ثمن الكتابة
إهداء
عن هذا الكتاب
تجاوز الخطوط الحمراء
ورقة لم تقدم في مؤتمر المرأة والإبداع
هذا المقال لم ير النور
فتاة الليل والكاتبة
نحو تحرير العقل المصري
عالم تختفي فيه الحقيقة يسوده الوهم ...
إلى الذين يقولون عنها إرهابية
بعد أن رأيت ذاتك في المرآة
عالم جديد ممكن
من وحي اجتماع القمة مع النخبة
من وحي قرار مفتي الديار المصرية
من وحي عيادتي الطبية بالجيزة
من وحي قرار شيخ الأزهر
التاريخ العائلي لزعيمة نسائية محجبة
عن الخوف
من وحي سنوات الغربة
القيظ والغيظ في يونيو 2002
من وحي صحف 5 يونيو 2001
أمي المثالية
16 قصيدة صغيرة
عن الذاكرة الجمعية المفقودة
تحت اسم التنمية (1)
تحت اسم التنمية (2)
حجاب العقل
عن تقرير التنمية البشرية في بلادنا
12 قصيدة صغيرة
تكوين الضمير الإبداعي
الخيال الذكوري المبتور في الأدب الشائع
4 قصائد صغيرة
رحلة الصيف إلى الجنوب
تخبط النخبة المثقفة
عن استراتيجية الثقافة والإبداع
الاحتمال المفيد والاحتمال غير المفيد
مفهوم الوطن والحب في عيد الأم
قليلا من العدل
خطوة نحو تحرير المرأة المصرية ولكن ...
قضية المرأة في الحوار القومي
كيف نشأ ختان الذكور في التاريخ؟!
أول رحلة بالمترو تحت الأرض في القاهرة
أحلام إنسان بسيط
عن توفيق الحكيم في ذكراه ال 15
اختيار الصعب
عن جورج بوش وتوني بلير
عيد الحب وعيد المسلمين على شاطئ هدسون
قرن النساء أم قرن الإسلام؟ وإجهاض ثورة الإجهاض
إبليس في أرض الخوف
عن الحقوق المدنية والسياسية
المرأة في الألفية الجديدة
الفتاة الفلسطينية التي تتحدى الحكومات العربية
رسالة إلى وزير الصحة
رسالة إلى وزيرة البيئة
نشوء الفيروسات والحرب البيولوجية الخفية
نحو فلسفة إنسانية لإحياء الضمير
المصادر
ثمن الكتابة
إهداء
عن هذا الكتاب
تجاوز الخطوط الحمراء
ورقة لم تقدم في مؤتمر المرأة والإبداع
هذا المقال لم ير النور
فتاة الليل والكاتبة
نحو تحرير العقل المصري
عالم تختفي فيه الحقيقة يسوده الوهم ...
إلى الذين يقولون عنها إرهابية
بعد أن رأيت ذاتك في المرآة
عالم جديد ممكن
من وحي اجتماع القمة مع النخبة
من وحي قرار مفتي الديار المصرية
من وحي عيادتي الطبية بالجيزة
من وحي قرار شيخ الأزهر
التاريخ العائلي لزعيمة نسائية محجبة
عن الخوف
من وحي سنوات الغربة
القيظ والغيظ في يونيو 2002
من وحي صحف 5 يونيو 2001
أمي المثالية
16 قصيدة صغيرة
عن الذاكرة الجمعية المفقودة
تحت اسم التنمية (1)
تحت اسم التنمية (2)
حجاب العقل
عن تقرير التنمية البشرية في بلادنا
12 قصيدة صغيرة
تكوين الضمير الإبداعي
الخيال الذكوري المبتور في الأدب الشائع
4 قصائد صغيرة
رحلة الصيف إلى الجنوب
تخبط النخبة المثقفة
عن استراتيجية الثقافة والإبداع
الاحتمال المفيد والاحتمال غير المفيد
مفهوم الوطن والحب في عيد الأم
قليلا من العدل
خطوة نحو تحرير المرأة المصرية ولكن ...
قضية المرأة في الحوار القومي
كيف نشأ ختان الذكور في التاريخ؟!
أول رحلة بالمترو تحت الأرض في القاهرة
أحلام إنسان بسيط
عن توفيق الحكيم في ذكراه ال 15
اختيار الصعب
عن جورج بوش وتوني بلير
عيد الحب وعيد المسلمين على شاطئ هدسون
قرن النساء أم قرن الإسلام؟ وإجهاض ثورة الإجهاض
إبليس في أرض الخوف
عن الحقوق المدنية والسياسية
المرأة في الألفية الجديدة
الفتاة الفلسطينية التي تتحدى الحكومات العربية
رسالة إلى وزير الصحة
رسالة إلى وزيرة البيئة
نشوء الفيروسات والحرب البيولوجية الخفية
نحو فلسفة إنسانية لإحياء الضمير
المصادر
كسر الحدود
كسر الحدود
تأليف
نوال السعداوي
ثمن الكتابة
مقدمة قصيرة
لا أجيد كتابة المقدمات، يمكن أن أكتب قصة من ألف صفحة، ولا أستطيع كتابة مقدمة من نصف صفحة، أما رفيقة عمري فهي شخصية عصية على الفهم، تكتب في النوم كما تكتب وهي صاحية، لا تهتم بدورة الأرض حول نفسها، أو دورتها حول الشمس.
تضحك وتقول: نحن أحرار، ندور كما نشاء؛ حول أنفسنا، أو حول غيرنا، أو لا ندور.
لكن عقلي يدور، رغم مشيئتي، في النوم كما في اليقظة.
أصحو من النوم كل صباح على رنين الجرس، صوتها يأتيني من حيث تكون، في أي مكان فوق كوكب الأرض، هي تعشق السفر منذ كانت طفلة، لا تعود إلى الوطن حتى ترحل، مهما ابتعدت وطال الغياب، أراها أمام باب بيتي ، بحقيبتها العتيقة بلون النبيذ الأحمر، حرقتها الشمس وأغرقتها الأمطار في الجنوب والشمال، أصبحت أقل حمرة مما كانت، وإن ظلت حمراء اللون، متينة العجلات قوية العضلات، أقل قوة بمرور الزمن، تجرها من خلفها وهي تجتاز المطارات والمحطات، تنزلق وراءها بخفة فوق الشوارع المرصوفة الناعمة، وتغوص بثقلها في الأزقة حيث الحفر والمطبات، مليئة بالكتب وملابسها وأوراقها، مقبضها متين لا ينخلع، يحمل اسمها، داخل قطعة من البلاستيك الأبيض بحجم كف اليد.
اسمها الثلاثي كان مسجلا في أقسام وزارة الداخلية والشئون الاجتماعية ومصلحة السجون وإدارات الرقابة على النشر والكتابة والمصنفات الفنية.
يحملق ضابط الشرطة بمطار القاهرة في اسمها الثلاثي، يتأمل صورتها في جواز سفرها، يبتسم في وجهها: حمد الله ع السلامة يا أستاذة. يدق بالمطرقة على جواز سفرها فتدخل. وإن وصلت القائمة السوداء إليه قبل عودتها، يعتذر لها برقة ورثها عن أمه، يناولها كرسيا لتستريح وكوب ماء: آسف يا أستاذة، عندي أوامر لازم أنفذها. وإن كان عضوا بحزب الجهاد أو داعش أو حزب الحكومة، يكشر عن أنيابه مبرطما بصوت غليظ، ويحجزها مع حقيبتها في غرفة الحجر الصحي؛ حيث تلتقي بأنواع مختلفة من البشر، بعضهم مرضى بالجذام وأنفلونزا الخنازير، وبعضهم مصاب بالجنون أو الكفر، منهم الكوافير سوسو، كان شهيرا في الحي الراقي بجاردن سيتي، اكتسب ثقافة نادرة من الحلاقة للنساء والرجال، أصابعه ماهرة تدرك أفكارا مدهشة في الرءوس التي تغوص فيها، يأتي سكان الحي الراقي إلى محله الأنيق بشارع التنهدات، نساء ورجال من المثقفين أو الطبقة العليا، يؤمنون أن الإنسان تطور عبر ملايين السنين من فصيلة الثدييات على رأسها الشمبانزي الأم الكبرى، وأن الأرض كروية تدور حول الشمس وليس العكس، وأن الكون نشأ بالصدفة البحتة حين حدث الانفجار الكبير وانتشرت في الفضاء ذرات، تناثرت وتجمع بعضها لتكوين أول مادة أو أول كتلة مادية في الوجود.
وكان من زبائن الكوافير سوسو، أيضا، البوابون والطباخون في قصور الباشوات القدامى والجدد في جاردن سيتي، منهم الحاج منصور الشهير باسم طباخ الباشا؛ رجل سمين مملوء بالسمن البلدي والطعام الفاخر الذي يبتلعه سرا.
وبينما هو يترك رأسه بين يدي الكوافير سوسو، يحكي الحكايات القديمة عن المماليك والأتراك، كيف عاشوا في الأناضول، ولا بد أن يذكر الأسلاف من أجداده وعلى رأسهم جده الكبير، الذي حكى له وهو صغير أن الله خلق للثور قرنين؛ لأنه يحمل الأرض فوق قرن، وإن تعب من ثقلها حرك رأسه ونقلها إلى قرنه الثاني.
ويضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. - لا، معقول يا سوسو، امال الزلازل والبراكين والبرق والرعد بييجوا منين؟ - منين يا حاج منصور؟ - لما الثور يحرك الأرض على راسه من قرن لقرن يحدث البرق والرعد، والزلازل تهز الأرض.
يضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. - لا، معقول يا سوسو. - الكلام ده كان زمان قبل جاليليو. - جاليليو خواجة يهودي نصراني ما يعرفش ربنا. - لازم تعرف حاجة عن جاليليو يا حاج، اسمعني. - سامعك يا خويا. - جاليليو أمه ولدته في إيطاليا بعد العدرا مريم ما ولدت المسيح بألف وخمسميت سنة أو أكتر، وكانت إيطاليا وأوروبا كلها محكومة بالكنيسة وعايشة في الجهل والظلام، درس جاليليو الطب والهندسة والفلك، واكتشف أخطاء العلماء اللي قبله في اليونان، منهم أرسطو. - أرسطو كان مؤمن بربنا يا سوسو؟ - أرسطو كان مؤمن بالكنيسة يا حاج منصور وبينشر أفكارها في كتبه، واعتبرته الكنيسة الفيلسوف الأعظم وأغدقت عليه الأموال والمناصب، لكن جاليليو عمل منظار جديد واكتشف خطأ أرسطو، وإن الأرض بتدور حول نفسها وحول الشمس، غضبت منه الكنيسة واتهمته بالكفر والإلحاد والخيانة؛ لأنه بيعارض الكتاب المقدس وتعاليم الكنيسة ونظرية أرسطو عن إن الأرض ثابتة لا تتزعزع ولا تتحرك أبد الدهر، قدموا جاليليو للمحاكمة وأدانوه، ومات فقير مسكين معزول في بيته. - مين قال لك الكلام ده؟ - الباشا اللي باحلق له شنبه ودقنه. - الباشا بنفسه يا سوسو؟ - أيوة يا حاج منصور. - لازم كلامه صح مية المية، لكن أنا مش حاسس إن الأرض بتدور يا سوسو! - لأنها بتدور بسرعة كبيرة يا حاج، وانت جزء منها وبتدور معاها. - مش معقول يا سوسو. - مثلا وانت راكب جوة القطر يا حاج، لا يمكن تحس إنه بيجري بسرعة. - لكن القطر غير الأرض يا سوسو، ولا إيه؟ - إيه يا حاج!
