الدرس الخالد
خالد القائد
أسباب الحروب
الدرس الخالد
خالد القائد
أسباب الحروب
خالد بن الوليد
خالد بن الوليد
تأليف
طه الهاشمي
الدرس الخالد
جدير بالضباط أن يدرسوا حركات خالد بن الوليد في حروب الردة، أو في فتح العراق، أو فتح سورية، ومن الواضح أنهم سيطلعون على الأسس القويمة التي كان يسير عليها ويرون فيها تنفيذ مبادئ الحرب التي لا تزال مرعية حتى يومنا هذا.
خالد القائد
يعد خالد بن الوليد من أكبر قادة العرب في عهد الفتوح الأولى، وهو بلا منازع من أفذاذ الرجال الذين حالفهم النصر وأيدهم الظفر في المعامع والحروب بلا استثناء.
ولم يذكر قط له التاريخ وقفة خسر فيها المعركة وهو قائدها، حتى في معركة مؤتة التي وقعت في السنة الثانية للهجرة في شرقي الأردن بين الطفيلة والكرك، أنقذ خالد المسلمين ببطولته وإقدامه، برغم تفوق الأعداء الأكيد وموت الذين تولوا القيادة على التعاقب عملا بوصايا الرسول.
وفي غزوة أحد كان خالد يقود خيالة قريش، فبقي في الميمنة يشاغل ربيئة المسلمين الموفدة لحماية الميسرة بالهجوم عليها من حين إلى آخر، ويراقب سير القتال بين المسلمين وقريش، إلى أن رأى ربيئة المسلمين تركت موضعها وسارعت للاشتراك في الغنيمة، فهجم بخيالته ملتفا وراء المسلمين، وقاطعا عليهم خط الرجعة، فقلب نصر المسلمين إلى انكسار انتهى إلى انهزام المسلمين وجرح الرسول.
قلنا: من الوقائع التي اشترك فيها خالد بن الوليد في عهد إشراكه وإسلامه، أن تلك الوقائع جميعا انتهت إلى النصر المبين، ومما لا شك فيه أن خالدا من أقدر قواد العرب على القيادة، فجدير بالضباط أن يدرسوا حركاته في حروب الردة، أو في فتح العراق، أو فتح سورية، ومن الواضح أنهم سيطلعون على الأسس القويمة التي كان يسير عليها ويرون فيها تنفيذ مبادئ الحرب التي لا تزال مرعية حتى يومنا هذا.
ولقد قال خالد قبل وفاته إنه شهد مائة زحف أو زهاءها، وما في بدنه موضع شبر إلا وفيه ضربة أو طعنة، ولا نبالغ إذا قلنا إنه خرج من تلك الزحوف بأجمعها غالبا منصورا. (1) مصادر البحث
من العسير جدا البحث في أخبار الفتوح الأولى بحثا يمكننا من الاطلاع على الخطط العسكرية والأسباب التي أدت إلى وضعها والنتائج التي أسفرت عنها الحركات؛ ذلك لأن القصاصين أو مدوني السير والمغازي أو مؤرخي الفتوح ليسوا من أبناء الجيل الفاتح؛ فقد دونوا الأخبار بالسماع أو نقلا بالإسناد، وقد نراهم غير متفقين في تدوينهم الأخبار على التاريخ والمكان اللذين وقعت فيهما المعركة، ولا على مقدار القوة التي اشتركت فيها، ومن المعارك ما لم يتفق المؤرخون على زمن وقوعها، والحقيقة أن التاريخ العسكري يثبت المعارك التي جرت قبل الميلاد بمقدماتها ونتائجها وتفاصيلها، وقد يستخرج منها الباحث الأسس الحربية دون عناء.
فالمعارك التي نشبت بين الجيش المكدوني بقيادة الإسكندر والجيش الفارسي في نهاية القرن الرابع قبل الميلاد، تم تدوينها بصورة أقرب إلى الصحة من الوقائع التي نحن بصددها.
أما المعارك التي جرت بين الجيوش الرومانية وجيوش الأقوام المهاجرة، والقتال الذي نشب بين القياصرة والقواد المطالبين بالعرش، فأخبارها مفصلة في كتب التاريخ إلى حد أن الباحث فيها لا يرى مشقة في استقصاء الحوادث.
فمعركة «كانية» التي نشبت سنة 216 قبل الميلاد بين الجيش القرطاجني بقيادة هنبال والجيش الروماني، كانت ولا تزال مثالا ينسج القادة العظام على منواله تعبئة الجيش في ميدان المعركة، وهي بلا منازع معركة نموذجية تتوق نفس كل قائد إلى تقليدها.
والسبب في تدوين أخبار هذه المعركة تدوينا صحيحا، مع أنها نشبت قبل الفتوح العربية بعدة قرون، هو أن المؤرخين الذين أثبتوا أخبارها، إما أنهم اشتركوا فيها فعلا، وإما أنهم قادوها بأنفسهم، وإما أنهم عاشوا في زمن وقوعها؛ فالقائد زينوفون اليوناني الذي قاد العشرة الآلاف من بلاد بابل إلى بلاد اليونان راجعا بهم إلى بلاده سجل حوادث تلك الرجعة في كتابه «الزحف» (أناباسيس)، وهذا الكتاب لا يزال مرجع ثقة الباحثين العسكريين، وكذلك سجل يوليوس قيصر أخبار فتوحه في بلاد جرمانية في كتاب «الحروب الغالية».
أما المؤرخون العرب الأولون فلم يدونوا أخبار الغزوات النبوية وحروب الردة والفتوح التي تمت في النصف الأول من القرن الهجري إلا بعد انقضاء جيلين على أقل تقدير.
وأول من جمع الوثائق الباحثة في الغزوات والفتوح الأولى عروة بن الزبير، المتوفى سنة 94 هجرية؛ فإن عروة جمع تلك الوثائق في عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان؛ أي بعد وفاة الرسول بستين سنة، ودونها دون إسناد. ويلي عروة في التدوين ابن إسحاق، المتوفى سنة 151 هجرية، مقتبسا معلوماته من عروة. أما ابن هشام المؤرخ للسير النبوية، فاستقى أخباره من ابن إسحاق، مع أنه توفي بعده بقرن ونصف قرن؛ أي سنة 213 هجرية. ويأتي بعده ابن سعد الواقدي الباحث في حروب الردة، والمدون للفتوح العربية في العراق وفي سورية، وتوفي سنة 230 هجرية، بعد أن عاش 62 سنة، ويليه المؤرخ المشهور الطبري، وهو بلا منازع أول مؤرخ عربي أثبت الأخبار التاريخية بطريقة علمية. وتوفي في سنة 310 هجرية بعد الفتوح العربية الأولى بقرنين ونصف قرن على أقل تقدير.
والحقيقة أن كتاب تاريخ الطبري هو العمدة في استقصاء أخبار الفتوح العربية، وهو المرجع الأول والأخير. وهكذا يتضح لك أن رواة الفتوح أو مؤرخيها لم يشتركوا في وقائع الفتوح، أو أنهم لم يعاصروا أولئك الفاتحين؛ بل إنهم دونوا أخبارها سماعا أو نقلا بعد مرور مدة غير يسيرة على الفتوح، وكان لزاما أن تأتي الأخبار ناقصة ومشوشة ومتناقضة، حتى أمسى الباحث فيها لا يهتدي إلى استنباط بعض الحقائق إلا بشق النفس. والذي يزيد البحث إشكالا كثرة الرواة الذين استند إليهم المؤرخون في تدوين الأخبار، وأنت تراهم يسخون برواية غثها ويبخلون بسمينها.
وثمة تناقض بين أخبار الرواة المنتمين إلى الديوان الحجازي والرواة المنتمين إلى الديوان العراقي، وكذلك نجد تناقضا في الروايات التي ينقلها المضري والربيعي واليماني والقيسي؛ لأن كلا من هؤلاء حاول أن ينسب مفخرة الموقعة إلى قبيلته، وقد يكون غير مشترك. (2) دار الحركات
إن الساحة التي جرت فيها الحركات تمتد من سواحل البحر الأحمر في الحجاز، وتنتهي في أرض الدهناء التي تفصل بين مقاطعة الحسا ومقاطعتي العارض والسدير، وهذه الساحة تتناول شمالي الحجاز وجبل شمر وبلاد نجد.
والأرض التي تتكون منها هذه الساحة صحراوية الوصف على العموم، والمياه فيها قليلة والغابات لا أثر لها فيها، وتتخللها واحات نبتت فيها أشجار النخيل وبعض أشجار الفاكهة، وقد تكونت في المنخفضات التي تنصرف إليها مياه الأمطار بسهولة؛ حيث تكثر الآبار الضحلة، وتقطع الوديان هذه الساحة، وتكاد تبدأ جميعا من هضبة نجد المرتفعة فتجري في جهات مختلفة، ويصب بعضها في البحر الأحمر، والبعض الآخر في خليج فارس أو في جهة الربع الخالي، والوديان يابسة على العموم، وهي ضيقة ووعرة عند اجتيازها المناطق الجبلية، وعريضة سهلة عند مرورها بالبادية.
وينبت في بعض أنحائها شجر الأثل والشوك والطلح وغير ذلك من الأشجار التي تتحمل العطش، وعندما تنزل الأمطار تجري إليها المياه من كل جانب، فتغطي الوديان سيول المياه الجارفة الجارية بسرعة، وتصب إما في البحر وإما في الأنفدة الرملية.
والجبال في المنطقة التي جرت فيها الحركات قليلة، وهي لا تتعدى سلسلة طويق في نجد تمتد من الشمال إلى الجنوب في جبلين متوازيين، ويشرف الجبل الغربي على رمال الدهناء الواقعة بين خليج فارس ونجد، والسلسلة جرداء، لا نبت ولا ماء. وفي القسم الجنوبي من منطقة العارض يفصل وادي حنيفة هذين الجبلين أحدهما عن الآخر، فيجري أولا من الشمال إلى الجنوب بعد أن تصب فيه عدة شعب من الشرق والغرب، وفي جنوبي الرياض يغير مجراه إلى الجنوب الشرقي فيصب في رمال الأحقاف.
وما عدا سلسلة طويق نجد سلسلتين أخريين في منطقة جبل شمر، وهما: جبل أجأ وجبل سلمى، وهما موازيان يفصل أحدهما عن الآخر وادي الفسن، ويمتد كلا الجبلين من الجنوب الغربي إلى الشمال الشرقي، وجبل أجأ باتصاله بالجبال المنفردة الواقعة في جنوب غربية يكون سلسلة طويلة تمتد إلى حرة خيبر في الحجاز.
والسلسلتان حجريتان ارتفاعهما من 500 إلى 800 متر، والجبال المتفرقة التي تتشعب من هاتين السلسلتين تحيط بها الكثبان الرملية والبادية الواقعة بين الحجاز، وسلسلة طويق متكونة من هضبة مرتفعة يتفاوت ارتفاعها من 1000 متر إلى 1500 متر، ويكتنفها بعض الروابي الحجرية المنفردة. وهذه الهضبة تنفصل عن هضبة جبل سمر بوادي الرمة الذي يبدأ من حرة خيبر، ويجري من الغرب إلى الشرق، وبعد أن يسقى بآبار منطقة القصيم الغنية يغير جهته إلى الشمال الشرقي إلى أن يصب في أرض السواد بجوار البصرة.
والوادي هنا أخطر الوديان الواقعة في دار الحركات، وهو يفتح خطوط الحركات بين الحجاز ونجد، وعندما تقطع الوديان وشعابها السلاسل الجبلية تكون العقبات المضائق والمنعطفات التي تنساب فيها الطرق.
والساحة مملوءة بالأنفدة الرملية، والكثير منها يتجه من الشمال إلى الجنوب أو من الشمال الغربي إلى الجنوب الشرقي؛ لذلك تعترض الوديان الطرق الممتدة من الغرب إلى الشرق.
ومن جملة العوارض التي تتصف بها دار الحركات الحرات، وهي الأراضي البركانية التي تكتنفها الحجارة الخامدة، وهذه الحرات واقعة إلى شرقي الحجاز وأخطرها حرة خيبر الواقعة في شمال المدينة مسافة بضع مراحل.
والبقاع الآهلة بالسكان في هذه الساحة هي الواحات في بطن الوديان أو في الأرض المنخفضة التي انصرفت إلى بطنها مياه الأمطار وأخطرها واحة المدينة في وسط وادي الحمص، ثم واحة بريدة وعنيزة في وسط وادي الرمة، وواحات العارض الممتدة على طوار وادي حنيفة، ثم واحات السدير وواحة خيبر، وواحات جبل شمر.
وتمتد الطرق في الوديان للاستفادة من المياه المتراكمة فيها في زمن الأمطار من الآبار المحفورة على طوارها، وهذه الطرق تبدأ من المدينة، ومنها ما يتجه شمالا، فبعد أن يمر بخيبر يمتد إلى وسط جبل شمر سالكا السفوح الجنوبية لسلسلة أجأ، ومنها ما يتجه نحو الشمال الشرقي إلى أن يهبط إلى وادي الرمة فيسلكه حتى يصل إلى واحات نجد الغنية، ولا سبيل إلى السير على خارج الطرق لوعورة الأرض وندرة الماء فيها.
أسباب الحروب
مات رسول الله والإسلام لم يتمكن من قلوب جميع العرب الساكنين في الجزيرة، وادعى بعض الرؤساء النبوة في آخر أيام الرسول، وارتد الكثير من العرب بعد وفاته.
والثابت أن الذين تمكن الإسلام من قلوبهم ولم يتزعزع إيمانهم هم المهاجرون والأنصار وقريش وثقيف والقبائل الساكنة بين المسجدين (المدينة ومكة) على ما يذكره الطبري.
ولم يكن تأثير الردة في القبائل على نمط واحد؛ بل كان الأثر يختلف باختلاف العوامل، وهي تتلخص فيما يلي: (أ)
قرب المنطقة التي تسكنها القبيلة من المدينة أو بعدها. (ب)
علاقة القبيلة بالمدينة. (ج)
قرب عهد القبيلة بالإسلام أو بعده.
ولقد ناقش المستشرق الطلياني لئونه كاتياني هذه العوامل في كتابه «تاريخ الإسلام»، فصنف العرب حيث علاقتهم بحروب الردة إلى خمسة أصناف؛ فوضع في الصنف الأول القبائل التي أسلمت منذ مدة طويلة وخضعت لسلطة المدينة خضوعا تاما، وهي القبائل التي تسكن بالقرب من المدينة ومكة وفيما بينهما؛ كجهينة ومزينة وبلي وأشجع وأسلم وهذيل وخزاعة وغيرها.
ووضع في الصنف الثاني القبائل التي تعاقدت مع الرسول واشتركت في المدة الأخيرة في حروبه، وقد كان فيها، على إسلامها، أقلية مختلفة تنتهز الفرص للتملص من سلطة المدينة، ومن هذه القبائل هوازن وعامر بن صعصعة وطيء وسليم وجثعم.
ووضع في الصنف الثالث القبائل الساكنة على حدود المملكة الإسلامية، فخضعت هذه القبائل سياسيا لسلطة المدينة، ودفعت الصدقات إلى الرسول، وفيها أكثرية تتحين الفرص للرجوع إلى حالتها القديمة، ومن أخطر هذه القبائل بنو أسد وبنو غطفان وبنو تميم الساكنون في مناطق نجد الغنية.
ووضع في الصنف الرابع القبائل التي لم تخضع لسلطة المدينة؛ بل اكتفت بإرسال الوفود إلى الرسول وتظاهرت بالخضوع له، فيها أقلية مسلمة ضئيلة تستند إلى قوة المسلمين في المدينة للاحتفاظ بمنزلتها، ومن أخطر هذه القبائل بنو حنيفة وعبد القيس وأزد عمان، وأكثر قبائل حضرموت واليمن. وأوفد الرسول إليها عمالا ليمثلوا الإسلام وليعلموا المسلمين أمور الدين.
أما القبائل التي وضعها في الصنف الخامس فهي القبائل التي لم تسلم وكانت نصرانية أو مشركة، وهي القبائل الساكنة في الشمال كبني كلب وبني تغلب وبني غسان وقضاعة وتنوخ وبني بكر وبعض القبائل في حضرموت واليمن.
ولكني لا أجاري المؤرخ الطلياني في تصنيفه هذا؛ بل من الثابت أن تأثير الإسلام في القبائل العربية كان يختلف باختلاف العوامل التي ذكرناها قبلا. والواقع أن الرسول لم يمت إلا وقد ظهرت حركة الردة في القبائل، فمنها من طلب إعفاءه من إعطاء الزكاة، ومنها من امتنع من إعطائها، ومنها من قدم رجلا وأخر أخرى في ذلك، فأمسك عن الصدقة، وأخيرا منها من ارتد وطرد عمال الرسول، أو قتل المسلمين ومثل بهم.
وكان الرسول في حياته قد حرض عماله في اليمن على مقاتلة الأسود العنسي الذي ادعى النبوة، واستولى على أكثر مقاطعات اليمن.
أما أبو بكر فرد الوفود التي أتت إلى المدينة وطلبت منه أن يعفيها من إعطاء الزكاة، وقال كلمته المشهورة:
والله لو منعوني عقال بعير لقاتلتهم عليه.
ولما وردت الكتب من أمراء الرسول تنبأ أبو بكر بأن الناس ارتدوا عامة وخاصة، وأنهم تبسطوا بالتمثيل فحاربهم. (1) قوات الفريقين
أهل الردة
إذا استقصينا الأخبار التي رواها الرواة توصلنا إلى النتائج التالية:
أولا:
لم ترتد القبائل الساكنة إلى شرقي مكة وغربيها وجنوبيها؛ بل ظلت على الحياد غير ميالة إلى أحد الفريقين، وهي قبائل كنانة وأزد وبجيلة وجثعم وعك وأشعر وحكم وغيرها.
ثانيا:
تأثر بحوادث الردة القبائل الساكنة إلى شمال شرقي مكة كهوازن وعامر بن صعصعة وجديلة، أما بنو سليم فقد ارتد الكثير منهم، بيد أن هذه القبائل جميعا لم تشهر سلاحها في وجه المسلمين.
ثالثا:
أما قبائل طيء فإنها لم تقرر إلى أي جانب تميل، ومع ذلك فإن قسما قليلا منها انضم إلى جيش طلحة الأسدي مدة قصيرة.
رابعا:
وأما قبائل قضاعة الساكنة إلى شمال المدينة فإنها شهرت سلاحها على المسلمين.
ومع ذلك لا يصح أن يقال: إن هذه القبائل جميعا ساعدت أهل الردة الذين ثاروا في وسط الجزيرة؛ بل إن بعضها ظل في منطقته، إما على الحياد، وإما مترددا لا يحرك ساكنا، وإما أنه طرد العمال الموفدين من المدينة في عهد الرسول.
لذلك لا يجوز اعتبار هذه القبائل من القبائل الساكنة في وسط الجزيرة التي حشدت رجالها وأغارت على ضواحي المدينة، أو أنها تأهبت لمنازلة جيش المسلمين.
أما القبائل التي اشتركت في حروب الردة فعلا، فإليك بيانها: (1)
بنو فزارة وبنو غطفان الساكنون إلى شرقي المدينة، وطلبوا من أبي بكر أن يعفيهم من الزكاة، ولما لم يجب طلبهم رجعوا فجمعوا رجالهم وتأهبوا لمباغتة المدينة. (2)
بنو أسد الساكنون على منتصف الطريق التي بين الحجاز ونجد إلى جنوبي جبل شمر، ويزعم الرواة أن طليحة بن خويلد الأسدي ادعى النبوة في حياة الرسول وجمع رجاله في السميراء.
ولما توفي الرسول وامتنعت القبائل من إيتاء الزكاة سعى إلى جمع القبائل حوله واقترح عيينة بن حصن الفزاري ترك المنازعات بين بني أسد وبني غطفان وعقد حلف بين بني فزارة وبني غطفان وبني أسد.
لبى بنو فزارة هذه الدعوة واتحدوا مع بني أسد، وكذلك البعض من بطون طيء أيضا انضم إلى طليحة حتى إن رئيس جديلة بن طيء، ثمامة بن أوس، جمع خمسمائة رجل وانضم إلى بني أسد. (3)
بنو تميم الساكنون في نجد في منطقة القصيم: وتتألف هذه القبيلة من عدة بطون، ولما بلغها نعي الرسول امتنع أكثر بطونها عن أداة الزكاة، وكان الاختلاف قد دب فيها بينها، ولما ظهرت سجاح من شمال الجزيرة بجموعها من تغلب مدعية النبوة، ودخلت حتى بني تميم؛ لأنها كانت تمت إليهم بنسب، التف حولها بعض من تميم وعلى رأسه مالك بن نويرة، ويزعم الراوي سيف بن عمر أنها كلفت مالكا بالمسير معها نحو المدينة للهجوم على أبي بكر، وكان البعض من بطون بني تميم لم يرتد فالتجأ إليه المسلمون الهاربون من البطون الأخرى، فقاتل سجاح ومن معها من بني تميم، ومنعها من التقدم نحو المدينة. والرواة يزعمون أنه انتصر عليها وعلى حلفائها من بني تميم وألجأها إلى مغادرة ديار بني تميم، والذهاب إلى مسيلمة الكذاب. (4)
بنو حنيفة الساكنون في اليمامة: ادعى رئيس هذه القبيلة مسيلمة النبوة، فآمن بنبوته جميع بني حنيفة، ويظهر أن دعوة الإسلام لم تنتشر فيها وكان معظمها مشركا. فلما ادعى مسيلمة بالنبوة آمن بنبوته. وهي ولا ريب من أخطر القبائل التي اشتركت في حروب الردة وقاتلت المسلمين قتالا عنيفا، وذاق المسلمون الأمرين في حروبها. ويزعم الراوي سيف بن عمر أن جيش بني حنيفة المحارب بلغ الأربعين ألفا.
ومن العسير معرفة قوات هذه القبائل التي اشتركت في المعارك، والواضح أن قبائل غطفان وفزارة التي حاولت مباغتة المدينة حتى اضطر أبو بكر إلى مقاتلتها كانت دون القبائل شأنا، ولعل القوات التي جهزتها لم تزد على ألفي رجل.
أما القوة التي استطاع طليحة أن يجهزها ويقاتل بها جيش المسلمين، فكانت تربو على أربعة آلاف مقاتل، وانضم خمسمائة رجل من قبيلة طيء وسبعمائة فارس بقيادة رئيس بني فزارة عيينة بن حصن.
أما بنو تميم فلو اتفقت بطونها وقابلت جيوش المسلمين لبلغت قوتها زهاء عشرة آلاف مقاتل، غير أنها لم تتفق فيما بينها؛ بل حارب بعضها بعضا، ولما وصل خالد بن الوليد بجيشه إلى ديار بني تميم كانت البطون قد تفرقت.
أما بنو حنيفة فكان جيشهم من أقوى الجيوش التي حاربت المسلمين، ومع أن سيفا يزعم أن قوتهم بلغت أربعين ألفا، بيد أننا لا نميل إلى اعتقاد صحة روايته، ولعل قوة جيش بني حنيفة لم تزد عن خمسة عشر ألف مقاتل.
والذي جعل الرواة يبالغون في تقدير جيش بني حنيفة، هو وعورة المنطقة التي حارب فيها المسلمون، والحقيقة أن أرض اليمامة أرض وعرة، فيها وديان وشعاب وجبال وعقبات وثنايا، والذي زاد في مناعة الأرض القرى المحصنة بالأسوار والحدائق المسورة بالأحجار المكدسة شأن الكثير من قرى العارض والسدير في بلاد نجد.
المسلمون
جهز الرسول جيش أسامة قبل وفاته بمدة قليلة، وكان يقصد إيفاده إلى الشمال، واجتمع في الجرف في شمالي المدينة، ولما علم بمرض الرسول أجل حركته.
وبعد وفاته أوفده أبو بكر لينفذ الخطة التي رسمها له الرسول في حياته ونصح بعض الصحابة أبا بكر أن يبقيه لكي يعتز به الإسلام، وأراد بعضهم تبديل قائده، بيد أن الخليفة لم يجب طلبهم ولم يرض أن يبدل ما قرره الرسول، وليس لدينا معلومات موثوق بها عن قوة هذا الجيش؛ لأن المؤرخين القدماء جريا على عادتهم بحثوا في قائده والأوامر الصادرة إليه والغاية المتوخاة من إيفاده وغير ذلك، ولم يذكروا مقدار قوته.
