سخرية وتحد، وقال: على أن عددها من أيسر الأمور وأهونها، فهذه واحدة، وهذه واحدة، وهذه واحدة ... - كم واحدة إذا؟ فأسرع بعض الشبان ساخرا، وقال: الله سبحانه وتعالى أعلم، فالتقطها فراج في عجلة واغتباط كأنه ظفر بالقول الفصل والرأي القاطع، وصاح في جذل: الله سبحانه وتعالى أعلم.
طلب الخزاعي من فراج في رنة الآمر وعظمة الواثق أن يفتح الباب، فنظر إليه فراج وأخذ يصعد فيه بصره ويصوبه، ثم فتح الله عليه بكلمة فقذف بها في سرعة حتى لا ينساها، وقال: إني لست حارس الباب. - من أنت إذا؟ - أنا فراج. فعلم الخزاعي أن في الرجل بلاهة، وأن عليه أن يسير في الأمر على نحو لا ينفر منه ضعاف العقول. فقال: أهلا بفراج! أين المفتاح يا فراج؟ - ماذا تريد من المفتاح؟ إنه في هذه الكوة، ولكن علقمة أمرني ألا أفتح لأحد. - صحيح، إن علقمة رجل أمين ذكي شديد الحذر، وقد عرف كيف يختار رجلا مثلك أمينا ذكيا شديد الحذر، غير أنه من المحقق أنه أمرك ألا تفتح لأحد يجيء من خارج المدينة، ثم يطرق الباب طالبا الدخول إليها، فإن في ذلك خطرا عظيما، إنها تكون مصيبة داهمة حقا أن يدخل المدينة عدو. ولكنه لا يعقل أن يأمرك بألا تفتح الباب لأي رجل يريد الخروج من المدينة، الخروج من المدينة يا فراج غير الدخول إليها، أين تسكن يا فراج؟ - أسكن في حارة الحمالين بجانب الجبل. - هل بحجرتك فيران؟ - كثير جدا. - عظيم، أإذا أراد فأر في حجرتك أن يخرج منها إلى الحارة أكنت تأبى عليه أن يخرج؟ فابتسم فراج ابتسامة جعلت فمه يتصل بأذنيه كأنه فهم معضلة من أعقد مسائل الفلسفة، وقال: لا. يجب أن يخرج، إن الخير في أن يخرج. - إنك رجل متوقد القريحة. وإذا أراد فأر جديد أن يدخل حجرتك فهل تسهل له سبيل الدخول؟ - لا. أبدا. - هكذا نحن يا فراج. نحن سنخرج، وليس في ذلك أي حرج، ولا يمكن أن يكون علقمة نهاك عن أن تخرج أحدا. - إن كلامك صحيح معقول، ولكن يبقى أن علقمة أمرني ألا أفتح الباب، وهو لم يذكر دخولا ولا خروجا، ولكنك تجيء الآن فتربك عقلي بمسألة الدخول والخروج، وأظن الأحوط لي أن أثبت على أمر صاحبي، فاذهب عني بالله عليك فقد أتعبت عقلي بالحجرة والفيران، وبمشكلة الدخول والخروج، إن أمي حينما أرسلتني إلى الفسطاط لأشتغل بنقل الأحجار للدار التي بناها مولانا كافور، أمرتني أن أطيع علقمة وألا أخالف له أمرا، فاذهب إلى شأنك يا رجل، وبعد قليل يؤذن الفجر، وينبسط النهار، ويجيء علقمة، وهو أعلم مني بمعنى الدخول والخروج.
فظهر الألم على وجه الخزاعي، ورمى بنظرة نحو فراج، ثم أرسلها نحو المتنبي، وكان في هذه النظرة كثير من العجب والدهش والحسرة، وكأنه على سرعة وميضها كانت تقول: أحياة هذه العبقرية الضخمة، وذلك النبوغ الخارق أصبحت معلقة بكلمة يقولها هذا الغر الأبله الذي لا يعقل ولا يبين؟ أذلك العقل الهبرزي، والذهن الوقاد، رمى به نحس الطالع إلى أن يستجدي بسمة رضا من هذا الحيوان الجاهل المعتوه؟ أليس من أضاحيك القدر ومبكياته، أن يقف المتنبي، وهو الفارس الكرار، والبطل المغوار، الذي ملأ خياشيمه غبار الوقائع، ذليلا مستعطفا أمام ذلك الممرور الأحمق، والرعديد المائق؟ أليس من خرف الزمان، وجنون الأيام، أن يخضع الشعر، وتطأطئ الفلسفة، وتتضاءل الحكمة، ويذل المثل الشرود، لهذا الغبي العيي المأفون؟ أهذه تصاريف القدر التي يسمونها؟ أهذه أحكام الفلك الدوار التي يجب أن نقتنع بها راضين أم ساخطين؟
Bilinmeyen sayfa
وما كادت تعود إليه نظرته حتى همس المتنبي في أذنه قائلا: دعني أقتله يا ابن يوسف. - اصبر قليلا فالأمر لا يستحق كل هذا، وليس هو من نوع الشرف الرفيع الذي يجب أن يراق على جوانبه الدم.
وما كاد يتم قولته حتى سمعت خطوات أخذت تقترب قليلا قليلا ظهر من ورائها رجل شعشاع يحمل في يده هراوة طويلة غليظة، ويلبس ثياب العسس. فأخذت قلب الخزاعي رعدة، وغاله ارتباك وذعر، ولكنه جمع إليه نفسه، وقال: وهذا أحد العسس يا فراج وهو يستطيع أن يفهم ما نقول. فاهتز العاس لهذا الثناء الضمني على ذكائه وعبقريته، وقال مبتسما: ما الأمر؟ - الأمر في غاية السهولة واليسر، أنت تعرف يا ... يا ... فأسرع العاس قائلا: شماخ الأحول. - أنت تعرف يا شماخ أن مولانا كافورا أمر بضرب دنانير جديدة، وأمر أن يرسل قدر منها إلى عامله بالرملة ولا بد أنك تعرفه يا شماخ. فابتلع شماخ ريقه، ورأى من واجب العظمة والذكاء وكرامة المنصب أن يكون يعرفه، فقال: نعم ... نعم ... أعرفه. - إنه الحسن بن طغج. - نعم الحسن بن طغج بلا شك، إنه الحسن بن طغج. - وأنت تعرف يا شماخ أمر عصابات اللصوص الذين تمتلئ بهم هذه المدينة. فهز شماخ رأسه مزهوا حين رأى انسياق الحديث إلى شأن يستطيع الكلام فيه، وقال: اللصوص يا سيدي؟ إنهم كثيرون منتشرون في أنحاء المدينة، وكبيرهم مسافر بن طلحة، وهم يا سيدي من قبائل القيسية، يضربون خيامهم بأهناس، وهي كورة إلى الجانب الآخر من النيل تقرب من الفسطاط، ولا تخلو ليلة من سرقة أو نهب أو غاراة. كنت أمر ليلة أمس بزقاق القناديل فرأيت باب إحدى الدور مفتوحا، فعجبت للأمر، ودخلت الدار فلم أسمع بها حسا، فلما اقتربت من دهليزها رأيت رجلا مكموما مكتوفا ملقى على الأرض، فتأملته فإذا هو إسحاق الجوهري اليهودي، وهو رجل شحيح جديب الكف جماع مناع، لو عرف أن فوق مناط الثريا درهما لطار إليه، وهو يعيش وحده في هذه الدار، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، ولا يؤنسه في وحشته إلا أكداس من المال والجواهر، فأسرعت بحل وثاقه وفك كمامته، وعلمت بعد جهد أن اللصوص سطوا على داره، وأخذوا كل ما فيها من جواهر وتركوه جثة خامدة بين الموت والحياة. إن سرقة كهذه يا سيدي لا يجرؤ عليها إلا مسافر ورجاله. وخاف الخزاعي أن يسترسل هذا الثرثار في الانطلاق في أقاصيص السرقات التي يكاد يخطئها العد، فقال: أراد مولانا كافور أن يرسل أكياسا من الدنانير الجديدة إلى صاحب الرملة، ووكل إلينا السفر بها فكتمنا الأمر خوفا من اللصوص، وعزمنا أن نسير خفية تحت جناح الليل حتى لا يشعر بنا أحد منهم، فيتعقبنا في طريق الصحراء مع بعض رجاله، ويغتصب منا ما نحمله. - هذا رأي حازم يا سيدي، ونعم والله ما فعلت. هؤلاء اللصوص يا سيدي ... وخاف الخزاعي أن يندفع الرجل إلى أحاديث اللصوص وأفاعيلهم، فأسرع ومد يده إليه بدينار، وقال: وهذا نوع الدنانير التي أخرجتها دار الضرب حديثا. فوثب فراج وأخذ الدينار ونظر فيه، وقال هازئا: وهذا درهم أصفر! فمد شماخ يده واختطف الدينار وحملق فيه بشره ونهم، وقال: تبا لك من أبله ممرور. إن الدرهم لا يكون أصفر أيها الجاهل. إن الدرهم من فضة، والفضة بيضاء، أما الدينار من ذهب، والذهب أصفر. أعرفت أيها الغبي؟ إنه دينار كافوري جديد، وهو يساوي في قيمته خمسة دنانير.