وينفجر الكوافير والحاج منصور في الضحك.
تخرج هي، رفيقة العمر، تجر حقيبتها الحمراء ذات العجلات، من غرفة الحجر الصحي بالمطار بعد عدة ساعات، أو عدة أيام حسب مزاج الحكومة والمخابرات، ثوبها مكرمش وشعرها منكوش، نامت على الكرسي وإلى جوارها الحقيبة، تلمسها بيدها إن أفاقت في الظلمة فجأة، تخشى أن يسرقها أحد وهي غارقة في النوم، أو غائبة عن الوعي من شدة التعب، وفي أحد الصباحات، دون سابق إنذار، يأتي الضابط مبتسما، ويقول: مبروك يا أستاذة، صدر العفو الرئاسي عن بعض المعتقلين والمعتقلات بمناسبة العيد. - أي عيد؟
الأضحى الكبير، أو العبور العظيم، أو شم النسيم في بداية الربيع، يصحو الناس في الصباح الباكر ليشموا البصل والرنجة والفسيخ، يتمشون على شاطئ النيل، الأغنياء منهم يشمون النسيم في المنتجعات الجديدة على شاطئ البحر الأبيض بالساحل الشمالي، أو في الغردقة وسواحل البحر الأحمر.
لكن يظل الفسيخ اللذيذ من نبروه، مع أصناف الطعام الفاخر ومعه البصل الأخضر والملانة والرنجة من ضرورات العيد، لإعادة الذاكرة الطفولية والخصوصية الثقافية وتاريخ الأجداد.
كنت أحب الفسيخ وهي لا تطيق رائحته، لا تزورني أبدا في المواسم، لا تحتفل بالأعياد، وعيد ميلادها لا تذكره، إن ذكرتها به تمط شفتها السفلى وتنهمك في الكتابة. - كم عمرك؟ - مش فاكرة. - مش معقولة انتي. - انتي اللي مش معقولة. - ازاي؟ - إيه يهمك من عمري؟ - عاوزة أعرف انتي عشتي كام سنة. - ليه؟ - مش عارفة. (انتهت المقدمة)
1
نوال السعداوي
القاهرة
22 مارس 2017
إهداء
إلى النساء والرجال الذين يكسرون الحواجز الموروثة ويتجاوزون الخطوط الحمراء ...
نوال السعداوي
القاهرة، نوفمبر 2002
عن هذا الكتاب
يتميز الإبداع في أي مجال بأنه يكسر الحدود والقواعد السابقة عليه، بتجاوز الخطوط الحمراء كلها، ويأتي بالجديد من الأفكار والأشكال والتعبيرات التي لا تخطر على بال؛ لأن الإبداع يعني الجديد والتمرد على القديم.
وخلال العشر سنوات الماضية كنت أستاذة زائرة في عدد من الجامعات غربا وشرقا، كنت أدرس مادة أعطيتها اسم «الإبداع والتمرد»، تقوم على فكرة أن لا حد للإبداع، ولا سقف للعقل البشري المبدع تحت أي حجة سياسية أو دينية أو غيرهما.
ولأنني طبيبة وأديبة في آن واحد؛ فقد حاولت أن أكسر الحدود بين العلم والفن، أو بين الطب والأدب، وفي كليات الطب في الجامعات المتقدمة أصبح الطلاب والطالبات يدرسون الموسيقى والأدب والشعر، إلى جانب التشريح وعلم الأمراض والفيروسات والاقتصاد والسياسة والفلسفة وغيرها.
لقد تربينا منذ الطفولة على تقديس الحدود والخوف من تجاوز الخطوط الحمراء في كل مجال، خاصة مجال القوى السياسية والدينية المسيطرة؛ ولهذا السبب لم يخرج من بلادنا مبدعون أو مبدعات في مجال العلوم والفنون.
لقد تربينا على التقليد والمحاكاة والنقل والترجمة عن الآخرين، وليس الإبداع بعقولنا والمغامرة والخوض في المحرمات.
ومن المحرمات الموروثة في عالم الأدب هو الفواصل والحدود التي رسمت بين الرواية والقصة والشعر والمسرحية وغيرها، وكذلك الحدود بين العلم والفن، لكن اللغة الإبداعية تكسر هذه الحدود وتعبر عن نفسها بطرق جديدة ومختلفة، الإبداع يحطم النظام السابق عليه ويخلق نظاما جديدا، الذي لا يلبث أن يتحطم مع الإبداعات الجديدة المتكررة دون انقطاع.
يواجه المبدع أو المبدعة ما تسمى مرحلة «الفوضى» بين النظامين القديم والجديد، إنها المرحلة التي تسبق قيام النظام الجديد وتلي زوال القديم، وهي مرحلة مؤقتة وقصيرة، إلا أنها مخيفة وضرورية لأي إبداع.
لقد أصبحت نظرية الفوضى في النظريات العلمية والفنية التي تكمل أي نظام، فليس هناك نظام دون أن يكون هناك فوضى، والفوضى لا تعني الجنون والخروج عن العقل؛ بل تعني كسر الجمود العقلي وتحرير العقل من القواعد السابقة والمقدسات الموروثة في العلم أو الأدب أو الفن أو غيرها.
وهذا الكتاب هو مرحلة من مراحل كسر الحدود بين الرواية والقصة والشعر والمسرحية والمقال العلمي، أو الأدب أو السياسة، إنه محاولة جديدة جاءت وحدها تلقائيا بعد أن شعرت بضرورة تواجدها؛ لأن الأشكال الأدبية الموروثة لم تعد كافية للتعبير عما يجيش في النفس من تغيرات وتحولات في عالم يعيش التغيرات والتحولات بأسرع مما نتخيل.
إن خيالنا يعيش في خوف من الإقدام على الجديد، والخيال جزء من العقل، يرث الخوف والنفاق بمثل ما يرث الشجاعة والصدق.
نوال السعداوي
نوفمبر 2002
تجاوز الخطوط الحمراء
شبورة رمادية تغلف سماء القاهرة، وفي الأفق البعيد السحابة السوداء، التي يتحدثون عنها في الصحف، ويقولون إن لا أحد إلا الله يعرف أسبابها. - العلم عند الله!
الجميع يقولون العلم عند الله، أصبح الله هو الشماعة التي يعلقون عليها الأزمات والكوارث والمذابح في فلسطين والعراق و...
خاصة في شهر رمضان حيث يزيد الإيمان المزيف، وتعج برامج الإعلام بالقرآن ونصائح شيخ الأزهر ومفتي الديار عن العفة وتحجب النساء، والصلاة والصوم وزيارة قبر الرسول في المملكة السعودية.
ولا يزيد عن هذه البرامج الدينية إلا رقصات البطن والأثداء والأرداف وتعرية أجساد النساء من أجل الترفيه عن الصالحين الصائمين في رمضان الكريم.
أكتب هذه الكلمات واليوم هو الأربعاء 27 نوفمبر 2002م، الموافق 22 رمضان 1423ه، الموافق 18 هاتور 1719 ... وبعد شهر واحد، أي في 27 أكتوبر القادم سأبلغ من العمر سبعين عاما «ويضاف إليها عامان» الرقم «سبعين» يرن في أذن مهولا مرعبا مفزعا من أن يسمعه أحد في الوطن الكريم حتى يقول عني عجوز شمطاء، منذ قليل نشرت الصحف المصرية الحكومية «والمعارضة الشرعية» عن هذه العجوز الشمطاء التي يجب قطع رأسها؛ لأنها تجاوزت الخطوط الحمراء، وخرجت عن الدائرة المرسومة للمؤمنين والمؤمنات بالكتب السماوية الثلاثة، ولأنها لا تؤمن بتقبيل الحجر الأسود المقدس، ولأنها سخرت من تقبيل رأس سانت كاترينا المقدس، ولأنها سخرت من إله التوراة الذي هو إله الإنجيل وإله القرآن، وقالت إنه منح بني إسرائيل أرض فلسطين (أو كنعان) مقابل قطع غزلة القضيب أو ختان الذكور. - يجب قطع رأسها أيها السادة. - لماذا أيها السيد؟ - لأنها تصور الإله في التوراة كأنما هو إله بلا عقل. - إزاي يا أخي؟ - تصور يا أخي ... إنها تكتب وتقول: إن الله سبحانه وتعالى أمر بني إسرائيل في التوراة أن يقتلوا أهل كنعان، ويغتصبوا الأرض مقابل ختان الذكور؟! تصور يا أخي هذه البجاحة! - يا أخي هذه آية مكتوبة ومطبوعة في كتاب التوراة ، وهي لم تخترعها من خيالها، ألم تقرأ التوراة؟! - لا يا سيدي أنا لا أقرأ إلا القرآن، وقال الله سبحانه وتعالى في القرآن أن ... - أنصحك يا أخ أن تقرأ التوراة والإنجيل أيضا حتى تفهم القرآن؛ لأنك لا يمكن أن تفهم القرآن دون أن تفهم الكتب السماوية السابقة عليه. - ما هذا الكلام يا أستاذ؟ لم أسمع بهذا من قبل! وأنا يا أستاذ تخرجت في الأزهر الشريف، وأصبحت أستاذا للفقه والشريعة الإسلامية ولم يطالبني أحد من قبلك بقراءة التوراة والإنجيل. - ولكنك يا أستاذ لا يمكن أن تكون مسلما دون أن تؤمن بالكتب السماوية الثلاثة. - نعم. - كيف إذن تؤمن بكتب لم تقرأها؟! - لقد خرجنا عن موضوعنا الأصلي يا أستاذ! - ما هو؟ - قطع رأس هذه العجوز الشمطاء الكافرة. - تاني! •••
الصحف الحكومية و«المعارضة الشرعية» تنشر كل يوم عن المذابح المتكررة للشعب الفلسطيني.
واليوم الأربعاء 27 نوفمبر 2002، تأتي عناوين الصحف الرئيسية كالآتي:
واصلت القوات الإسرائيلية اعتداءاتها بالأسلحة الثقيلة والدبابات وطائرات الهيلكوبتر الأباتشي المقاتلة في غالبية مدن ومناطق الضفة الغربية، وفي منطقة دير البلح بقطاع غزة ... و...