وإذا تأملنا في سبب إيفاده ظهر لنا أن قوته يجب أن تكون كافية، وسبق أن جهز الرسول جيشين لهذه الغاية ذاتها وهما:
جيش جعفر بن أبي طالب الذي قاتل الروم في البلقاء في وقعة مؤتة، وكانت قوته ثلاثة آلاف مقاتل، والجيش الذي قاده الرسول بنفسه ليغزو به تبوك، وقد بالغ المؤرخون في قوته، وزعموا أنه بلغ ثلاثين ألفا.
أما جيش أسامة فهو الجيش الثالث، ونعتقد أن قوته يجب ألا تقل عن خمسة آلاف.
وكان المهاجرون والأنصار نواة هذا الجيش؛ فالمهاجرون والأنصار عماد الجيش الإسلامي، وهم كالحرس الذي كان يؤلفه الملوك للاعتزاز به في تنفيذ خططهم إصلاحية كانت أم حربية.
واشترك هؤلاء في غزوات الرسول وحروبه من أولها إلى آخرها، وكانوا يؤثرون النبي على أنفسهم في جميع أعمالهم، فكان الإسلام متمكنا من قلوبهم، ولا غرو إذا رأينا الإسلام يقوم على سواعدهم بعد وفاة الرسول، ولعل عددهم كان يتفاوت بين الألف والخمسمائة وبين الألفين لما توفي النبي.
وكان أكثرهم في جيش أسامة ما عدا البعض منهم، فإنه بقي في المدينة مع أبي بكر، أو أوفد في حياة الرسول عاملا أو معلما أو مبشرا إلى الأقطار العربية النائية أو جابيا أو معلما إلى القبائل العربية القريبة.
ويلي المهاجرين والأنصار قريش التي أسلمت بعد فتح مكة وأبلت بلاء حسنا في الإسلام بعد ذلك. أجل إنها لبت الدعوة أخيرا وقسرا، إلا أنها اقتنعت أن عز الإسلام من عزها فناصرت الرسول في حياته من أعماق قلبها، حتى إن الرسول بعد فتح مكة رضي أن يظل البعض من قريش مشركا حتى يفتح الله قلبه. ومع ذلك لم يحجم هذا البعض عن الجهاد معه في غزوة صفين أو في محاصرة الطائف، ولعل القوة التي كانت قريش تستطيع أن تجهزها للقتال زادت على ألفي مقاتل على أقل تقدير، ويلي قريشا القبائل الساكنة بين الحرمين، مكة والمدينة، وهي التي ناصرت الرسول في دعوته، وقد اشترك بعضها في الغزوات وجاهدت أخيرا في حروب الرسول فقربت هذه الحروب بينها وبين المهاجرين والأنصار وربطتها برباط متين.
فلا مندوحة إذن من أن نرى أبا بكر يدعوها إلى الجهاد لما كان جيش أسامة بعيدا عن المدينة، فلبت دعوته راغبة مطيعة، وهذه القبائل هي: أسلم وغفار ومزينة وأشجع وجهينة وكعب وغيرها.
ولعل القوة المحاربة في هذه القبائل لم تزد على ثلاثة آلاف، وتليها قبيلة بني ثقيف الساكنة بين مكة والطائف، وهي خير من أسلم من قبائل الحجاز، واشتهرت بشدة مراسها وصلابة عودها، وكانت تعتز بعاصمتها الطائف المسورة، ولم ترتد ثقيف على ما سبق ذكره، بل بقيت متمسكة بالإسلام، وكانت قوتها المحاربة تقدر بأكثر من ألفي مقاتل.
هذه خلاصة القوات التي كان الخليفة يعتمد عليها في محاربته أهل الردة، وقد ظهر لك أنها كانت تبلغ عشرة آلاف متى تيسر جمعها، والواضح أن جيش أسامة بن زيد كان مؤلفا من معظم المهاجرين والأنصار وبعض رجال القبائل، وذلك لما كان أسامة بعيدا عن المدينة؛ إذ أخذت القبائل المرتدة الواقعة إلى شرقي المدينة تهددها.
ولعل من الفائدة أن نذكر بهذا الصدد مقدار القوات التي استطاع الرسول أن يجمعها في حروبه.
كانت قوة المسلمين في غزوة بدر لا تزيد على ثلاثمائة رجل، أما في غزوة أحد فكانت زهاء الألف، وفي غزوة الخندق بلغت ثلاثة آلاف.
أما في فتح مكة إذ ظهرت سطوة الإسلام وقويت شوكة المسلمين فكان جيش المسلمين عشرة آلاف؛ نواته المهاجرون والأنصار، وقوامه رجال القبائل الضاربة إلى شرقي المدينة وشماليها وجنوبيها.
ويزعم الرواة أن جيش الرسول بلغ ثلاثين ألفا في غزوة تبوك، كان عشرون ألفا منه رجالا وعشرة آلاف فرسانا، أجل إن الموقف العسكري كان ملائما لمبادرة رجال القبائل إلى الالتفاف حول راية الإسلام للهجوم على بلاد الشام وهي المشهورة بخيراتها، وذلك يجعل جيش المسلمين يصل إلى حده الأقصى، إلا أننا لا نظن أنه بلغ القوة التي ذكرها الرواة، ولعلها بلغت أكثر من خمسة عشر ألفا.
ولما امتنعت القبائل العربية عن أداء الزكاة، وارتد البعض منها لم يكن في وسع الخليفة أن يجمع كل القوات التي يستطيع أن يعتمد عليها على ما سبق بيانه؛ لأن جيش أسامة كان في الشمال، وفيه نخبة الجنود المجاهدين، أما قريش وثقيف فكانتا بعيدتين عن دار الحركات؛ لذلك دعا أبو بكر القبائل الضاربة بين المدينة ومكة أولا، ولما رجع جيش أسامة استنجد به، ثم أخذ رجال قريش وبعض ثقيف ينضمون إلى الحملات.
ومن الثابت أن قوة المسلمين كانت جد ضعيفة لما تأهب بنو غطفان وفزارة للهجوم على المدينة، ولعلها لم تجاوز بضع مئات. (2) أسلوب القتال
من الخطأ القول بأن ليس للعرب أسلوب في القتال قبل الإسلام، فإن من تتبع أخبارهم في الجاهلية اتضح له أن للقوم مبادئ يسيرون عليها في قتالهم، وكانت هذه المبادئ ملائمة لاستعمال سلاحهم ومنطبقة على البيئة التي يقاتلون فيها.
أجل، إن العرب لم تقاتل بالجموع التي كان يقاتل بها الفرس أو الروم الذين كانت جيوشهم كبيرة قد تربو على المائة ألف في بعض المعارك، وجيش بهذه القوة يحتاج إلى تنظيم لسوقه قبل المعركة وتعبئته فيها. فجيش أولئك الأعاجم كان ينقسم إلى راجلين وفرسان وإلى طاعنين وضاربين ورماة، وكانت الفيلة عند الفرس والعجلات الحربية عند الروم تقوم مقام الأسلحة الثقيلة كالدبابات والمدافع الضخمة في يومنا هذا.
فنظام القتال عند اليونان كان مستندا إلى «الفيلق» (الفلانكس)، وهو وحدة تعبيرية يبلغ متوسط قوتها 4000 مقاتل، يصطف الجنود فيها على ستة عشر صفا، طول كل صف 256 مقاتلا، والجنود في «الفيلق» (الفلانكس) من المشاة مسلحون بالرمح والسيف والحربة والمغفر والدرع والترس، ويتكون «الفيلق» من القلب ويقف في الخط الثاني الذي يسبقه الخط الأول المؤلف من الرماة، ويليه الخط الثالث، وتقف الخيالة في الميمنة والميسرة لحماية الأجناب.
ويتألف الجيش عادة من أربعة «فيالق» (فلانكسات) متى تيسرت القوة فيه. فتقف «الفيالق» جنبا إلى جنب، وبينها فاصلات صغيرة تتراوح بين عشرين أو أربعين خطوة.
وكان هذا النظام لا يصلح للقتال إلا في الأرض السهلة المنبسطة، والمقدرة على الحركة فيه قليلة، ولا يستطيع تغيير الجبهة متى اقتضى الموقف ذلك، فضلا عن أنه معرض للخسارة إذا أصيب برمي السهام.
أما نظام القتال عند الرومان فكان مستندا إلى «اللجيون»، وهذا ينقسم إلى الكراديس ومجموعها عادة عشرة، وكانت الكراديس سابقا تعبأ على خطين، كل خمسة منها في نسق وبينها فاصلة جهة كردوس، على أن تقف كراديس الخط الثاني وراء فاصلات الخط الأول.
ثم تطور هذا النظام في عهد يوليوس قيصر، فكان اللجيون يقف على ثلاثة خطوط: في الخط الأول أربعة كراديس، وفي كل من الخطين الباقيين ثلاثة، وتبلغ قوة كل كردوس ألف مقاتل.
وتؤلف الكراديس القلب، ويقف أمامه الرماة الذين يرمون العدو بسهامهم أو بحرابهم قبل الاصطدام، ثم ينسحبون إلى المجنبات، أما الخيالة فتحمي المجنبتين.
وكان نظام الكراديس يفوق نظام «الفيلق» (الفلانكس) في المقدرة على القتال والحركة والسير بسهولة، وكان في استطاعة الكراديس أن ينجد بعضها بعضا.
والجانب في اللجيون قوي بخلاف جانب «الفيلق» (الفلانكس)؛ لأن كراديس الجانب متى غيرت ناصيتها استطاعت أن تقابل العدو الملتف حولها.
وسار الروم أو البيزنطيون في قتالهم على نظام الكراديس؛ فأخبار الفتوح الأولى تدل على أنهم كانوا يعبئون قواتهم كراديس ويحمون مجنبتهم بالميمنة والميسرة. وكانت قوة الجيش تختلف باختلاف عدد اللجيونات وتقف على خط واحد، فإما أن تؤلف القلب فتؤلف الخيالة وحدها الميمنة، وإما أن تؤلف القلب والميسرة والميمنة، وتكون الخيالة على الجانبين.
وإذا كان عدد اللجيونات كثيرا يحتوي القلب عادة على أكثرها، وقد زادت قوة الخيالة على ما كانت عليه في زمن الرومان؛ ذلك لأن الأقوام المتوحشة التي هاجرت من آسيا ودخلت أوروبا باغتت رومية بجيوشها الخيالة الكبيرة، ولما توطنت هذه الأقوام في أوروبا واندمجت في المقاطعات الرومانية وجهزت الجنود لجيوش رومية زاد عدد الخيالة فيها، وأصبح للفارس شأن خطير في القتال.
ولا يختلف نظام القتال عند الفرس عن نظام القتال عند الروم إلا اختلافا يسيرا. والجيش الفارسي على ما يظهر كان منقسما إلى كتائب، والكتيبة تقابل الكردوس وتبلغ قوتها ألف مقاتل، وكان خط القتال فيه ينقسم إلى القلب والميمنة والميسرة، وكانت كتائب الخيالة تحمي الجانبين على ما هو شائع، وكانت الفيلة تتقدم في جبهة القتال وعلى ظهورها الجنود المسلحون بالحراب والقسي، والذي يلفت النظر أنه كان للرماة شأن خطير في الجيش الفارسي، ولعل المشاة كانوا جميعا مجهزين بالقسي وجد ماهرين في الرماية.
ومن الأساليب التي كان الجيش الفارسي يلجأ إليها في حرج الموقف ربط الرجال بعضهم ببعض بالسلاسل لكي يثبتوا في محلهم مهما كلفهم الأمر.
فإزاء هذه الأنظمة الشائعة بين الدول الكبرى المجاورة لبلاد العرب كان طبيعيا أن يسير العرب على أسلوب معين في قتالهم.
ولم ينزو العرب في عقر دارهم في السنوات التي سبقت الفتوح، والرواة يروون هجوم الحبشة على بلاد اليمن، وتوغلهم فيها بعد انتصارهم على الجيش اليماني، ويشيرون إلى التجاء تبابعة اليمن إلى أكاسرة فارس وطلب النجدة منهم، فخاض الجيش الفارسي عباب البحر على أسطوله ورست سفنه على شواطئ اليمن، وحارب الأحباش وانتصر عليهم وطردهم من اليمن.
والقصاصون ينقلون أخبار المناذرة والغساسنة في حروبهم ومساعدتهم لكسرى أو لقيصر في الحروب الطاحنة التي دارت رحاها بين الفرس والروم، وقد ورد في القرآن الكريم نتف من أخبارها.
أما مؤرخو الرومان فيذكرون انتصار ملك تدمر أذينة على الرومان واعتزاز زوجه الزباء (زينوبيا) بالعاصمة تدمر.
فهذا الاحتكاك المستمر بين العرب والأمم المجاورة لهم والاشتراك في القتال مع الجيوش الأجنبية منجدين أو مستنجدين، والغارات المتوالية على أرض السواد في العراق أو أرض الشام، كل أولئك حمل العرب على اقتباس بعض الأساليب الحربية الشائعة عند الفرس والروم؛ لذلك لا يأخذنا العجب إذا سمعنا أن للمناذرة كتيبتين أو كردوسين: الدوسر والشهباء، وأن بكر بن وائل قاتلت الفرس في يوم ذي قار على تعبئة.
ومن المبادئ الحربية التي كان العرب يتمسكون بها في قتالهم مبدأ المباغتة والمقدرة على الحركة والأمنية. فالمباغتة من أخطر المبادئ التي كانوا يتوخون منها الفوز في جميع خططهم؛ لذلك تدل أخبار أيامهم ووقائعهم في الردة على عنايتهم الزائدة بالاستطلاع، فكانت العيون تسبق حركاتهم، فإما أن يباغتوا عدوهم بأخذه على غرة، أو أن يكمنوا له فيفاجئوه.
أما مبدأ المقدرة على الحركة فظاهر من سيرهم على ظهور خيلهم أو جمالهم خفافا مسافات بعيدة بسرعة فائقة، وأما عنايتهم بمبدأ الأمنية فمعلوم من إيفادهم الأرصاد والعيون، ووضع الخيالة في المجنبة في القتال، ومراقبة جانب العدو مراقبة مستمرة للهجوم عليه عند سنوح الفرصة.
ومن المحتمل أننا لا نرى في كتب التاريخ مثالا للحركة السريعة التي قام بها خالد بن الوليد حين أمره عمر بنجدة جيش سورية وهو يحارب في العراق، فقطع ابن الوليد البادية بجيش يبلغ عدده تسعة آلاف مقاتل على ظهور الخيل والجمال، وابتدع وسيلة لضمان الماء اللازم لخيله، وذلك عمل يدل على نبوغ نادر، وسنشير إلى ذلك عند البحث في فتح العراق.
وفي غزوة أحد كانت قوة المسلمين ألف رجل تخلف منها ثلاثمائة رجل، وكانت قوة قريش ثلاثة آلاف رجل، فنظر الرسول في كثرة قوة العدو فأخلى المدينة وانسحب إلى شمالها جاعلا جبل أحد خلفه للاستفادة من مناعته ومن وضعه المشرف على ما حوله، ولما لم يكن الجانب الأيسر مسنودا بقوة! وضع فيه مفرزة رماة بقوة خمسين رجلا لحمايته، أما جيش قريش فرتب صفوفه للهجوم بعد أن وضع قوة الخيالة على مجنبته، وكانت تبلغ مائتي رجل، وقدم الرماة في الخط الأول.
وكان خالد على رأس خيالة قريش في الجانب الأول يراقب رماة المسلمين ويشاغلهم ويتحين الفرص للهجوم عليهم؛ لكي يقطع خط الرجعة على المسلمين، وفعلا استطاع ذلك لما سنحت الفرصة فقلب فوز المسلمين إلى انكسار مروع؛ فهذا كله يثبت لنا أن للعرب أسلوبا في القتال، وأن مبدأ المباغتة ومبدأ الأمنية كانا من أخطر المبادئ التي ساروا عليها.
وفي يوم ذي قار نرى بوضوح النظام الذي سار عليه العرب في قتالهم الفرس وهو يؤيد ما ذهبنا إليه.
ولا يخفى أن معركة ذي قار وقعت بين غزوة بدر وغزوة أحد فانتقم فيها العرب من الفرس ونالوا ظفرا حاسما شجعهم على الاستهانة بقوة فارس، وساعدهم على غزو بلاد السوار غزوا متواصلا حتى آل الأمر إلى فتحهم تخوم العراق.
ويروي لنا صاحب الأغاني أخبار ذلك اليوم بالتفصيل، والواضح من ذلك أن العرب عبئوا قوتهم صفوفا وقسموها إلى كتائب، وجعلوا الظعن في الوراء ليحموه بقلبهم، وكان بمنزلة القاعدة التي يتمون منها الجيوش في يومنا هذا، وتوضع الخطط الحربية لحمايتها.
وأقاموا قوة في الميمنة من بني عجل، وقوة في الميسرة من بني شيبان.
أما القلب فألفته قبائل بني بكر بن وائل، ومن الأساليب التي ساروا عليها أنهم لم يقدموا الصفوف للقتال دفعة واحدة لكيلا تصيبها سهام الفرس فتفتك بها، وكان الفرس، على ما نعلم، ماهرين في الرماية. والحقيقة أن تقديم الصفوف بأجمعها في وقت واحد يجعلها عرضة للسهام دفعة واحدة، بينما البدء بالحركة بكتيبة واحدة يجعل الصفوف الأخرى في مأمن من ضررها، وهذا من الأساليب التي كانت تراعى في هجوم الخيالة على المشاة؛ إذ تبدأ الحملة بخط منتشر ضعيف من الخيالة وتليها الخطوط المنظمة.
فالعرب على ما يظهر جليا دخلت ميدان القتال بنظام لم يكن أقل شأنا من نظام الفرس، وكان من أمره أن هزموهم شر هزيمة، وطاردوهم إلى أرض السوار بعد أن غنموا أحمالهم وأثقالهم.
ولعل الطريق التي سار عليها الرسول
صلى الله عليه وسلم
في غزوة بدر تدل على فكرة التعبئة عند العرب. كانت قوة المسلمين تبلغ ثلاثمائة مقاتل بينهم خيال أو خيالان فقط، بينما كانت قوة قريش تربو على الألف وفيها مائة خيال.
وكان القصد من هذه الغزوة مباغتة قافلة قريش عند عودتها من الشام إلى مكة، ولما وصلت قوة المسلمين إلى مياه بدر علمت من الأسرى أن قريشا أنجدت القافلة بقوة كبيرة كانت ثلاثة أضعاف قوة المسلمين، وكان لا بد من الاصطدام؛ لأن انسحاب المسلمين دون القيام بعمل ما، يؤثر في سطوة الإسلام ويشجع المنافقين على الشغب.
لذلك قرر الرسول أن يقاتل قريشا بقوته الضعيفة على أن يزيد مناعتها بالتدابير التعبيرية الموافقة، فاختار موضعا يهيمن على معسكر قريش وقسم قوته إلى ثلاثة أقسام، وجعل لكل قسم قائدا، ورتب الأقسام بعضها بجانب بعض وعبأها صفوفا كالبنيان المرصوص، وعرض الصفوف بنفسه فقدم المتأخر من الجنود وأخذ المتقدم منهم، فأصبحت الصفوف متراصة.
ومنع المسلمين من رمي السهام ومن التفاخر، وطلب منهم ألا يتقدموا من محلهم، ولا يرموا إلا بعد أن تدنو قريش منهم على مسافة قريبة، وكان يقصد بذلك أن تصيب السهام قوة قريش الفائقة فلا تتبعثر. وبفضل هذه الترتيبات انتصر المسلمون على قريش مع قلة عددهم وضآلة سلاحهم، ولا شك في أن القتال بالكر والفر كان شائعا عند العرب، ولعلهم كانوا يستعملونه كثيرا في غزواتهم لأخذ الثأر أو لجر مغنم، وكان يقع بين متقاتلين يبلغ عددهم العشرات ولا يجاوز المئات، ولما كانوا يقاتلون بالجموع في أيامهم الشهيرة أو في مقاتلتهم الفرس أو الروم كانوا بلا ريب يعبئون قواتهم صفوفا. (3) الحركات الأولية
والواضح من أخبار الرواة أن مناوشات طفيفة وقعت قبل أن يتسلم خالد بن الوليد قيادة الجيش للقضاء على أهل الردة في بلاد نجد.
والظاهر أن الرواة لم يتفقوا على أخبار هذه المناوشات جديا على عادتهم، والروايات المنتهية إلى سيف بن عمر، وهو الراوي الذي يستند إليه الطبري في ذكر الكثير من أخباره، تبحث في قتال عنيف وقع بين المسلمين وأهل الردة قبل أن يزحف خالد بجيشه إلى طليحة بن خويلد الأسدي في بزخ. أما الأخبار التي يرويها الواقدي والبلاذري فتذكر قتالا طفيفا جرى في ذي القصة أو البقعاء بين مقدمة المسلمين وعبس وذبيان انتهى بهزيمة المرتدين بعد أن رأوا أن كوكب (القسم الأكبر) جيش المسلمين وصل لنجدة المقدمة، وأن قسما من هذا الجيش طاردهم إلى ثنايا العوسجة، ولما لم يلحق بهم عاد إلى المعسكر، ولم يتفق الرواة على هذا القتال أجرى قبل عودة جيش أسامة بن زيد أم بعد عودته من بلاد الشام.
ومن الأخبار ما تروي أن كبار الصحابة أشاروا على أبي بكر ألا يرسل جيش أسامة بعد أن وردت الأخبار بارتداد العرب، إلا أن أبا بكر لم يقدم على تغيير ما أمره الرسول به في حياته، والذي اتفق عليه الرواة أن جيش أسامة لم يغب عن المدينة أكثر من شهرين، وكان الجيش متجمعا في الجرف في شمال المدينة لما توفي الرسول، ومع أن أكثر الرواة يزعم أن أخبار الارتداد في الشرق والشمال والجنوب الشرقي وردت قبل حركة جيش أسامة؛ وذلك ما جعل كبار الصحابة يشيرون على الخليفة بإبقاء الجيش ليعتز المسلمون به في محاربتهم أهل الردة، إلا أن الواقع لا يؤيد ذلك؛ إذ لا يعقل أن يصل نعي النبي إلى بلاد عمان والبحرين فيرتد أهله، ويصل ذلك النعي إلى المدينة وجيش أسامة قاعد لا يحرك ساكنا، وإذا كان الخليفة يريد أن ينفذ أوامر الرسول، فلماذا يؤخر حركة هذا الجيش طول هذه المدة، وتدل الأنباء على أن أول من أنبأ بالارتداد عامل المكة، وأعقبه عامل الطائف بالخبر، ثم ورد عمرو بن العاص إلى المدينة بخبر ارتداد أهل عمان والبحرين ونجد، وكان الرسول بعد حجة الوداع قد أوفده إلى عمان، فلما بلغه نعي النبي
صلى الله عليه وسلم
قفل راجعا إلى المدينة، وأخبر بوضوح أن العرب ارتدت من ربى إلى المدينة، والمدة التي تصل فيها أخبار الوفاة إلى عمان ليست قصيرة، كما أن السفر من عمان إلى المدينة أيضا يتطلب عدة أيام، أما المسافة بين عمان والمدينة 1250 ميلا (أعني مسيرة أكثر من عشرين يوما على الذلول).
ومن الواضح أن كبار الصحابة لم يرتئوا إبقاء جيش بمجرد رؤيتهم قبائل فزارة وغطفان يرتدون، والأمر الذي لا شك فيه أن خبر امتناع بعض القبائل العربية القريبة من المدينة عن تأدية الزكاة ورد إلى المدينة قبل حركة جيش أسامة، وإذا صح ادعاء الرواة فإن خبر ارتداد العرب في أقصى البلاد ورد إلى أبي بكر، فأطلعه على حرج الموقف قبل سفر جيش أسامة، فيكون الخليفة قد جازف مجازفة خطيرة بإيفاده الجيش شمالا، بينما كان الخطر يهدد المسلمين في عقر دارهم.