وحينما لمح الخزاعي الجشع في عيني شماخ لمح معه الفرصة المواتية، فقال: فإن هذا الدينار هبة خالصة لمن يسبق منكما إلى فتح الباب. وما كاد يفرغ من قوله حتى وثب شماخ إلى الكوة، وأسرع فالتقط المفتاح وأدخله بغلق الباب وأداره فانفتح، ثم هز يده بالدينار وصاح: اخرجا أيها السيدان.
فأسرعا إلى الباب، وصاح الخزاعي جذلان فرحا: لقد استحققت الدينار يا شماخ! هكذا الشهامة! وهكذا البطولة!
وبقي فراج ينظر إليهما مذهولا دهشا واجما، وهو لا يعرف ما جرى، ويستنجد عقله ليعرف أول الأمر وآخره فلا ينجده، ولم يبق في ذهنه من كل هذه المسألة المعقدة إلا أن الدرهم يجب أن يكون أبيض، وأن الدينار يجب أن يكون أصفر.
وانطلق أبو الطيب والخزاعي كأنما أطلقا من عقال. وجعل المتنبي ينظر من بعيد إلى فراج وشماخ وينشد:
أفاضل الناس أغراض لذا الزمن
يخلو من الهم أخلاهم من الفطن
وإنما نحن في جيل سواسية
شر على الحر من سقم على بدن
Bilinmeyen sayfa
حولي بكل مكان منهم خلق
تخطي إذا جئت في استفهامها بمن
لا أقتري بلدا إلى على غرر
ولا أمر بخلق غير مضطعن
ولا أعاشر من أملاكهم أحدا
إلا أحق بضرب الرأس من وثن
حيرة
أخذت تباشير الصباح تبدو في الشرق كأنها نهر من نور تتهامس أمواجه، ويتلألأ فوقها حبابه، وآذن زنجي الليل بالرحيل فطفق يقتطف أزهار النجوم، فلم يترك إلا واحدة بقيت في الأفق لماعة وهاجة خفاقة، كأنها ترتعد فرقا من أن يغرقها سيل الصباح. وزجر الفارسان جواديهما فانطلقا مع الرياح كأنهما من الرياح، وانجردا كأنهما القضاء المنقض ليس له مرد ولا عنه محيد. وصبا السوط عليهما ظالمين فانصبا كما ينصب السيل هدارا عجاجا لا يقف في طريقه شيء، ورميا بطرفيهما إلى البعيد فأصبح قريبا، وكأنما أعدى عدوهما الأشجار والنخيل فعدت معهما إلى حيث يقصدان. وعجبت الطيور في السماء أن يكون منها طيور ذات قوائم، وعبس وجه الأفق بعد أن كاد غبارهما يسد معاطس الأفق، وشكت الأرض من ضرب سنابكهما المتلاحق، وظنت أنها تلاقي جزاء زلتها في أن ترضى بأن تكون أما لهذا الإنسان الذي خلق من طين!
أشرقت الشمس على الفارسين كأنها قرص من الذهب النضار، وبعثت إلى الكون نورا وحياة كعادتها في كل يوم، وهي لا تعرف ماذا يفعل الناس بالنور والحياة، ولا تعرف أن الحياة التي تمنحها فيها معنى الموت وفيها معنى الفناء، ولكن ما شأنها هي بمن يعيش أو بمن يموت؟ إنها سراج إلهي يستضيء به من أراد أن يستضيء، إنها تضيء للأعمى، وتضيء للبصير، وتشرق على البار والفاجر، ولكنها على أي حال خير من السحب البله التي تترك الرياض الظمأى، وتصب ماءها مدرارا على الأراضي السبخة التي لا تخرج زرعا ولا تنبت بقلا، وهي خير ألف مرة من الحديد الذي يخدم الإنسان ويقتله.