وطالب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية بالإسراع بالتدخل لمنع الكارثة الإنسانية التي يواجهها الشعب الفلسطيني.
وفي واشنطن ماذا حدث؟ وكم مرة طالب الرئيس المصري وغيره من رؤساء الحكومات العربية وملوكها وأمراء نفطها، كم مرة طالبوا أمريكا بالتدخل لإنقاذ فلسطين؟!
وتتدخل أمريكا بالطبع، فهي تزيد المعونات العسكرية والاقتصادية لإسرائيل، وتكافئها على المذابح التي تقترفها في فلسطين (والعراق ... سنأتي للعراق بعد قليل).
ومع ذلك لا يكف الرؤساء في بلادنا العربية عن استجداء أمريكا بالتدخل لمنع الكارثة!
كيف هذا أيها السادة؟ ولماذا؟
من أجل استمرار المعونة الأمريكية التي ثبت أنها لا تفيدنا بشيء بل أضرارها أكثر؟!
هل لأن الرئيس المصري الراحل أنور السادات أفتى بأن أمريكا تملك 99٪ من أوراق اللعبة؟! هل لأنه هو الذي بدأ الانفتاح على أمريكا وتلقي المعونة بدلا من الإنتاج والتنمية الحقيقية؟! هل لأنه بدأ عملية السلام المزيفة التي عرفت باسم كامب ديفيد الأولى، والتي قادت إلى هذه المذابح التي تعيشها اليوم ؟
ومتى يكشف التاريخ عن زيف عملية السلام هذه؟ وزيف حكاية المفتشين الدوليين الذين بدءوا اليوم في بغداد التفتيش عن أسلحة الدمار الشامل في العراق!
ألا يفتشون عن أسلحة الدمار الشامل في إسرائيل أيضا؟ ولماذا وافقت الحكومة المصرية على توقيع اتفاقية نزع السلاح النووي على حين رفضت إسرائيل؟!
إنها الحكومة الأمريكية التي ضغطت وضغطت على الحكومة المصرية حتى وقعت حكومة مصر على الاتفاقية، وهذه كارثة الكوارث.
أن تصبح إسرائيل هي القوة المسلحة الوحيدة في المنطقة التي نعيش فيها، وبعد أن تضرب فلسطين والعراق «بالتعاون مع أمريكا» سوف تضرب مصر وسوريا وأي بلد آخر.
ومع ذلك يستمر الخداع الصحفي والإعلامي، واليوم يكتب الصحفيون في الحكومة المصرية أن معاهدة السادات للسلام أو زيارته للقدس عام 1977 (19 نوفمبر) تساوي في أهميتها لخطة هبوط الإنسان على سطح القمر.
أجل، أيها السادة، إنها لحظة تاريخية هامة، بدأ فيها انهيار العرب، أو ما يطلق عليها الأمة العربية، أصبحت كلمة الأمة العربية أو الوحدة العربية كأنما هي وصمة عار، وأصبحت جامعة الدول العربية أضحوكة، أو نكتة، هل سمعتم آخر نكتة عن قرارات الجامعة العربية؟!
كثير من المفكرين العرب والمصريين يتساءلون اليوم: هل تنقرض الأمة العربية ويحذف من القاموس السياسي كلمة «العالم العربي»، ويحل محلها «الشرق الأوسط» تحت سيطرة إسرائيل؟! (1) النفاق سيد الأخلاق والتجسس أيضا
أحد كبار الصحفيين في مصر (ومعه عدد كبير من رجال ونساء الإعلام) يكتب الشيء ونقيضه حسب التوجيهات القادمة من أعلى.
يتغير رأيه في جمال عبد الناصر حسب التوجيهات المحلية والدولية.
ويتغير رأيه في أنور السادات أيضا.
إنه يشعر بحقه في النقد لأن الديمقراطية تسود في العهد الحالي، وهو قادر على نقد الرؤساء الموتى فحسب، أما الأحياء فهم ...
وهو يكتب اليوم الأربعاء 27 نوفمبر 2002 بعد المذابح الأمريكية الإسرائيلية في فلسطين والعراق وغيرهما ... «واشنطن تؤكد استمرار المعونة الاقتصادية والعسكرية لمصر.»
أكد ريتشارد باوتشر المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية أن الولايات المتحدة لا تعتزم إجراء أي تخفيض في حجم المعونة لمصر خلال السنة المالية 2002، والتي سوف تصبح 615 مليون دولار في السنة المالية التالية، وتقدر المعونة العسكرية بمليار و300 مليون دولار سنويا.
وأكد الرئيس جورج بوش أن على حكومة مصر وغيرها من الحكومات المتلقية للدعم أن تستمر في فتح أسواقها للبضائع الأمريكية والخضوع للسياسة التي تفرضها واشنطن. •••
يظهر هذا الخبر بالبنط الصغير جدا وفي صفحة داخلية، أما الصفحة الأولى فهي تعلن أننا نعيش عهد الحرية والرخاء والسلام في ظل السيد الرئيس بطل الحرب وبطل السلام.
لكن في الصفحات الداخلية وبالبنط الصغير جدا نقرأ الآتي: زيادة معدلات الفقر في مصر وفشل مشروعات التنمية.
انخفاض الاستثمارات المحلية والأجنبية في مصر: يكشف التقرير (من مكتب رئيس مجلس الوزراء) أن حجم الاستثمارات المحلية هبطت إلى 23,9 مليار جنيه عام 2000 ثم هبطت إلى 14,6 مليار جنيه حتى أغسطس 2002، وانخفضت الاستثمارات الأجنبية إلى 529 مليون دولار حتى أغسطس 2002 (وكانت 4167 مليون دولار عام 1999). •••
وضعت الحكومة المصرية في مشروع قانون الاتصالات الجديد نصا يسمح لجهات الأمن بالدخول على الشبكات للتصنت على المكالمات التليفونية، حسب المادة 65 من مشروع القانون التي تبيح التجسس على المواطنين.
من الصحف المصرية في 26 نوفمبر 2002
يا مواكب النفاق يا سبب الهزيمة.
يا من تحولون الشيء إلى نقيضه.
يا من تصنعون بطلا وهميا.
من الكلام والإعلام.
وتمتلئ الصحف بالحبر المراق.
عن البطل المغوار.
الذي لم يدخل معركة واحدة.
الذي يعيش في كنف السلطة.
الذي شارك على مدى العقود.
في الخضوع وتأييد التبعية.
وفجأة يصبح فوق الورق.
هو المقاتل ضد الصهيونية.
وهو المعادي للتبعية.
والمقاتلون الحقيقيون والمقاتلات.
في السجون أو المنافي.
أو في البيوت يدفنون. •••
يقولون انهزمنا أمام الأعداء.
أقول لهم لم تكن هي هزيمتنا.
بل هزيمتكم أيها السادة.
أيها المتنكرون داخل ثياب وطنية.
وأسماء عربية.
وبشرة سمراء أو قمحية.
تقولون إنكم السادة ونحن الشعب.
تسرقون أحلامنا وخبزنا وقطعة الجبن.
نفتش عن لقمة العيش في صفائح القمامة.
وفي الأرض البعيدة الغريبة.
نعيش خارج الوطن غرباء.
وغربتنا داخل الوطن أشد. (2) إلى أحد سجناء الرأي في مصر
8 أغسطس 1897 قبل سقوط الخديوي
مواكب النفاق يا صديقي.
تجعلك كبش فداء.
يتاجرون بالوطنية والأمانة.
على حسابك.
بيوتهم من زجاج.
ويقذفونك بالطوب.
قبل أن يقذفهم أحد.
كم رجل وامرأة اختلسوا وهربوا.
بالمليارات.
ومثلهم يعيشون حياة الأبطال.
تحت اسم الدفاع عن فلسطين.
أو العراق.
أو حقوق النساء.
أو التعددية والهوية والتنمية.
لم يقدمهم أحد للمحاكمة.
ولم يدافع أحد عنك.
إلا الأغلبية الصامتة.
اللاهية عنك.
بلقمة العيش.
وبقيت كلمة أخيرة.
سيكون مشرفا لك أن تبقى في السجن.
عن أن تكتب التماسا بالعفو.
من الخديوي ولي النعم.
ورقة لم تقدم في مؤتمر المرأة والإبداع
أكتوبر 2002
ربما لا ترى هذه الورقة النور.
لأن الموضوع يتجاوز الخطوط الحمراء.
وقد لجأت إلى الرمز والخيال.
من أجل خداع السلطات.
ولأن المنية عاجلتي.
فلم أحضر المؤتمر.
وهل يمكن أن تتحرر النساء.
وهم جالسون ينتظرون.
مقرفصين كالدجاج.
والأبواب كلها مغلقة.
والشرطة في كل مكان.
ولأنهم عاجزون عن الاحتجاج.
وهي تأتي دائما متأخرة.
وتجلس على العرش مزينة.
كأنما هي مخلدة.
ترمقهم من فوق المنصة العالية.
بعين ناعسة.
ترى مسوحهم الزاهية.
ووجوههم الممسوحة.
جهزوا لها كلمة بليغة.
عن الإنجازات العظيمة.
يتنافسون أمامها على إلقاء الخطب.
عن تحرير النساء.
وترتسم علامات الدهشة على وجوه الناس.
وتخلو الطرق من البشر.
ويعود الجميع إلى بيوتهم.
وقد أصابهم الاكتئاب.
لأن المؤتمر انتهى.
دون أن يحدث شيء.
ودون أن تتحرر النساء. (1) اكتبي يا ابنتي حتى لا تموتي
كانت الكتابة محرمة.
على العبيد والنساء.
لأن الموت مكتوب عليهم.
ولأن الخلود.
فقط للآلهة.
الذكور.
وفي طفولتي كنت أخاف.
ومن شدة الخوف أصبحت أطيع.
أوامر الله والملك والوطن وأبي وأمي.
كانت أمي تأتي دائما في النهاية.
مع أنني لا أرى سواها.
وكانت هي أول وجه رأيته وأول صوت سمعته.
كانت هي البداية ومع ذلك دفعوها إلى الخلف.
كانت تكتب في السر وتخفي كلماتها تحت الأرض.
كانت مثلي تخاف حتى ماتت.
لكنها قالت لي قبل أن تلفظ نفسها الأخير.
لا تكوني يا ابنتي مثلي.
واكتبي ... اكتبي حتى لا تموتي.
في خريف عام 1981 حين كان التشاؤم يسود المسجونات معي في الزنزانة، ويحوم شبح الموت حول رءوسنا، إذ بالقصيدة تهب منتصبة داخلي كالمارد، تقاوم اليأس تتحدى الموت، وأسمع صوتي الغاضب يقول: لن نموت، وإن متنا فلن نموت ساكتات، لن نمضي في الظلمة دون ضجة، لا بد أن نغضب ونغضب، نضرب الأرض ونرج السماء، لن نموت دون أن نكسر قضبان الحديد، وإن متنا لن نموت صامتات.