ومن الرواة من يزعم أن أبا بكر شرع في قتال أهل الردة بعد عودة جيش أسامة، ومنهم من يدعي أن قتال ذي القصة والربذة جرى قبل عودة جيش أسامة. أما نحن فنميل إلى الاعتقاد أن القتال وقع قبل عودة الجيش؛ إذ لا يعقل أن تتواطأ غطفان على الهجوم على المدينة وتعلم بأن جيش أسامة رابط في شماله، بينما الروايات التي يستند إليها الواقدي والبلاذري تدل على أن قوة المسلمين كانت ضعيفة في ذلك القتال. (4) الشروع في العصيان
أول من شرع في العصيان خارجة بن حصين الفزاري من رؤساء بني فزارة؛ إذ إنه أوقف جابي الزكاة في طريقه إلى المدينة، وأخذ منه ما في يده، فرده على بني فزارة، ورجع الجابي إلى أبي بكر، أما القبائل التي ثارت وتظاهرت بالعداء فهي بنو أسد وغطفان، والبعض من بطون طيء، فاجتمع بنو أسد في سميراء، وعلى رأسهم طليحة بن خويلد، واجتمعت فزارة في جنوبي طيبة، واجتمعت عبس وذبيان في الردة والتف حولهم جماعة من كنانة، ولما كثر عددهم لم تحملهم البلاد؛ لأن المياه شحيحة، والمرعى قليل، فتفرقوا إلى فرقتين، فأقامت فرقة بالأبرق بالقرب من الربذة والأخرى في ذي القصة، وأمد طليحة فرقة ذي القصة بقوة من بني أسد، والداعي إلى تفرقهم هو أن الوقت كان ضيقا؛ لأن الرسول توفي في شهر ربيع الأول في السنة الحادية عشرة من الهجرة، وهذا التاريخ يوافق شهر حزيران سنة 632 ميلادية، والمياه على ما نعلم تشح في الصيف، وكذا المراعي تقل حينئذ، فبعثت غطفان وفدا إلى المدينة ليعرض على أبي بكر رغبتها في أن تقيم الصلاة وألا تؤتي الزكاة، وكان عيينة بن حصن الفزاري وأقرع بن حابس في الوفد.
فلم يلب أبو بكر طلبهم برغم إشارة بعض الصحابة عليه بالتساهل معهم إلى أن يعود جيش أسامة، إلا أنه في الوقت نفسه قدر خطورة الموقف لما عاد الوفد إلى أهله، وكان للوفد على ما يظهر مهمتان:
عفو الزكاة والاطلاع على قوة المسلمين في المدينة، وقد لاحظ أبو بكر ذلك؛ إذ لم يعد الوفد حتى جمع الصحابة وأطلعهم على حرج الموقف وكلفهم بحراسة المدينة ليلا ونهارا، فأقام رجالا في الأبراج لمراقبة الطرق الممتدة إلى المدينة من جهة البادية، ورتب قوة احتياطية في المسجد لتكون على استعداد للنجدة عند الحاجة، وحذر أهل المدينة بقوله: «إنكم لا تدرون أليلا تؤتون أم نهارا، وأدناهم منكم على بريد.» يشير بذلك إلى قرب المسافة بين المدينة والقبائل المتحفزة للهجوم، وقد يعجب الإنسان بصلابة أبي بكر في رفضه طلب الوفد بعد اطلاعه على أخبار عماله لدى القبائل وسماعه حديث عمرو بن العاص، وكانت جميعها تنبئ بارتداد العرب عامة أو خاصة، ولا يوجد في المدينة سوى نفر قليل وجيش أسامة بعيد عنها، فنظرا إلى ما ذكره الواقدي في كتاب الردة أن أبا بكر لم يكتف بالتدابير التي اتخذها في المدينة؛ بل طلب من القبائل العربية كأسلم وغفار ومزينة وأشجع وجهينة وكعب أن تمده بالرجال، فأسرعت إلى نجدته، فأخذ الناس يتوافدون إلى المدينة بسلاحهم، وأرسلت جهينة أربعمائة راكب، وإذا صدقنا رواية سيف بن عمر التي نقلها الطبري ظهر لنا أن ظن أبي بكر كان في محله؛ إذ لم تمض ثلاثة أيام على عودة الوفد حتى كان المرتدون قد غزوا المدينة ليلا، ولا بد أن الوفد بعد عودته أخبر القبائل المتحفزة للهجوم عن ضعف قوة المسلمين في المدينة، وشجعها على الهجوم، وكانت من غطفان وهي عبس وذبيان وفزارة على ما نعلم. (5) المواقع التي جرى القتال فيها
وردت أسماء السميراء والربذة وطيبة والأبرق وذي القصة عند البحث في تجمع القبائل، ولا يوجد الآن من هذه الأسماء في الخرائط الحالية إلا السميراء. ولنا من الأخبار التي نستقيها من رواة العرب الأقدمين أن القبائل الساكنة في شرقي المدينة وعلى طرفي الطرق الذاهبة إلى العراق وخليج فارس هي بنو سليم، وهي أقربها إلى المدينة في الشمال الشرقي.
ثم يليها بنو كلاب إلى شمال بني سليم، ثم عبس وذبيان في شرقي حرة خيبر إلى الشمال، أما قبائل طيء فتسكن في جبلها أجأ وسلمى، وفي شرقي بني عبس وذبيان وفزارة من غطفان في وسط وادي الرمة وعلى جانبيه، وتأتي بعدها قبائل بني أسد، وموقع سميراء على ما يظهر من الخريطة واقع إلى شمالي وادي الرمة، ويبدأ منه وادي السميراء الذي يصب في الوادي في جوار الحاجر. (6) الربذة
يذكر ياقوت الحموي أن موقع الربذة على الطريق التي تصل موقع فيد بالمدينة، وفيد في حي طيء وهي قرية من قرى جبل شمر واقعة إلى شرقي جبل سلمى على الطريق التي تصل الكوفة بالمدينة، ويمر بها طريق الحج، وهي بعيدة عن المدينة مسافة ست مراحل وتلقى فيها عدة طرق من الجوف والعراق والمدينة وبريدة والرس والربذة على هذه الطريقة، وهي تبعد عن المدينة أربعة وعشرين فرسخا، وواقعة إلى شمالي شرقها، ولعل موقع حناكية الحالي هو موقع الربذة القديم أو قريب منه؛ لأن بعده عن المدينة زهاء ثمانين ميلا، والفرسخ العربي طوله أربعة كيلومترات ونصف كيلومتر، أو أربعة كيلومترات، والذي يجعلنا نميل إلى ذلك أن القوة لم تجتمع في الربذة؛ بل في الأبارق، وكلمة أبارق اسم خاص لبعض المحلات تدل على أرض حجرية ورملية مختلطة، وموقع الحناكية بالقرب من حدود حرة خيبر، والحرة على ما نعلم أرض بركانية خامدة وفيها محلات لتراكم الماء فيها، وما دامت القبائل مجتمعة فيها فلا بد حينئذ من وجود الماء بها، والحناكية واقعة في بطن وادي الحمض. (7) ذو القصة أو البقعاء
والظاهر أن كلتيهما تدلان على موقع واحد واقع في شرقي المدينة وقريب منها، وهو بلا شك على الطرق التي تمتد إلى المدينة في غرب الربذة أو في جنوبها، وهو إما الشقرة أو سابية، والأخبار تدل على أن أبا بكر بعد أن هزم المرتدين في البقعاء طاردهم بخيله إلى ثنايا العوسجة بالقرب من الركبة، وهذا الموقع الأخير واد يصب في الرمة، ولعله وادي الركب الذي ينبع من حرة خيبر، ويجري شمالا في شرق وثنايا العوسجة في المحل الضيق الذي يتسلق فيه الطريق صاعدا إلى رأس الوادي أو ينزل منحدرا منه.
أما موقع طيبة الذي اجتمع فيه غطفان وفزارة فلم نعثر عليه في معجم البلدان، ولعله في شرقي الربذة أو في شماليه، أو إنه موقع طابة في سفح جبل سلمى الجنوبي في شمالي السميراء، وهو من ديار غوث بن طيء. (8) مباغتة المدينة
لم يهجم المرتدون بكل قوتهم؛ لأنهم أرادوا أن يكونوا خفافا فتركوا قسما منهم في ذي حسى بين ذي القصة والمدينة ليكون رداء لهم، واقتربوا ليلا من المدينة ولم يباغتوها؛ لأن العيون أخبرت المسلمين بدنوهم فقاتلتهم الربايا الخارجية، وأسرع أبو بكر بمن في المسجد فأنجد الربيئات وهزم الهاجمين، ولم يكتف بذلك بل هاجمهم على الجمال التي تستقي الماء من الآبار لإسقاء مزارع المدينة إلى أن نفرت الإبل من الجلود المنفوخة التي دهدهها الفارون من أعلى الروابي، فرجعت على أعقابها نافرة حتى دخلت المدينة.
والظاهر أن الهاجمين لم يكونوا في قوة كبيرة، ولا سيما بعد أن تركوا قسما منهم في الخلف، ويظهر أنهم من بني عبس وذبيان، أما فزارة فبقيت في ذي القصة، وهكذا انقسمت القوة التي أرادت أن تهاجم المدينة إلى ثلاثة أقسام؛ قسم في ذي القصة، وقسم في ذي حسى، والقسم الثالث أغار على المدينة، أما قوة المسلمين فلا شك في أنها كانت ضعيفة ولعلها لم تزد على المائتين، وتشجع المرتدون من فرار جمال المسلمين وظنوا بهم الوهن، وبعثوا إلى من بذي القصة بالخبر فلحقوا بهم.
ويختلف الرواة في الحركة التي جرت، فالأخبار التي يستند إليها الواقدي والبلاذري لا تبحث في غارة المرتدين على المدينة، ولا تذكر موقع ذي حسى، وتذكر أن أبا بكر لما علم أن القبائل اجتمعت في ذي القصة بقصد الغارة قرر أن يقاتلها في عقر دارها غير مبال بقلة عدده. وقصده من ذلك إرهاب المرتدين وإلقاء الرعب في قلوب العرب، وجعلهم يعتقدون أن المسلمين أقوياء، وأن ذهاب جيش أسامة لم يقلل من قوتهم، فتقدم أبو بكر على رأس المقدمة الراكبة نحو ذي القصة يعقبه الكوكب (القسم الأكبر)، وبالنظر إلى رواية سيف أن الجمال بعد أن نفرت براكبيها ودخلت المدينة، بات أبو بكر ليلة يتهيأ للهجوم، فبعد أن رتب قوته خرج مبكرا من المدينة، وباغت عدوه فهزمه شر هزيمة. والذي يلوح لنا أن الروايات الأولى هي الأصح، وكانت قوة المقدمة تبلغ مائة رجل، وسارت يومها وعسكرت مساء بالقرب من أجمة «فباغتها العدو من مكمنه وألجأها إلى الفرار فاحتمى أبو بكر بالأجمة ...» منتظرا ورود الكوكب (القسم الأكبر)، ولما نادى أحد المسلمين بوروده انهزم المرتدون، فطاردهم المسلمون إلى ثنايا العوسجة، ثم قفلوا راجعين إلى ذي القصة.
ويذكر الواقدي أن أبا بكر لم يخرج إلى ذي القصة إلا بعد عودة جيش أسامة إلى المدينة، غير أننا لا نميل إلى رأيه؛ لأن مجرى الأخبار يدل على أن قوة المسلمين كانت ضعيفة لما خرجت من المدينة قاصدة العدو. ويزعم سيف أن بني ذبيان وعبس بعد هزيمتهم هذه وثبوا على من فيهم من المسلمين فقتلوهم، وحلف أبو بكر ليقتلن من المشركين في كل قبيلة، وليقتلن من كل قبيلة بمن قتلوا من المسلمين، وكانت وقعة ذي القصة والبقعاء أول نصر للمسلمين على المرتدين، ومنها تظهر فراسة أبي بكر وصلابة عوده.
لا بد أن القارئ انتبه إلى فساد خطة القبائل في محاولتهم غزو المدينة؛ إذ بدلا من أن يجتمعوا في محل واحد للهجوم على المدينة أو أن يقاوموا جيش المسلمين معا، اجتمعت كل قبيلة في حيها؛ فاجتمع بنو أسد في السميراء، وفزارة في طيبة، وجديلة وغوث من طيء في جبليهما، وذبيان وعبس اجتمعت فرقة منها بالقرب من الربذة، والأخرى من ذي القصة أو البقعاء.
والداعي إلى تفرقهم على ما يظهر أن المياه في كل محل من تلك المحلات لم تكن كافية لأداء إرواء جماعة كبيرة، وكان الكلأ قليلا، فضلا من صعوبة اجتماع كلمة القبائل على غاية واحدة، وكان قبل ذلك حلف بين بني أسد وغطفان وطيء، بيد أن قتالا وقع بين غطفان وبني أسد من جهة أخرى فأمست القبائل متخاصمة، وكذلك كلمة طيء لم تكن مجتمعة، فمال إلى المرتدين فرقتان منها فقط، وهما جديلة وغوث، أما الفرق الأخرى فبقيت على إسلامها، وكانت القبائل في قيامها على المدينة يراقب بعضها بعضا، ولا تريد أن تكون البادئة بالعداء؛ ذلك ما جعل كلا منها يبقى في حيه ويراقب عمل الآخر.
وقد اختبر الصديق حالة القبائل وتأكد أن كلمتها لم تجتمع؛ لذلك لم يشأ أن يؤخر جيش أسامة عن سفره، واكتفى برجال المدينة والموالين من القبائل القريبة منها، وقد أيدت الوقائع رأيه. وبعد انتصار أبي بكر على القبائل في البقعاء قفل راجعا إلى المدينة، ولما شاع خبر انتصار المسلمين على أهل الردة في أول قتالهم أخذت الصدقات تأتي من الأطراف بعد أن تردد أهلها في إرسالها، فوردت صدقات عدي بن حاتم من طيء وصدقات أخرى.
وبعد مدة قصيرة عاد جيش أسامة من الشمال فقرت به أعين المسلمين، فلم يمهل أبو بكر المرتدين بعد أن بلغه أن بني عبس وذبيان أوقعت بمن فيها من المسلمين ومثلت بهم، وبعد وقعة ذي القصة أراد أن يفني من في الأبرق، فأراح جيش أسامة بضعة أيام وخرج بالقوة التي سار بها إلى ذي القصة بعد أن أنجدها بالناس من جيش أسامة، وتوجه نحو الأبرق، وفيه الفرقة الثانية من بني عبس وذبيان وبني كلاب وغيرهم.
وقد ناشده كبار الصحابة بألا يعرض نفسه للخطر بقيادة الجيش بنفسه، إلا أنه لم يجب طلبهم. فبعد أن عبأ جيشه باغت المرتدين في الأبرق فهزمهم شر هزيمة، وانسحبت فلولهم إلى السميراء والتحقت ببني أسد، ولما رأى طليحة الخطر انسحب بجميع القوات التي التفت حوله إلى بزاخة.
وأقام أبو بكر في الأبرق، وكان يملكه بنو ذبيان، فأعطى مراعيهم لخيل المسلمين وحرم بطون ذبيان منها. (9) تولية خالد بن الوليد قيادة الجيش
تدل الأخبار على أن خالدا اشترك في قتال ذي القصة والأبرق مع المهاجرين، ولما رجع أبو بكر إلى المدينة انسحبت قوة المسلمين إلى ذي القصة، وتولى قيادتها خالد بن الوليد.
وتذكر الروايات التي تبدأ بسيف بن عمر أن أبا بكر لما وصل إلى المدينة جمع رجالا من القبائل المجاورة للمدينة وأرسلها إلى ذي القصة لتقوية جيش المسلمين، ثم عاد إلى ذي القصة، فاستعرض الجيش وقسمه إلى إحدى عشرة فرقة، وعين قائدا لكل منها، فوجهها إلى مناطق المرتدين في جزيرة العرب لقتالهم والقضاء على حركة الردة.
وهذه الرواية التي يرويها سيف يصعب تصديقها، وذلك:
أولا:
لأن قوة المسلمين لم تكن في عدد يكفي لتقسيمها إلى إحدى عشرة فرقة.
ثانيا:
أن إيفاد فرق البحرين وعمان ومهرة وحضرموت واليمن قبل قمع الفتنة في قلب جزيرة العرب مسألة فيها نظر.
ويمر طريق البحرين وعمان ومهرة ببلاد بني حنيفة، وفيها مسيلمة ثائر وهو معتصم في بلاده الوعرة. والحقيقة أن قوة جيش المسلمين لم تجاوز بضعة آلاف على ما ذكرناه في بحث تقدير قوة الفريقين؛ فجيش أسامة لم يتجاوز ستة آلاف، أما القوة التي جهزها لمقاتلة من اجتمع في ذي القصة فلم تتجاوز الألفين. فتقسيم هذه القوات جميعا إلى أحد عشر قسما مما يجعل كلا منها ضعيفا، بحيث لا يستطيع القيام بالواجب المنوط به، بينما الأخبار تؤيد أن جيش خالد بن الوليد وحده كان يبلغ أربعة آلاف رجل، ثم إن هناك أخبارا تؤيد حبوط هجوم فرقة عكرمة بن أبي جهل، وكذلك هجوم فرقة شرحبيل بن حسنة على قوات مسيلمة وانسحابهما إلى الوراء والتحاقهما بفرقة خالد بن الوليد؛ مما يجعلنا نميل إلى الاعتقاد أن أبا بكر فكر قبل كل شيء في القضاء على حركة الردة في وسط جزيرة العرب، وجمع لذلك ما في يده من القوات المتيسرة وناط قيادتها بخالد. (10) قوة الجيش
إن الرواة على عهدنا بهم لم يرووا لنا مقدار قوة المسلمين التي احتشدت بقيادة خالد بن الوليد في ذي القصة، والمصدر الوحيد الذي يذكر لنا قوة خالد هو أبو حبيش؛ إذ يروي لنا أنها كانت تبلغ أربعة آلاف مقاتل قبل حركته إلى بزاخة.
وكان الجيش على ما سبق بيانه مؤلفا من القوة التي جمعها أبو بكر من القبائل المجاورة للمدينة على جناح السرعة للهجوم على المرتدين في ذي القصة بعد تهديدهم للمدينة. ومن القسم الذي التحق به من جيش أسامة بعد عودته إلى المدينة قبل الهجوم على الأبرق. ومن الواضح أن البعض منه تخلف عن الالتحاق ليقضي مدة من الزمن بين أهله بعد أن غاب عنهم مدة شهرين في سفره إلى الشمال.
والذي يظهر من رواية سيف أن أبا بكر لما عاد إلى المدينة أرسل هذا القسم المتخلف أيضا إلى ذي القصة، وبعد التحاقه أصبح جيش خالد أربعة آلاف أو أكثر، وكانت قوة الأنصار وحدها تبلغ زهاء خمسمائة مقاتل. أجل إن العدد ضعيف بالنظر إلى المهمة الخطيرة المنوطة به، إلا أن تجانس القوة في هذا الجيش وصلابة المعتقد فيه وتفرق كلمة القبائل المرتدة جعلته أهلا للعمل. (11) منطقة الحركات
يحد المنطقة التي جرت فيها الحركات من الشرق الدهناء، وهي الساحة الرملية الممتدة من الشمال الغربي إلى الشرق الجنوبي في شرقي القصيم، وكانت الدهناء ولا تزال المفازة التي تفصل أرض السواد (أعني العراق) عن بلاد نجد، ويحدها من الشمال جبل شمر، أعني بلاد طيء المرتفعة التي تمتد جبالها على ما سبق من الشمال الشرقي إلى الجنوب الغربي، وأخطرها جبلا سلمى في الجنوب، وأجأ في الشمال، وفيها وديان كثيرة أجلها شأنا وادي حائل، وهو يبدأ من بزاخة طيء بشعاب متعددة، ويفصل الجبلين أحدهما عن الآخر؛ حيث تنصب فيه عدة شعاب من الشمال والجنوب، وتغمره بالمياه في موسم الأمطار، وقد شيدت على جانبيه القرى التي ترتوي بمياه الآبار المنصرفة إليها من الجبال، ولما كان جبل سلمى وجبل رمان يشرفان على وادي الرمة من الجهة الشمالية، فالشعاب التي تمر بالأطناف الجنوبية تنحدر جميعا إلى ذلك الوادي، وهذه الأطناف هي الحدود الفاصلة بين حي بني أسد وحي فزارة من بني غطفان وقريتي فيد وطابة لبني طيء وهما على الحدود.
ويحد منطقة الحركات من الغرب حرة خيبر، ومن الجنوب الهضبة المشرفة على وادي الرمة من الجنوب، وفيها بنو سليم في الشمال وبنو عامر في الجنوب وموقعا العمق في الغرب ورابية أبان الأبيض في الشرق في أرض بني سليم.
والوادي أرض منخفضة بين هضبتين مرتفعتين، تنصرف إليه جميع المياه التي تنزل عليها في موسم الأمطار، وإذا حفرنا الآبار في بطنه على عمق بضع أقدام نعثر فيها على ماء كثير. والطريق التي تصل المدينة ببلاد القصيم تمر بهذا الوادي، وبعد أن يترك المدينة يمر بالبقعاء أو ذي القصة بالقرب من سابية، ثم بالشقرة فالربذة بالقرب من الحناكية فالمشقق فبئر الطرفة، فإلى جنوب أكمة الخيمة؛ حيث يدخل أرض بني أسد، ويمر بعد ذلك بين الأبانين: أبان الأسود في الشمال، وأبان الأبيض في الجنوب، والأسود في أرض بني أسد إلى أن يمر بشمال الرس، وهو بئر ماء لبني أسد فيصل إلى القريتين في بلاد قصيم، أعني العنيزة في الجنوب وبريدة في الشمال، وكلتاهما في حي بني تميم.
ويسكن بنو أسد في الساحة الواسعة التي في شمال الوادي من جنوبي فيد وأطابة غربي السميراء والظهران السليلة.
وفي غربي النقرتين نقرة السلاسل ونقرة الخطوط وجبل سارة، وفي أرض بني أسد يقع موقع الغمر وهو رابية مرتفعة تشرف على وادي الغمر الذي ينبع من سفح جبل الموشم الشمالي ويصب في الكهفة، وبالقرب منه تقع بزاخة بني أسد، وهي الموقع الذي نشبت فيه المعركة بين جيش خالد وجيش طليحة.
والذي جعلنا نميل إلى الاعتقاد بأن موقع بزاخة في هذا المحل، هو ما ذكره ياقوت الحموي في معجمه نقلا عن ابن الكلبي، أما الأصمعي فيروي أن بزاخة ماء لطيء، وفي جبل طيء موقع آخر يسمى بزاخة. وعلى ما يظهر لنا من مجرى الحركات أن القتال بين المسلمين وبين المرتدين لم يقع في أرض طيء؛ بل وقع في أرض بني أسد بالقرب من الغمر، ولا سيما أن خالدا بعد انتصاره على طليحة وجه سراياه في جهات مختلفة مطاردا فلول المنهزمين، وهذه السرايا قاتلت المنهزمين في جبل رمان في الأبانين. ولا يعقل أن المعركة نشبت في بزاخة طيء والمطاردون يطاردون المنهزمين إلى رمان والأبانين؛ بل من المعقول أن تنشب المعركة في جوار الغمر فيشرد المنهزمون إلى أنحاء مختلفة فينهزم بنو فزارة إلى حيهم في جنوبي الرمان وغربيه، وبنو أسد إلى الأبانين وإلى ظفر في جوار كهفة وإلى النقرة؛ أعني إلى حدود الحي.
وفي منتهى الشرق بلاد بني تميم والقصيم على الحدود بين أسد وبني تميم، وهي من أغنى البقاع الواقعة في نجد وتحدها رمال الدهناء من الشرق، وفي غربيها مراعي الحزن، وفي شرقيها مراعي الصمان، وكلتا البقعتين من أخصب المراعي وهما لبني تميم. وبنو يربوع في الحزن إلى وادي حائل، والصمان إلى بني حنظلة، وماء الطريفة في شمالي البريدة لهم أيضا. والبطاح في جنوبي الحزن وفيه قرية بريدة وموقع البعوضة والقعرة، وهو مشهور بجودة الكلأ، وفيه دارت الدائرة على مالك بن نويرة رئيس بني يربوع.
