لقد تعبت من نيتشى، بل خاب أملها به، فإنه لم يأتها حتى بما أملته من النعاس، ولهذا لجأت إلى المخدر الذي جاءها به سليم عبدها، وما هي إلا دقائق قليلة حتى أخذت أفكارها المشتتة الثائرة تنقشع رويدا رويدا كما ينقشع الظل، فأغمضت عينيها، ولكنها ظلت ترى وتقرأ حتى آخر دائرة من دوائر هواجسها هذه العبارة مكتوبة بأحرف من دم: لا تصحب المرأة إلا والسوط معها!
وانطرحت على سريرها بين نائمة ويقظى، والعياء والعناء ظاهران في تنفسها، فاستيقظت عند الفجر من سباتها، وهي تصيح صيحة هائلة راعت الجارية فسارعت إلى غرفتها، وما صرختها إلا تأثير حلم مزعج مريع، فقد تراءى لها رجلان داخلان إلى سجن تحت الأرض فيه السجين نائم، فربطا يديه ورجليه، وسدا فاه، ثم أخذ أحدهما سكينة وقطع شريانا في أحد معصمي السجين؛ فتفجر الوجه ملطخا وجه الجاني الأثيم، وجاريا كالنهر على الأرض، ورأت الرجل يتململ في عذاب مميت، وقد سمعته يئن أنينا يذيب الفؤاد، أما الرجلان، فقد وقفا حياله مخفضين رأسيهما، منتظرين نفسه الأخير، وإذ لفظه حلا أوثقته تاركين إياه منطرحا على الأرض جثة هامدة، وإذ رأت جهان وجهه صرخت مولولة: أبي! أبي! قتلوا أبي في السجن، قتلوا أبي.
واستوت في فراشها، ويداها مرتخيتان على صفائح السرير، ووجهها أصفر كأن عليه غبار الموت، وعيناها محملقتان تخترقان المكان، ولم تزل في مخيلتها صورة تلك الفاجعة، وفي نفسها مرارة ذلك الحلم الهائل، وظلت كأنها في ساعة حلمها حتى فتحت جاريتها زليقة فاها بالكلام، فقالت ما أدهشها سماعه: «الدم يا مولاتي فأل، كذلك كانت أمي تفسره، وقد كانت تحسن تفسير الأحلام، نعم يا مولاتي، الدم سعادة، وإني أتنبأ أن أباك مولاي سيكون معك قريبا إن شاء الله.»
الفصل الرابع عشر
لبثت جهان ترقب قدوم أبيها، وقلبها يتلظى بين عاملي اليأس والأمل، فقد حلمت حلما هالها، ولكن الجنرال فون والنستين وعدها بأن يعتق أباها من سجنه في ذلك النهار، فمرت الساعات: التاسعة منها، والعاشرة، والحادية عشرة حتى الظهر ولم يعد أبوها، ولا جاءها خبر عنه، فخاطبت الجنرال بالتلفون، فوعدها بأن يزورها في الحال ليعلمها بسبب التأخير.
وبعد قليل جاءت الخادمة بجريدة طنين، فتناولتها جهان، وطالعت فيها هذه الإذاعة:
قد انتحر رضا باشا في سجنه صباح اليوم باكرا بقطعه أحد شرايين معصمه الأيسر بزجاجة من المصباح الذي وجد مكسورا على الأرض.
قرأت جهان هذا الخبر أصيل ذلك النهار هادئة ساكتة، ومن غريب أمرها أنها لم تتأثر ظاهرا، ولم تفه بكلمة، ولم تصفق كفا على كف، لم تنح ولم تولول بكلمة، لم يحرك خبر هذه الفاجعة مظهرا واحدا من مظاهر الحزن فيها، كأنها تناهت في الغم والأسى، فوصلت بفؤادها إلى أوج الأحزان والعذاب، ومتى عظمت المصائب على امرئ أسكتته، أبهتته، جعلته ظاهرا بل باطنا أيضا كالجماد، فتمسي لواعج النفس كماء الغدير وقد استحال من ريح الشتاء جليدا، وفوق ذلك فقد كانت جهان على استعداد لاقتبال مثل هذه الفاجعة التي تراءت لها في ذلك الحلم المزعج، فشاهدت فيه سر الأوامر الرسمية: المكيدة، الأمر بالاغتيال، الدسيسة الشيطانية، الجريمة، والإذاعة الملفقة بخصوصها، أجل إن أباها قد مات، قد قتل قتلا فظيعا، ولا مراء أن للجنرال فون والنستين يدا في الأمر، أو أنه عرف به في الأقل، وغض النظر ليتمم تمثيل دوره المنكر، وهو يتظاهر أنه يعمل من أجلها لتبقى صفحتها بيضاء عندها، قبحه الله! إنه فجعها بأخيها، وحرمها ابن عمها، وقتل أباها! وفوق هذا كله هو قادم الآن لمقابلتها، يا لله! ما أعمق غدر هذا الرجل، وما أشد مكره، وما أعظم جبره ووقاحته!
إنه قادم ليراني، أعادت هذه العبارة مرة ثانية محرقة الأرم، وربما كان قصده أن يهنئني على حريتي؟
وتجعدت شفتاها، واشتدتا لما جاش في صدرها من مفاعيل الغضب التي تحولت تدريجا إلى ضحكة ازدراء وانتقام.
Bilinmeyen sayfa