مذكراتي في سجن النساء 1981 •••
وفي مفكرتي السرية عام 1947، وأنا تلميذة في المدرسة الداخلية في حلوان الثانوية، ظلت هذه القصيدة مكتوبة بالحبر الأسود، محفورة في ذاكرتي وفوق الورق:
قبل أن أغيب في النوم كل ليلة، أقول لنفسي:
سيأتي الصبح حتما ولن أموت، وإن مت.
فلن يؤلمني شيء بعد الموت.
لا السقوط في الامتحان، ولا الضرب.
على أطراف الأصابع بالمسطرة.
ولا زمهرير البرد ولا لهيب الشمس ونار الجحيم.
لم أجد إلا صديقتي في العنبر لأسألها: هل نموت؟
إن متنا هل يؤلمنا أن نموت؟ أين نحن؟
الآن في عنبر الموتى، في اللامكان واللازمان.
ولا وجود للحب إلا بعد أن نحترق في الحريق.
ونصير كالرماد، كرمال الصحراء في حلوان.
كأننا يا صديقتي متنا قبل الأوان.
رأيت المشهد في الحلم، وعرفت أننا نمضي.
إلى حيث لا ندري، فهل أكون في الغد ما أريد أن أكون؟
شاعرة أو ناثرة أو حتى آثمة؟
هل أرى اسمي فوق كتاب ممنوع؟ وأشق السماء.
بقلمي، وأجعل المطر رهن مشيئتي؟
والنهار والشعر والنثر.
ينثال من خطيئتي، فليحرقني الله في نار جهنم.
ولتشرب الأرض دمائي لكني أبدا لن أموت.
حلوان الثانوية 1947
هذا المقال لم ير النور
(1) لأن النور مملوك
لأن النور مملوك لخدام الملوك ...
أدهشني مقال إبراهيم نافع في جريدة الأهرام 11 أغسطس 2000، الصفحة الأولى تحت عنوان: كشف حساب العلاقات المصرية الأمريكية، يرد فيه على سؤال الصحفي الأمريكي الذي تساءل في جريدة أمريكية عما حصلت عليه أمريكا مقابل ما دفعته لمصر منذ عام 1978 من معونة تبلغ 30 مليار دولار.
ما أدهشني أن مقال «إبراهيم نافع» يكشف عن حجم الخسارة الاقتصادية التي تكبدتها مصر بسبب المعونة الأمريكية، وكان ذلك معروفا خلال ربع القرن الماضي، ليس لعلماء الاقتصاد فحسب ، وإنما لرجل الشارع وامرأة الشارع التي تخرج لتشتري الطعام من السوق، فإذا بها تصرخ في البائع؛ لأنها لم تعد قادرة على شراء السلع الأمريكية التي ملأ بها رفوف دكانه على حين اختفت السلع المصرية.
منذ منتصف السبعينات وبعد ما سمي بالانفتاح الاقتصادي في عهد السادات أصبحت ضرورات الحياة عسيرة وشاقة ليس فقط على الملايين الكادحين، بل على الطبقات الأخرى الأكثر راحة، بدأ الفقراء يزدادون فقرا وظهرت القطط السمان وظاهرة أصحاب الملايين، ثم ظاهرة أصحاب البلايين إلى الحال التي وصلنا إليها الآن.
لقد كشف إبراهيم نافع أخيرا ومتأخرا ربع قرن عن حجم الخسارة المالية والاقتصادية لمصر منذ عام 1975، ومنذ العلاقات المصرية الأمريكية، وقبول الشروط الأمريكية المجحفة المدمرة للاقتصاد المصري والإنتاج المحلي مقابل تلك المعونة، التي كانت مجرد الطعم في شبكة الصياد، والتي بلغت 30 مليار دولار (حسب قول الصحفي الأمريكي)، وانخفضت إلى 23 مليار دولار فقط في قول إبراهيم نافع، خلال ربع القرن الماضي؛ أي بفارق 7 مليارات دولار لم نفهم هذا الخلل الكبير في الحسابات.
المهم الآن أن خسارة مصر الاقتصادية من جراء المعونة والعلاقات الأمريكية أصبحت منشورة في الأهرام بقلم رئيس التحرير، وكان محظورا نشر هذه الحقائق (إلا في بعض صحف المعارضة الصغيرة المحدودة الانتشار)، وأذكر أنني نشرت مقالا في أغسطس عام 1981 يشبه المقال الذي نشره إبراهيم نافع في أغسطس 2000 من حيث نقد العلاقات المصرية الأمريكية وما تسببه من خسائر ليست مالية واقتصادية فحسب، إنما خسائر سياسية وثقافية وأدبية، وهي في رأيي غير منفصلة عن الخسائر المالية بل ربما أخطر.
إن الخسائر الاقتصادية لا شك خطيرة، وهي معروفة ومنشورة في الصحف الأوروبية قبل الصحف المصرية المعارضة، ذلك أن اليسار الأوروبي والقوى الاشتراكية في العالم كانت أكثر دراية بالاستعمار الأمريكي الجديد في الشرق الأوسط، «والقارة الأفريقية» والذي حل محل الاستعمار البريطاني والفرنسي في عالمنا العربي والأفريقي.
لم تكن هذه الخسائر الاقتصادية المصرية مجهولة، وقد كانت متاحة للنخبة المثقفة المصرية التي تقرأ الصحف الأجنبية، إلا أن هذه النخبة كانت عاجزة عن الكتابة في هذه الموضوعات المحظورة تحت اسم حماية الأمن القومي أو المصالح العليا لمصر وعلاقتها بالدول الصديقة، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية.
إلا القلة القليلة التي كتبت ودخلت السجون أو شردت أو تم تجاهلها وتهميشها حتى هاجرت أو عاشت المنفى خلال ربع القرن الماضي، وطفا على سطح الحياة في بلادنا هؤلاء الذين يؤيدون السياسة الاقتصادية منذ الانفتاح في منتصف السبعينيات وحتى اليوم، والتي أدت إلى هذا الفقر الخطير الذي يتحدث عنه الجميع اليوم على رأسهم هؤلاء الذين أيدوا السياسات التي أدت إليه.
ورب ضارة نافعة، ومن تأزم العلاقات المصرية الأمريكية الأخيرة (بسبب كامب ديفيد الثانية والتي هي النتيجة المنطقية لكامب ديفيد الأولى) أصبح في مقدور الشعب المصري أن يقرأ في جريدة الأهرام اليوم أن المعونة الأمريكية لمصر خدعة كبيرة، أو أنها كانت لصالح أمريكا على حساب الصالح المصري، يكفي أن نعلم أن العجز التجاري المصري (لصالح أمريكا) بلغ 75٪ من قيمة التجارة بين البلدين، هذا الاحتلال الخطير الاقتصادي منذ عام 1974، والذي يقول إبراهيم نافع أنه مسئولية أمريكا، وكأنما السياسة المصرية غير مسئولة أيضا عن هذا الخلل الذي فتح الأسواق المصرية أمام السلع الأمريكية، وحققت أمريكا من ذلك أرباحا وفائضا تجاريا بلغ أكثر من 44 مليار دولار (أي ضعف المعونة الأمريكية لمصر خلال هذه الأعوام نفسها).
هذا من الناحية الاقتصادية فقط، ولم يتعرض إبراهيم نافع للخسائر المصرية في المجالات الأخرى، إذ أن الاقتصاد غير منفصل عن السياسة وعن الأمن القومي وعن الإعلام والثقافة وغيرها من مجالات الحياة.
والسؤال الوارد الآن: ألم يصحب الخلل الاقتصادي خللا في المجالات الأخرى الهامة على رأسها الأمن القومي في مواجهة إسرائيل؟
ألم تصاحب الشروط التجارية المجحفة لمصر اقتصاديا شروط أخرى سياسية أدت إلى الخلل الحادث اليوم بين مصر وإسرائيل بالنسبة لواقع التسلح الاستراتيجي في الشرق الأوسط؟
أصبحت جريدة الأهرام تكشف عن هذا الخلل أخيرا «لكن في انفصال عن الخلل الاقتصادي.»
في الأهرام 12 أغسطس يظهر أخيرا مقال تحت عنوان: تقارير المخابرات الأمريكية وواقع التسلح الاستراتيجي في الشرق الأوسط، بقلم محمد عبد السلام ، يكشف فيه عن الخلل الذي حدث بين إسرائيل ومصر عسكريا، وفي الوقت الذي وقعت فيه مصر على عدد من الاتفاقيات أو معاهدات حظر أو منع انتشار الأسلحة النووية (في 26 فبراير 1981) ومعاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية (في 14 أكتوبر 1996) وسبق ذلك الموافقة على حظر تطوير الأسلحة البيولوجية أو إنتاجها (في 10 أبريل 1972).
صدقت مصر على كل هذه المعاهدات تحت ضغط أمريكا التي لم تضغط على إسرائيل، وبالتالي لم توقع إسرائيل على هذه المعاهدات مما أدى إلى خلل وعدم توازن بين قوة إسرائيل النووية وقوة مصر النووية؛ بل لأن مصر دولة محورية في العالم العربي والأفريقي، فقد أثرت مصر على هذا العالم الذي وقع مثل مصر على هذه المعاهدات المجحفة، وتزايدت ترسانة إسرائيل النووية خلال الأعوام الأخيرة، بل أصبحت تملك طرازا جديدا من صواريخ جيركو تم تطويرها وتحميلها برءوس نووية أكبر، بل إضافة على البرنامج الإسرائيلي العلني «أرو» بالمشاركة الأمريكية والذي أصبح في السنين الأخيرة أخطبوط متعدد الأذرع (حسب المقال في الأهرام).
أما الخلل الإعلامي والثقافي فهو معروف وأكثر ظهورا من الخلل الاقتصادي أو العسكري أو غيرها من المجالات الحساسة المحظور نشرها في معظم الأحيان.
وهل نتكلم عن سلبيات الاتفاقات الثقافية المجحفة في الجات وغيرها، والتي أدت مثلا إلى انتشار الأفلام الأمريكية على حساب الأفلام المصرية؟
هل نقول إن التبعية الإعلامية والثقافية لا تنفصل عن التبعية الاقتصادية وغيرها من المجالات الحيوية في البلاد، ألم تجف حلوقنا منذ ربع قرن ونحن نقول ذلك، حتى في المقالات عن قضية المرأة، ألم نربط الفقر المتزايد والقيود المتزايدة على النساء تحت اسم الدين والأخلاق؟ ألم يكن الإرهاب الديني وقهر النساء جزءا لا ينفصل عن الإرهاب الاقتصادي والإعلامي، وما أكثر من يتكلمون اليوم عن ظاهرة تأنيث الفقر كأنما هي ظاهرة منفصلة في التاريخ وهابطة فجأة من السماء؛ وليست نتيجة منطقية لما سمي الانفتاح الاقتصادي والذي أصبح يسمى اليوم الإصلاح الاقتصادي.