وأشرقت الشمس على الفارسين فكفكفا من عناني فرسيهما بعد أن جاوزا الفسطاط بأميال، وبدت الزروع والكروم والنخيل يداعبها النسيم، فينفض عنها غشية النعاس، واستيقظت القرى والدساكر ودب فيها ضجيج الحياة، بين ترنيم الطيور، وصياح الديكة، وبين ثغاء وخوار ونباح. وكان كل شيء في الكون مشرقا بساما، وكان كل شيء ضحوكا مرحا، وكان كل شيء يسطع بفطرته النقية على ما حوله فيزيده تألقا وابتهاجا، حب وسلام وجمال، هكذا خلق الكون ليكون، وهكذا يجب أن يكون، ولكن الإنسان المشئوم الشقي بنفسه ومطامعه، يقلب هذا الحب عداء وشكاسة، وهذا السلام حربا وصراعا، وهذا الجمال قبحا ودمامة. كان كل شيء في الكون جميلا مشرقا إلا المتنبي، فإنه كان واجما عابسا منتفخا بالشر مشحونا بالبغضاء، ناقما من الكون ومن كل من في الكون، يشكو ويهمهم:
Bilinmeyen sayfa
أما في هذه الدنيا كريم
تزول به عن القلب الهموم؟
أما في هذه الدنيا مكان
يسر بأهله الجار المقيم؟
تشابهت البهائم والعبدى
علينا والموالي والصميم
وما أدري أذا داء حديث
أصاب الناس أم داء قديم؟
كأن الأسود اللابي فيهم
غراب حوله رخم وبوم
Bilinmeyen sayfa
أخذت بمدحه فرأيت لهوا
مقالي للأحيمق: يا حليم
ولما أن هجوت رأيت عيا
مقالي لابن آوى: يا لئيم
فهل من عاذر في ذا وفي ذا
فمدفوع إلى السقم السقيم؟
إذا أتت الإساءة من وضيع
ولم ألم المسيء فمن ألوم؟
فالتفت إليه الخزاعي في ألم وحسرة قائلا: هون عليك أبا الطيب، فإن نجاتك من الأسود حياة جديدة، ولا يزال في العمر مقتبل، ولا يزال لآمالك مسبح في هذا الكون المضطرب بالآمال، وإن مثلك من اتخذ من الإخفاق سلما، ومن الهبوط ذريعة إلى الصعود. والتجربة عقل ثان، وإن لك من شعرك ورصين خلقك وبعيد طموحك ما يغزو لك الدنيا ويذل الأمراء. انظر أبا الطيب، إنك لم تفقد شيئا بل لقد ربحت كثيرا، نزلت على كافور فتغفلته واستوليت على كثير من ماله، ثم فررت منه كما يفر الماء من خلال الأصابع، ثم أرسلت هجاءه في الآفاق تتناوح به الرياح، وتسير به الركبان، ويتغنى به الصبيان، ويتنادر به السمار، وسيبقى على الزمن أضحوكة الزمن، وأقسم غير حانث إن هجاءك لأشد على الأسود من وقع السهام في غبش الظلام، وإنه ليود بجدع الأنف لو تخلى عن بعض ملكه ولم يفوق إليه شعرك المسموم قافية. لم تندب يا أبا الطيب؟ لقد ألقيت على أمراء هذا الزمان بهجائك كافورا درسا لن ينسوه، فإذا خسرت اليوم أميرا فلقد كسبت أمراء، إنهم يعطون إذا رغبوا، ولكنهم إذا رهبوا أعطوا أكثر وأكثر، وهم يحبون المديح ويثيبون عليه، ولكنهم يبغضون الهجاء ويثيبون على دفعه عنهم أضعافا وأضعافا، وقد عرف ذلك قبلك اللئيم بشار فكان يقول: إن الهجاء أجلب للمال وأرفع لقدر الشاعر من المديح. اذهب الآن أبا الطيب حيث شئت تجد كل أمير يسارع إلى لقائك، ويحتفل بمقدمك، ويقبل الأرض بين يديك، ويفتح لك خزائن ملكه. وأكبر الظن أن سيف الدولة ينتفض منك الآن فرقا، ومعز الدولة ببغداد يتحرق لقدومك عليه شوقا، وعضد الدولة بفارس يود لو يحملك إليه السحاب، أفق أبا الطيب ما هذا الحزن؟ وما هذا الوجود؟ إن من يراك يظن أنك فقدت عرشا أو سلبت سلطانا، إنك تملك الكون كله بشعرك، إن الأرض كلها لك مغدى ومراح، وإن من كانت له عبقريتك وعزيمتك يجب أن يسمو فوق الأشخاص ويرتفع فوق الشهوات، ويطل على الناس من سماء مجده كوكبا منيرا. - هذا كلام أشبه بالشعر يا ابن يوسف لا يثبت على النظر، ولا يقوى على البحث، فلقد فقدت بقدومي على العبد كل شيء: فقدت شبابي، وفقدت آمالي، وفقدت كرامتي، ودنست اسمي بين الشعراء. إنني نشأت في أول أمري شاعرا أقرض الشعر فيمن يستحق ومن لا يستحق، وكانت جوائزي لا تتجاوز بضعة دراهم، فلما منحت مرة دينارا على قصيدة من خير ما تنفس به الشعر العربي، توهمت أني لمست السماء، وقطفت عنقود الجوزاء. وكم لاقيت عسرا، وكم لاقيت عنتا، وكم قاسيت مسغبة وفقرا، وكم أطرقت للذل، وشربت المر، وبليت بقوم هم شر على الحر من سقم على بدن، ولكني كنت أزجر النفس إذا سئمت، وأروضها إذا نفرت، وأتواضع لجبروت من أمدحهم، وأصدق أكاذيبهم، وأضحك لنوادرهم الغثة الباردة، وحينما بلغت بدر بن عمار توهمت أني بلغت القمة، واقتعدت سنام الشرف. - بدر بن عمار الذي تقول فيه؟
لو كان علمك بالإله مقسما
Bilinmeyen sayfa
في الناس ما بعث الإله رسولا
لو كان لفظك فيهم ما أنزل ال
فرقان والتوراة والإنجيلا
لو كان ما تعطيهم من قبل أن
تعطيهم لم يعرفوا التأميلا
لقد أغرقت أبا الطيب وجاوزت النطاق، وهذا شأنك دائما إذا رضيت. - وأغرق أيضا وأجاوز النطاق إذا سخطت. ظننت أني بلغت القمة عند بدر بن عمار هذا، وكان فتى عربيدا سكيرا ماجنا، ولكنه كان جوادا متلافا، فرضيت بحظي منه، وقنعت بجنته المحفوفة بالمكاره، ولكن حسادي تيقظوا حين نمت، وثاروا حين سكنت، وأفسدوا بيني وبين الأمير، فلم أجد وسيلة إلا أن أفر منه وأن أتخذ الليل مركبا، وأترك عنده آمالا لم تتفتح أزهارها، ولم تزغب أطيارها، وكانت هذه الخيبة الأولى، أما الخيبة الثانية، وهي التي لا أزال أقرع عليها السن، وأعض الأنامل، فهي خصومتي لسيف الدولة وإدلالي عليه أشرا وبطرا، وجفوتي لما كنت فيه من النعيم جنونا وخرقا، ومعاداتي لأهله وحاشيته تجبرا وكبرا، حتى ضاق بي وحق له أن يضيق، وتبرم بمقامي وأجدر به أن يتبرم، فنبت بي حلب وخرجت منها ليلا كما يخرج اللص المطارد. ولطالما نصح لي راويتي أبو الحسن بن سعيد بألا أترك سيف الدولة أو أبغى به بديلا من ملوك الأرض، وكأني أسمع الآن نبرات صوته في أذني، وهو يقول: «إنك الشاعر الذي بعث على رأس هذا القرن لينهض بالعرب، وليغني بمآثر العرب، وليعيد مجد دولة العرب، ولن أجد لك ميدانا بين دويلات الإسلام أوسع من حلب، ولا ملكا يساير رنين شعرك صليل سيوفه إلا سيف الدولة، إنه الملك الفذ الذي يقارع الروم، والحرب يا أبا الطيب لن تسير غازية فاتحة مظفرة إلا عن ألحان من الشعر الحماسي، الذي يلهب الوجدان، ويقذف الرعب من قلب الجبان». هكذا كان يقول ابن سعيد فما سمعت له ولا اكترثت بقوله. - حقا لقد بلغت ذروة مجدك الشعري عند سيف الدولة، وكنت والله جديرا بأن تقول:
وما الدهر إلا من رواة قصائدي
إذا قلت شعرا أصبح الدهر منشدا
فسار به من لا يسير مشمرا
وغنى به من لا يغني مغردا
Bilinmeyen sayfa