ولا تزال إحدى ضواحي البريدة تسمى بالبطاح، والعصبة تتألف من أربع ضواح؛ وهي جردة وجديدة وشمال وبطاح، وموقع النباح في حي بني تميم، وهو المحل الذي وصلت إليه سجاح برجالها فقاتلها بنو تميم وكسروها، وهو واقع في الحزن على طريق الكوفة بعد الفيد. (12) نسبة القبائل
من المفيد أن نذكر نسبة القبائل وقرابة بعضها لبعض، وأكثر القبائل التي ارتدت عدنانية تنتسب إلى مضر، ما عدا قبيلة بني حنيفة فهي من ربيعة.
والقبائل العدنانية تنتسب إلى شعبين كبيرين، وهما مضر وربيعة.
وشعب مضر ينقسم إلى ثلاثة أقسام رئيسية:
فالقسم الأول:
قيس، ومنها: غطفان وهوازن وسليم، وإلى غطفان تنسب فزارة وعبس وذبيان، وإلى هوازن تنسب ثقيف.
والقسم الثاني:
قبيلة طابخة، وإليها ينتسب بنو تميم.
والقسم الثالث:
مدركة، وإليها ينتسب بنو أسد، ومنها كنانة، وإليها تنتسب قريش.
أما شعب ربيعة فاشتهرت منه القبائل الآتية:
عنترة وعبد قيس وبكر وتغلب وبنو حنيفة، وينتسبون إلى بكر بن وائل. (13) الموقف قبل الحركات
التقت فلول غطفان بن فزارة وعبس وذبيان بطليحة بعد انهزامها في ذي القصة والربذة، واجتمعت مع بني أسد في بزاخة، وقد مال إليهم فرقتان من طيء، وهما جديلة وغوث على ما ذكرناه سابقا، ولم تترك هاتان الفرقتان حيهما؛ بل اجتمعتا في أكناف جبل سلمى؛ أعني بالقرب من موقع طابة في الجنوب الغربي من فيد.
أما الباقي من بني طيء فظل على الحياد بسعي عدي بن حاتم، وأما قبائل بني عامر بن صعصعة، وهي في الشمال الشرقي من جبل شمر، فكانت تراقب مجرى القتال، وتنتظر عاقبة المعركة لترى رأيها بعد ذلك.
أما بنو تميم فلم يوحدوا كلمتهم؛ بل كانوا منقسمين على بعضهم. وبينما كانت القبائل المرتدة على هذا النحو من تفرق الشمل واختلاف المقصد كان خالد بن الوليد على رأس جيش متجانس صقلته الغزوات والحروب، وحنكته التجارب متأهبا للحركة عند أول أمر يصدره قائده.
وكان هذا الجيش قليل العدد، غير أن كفاية قائده ضمنت له الفوز، وكلما أحرز فوزا ازدادت قوته بانضمام المحايدين إليه؛ لأن الغلبة كانت تأتي لهم، وقد تم ذلك فعلا، ويزعم بعض المؤرخين أن قوة جيش خالد كانت تبلغ ثلاثة آلاف مقاتل حين تقدم نحو طليحة، فلما تقدم نحو مسيلمة أصبحت عشرين ألفا. (14) الحركات
يقول ابن حبيش نقلا عن الواقدي: إن جيش خالد بدأ بالحركات من ذي القصة في اليوم السابع والعشرين من الشهر، وهذا الشهر إما جمادى الآخرة وإما رجب؛ لأن الرسول توفي في شهر ربيع الأول، وإن جيش أسامة قضى في حملته شهرين، وأجل حركته في الجرف مدة من الزمن. والمعلوم أن معظم قوة أسامة ألفت جيش خالد، فتكون المدة التي انقضت من وفاة الرسول إلى حين حركة خالد من ذي القصة ثلاثة أشهر على أقل تقدير.
فزمن الحركة إما أن يقع في منتصف شهر سبتمبر وإما في منتصف شهر أكتوبر من سنة 632 ميلادية.
واستعرض أبو بكر جيش المسلمين في ذي القصة وخطب في رجاله وأبان لهم الطريقة المثلى التي يجب أن يسيروا عليها، ولفت نظر خالد إلى خطورة الاستطلاع وأخذ الحيطة عند الهجوم على أهل اليمامة، وأن يجري الحركات على التعاقب؛ فلا يبدأ بحركة ما لم يظفر بالتي سبقتها، وأن يستعمل الرمح في مكافحة الرمح، والسيف في مكافحة السيف، ثم طلب منه مراعاة المهاجرين والأنصار والرفق بمن معه.
وكانت قوة الجيش تتفاوت بين أربعة آلاف وخمسة آلاف، وكان عدد الأنصار منه يربي على الخمسمائة، وكانت قوة جيش طليحة في بزاخة تزيد على خمسة آلاف، ومعظمها من بني أسد، والباقي من غطفان، وكان عيينة بن حصن على رأس هذا الباقي.
وكانت فرقتا جديلة وغوث من طيء في أكناف جبل سلمى متأهبتين للالتحاق بطليحة في بزاخة وتبلغ قوتهما زهاء ألف مقاتل. وكان بنو تميم على ما نعلم مشغولا بعضهم ببعض؛ فمنهم من التحق بسجاح، ومنهم من خالفها.
أما بنو حنيفة فكانوا في ديارهم باليمامة معتصمين بجبالهم ومعتزين بنبيهم مسيلمة يراقبون الحوادث في نجد. (15) خطة خالد بن الوليد
إن الطريق الأقصر الذي ينتهي بجيش المسلمين إلى بزاخة هو الطريق الذي يخترق وادي الرمة، وبزاخة واقعة في المنطقة حيث تكون أحياء طيء وأسد قد قرب بعضها من بعض، فكل حركة من ذي القصة على هذا الطريق الأقصر تشجع قبائل طيء على الالتحاق بطليحة في بزاخة، ومن عادة القبائل أنه إذا لم يهدد الخطر حيها توا تتركه وتسرع إلى نجدة الأحياء الأخرى متى أغار عليها الأعداء. كذلك درس خالد الموقف، وقرر أن يسلك طريقا يهدد به بلاد طيء، فإما أن يلجأ أهلها إلى الحياد، وإما أن يستميلهم إلى جانبه، وإذا ما تقدم رأسا نحو بزاخة يكون قد ترك بلاد طيء إلى جانبه الأيمن، وخاطر بالهجوم على بزاخة، أما إذا ضمن حياد طيء أو استمالتهم إلى جانبه فيكون قد هيأ أسباب الفوز على طليحة.
والأخبار تدل على أن خالدا صارح أبا بكر بخطته هذه في ذي القصة فأقرها أبو بكر، وسبق أن قال لخالد: «اعلم أنك إذا قاتلت أسدا وغطفان فإن رجالا منهم معك ينتظرون النصر، وإذا ما رأوه حليفك كانوا معك على عدوك.»
ولكي يجعل العدو يقنع بأن المسلمين قاصدون بلاد طيء قبل بزاخة، يقول ابن الكلبي: إن أبا بكر أمر خالدا أن يصمد لطليحة وعيينة بن حصن وهما على بزاخة، وأظهر أنه ملاق خالدا بمن معه من نحو خيبر مكيدة، وقد أرعب مع خالد الناس، ولكنه أراد أن يبلغ ذلك العدو فيرعبه، ثم رجع أبو بكر إلى المدينة.
ثم هناك خبر آخر مفاده أن أبا بكر أمر خالدا أن يبدأ بطيء على الأكناف، ثم يكون وجهه إلى بزاخة، ثم يثلث بالبطاح (بني تميم)، وأظهر أنه خارج إلى خيبر منصب عليه منها حتى يلاقي خالدا بالأكناف؛ أكناف سلمى، فخرج خالد فازور عن بزاخة وجنح إلى أجأ، وأظهر أنه خارج إلى خيبر، ثم منصب على طيء.
فهذه الأخبار تريك الخطة بوضوح. إن بلاد طيء جبلية، وفيها سلسلتان وعرتان ممتدتان على موازاة خط الحركات بين المدينة وبلاد بني أسد، وسلسلة سلمى وجبل رمان في الجنوب وسلسلة أجأ في الشمال، والأكناف الواردة في الجنوب المذكورة هي أكناف هذه الجبال. أما أهل البلاد، فمنهم من تأهب لمعونة طليحة ومنهم من بقي في أرضه يتربص. وكان أعظم رئيس في القسم الأخير عدي بن حاتم مع قبائل طيء، ومن الأخبار ما يؤيد أن أبا بكر بعث عديا إلى طيء قبل حركة خالد ليدركهم.
والواضح أن خالدا بخطته هذه أراد أن يسهل خطة عدي بن حاتم، وأن إشاعة أبي بكر في الجيش مسيره نحو خيبر بقصد الحركة نحو بلاد طيء مما يجعل القسم المتحفز لمعونة طليحة من طيء يرجع إلى أرضه للدفاع عنها أو للبقاء على الحياد مع الباقين من طيء.
والحقيقة أنها خطة ناجحة تدل على بعد نظر خالد في قيادة الجيش، والخطة تجمع بين الناحية السياسية والناحية العسكرية، وكان عيينة بن حصن الفزاري رئيس بني فزارة، كما سبق، يسعى لإعادة الحلف الجاهلي بين بني أسد وغطفان وطيء محرضا جماعته على ذلك بقولته:
والله لئن نتبع نبيا مع الحلفيين أحب إلينا من أن نتبع نبيا من قريش.
وإذا ما تم هذا الحلف يكون أمام المسلمين قوة كبيرة يصعب التغلب عليها، وينحصر التدبير السياسي في إيفاد أحد رؤساء طيء البارزين لإقناع القبائل بأن يتركوا جانب طليحة ويميلوا إلى جانب المسلمين، ولتسهيل هذه المهمة والقيام بحركة إغفال بالتظاهر بالهجوم على بلاد طيء.
وكان التدبير العسكري يرمي إلى فصل طيء عن بني أسد وغطفان، والهجوم بعد ذلك على قواتهم في بزاخة.
فتناولت الخطة إذن الأمور التالية: (1)
القيام بحركة إغفال من المدينة في اتجاه خيبر بقصد إقناع طيء أن المسلمين متوجهون نحو بلادهم. (2)
تقدم جيش خالد على الطريق الأقصر نحو بزاخة لتظل قوات طليحة في محلها حتى لا تساعد طيئا. (3)
ترك هدف بزاخة في منتصف الطريق والانعطاف نحو بلاد طيء لإرغام قبائل طيء على الالتحاق بالمسلمين قبل أن ينجدها طليحة. (4)
بعد الوثوق من التجاء (دخالة) طيء، والاستفادة من قواتهم، التقدم بجميع القوات نحو بزاخة لضرب جيش طليحة. (16) الحركة
وبعد عودة أبي بكر إلى المدينة وإشاعة خبر مسيره من المدينة بالباقي من المسلمين نحو خيبر، نظم خالد قواته وجعل على كل قسم منها قائدا، وكان ثابت بن قيس على الأنصار.
وتحرك خالد من ذي القصة في منتصف شهر أيلول (سبتمبر) أو شهر تشرين الأول (أكتوبر) سنة 622 مارا بربذة ووادي الركبة ومنحدرا إلى وادي الرمة، وقبل أن يصل إلى منتصف الطريق مال إلى اليسار يريد بلاد طيء، ولقد نجحت حركة الإغفال التي أشاعها أبو بكر؛ لأن طيئا التي كانت تستهزئ بالخليفة وتكنيه بأبي الفصيل صارت تخشى بأسه لما سمعت خبر تقدم جيشه نحوها، فأقنع عدي بني حاتم قبيلته وحذرها سوء العاقبة قائلا لبني قومه: «لقد آتاكم قوم ليبيحن حريمكم.» فطلبوا منه أن يؤخر تقدم جيش خالد حتى يسترجعوا من لحق بطليحة في بزاخة، وهي جديلة وغوث وآخرون ...
وكانوا يعلمون أنهم إذا خالفوا طليحة بينما بنو جديلة وبنو غوث في بزاخة، يبقيهم عنده رهائن ويجبر طيئا على الالتحاق به، وكانت حجتهم عند طليحة طلب إخوانهم من بزاخة؛ لأن خالدا قادم نحوهم، فهم يريدون أن يستنجدوا بهم للدفاع عن بلادهم قبل أن يصل جيش المسلمين.
وخرج عدي إلى خالد ولاقاه في السح، فطلب منه أن يبقى فيها مدة قصيرة حتى يتخلى من في بزاخة عن طليحة ويعود إلى بلاده، فوقف خالد في السح فتفرقت غوث من بزاخة وعادت إلى بلادها، فأراد خالد أن يتقدم إلى الأنسر ليلجئ جديلة إلى ترك طليحة أيضا، بيد أن عديا طلب منه أن يتريث حتى يفسد عليه ما دبره. فعادت جديلة أيضا إلى بلادها، وهكذا تم لخالد ما أراده فانفصلت طيء تماما عن المرتدين وجددت إسلامها، وأمدت خالدا بألف مقاتل.
وهكذا طبق القسم الأول من الخطة. (17) معركة بزاخة
يقول ابن الكلبي: إن بزاخة ماء لبني أسد، ولم يوضح لنا ياقوت هذا المحل في معجمه، والذي يلوح لنا أنه في جنوبي فيد في وادي الغمير على الطريق الذي يصل فيد بالبريدة، فالأرض فيه سهلة وهي صالحة للقتال.
ولعل المعركة وقعت في نهاية أيلول (سبتمبر) أو في نهاية تشرين الأول (أكتوبر)؛ إذ مضى على حركة خالد من ذي القصة ما يقارب الخمسة عشر يوما، وبعد أن أمن خالد جانب طيء واستنجد بهم تقدم رأسا نحو بزاخة يريد طليحة.
وتقدمت أمامه قوة استطلاع بقيادة عكاشة بن محصن وثابت بن أقرم، وتدل الأخبار على أن المرتدين باغتوا هذه القوة وقتلوا قائديها، وكانا من فرسان المسلمين المشهورين، وكان جيش طليحة متأهبا للقتال يقود بني أسد سلمة أخو طليحة، ويقود فزارة عيينة بن حصن ومعه سبعمائة فارس من فزارة.
ومن الروايات ما يدل على أن خالدا وقف بالغمير قبل شروعه في القتال، وإن كانت الرواية التي يرويها الطبري نقلا عن سيف لا تذكر ذلك بوضوح، وخلاصة الرواية أن أحد المسلمين أخذ رجلا من بني أسد فأتى به خالدا، وكان الرجل عالما بأمر طليحة فسأله خالد عما يعلمه عن طليحة.
وموقع الغمير رابية تشرف على مياه بزاخة، واسمه في الخريطة جبل الغمير، ومنه ينصب وادي الغمير.
ولعل خالدا أرسل قوة الاستطلاع من هذا الموقع ليستكشف قوة العدو وموضعه وجيش المسلمين في موضع مسيطر. ولعل عكاشة وثابتا قتلا لما كان يقومان بالاستطلاع فقتلتهما الطليعة التي أوفدها طليحة بقيادة أخيه سلمة، فنصب كمينا لقوة الاستطلاع وباغتها، ولما اطلع المسلمون على مقتل عكاشة وثابت هالهم الأمر.
ومن الروايات ما يشير إلى أن خالدا لم يزور عن طريقه كما تقدم من ذي القصة إلى بزاخة إلا بعد أن رأى الجزع المستولي على أصحابه عند مقتل عكاشة وثابت، فمال بهم إلى حي طيء، وقال لهم: «هل لكم إلى أن أميل إلى حي من أحياء العرب كثير عددهم، شديدة شوكتهم؟» ولعل هذه الروايات ذكرت لتسويغ ازورار جيش خالد عن طريقه نحو بلاد طيء على ما أثبتناه فيما تقدم؛ إذ لا يعقل أن يصيب المسلمين الجزع بمجرد أن يقتل منهم فارسان، والروايات ذاتها تذكر قتل عكاشة وثابت بيد طليحة وأخيه سلمة، فمعنى أن القتال وقع بالقرب من بزاخة فيكون من الصعب أن يدير خالد ظهره ويترك عدوه ويتجه نحو بلاد طيء، بينما كان أهلها مترددين.
والواضح من هذه الروايات أن خالدا قدر الموقف قبل مسيره من ذي القصة. (18) القتال
رتب خالد جيشه في حظر القتال وجعل الأنصار والمهاجرين في الميسرة ورجال القبائل في الميمنة، ولعل أهل طيء كانوا في القلب مع بعض القبائل.
أما جيش طليحة فكان عيينة بن حصن مع سبعمائة فارس من فزارة في الصف الأول، وكان طليحة بن خويلد في القلب يشرف على القتال وفي أطرافه أربعون فتى من بني أسد استماتوا في الدفاع عنه، وكانت راية بني أسد حمراء رآها المسلمون من بعيد.
وتدل الأخبار على أن القتال بدأ بهجوم الفريقين أحدهما على الآخر، فكان عيينة بن حصن يقود الفرسان، أما حبال وسلمة أخو طليحة فكانا يقودان المجنبتين من جيش الأعداء.
ويذكر الواقدي نقلا عن رجل من هوازن حضر قتال بزاخة أن المسلمين فازوا بالمعركة بفضل البطولة التي أبداها خالد بن الوليد.
ويقول الراوي إن ميمنة المسلمين ارتدت على أعقابها لما هاجمها الأعداء فأثر ذلك في الميسرة فانسحبت بدورها؛ فتدارك الأمر خالد بحملته على الأعداء وندائه: يا أنصار الله! فحمس هذا النداء المتراجعين، وكروا على الأعداء ملتفين حول خالد، فتقاتل الفريقان بالسيوف فترجل خالد عن ظهر جواده وحارب راجلا، ولما رأى أصحابه أن الخطر محدق به التمسوا منه أن يترك خطر القتال ويقف في الوراء ويقود الجيشان، إلا أنه امتنع عن ذلك. وفي رواية أخرى للكلبي أن المسلمين لما تراجعوا أتى رجل من طيء خالدا وكلفه بالاعتصام بجبلي سلمى وأجأ، إلا أن خالدا رد طلبه قائلا إنه يعتصم بالله.
وبقي طليحة في القلب إلى أن قتل فتيانه جميعا؛ فانسحب إلى الوراء والتف بكسائه يتحين الفرص، ولما ضاقت الدنيا بعيينة بن حصن سأل طليحة: هل جاء الوحي؟ وهذا يقول له لا، فيرجع يقاتل. وفي الكرة الثالثة قال طليحة لعيينة: إن الوحي يقول له: «إن لك رحى كرحاه، وحديثا لا تنساه.» فتأكد عيينة أن الدائرة تدور عليه فنادى: يا بني فزارة، انصرفوا فهذا والله كذاب. فانصرفوا وانهزم الناس.
أما طليحة فأعد فرسه وهيأ بعيرا لامرأته فوثب على فرسه وحمل امرأته، ثم نجا بها، ولما سأله قومه: ماذا يأمر؟ قال: «من استطاع منكم أن يفعل مثل ما فعلت وينجو بأهله فليفعل.»
ووقع عيينة أسيرا بيد خالد فكبله بالحديد وأرسله مخفورا إلى المدينة، وكان المرتدون قد تركوا عيالهم خلفهم في محل أمين لكيلا يسبيهم المسلمون؛ لأن العرف كان يقضي في ذلك الزمان بسبي النساء واتخاذهن إماء. ولم تنته المعركة حتى عاد الكثيرون من بني أسد وفزارة إلى خالد وجددوا إسلامهم خشية على الذراري.
واغتنم المسلمون غنائم كثيرة في معسكر الأعداء من جمال وحمير وسلاح وغير ذلك، ولم يكتف خالد بهذه الغنائم؛ بل أوفد السرايا إلى جهات مختلفة لمطاردة المنهزمين، والتقت بهم في جبل رمان في جنوب جبل سلمى وفي الأبانين على جانبي وادي الرمة، وهما رابيتا أبان الأسود في شمالي الوادي، وأبان الأبيض في جنوبه، وأسرت كثيرين منهم وصادرت خيلهم وسلاحهم.
ولما نشب القتال بين المسلمين والمرتدين في بزاخة كان بنو عامر بن صعصعة على الحدود يراقبون مجرى القتال وينتظرون العاقبة.
وبعد أن انتهى خالد من أمر بني أسد وفزارة عرج على حي طيء ومكث بين أكناف سلمى وأجأ، ولعله أراد بذلك أن يقرب من حي بني عامر وينهي أمرهم. هذه القبائل كانت في الأرض الواقعة إلى شمال شرقي بلاد طيء بين الدهناء وجبل شمر.
فأوفد بنو عامر وغطفان وفودهم إليه وجددوا إسلامهم، بيد أن خالدا لم يكتف بذلك، بل فرض عليهم جانبا كبيرا من السلاح جزاء ترددهم، كما أنه جمع سلاحا من بني أسد أيضا.
وكان للسلاح شأن كبير في هذه الحروب، وكان المسلمون بحاجة إليه ليجهزوا به الجيوش، وسبق أن أغنياء الصحابة في عهد الرسول كانوا يجهزون المقاتلين للغزوات.
واحتفظ خالد بهذا السلاح ووزعه بعد ذلك على رجال القبائل الذين أسرعوا بالانضمام إلى جيشه، كما وثقوا بالنصر. (19) القتال في ظفر
تدل الأخبار على أن خالدا لم يمهل الشاردين؛ بل إنه لما علم أن أم زمل سلمى جمعتهم حولها في ظفر، وشجعتهم على المقاومة توجه فورا نحوها فقاتلها قتالا شديدا، وهي واقفة على جمل أمها أم قرفة تحمسهم على القتال، وقد اجتمع على الجمل جمع من فرسان المسلمين فعقروه وقتلوها، وقتل حول جملها كما تذكر الرواية مائة رجل، وكان قيام أم زمل وتشجيعها للناس على قتال المسلمين طلبا للثأر. (20) المطاردة
ورب منتقد يعتب على خالد إهماله المطاردة بعد انتصاره في بزاخة؛ إذ كان في وسعه أن يطارد الأعداء ولا يمهلهم المقاومة مرة أخرى إلا أن العتاب ليس في محله؛ لأن القتال في البادية مع القبائل لا يشبه القتال في الحواضر؛ فالقبائل بعد أن تغلب تنهزم إلى جهات مختلفة، بعد أن تترك حيها وتلجأ إلى الأحياء القريبة، وتستنجد بها ولا تقصد هدفا ترمي إليه. وكان خالد مضطرا إلى البقاء في بزاخة ليقبل إسلام المرتدين ويعاقب من مثل بالمسلمين منهم عملا بوصايا أبي بكر.
وكان خالد قبل ذلك أوفد السرايا إلى أنحاء مختلفة؛ ليقضي على المتشردين، فقاتلهم في جبل رمان على حدود طيء وقاتلهم في الأبانين على حدود بني سلم، وقاتلهم في النقرة على حدود بني تميم، فكل ذلك يدل على أن خالدا استثمر نصر بزاخة ولم يمهل المنهزمين بل طاردهم بكل شدة.
ويقع موقع ظفر كما يذكر ياقوت الحموي بالقرب من حوأب، وهذا على الطريق بين البصرة والمدينة، وكانت عائشة قد تشاءمت من نباح كلابه لما رحلت من المدينة إلى البصرة للاشتراك في واقعة الجمل، ولعل موقع ظفر يبعد عن بزاخة مسافة مرحلتين، وهو إلى شرقي كهفة، فالفلول الشاردة من بزاخة التجأت إليه، وكانت أم زمل تحرضهم على الاجتماع فيه لمقابلة خالد.