إن هذا الفصل بين المجالات هو الذي يؤدي إلى التجهيل بما يحدث لنا، ويعيش الشعب المصري نهبا لموارده المادية والمعنوية في آن واحد، بالإضافة إلى إخفاء الحقائق وعدم إظهارها في وقتها بل بعد فوات الأوان.
والسؤال: من المسئولون عن ذلك؟ في الماضي والحاضر، ذلك أن الماضي لا ينفصل عن الحاضر ولا ينفصل عن المستقبل.
12 أغسطس 2000
فتاة الليل والكاتبة
وهذه ورقة أيضا لم تقدم في مؤتمر المرأة والإبداع، الذي عقد بالقاهرة خلال أكتوبر 2002؛ لأنه:
صباح اليوم الأول للمؤتمر تم العثور على جثة الكاتبة الفاضلة «أ. د. المصري»، فوق دكة خشبية بحديقة كازينو النيل، وتم العثور بجوار الجثة على أوراق بخط يدها، وقلمها الذهبي المعروف، مما يدل على أن الموت فاجأها بينما كانت تكتب الورقة المزمع تقديمها في المؤتمر، وأمرت النيابة بالإفراج عن فتاة الليل التي رآها بعض شهود العيان جالسة إلى جوار الفقيدة الفاضلة فوق الدكة الخشبية. (1) فتاة الليل والكاتبة الكبيرة
كانت الكاتبة الفاضلة «أ. د. المصري» تقضي الساعات جالسة فوق هذه الدكة، تحاول أن تقتل الوقت بالكتابة، تحملق في الأوراق طويلا، ثم ترفع رأسها وتحملق في الظلمة، وفي تلك الليلة من شهر أكتوبر كان الهواء البارد قادما من الشمال، ينذر برياح متربصة على الأبواب، وحرب موشكة على الهبوب.
الجو كان ملبدا بسحابة سوداء تزيد من الظلمة، وانقباض القلب، والتوجس من حدوث جريمة أو أي شيء آخر يزيد الرعب، وقعقعة الهواء تمتزج بقعقعة الميكروفونات المثبتة فوق الجوامع والمآذن، تنطلق منها الأصوات كالمفرقعات أو الرصاصات من فوهات المدافع.
كانت الكاتبة الفاضلة جالسة في يدها القلم، يلمع غطاؤه الذهبي في الظلمة، تحوطها هالة من الرهبة مثل كبار الأدباء، لا يظهر منها إلا الرأس الملفوف بحجاب، أبيض مثل هرم من الثلج، مطرقة قليلا فوق أوراقها تكتب.
من قلب الظلمة تظهر فتاة صغيرة، تسير ببطء شديد وإعياء واضح، نحيفة الجسم ترتدي ثوبا أسود ضيقا مكشوف العنق حتى الشق العميق بين النهدين، تتوقف أحيانا لتلتقط أنفاسها، وتستدير برأسها الصغير يحوطه شعر كثيف أسود، منكوش قليلا، تتطلع إلى السماء تخاطب الرب بصوت غير مسموع يشبه التمتمة المكتومة.
تراقبها الكاتبة الفاضلة لحظة ثم تنكفئ فوق الورقة تكتب ، وتمر الفتاة دون أن تلاحظها، ثم تنتبه إلى وجودها، فتعود إليها وتجلس على طرف الدكة بحيث تترك مسافة كبيرة بينها، ترفع الكاتبة «أ. د. المصري» عينيها نحوها بشيء من الفضول دون أن تقول شيئا، الفتاة ترمقها بنوع من الاستطلاع الطفولي، تتأمل من بعيد حروفها فوق الورقة، تبتسم قليلا ثم تقول ...
الفتاة :
يبدو أنك منشغلة بالكتابة يا سيدتي.
الكاتبة (بصوت خشن) :
آسفة، أنا مشغولة جدا ولا أخاطب بنات الليل.
الفتاة (في حرج) :
عندك حق يا سيدتي أعتذر لك. (تهم الفتاة بالنهوض لتغادر المكان، لكن الكاتبة الفاضلة تشعر بتأنيب الضمير أو شيء من الشفقة.)
الكاتبة :
يمكنك الجلوس إن شئت.
الفتاة :
سأستريح قليلا ثم أواصل المشي.
الكاتبة :
أنا لا أملك هذه الدكة ويمكنك الجلوس كما تشائين. (تعود الفتاة إلى الجلوس وهي تمسح حبات العرق عن وجهها بمنديل صغير أبيض، ترمقها الكاتبة الفاضلة بطرف عين، تتطلع الفتاة إلى السماء السوداء وتهمس مخاطبة الرب.)
الفتاة :
أنت شاهد على أنني لم أكن من بنات الليل.
الكاتبة :
كنت إذن فتاة شريفة؟
الفتاة (تبتسم) :
أشكرك على هذه الكلمة الرقيقة، وإن كانت عن الماضي وليس الحاضر، في حياتي كلها لم أسمع هذه الكلمة «شريفة»، يا لها من كلمة جميلة! (الكاتبة تنصرف عنها إلى كتابة الورقة، ترمقها الفتاة طويلا وهي تكتب، يبدو أن الكاتبة متعثرة قليلا والقلم الذهبي لا يتحرك في يدها، وإن كان يلمع في الظلمة.)
الفتاة :
هل تسمحي لي أن أسألك سؤالا صغيرا يا سيدتي؟
الكاتبة :
ما هو هذا السؤال؟ (دون أن ترفع رأسها عن الورقة) .
الفتاة :
هل أنت كاتبة يا سيدتي؟ (الكاتبة ترفع وجهها ناحيتها وترد بصوت ينم عن الضيق قليلا.)
الكاتبة :
بالطبع! ألا تعرفين ذلك؟ ألم ترين صورتي في الصحف وفوق شاشة التليفزيون؟
الفتاة :
أعتذر لك يا سيدتي، ليس عندي تليفزيون ولا أستطيع شراء الصحف.
الكاتبة :
آه، هذا مفهوم بالنسبة لك.
الفتاة :
لكني أحرم نفسي من الطعام أحيانا لأشتري كتابا.
الكاتبة :
لا بد أنك قرأت كتابا من كتبي.
الفتاة :
هل لك كتب يا سيدتي؟
الكاتبة (بحماس ) :
عندي الكثير من الكتب، وحصلت على جائزة الدولة ولقب كاتبة كبيرة.
الفتاة :
أعتذر لك عن جهلي يا سيدتي، لكن ...
الكاتبة :
لكن ماذا؟
الفتاة :
لا بد أن عندك مكتبا كبيرا وبيتا جميلا فيه مكتب أيضا.
الكاتبة :
بالطبع. (تصمت الفتاة مترددة ثم تقول بشيء من الحرج ...)
الفتاة :
أعتذر عن تطفلي يا سيدتي، كيف لكاتبة كبيرة مثلك أن تجلس في الليل فوق هذه الدكة وتكتب؟ (تطرق الكاتبة وتعود إلى الورقة في صمت، الفتاة أيضا تصمت، وتشرد عيناها بعيدا وهي تهمس لنفسها ...)
الفتاة :
في الماضي البعيد وأنا طفلة كان لي مكتب صغير في غرفة نومي، وكانت لي مفكرة أكتب فيها.
الكاتبة (دون أن ترفع رأسها عن الورقة) :
كنت تكتبين؟!
الفتاة (شاردة دون أن تنظر إليها) :
في الماضي البعيد حين كنت فتاة شريفة.
الكاتبة :
آه، هذا مفهوم. (تحرك الفتاة رأسها نحو الكاتبة وتتسع عيناها السوداوان ويملؤهما بريق خاطف مع السؤال ...)
الفتاة :
ما هو المفهوم يا سيدتي؟
الكاتبة الفاضلة :
علاقة الكتابة بالشرف أتفهمين؟!
الفتاة :
أبذل كل جهدي لأفهم، وإن كنت لا أفهم، فأنا مرهقة من طول المشي، لا أستطيع أن أقول لك متى يبدأ المشي ومتى ينتهي، يبدو أنه بلا نهاية، خالد إلى الأبد مثل الرب.
الكاتبة (في ضيق) :
أستغفر الله العظيم، ألست مؤمنة وموحدة؟!
الفتاة :
معذرة يا سيدتي إن جرحت إحساسك، وقد تقولين عني غير مؤمنة كما قلت عني غير شريفة، ولكن ... آه من هذه الكلمات الجارحة، إنها مؤلمة للجسم أكثر من الصفعات باليد أو القدم، آه من هذه الكلمات يا سيدتي، إنها كارثة ...
الكاتبة :
ما هي الكارثة؟
الفتاة :
نعم يا سيدتي، الكلمات هي اللغة، وهي وسيلة الكتابة الوحيدة، ومع ذلك لا تسمح بها ... نعم لا تسمح بها ... (تصمت الفتاة وهي شاردة، الكاتبة الكبيرة ترمقها باهتمام بعد أن كانت غير مبالية بها.)
الفتاة :
هل أضيع وقتك الثمين يا سيدتي بهذا الكلام الفارغ؟
الكاتبة :
لا ... استمري ... أنا أستمع إليك.
الفتاة :
أشكرك على حسن استماعك، كل ما أريد أن أقول: إن الكتابة ... آه، هذه الكتابة أمرها عجيب ، أرجوك صدقيني، إنها ليست شيئا واضحا يمكن كتابته على الورق، كانت هي هكذا دائما منذ طفولتي، ولم يكن هناك شيء يؤنسني في وحدتي إلا هي، أنا أحبها يا سيدتي لأنها تواسيني بطريقتها الخاصة، وأنا بحاجة إليها وأنا في الليل وحدي، والريح تعوي كالذئاب، وهذه الأصوات المفرقعات من فوهات الميكروفونات، ولا شيء لا شيء، يبعث على الراحة، وأنا أمشي وأمشي حتى أشعر بالإعياء، فأستريح فوق أي دكة في الطريق، وأقول لنفسي كم أنا فتاة محظوظة، لأنني أستطيع الجلوس في النهاية، وأفتح مفكرتي الصغيرة منذ الطفولة، وأكتشف حروفي المختفية بين السطور، والموسيقى الخافتة للكلمات. (تتوقف الفتاة عن الحديث، يبدو عليها الإعياء الشديد، تمسح حبات العرق عن وجهها بالمنديل الأبيض الصغير، تلتقط أنفاسها.)
الكاتبة (باهتمام) :
لماذا توقفت؟ هذا حديث جميل يا ابنتي.
الفتاة (تبتسم) :
آه، هذه الكلمة «يا ابنتي» تثير حنيني إلى أبي.