وحقيقا بأن تقول:
وعندي لك الشرد السائرا
ت لا يختصصن من الأرض دارا
قواف إذا سرن من مقولي
وثبن الجبال وخضن البحارا
ولقد صدق ابن سعيد فإن شعرك كان جندا لسيف الدولة أقوى من جنده، وسلاحا أمضى من سلاحه، فمن غيرك كان يستطيع أن يصف الجيش، وصاحبه كما قلت:
خميس بشرق الأرض والغرب زحفه
وفي أذن الجوزاء منه زمام
تجمع فيه كل لسن وأمة
فما يفهم الحداث إلا التراجم
Bilinmeyen sayfa
وقفت وما في الموت شك لواقف
كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة
ووجهك وضاح وثغرك باسم
تجاوزت مقدار الشجاعة والنهى
إلى قول قوم: أنت بالغيب عالم
ضممت جناحيهم على القلب ضمة
تموت الخوافي تحتها والقوادم
بضرب أتى الهامات والنصر غائب
وصار إلى اللبات والنصر قادم
Bilinmeyen sayfa
هذا أفق لم يحلق فيه شاعر، وأوج لم يصدح بجوه طائر. - لا تثر أشجاني بالله عليك يا ابن يوسف، ودع جرح قلبي يندمل. فإن الذكرى تزيده ألما ونغلا. أين أنا من سيف الدولة الآن ومن أيامه النضرات، ولياليه المشرقات؟ تركت هذا الملك الحر الكريم المجاهد يا ابن يوسف، ثم قصدت من؟ قصدت كافورا الزنجي الخبيث النتن الكذاب الماكر المحتال، فجزاني الله على كفري بالنعمة، وألقى بي في عذاب الجحيم بعد أن بطرت على الجنة، ولقد كان أبو الحسن بن سعيد صادقا أيضا حين كان يجذبني من كمي، ويقول: «احذر يا أبا الطيب. فإنه قد يجول بخاطرك أن تذهب إلى مصر، وإني أربأ بك أن تفعل هذا، وأن تجعل من نفسك عبدا للعبد الأسود، ويا لضيعة الشعر. ويا لضيعة الأدب. إذا انحدرا إلى هذه الهاوية». ولكني لم أطعه، وساقني الغرور إلى مصر، وعقدت الآمال بالكذاب الفاجر، وها أنذا أفر اليوم منه كما يفر الطائر من الفخ مهيض الجناح ممزق الأوصال. كأن حياتي أصبحت كلها فرارا، وكأنه كتب على ألا ألقى ملكا إلا فارا من ملك، وألا أودع ممدوحا إلى بمثل ما قلت في كافور. - تقصد «الدالية»؟ إنها قصيدة خالدة على الدهر، ولكن دعك من كافور الآن ووجه همك إلى ما سيكون من أمرك، وما ستتفتح به لك الأيام. - لن أترك كافورا، ولن أكفكف عنه سهام شعري، وستشرق عليه شمس كل صباح بصاعقة جديدة تهز أعواد عرشه. ولعلك لا تصدق يا ابن يوسف أني كنت أقول فيه شعرا حينما كنت تحاور فراجا حارس الباب. - عجيب أمرك يا أبا الطيب، وويل لمن يبتلى بلسانك المر. - كنت أقول:
أريك الرضا لو أخفت النفس خافيا
وما أنا عن نفسي ولا عنك راضيا
أمينا وإخلافا وغدرا وخسة
وجبنا، أشخصا لحت لي أم مخازيا؟
تظن ابتساماتي رجاء وغبطة
وما أنا إلا ضاحك من رجائيا
وتعجبني رجلاك في النعل، إنني
رأيتك ذا نعل إذا كنت حافيا
ولولا فضول الناس جئتك مادحا
Bilinmeyen sayfa
بما كنت في سري به لك هاجيا
ومثلك يؤتى من بلاد بعيدة
ليضحك ربات الخدور البواكيا - هذه صفعات بالنعال لمحض المداعبة. - وستليها صفعات إن كان في الحياة متسع، لقد أهدر هذا الأسود مجدي الشعري كما قلت لك آنفا، وسوف أضطر إلى أن أبدأ بصعود السلم من جديد، فقد كان ملوك العرب يحيطونني بهالة من الهيبة والإجلال، ويظنون أني أحمى أنفا، وأعظم منزلة، وأسمى كرامة، من أن أتدلى إلى مدح العبد، وأن أشد رحالي إليه، وأن أتسلب من المروءة والرجولة فأبيع شعري بالمال لحبشي دعي في نسبه دعي في ملكه، وأن أترك صناديد العرب وأبطالهم يجاهدون فلا يصف وقائعهم واصف، ويبذلون فلا يسجل محامدهم شاعر. فكيف أذهب إليهم الآن يا ابن يوسف؟ إنني إن ذهبت فسوف توصد في وجهي أبوابهم، وأذاد مذءوما عن حضرتهم، وسيقولون متهانفين ساخرين: شاعر أفاق مهين، لا نفس له ولا كرامة، لو وجد في عنق كلب طوقا لمدحه، ولو رأى في جيب بغي درهما لخلع عليها كل صفات الطهر والعفاف. وماذا نبغي من مديح رجل كان يقول للعبد بمصر:
ويغنيك عما ينسب الناس أنه
إليك تناهى المكرمات وتنسب
وأي قبيل يستحقك قدره
معد بن عدنان فداك ويعرب
ويقول فيه:
عند الهمام أبي المسك الذي غرقت
في جوده مضر الحمراء واليمن
Bilinmeyen sayfa
إننا نريد شاعرا يصدقه الناس ويوقنون أنه لا يقول للمال ولكن للزعامة القومية، والحمية العربية، والغيرة على الإسلام. هكذا سيقول ملوك العرب يا ابن يوسف ولهم الحق فيما يقولون، وليس الأمور كما تظن من أن هجائي كافورا سيخيفهم، بل إنه سيجرئهم علي ويزهدهم في وفي شعري؛ لأنني أصبحت شاعرا ليس لقوله وزن، ولا لحكمه تقدير، شاعرا لا يمدح للحق ولا يهجو للحق، وإنما يمدح ليسخر من ممدوحيه؛ ويهجو لأنه يئس منهم؛ أو لأنه امتص كل ما لديهم وراح يبحث في الأفق عن صيد جديد أسمن منهم وأدسم. خبرني بالله يا ابن يوسف، بأي وجه ألقى الآن سيف الدولة بن حمدان، بعد أن خاصمته وناوأته ونافرته؟ إنني رجل أحمق يا ابن يوسف، إذا تملكتني حمى الغضب قذفت الكلام يمينا وشمالا، وبدرت مني بوادر يحتبسها الحازم الحذر فلا يتحرك بها فوه، إنهم يسمونني الشاعر الحكيم، ولكن يظهر أنني أنثر حكمتي على الناس وأنسى نفسي، وأنني كبائع الجوهر يحلي صدور الحسان وهو متسلب عاطل، وإلا فما الذي كان دعاني بعد أن بعدت عن سيف الدولة وانقطع ما بيني وبينه، أن أعرض به عند مديحي للأسود، فأقول:
قواصد كافور توارك غيره
ومن قصد البحر استقل السواقيا
فجاءت بنا إنسان عين زمانه
وخلت بياضا خلفها ومآقيا - هذا صحيح، فقد جعلت كافورا بحرا، وجعلت سيف الدولة ساقية، وجعلت الزنجي إنسان عين الزمان، وجعلت سيف الدولة بياض العين الذي لا غناء له ولا خطر. - ثم ما هذا العرق اللئيم الذي دفعني عند مدح كافور إلى أن أقول:
قالوا هجرت إليه الغيث قلت لهم
إلى غيوث يديه والشآبيب
إلى الذي تهب الدولات راحته
ولا يمن على آثار موهوب - أتظن أن سيف الدولة يدرك هذا التعريض البعيد؟ - إن ذهنه في فهم مرامي الشعر ومواقعه أرهف من سيفه. على أن طيشي وهذري لم يحوجاه إلى كد الفهم وإعمال النظر، فقد أرسلت هجاءه وهجاء قومه صريحا في «نونيتي» الملعونة التي أقول فيها:
رأيتكم لا يصون العرض جاركم
Bilinmeyen sayfa
ولا يدر على مرعاكم اللبن
جزاء كل قريب منكم ملل
وحظ كل محب منكم ضغن
وتغضبون على من نال رفدكم
حتى يعاقبه التنغيص والمنن
أبعد هذا أستطيع أن أمد يدا إلى سيف الدولة، أو أن أنزل له بجوار؟ - أنا كفيل بأن أكبر أمنية لسيف الدولة أن يراك في قصره، وأن يعيد بشعرك عظمة ملكه وصولة سلطانه.