فالمسافة بين بزاخة وظفر يجب أن تكون بعيدة بدرجة أنها تساعد الفلول على الاجتماع مرة أخرى للقتال. (21) تقدم مسير خالد نحو البطاح لقتال بني تميم
البطاح: لا نعلم بالضبط المدة التي قضاها خالد في حي بني أسد بعد أن انتصر على طليحة في بزاخة، والمؤكد أن خالدا استثمر فوز بزاخة، فقام بمطاردة فلول الجيش المنهزم، ولما سمع أن بعض الفلول اجتمعوا في ظفر تحت راية أم زمل تقدم بجيشه إليهم وهزمهم شر هزيمة، كما أشرنا إلى ذلك فيما تقدم.
والظاهر من ذلك أن خالدا قضى أكثر من شهر في حي بني أسد على أقل تقدير، ولما استتب له الأمر في نجد وتأكد معونة طيء، ودان له بنو عمر وبنو صعصعة، انتهز الفرصة ليتقدم نحو بني تميم.
وكان بنو تميم من أقوى القبائل العربية بكثرة عددها وخصب أرضها وشدة بأسها، وتنقسم القبيلة إلى أربعة أقسام:
القسم الأول:
الرباب وهم من شعب ضبة وعبد مناف.
القسم الثاني:
عوف والأبناء ومقاعس وبطون، وهم من شعب سعد بن زيد مناة.
القسم الثالث:
بهدى وخضم، وهم من شعب بني عمرو.
القسم الرابع:
حنظلة ويربوع، وهم من شعب بني مالك.
وكان الزبرقان بن بدر يترأس رباب وعوفا والأبناء، وقيس بن عاصم يترأس مقاعس والبطون، وصفوان بن صفوان يترأس بطن بهدى، وسبرة بن عمرو يترأس بطن خضم، ووكيع بن مالك يترأس بني حنظلة، أما مالك بن نويرة فيترأس بني يربوع، وهم فرقة من بني حنظلة.
وكان بنو يربوع يسكنون أرض الحزن غربي الدهناء، والحزن والصمان كلاهما ذو مراع خصبة يضرب بها المثل، وكان من حسن حظ المسلمين أن هذه الشعب والبطون لم تكن متصافية فيما بينها، ويظهر أن الخصومة كانت متأصلة فيها قبل الإسلام؛ فصفوان وسبرة متفقان، أما قيس بن عاصم فخصم للزبرقان.
وكان الزبرقان وصفوان يميلان إلى المسلمين وينتظران المعونة منهم ليتفوقا على خصومهما، أما قيس بن عاصم فكان مترددا، وأما وكيع بن مالك ومالك بن نويرة فتظاهرا بالعداء للمسلمين، وكان العداء متأصلا في نفوس الرؤساء لدرجة أن البطون والشعب كانت تتقاتل.
ولما ظهرت سجاح اشتد هذا العداء، وادعت سجاح النبوة في بني تغلب في أرض الجزيرة بين دجلة والفرات، وهي ترتبط ببني يربوع برابطة القرابة، فجمعت حولها جموعا من بني تغلب وبني نمر وبني إياد وبني شيبان، وتقدمت بهم إلى بلاد بني تميم، ويدل مجرى الوقائع على أنها ادعت النبوة قبل وفاة الرسول.
ماذا كانت تقصد سجاح بمسيرها جنوبا نحو بلاد تميم، هل أرادت أن تمهد السبل لتأسيس مملكة بين العراق ونجد تضم فيها قبائل بني تغلب، والبعض من بطون بكر وبني تميم؟ أو إنها أرادت الهجوم على المدينة، كما يروي سيف بن عمر؟ ثم هل شرعت في المسير قبل وفاة الرسول أو أن وفاته شجعتها على المسير؟ هذه أسئلة تصعب الإجابة عنها بصورة جازمة، والذي يلوح لنا أنها لم تكن تقصد لا هذا ولا ذاك، ولعلها برزت بالكهانة وأحسنت السجع فالتف حولها الناس، وأرادت أن تستغل نفوذها فسارت برجالها، وكلما مشت كثر أتباعها حتى أدى بها المسير إلى الدخول في أرض بني تميم، ومع ذلك فمن المحقق أنها بدخولها ديار بني تميم أرادت أن تستفيد من القرابة التي تربطها بهم، وهذه القرابة غير واضحة، ومن الرواة من يزعم أنها تميمية من بني يربوع وأخوالها من بني تغلب، ومنهم من يدعي أنها تغلبية، وبنو يربوع أخوالها.
والواضح من أخبار الرواة أنها دخلت بلاد بني تميم بعد وفاة الرسول، وكان دخولها مما زاد الشحناء بين رؤساء بني تميم، فأراد كل منهم أن يستغلها لمصلحته، والغريب في أمر بني تميم أنهم لم يخضعوا لرئيس واحد أسوة بالقبائل الأخرى؛ فكان لبني أسد رئيس ولبني حنيفة رئيس ولغطفان رئيس، وهلم جرا.
والغريب في ذلك أن الفرق كانت تعيش مستقلة بعضها عن بعض، وكانت تتقاتل بخلاف فرق القبائل الأخرى، ولعل الداعي إلى ذلك أنها كانت جسيمة لا يمكن لرئيس واحد السيطرة عليها، وأنها في بلاد جعلتها بمأمن من غزوات القبائل الأخرى، فلم تر الفرق والبطون حاجة إلى الوحدة.
ويظهر أن مالك بن نويرة استطاع أن يستميل سجاح إلى جانبه لقرابتها منه، وأراد أن يستغلها لمصلحته فيضرب بها الفرق المخالفة له ويرأس بني تميم بالقوة، أما هي فكانت تريد أن تستفيد منه للهجوم على المدينة، ومال وكيع بن مالك رئيس بني حنظلة إلى جانبه، وهكذا مالت شعب بني مالك إلى جانب سجاح.
وكانت الشحناء قبل ذلك شديدة بين رؤساء بني تميم كما نعلم، ولما ورد خبر وفاة الرسول عليهم أرسل بعضهم الصدقات إلى المدينة، وانتظر بعضهم ما يصنع البعض الآخر، ويروى أن قيس بن عاصم رئيس مقاعس والبطون قال: «وا ويلنا من ابن العكلية - يريد به الزبرقان - والله لقد مزقني، فما أدري ما أصنع، لئن أنا تابعت أبا بكر وأتيته بالصدقة لينحرنها في بني سعد فيسودني فيهم، ولئن نحرتها في بني سعد ليأتين بها أبا بكر فيسودني عنده.» فعزم قيس على توزيع الصدقات على مقاعس والبطون، ففعل وعزم الزبرقان على الوفاء بإرسال الصدقات إلى المدينة، وكانت النتيجة أن نشب القتال بين عوف والأبناء من جهة والبطون من جهة أخرى، وبين الرباب من جهة ومقاعس من جهة أخرى، وبين خضم وحنظلة وبين بهدى ويربوع.
ولما وصلت سجاح إلى الحزن أرض بني يربوع واتفقت مع مالك بن نويرة، والتحق بها وكيع بن مالك، شرع مالك ينفذ خطته ليرأس بني تميم، فبدأ بقتال الرباب وعوف والأبناء، فلم يظفر بهم؛ بل دارت الدائرة عليه وعلى سجاح، فوقع وكيع أسيرا بيد الرباب، وأرادت سجاح أن تجرب حظها مع بهدى وخضم من شعب بني عمرو، فكان نصيبها الخيبة أيضا، فلما لم تظفر بطائل تركت مالكا وانسحبت برجالها من بلاد بني تميم وسارت إلى اليمامة.
هذا هو الموقف حين كان خالد يجول ويصول في بلاد بني أسد، ولم يكن يجهله؛ لذلك لم يكد ينتهي من أمر بني أسد حتى تراه قد انتهز الفرصة وأمر جيشه بالمسير إلى أرض بني تميم دون أن ينتظر أمرا من الخليفة، وهكذا نراه يستعمل إبداعه ويسير جيشه نحو البطاح، برغم مخالفة الأنصار له، مدعين أن عهد الخليفة إليهم أن يقيموا بعد فراغهم من بزاخة إلى أن يكتب إليهم. إلا أن خالدا تقدم نحو البطاح قائلا لهم إنه هو الأمير، وإليه تنتهي الأخبار، وإن لم يأته أمر من الخليفة فإنه لا يريد أن يضيع الفرصة ما دام مالك بن نويرة بحياله، وشعب بني تميم نافرة منه؛ لذلك لم يتردد خالد في الذهاب إليه من دون الأنصار.
والواقع أن مالك بن نويرة بقي وحيدا بين بني تميم؛ لأن صفوان بن صفوان كان قد أرسل الصدقات إلى المدينة، وكذلك الزبرقان، أما قيس بن عاصم فكان عليه، وكذلك وكيع بن مالك لما سمع انتصارات خالد أرسل صدقات بني حنظلة إليه فبقي مالك حائرا ماذا يعمل، وكان بالبطاح مع رجاله من بني يربوع، والبطاح أرض دون الحزن، وهي ذات مراتع خصبة وفيها مياه كثيرة، فالقصيبة والبريدة من مواقعها.
وندم الأنصار على تخلفهم؛ لأنهم خشوا أن تصيب المسلمين مصيبة فيلاموا عليها، فأوفدوا رسولا إلى خالد يطلبون منه الإقامة إلى أن يلحقوا به، فأقام خالد حتى لحقوا به، فسار إلى البطاح والروايات غير متفقة في أمر مالك بن نويرة، ومن الروايات ما تزعم أن مالكا قاتل المسلمين برجاله من بني يربوع فقتل في القتال، ومنها ما يزعم أنه لما تأكد من الخيبة فرق رجاله وأمرهم بألا يقاتلوا المسلمين، ورجع إلى منزله، ولما قدم خالد البطاح بعث أربع سرايا إلى جهات مختلفة، فرجعت السرية التي كان يقودها أبو قتادة الأنصاري بمالك، والبعض من رجاله.
ومن الروايات ما تزعم أن مالكا حارب السرايا التي أوفدها خالد فقتل، ومنها ما تزعم أنه وقع أسيرا في القتال فأمر بضرب رقبته مع الأسرى الآخرين، والبعض الآخر من الروايات تذكر أن خالدا أراد قتل الأسرى بما فيهم مالك، إلا أن أبا قتادة شهد أنهم أذنوا وقاموا وصلوا، فلما اختلفوا فيهم أمر خالد أن يحبسوا، وكانت الليلة شديدة البرد، فأمر خالد مناديا فنادى أن أدفئوا أسراكم، وكانت كلمة الدفء في لغة كنانة تعني القتل فقتلهم الخفراء، وقتل ضرار بن الأزور مالكا.
وكان قتل مالك على هذه الصورة، وتزوج خالد بامرأته ليلى بعد قتله بمدة قصيرة؛ وهذا مما جعل عمر ينقم على خالد، فطلب من أبي بكر أن يعاقبه على فعلته هذه، فاضطر الخليفة إلى استقدام خالد إلى المدينة وطلب الإيضاحات منه، فلما اقتنع أن خالدا لم يقصد قتل مالك أعاده إلى جيش المسلمين وكلفه بالمسير إلى اليمامة ليقاتل مسيلمة الكذاب. (22) الحركات في اليمامة
من الصعب التثبت من المدة التي قضاها خالد بن الوليد في البطاح حتى نعلم الوقت الذي تقدم بجيشه نحو اليمامة لمقاتلة بني حنيفة. فيكاد أكثر المؤرخين من العرب يتفق على أن القتال في اليمامة وقع في أوائل السنة الثانية عشرة الهجرية. أما أبو بشر الدولابي واليعقوبي فيزعمان أن القتال وقع في شهر ربيع الأول من السنة المذكورة.
فمبدأ السنة الثانية عشرة الهجرية يوافق شهر آذار (أبريل) سنة 633 ميلادية، والذي نعلمه أن خالدا توجه من ذي القصة نحو بزاخة في منتصف شهر أيلول (سبتمبر)، أو شهر تشرين الأول (أكتوبر).
وقضى خالد في حركته نحو بزاخة أكثر من عشرين يوما يترقب أخبار طيء، وبعد انتصاره على جيش طليحة بن خويلد مكث في بني أسد مدة غير قصيرة ليقبل إسلام المرتدين ويجمع منهم السلاح. أضف إلى ذلك قتاله في ظفر وانتظاره مجيء رؤساء بني عامر.
ويدعي المؤرخون أن مالك بن نويرة قتل خطأ في ليلة شديدة البرد. وعلى ما في كتاب الطبري رواية عن سيف بن عمر أن الأسرى من يربوع حبسوا في ليلة باردة لا يقوم لها شيء. والليالي الشديدة البرد في البادية تقع في أشد شهري الشتاء بردا، وهما كانون الأول (ديسمبر)، وكانون الثاني (يناير). إذن وقع القتل بين أواخر كانون الأول وأوائل كانون الثاني، فتكون حادثة البعوضة
1
وقعت بين شهري شوال وذي القعدة في السنة الحادية عشرة الهجرية.
يقينا أن خالدا قضى مدة غير قصيرة في البطاح وقضى وقتا في ذهابه إلى المدينة ملبيا دعوة الخليفة. ولما عاد منها لم يحرك جيشه نحو اليمامة بمجرد وصوله إلى المعسكر؛ بل انتظر مدة لورود النجدة التي أمد بها الخليفة جيش المسلمين. فيظهر من كل ذلك أن الحركة من البطاح نحو اليمامة وقعت في أوائل السنة الثانية عشرة الهجرية؛ أي في ربيع سنة 633 ميلادية في شهر آذار أو شهر نيسان (مايو).
ومن رواية رواها أبو هريرة نستدل على أن سلمة بن عمير الحنفي كان يشجع بني حنيفة على المقاومة بعد معركة عقرباء فينادي قائلا: «يا بني حنيفة، قاتلوا عن أحسابكم ولا تصالحوا على شيء، فإن الحصن حصين، وقد حضر الشتاء.» ومعنى ذلك أن الحركات في اليمامة جرت في صيف الثالثة عشرة الهجرية؛ أي بدأت حوالي شهر مايو لسنة 633 ميلادية. (23) منطقة الحركات
اليمامة مؤلفة من مقاطعتي العارض والخرج الحاليتين، ومقاطعة الخرج من أخصب مقاطعات نجد، فالماء مبذول فيها وهو على عمق بضعة أمتار تحت الأرض، ولما كانت أرضا منخفضة تنصرف إليها مياه الأمطار من الجبال والهضاب التي تحيط بها ومدينة اليمامة - العاصمة القديمة - واقعة فيها، ويدعي كثير من الجغرافيين بأن أرض اليمامة القديمة هي مقاطعة الخرج الحالية، وهذه المقاطعة واقعة في جنوب شرقي العارض ويحدها من الشرق وادي حنيفة، وعلى إحدى شعبه اليمنى بنيت مدينة اليمامة. ولا تزال مقاطعة الخرج من أكثر المقاطعات النجدية نفوسا، وفيها مراع خصبة وبساتين نخل كثيرة.
ويحد المنطقة التي جرت فيها الحركات من الشرق هضبة العرمة، وهي الهضبة المرتفعة المشرفة على الدهناء، ومن الغرب الأنفدة الموازية لسلسلة طويق، ومن الشمال مقاطعة القصيم، والمنطقة جبلية تعد من أوعر مناطق نجد من حيث الوديان والمضايق والروابي والآكام.
وتمتد جبال طويق في وسط المنطقة من الشمال إلى الجنوب وهي حجرية كلسية جرداء متموجة تتألف من سلسلتين متوازيتين وسفوحها الغربية منحدرة، أما سفوحها الشرقية فقليلة الانحدار. ويبلغ ارتفاعها زهاء ستمائة قدم على الهضبة الغربية، وتمتد الجبال من الشمال الغربي إلى الجنوب الشرقي، وتنكسر في الوسط وتغير اتجاهها إلى الجنوب فالجنوب الغربي، فتنتهي إلى وادي الدواسر.
وفي المحل الذي تنكسر فيه تجري الوديان من الشرق إلى الغرب وتصب في وادي حنيفة، وهذه الوديان ضيقة وعرة في محل الانكسار؛ حيث ترتفع سفوحها الشمالية والجنوبية بانحدار شديد.
وتتصرف مياه الأمطار التي تهطل على الجبال إلى الشرق والغرب في الوديان والشعب، فمنها ما يصب في وادي حنيفة، ومنها ما يكون وادي الخفس وشعيب العتش؛ حيث ينصرف مياهها إلى الدهناء، ومنها ما يصب في مقاطعة الوشم ويسقي منخفضاتها، ويكون واحاتها الخصبة. والشعيب الذي يكون وادي الخفس ينبع من جنوبي ثادق ويجري نحو الجنوب إلى الحريملة، ومنها يتوجه شرقا.
وهذا الشعيب ووادي حنيفة يقسمان الجبال إلى سلسلتين؛ الغربية منهما مرتفعة ووعرة وهي طويق، أما الشرقية فمنخفضة ولطيفة الانحدار، وهي روابي العارض في الشمال وجبل صلبوخ في الوسط والجبيل في الجنوب، وأما وادي الحنيفة (وهو أعظم واد في هذه المنطقة) فقد سميت القبائل الساكنة على جانبيه باسمه، وصدره في الأرض الفاصلة بين العارض من جهة والمحمل والسدير من جهة أخرى، ويبدأ الوادي في ثنية اليمامة في شرق خشم الحيسية، ويتكون من عدة شعب تجري من الشمال إلى الجنوب ومن الجنوب إلى الشمال، فيستمد الوادي ماءه منها فيجري من الغرب إلى الشرق، وفي جوار عقرباء حيث نشبت المعركة الفاصلة بين جيش خالد وجيش مسيلمة، يغير الوادي اتجاهه فيجري من الشمال الغربي إلى الجنوب الشرقي في واد يضيق في بعض المحلات، ويعرض في البعض الآخر وهو شديد الوعورة في الشمال وسهل المجرى في الجنوب، وعلى حافتي الوادي شيدت القرى والمدائن؛ حيث استقيت المياه المنصرفة إليه وزرعت البساتين حولها، والوادي في هذا القسم يتغذى بعدة شعاب ينصب أكثرها من السفوح الغربية.
وفي محل انكسار سلسلة طويق تصب فيه عدة وديان؛ بحيث إنها تغير اتجاهه في جوار السليمية واليمامة فيتوجه نحو الشرق فالجنوب الشرقي إلى أن ينتهي في رمال الربع الخالي.
وكان من وصايا أبي بكر إلى خالد بن الوليد أن يأخذ الحيطة عند الهجوم على أهل اليمامة. وكان الخليفة محقا في هذه الوصية؛ لأن أهل اليمامة سكان القرى المبنية في الوديان ضيقة وعلى سفوح الجبال الوعرة بنوا دورهم بالحجارة وسوروا قراهم بالجدران، وأنشئوا الحدائق بالقرب من قراهم، وزرعوا فيها النخيل والأشجار ، وأحاطوها بالحجارة ليمنعوا المارة من دخولها، أو ليعتصموا بها عند الحاجة.
فأهل اليمامة إذن لا يشبهون أهل البادية في القتال، فهم معتصمون بجبالهم المنيعة، ومعتزون بقراهم المتينة وحدائقهم المستحكمة. ولا تزال آثار هذه القرى ظاهرة في تلك الأنحاء.
وهذه القرى كثيرة ومنتشرة على طوار وادي حنيفة، وفي مقاطعة الخرج، وفي الوديان والمنخفضات والواحات.
ولا يخلو من الفائدة أن نقتبس هنا وصف المستر فلبي الذي تجول في هذه المنطقة في صيف 1918 فدون مشاهداته في كتابه «البلاد العربية الوهابية»، وقد وصف قرية الجبيلة الواقعة بالقرب من قرية «عقرباء» التي دارت رحى المعركة فيها بما يلي:
والقرية الآن آهلة بعدد يسير من السكان البؤساء، ومعظمها أطلال دارسة، ومقابر الصحابة على ضفة الترعة المقابلة للقرية (الضفة اليسرى للوادي)، وعلى مسافة نحو ربع الميل منها، وقد يشاهد المسافر بقاعا متفرقة مغروسة بأشجار الأثل (الطرفاء) تسري عن المرء الانقباض الذي يعتريه من إدامة النظر إلى اللون الأغبر الذي لا يتغير، وهو اللون الدائم لتلك السهول الرسوبية المترامية التي سدت الوادي، وبقرب الحي آبار كثيرة بعضها مطوي بالحجارة يستقي منه أهل الحي دائما. أما بيوت أهل الحي فمعظمها أطلال من اللبن بلا خشب، وقد عبثت بها يد البلى ودرست آثارها بمرور الأيام، أما ما بقي منها فلا بأس بحاله، ويستدل منه على أن أهل تلك البيوت عنوا بصيانتها؛ فدعموها بأعمدة حجرية مشيدة بالجص لتحمل على متونها روافد السقوف، وقد شاهدت في دار منها وعاء مزدوجا كبيرا من الملاط المغطى بطبقة رقيقة من الصاروج (الجص) الأسمر لخزن التمور، ولا تزال جدرانه ملوثة بعصارة التمر.
إلى أن يقول:
ومعظم الجدران المبنية من الطين مؤزر إلى ما يقارب نصفه بأيادات من الحجر الصلد، مبينة على وجه الجدار بناء منحرفا توخوا فيها بساطة التزويق لا غير.
ويقول في وصف جبل طويق والهضاب التي يشرف عليها:
أما ما استدار من الأرض حول تلك المنطقة، فلم أجد في حياتي أرضا مثله، فلم أعثر في أرباضه على شيء تنقبض له النفس فتجد أمامك طريقا معرضا لمهاب الرياح خاليا من الظاهرات الطبيعية، ضاربا في كافة الجهات على نمط واحد لا نهاية له، ولا يعترضه في ذلك التكوين الغريب سوى الحرف المطمئن المسمى جبل صلبوخ الواقع إلى الشمال الشرقي.
وعندما يبحث في أطراف عيينة عاصمة آل ابن معمر القدماء - وهي القرية الواقعة إلى غرب عقرباء في واد ضيق - يقول:
أما ربوع عيينة التي اشتهرت من قديم الزمن بجمالها وخصبها، فمنبسطة على جانبي المسيل شرقا وغربا نحو ميلين، وقد أمست الآن قاعا صفصفا وأثرا بعد عين، ونبتت أدغال الأثل في البقاع التي وطئت أراضيها ومهد ثراها الفرس فسائل النخيل فيها، أما البلد الأصلي أو الحالة التي كانت يوما موطنا لآل ابن معمر فلا تختلف عما كان حولها من الربوع الضاربة في صدر تلك المحلة الرحبة، إلا أن أطلالها الشاخصة قد شغلت بقعة وسيعة، ويمر عابر السبيل في تلك البيداء بين آونة وأخرى بأطلال البنيان القديم كالعمد المزوقة رءوسها. وفي كل ناحية من نواحي تلك المحلة الوسيعة آبار نضب عنها الماء، وهي مطوية بالحجارة وآجور، عليها أحواض مبنية بالصاروخ، أما ضفاف المسيل فمدعمة بأيادات كالمسنيات على أشد ما تكون من متانة البنيان، عقدها أصحابها في وجه السيل من زمن بعيد لحبس المياه في بطن المسيل، فرحلوا عنها وتركوها وشأنها، فعبثت بها يد الدهر فتداعت جدرانها وتقوض بنيانها المحكم، ثم غدت ترابا فوق أنقاض بالية، وشاهدت في بعض تلك الجدران حجارة كبيرة من الصخر الصلد؛ طول الحجر الواحد قدمان في عرض نصف قدم.