الكاتبة :
كنت أتصور أنني بصفتي امرأة تثير حنينك إلى الأم.
الفتاة :
لم يكن لي أم يا سيدتي.
الكاتبة :
آه آسفة لهذا. (تصمت الفتاة لحظة وهي تبتلع دموعها خلسة وتعدل من فتحة ثوبها لتخفي الشق بين نهديها، ثم تقول ...)
الفتاة :
وأنت يا سيدتي، هل كان لك أم؟
الكاتبة (في أسى) :
نعم كان لي أم.
الفتاة :
وأب.
الكاتبة :
نعم بكل أسف.
الفتاة :
وهل أنت متزوجة؟
الكاتبة :
نعم بكل أسف.
الفتاة :
أعتذر لك إن كانت أسئلتي تؤلمك.
الكاتبة :
لا بالعكس، أشعر بشيء من الراحة في الحديث معك.
الفتاة :
وهل بيتك بعيد؟
الكاتبة :
لا، بيتي قريب، إنه هنالك في الناحية الأخرى من هذه الحديقة، وأنا أجلس هنا أطل عليه، انظري، إنه هناك، ذلك البيت الأبيض الكبير، إنه بيتي وأنا أنتظر ظهور الفجر لأعود إليه وأنام.
الفتاة (تتطلع نحو البيت في صمت طويل وشرود ثم تقول) :
آه، كم هو صعب الانتظار، حتى طلوع الفجر، أصعب شيء في حياتي هو الانتظار، رغم التعب أنا أفضل المشي على الانتظار؛ ولهذا أنا أكتب يا سيدتي، فالوقت يمضي بسرعة ونحن نكتب.
الكاتبة :
هذا صحيح تماما، لكن كيف أدركت كل هذا وأنت في مقتبل العمر؟!
الفتاة :
كنت مجبرة على ذلك، وقد بلغت العشرين من عمري منذ ثلاثة أيام، وأشعر كأنني في الستين أو السبعين، وكلما أمشي أحس كأن قدمي مقيدتان بسلسلة من الحديد.
الكاتبة :
وأبوك أين هو؟
الفتاة :
أبي تزوج امرأة شريفة تملك بيتا، وهو بيت ضيق تجبره زوجته فيه على أن ينام على كليم فوق الأرض وهي تنام على السرير.
الكاتبة :
ألا يمكنك النوم في بيت أبيك بدلا من هذه الدكة؟!
الفتاة :
لا يا سيدتي، أنا غير مسموح لي بزيارة أبي.
الكاتبة :
أليس لك أقارب أو قريبات، عمتك مثلا أو خالتك؟ ألا ترين أنك لا تستطيعين الاستمرار هكذا؟
الفتاة :
لم لا يا سيدتي؟ ألست مثلي تقضين الليل فوق هذه الدكة؟
الكاتبة :
نعم، ولكني عند الفجر أعود إلى بيتي، وأتناول طعام العشاء، ثم أدخل إلى الفراش بلا صوت حتى لا أوقظ زوجي.
الفتاة :
أنت إنسانة حساسة، لكن ماذا يفعل زوجك في الليل، أهو يكتب مثلك؟ (الكاتبة الكبيرة تصمت شاردة بعينيها في الظلمة، تمسح حبات العرق عن وجهها بطرف حجابها الأبيض.)
الكاتبة :
لو كان يكتب ربما هان الأمر.
الفتاة :
أرجو المعذرة، لا تتكلمي إن كان ذلك يؤلمك.
الكاتبة :
بالعكس، ربما أشعر بشيء من الراحة لو حدثتك عن أشياء أخفيها عن نفسي.
الفتاة :
هذا يذكرني بطفولتي حين كنت أعترف لمفكرتي بأشياء لا أعترف بها لنفسي، وكنت أسمع من الناس أن أبي رجل غير شريف، وأود أن أقتله لأمسح العار بالدم، لولا أنه كان يضحي بشرفه من أجل إطعامي.
الكاتبة :
كلنا بشكل أو بآخر نتحمل الإهانة من أجل هدف نبيل.
الفتاة :
وماذا كان هدف حياتك؟ الكتابة؟!
الكاتبة :
آه، الكتابة، نعم يا ابنتي، لكن ما جدوى الكتابة إذا بقيت في الدرج دون أن ترى النور؟ وهذا أمر بالغ الصعوبة، أتفهمين ما أقول؟
الفتاة :
نعم أفهم يا سيدتي، وعندي قصة قصيرة لم يمكن لها أن ترى النور إلا بعد أن قدمت نفسي لأحد الرجال، كانت الأبواب مغلقة في وجهي وليس أمامي طريق آخر، أتقولين عني غير شريفة؟ (تصمت الكاتبة طويلا وهي تمسح وجهها بطرف طرحتها البيضاء ثم تقول متلعثمة ...)
الكاتبة :
لا ... لا أقول عنك هذه الكلمة القاسية؛ لأن هدفك كان نبيلا، وهو أن ترى كلماتك النور، هذا هو حال الدنيا يا ابنتي.
الفتاة :
أتقولين إن الدنيا نفسها غير شريفة؟
الكاتبة :
نعم لا، لا أعرف الحقيقة تماما؛ لأن الله وحده هو الذي يعلم ... (يبدو الإعياء الشديد على الكاتبة الكبيرة، يسقط القلم من يدها والورقة على الأرض، تنظر في ساعة يدها بعينين غائمتين، أطراف أصابعها ترتعش، لا تكاد ترى أرقام الساعة.)
الكاتبة (في إعياء شديد) :
لم أعد أرى الأرقام كما كنت، انظري يا ابنتي كم تكون الساعة؟ لكن الظلمة لا تزال شديدة والفجر لم يطلع بعد لأعود إلى البيت. (الفتاة تساعد الكاتبة في تجميع الورق الساقط على الأرض، وأنفاس الكاتبة اللاهثة تنم عن الإعياء القريب من الإغماء، تساعدها الفتاة على تمديد ساقيها المتورمتين فوق الدكة، تستعيد الكاتبة أنفاسها مستريحة قليلا، ترمق الفتاة البيت الأبيض في الناحية الأخرى من الحديقة وتسأل في حرج ...)
الفتاة :
بيتك قريب، هل آخذك إلى بيتك لتستريحي يا سيدتي؟
الكاتبة :
لا، لا أريد العودة حتى يطلع الفجر.
الفتاة (في حيرة) :
ألا يمكنك العودة قبل ذلك؟
الكاتبة :
يمكنني العودة في أي وقت، لكني أفضل البقاء هنا حتى يخلو البيت وينام زوجي، أتفهمين؟
الفتاة :
أبذل كل جهدي لأفهم يا سيدتي، وهذا يذكرني بطفولتي حين كنت أفضل عدم العودة إلى البيت حتى يخلو تماما ويغيب أبي في النوم، ولا بد أنك عرفت الحزن مثلي يا سيدتي.
الكاتبة :
الحزن؟ نعم، ربما هناك علاقة بين الحزن والكتابة، لكني قاومت الحزن حتى نجحت.
الفتاة :
أنت سعيدة إذن يا سيدتي. (الكاتبة وهي تغمض عينيها كأنما تروح في الغيبوبة أو في النوم، وصوتها يهمس ...)
الكاتبة :
الحمد لله على كل شيء، وسوف يعوضني في الآخرة عن ألم الدنيا، وأنا لم أضمر الشر لأحد حتى لهذه الفتاة اللعوب التي أكلت عقل زوجي بعد أن تجاوز السبعين، وكتب البيت باسمها الذي دفعت فيه مدخرات عمري ، إنها في العشرين من عمرها مثلك، وكانت من بنات الليل، واليوم أصبحت تحمل لقب السيدة الفاضلة حرم الوزير.
الفتاة :
هل أستدعي لك طبيبا يا سيدتي؟!
الكاتبة (في ذعر) :
لا لا لا أريد أن يراني أحد هنا. (2) النهاية
صباح اليوم التالي أذاعت الأنباء خبر وفاة الكاتبة الكبيرة «أ. د. المصري» حرم السيد الوزير لشئون النشر والطبع، وأقيم المأتم الكبير في المسجد الشهير في ميدان التحرير، حضره جميع الوزراء والسفراء وكبار رجال الدولة، الذين جلسوا في الصوان الفخم، بالنظارات السوداء فوق العيون، الربطات السود حول الأعناق، والحديث الخافت يجري بينهم حول آخر الأنباء، الحرب القادمة، أسعار البورصة والكتب المطبوعة في الأسواق.
على الدكة الخشبية في الليل كانت فتاة الليل، وكانت هي الوحيدة التي تبكي، لكن ...
القاهرة، أكتوبر 2000
نحو تحرير العقل المصري
(1) الفكر النظري المنفصل عن الواقع
خلال السنوات الخمس التي كنت فيها أستاذة زائرة في جامعة ديوك بمدينة ديرهام في ولاية نورث كارولاينا، التقيت مع بعض المفكرين الأمريكيين الماركسيين، وكان أحدهم وهو فريدريك جيمسون زميلا في ديوك - وهو لا يزال أستاذا في ديوك - وله عدد من المؤلفات في الثقافة ينتقد فيها العولمة والرأسمالية الأمريكية الأخيرة أو المتأخرة.
كان فريد (وهو اختصار اسم فريدريك جيمسون) يستمد سلطته الفكرية على الأساتذة الآخرين في الجامعة من سلطته الإدارية، فهو رئيس القسم الأدبي والفني، وهو صاحب القرار بشأن تجديد عقود العمل للأساتذة الآخرين، وكان الأساتذة من العالم الثالث يتحاشون نقد أفكاره خوفا من عدم تجديد العقد.
لا شك أن بعض أفكار فريد جيمسون متقدمة وناقدة بشدة لعيوب الرأسمالية الأمريكية والعولمة، إلا أن أفكاره تظل قاصرة عن فهم المشاكل الحقيقية التي تواجهها البلاد فيما يسمى العالم الثالث، إن التسمية نفسها «عالم ثالث» تؤكد النظرة الاستعلائية الأمريكية للبلاد الأخرى في أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية وبلادنا العربية، وكان فريد جيمسون يعتبر عقله وفلسفته هي الحقيقة غير الأوروبيين أو اليابان وغيرهم مما يسمى العالم الأولى، وهذه نظرة رأسمالية تعتبر المفكرين في العالم الثالث أدنى من زملائهم في العالم الأول.
إلى جانب ذلك فإن أفكار فريد جيمسون نفسها كانت مليئة بالثغرات غارقة في التجريدات والنظريات المنفصلة عن الواقع، فهو يعيش في أمريكا، ولا يكاد يعرف شيئا عن الواقع في بلادنا، رغم ذلك هو يتحدث معنا كأنما هو يعرف عنا أكثر مما نعرف عن أنفسنا وواقعنا الذي نعيشه.
