وعلى ذلك لم يكن الإغريق ليستعيروا شيئا من الهند مع افتراض أنه كان من الممكن في ذلك الزمان أن يكون لهم مخالطة مستمرة بحكماء شواطئ الهندوس، بله حكماء أواسط شبه جزيرة الهند أو شرقيها، وما عرف العالم الإغريقي بجماعة الجمنوزوفست إلا بتجريدة الإسكندر وسفارة ميغاستين، ولكن الإسكندر وميغاستين هما متأخران بمائتي عام عن حكماء سموس وملطية وكولوفون.
حق أن الهند - خلافا لمصر ويهودة وفارس - لها فلسفة حقيقية نعرفها في مجموعها ونعرف منها آثارا تفصيلية. وريثما ندرسها دراسة تامة نقرر منذ الآن أننا نعلم أن هذه الفلسفة مستوفية كل الشرائط اللازمة للعلم على النحو الذي نعنيه نحن اليوم، والذي كان يعنيه الإغريق دائما. إنها لمستقلة تمام الاستقلال، وغرضها كغرض حكمة الإغريق تفهم العالم والإنسان. ولا شك في أنها درست كليهما على غير الوجه المفيد، ولكنها جعلتهما شغلها الوحيد، فينبغي أن يكون لها بمذاهبها الستة التي تتقاسمها وتؤلفها مركز عظيم في التاريخ العام للعقل البشري.
ما هو تاريخ هذه الفلسفة؟ وإلى أي زمن تنتسب؟ ذلك هو كل ما يهمنا في هذا المقام.
قد كان يظن أن أحد هذه المذاهب الذي هو مذهب سعنخيا الملحد من كبلا كان سابقا على البوذية. ولما أن بوذا مات سنة 543 قبل الميلاد يكون سعنخيا معاصرا لطاليس ومعاصريه الآخرين. وكانوا يقفون مذهب سعنخيا بالمذاهب الأخرى على ترتيب معين لا يخلو من التحكم كثيرا أو قليلا باعتبار أن كل هذه المذاهب متأخرة عنه، وبالتبع تكون متأخرة عن فلسفة آسيا الصغرى، ولكن يظهر أن هذا الترتيب أصبح الآن معدوم النصير؛ لأن أغزر البراهمة علما متفقون على ترتيب سعنخيا بعد البوذية بزمان طويل. إن الفلسفة لم تظهر في الدين القديم إلا لاستئصال شأفة الإلحاد أو على الأقل لتفل من غر به. وإن مذهب سعنخيا الذي هو ملحد وروحاني معا ما يكون إلا طليعة التوفيق بين اعتقادات الدين الجديد وبين الاعتقادات الجائية من فيدا، ويكون «النيايا» أو المنطق جاء نفسه قبل سعنخيا لحاجات المناظرة، وتكون الفيدعنتا متأخرة عن الاثنين.
34
ليس بي من حاجة إلى الدخول في مناقشات من هذا النوع، ولا أريد أن أجاوز بالبحث حدود ما قدمته من القول، وإلا كانت إفاضة في العبث؛ فإن من البين أننا حتى إذا وضعنا سعنخيا في الترتيب الوجودي قبل ظهور البوذية وجدنا أن الإغريق لم يكن في وسعهم أن يعرفوا من مذهبه شيئا عندما أخذوا يفلسفون لأول مرة. ومع افتراض أن سياحة فيثاغورث بلغت به بابل وصوص، فإنها لم تعلمه مذاهب لم تكن خلقت في بنجاب أو على شطوط نهر الجنج.
ينبغي أن يزاد على هذا أن «داراسانا» الفلسفة الهندية على ما هي معروفة عندنا منذ كولبروك وما تلا مذكراته المشهورة من المعلومات ليس بينها وبين الفلسفة الإغريقية في تلك الأزمان الأولى علاقة مشاركة، فلا في طاليس ولا في فيثاغورث ولا في إكسينوفان يمكن العثور على أثر للمشابهة أو التقليد، وهذا مفهوم بالبداهة ما دام الظاهر كله يدل على أن الفلسفة البرهمانية لم تتم إلا بعد ذلك بقرنين أو ثلاثة.
ومتى خرجنا بالهند من الموضوع صار من العبث أن نبلغ بالبحث الصين؛ فإن لاونسو معتبر أنه عاش في القرن السادس قبل الميلاد، ولكن الفلاسفة الإغريق الأول لو كانوا قرءوا الثاوتي كنج وهو كتاب الطريق والفضيلة لما استطاعوا أن يجدوا فيه ما يصلح لهم.
35
على ذلك لا الصين ولا الهند ولا فارس ولا مصر نفسها لم تلهم الإغريق شيئا من فلسفتهم. وسأبين فيما يلي أي حظ من التأثير كان للمذاهب المصرية في مذهب فيثاغورث، ولكنه يمكن الجزم بصورة عامة أن الفلسفة الإغريقية باعتبار أنها في مهدها فلسفة بالغة في الأصلية غايتها، وبأن معنى العلم على الصورة التي صورتها بها هذه الفلسفة وقتئذ كان باكورة فهم العقل البشري للعلم، تلك هي نتيجة كبرى أعترف بغاية الارتياح أنها ليست أمرا جديدا، كما قد يبين من الاعتبارات التي تقدمت، بل قد تقدمني بزمان رجال ارتأوا هذا الرأي من غير أن يكون قد توفر لديهم كل ما لدينا من الأدلة.
Bilinmeyen sayfa