إلى أن يقول:
جزنا الأطلال وخرجنا من عيينة الخربة، وسلكنا طريقا تخترقه أشجار الأثل في عنفوان نموها، والمنتشرة في طول الأرض وعرضها إلى أن تنتهي في طرف المحلة القائمة في الناحية الغربية، فولينا وجوهنا شطر المغرب صاعدين الوادي، فسار بنا الظعن يطوي صوحه صعودا. وعرض الوادي في أسفله (أي في عقيقه) نحو الميل، وكلما ارتقى الإنسان صوح الوادي وارتفع عن عقيقه ازداد انفراج الوادي إلى أن بلغ عرضه ميلين أو ثلاثة أميال، ولما أرسلت رائد الطرف في ميمنة الوادي بدا لي شعيب في منخفض الوادي، وقد قيل لي أن هذا الوادي يأخذ في الصعود مرة أخرى إلى حوض عظيم كسيت جدرانه بالصاروج، ويقع على سفح التل لحبس مياه الأمطار والمثاعب المنحدرة على جوانبه، ولم يزل حتى الآن خزانا لري حقول القمح المزروعة في وسط الخرائب، وهناك شعيب آخر إلى يمين طريقنا يقال له شعيب عيينة ينحدر من الهضبة الضيقة التي تفصل وادي الحنيفة عن وادي سدوس. (24) قوات الفريقين
برغم كثرة الروايات التي تتناول حركات اليمامة والقتال في عقرباء، نجد الغموض ظاهرا في معرفة قوة الفريقين؛ فالطبري يذكر نقلا عن سيف بن عمر أن القوة المحاربة لدى قبائل بني حنيفة بلغت أربعين ألفا. ولما ذكر أخبار السنة الحادية عشرة الهجرية نقل عن ذلك الراوي نفسه، وزعم أن القوة المحاربة بلغت عشرة آلاف، أما ابن حبيش فيذكر في رواية نقلها عن الواقدي مفادها أن قوة المسلمين بلغت أربعة آلاف، وقوة بني حنيفة أيضا بلغت هذا المقدار ذاته، وفي رواية تسند إلى سيف بن عمر يزعم الراوي أن عدد القتلى من بني حنيفة بلغ عشرين ألفا.
أما المؤرخ الفارسي ميرخوندي فيزعم أن عدد القتلى في تلك الموقعة بلغ سبعين ألفا، والذين قتلوا في حديقة الموت بعد المعركة سبعين ألفا. ولعلك أدركت أنه يصعب الوصول إلى عدد يقرب من الحقيقة بين هذه الروايات التي تقدر قوة الحنفيين بين أربعة آلاف وأربعين ألفا، وعدد القتلى منهم بين عشرين ألفا إلى مائة وأربعين ألفا.
ولكن الثابت أن مسيلمة جمع أعظم قوة لمقابلة جيش المسلمين، ووضعها على الحد الفاصل بين بلاد حنيفة وبلاد بني تميم، وترك القرى العامرة وراءه، وكان من مصلحة الحنفيين أن يجتمعوا تحت لواء رئيسهم للدفاع عن حيهم الذي تركوه وراء ظهورهم، ويظهر من مجرى المعركة أن عدد القتلى في قوة الحنفيين كان كبيرا.
لقد قدرنا جيش بني حنيفة عند البحث في قوات الفريقين بخمسة عشر ألف مقاتل - بمعنى أن الحد الأقصى للقوة التي يستطيع الحنفيون سوقها لا يتجاوز العدد المذكور. والذي يلوح لنا أن القوة التي جمعها مسيلمة في عقرباء تبلغ عشرة آلاف مقاتل. (25) قوة المسلمين
يروي الواقدي أن جيش خالد بلغ أربعة آلاف مقاتل في معركة عقرباء، وفي رواية أخرى تسند إلى عيسى بن سهل أن الجيش الذي تولى قيادته خالد لما خرج من المدينة كان يقوده أربعة آلاف مقاتل، وهذا الجيش حارب في اليمامة، والذي لا ريب فيه أن قوة جيش المسلمين بلغت أربعة آلاف مقاتل لما تركت الربذة، وتقدمت نحو بزاخة وانضمت إليه قوات من بني طيء قبل المعركة، ثم زاد هذا الجيش إسلام قبائل بني أسد وغطفان، ولعل قوته بلغت أكثر من خمسة آلاف لما نزل في البطاح، ومن الثابت أن جماعات من بني تميم انضمت إليه قبل أن يتوجه نحو اليمامة. وتروي لنا الأخبار أن الخليفة أبا بكر أمد الجيش بقوات من المدينة لما كان محتشدا في البطاح، وأن خالدا سبق هذا الإصرار من المدينة، وانتظر وروده من البطاح فجميع هذه الأخبار تدل على أن جيش المسلمين تضاعفت قوته بانضمام القبائل ووصول النجدة إليه قبل أن يتحرك من البطاح نحو اليمامة، وكان من البديهي أن تلتحق به القبائل متى اتصل بها خبر خيرات اليمامة ووفرة المغنم فيها. ويلوح لي أن قوة الجيش بلغت أكثر من ستة آلاف مقاتل قبل حركته في البطاح. (26) الموقف قبل الحركة
لبى خالد أمر الخليفة فذهب إلى المدينة ليدافع عن عمله في قضية مالك بن نويرة، وفي رواية لسيف بن عمر أن أبا بكر أرسل عكرمة بن أبي جهل إلى اليمامة لما كان خالد يحارب المرتدين في بزاخة وأمده بقوة أخرى بقيادة شرحبيل بن حسنة، والرواية تزعم أن عكرمة بدأ القتال قبل وصول شرحبيل فنكب، فأقام شرحبيل في الطريق؛ حيث أدركه الخبر. وهذه الرواية تؤيد زعم سيف في أن الخليفة قسم جيش المسلمين في ذي القصة إلى إحدى عشرة فرقة، وعين قائدا لكل منها فوجهها إلى مناطق المرتدين، وقد سبق أن بينا فساد هذا الزعم. وفي رواية أخرى أن شرحبيل بن حسنة الذي تلقى أمرا من الخليفة بأن ينتظر ورود خالد ولا يتحرك، بادر إلى قتال مسيلمة قبل قدوم خالد فنكب وانسحب، وإذا صحت هذه الروايات يلوح لنا أن عكرمة بن أبي جهل كان يراقب اليمامة بقوة ساترة من المسلمين لما وقف خالد في البطاح، فوقعت مناوشات بينه وبين الحنفيين حبطت مساعيه فيها فانسحب، أما شرحبيل بن حسنة فإنه تولى قيادة جيش المسلمين عند ذهاب خالد إلى المدينة، فبدلا من أن ينتظر ورود خالد أسرع إلى مقاتلة الحنفيين فانكسر.
ولما قدم خالد البطاح كان جيش المسلمين مرابطا فيها، وكانت قبائل بني تميم عرضت الولاء إلا البعض منها فالتجأ إلى اليمامة، وكان بنو طيء وبنو أسد وبنو غطفان وبعض بني تميم أمدوا جيش المسلمين بالمقاتلين.
أما مسيلمة فإنه جهز عددا كبيرا من بني حنيفة وتقدم شمالا يريد مقابلة جيش خالد، وتدل الأخبار على أن بعض الحنفيين كان يخابر المسلمين سرا، ويطلع خالدا على موقف مسيلمة، ومن الروايات ما يؤيد أن الحنفيين الذين حافظوا على إسلامهم تحفزوا للشغب على مسيلمة. (27) الطريق الذي سلكه خالد
هناك طريقان للتقدم من البطاح نحو اليمامة؛ طريق شرقي وطريق غربي، أما الطريق الشرقي فيتجه شرقا أولا، ثم يمتد إلى سفح جبل طويق الغربي متوجها إلى الجنوب الشرقي مارا بالأرض الجبلية، وهو الطريق الذي يصل بريدة بالزلفى، ثم يمتد إلى المجمعة، ومنها إلى الحوطة فثادق فسدوس، أما الطريق الغربي فيتوجه نحو الجنوب الشرقي فيمتد بين نفود السد ونفود الشقيقة إلى أن يصل إلى الشقرة عاصمة الوشم، ومنها يمتد موازيا لسفوح جبل طويق الغربية فينعطف نحو الشرق ويتسلق الجبال ويمر بثنية اليمامة؛ حيث ينبع وادي حنيفة في غربي عيينة فينتهي في عقرباء ويدخل اليمامة.
والذي يلوح لنا أن خالدا سلك الطريق الغربي لاجتيازه أرضا سهلة تجعل المدينة في ظهره، أما الطريق الشرقي فيخترق أرضا جبلية وعرة، وقد تعرقل عليه المسير إذا أراد أهلها المقاومة، فضلا عن أنه طويل.
ومن الأخبار ما ينبئ بأن طليعة جيش المسلمين باغتت بعض رجال مسيلمة في ثنية اليمامة؛ أي في عقبة الحيسية، وهو المضيق الواقع إلى شرقي الحيسيان بين خشم الحيسية وخشم الخرشة، وفيه تنقسم مياه الأمطار؛ فمنها ما يصب إلى الشرق ويجري في وادي حنيفة، ومنها ما يصب إلى الغرب ويجري في بطن الحور.
ومن جملة الأسباب التي تجعل خالدا يميل إلى سلوك الطريق الغربي، قربه من قاعدة الحركات؛ أي المدينة. فإذا ما نكب الجيش يصل إليه المدد من خلفه، وإذا ما تضايق يستطيع الانسحاب إلى المدينة أو إلى مكة من بلاد أسد وغطفان، أو من بلاد بني عامر وهوازن؛ لذلك نجزم بأن جيش المسلمين سلك ذلك الطريق في مسيره نحو اليمامة. (28) معركة عقرباء
يقينا أن معركة عقرباء من المعارك الفاصلة التي ختمت دورا وفتحت دورا آخر؛ فالمسلمون جمعوا أقصى قوتهم بقيادة أمهر قوادهم، والمرتدون حشدوا أعظم قوة في استطاعتهم جمعها في أوعر منطقة، فمجرى المعركة يدل على الغاية التي كان يستهدفها كل من الفريقين.
فلو انكسر المسلمون، لا سمح الله، في هذه المعركة لبقي العرب منزوين في جزيرتهم، واحتفظ الأكاسرة بملكهم في العراق، ولم يبك هرقل ضياع سورية؛ فالنبي الكاذب أسود العنسي الذي سيطر على اليمن مدة من الزمن قتل غيلة، فلم يضطر المسلمون إلى حشد قوة كبيرة للتغلب عليه. أما بنو أسد فلم يكن من الصعب التغلب عليهم لتفرق كلمة القبائل، بيد أن في عقرباء احتشدت أعظم قوة من أمنع قبيلة في أرض مستحكمة، وكان الناس يقاتلون عن حيهم، ويتفانون في سبيل نبيهم.
ولما انتهت المعركة بانتصار المسلمين انكسرت مقاومة المرتدين في الأقطار الأخرى، ولم يلاق المسلمون صعوبات في تمكين الإسلام من قلوب أهلها، فخضعت البحرين، ودانت عمان ومهرة بدين الإسلام، وجددت حضرموت إسلامها، وعادت اليمن إلى حظيرة الإسلام، وكان من أثر ذلك أن اجتمعت كلمة العرب فشعروا بقوتهم، فبادروا إلى الفتوح بقيادة رؤسائهم، فاندفعوا كالسيل الجارف يثلون العروش، ويقضون على إمبراطورية الأكاسرة ودولة القياصرة، فلم يمر بضع سنوات على ذلك حتى كان العرب يصولون بخيولهم في بلاد خراسان شرقا وبلاد المغرب غربا. (29) خطة خالد
لا شك في أن خالدا كان يقدر حرج الموقف في قتاله أهل اليمامة، وكان يعلم أنه على أمر يتوقف عليه نجاح الإسلام أو خيبته؛ فالبلاد وعرة، والقرى فيها منيعة، والناس ملتفون حول داعيهم معتصمون بحيهم، وعددهم كثير، وسلاحهم يضرب به المثل.
لذلك لم يقدم على الحركة قبل أن تصله النجدة الموفدة من المدينة، وأراد أن يمهد سبيل الظفر بالتدابير السياسية وذلك:
أولا:
باستمالة التميميين في اليمامة إلى جانبه.
ثانيا:
بتفريق رؤساء سجاح عن مسيلمة.
ثالثا:
باستخدام المسلمين من بني حنيفة للمشاغبة على مسيلمة. والأخبار تدل على أنه أرسل الكتب إلى التميميين ليتركوا جانب مسيلمة فوفق إلى ذلك، كما أنه ساق قوة خيالة لمقاتلة رؤساء سجاح الثلاثة وهم: عقة وهذيل وزياد، ففرق رجالهم واضطرهم إلى العودة إلى حي بني تغلب في الشمال، وأن المسلمين من بني حنيفة ثاروا على مسيلمة وشاغبوا عليه، ولعل عكرمة بن أبي جهل أراد أن يستفيد من المشاغبين فقاتل رجال مسيلمة فلم ينتصر، وكانت الأخبار تأتي خالدا وتنبئه بما في اليمامة.
أما خطته العسكرية فكانت ترمي إلى الزحف إلى اليمامة على أقصى طريق والهجوم على جيش مسيلمة أينما لقيه.
عاد خالد إلى المدينة بالبطاح في أوائل السنة الثانية عشرة الهجرية، وكان الجيش مجتمعا فيها ينتظر أمر الحركة، وقضى خالد مدة قصيرة في البطاح يترقب ورود المدد من المدينة، فكانت القبائل تمد جيشه برجالها، فالتحق به رجال بني أسد وتميم وبني عامر، وكانت الأخبار ترد إليه من اليمامة منبئة بأحوالها وآخر من وصل إليه ابن عمير اليشكري فاطلع خالد على جلية الأمر في اليمامة. (30) ساحة القتال
اختار مسيلمة موقع عقرباء لجيشه، وهذا الموقع على الحدود الفاصلة بين اليمامة وبلاد بني تميم، وهو مفتاح لموقع من أخطر المواقع السوقية بين مقاطعة العارض ومرتفعات المحمل وجبل طويق.
وبالقرب من هذا الموقع تقوم قرية جبيلة الحديثة، وقد بحث فيه «فيلبي» في كتابه الآنف الذكر، قال:
وإذا تأملت الوادي (أي وادي حنيفة) عند جبيلة، وجبيلة هذه أحد منازل بني حنيفة من قديم الزمن وإليهم نسب الوادي، وفي سمائه ارتفع لواء صيتهم فسمي بوادي حنيفة، لألفيته وهدة من الأرض قريبة القرار واسعة الجوانب تكتنفها المهابط المطمئنة الجرداء من كل حدب وصوب وللوادي عقيق يضيق شيئا فشيئا حتى تراه قد غاص في بطن حجري نشزت على ضفافه الطنوف الشواخص على النحو المتقدم وصفه، فالقرية إذن مفتاح لموضع من أخطر المواضع السوقية وأعظمها شأنا واقعة بين مساكن المعارض ومرتفعات المحمل وطويق، وقيل في هذا المكان وقعت معركة فاصلة من معارك التاريخ الإسلامي دارت فيها رحى القتال بين أصحاب النبي وبعض المؤمنين من رجاله وبين مسيلمة نبي حريملة الكذاب وقواته، وكان النصر فيها حليف المسلمين بعد أن خسروا آنئذ في سبيل دينهم القويم نحو سبعين من نخبة الصحابة، وهم الرجال الخلص الذين اصطفاهم النبي فأودع في صدورهم تعاليمه ...
إلى أن قال:
لا تزال قبور الصحابة الذين استشهدوا في تلك المعركة ظاهرة إلى يومنا هذا مهجورة في منبطح من غرين نهر عميق صفا ماؤه واقع على مقربة من القرية، وقد رأيت القبور أيام زيارتي لها ومروري بها، وقد بليت وتحاتت بتأثير الزوابع وفعل الأعاصير، وقد نجم عن ذلك أن تفتحت جوانب الكثير منها فظهرت فيها ثغر فاغرة أفواهها نحو الوادي، ولم يزد ارتفاع الرسوب الغريني على ثلاث أو أربع أقدام فوق القبور، فلنا إذن من ذلك أحد الأمرين:
إما أن تكون دفائن تلك القبور أحدث مما يزعمون، وإما أن الغرين قد رسب من قبل في المكان الموجود الآن فيه، وبات مستواه على ما هو عليه بطبيعة الحال قبل معركة جبيلة، ولا غرو في أن الأمر الثاني هو الافتراض المحتمل وقوعه.
وصف الموضع
يظهر من مطالعة الخريطة أن المحل الذي اختاره مسيلمة لقبول المعركة واقع في جنوب العقدة التي تتشعب منها الجبال، وتمتد في جهات مختلفة وتشرف على رءوس الوديان المتدفقة من أرجائها، والتي منها ما يجري نحو الشمال، ويغذي وادي الخفس، والتي منها ما يجري نحو الشرق ويغذي وادي حنيفة، ومنها ما يجري نحو الغرب ويغذي بطين الحور، وقد اجتمعت قريتا عيينة وسدوس وجبيلة حول هذه العقدة وتعلو في وسطها رابيتا الأبكين؛ الرابية الغربية والرابية الشرقية، والغربية أعلى من الشرقية، إذ يبلغ ارتفاعها عن سطح البحر 3200 قدم، وعن وادي حنيفة الذي يجري في جنوبيها 200 قدم، وفي شرق الأبكين جبل رامة يمتد من الغرب إلى الشرق، وهذا الجبل مع جبل الأبكين يفصلان بين شعيب سدوس ووادي حنيفة، فالشعيب في الشمال ينبع من غربي سدوس ويجري نحو الشرق فيترك على ضفافه سدوس وحزوة، ويلتقي بشعاب كثيرة أخرى تصب جميعا في وادي الخفس، والوادي الثاني يجري في الجنوب.
وإلى شرق جبيلة يرتفع جبل صلبوخ، فكأن الجبال الثلاثة - الأبكين ورامة وصلبوخ - متصل بعضها ببعض ومحيطة بموضع جبيلة كالقوس.
ويصف المستر فلبي المنظر قرب الأبكين فيقول:
وقفنا نتأمل بطحاء طويق الفسيحة الأرجاء، فألفينا مشهدها رائعا مهيبا، وتتخللها الهضاب المتموجة والأودية السحيقة، وإنا لكذلك إذ لاحت مني التفاتة إلى الشمال فشاهدت، على مسافة ميلين من بسطة، أرضا انطوى تحتها واد فسيح تحدرت جوانبه وانقطعت مجامعه عند حوض الخفس الواقعة فيه واحة سدوس، تلك الواحة الغضة الرائعة المشهورة بجمالها الفتان كنا نراها ونرى فيها كل صغيرة وكبيرة ونحن واقفون في مكاننا كأنها أمامنا على مقربة منا، ولكنها - ويا للأسف - لم تكن على استقامتنا، فشق علي زيارتها لبعد طريقنا عنها، وقد شاهدت بساتين النخيل ممتدة على طوار الينبوع الدافق مسافة ميل تقريبا في عرض قدر معدله بين 200، 300 ياردة.
إلى أن يقول:
ورأيت على مدى البصر إلى الجهة الشمالية الشرقية نجد مرتفعات العرمة، وقد بدت بلون أدكن، ونظرت إلى الشمال الغربي وادي حريملة وهو فرع آخر من فروع حوض الخفس، وقد انفصل عن فرع سدوس بجرف متسع المتون مرتفعها، ورأيت في الجهة الجنوبية الغربية صدع جرف طويق فبدت من موضعه عقبة الحيسية (1)، وإلى الجنوب وراء خط وادي الحيسية وجرف الملاقي تمتد ظهور طويق العريضة في الفضاء الأغبس الفسيح.
وعندما يبحث في ثنية اليمامة يقول:
وبعد سير سبعة أميال (على موازاة الأبكين) وصلنا إلى عقبة الحيثية المعتبرة منبع وادي حنيفة، فوجدنا أشجار السنط منتشرة حولها، وكان ارتفاعنا عن مستوى سطح البحر في هذه البقعة نحو 2300 قدم، وكانت المسافة بيننا وبين البطين (بطين الحور) نحو 460 ميلا، وقد استطعت أن أشاهد من هذا المكان وادي حنيفة بأسره آخذا إلى الجنوب حتى اليمامة، وهذا بون شاسع يربو طوله على مائة ميل، وتأخذ فيه الأرض في الانخفاض تدريجيا إلى أن يبلغ 1900 قدما، ولم أجد عند الصبب من المناظر الطبيعية ما يحملني منها على الإطناب في الوصف، وشاهدنا هناك الأرض أمامنا، وقد انحدرت بهيئة مثلث فسيح الأرجاء، ضلعاه لهبان منفرجان من حرف طويق منته طرفاهما بأنفين بارزين؛ أحدهما خشم خرشة في الجنوب، والآخر خشم الحيسية في الشمال، وتمتد بين هذين الأنفين قاعدة المثلث بشكل جناح ناشز من الحجارة الرملية الجرداء المغراء يسمونه المرقى، في جانبه الأبعد يهبط شديد الانحدار ينتهي إلى وادي البطن، أما صدر شعيب هشة فهو في منبعه يتغلغل صببا بين جدران منهمرة متمعجا في عقيق ضيق، ثم يأخذ بعد حين في الاتساع على متون المنحدرات حتى إذا بلغ الحاشية الغربية من جناح المرقى ينفرج في بطن المحلة الخصبة، ثم ينثني فيجد له مثيلا في خلال الحواجز الصخرية فيتسرب منها إلى وادي البطين. وعلى نحو أربعة أميال من منبع وادي حنيفة نجد ما بقي من آثار ديار الهشة، وهي لا تتعدى بعض بساتين النخيل المتفرقة وثلاث آبار دائمة المياه، اثنتان منها مطويتان بالحجارة غزيرتا الماء، دائمة الورد، يبلغ عمق كل بئر منها نحو قامتين، ويظهر لون الماء عند استقائه من البئر أطحل بتأثير الطبقة المتحجرة المستوطنة قرار البئر، وإذا ترك الماء وشأنه قليلا ركد فيه الغرين فصفا وراق، وطعمه لذيذ عذب جدا، وينفرد آل قحطان بالاستفادة من هذه البئر.
إلى أن يقول:
وليس في عقبة الحيسية صخور حرشاء تقف عثرة في سبيل الإبل، وربما كانت أسهل عقبات طويق مسلكا؛ لذا فضلت على غيرها باتخاذها طريقا للحج، وهو الطريق الذي سلكناه لما غادرنا الرياض من حيث ينحدر هذا الطريق من الضرمة. (31) الحركة من البطاح إلى اليمامة
وبعد أن اجتمعت قوات المسلمين في البطاح، واطلع خالد على موقف الحنفيين قرر التقدم نحو مسيلمة، وكان قبل ذلك قد رتب جيشه، فكانت نواته على ما نعلم الأنصار والمهاجرين والقبائل الضاربة بين المدينة ومكة. فقسم الجيش إلى فرق؛ فرقة من الأنصار، وفرقة من المهاجرين، وألفت كل قبيلة فرقة، وناط بأبي حذيفة وزيد بن الخطاب قيادة المهاجرين، وبثابت بن قيس وبر بن مالك قيادة الأنصار، أما القبائل فكانت بقيادة رؤسائها ويروي أبو بشر الدولابي في كتاب التاريخ أن معركة عقرباء وقعت في شهر ربيع الأول للسنة الثانية عشرة الهجرية، وأول هذا الشهر يقابل أوائل شهر أيار سنة 633 ميلادية، وتبلغ المسافة بين البطاح وعقرباء زهاء 350 كيلومترا؛ أي سير عشرة أيام بجيش كبير على أقل تقدير.
فيظهر من ذلك أن خالدا ترك البطاح في نهاية شهر نيسان أو في أوائل شهر أيار، فكانت خطة خالد ترمي إلى الزحف توا إلى اليمامة على أن يهجم على جيش مسيلمة أينما لقيه، وكان يعلم أن مسيلمة متأهب للمقاتلة على حدود بلاده؛ لذلك قدم أمامه مقدمة من بني طيء بقيادة عدي بن حاتم، وعين لها فرات بن حياد دليلا وسلك طريق الوشم نحو الشقرة، وأرسل إلى الأمام مكنف بن زيد الخيل وأخاه ليتجسسا الأخبار، ولم يشأ أن يترك خط الانسحاب معرضا للخطر؛ لذلك أقام سليطا مع قوة في البطاح ليكون ردءا له من القبائل، وتزعم الرواية أن أبا بكر أمد خالدا بسليط ليكون ردءا له لئلا يأتيه أحد من ظهره.
أما مسيلمة فلما علم بمسير خالد نحوه تقدم بجيشه من اليمامة نحو الشمال، وعسكر في عقرباء بجميع قواته منتظرا ورود جيش المسلمين متأهبا للمقاومة الشديدة، وكانت أخبار انتصار المسلمين على أهل الردة قد سبقت جيش المسلمين؛ فألقت الرعب في قلوب الحنفيين، وتقدم جيش المسلمين على الطريق المذكور، وكانت المقدمة تسبقه وتستطلع الأحوال.