وهو أيضا ورغم نقده للعولمة إلا أنه يرى أنها حتمية مثل القضاء والقدر، وأنه لا يمكن مقاومتها، وبالتالي يسود جو من العجز واليأس ثم الاستسلام لهذا الإخطبوط الذي اسمه العولمة، (بالطبع يتم تجاهل المقاومة الشعبية وغيرها من أنواع المقاومة الأخرى).
وقد انتقل هذا الفكر اليائس العاجز إلى النخبة المثقفة في بلاد العالم الثالث؛ الذين يقرءون لفريد جيمسون وغيره من المفكرين الأمريكيين والأوروبيين الماركسيين أو الناقدين للرأسمالية والعولمة.
بالإضافة إلى انتقال هذا العجز واليأس انتقلت إلينا أيضا الثغرات في هذا الفكر، أهمها الفصل بين الاقتصاد والثقافة، والتركيز على الثقافة فقط، أو الهوية أو الخصوصية الثقافية أو الشخصية الأصلية، والأصالة مما يقودنا بالضرورة إلى الأصولية الثقافية ثم الأصولية الدينية، هكذا أصبحت الدعوة إلى الأديان والتقاليد والعادات القديمة لكل شعب هي الوجه الآخر لفلسفة فريد جيمسون وغيره من المفكرين الأمريكيين، الذي ينظر إليهم المفكرون الماركسيون في العالم الثالث وكأنهم جابوا الديب من ديله، أو كأنهم يدافعون عن هويتنا وخصوصيتنا الثقافية، وعاداتنا وتقاليدنا والقيم التي درجنا عليها ولم تلوثها الثقافات الأخرى، خاصة الثقافة الغربية الإباحية التي لا تراعي الأخلاق.
من هنا نرى بعض المفكرين المتقدمين في بلادنا الذين يعارضون الأمركة والرأسمالية والعولمة، إلا أنهم يتمسكون بالتقاليد القديمة، ومنها بل وعلى رأسها حجاب المرأة وختانها وعودتها إلى البيت والأمومة.
وقد تبع هذا الفكر بعض المفكرات النسويات في الغرب واللائي نادين بتحرير النساء في بلادهن، إلا أنهن تحت اسم احترام الهوية والأصالة والخصوصية الثقافية لكل بلد فقد أيدن ختان النساء وحجابهن في بلادنا، وقد كان يؤيد هؤلاء المستشرقات عدد غير قليل من المفكرين الرجال والنساء في بلادنا. (2) الهوية المصرية الأصلية
باسم الهوية المصرية الأصلية ارتد كثير من المفكرين المتقدمين في بلادنا إلى الماضي والتراث القديم كمحاولة لمقاومة ما سمي الغزو الثقافي الغربي، ولم يميزوا بين القديم الإيجابي وبين القديم السلبي، والذي يسلب نصف المجتمع حقوقهن الإنسانية الأساسية، وغيرهن من الشرائح الضعيفة سياسيا واقتصاديا في المجتمع.
كانت هذه الردة محاولة لحماية الهوية أو الثقافة القديمة من التفكك تحت زحف الثقافة الأمريكية الإمبريالية، وقيمها الاستهلاكية وأفلامها الرخيصة القائمة على الجنس والجريمة، وهذا أمر طيب وضروري، ولكن المشكلة أن العودة إلى القديم لم تشمل إلا سلبيات القديم أو سلبيات التراث، وليس الإيجابيات القائمة على العدالة والمساواة بين الناس بصرف النظر عن دينهم أو جنسهم أو طبقتهم أو عقيدتهم إلخ ... بل قامت الردة على التفرقة بين الناس على هذه الأسس، وشهدنا الانتكاسة في حقوق النساء والطبقات الأدنى في المجتمع، وازدادت الهوة بين الأثرياء والفقراء بمثل ما ازدادت بين الجنسين.
وقع المفكرون في بلادنا المعجبين بأفكار فريد جيمسون وأمثاله في تناقض جديد تحت اسم الهوية المصرية والحفاظ على الخصوصية الثقافية، وذلك لأنهم نقلوا الفكرة النظرية المجردة عن الآخرين دون دراسة متعمقة للتراث أو القديم، وكأنما هذا القديم كلية وطنية مقدسة ثابتة وتعامل مع الطبيعة والجسد الإنساني والمجتمع البشري على نحو لا يتغير ولا يتفاعل مع غيره من القيم والثقافات الأخرى، كأنما النظام الثقافي والقيمي كتلة لا تتفكك ولا تتغير، وإن تفككت أو تغيرت فإنه لا يمكن استعادتها بشكل آخر أكثر تقدما أو أكثر عدالة ومساواة بين الناس.
إن العادات والتقاليد والقيم والهوية والثقافة كلها خاضعة للتغير والتطور مع حركة المجتمع إلى الأمام ومزيد من العدالة والحرية، أو إلى الوراء ومزيد من التفرقة بين الناس على أساس الجنس أو الدين أو الطبقة أو العرق إلخ ... إن الحفاظ على القيم القديمة لا يعني الحفاظ على نسيج المجتمع الذي غزله عبر التاريخ كما يقول فريد جيمسون وغيره من المدافعين عن هويتنا؛ لأن هويتنا ليست ثابتة وليست أحادية بل متعددة الأبعاد، وثقافتنا المصرية ليست أحادية وليست نقية غير مخصبة بثقافات أخرى عربية وأفريقية وآسيوية وأوروبية وغيرها، وكأنما الحفاظ على نسيج الأمة المصرية يعني العودة إلى جزء فقط من التاريخ هو التاريخ العبودي أو التاريخ الطبقي الأبوي، الذي قسم الناس إلى الأسياد الملاك والعمال الأجراء وإلى نساء ورجال، أو إلى التاريخ الديني الذي فرق بين الناس على أساس الدين. (3) العودة إلى الأصوليات
كان من نتيجة ذلك هذه الردة إلى الأصوليات الدينية والعرقية، وما أدت إليه من حروب دينية وطائفية قتل فيها الملايين من النساء والرجال، خاصة الفقراء من العالم الثالث، فالعودة إلى القديم والتراث والتاريخ تعني عند إسرائيل العودة إلى نصوص التوراة ومنها نص الأرض الموعودة، وإبادة الشعب الفلسطيني تنفيذا لأمر الله، والعودة إلى التراث عند بعض التيارات الإسلامية؛ يعني تحجيب النساء وإطلاق اللحى وارتداء الجلباب والتفرقة بين المسلمين والأقباط وقتل السائحين الأجانب.
وعند التيارات المسيحية الأصولية؛ فإن العودة إلى القديم تعني احتقار الأديان الأخرى وتقتل الأطباء الذين يقومون بعمليات الإجهاض التي تحتاجها النساء، وتحريم تدريس نظرية داروين وغيرها من النظريات العلمية المناقضة لنظرية خلق الكون في الكتاب المقدس و...
أما الإيجابيات المقدسة وتاريخ الثورات الشعبية والنسائية والشبابية في مراحل التاريخ المختلفة فقد تم حذفها، بل إن الإيجابيات في الحضارة المصرية القديمة قبل الغزو الروماني المسيحي فقد تم حذفها واعتبارها حضارة وثنية متخلفة، في حين أنها كانت أكثر عدالة وإنسانية من القيم الجديدة التي فرضها الغزاة.
لا شك أننا في حاجة إلى نقد الفكر الذي نقرؤه للمفكرين في الغرب أو الشرق، وإن كانوا متقدمين أو ماركسيين ينقدون الرأسمالية أو غيرهم، لأننا أدرى بمشاكلنا منهم، ولأنهم لا يعرفون الإيجابيات أو السلبيات في تراثنا، ولأنهم يتأثرون أيضا بالفكر الإسرائيلي الذي يؤثر بشكل مباشر على المثقفين الأمريكيين وعلى الساسة الأمريكيين.
خلال السنوات التي عشتها في أمريكا أدركت مدى تغلغل الفكر الإسرائيلي في الفكر الأمريكي، وحين عدت إلى مصر لاحظت أن المثقفين المصريين ينقلون عن المفكرين الأمريكيين، وبالتالي يزحف الفكر الإسرائيلي إلى المفكرين في مصر والبلاد العربية، لا شك أن معاهدة الصلح المنفردة - كامب ديفيد الأولى - لعبت دورا في زحف الفكر الإسرائيلي إلى المثقفين في بلادنا، مع السلع والبضائع الإسرائيلية الأخرى.
إن اختلاط الثقافات هام وضروري، لكن القدرة على النقد وفرز الأفكار الصالحة لها أيضا ضروري وهام.
من الأفكار التي أصبحت شائعة في بلادنا فكرة الهوية المصرية، من نحن؟ هل نحن عرب أم مصريون؟ هل نحن أفارقة أم مصريون؟ هل ننتمي إلى أرض أفريقيا وشعوبها الهمجية البربرية (في نظر المستعمرين) أم ننتمي إلى حوض البحر المتوسط أو الشرق الأوسط؟ لا شك أن سياسة إسرائيل وأمريكا هي عزل مصر عن قوتها العربية والأفريقية، وبترها عن تاريخها العربي والأفريقي، من أجل المشروع الشرق أوسطي، والذي يقضي تماما على فكرة الوحدة العربية، ألهذا شاعت النغمة التي تتغنى بمصر الفرعونية المصرية الأصلية النقية من الدماء العربية المتخلفة التي وردت إلينا من بدو الصحراء مع الغزو العربي لمصر؟
منذ أيام قليلة قرأت كتابا صادرا عن: معهد شيلواح بقلم الإسرائيليين جانوكوفسكي وجرشوني (والمنشور بالعربية في القاهرة عن دار شرقيات 1999)، يؤكد الكتاب على هوية مصر المصرية الخالصة لا تشوبها عناصر أخرى عربية، ويستشهد على ذلك بأقوال مثقفين مصريين منهم العقاد وأحمد أمين وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ وغيرهم، يصور لنا الكتاب كأنما هؤلاء كلهم ضد عروبة مصر، فهل هذا صحيح؟ أم أنها الرؤية الإسرائيلية لتاريخ مصر وهويتها مما يتفق مع مصالحها الاقتصادية والعسكرية، ورغبتها في عزل مصر، وبالتالي إضعافها وسلب وسائل المقاومة منها؟ ثم يبث فريد جيمسون وغيره من الفلاسفة الأمريكيين اليأس في نفوسنا؛ لأننا عاجزون عن مقاومة الإخطبوط الاقتصادي والعسكري والنووي والعولمة. (4) الصراع الديني المطلوب اليوم
أليست قوة المقاومة نابعة من الوحدة العربية والوحدة الأفريقية في مواجهة قوة إسرائيل؟
أليس هذا هو مأزق ياسر عرفات اليوم بعد أن عاد من كامب ديفيد الثانية خاوي اليدين، وأصبح كالفرخ المذبوح يطير هنا وهناك من أجل المساندة والتأييد له، والجميع يأخذونه بالأحضان دون وعود بشيء، مجرد النصيحة النصيحة بألا يعلن عن قيام الدولة الفلسطينية في 13 سبتمبر إلا بموافقة إسرائيل.
