ربما هو نظام التعليم في بلادنا الذي يسلبنا القدرة على الإبداع والتمرد على الأسياد الكبار الذين يملكون السلطة في الدولة والعائلة، وربما هي عقيدة النقص في مواجهة الغرب الأقوى الذي استعمرنا قديما وحديثا، منذ نشوء النظام الطبقي الأبوي أو العبودية.
أتابع ما يحدث على الساحة السياسية والثقافية والفكرية في بلادنا وأشعر أن المعركة أمامنا طويلة طويلة، وهي معركة فكرية في الأساس؛ لأن العقل الذي يفكر بعقول الآخرين ليس عقلا مفكرا بل ناقلا فقط، والعقل الناقل بالضرورة عقل تابع، والعقل التابع يؤدي إلى وطن تابع، واقتصاد تابع وسياسة تابعة وثقافة تابعة وإعلام تابع. (6) الفكر والعمل
كيف الخروج من هذا المأزق؟ إذا كان أغلب المفكرين المبدعين في بلادنا قد لزموا بيوتهم أو تمت مطاردتهم حتى هاجروا إلى الخارج أو إلى الداخل، وقد طغى على سطح الحياة الفكرية هؤلاء الذين يؤيدون كل من جلس على العرش، وقد رأيت هؤلاء في اجتماعاتهم مع عبد الناصر والسادات ومبارك، واستمعت إليهم وهم يتملقون كل حاكم، يرفعونه إلى مصاف الإله المعصوم من الخطأ، الإله الذي يوجه إليهم التوجيهات والأوامر، ولا يكون أمامهم إلا الطاعة وإلا فقدوا الامتيازات والمقاعد الجالسين فوقها.
المشكلة إذن مزمنة، وهي حادة أيضا وقابلة للعلاج، وأول مراحل العلاج هو التشخيص الصحيح للداء، ولعل هذا المقال محاولة متواضعة مني أو مساهمة قد تساعد على تشخيص المرض والبحث عن الأسباب الحقيقية لغياب الفكر المبدع في بلادنا، وندرة المفكرين الخلاقين من الرجال والنساء.
هل لنا أن نحرر المستقبل من الماضي؟ هل لنا أن نحرر الماضي من المستقبل؟ قد يكون الماضي أكثر تقدما من الحاضر أو المستقبل، مثلا كانت أفكار مي زيادة وملك حفني ناصف أكثر تقدما من أغلب النساء والمثقفات اليوم، وكانت أفكار طه حسين أكثر تقدما من أفكار أغلب المثقفين الرجال اليوم، وكانت فلسفة ابن رشد أكثر تقدما من كثير من المفكرين اليوم، والماضي المصري القديم كان أكثر عقلانية وتقدما من المستقبل الروماني المسيحي الذي دمر الحضارة المصرية القديمة، وحطم الآلاف من تماثيلها وآثارها وكتبها.
هذا في فترات الردة والهزيمة فقط، لكن في فترات الازدهار فإن المستقبل يقترن بالتقدم والتحرر من قيود الماضي، ومن الأفكار المتخلفة التي يثبت أنها ضد التقدم العلمي والاكتشافات الجديدة، مثلا لقد انتصر علم الكون الجديد وعدم مركزية الأرض على الفكر اليهودي في التوراة، ونظرية الخلق الدينية التي سادت في الماضي.
المسألة إذن ليست الماضي أو الحاضر أو المستقبل، وهي كلها عناصر مترابطة واحدة متداخلة، المسألة هي القدرة على الفرز والتمسك بالإيجابيات ونبذ السلبيات سواء في الماضي أو الحاضر، هذه القدرة تحتاج إلى عقول مفكرة شجاعة لا تتملق الثوابت المقدسة في الماضي والحاضر، بل تخضعهما للنقد والجدل في ضوء المشاكل التي يعيشها الناس، وليس في ضوء مقولات هذا أو ذاك من المفكرين في بلاد أخرى، كما تحتاج إلى العمل مع الناس والمقاومة الجماعية، وعدم فصل الفكر عن العمل.
لأن معظم البحوث العلمية في جامعاتنا تدور في جدل نظري عقيم حول مقولات ونظريات المفكرين في الغرب، ولا تنبع من أسئلة حول مشاكلنا الواقعية؛ لهذا لا تلعب الجامعات في بلادنا دورا في الإبداع الفكري أو تخريج المبدعين.
القاهرة 16 أغسطس 2000
عالم تختفي فيه الحقيقة يسوده الوهم ...
Bilinmeyen sayfa