ولا معدى عن الصبر أيضا كان يعتصر غصص الزمن الثقيل بقراءة الجرائد والمجلات، والحديث إلى أمه - ولم تكن تفارقه إلا للضرورة - وأبيه وشقيقه، وكان على ألمه وملله قد نجا من ساعات اليأس القاتل التي أوحت إليه مرة بالرسالة التي بعثها من المصحة إلى شقيقه، نجا من اليأس، وعاوده الأمل في الحياة، والرجاء في الشفاء، ولكن الألم الذي رسم في عينيه تلك النظرة العميقة المتجهمة لقنه حقيقة الشقاء التي ينطوي عليها قلب الدنيا، فذاق العذاب، وشعر بأنفاس الموت الباردة تتردد على وجهه، والأرجح أن الحياة تحرص على أن يعرفها أبناؤها جميعا، إلا أنها تقطر حقيقتها على المعمرين وتسكبها في أفواه المتعجلين.
ومن عجب أنه لم ينس قلبه! فالمرض لا يمحو الحب، ربما لم يعد يضطرب به دمه، ولكنه يحسه بروحه ويخفق به قلبه، ولكم ترف عليه الذكريات فتضيء مخيلته بنور وهاج، وتدندن أذنيه كسجع الألحان، فيستيقظ قلبه كزهرة نفخ الربيع فيها من روحه، وتتخايل لعينيه بروق البسمات وطريق الصحراء والعينان النجلاوان، وتطن في مسمعيه العهود والمواثيق. ترى ما مصير كل أولئك؟ .. ماذا يخبئ له الغيب؟ .. هل يمكن أن يعود الشباب والقوة والأمل والحب؟ .. هل يمكن أن يسعى كسابق عهده متبخترا في رشاقة وخيلاء؟ .. وأن يضحك ملء قلبه دون أن يهيج سعالا قتالا؟ .. وأن يذهب رأسه ويجيء بالترنيم والتجويد؟ .. وأن يراه الإخوان فيتصايحوا «جاء قلب الأسد»؟ .. وأن يشبك ذراعه بذراع نوال فيقطعا معا طريق الجبل وغلالة الضباب تخفيهما عن الأعين؟ .. هل ما يزال ثمة أمل في أن يبتاع خاتم الخطوبة ويزف كالعرائس؟ .. وكانت نوال تعوده مع والديها، فيتبادلان نظرات خاطفة مشوقة لم يشعر بوقدتها إلا هما، رباه لماذا لا يتركانهما وحدهما ولو لحظة؟ إنه يذوب شوقا إلى كلمة وداد ترطب حرارة فؤاده المحموم، وهكذا مضى شهر مارس. ولما جاء إبريل تغير الحال، فلم يعد يرى نوال! مضى أسبوع دون أن تزوره وانتصف الشهر فلم تحضر، وعاده والداها بمفرديهما، وانتهى إبريل دون أن يراها أو تراه! عاده إخوان قهوة الزهرة وأسرهم وأصحاب السكاكيني وجمهور من الأقارب والجيران القدماء، فالبيت لا يفرغ حتى يمتلئ، إلا نوال، اختفت من حياته فجأة كأنها لم تكن حقيقة محسوسة وأملا مشوقا! ولا شك أن والديه وشقيقه يشاركونه ألمه وإنكاره ولكنهم لا يفصحون عن مشاعرهم رأفة به، وأبى عليه كبرياؤه أن يسأل والديها، لماذا انقطعت نوال عن زيارته؟
هل عرفوا حقيقة دائه وأيسوا منه؟ هل منعها من عيادته الخوف من العدوى؟ .. هل أمسى شرا وأذى بعد أن كان حبيبا محبوبا؟ .. أكذب الحب وعده؟! وجعل يجتر آلامه في صمت، حتى ضاق بها فقال يوما لأحمد وقد خلت لهما الحجرة: ألم تر كيف انقطعت عن زيارتي؟
عرف أحمد من يعنيها بقوله. وتظاهر بعدم الاكتراث وقال: حذار من الفكر! أنت في نضال من أجل الصحة فلا تضعف مقاومتك بنفسك!
فاستطرد قائلا وكأنه لم يع ما قال الرجل : أبشع شيء في هذه الدنيا جفاء صديق بغير ذنب، أو أن يكون ذنبه أن الصحة جفته! - لا تبال شيئا ولا تستسلم للأفكار السود!
فتمتم الشباب بصوت حزين: لن أبالي شيئا ولكن الخيانة قبيحة!
وسرت في الرجل رعدة لأنه ذكر أنه فاه يوما بمثل هذه الجملة، وقال يداري عواطفه: حسبك قلوبنا فهي تحبك ولا تجفو أبدا.
فاتبسم رشدي وقال: لا أدري متى حفظت هذين البيتين:
ما لي أرى الأبصار بي جافية
لم تلتفت مني إلى ناحية
Bilinmeyen sayfa