هذا كلام يا ابن يوسف، وهبني أطعتك وذهبت صاغرا إلى سيف الدولة، فكيف أصل إليه إذا لم أمر ببلاد كافور، وأظنه اليوم قد ملأ كل الطرق عيونا علي وأرصادا؟ - فأين تذهب إذا لم تذهب إلى سيف الدولة؟ - والله لا أدري أين أذهب. - هل خطرت ببالك بغداد؟ - بغداد؟ ألا تزال تظنها دار الخلافة، وموئل العربية بعد أن استولى عليها الديلم، واستبد بها معز الدولة؟ إنها لا تجمع اليوم إلا شذاذ الشعراء، وحثالة المسترزقين بالأدب، الذين يغدق عليهم الوزير المهلبي الماجن، ويرسلهم على أعدائه ومنافسيه كما ترسل الكلاب المضراة خلف صيد نافر. على أن حمقي الذي سد علي طريق العودة إلى سيف الدولة قد أوصد الباب بيني وبين بغداد؛ لأنني اندفعت حينما كنت بحضرة سيف الدولة إلى أبيات كلها تعريض بصاحب الأمر ببغداد، فقد قلت أخاطب سيف الدولة:
فدتك ملوك لم تسم مواضيا
فإنك ماضي الشفرتين صقيل
إذا كان بعض الناس سيفا لدولة
Bilinmeyen sayfa
ففي الناس بوقات لها وطبول - ليس في هذا تعريض بمعز الدولة بتاتا، وقد عهد الناس في الشعراء وألفوا منهم أنهم إذا مدحوا ملكا فضلوه على غيره من الملوك، والناس يعرفون هذا، ويعدونه من خصائص الشعر ومنادحه، ويعتقدون أن الشاعر لا يقصد مما يقول إلا المبالغة والإغراق. - أتظن هذا؟ - هذا ما يخطر ببالي كلما قرأت أبياتا من هذا القبيل. - وما قولك في هذين البيتين إذا وقد قلتهما في سياق مدح سيف الدولة؟
فوا عجبا من دائل أنت سيفه
أما يتوقى شفرتي ما تقلدا؟
ومن يجعل الضرغام للصيد بازه
تصيده الضرغام فيما تصيدا - لا يا أبا الطيب، هذا تحد صريح، وتشهير بمعز الدولة، وتصوير مخز لضعفه، كيف ساغ لك أن تقول مثل هذا؟ وما لك وللديلم؟ - لا أدري، وإنما هو لساني الذي يسوقني إلى المهالك، أرأيت الآن أني لا أستطيع الرحيل إلى بغداد؟ وماذا بقي من أقطار العرب بعد مصر والشام والعراق، وقد تركت في كل منها جريمة شعرية تذودني عنها؟ - بقي الفاطميون بالمغرب. - للفاطميين عقيدة لا أسيغها، ولهم فلسفة لا أفهمها، على أني لا أستطيع الوصول إليهم إلا إذا اخترقت بلاد كافور، فأسقط هؤلاء من الحساب أيضا. - لم تبق إلا فارس ولكني لا أشير بها عليك. - وأنا لا أشير بها على نفسي، وإذا لم يبق أمامي بعد أن يئست من الملوك، وبعد أن سدوا أبوابهم دوني، إلا أمران لا ثالث لهما: إما أن أنزل من القمة التي صعدت إليها بعد جهد وكد، وأعود إلى ما كنت عليه في بداية أمري، فأستجدي بشعري صغار الناس وطغامهم، أمثال محمد بن زريق الذي وصلني على قصيدة بعشرة دراهم، فلما عاتبه صديق في قلة الجائزة مع حسن الشعر وجودته، قال له: «والله ما أدري أكان شعره حسنا أم قبيحا؟ ولكني أزيده لأجل خاطرك عشرة دراهم أخرى». وإما أن أعود إلى الكوفة فأقبع في داري، وأهجر الناس جملة، وأقيم بيني وبين الملوك وأشباه الملوك سدا، فقد كفاني ما لقيت منهم، وكفاهم ما لقوا مني، ولي الآن ثروة تكفل الراحة والنعيم وهناءة العيش. - مثلك لا يعمل الأولى ولا يستطيع الثانية، فلن تمد يدك إلى صغار الناس مستجديا، ولن تقبع في دارك خاملا متزاهدا، إنك الحركة الدائبة يا أبا الطيب، والطموح الوثاب، والهمة الغلابة، والعزم الفصال، إن مثلك لا يقبع في داره إلا إذا قبع الفلك الدوار، ووقف الليل وتعب النهار، وسلبت الأسود غرائزها، والسيوف مقاطعها، والسيول تهدارها، والجبال ركانتها وشموخها، وكيف تهدأ وفي نفسك نار لا تهدأ إلا بالتجوال، وفي صدرك أتون يغلي بمضطرب الآمال؟ وإنك لصادق حقا حينما تقول:
وفي الناس من يرضى بميسور عيشه
ومركوبه رجلاه والثوب جلده
ولكن قلبا بين جنبي ما له
مدى ينتهي بي في مراد أحده
يرى جسمه يكسى شفوفا تربه
Bilinmeyen sayfa
فيختار أن يكسى دروعا تهده
وحينما تقول:
فما لي وللدنيا طلابي نجومها
ومسعاي منها في شدوق الأراقم؟
من الحلم أن تستعمل الجهل دونه
إذا اتسعت في الحلم طرق المظالم
وأن ترد الماء الذي شطره دم
فتسقى إذا لم يسق من لم يزاحم
وحينما تقول:
إذا غامرت في شرف مروم
Bilinmeyen sayfa
فلا تقنع بما دون النجوم
فطعم الموت في أمر حقير
كطعم الموت في أمر عظيم
مثلك يا أبا الطيب لا يهدأ في داره كما تهدأ العجائز يغزلن بأيديهن، وينلن بألسنتهن كل عدو وصديق، لا يا أبا الطيب، إنك لو أردت الاستقرار لغلبتك نفسك على الجلبة والصخب والاضطراب والضرب في كل مكان، إن لسانك لسان شاعر، وقلبك قلب ملك، وعقلك عقل حكيم، وعزمك عزم جبار، وهذه إذا اجتمعت ضاقت بها الدنيا وغصت بها الآفاق، فكيف تجمعها دار؟ وكيف تحبسها حيطان؟ - هذا هو الذي يؤلمني يا ابن يوسف، وهذا هو الذي يحز في نفسي، لقد رحلت إلى مصر طامعا في أن أنال من الأسود ولاية ألقي عندها رحال آمالي، وأسكت بها صيحات مطامعي، وأتعلل بها عن مطالبي الضخام، ومقاصدي الجسام، فضاع أملي في العبد وخاب ظني فيه. ولقد كنت على اعتزام الرحيل عنه بعد إقامتي سنتين في كنفه تحقق لي فيهما كذبه ومينه وخداعه، وأنه عبقري في بذل الوعود، نابغة النوابغ في إخلافها. كنت على أهبة الخروج من مصر حينذاك، وكان الخروج منها سهلا، فلم يكن كافور قد تشكك في أمري، ولم يكن الأبله يعتقد أني عرفت طوايا نفسه، وأدركت خبثه ومحاله. ولم يعقني عن الرحيل في ذلك الحين إلا أمران: أولهما: عائشة بنت رشدين، فلقد كانت ملكا كريما فوق هذه الأرض يا ابن يوسف، إنها الطهر المصفى والعفاف النقي، والأدب الساحر والذكاء النادر، والحنان الذي ينضح الهموم ويبدد الآلام. - والجمال الذي لم تر الشمس له مثيلا منذ طلعت الشمس. - والجمال الفاتن يا ابن يوسف، جمال الروح وجمال الجسم وجمال الخلق وجمال الابتسامة المشرقة وجمال الحديث الذي يختلب العقول. إنني رجل جاف خشن الطبع شائك الملمس يا ابن يوسف، لم تترك آمالي الضخام في قلبي مكانا لحب ولا موضعا لصبابة، ولم تهف نفسي إلى عبث الشباب ومجون الشباب، ولقد استقر في نفسي أني سهم صوبه الله إلى غرض هو المجد فيجب ألا يحيد عن المجد، وصارم بتار لم يعرف في يوم من الأيام إلا أن يسل من غمده ثم يعود إلى غمده. ما استهواني يوما جمال ولا اجتذبني دلال، ولا فهمت معنى للحب إلا فيما يقول الشعراء، وأنت أعلم بأكاذيب الشعراء، ولكني أحسست نحو عائشة بميل عنيف كفكفت من غربه، وسخرت منه أول الأمر، ولكنه عاودني أعنف مما كان وأشد حينما التقى بميلها، واتصل حبله بحبلها، ولقد كان حبنا عذريا طاهرا منزها عن دنس الدنيا، بريئا من وصمة الشهوات ساميا فوق الحياة ومآرب الحياة، لقد كان حبا يشبه حب الملائكة الأطهار إن كان الملائكة يحبون. فعائشة هي التي حببت إلي البقاء بمصر، وهي التي أماطت عني اليأس وذادت عني هواجس الهموم، وهي التي كانت تضمد تلك الجراح المسمومة التي تركتها في سهام الأسود بلطف حديثها، وفيض حنانها، وسحر بشاشتها. - إن عائشة بهجة مصر وزينة أترابها، وهي أديبة كاتبة شاعرة، وهي فوق ما وصفت جمالا وعفافا وطهرا، ومثلها جدير بحب رجل مثلك يا أبا الطيب، وما الأمر الثاني الذي حملك على إطالة المقام بالفسطاط؟ - حملني على البقاء بالفسطاط تلك الصلة الوثيقة التي عقدتها مع أبي شجاع فاتك، ولعلي اليوم في حل من أن أذيع سرا لأصدق أصدقائي، فقد انتهى الأمر، ومات فاتك وماتت معه آمالي ودفنت مطامحي. - دفنت مطامحك؟ ماذا تريد بهذا؟ - انتظر يا ابن يوسف، لم تكن الصلة بيني وبين فاتك صلة شاعر بقائد، ولكنها كانت أسمى من ذلك وأعظم شأنا، كان فاتك يبغض كافورا وكان كافور يبغضه ويخشى بطشه ويخاف منه على ملكه، فأراد فاتك أن يبتعد عن الأسود فأقام بالفيوم، وقد اتصلت به في الصحراء بالقرب من «كوم أوشيم» مرات، وكثيرا ما دار الحديث حول كافور وظلمه واغتصابه الملك، وعرف منى فاتك بغضي للأسود وما يضطرب في نفسي من آمال، ولمح شدة عجبي من أن يحكم مصر عبد حبشي والدنيا تزخر بسادات العرب وصناديدهم، وكان رجلا شهما ذكيا محبا للعرب مفتونا بعظمة تاريخهم وجلال ماضيهم، فقال: اسمع يا أبا الطيب فإن لي رأيا يسهل تنفيذه إذا حاطته الحكمة وصانه الكتمان. قلت: هات أيها القائد، فقال: إنني عبد رومي رباني الإخشيد، وليس لي في الملك مطمع ولا في عظمة السلطان أرب، ولكني أبغض الأسود كما تبغضه، وأرى أنه مغتصب ملكا لا يسمو لمثله مثله، وأن غيره أولى به وأحفظ له وأقوى عليه. وابن سيدنا «علي» الذي أمات كافور نفسه، وخنق فيه كل همة، وأطفأ وميض كل فضيلة، أصبح أضعف من ذات خمار، وأوهى من القصبة المرضوضة، لا يصلح أن يكون ملكا، ولا يصلح أن يكون رجلا، ورأيي حينما تسنح الفرصة أن أجمع قبائل العرب الضاربة بالفيوم، وأن أكون منها جيشا لهاما نزحف به على الفسطاط، ونقبض على كافور ونريح الدنيا من اسمه، ثم تكون ولاية مصر شركة بيننا على السواء. ما رأيك يا أبا الطيب؟ فدهشت وبهت وكادت تدركني غشية، لقد كانت مفاجأة عجيبة يا ابن يوسف. أكون ملكا لمصر؟ أنا الذي كان يطمع في ولاية صغيرة من العبد؟ أكون ملكا لمصر، وأدبر الأمر من مصر إلى عدن إلى العراق فأرض الروم فالنوب؟
هذا أشبه بالأحلام، وأدخل في باب الأوهام. إن مطامحي لم تصل بي إلى هذا، ولكن ماذا أعمل والخطة واضحة، والغاية محققة؟ فبلعت ريقي ثم قلت: ولكن لكافور أيها القائد جيشا بالفسطاط شديد المراس يدبره قواد عركتهم المواقع وعجمت عودهم الحروب. فأسرع وقال: إنني سأحتال على الرحيل عن الفيوم بعد أن أكون قد اتفقت مع مشايخ قبائلها، وسوف أقيم بالفسطاط حينا أستطيع فيه إغراء قواد كافور وجنوده، وأكثرهم ساخط عليه متبرم بحكمه. وتم الاتفاق والتعاهد على كل هذا يا ابن يوسف، وبقيت بمصر أنتظر الواقعة التي ليس لوقعتها كاذبة، وقدم فاتك إلى الفسطاط وأخبرني أن المؤامرة تمت على خير الوجوه وأدقها إحكاما، وأنه لم يبق إلا أن يشعل النار في الحطب، ولكن الموت عاجله قبل أن يمد يده إلى الزناد، فخابت آمالي وتمزقت مطامعي وطارت مع الرياح أحلامي. أرأيت يا ابن يوسف كيف كان حزني على فاتك شديدا؟ أرأيت كيف ضاقت بي الحياة بعده؟ أرأيت كيف اجتويت مصر وأهلها وخرجت منها محطم النفس مهيض الجناح؟ - لم أعرف كل هذا، ولكن يظهر أن كافورا كان عنده كثير منه. - نعم فإن جواسيسه يكادون يقرءون ما في الصدور. - إذا كنت تطمع في الملك يا أبا محسد! ولكني لم أر في التاريخ شاعرا أحسن القيام على الملك، وأول هؤلاء امرؤ القيس ذلك الملك الضليل، ثم الوليد بن يزيد الخليفة الأموي، ثم عبد الله بن المعتز العباسي. - هؤلاء كانوا شعراء ولم تكن لهم نفوس الملوك وعزائمهم.