فوصلت المقدمة مساء إلى القرب من ثنية اليمامة، ولقيت مفرزة من بني حنيفة نياما في أسفل العقبة فباغتتهم وأسرتهم، وكانت هذه المفرزة مؤلفة من ستين رجلا بقيادة مجاعة بن مرارة أحد رؤساء بني حنيفة.
والروايات جميعا متفقة على أن مجاعة خرج من اليمامة على رأس سرية يطلب بثأر له في بني عامر وبني تميم؛ لأن بني عامر منعوه من أن يتزوج خولة بنت جعفر، وبعد أن باغت بني عامر عاد بخولة ووقف في أسفل القبة مع رجاله ليبيت ليلته هناك، وإذا المسلمون يباغتونه ويقودونه مع رجاله أسرى إلى خالد.
والذي يلوح لنا أن مجاعة كان يراقب مجيء جيش المسلمين من الثنية؛ أي عقبة الحيسية، ويظهر أن قوة المسلمين باغتته دون أن يستطيع التملص منها، فلما وقف أمام خالد زعم أنه خرج للثأر.
وتزعم الروايات أن خالدا قتل رجال مجاعة لتأكده من كفرهم واستبقى مجاعة ليستفيد منه في حركاته على مسيلمة، فيا ترى هل تواطأ مجاعة مع خالد على مسيلمة، أو أنه تأكد نصر المسلمين، فأراد أن يسوغ موقفه أمامهم فعرض الخدمة على خالد؟ أو أنه خرج برجاله ليلتحق بجيش المسلمين فيدلهم على عورات أعدائهم؟ ذلك لا نعلمه العلم الأكيد، والمحقق أن مجاعة كان محجورا عليه في معسكر خالد وقام بالوساطة بين خالد وبني حنيفة ليعقد الصلح بعد انكسار جيشهم في عقرباء، فأفاد الفريقين بتلك الوساطة.
ولا بد أن خالدا استجوب مجاعة فاستقى منه جميع الأخبار الموثوق بها عن مسيلمة وجيشه، فعلم منه أن مسيلمة ينتظر وروده في عقرباء. (32) المعركة
في رواية نقلها ابن حبيش أن خالدا لما تثبت من عسكرة جيش مسيلمة في عقرباء شاور أصحابه في الأمر، فأشاروا عليه جميعهم أن يتقدم نحو عقرباء، وكانت الأخبار تنم على أن طليعة الحنفيين يقودها الرحال، وهو من رؤساء بني حذيفة، فتقدم خالد حينئذ بجيشه نحو العدو، فجعل أبا حذيفة على الميمنة، وشجاع بن وهب على الميسرة، وكان زيد بن الخطاب يحمل راية المهاجرين، وثابت بن قيس يحمل راية الأنصار، وعزل خالد بر بن مالك من قيادة الخيالة، وأحل محله أسامة بن زيد.
أما جيش مسيلمة فكان موليا وجهه شطر الشمال الغربي ومترقبا في سهل عقرباء بين جبل صلوخ ووادي حنيفة، فيستدل من ذلك على أن الأرض كانت صالحة لاتخاذ نظام القتال ولحركة الخيالة، وتنم الروايات على أن ريحا جنوبية مغبرة هبت في وجه المسلمين وزحزحتهم عن مكانهم في القتال؛ أي إن جبهة المسلمين كانت موجهة نحو الجنوب الشرقي، ويظهر أن قوة الرحال انسحبت لما رأت المسلمين قادمين نحوها، وكان جيش مسيلمة مرتبا على الأسلوب الشائع ومنقسما إلى ثلاثة أقسام: الميمنة والميسرة والقلب، ولم يكن الضعن خلفه؛ لأن قرى بني حنيفة كانت في الخلف على ما نعلم.
وكان محكم بن طفيل، وهو من أجل رؤساء بني حنيفة شأنا، على الميمنة والرحال على الميسرة وشرحبيل بن مسيلمة يقود القلب، فكان مسيلمة وراء القلب يراقب مجرى القتال.
وبعد أن قضى المسلمون ليلتهم في عقبة الحيسية - أي ثنية اليمامة - واستوثق خالد من أمر مجاعة، تحرك الجيش صباحا، وكانت الشقة بينه وبين عقرباء مسير يوم، وفي رواية نقلها الطبري أن الموقع الذي باغت المسلمون فيه مجاعة بن مرارة يبعد عن عسكر مسيلمة مسير ليلة، والحقيقة أن المسافة بين العقبة وعقرباء لا تزيد على خمسة وعشرين ميلا؛ أي مسير يوم في ذلك الزمن.
والظاهر أن خالدا قضى ليلته التي سبقت يوم المعركة قريبا من جيش مسيلمة؛ لأن المعركة بدأت صباحا، واستمرت إلى العصر، وكان الموقع الذي اختاره كثيبا مشرفا على اليمامة كما ينقله الطبري.
وسبق أن رأينا من وصف فلبي لرابية الأبكين أنها تشرف على وادي حنيفة وتتسلط على الأرض الممتدة إلى الجنوب، فالأرض في الشمال تتسلط على الأرض في الجنوب، وكان لوضع الأرض على هذه الصورة فائدة لجيش المسلمين.
وليس لدينا معلومات عن تعبئة المسلمين في ميدان القتال، وتدل الأخبار على أن أبا حذيفة كان يقود الميمنة، وشجاعا الميسرة، ويزيد بن الخطاب القلب، وأسامة بن زيد الخيالة. فهل كان كل من المهاجرين والأنصار على مجنبة من المجنبتين، وكانت القبائل في القلب؟ أو أن المهاجرين والأنصار كانوا في القلب، وكانت القبائل في المجنبتين ؟ أو أن المهاجرين كانوا في القلب مع قبائل الحجاز، وكان الأنصار على إحدى المجنبتين وكانت قبائل البادية في المجنبة الأخرى؟
هذه أسئلة تصعب الإجابة عنها، والواضح من مجرى القتال أن إحدى المجنبتين (ولعلها الميسرة) انهزمت فتلاها القلب، ووصل إلى الخيام في الضعن، وأن أهل القرى - المهاجرين والأنصار وأهل الحجاز - عزوا هذه الهزيمة التي كادت تقضي على المسلمين إلى أهل البادية. فلنا من ذلك أن أهل البادية كانوا في الميسرة، وكان المهاجرون مع بعض قبائل الحي في الميمنة، والأنصار مع البعض الآخر من قبائل الحجاز في القلب، ويظهر أن الخيالة كانت في الأمام، فانسحبت إلى الميسرة لتراقب الوادي، وكان الضعن وراء القلب وفيه الخيام والنساء، ووقف خالد بن الوليد وراء القلب يراقب سير القتال. (33) صفحات القتال
نشبت المعركة صباحا واستمرت إلى العصر، فبذل الفريقان قصاراهما لتغلب أحدهما على الآخر، واقتتلا اقتتالا شديدا، وكما يقول الطبري: كانت حربا لم يلق المسلمون مثلها قط.
وجرى القتال في ثلاث صفحات: تغلب الحنفيون في الصفحة الأولى على المسلمين وأزاحوهم إلى الضعن وكادوا ينتصرون عليهم، وفي الصفحة الثانية كر المسلمون راجعين فتغلبوا على أعدائهم فأزاحوهم من المحل الذي وصلوا إليه، وبعد أن تضافرت جهودهم استطاعوا أن يهزموا الحنفيين، وفي الصفحة الثالثة اعتصم الحنفيون في الحديقة فحاصرها المسلمون من كل صوب ودخلوها عنوة وقضوا على البقية الباقية من الحنفيين.
ونذكر فيما يلي مجرى القتال في كل صفحة من الصفحات الثلاث:
الصفحة الأولى
بدأ القتال صباحا بتحميس القواد رجالهم بالكلمات المأثورة والخطب الحماسية، فنادى شرحبيل بن مسيلمة في رجاله قائلا: «يا بني حنيفة، اليوم يوم الغيرة، إن هزمتم تستردف النساء سبيات وينكحن غير حظيات. قاتلوا عن أحسابكم وامنعوا نساءكم.»
وكان في أول القتال براز من الفريقين كما جرت عليه عادة العرب، فقتل في هذا البراز الرحال بن عنفوة الذي كان في طليعة الحنفيين قبل القتال، وكان على الميسرة قتلة زيد بن الخطاب، ويظهر أن رؤساء آخرين من بني حنيفة قتلوا في البراز؛ مما حمل الطبري على القول: «قتل الرجال وأهل البصائر من بني حنيفة.» وبدلا من أن يوهن هذا القتل عزائم بني حنيفة شدد عزيمتهم فتذمروا وحمل كل قوم في ناحية. ويلوح من مجرى القتال أن الضربة كانت قوية من الجانب الأيمن على ميسرة المسلمين فزحزحتها من محلها وتراجعت منكسرة لا تلوي على شيء.
فأثر ذلك في موقف القلب، فرجع متقهقرا وبنو حنيفة يطاردونه إلى أن وصلوا إلى المعسكر فقمعوا أطناب الخيام.
ومن الروايات ما يزعم أن ريحا جنوبية مغبرة هبت في وجوه المسلمين فضعضعت صفوفهم واستفاد بنو حنيفة منها، فهزموا المسلمين حتى أزاحوهم من محلهم وطردوهم من المعسكرات فدخلوا في الفسطاط فرعبلوه بالسيوف.
والروايات متفقة على أن بعض الأعداء دخل خيمة خالد بن الوليد، وكان فيها مجاعة مكبلا بالحديد قيد مراقبة أم تميم التي تزوجها خالد بعد قتله مالك بن نويرة، فأراد الحنفيون إنقاذ مجاعة فهموا بقتل أم تميم، إلا أنه منعهم من ذلك، فقال لهم: «لا تتشاغلوا في المعسكر، ودونكم الرجال.» ففي مثل هذا الموقف الحرج برز خالد إلى الميدان شاهرا حسامه تشجيعا للمسلمين ومناديا بشعار «يا محمداه!»
ويكاد المؤرخون جميعا يتفقون على أن خالدا بفراسته وبطولته أنقذ الموقف، ولولا قيادة خالد وجلادة الصحابة الذين لقوا حتفهم بعد أن أظهروا للمسلمين أمثلة حسنة، لدارت الدائرة على المسلمين، ولا ريب.
الصفحة الثانية
تبدأ الصفحة الثانية بدعوة الرؤساء من المسلمين إلى الثبات في محلهم والكر بعد ذلك على الأعداء، فثابت بن قيس الذي كان يقود الأنصار كان ينادي الأنصار قائلا: «بئسما عودتم أنفسكم يا معشر المسلمين! هكذا عني حتى أريكم الجلاد.» وقال زيد بن الخطاب الذي كان يقود القلب حين انكشف الناس عن رحالهم؛ أي المعسكر: «لا تحوز بعد الرحال.» وقام البراء أخو أنس بن مالك ينادي قائلا: «أنا البراء بن مالك، هلموا إلي.» أما أبو حذيفة الذي كان يقود الميمنة، فكان ينادي قائلا: «يا أهل القرآن، زينوا القرآن بالفعال.»
وفي مثل هذا الوقت العصيب تدبر خالد الموقف، ففكر في حيلة يعيد بها نخوة المسلمين، ويزيد حماستهم، ولا سيما لما رأى أهل القرى يحينون أهل البادية، وهؤلاء يحينون أهل القرى.
وتكاد الروايات جميعا تتفق على أن القبائل من أهل البادية انهزموا أول مرة، فألقوا الوهن في صفوف المسلمين.
والظاهر من نتائج المعركة أن أهل القرى ثبتوا «فاستحر بهم القتل» كما يذكر الطبري، وكان التدبير الذي توصل إليه خالد لينقذ الموقف ويتغلب على عدوه، منحصرا في أمرين:
أولا:
فصل أهل القرى عن أهل القبائل، ووضع كل فريق منهم في جانب، فكان الأنصار والمهاجرون وأهل القرى الآخرون في جانب، والقبائل في جانب آخر؛ لأن انهزام المسلمين أوقع الخلل في ترتيب المعركة، فاختلطت الميسرة بالقلب والقلب بالميمنة، وتخلى الناس عن رؤسائهم.
ثانيا:
طلب من كل جانب أن يمتاز، وذلك لما رأى أهل القرى يعزون سبب الخيبة إلى القبائل، والقبائل تعزو الخيبة إلى أهل القرى، وفي هذا تناحر لدى الفريقين، وإذا ما اشتد التناحر ليؤدي إلى التقاعس.
فصرخ في المسلمين طالبا منهم أن يمتازوا؛ ليتبين من أين يأتي الخلل، وكان يريد بذلك أن تبرز الفرق فلا ينسب إليها ذلة الانكسار، ونال بذلك ما أراد. فامتاز أهل القرى والبوادي وامتازت القبائل من أهل البادية.
فوقف بنو كل أب على رايتهم، كما يذكر الطبري، فتولى خالد بنفسه قيادة صفوف أهل القرى، فقاموا جميعا قومة واحدة فقاتلوا قتال الأبطال، وكان خالد في أول الصف يشجع المسلمين ببطولته ولا يقابله أحد إلا قتله، وكان يفتش عن مسيلمة ليقتله؛ لأنه عرف أن الحرب لا تركد إلا بموته، وأن بني حنيفة لا تحفل إلا بقتله، وكان من أمر ذلك أن تشجع المسلمون فصدوا العدو.
ويذكر الواقدي أن زيد بن الخطاب كان يحمل راية المسلمين، فلما رأى أصحابه ينصرفون من أطرافه قال: «والله لا أتكلم اليوم حتى نهزمهم، أو ألقى الله فأكلمه بحجتي، عضوا على أضراسكم أيها الناس واضربوا في عدوكم، وامضوا قدما.» ولم يزل يشجع أصحابه إلى أن قتل والراية في يده، فأخذها أبو حذيفة، فجادل بسيفه حتى قتل، أما ثابت بن قيس فكان يحمل راية الأنصار فنادى في قومه: «العزة لله ولرسوله ولأحزابه، أروني كما أريكم.» ثم جلد في الأعداء وقاتل حتى قتل، وتسلم راية المسلمين سالم مولى أبي حذيفة، وظل يناضل عنها إلى أن قتل، فتسلمها آخرون وقتلوا.
وإزاء هذه الجهود المتضافرة والأمثلة المشجعة تمكن المسلمون من أن يزحزحوا الأعداء من مكانهم حتى أزاحوهم تماما، فأخذوا يطاردونهم، وفي مثل هذا الحين أخذ محكم بن الطفيل المدعو بمحكم اليمامة يشجع بني حنيفة مناديا: «يا معشر بني حنيفة، الآن والله تستحقب الكرائم غير رضيات، وينكحن غير حصينات، فما عندكم من حسب فأخرجوه.» فقاتل قتالا شديدا.
أما أهل اليمامة فلما رأوا المسلمين يركبونهم صرخوا في وجه مسيلمة قائلين له: «أين ما كنت تعدنا؟» فأجابهم قائلا: «قاتلوا عن أحسابكم.» ولما رأى المحكم أن الدائرة دارت على بني حنيفة صاح فيهم: الحديقة الحديقة! يريد بذلك أن يتحصنوا فيها ويقاوموا المسلمين، فانسحبوا إلى الحديقة واعتصموا بها. ويظهر أن المحكم لم يتمكن من الوصول إليها؛ لأن عبد الرحمن بن أبي بكر رماه بسهم فقتله.
الصفحة الثالثة
جرى القتال في هذه الصفحة حول الحديقة، والحديقة تشمل بساتين القرية المسورة بالجدران، وهذه البساتين كثيرة في قرى اليمامة والكثير من قرى العارض والوشم والقصيم والسدير له بساتين، فبساتين القرية على ما يتراءى لنا واقعة في بطن الوادي، ولا يعقل أن تكون على صدفة لصعوبة استقاء الماء لإروائها؛ لأن الآبار على ما نعلم في بطن الوادي تتصرف إليها الأمطار.
ويذكر المستر فلبي عندما يبحث في الجبيلة أنها واقعة على الضفة اليمنى من الوادي، وأن قبور الصحابة الذين قتلوا في عقرباء موجودة في الضفة المقابلة لقرية الجبيلة، وعلى مسافة ربع ميل منها، وهذا مما يدل على أن الحديقة واقعة في الوادي تحيط بها الجدران المبنية بالحجر والطين وعلوها أكثر من قامة، كما هو شأن الجدران التي تحيط بالبساتين عندنا.
ولبى الحنفيون نداء المحكم فهجروا ميدان القتال تاركين قتلاهم فيه لدخول الحديقة واعتصموا بها مؤملين المقاومة فيها، وطارد المسلمون بني حنيفة إلى الحديقة فأحاطوا بها وتوقفوا مدة من الزمن مترددين، وكان التجاء الحنفيين إلى الحديقة وبالا عليهم.
ويظهر من أخبار الرواة أن مسيلمة قتل في أثناء الهزيمة إلى الحديقة برمية حربة. وقد ادعى عدة أناس قتله، وكل فرقة من فرق المسلمين أرادت الاشتراك في قتله. وكان للحديقة باب أغلقه المنهزمون بعد أن دخلوها وقرروا المقاومة فيها إلى اللحظة الأخيرة.
وبعد أن تريث المسلمون ردحا من الزمن، مترددين فيما يفعلون صرخ فيهم البراء بن مالك قائلا: «احملوني على الجدار حتى تطرحوني عليه.» فساعدوه على التسلق، ومع أن رواية ابن إسحاق تزعم أن البراء وحده تسلق الجدار فاقتحم الحديقة فقاتل الحنفيين على الباب حتى فتحه للمسلمين، إلا أننا نجزم أن رجالا آخرين تسلقوا معه الجدار، وكان بعضهم على الباب، وبعد أن دخل المسلمون الحديقة أوقعوا بالحنفيين إيقاعا ذريعا، وكانت مذبحة لم يشهد المسلمون مثلها، وقد سموها حديقة الموت، ومع أن روايات الطبري جميعا تروي أن المسلمين قتلوا جميع الحنفيين في الحديقة، إلا أن رواية ينقلها ابن حبيش تزعم أن بعض الحنفيين فر من الحديقة بعد أن دخلها المسلمون.
وفي رواية يذكرها ابن حبيش والبلاذري أن نساء المسلمين أيضا اشتركن في المعركة، ولقد كسب المسلمون المعركة بعد أن حاربوا من الصباح إلى العصر، ولم يعلموا بهول المصيبة إلا بعد أن توقفت رحى القتال وراحوا يكشفون عن القتلى في الميدان.
وفي رواية عن أبي سعيد الخدري الذي اشترك في القتال أن خالدا أمر السقاة بعد صلاة العصر أن يسقوا الجرحى، وكان أبو عقيل بين الجرحى فيه خمسة عشر جرحا، أما بشر بن عبد الله فكانت أمعاؤه خارجة من بطنه، وكل هذا يدل على شدة القتال! (34) الخسائر
يبالغ المؤرخون في تقدير خسائر الحنفيين؛ فسيف بن عمر مثلا يزعم أن قتلى بني حنيفة بلغوا عشرة آلاف في المعركة، وفي القتال في حديقة الموت. وفي رواية أخرى يزعم أن عدد قتلى بني حنيفة واحد وعشرون ألفا؛ سبعة آلاف منهم في المعركة وسبعة آلاف في حديقة الموت وسبعة آلاف في المطاردة.
ولكننا نستبعد هذا العدد؛ إذ سبق أن ذكرنا أن قوة الحنفيين في معركة عقرباء بلغت عشرة آلاف مقاتل، والثابت أن بني حنيفة كابدوا خسائر فادحة، سواء في ميدان المعركة لثباتهم في محلهم، أم في الحديقة؛ لأنهم بالتجائهم إليها مكنوا المسلمين من أن يقطعوا عليهم خط الانسحاب فقضوا عليهم القضاء المبرم.
ولعل عدد قتلاهم بلغ أكثر من ثلاثة آلاف، ومما يدل على كثرة القتلى في بني حنيفة اندثار اسمهم بعد هذه المعركة وعدم اشتراكهم في الفتوح، ويقول البرنس كايتاني في كتابه الآنف الذكر: «إن محدثي المسلمين يبالغون في ذكر خسائر بني حنيفة؛ فإنهم يذكرون أن كل ذكر بلغ من الرشد قتل في المعركة، ومع ذلك فإن أحد الأدلة التي تدل على أن الحنفيين كابدوا خسائر لا تتناسب مع عددهم هو أن هذه القبيلة التي كانت قبل الإسلام كثيرة النفوس مرفهة العيش إن لم يكن لديها شيء فإن كثرة عددها وحده يجب أن يجعلها ذات حصة كبيرة في المعارك التي نشبت بعد ذلك، ولكننا نرى أن ذكر هذه القبيلة يكاد يندرس تماما من تاريخ الإسلام، وأن اسم الحنفيين لا يذكر على الإطلاق حتى على انفراد.»
أما خسائر المسلمين فكانت كثيرة بالنسبة إلى عددهم أو مقدار الخسائر التي كابدوها في المعارك السابقة؛ فالروايات في عدد قتلى المسلمين مختلفة، فهي متفاوتة بين 500 و1700. ويروي عيسى بن سهل عن جده رافع أن قتلى المسلمين بلغ عددها نصف قتلى الحنفيين، وأن الأنصار وحدهم (وكان عددهم خمسمائة مقاتل) خسروا سبعين قتيلا ومائتي جريح، أما أبو سعيد الخدري فيزعم أن عدد قتلى الأنصار بلغ سبعين، ويقول زيد بن طلحة: إن قتلى المهاجرين بلغوا السبعين، وقتلى الأنصار بلغوا السبعين أيضا، وإن مجموع قتلى باقي المسلمين بلغ الخمسمائة.
أما سالم بن عبد الله بن عمر فيذكر أن مجموع قتلى المسلمين بلغ الستمائة، وأما البلاذري فيقول: «وقد اختلفوا في عدة من استشهد في اليمامة؛ فأقل ما ذكروه من مبلغها سبعمائة، وأكثر ذلك ألف وسبعمائة. وقال بعضهم: إن عدتهم ألف ومائتان.» والذي يلوح لنا أن هذا العدد الأخير هو الأصح، وهو يؤيد الرواية التي يرويها الطبري نقلا عن سهل؛ إذ يقول: «قتل من المهاجرين والأنصار من أهل قصبة المدينة يومئذ ثلاثمائة وستون، ومن المهاجرين من أهل المدينة والتابعين بإحسان ثلاثمائة من هؤلاء، وثلاثمائة من هؤلاء ستمائة أو يزيدون.»
وذكر المؤرخون أسماء الشهداء من المهاجرين والأنصار، ونظموا قائمات بذلك، ويتضح من مطالعتها أن بين القتلى زيد بن الخطاب قائد القلب، وأبا حذيفة بن عتبة قائد الميمنة، وشجاع بن وهب قائد الميسرة، وقيس بن ثابت قائد الأنصار، ويدل كل ذلك على شدة القتال في المعركة.
يقول ضرار بن الأزور في يوم اليمامة:
ولو سئلت عنا جنوب لأخبرت
عشية سالت عقرباء وملهم
وسال بفرع الواد حتى ترقرقت
حجارته فيها من القوم بالدم (35) بعد المعركة
بدأت المعركة صباحا على ما ذكرناه فيما تقدم وانتهت عصرا ولم يبق وقت للمطاردة، وقد أنهك التعب قوى المسلمين وأضاعوا خيرة رجالهم، واستشهد أكثر حفظة القرآن؛ لذلك نجزم أن المسلمين قضوا ليلتهم في جوار الحديقة للترويح عن أنفسهم من عناء الحرب، تأهبا للمطاردة في اليوم التالي، ومع أن نتيجة المعركة كانت فاصلة لم تزل أرياف اليمامة في الخلف (وفيها المؤن والذخائر والقسم الذي لم يشترك في القتال من بني حنيفة)، والقرى في الأرياف جميعا منيعة وفيها الحصون والأبراج.
