وفي مثل هذا الوقت العصيب تدبر خالد الموقف، ففكر في حيلة يعيد بها نخوة المسلمين، ويزيد حماستهم، ولا سيما لما رأى أهل القرى يحينون أهل البادية، وهؤلاء يحينون أهل القرى.
وتكاد الروايات جميعا تتفق على أن القبائل من أهل البادية انهزموا أول مرة، فألقوا الوهن في صفوف المسلمين.
والظاهر من نتائج المعركة أن أهل القرى ثبتوا «فاستحر بهم القتل» كما يذكر الطبري، وكان التدبير الذي توصل إليه خالد لينقذ الموقف ويتغلب على عدوه، منحصرا في أمرين:
أولا:
فصل أهل القرى عن أهل القبائل، ووضع كل فريق منهم في جانب، فكان الأنصار والمهاجرون وأهل القرى الآخرون في جانب، والقبائل في جانب آخر؛ لأن انهزام المسلمين أوقع الخلل في ترتيب المعركة، فاختلطت الميسرة بالقلب والقلب بالميمنة، وتخلى الناس عن رؤسائهم.
ثانيا:
طلب من كل جانب أن يمتاز، وذلك لما رأى أهل القرى يعزون سبب الخيبة إلى القبائل، والقبائل تعزو الخيبة إلى أهل القرى، وفي هذا تناحر لدى الفريقين، وإذا ما اشتد التناحر ليؤدي إلى التقاعس.
فصرخ في المسلمين طالبا منهم أن يمتازوا؛ ليتبين من أين يأتي الخلل، وكان يريد بذلك أن تبرز الفرق فلا ينسب إليها ذلة الانكسار، ونال بذلك ما أراد. فامتاز أهل القرى والبوادي وامتازت القبائل من أهل البادية.
فوقف بنو كل أب على رايتهم، كما يذكر الطبري، فتولى خالد بنفسه قيادة صفوف أهل القرى، فقاموا جميعا قومة واحدة فقاتلوا قتال الأبطال، وكان خالد في أول الصف يشجع المسلمين ببطولته ولا يقابله أحد إلا قتله، وكان يفتش عن مسيلمة ليقتله؛ لأنه عرف أن الحرب لا تركد إلا بموته، وأن بني حنيفة لا تحفل إلا بقتله، وكان من أمر ذلك أن تشجع المسلمون فصدوا العدو.
ويذكر الواقدي أن زيد بن الخطاب كان يحمل راية المسلمين، فلما رأى أصحابه ينصرفون من أطرافه قال: «والله لا أتكلم اليوم حتى نهزمهم، أو ألقى الله فأكلمه بحجتي، عضوا على أضراسكم أيها الناس واضربوا في عدوكم، وامضوا قدما.» ولم يزل يشجع أصحابه إلى أن قتل والراية في يده، فأخذها أبو حذيفة، فجادل بسيفه حتى قتل، أما ثابت بن قيس فكان يحمل راية الأنصار فنادى في قومه: «العزة لله ولرسوله ولأحزابه، أروني كما أريكم.» ثم جلد في الأعداء وقاتل حتى قتل، وتسلم راية المسلمين سالم مولى أبي حذيفة، وظل يناضل عنها إلى أن قتل، فتسلمها آخرون وقتلوا.
Bilinmeyen sayfa