وما كاد المتنبي يتم قولته حتى شاهد هو وصاحبه غبارا خلفهما، وسمعا وقع سنابك خيل تعدو نحوهما عدوا، فذهل المتنبي وصاح أدركنا الأسود! أدركنا كافور! يا لخيبة الرجاء ويا لضيعة الأمل! إن هؤلاء بعض جنوده يا ابن يوسف. كنا ظننا أننا نجونا من أظفار الأسد، فإذا هو يرسل علينا ذئابه! سأثب عليهم وأروي منهم صارمي. فصاح به الخزاعي: اهدأ أبا الطيب ولا تسرع إلى الاحتكام إلى السيف. ومضى وقت قصير، فقرب منهما ثلاثة فرسان قد أجهدوا خيلهم شدا وعنقا، وصاح بهما كبيرهم فوقفا ثم قال في صوت الآمر الظافر: ارجعا إلى الفسطاط. فأجابه الخزاعي في رزانة واستخفاف متكلف: بأمر من نرجع إلى الفسطاط؟ بأمرك أنت؟ - بأمر الوالي. - وماذا يريد منا الوالي؟ - يريد المال الذي سرقتماه أول من أمس من دار إسحاق الجوهري، فقد ثبت لنا أن مسافر بن طلحة هو الذي أغار على دار اليهودي، واستولى على جميع جواهره وبعث بها مع فارسين ليبيعاها بالشام. وقد جعل اليهودي ثلث الجواهر أجرا لمن يردها إليه. فقهقه الخزاعي حتى كادت تسقط عمامته، وقال: لله دركم أيها الحراس! ما أشد ذكاءكم! وما أبصركم باقتناص اللصوص! هل ترون في وجوهنا وفي ثيابنا وفي مراكبنا ما يوحي بأننا من اللصوص؟ إنكم أيها السادة الكرام تضيعون وقتكم معنا، فإذا كانت لكم رغبة حافزة للقبض على لصوصكم، فابحثوا عنهم في مكان آخر. - أنتم طلبة الوالي. فصاح المتنبي: إن الوالي أيها الأبله لا يطلب فارسين وكفى، وإنما يطلب لصين. ثم كشف عباءته فظهر تحتها منطقة من النضار المرصع بالجواهر، وبدا سيفه وقد كان مقبضه ونعله من خالص الذهب، وقال: أهذه ثياب لص؟ أهذه عدة لص؟ فهمس أحد الثلاثة في أذن كبيرهم، وقال: ارجع أبا علي ولا تكثر مع السيدين، فإني أخشى أن يكونا من كبار رجال الدولة.
فتراجع أبو علي، وقال: أرجو أن يعذرني السيدان إذا كنت خشن القول عنيفا في البحث، فأنتما تعرفان ما وصلت إليه حال الفسطاط من جرأة اللصوص واستهانتهم بالحكام.
فقال الخزاعي: لا تثريب عليك يا رجل، وإنما الذي أغضبنا أننا كنا نظن أننا أكرم عند الناس وعند أنفسنا من أن يخلطنا مثلك بطائفة اللصوص. - أسألك العفو يا سيدي، وأغلب ظني أن يكون اللصوص قد سلكوا طريقا أخرى. ثم أمر صاحبيه أن يلويا عناني جواديهما، وعاد ثلاثتهم أدراجهم يملئون جنبات الأفق عثيرا وقتاما. وتنفس الخزاعي الصعداء، وابتسم المتنبي ابتسامة ساخرة، وكانا قد قاربا بلبيس فزجوا جواديهما حتى بلغاها بعد ساعة أو بعض ساعة، ورأيا أبناء الخزاعي ورجاله ومحسدا وعبيده ينتظرونهم عند ظاهر المدينة، فحيا المتنبي ابنه وخادمه مسعودا بنظرة عابرة، ثم شكر الخزاعي على حسن بلائه وعظيم ما أسدى في خدمته من عناء ومخاطرة، فسأله الخزاعي عن الطريق التي سيسلكها، فقال: سأخترق الصحراء، وسأسلك المفاوز المجاهيل التي لا يصل إليها جواسيس العبد، وسأرد المناهل الأواجن، وأنزل المنازل التي لا يطرقها إلا أهلها. - إلى بغداد؟ - إلى الكوفة، إلى منبت عظامي ومسرح صباي. منها خلقناكم وفيها نعيدكم. - ومنها نخرجكم تارة أخرى! - ما أظن يا ابن يوسف. ثم التفت فإذا غلام فاره ناضر العود جميل الزي وسيم الطلعة مشرق الجبين، يتقدم نحوه ويمد يدا لتحيته، فحقق فيه النظر ثم صاح: سيدتي عائشة! ماذا جاء بك يا مولاتي؟ وما الذي حملك على اقتحام المخاطر، واتخاذ هذا الزي الغريب؟ - حملني على كل ذلك أن أراك وأن أودعك يا أبا الطيب، ثم تناثرت الدموع من عينيها كما يتناثر اللؤلؤ من عقد انفصم سمطه، ومضت تقول: إذا جفتك مصر يا أبا الطيب وضاقت بك رحابها، فإن فتاة مصرية معجبة بك مفتونة بفنك تكن لك ودا أصفى من سماء مصر، وتفتح لك قلبا أوسع من فسيحات رحابها. إنها تمنحك حبا لو كان في عاصفة لعادت نسيما، ولو مازج الملح الأجاج لصار تسنيما، ولو لمس الهجير لحسده الأصيل، أو خالط الليل ما شكا طوله محب أو عليل. دعني أحمل أوزار قومي يا أبا الطيب، وأبدلك بعقوقهم إخلاصا، وبغدرهم وفاء، وبإهمالهم إجلالا وتقديرا. لقد كان حبنا قدسيا طاهرا كأنه حب الغمام، وكانت نفوسنا صافية كصفاء الملائكة، وكان ودنا روحانيا نقيا كنقاء لآلئ الفردوس. والآن يا أبا الطيب آن أن نفترق، وقد يطوينا الموت قبل أن نلتقي، ولكني سأراك في كل لحظة وسأستمع لك في شعرك كلما رددت قصائدك الخوالد، وأبياتك الأوابد، وسأناديك في اليقظة والمنام، وسأهتف باسمك كلما عصفت بي الآلام. فزفر المتنبي وربت يدها في حنان ورفق، وقال: إن هذه الحياة يا عائشة أضيق من أن تتسع لمثل حبنا الذي لا تحده نهاية، فإذا ضاقت بنا الأولى فإن لنا في الأخرى خلودا ونعيما وظلا ظليلا وعيشا لا يكدره علينا مكدر.