ويذكر الطبري نقلا عن سيف بن عمر أن عبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر طلبا من خالد أن ينزل بالناس على الحصون، وكانا يقصدان بذلك ألا يتركا مجالا للبقية الباقية من بني حنيفة لتستعد للمقاومة. أما خالد فلم يشأ محاصرة الحصون؛ بل رجح أن يوفد سرايا الخيالة إلى الأطراف لتلتقط من ليس في الحصون، وكان يعلم أن منازلة الحصون تكبد المسلمين، ولا سيما أنهم اطلعوا على كبر المصيبة بعد أن تفقدوا القتلى. وكان من رأيه أن يلقي الرعب في قلوب بني حنيفة ويدهشهم بسرايا الخيالة التي تتجول في حيهم وتقبض على كل من تلقاه، وشأنه في ذلك شأن القواد الذين لا يريدون أن يضيعوا الوقت في الحصار ، ويتركوا فلول أعدائهم يفلتون من يدهم.
ولقد أصاب خالد في رأيه؛ لأن سرايا الخيالة أصابت فحوت ما وجدت من مال ورجال ونساء وصبيان، فضمها إلى الغنائم في المعسكر. (36) الصلح
أثبت خالد في عقده الصلح مع أهل اليمامة أنه سياسي حازم بقدر ما كان قائدا محنكا.
انتهت المعركة وقد خسر المسلمون خيرة رجالهم من الصحابة، أما القبائل فقد قتل منها رجال كثير، فالعراك من الصباح إلى العصر بتلك الشدة والمقاومة التي أبداها الحنفيون مما زاد في حنق المسلمين عليهم، وكانت القبائل تريد غنما توازي التضحية التي تحملتها. أما الصحابة فأقل ما أرادوه العمل بوصية الخليفة، وهي: «ومن لم يجب داعية الله قتل وقوتل حيث كان - والداعية الأذان - فإذا أذن المسلمون فأذنوا، كفوا عنهم، وإن لم يؤذنوا عجلوهم، وإن أذنوا اسألوهم ما عليهم، فإن أبوا عاجلوهم، وإن أقروا قبل منهم، وحملهم على ما ينبغي لهم.»
فبنو حنيفة لم يجيبوا الداعية؛ بل قاتلوا المسلمين وقتلوا نخبة الصحابة وقضوا على حفظة القرآن، فكان عقابهم القتل عملا بوصية الخليفة، فالروايات جميعا تدل على أن الأنصار والمهاجرين كانوا يلحون على خالد بمعاملة بني حنيفة بصرامة، أما خالد بن الوليد فنظر في الصعوبات التي لقيها في التغلب على الحنفيين وتأمل عاقبة الشدة التي يظهرها نحوهم إن هم أبوا وقاوموا في حصونهم فامتنعوا بها، وقد دلت المعركة على أنهم متفانون في التضحية، ولا بد من أنه يعلم أن حزبا من الحنفيين وعلى رأسه سليمة بن عمير يريد المقاومة حتى الموت؛ لذلك لم يتردد قط لما عرض مجاعة بن مرارة توسطه لعقد الصلح، كان هذا أسيرا عند المسلمين، وقد احتفظ به خالد ليستفيد منه، وكانت الشروط التي فرضها على مجاعة ثقيلة، وهي تتلخص في أن يعطي الحنفيون كل ذهبهم وفضتهم وسلاحهم وخيلهم، وأن يسبي جميع الأسرى.
حمل مجاعة هذه الشروط وهو يضمر الخير لبني قومه، ويريد أن يخفف حملهم بعد أن أصابهم ما أصابهم؛ لذلك أقام النساء والشيوخ على الحصون ليحمل المسلمين على الاعتقاد أنهم يريدون الدفاع عن حصونهم . فرجع مجاعة، وأخبر أن القوم لا يقبلون هذه الشروط الثقيلة، وأنهم عازمون على الدفاع حتى الموت. وبعد ذهاب وجيئة استطاع مجاعة أن يستميل الحزب المخالف إلى جانبه من جهة، وأن يخفف من شدة الشروط من جهة أخرى.
والواقع أن خالدا أيضا كان راغبا في الصلح دون أن يلجأ إلى القتال. وهذا ما دعاه إلى أن يخفف الشروط، فتعهده مع بني حنيفة ينص على أن يسلموا الذهب والفضة ونصف السبي والسلاح والخيل، وأن يأخذ هو كل قرية ومزرعة وحائط (حديقة مسورة) باسم بيت المال، وأن يسلموا أنفسهم حتى يسلموا. أما البلاذري فيروي أن المعاهدة فرضت على بني حنيفة ربع السبي ونصف الذهب والفضة والسلاح.
ولعل هذه الرواية هي الصحيحة؛ لأنها تدل على تساهل خالد في عقد الصلح. ويذكر الطبري أن أبا بكر أرسل كتابا إلى خالد مع سلامة بن وقش يأمره إن أظفره الله بأن يقتل من جرت عليه المواشي من بني حنيفة - يريد بذلك أن يقتل من قاوم من الحنفيين - فوصل الرسول بالكتاب بعد عقد المعاهدة، فأراد الأنصار أن يستغلوا أمر الخليفة، فطلبوا إلى خالد أن ينفذ ما جاء في الكتاب، وكان أسيد بن حضير رئيس الأوس على رأسهم، إلا أن خالدا لم يلتفت إليهم؛ بل وفى لبني حنيفة وثبت على ما كان منه، فجمع بني حنيفة إلى البيعة والبراءة.
ويذكر ابن حبيش الأسباب التي ألجأت خالدا إلى عقد الصلح ومخالفته كتاب الخليفة، وهي تتلخص في كثرة الخسائر التي انتابت المسلمين في المعركة؛ إذ قل عدد المسلمين وكان أكثرهم جريحا، وبعد عقد المعاهدة لا يجوز النكول عنها، ولا سيما أن بني حنيفة أسلموا، وتنقل الرواية أن سلامة بن وقش أيضا أصر على خالد بتنفيذ أوامر الخليفة، غير أن خالدا لم يغير رأيه واعتبر القضية منتهية.
ومع ذلك استعمل خالد الشدة في معاملته أهل العارض وبعض قرى بني حنيفة؛ فقرية سيوح وعرفة والغبراء وقيشان ومرعة والمصانع اعتبرت في خارج أحكام المعاهدة، فسبى أهلها وصادر أملاكها، والروايات لا تبحث في أسباب هذه الشدة، غير أنه يلوح لنا أن أهل هذه القرى إما أنهم حاولوا الإخلال بشروط الصلح، وإما أنهم قتلوا المسلمين غدرا، وإما أنهم مثلوا بالمسلمين في بلاد اليمامة قبل الحركات. (37) المناقب
يستنتج الباحث من حركات اليمامة بعض المناقب التي ينبغي الوقوف عليها، وهي تدل على سجايا العرب الأولين، مسلميهم ومرتديهم، وتوضح لنا بعض المزايا الكامنة التي مكنت العرب من الانتصار على أعدائهم في الشرق وفي الغرب.
المنقبة الأولى: التضحية
كان ابن عمر عبد الله وأخوه زيد بن الخطاب في الجيش الذي قاتل في عقرباء، وكان زيد على ما نعلم يقود القلب، وقد استشهد في المعركة مشجعا المسلمين ومدافعا عن رايتهم.
ويذكر الطبري أن عبد الله بن عمر لما رجع إلى المدينة قال له أبوه: «ألا هلكت قبل زيد؟ هلك زيد وأنت حي!»
فأجاب ابنه قائلا: «قد حرصت على ذلك أن يكون، ولكن نفسي تأخرت فأكرمه الله بالشهادة.»
وفي رواية أخرى قال عمر لابنه: «ما جاء بك وقد هلك زيد؟ ألا واريت وجهك عني!» فأجاب عبد الله: «سأل الله الشهادة فأعطيها، وجهدت أن تساق إلي فلم أعطها.»
والتضحية كلمة مرادفة للبطولة، وهي من أخطر العوامل في حضارة الأمم إن لم تكن أخطرها، ولا أغالي إذا قلت إن تاريخ الحضارة مكتوب بمداد هو دماء الأبطال المراقة ومساعيهم المبذولة من أجل بنيان صرح التمدين الباذخ بجميع أركانه الأدبية والعلمية والسياسية، ولولا التضحية لما خرج الإنسان الأول من الغاب والكهف إلى المدينة والقصر، والعرب لولا بطولتهم في تضحيتهم لما تربعوا في قصور بغداد والشام والقاهرة والحمراء، ولظلوا تائهين في مجاهل باديتهم القاحلة الجرداء، ولخنق الإسلام في مهده. فالتضحية رفعت عمد الأديان ونشرت ألوية العلوم، ووضعت أسس الدولة قديمها وحديثها، وسمت بأبنائها إلى أوج العز والسؤدد، وقمة المجد والصولة. أجل إن العرب من الأمم الفاتحة المفطورة على البطولة والتضحية، إلا أن نبيهم العظيم جاءهم برسالة وضع بها نصب أعينهم مثلا أعلى هو إيمانهم الوطيد، فبرزت نفوسهم إلى ذلك المثل الأعلى على حد تعبير علماء النفس ، وحصروا وجدانهم في إيمانهم القوي، فضلا عن دافع غيرتهم على أحسابهم، وقوة ذلك الإيمان زادتهم إقداما مع التضحية التي تجلت بأروع مجاليها في حروبها، ولا سيما في حروب خالد بن الوليد، ومنها حروب الردة التي نحن بصددها؛ فهذا عبد الله بن عمر أنبه أبوه لأنه رجع حيا دون أن يستشهد في الذود عن إيمانه أو مثله الأعلى، ولا تزال روح التضحية متغلغلة في نفوس العرب والأعراب حتى اليوم.
وما أكثر الروايات المنقولة عن رجال العرب ونسائهم من ميادين القتال في التضحية العربية المجيدة في ثوراتهم الأخيرة في الأقطار العربية دونها ما يروى عن رجال إسبرطة ونسائها بهذا الصدد!
يروى عن امرأة عربية عراقية أنها كانت تشجع أبناءها السبعة في إبان الثورة العراقية في سنة 1920، وكانت كلما سقط أحد أبنائها في حومة الشرف تنشد قائلة: «يا موت، اطحن وأنا أهلك.» أي: يا رحى الموت اطحني الرجال وأنا أقدم إليك أبنائي!
المنقبة الثانية: السياسة
كان مجاعة بن مرارة من رؤساء بني حنيفة، وقد وفد على الرسول وأسلم فأقطعه أرضا، فلما ثار مسيلمة ببني حنيفة وادعى النبوة كان مجاعة معه، ويلوح لنا أنه كان يداري مسيلمة من جهة ويراقب حركات جيش خالد من جهة أخرى، فلما وثق بتقدم جيش خالد نحو اليمامة استفاد من الشغب المثار على مسيلمة، فخرج مع بعض رجاله من اليمامة طالبا الثأر من بني عامر وبني تميم، ولعل طلب الثأر كان حجة لخروجه من اليمامة قبل وصول جيش المسلمين إليها. ولما باغتته طليعة المسلمين في ثنية اليمامة استحياه خالد لعلمه أنه ينفعه في قتاله في اليمامة وحبسه عنده كالرهينة وتركه في فسطاط قيد مراقبة زوجه أم تميم. فلما تغلب الحنفيون على المسلمين وأزاحوهم عن المعسكر دخلوا الفسطاط وهموا بقتل أم تميم فمنعهم مجاعة من ذلك صارخا في وجههم: «مه! أنا جار لها فنعمت الحرة! عليكم بالرجال.»
وفي رواية أن مجاعة عاهد أم تميم على أن يساعدها إذا انتصر الحنفيون على المسلمين، وعلى أن تساعده هي بدورها إذا انتصر المسلمون على أهله، ولما انتهت المعركة عرض مجاعة الخدمة على خالد وطلب إليه أن يتوسط في عقد الصلح، فقبل خالد ذلك وأوفده إلى بني حنيفة حاملا شروط الصلح، وكان مجاعة قد علم بأن المسلمين كابدوا خسائر فادحة، وأن الحرب أنهكت قواهم؛ لأنه تفقد مع خالد ميدان المعركة وأطلعه على قتلى الحنفيين، وهو الذي دلهم على جثة المحكم بن الطفيل وجثة مسيلمة.
ولا شك أنه تأكد شدة مصاب المسلمين، فلما ذهب بمهمته تيقن شدة الشروط التي فرضها خالد على بني قومه، فأراد أن يخدمهم خدمة يخلص بها قومه من هذه الشروط القاسية ويمهد السبيل لاستلانة جانب خالد، وفي مثل هذا الموقف دبر حيلة أثبت بها دهاءه، وكانت الحيلة التي دبرها - كما يرويها الرواة - تتلخص فيما يلي: «دخل مجاعة الحصون وليس فيها إلا النساء والصبيان ومشيخة فانية ورجال ضعفاء، فظاهر الحديد على النساء؛ أي ألبسهن الدروع وسلحهن وأمرهن أن ينشرن شعورهن ويشرفن على رءوس الحصون إلى أن يرجع إليهن.» وبذلك أراد أن يظهر لخالد أن القوم لا يزالون في حصونهم متأهبين للدفاع لكي يحمله على تخفيف الشروط. فلما عاد قال لخالد: «إن القوم قد أبوا أن يخبروا ما صالحتك عليه، ولكن إن شئت صنعت شيئا فعرضت على القوم.» يريد بذلك أن يخفف خالد من شروط الصلح، وحدق المسلمون من بعيد إلى الحصون فرأوا عليها الناس ظانين أن بني حنيفة محتلوها، وأنهم عازمون على الدفاع.
ولقي مجاعة صعوبة في حمل المخالفين من بني حنيفة على قبول شروط الصلح، وكان سلمة بن عمير يقول لبني حنيفة: «قاتلوا عن أحسابكم ولا تصالحوا على شيء.» أما مجاعة فيقول لهم: «يا بني حنيفة، أطيعوني واعصوا سلمة فإنه رجل مشئوم قبل أن يصيبكم شرحبيل بن مسيلمة، قبل أن تستردف النساء غير رضيات وينكحن غير حظيات.»
والرواية تقول: إن بني حنيفة أطاعوا مجاعة وعصوا سلمة.
وكان من أمر حيلته أن أقنع خالدا بأن يخفف شروط الصلح.
ففرض الربع من السبي والنصف من الذهب والفضة والسلاح والخيل بعدما كان قد طلب أن يعطوه كل ذلك.
فلما فرغ من الصلح، وفتحت الحصون أبوابها إذا هو لم يجد فيها إلا النساء والصبيان، فقال خالد لمجاعة: «ويحك خدعتني!» فقال مجاعة: «قومي، ولم أستطع إلا ما صنعت.»
لم يسق مجاعة توجعه لقومه ولا استهواه حب الانتقام فطاش حتى يدع بني جلدته يلقون أنفسهم في مهاوي الهلاك؛ بل كان مخلصا في قضيته، وعمد مجاعة إلى الحيلة الواسعة فصان بقية قومه من أشراك الهلاك، وخفف عنهم وطأة الانكسار الهائل، فكان في تلك السياسة مصلحة بني حنيفة.
المنقبة الثالثة: العصبية القومية
كان سلمة بن عمير يشجع الناس على المقاومة، وقد رأى من الذل أن يتحكم المسلمون في بني قومه بعد أن قاتلوا قتال الأبطال منعا لحوزتهم، ودفاعا عن نسائهم. وكان يرى الموت ولا يرى النساء تستردف غير رضيات، وينكحن غير حظيات، وقد قتل مسيلمة وابنه شرحبيل وصرع محكم اليمامة بن طفيل.
أبعد كل هذا يرضى بالهوان؟ بل الموت أهون دون التسليم بالشروط التي يشترطها خالد، فيصرخ في أصحابه: «قاتلوا عن أحسابكم ولا تصالحوا على شيء.» ثم يعود فيشجعهم على المقاومة قائلا: «فإن الحصن حصين والطعام كثير، وقد حضر الشتاء.» لقد قارن بنو حنيفة بين ما قاله سلمة وما قاله مجاعة، ورأوا أن لا قبل لهم بالمسلمين، فلم يروا بدا من التسليم بشروط الصلح، ولا سيما أن مجاعة دبر الحيلة ليموه على المسلمين بقوة الحنفيين للدفاع ويخفف من وطأة الصلح، فلم يحفل سلمة بكل ذلك؛ بل أضمر سوءا لخالد ولم يحتمل إهانة الغلبة لقومه فأجمع على أن يفتك به. ولما حشر بنو حنيفة إلى البيعة والبراءة طلب سلمة من مجاعة أن يستأذن له في الدخول على خالد ليكلمه في حاجة له، فأقبل سلمة مع بني قومه مخبئا سيفه تحت العباءة، فلما رآه خالد لم يقبله، ولعله كان يعلم كرهه له فأخرجوه عنه وفتشوه، فوجدوا معه السيف؛ فثار ثائر الحنفيين فأخذوا في سبه ولعنه صارخين في وجهه: أتريد أن تهلك قومك وتستأصل بني حنيفة وتسبي الذرية والنساء؟ فأوثقوه ووضعوه في الحصن ، غير أن سلمة أقسم أن يثأر لبني قومه؛ لذلك يعاهدهم على ألا يحدث حدثا فيعفون عنه، فلم يصدقوه ولم يقبلوا منه عهدا. أعيته الحيلة ولم ير بدا من الإفلات ليفتك بخالد مهما كلفه الأمر.
فيهرب من الحصن ليلا ويعمد إلى معسكر خالد ويصيح في وجه الحرس فيفزع بنو حنيفة فيتبعونه حتى يدركوه في إحدى الحدائق المسورة، فيقاومهم بالسيف فيكتنفونه بالحجارة، فيرى أن جميع الأبواب موصدة في وجهه، وأنه غير قاتل خالدا، فالأولى أن ينتحر ولا يرى المسلمين يسبون الذراري فيضرب نفسه بالسيف ويسقط في البئر فيموت. (38) مبادئ خالد الحربية
تنم الحركات التي قام بها خالد في قتاله أهل الردة على المبادئ الحربية التي نهجها، وفي هذه المبادئ أسس لا تختلف كثيرا عن الأسس التي اتخذها القواد العظام وأصبحت من المبادئ الحربية الخالدة، نذكر فيما يلي بعض تلك الأسس:
أولا: التوفيق بين القيادة والسياسة:
يبدو لنا من الخطط التي وضعها خالد للحركات على طليحة بن خويلد ومسيلمة الكذاب والتدابير التي اتخذها بعد الانتصار، أن خالدا من القواد الذين وفقوا دائما بين القيادة والسياسة، وأصبح هذا الاسم في عصرنا من أخطر عوامل الظفر، ويقينا أن من أكبر العوامل التي حالت دون استثمار الانتصارات الباهرة التي أحرزها نابليون في حروبه على الحلفاء عدم توفيقه بين السياسة والقيادة، وكذلك من العوامل التي أدت إلى خيبة الألمان في الحرب العامة، نظر قادتهم إلى الأمور من الوجهة الحربية فقط وعدم توفيقهم بين السياسة والقيادة.
فنرى خالد بن الوليد في الخطة التي وضعها للحركات على طليحة بن خويلد أنه وفق بين السياسة والقيادة، فلم يقدم جيشه إلى بزاخة إلا بعد أن مهد له سبيل الانتصار بجلب قبائل طيء إلى جانبه وفصل الفرقتين؛ جديلة وغوث عن بني أسد، والاستفادة فعلا من القوة التي أمدت قبائل طيء بها جيش المسلمين.
وبعد انتصاره في بزاخة نراه يفرض على القبائل تقديم عدد معين من السلاح، وفي ذلك تعزيز لجيشه وإضعاف لشأن خصمه.
وقبل أن يتقدم بجيشه نحو اليمامة يسعى قبل كل شيء لاستمالة التميميين الذين التجئوا إلى مسيلمة وأخرج جماعة سجاح من ميدان العمل، ولما ظفر ببني حنيفة لم يتردد في عقد الصلح معهم على أساس التساهل برغم مخالفة رؤساء الأنصار والمهاجرين له، ودون أن يعمل بأمر الخليفة الصريح. وقد ذكرنا مجمل الأسباب التي ألجأت خالدا إلى ذلك، ولخالد مواقف تدل على استعماله الشدة واللين تبعا لمقتضى الحال.
ثانيا: الاستطلاع:
لقد عني خالد بالاستطلاع في جميع حركاته، وقبل تقدمه نحو بزاخة يوفد قوة استطلاع بقيادة عكاشة بن محصن وثابت بن أقرم، وفي حركاته على بني تميم يوفد أمامه السرايا للتجسس والاستطلاع، أما في حركات اليمامة فيرسل مكنف بن زيد الخيل وأخاه ليتسقطا الأخبار، وكان في جميع حركاته على اتصال مستمر بالخصم الذي يريد أن يضربه؛ للاطلاع على شئونه والقيام بالحركة في الوقت الملائم.
ثالثا: المطاردة:
من الأسس التي اعتمدها خالد في حركاته القيام بالمطاردة بعد المعركة، وقد يختلف في أسلوب مطاردته عن الأسلوب الشائع الآن، وهو يتطلب سوق أقصى قوة في اليد لتقطع خط الاتصال على العدو المنسحب، أما خالد فكان يوفد السرايا في اتجاهات مختلفة للتفتيش عن العدو المنهزم والقضاء عليه أينما وجدته. فالعدو بعد انكساره ينسحب إلى محل معين كما هو شأنه اليوم؛ وذلك لأن الحياة في البادية تساعد المنهزمين على الالتجاء إلى أحياء مختلفة، هكذا كان عمله بعد معركة عقرباء، فلم يشأ أن ينازل الحصون؛ بل أوفد السرايا لتلتقط من كان خارج الحصون.
رابعا: الإبداع:
لم يتأخر خالد لحظة في استعمال إبداعه الذاتي حين تطلب الموقف ذلك، وهو يشذ عن الأوامر الصادرة إليه متى رأى الفرصة سانحة للعمل بمخالفة الأوامر؛ فتراه بعد أن أنهى أمر بني أسد في بزاخة واطلع على أحوال بني تميم وتأكد أن الفرصة سانحة للتقدم أمر جيشه بالحركة، برغم الأوامر الصادرة إليه والقاضية بألا يتقدم من محل إلى محل آخر قبل أن يتلقى أمر الخليفة، فالأنصار يذكرونه بأمر الخليفة الصريح إلا أن خالدا يقول لهم إنه هو الأمير وإليه تنتهي الأخبار، وإن لم يأته أمر من الخليفة لا يريد أن يضيع الفرصة ما دام مالك بن نويرة حياله وبطون بني تميم نافرة منه.
خامسا: التنظيم:
اتضح لنا من حركات خالد أنه ينظم جيشه، ويقسمه إلى أقسام، ويعين لكل قسم قائدا، ويعرض الجيش بنفسه قبل أن يتحرك؛ ففي ذي القصة ينظم جيشه قبل الحركة، وفي البطاح ينظمه ويعين لكل قسم منه قائدا، وقبل القتال يجعل على كل قسم من نظام القتال قائدا خاصا، وبعد انكسار المسلمين في عقرباء ودخول الأعداء الفسطاط يغير خالد تعبئة الجيش فيضع أهل القرى في جانب وأهل البادية في جانب آخر للأسباب التي سبق ذكرها.
سادسا: حشد القوات:
رأينا خالدا في جميع حركاته يحشد جميع قواته قبل المعركة ولا يشتتها؛ فيسير على طريق واحد ويسير به نحو الهدف دون أن يضعفه بفرز بعض القوات منه لمقاصد أخرى، وكان يفرز قوة من جيشه ويوفدها إلى الأمام مقدمة بقصد الأمن والاستطلاع، وأحيانا يقيم له ردءا في الخلف ليحمي خط الانسحاب، وكانت المقدمة دائما تشترك في المعركة مع الكوكب (القسم الأكبر).
سابعا: التعرض:
لقد اتخذ خالد في جميع حركاته خطة الهجوم؛ ففي بزاخة يهجم بجميع قواته على قوات طليحة بن خويلد، وفي عقرباء يتقدم نحو العدو ويهاجمه في بلاده، وكان يتوخى الهدف ولا يحيد عنه قط، والهدف عنده هو محو العدو من سفر الوجود.
Bilinmeyen sayfa