وما كاد يستمر في الحديث حتى صاح مسعود: الرحيل يا سيدي الرحيل. - هل أعددتم الزاد والماء؟ - نعم يا سيدي. فحيا المتنبي الخزاعي، ثم حيا عائشة حزينا كاسف البال، وهو يقول:
لعينك ما يلقى الفؤاد وما لقى
Bilinmeyen sayfa
وللحب ما لم يبق مني وما بقى
وما كنت ممن يدخل العشق قلبه
ولكن من يبصر جفونك يعشق
ولم أر كالألحاظ يوم رحيلهم
بعثن بكل القتل من كل مشفق
عشية يعدونا عن النظر البكي
وعن لذة التوديع خوف التفرق
مخاطرة
كان الوقت أصيلا، وكان النسيم خائرا ضعيف المنة يمر بأطراف النخيل فيهتز له سعفها في كبر وسخرية، وكانت الشمس ترسل أشعتها صفرا براقة فوق الرمال الواهنة المجهودة، بعد أن طال بها النهار، واشتد قيظه واشتعل هجيره اللواح. وسار مع المتنبي عشرون بعيرا لحمل الزاد والماء، وخمسة عشر جوادا يمتطيها خدمه وعبيده، وقد اكتملت لهم عدتهم من السيوف والرماح، وتقدم المتنبي الركب وخلفه محسد ومسعود، وكان ينظر إلى الأفق البعيد حيران ذاهلا متجهم الوجه حزين النفس، يردد الحسرات، ويرسل الزفرات.
لم يكن حديث عقد بالصحراء وجفوة الصحراء، ولم يكن قليل الخبرة بحياة شذاذ الأعراب وصعاليكهم الضاربين في أنحائها وما لهم من أخلاق وعادات، وما يتصفون به من ختل وتلصص واستباحة للأموال، فإن لصعاليك الصحراء قوانين وشرائع غير ما تعارف عليه الناس من قوانين وشرائع، ومن العجيب أن هذه الشرائع كثيرا ما تكون متضاربة متناقضة، فهم يقتتلون لأوهن سبب، ويصفحون لأوهن سبب، ويغتصبون الأموال حراما ليبعثروها في الكرم والضيافة حلالا، وقد يحمون الجراد ولا يحمون بني الإنسان، فإدراكهم لمعنى الشرف إدراك غريب كثيرا ما يؤدي بهم إلى فعل كل ما يخالف قواعد الشرف.
Bilinmeyen sayfa
عرف المتنبي حياة الصحراء وأخلاق الأعراب في طليعة صباه، حينما كان يتنقل بين القبائل في بادية الكوفة ليتلقى اللغة من أفواه رجالها، ثم عرف الصحراء حينما أقام طويلا في بادية السماوة بالشام بين بني كلاب؛ لهذا لم يكن على الصحراء دخيلا، ولم يكن عن عادات الأعراب بعيدا.
سار الركب في هذا البحر المائج الخضم بالرمال، وذلك التيه الذي يضل فيه الخريت ويزوغ البصر، وفي تلك الموماة التي يقول في مثلها أبو الطيب: «يهماء تكذب فيها العين والأذن». وقد طمست الأعلام، وانمحت الصور، وزالت الآثار، ولم يبق إلا أن يعتمد الضارب فيها على الشمس أو بعض نجوم السماء. فضاء فسيح كأنه أمل الأحمق، وأرض مجدبة كأنها كف الشحيح، وصخر أصم كأنه قلب اللئيم، ورمال صفر كأنها بطون الحيات. إنها أرض من الأحلام وجو من الأوهام، جفت فيها الحياة وجفتها الحياة، فلا نبات ولا عشب، ولا شوك ولا قتاد، لا يمر بها طير إلا خائفا عابرا، ولا وحش إلا منطلقا واجفا، كأنها نسيت عند خلق الطين والماء فليس بها أثر للطين ولا قطرة من الماء. تبدو الكثبان بها وسنى مكدودة تمد رؤوسها إلى السماء كأنها تتضرع طالبة الفرار، وتبدو الوهاد بها مظلمة مخيفة كأنها أشداق الأسود. جفوة وشقاء ومحول وجمود وقسوة، ثم صمت ورعب وسكون هو سكون الموت، ووحشة القبور.
سار المتنبي يتقدم ركبه في هذا التيه، ولم يبق في صدره من الآمال الضخام إلا أمل واحد ضئيل خافت هو أن يعيش، هو أن يستطيع أن يخترق هذه الصحراء وفيه ذماء من حياة، هو أن ينجو بجلده من هذا الخطر الداهم والبلاء الواقع، لم يبق من مطامعه أن يكون أميرا أو ملكا، ولم يبق من آماله أن يكبت أعداءه ويدوس بقدمه فوق آنافهم، ولم يبق من وساوس نفسه أن يترك في الدنيا «دويا كأنما تداول سمع المرء أنمله العشر» طارت كل هذه الأحلام أمام عظمة الصحراء ومخاوفها؛ لأن الصحراء كالبحر الهائج المضطرب ترتعد لهوله الحياة، ويتوارى عنده الأمل، وتخشع النفوس.
وبدا القمر موشكا على الاكتمال فلف الصحراء في غلالة من نور، وكان المتنبي فوق صهوة جواده يرمي طرفه هنا وهناك، كما ينظر الصقر من قنته إلى ما حوله من فضاء فسيح، وكان يهمهم بكلمات تقطعها زفرة حينا، وزمجرة أحيانا، فقرب منه محسد، وقال: ألا نحط الرحال هنا يا أبي فقد انتصف الليل وكلت الرواحل؟ - إن سير الليل أروح للعبيد والدواب، وكلما بعدنا عن الفسطاط زال الحذر وسرنا في أمن واطمئنان. - إننا نسير في طريق لم تطأها قدم مسافر، فمن أين ليد كافور أن تمتد إلينا؟ - إنني أشعر بشيء من الراحة كلما بعدت الشقة بيني وبين الأسود؛ لأنني أريد أن أنسى أني رحلت إلى مصر وأني قصدت الأسود، ويخيل إلي أن بين المسافات والفكر اتصالا، وأنه كلما شسعت المسافات بينك وبين شيء قل تفكيرك فيه. - اترك كافورا يا أبي لشأنه، فأنت أعظم وأنبل من أن تحقد على الرجل أو تلقي لمثله بالا. - لن يفلت من يدي هذا الوغد الذي جعل مني أضحوكة للشعراء والأمراء. إن أباك يا محسدا إذا مست كبرياؤه فقد مس منه مكان السم في الأفعى. انقل عني يا محسد وأذع:
وأسود أما القلب منه فضيق
نخيب، وأما بطنه فرحيب
إذا ما عدمت الأصل والعقل والندى
فما لحياة في جنابك طيب - يلوح لي أنك تخفف بهجائه عن نفسك بعض ما تجد. - نعم يا بني إن هجاءه يروح عن نفسي، ولا بد للمصدور أن ينفث، وللحزين أن يرسل الدموع. - حقا لقد أساء إليك، وأغرى بك حثالة الشعراء، ومسترزقة العلماء. كنت منذ شهر أسير بخطة مسجد عبد الله مع الشريف إبراهيم العلوي، فقابلنا الشيخ المعتوه الموسوس محمد بن موسى الذي يلقبونه بسيبويه، وكان على حماره، وهو لا ينزل عنه لأمير أو عظيم، فسلم عليه الشريف، ولما عرفه بي صاح: أنت ابن المتنبي! أهلا أهلا بابن شاعر الغبراء! لله أبوك فإنه يأتي في شعره بالعجب العجاب. بالله سل أباك يا بني عن قوله في كافور:
يقل له القيام على الرءوس
وبذل المكرمات من النفوس
Bilinmeyen sayfa