أصبحت البلاد العربية ممزقة منذ كامب ديفيد الأولى، وأصبح الاقتصاد المصري يعاني من الأزمات منذ الانفتاح الساداتي، ومنذ حرب الخليج الأولى ثم الثانية انهارت القوى العربية الاقتصادية والعسكرية، وسادت الفتن الطائفية تحت اسم العودة للتراث والهوية، وارتفعت الأصوات المنادية بعودة النساء إلى البيوت ودور الأمومة، وانتشرت كل الأفكار الرجعية تحت اسم مقاومة الغزو الثقافي، على حين كان الغزو الفكري الإسرائيلي والأمريكي يغزونا في الواقع والحقيقة.
أليس هذا التضليل الثقافي هو سمة العولمة والرأسمالية الأمريكية؟ تحت اسم الهوية المصرية تسلب منا قوتنا العربية، وتحت اسم معاهدة السلام يسلب منا السلام والقوة الضرورية للسلام، وتصبح إسرائيل هي القوة العسكرية النووية الوحيدة في المنطقة، وهي تهدد ياسر عرفات اليوم أن تضربه عسكريا إن أعلن الدولة الفلسطينية في 13 سبتمبر القادم، وقد انكمشت جميع البلاد العربية خوفا وعجزا عن المقاومة، حتى مصر التي أعلن وزير خارجيتها عن ضرورة عقد قمة عربية لمساندة عرفات، سرعان ما راحت الفكرة واندثرت بحكم الواقع العربي الممزق منذ كامب ديفيد الأولى.
الغريب أن المفكرين والكتاب في بلادنا ينظرون إلى ياسر عرفات ينتظرون ما يفعل، كأنما هو وحده المسئول وهم جميعا متفرجون، يتسلون بالفرجة في سهراتهم، بعضهم يقول له: انتحر يا أخي وأعلن الدولة الفلسطينية في 13 سبتمبر ولا يهمك الترسانة النووية الإسرائيلية، وبعضهم يقول له: اعقل يا أخي واذهب إلى كامب ديفيد الثالثة والرابعة ولا يهمك حاجة ما دمت تعيش، ويكفيك كلام الثوريين من منازلهم والذين أيدوا السادات وهرولوا إلى إسرائيل.
المعركة الآن تقلصت وأصبحت حول القدس الشرقية فقط، تم نسيان ما هو أهم عودة ثلاثة ملايين ونصف من اللاجئين الفلسطينيين إلى وطنهم، والمستوطنات التي تبنيها إسرائيل يوما وراء يوم و...
وأصبحت قضية القدس كأنما هي قضية دينية فقط، وليست عودة أرض محتلة إلى أصحابها بصرف النظر عما فيها من آثار دينية إسلامية أو مسيحية أو غيرها، لقد وقع الجميع في هذا الفخ، تحويل الصراع حول الأرض المسلوبة إلى صراع ديني، وهو شكل الصراع الذي تريده إسرائيل وأمريكا؛ لأنه يؤكد على فكرة الهوية الأصلية أو الهوية الدينية، وإعادة الناس إلى الوراء ليعيشوا الوهم بأن القيم القديمة أفضل من القيم الجديدة، وإن كانت أكثر تخلفا وعنصرية وتفرقة بين الناس على أساس الدين والجنس و... و... و...
لقد اشتعل حريق الفتنة الدينية حول إعادة القدس إلى أصحابها الفلسطينيين (وليس المسلمين أو المسيحيين) وقرار الأمم المتحدة 242 ينص على إعادة القدس الشرقية بما فيها من مساجد وكنائس إلى الفلسطينيين؛ لأنها أرض فلسطينية، والأرض لا دين لها، وإذا أصبح للأرض هوية دينية فماذا يحدث في العالم؟ هل تحتل السعودية أرض الهند أو باكستان لأن فوق أرضها مساجد إسلامية؟
وهل يحتل الفاتيكان بعض أرض مصر لأن فوقها كنائس؟ وهكذا نرى الفخ الذي وقع فيه ياسر عرفات والبلاد العربية في دعوتها لعودة القدس، ومن هنا أصبح من حق الفاتيكان أن يكون لهم حق الإشراف على القدس وليس الفلسطينيين، أرادت أمريكا وإسرائيل تحويل الأنظار من الحق المشروع وطنيا ودوليا، وبقرار واضح من الأمم المتحدة إلى مجرد مساجد وكنائس يمكن التنازع عليها بين أصحاب الأديان المختلفة. (5) الخديعة والهزيمة
هكذا ندرك الخديعة الفكرية التي يلجأ إليها الإسرائيليون والأمريكيون، ولأن أغلب المفكرين في بلادنا لا يفكرون ولا يبدعون الأفكار من الواقع الذي نعيشه، بل ينقلون دائما عن المفكرين في أمريكا وأوروبا، وأخيرا أصبح المفكرون الإسرائيليون المرجع لبعض المثقفين في بلادنا.
وفي رأيي أن هذه هي الهزيمة الأساسية التي أصابتنا، الهزيمة الفكرية، أو التبعية الفكرية، وهي سمة غالبة في بلادنا تصيب المفكرين من اليسار الاشتراكي واليمين الرأسمالي على حد سواء، وقد أصبح فريد جيمسون وغيره من الماركسيين الأمريكيين مرجعا لأغلب الماركسيين العرب والمصريين، بعد ماركس ولينين وتروتسكي وجرامش وألتوسير وغيرهم.
دائما أتساءل: لماذا لا يكون عندنا مفكرون وفلاسفة مبدعون لا ينقلون أفكار الغير؟ أهي انعدام الثقة في النفس؟ أهو الخوف من التفكير الحر المستقل؟ حين وقفت في جامعة ديوك وعارضت فريد جيمسون لم يندهش إلا زملائي العرب، وقال أحدهم مستنكرا: كيف أعارض فيلسوفا كبيرا مثل فريد جيمسون، وقلت له: وهل فريد جيمسون عنده عقل وأنا ليس عندي عقل؟
حدث الشيء نفسه في محاضرة لجاك ديريدا في جامعة ديوك ، وأدركت أن المثقفين العرب والمصريين ينظرون بقدسية لهؤلاء المفكرين في الغرب، ويشعرون أنهم أقل قدرة منهم على الإبداع الفكري.
ربما هو نظام التعليم في بلادنا الذي يسلبنا القدرة على الإبداع والتمرد على الأسياد الكبار الذين يملكون السلطة في الدولة والعائلة، وربما هي عقيدة النقص في مواجهة الغرب الأقوى الذي استعمرنا قديما وحديثا، منذ نشوء النظام الطبقي الأبوي أو العبودية.
أتابع ما يحدث على الساحة السياسية والثقافية والفكرية في بلادنا وأشعر أن المعركة أمامنا طويلة طويلة، وهي معركة فكرية في الأساس؛ لأن العقل الذي يفكر بعقول الآخرين ليس عقلا مفكرا بل ناقلا فقط، والعقل الناقل بالضرورة عقل تابع، والعقل التابع يؤدي إلى وطن تابع، واقتصاد تابع وسياسة تابعة وثقافة تابعة وإعلام تابع. (6) الفكر والعمل
كيف الخروج من هذا المأزق؟ إذا كان أغلب المفكرين المبدعين في بلادنا قد لزموا بيوتهم أو تمت مطاردتهم حتى هاجروا إلى الخارج أو إلى الداخل، وقد طغى على سطح الحياة الفكرية هؤلاء الذين يؤيدون كل من جلس على العرش، وقد رأيت هؤلاء في اجتماعاتهم مع عبد الناصر والسادات ومبارك، واستمعت إليهم وهم يتملقون كل حاكم، يرفعونه إلى مصاف الإله المعصوم من الخطأ، الإله الذي يوجه إليهم التوجيهات والأوامر، ولا يكون أمامهم إلا الطاعة وإلا فقدوا الامتيازات والمقاعد الجالسين فوقها.
المشكلة إذن مزمنة، وهي حادة أيضا وقابلة للعلاج، وأول مراحل العلاج هو التشخيص الصحيح للداء، ولعل هذا المقال محاولة متواضعة مني أو مساهمة قد تساعد على تشخيص المرض والبحث عن الأسباب الحقيقية لغياب الفكر المبدع في بلادنا، وندرة المفكرين الخلاقين من الرجال والنساء.
هل لنا أن نحرر المستقبل من الماضي؟ هل لنا أن نحرر الماضي من المستقبل؟ قد يكون الماضي أكثر تقدما من الحاضر أو المستقبل، مثلا كانت أفكار مي زيادة وملك حفني ناصف أكثر تقدما من أغلب النساء والمثقفات اليوم، وكانت أفكار طه حسين أكثر تقدما من أفكار أغلب المثقفين الرجال اليوم، وكانت فلسفة ابن رشد أكثر تقدما من كثير من المفكرين اليوم، والماضي المصري القديم كان أكثر عقلانية وتقدما من المستقبل الروماني المسيحي الذي دمر الحضارة المصرية القديمة، وحطم الآلاف من تماثيلها وآثارها وكتبها.
هذا في فترات الردة والهزيمة فقط، لكن في فترات الازدهار فإن المستقبل يقترن بالتقدم والتحرر من قيود الماضي، ومن الأفكار المتخلفة التي يثبت أنها ضد التقدم العلمي والاكتشافات الجديدة، مثلا لقد انتصر علم الكون الجديد وعدم مركزية الأرض على الفكر اليهودي في التوراة، ونظرية الخلق الدينية التي سادت في الماضي.
المسألة إذن ليست الماضي أو الحاضر أو المستقبل، وهي كلها عناصر مترابطة واحدة متداخلة، المسألة هي القدرة على الفرز والتمسك بالإيجابيات ونبذ السلبيات سواء في الماضي أو الحاضر، هذه القدرة تحتاج إلى عقول مفكرة شجاعة لا تتملق الثوابت المقدسة في الماضي والحاضر، بل تخضعهما للنقد والجدل في ضوء المشاكل التي يعيشها الناس، وليس في ضوء مقولات هذا أو ذاك من المفكرين في بلاد أخرى، كما تحتاج إلى العمل مع الناس والمقاومة الجماعية، وعدم فصل الفكر عن العمل.
لأن معظم البحوث العلمية في جامعاتنا تدور في جدل نظري عقيم حول مقولات ونظريات المفكرين في الغرب، ولا تنبع من أسئلة حول مشاكلنا الواقعية؛ لهذا لا تلعب الجامعات في بلادنا دورا في الإبداع الفكري أو تخريج المبدعين.
القاهرة 16 أغسطس 2000
عالم تختفي فيه الحقيقة يسوده الوهم ...
هل وقعنا في الفخ أو فقدنا العقل؟
لماذا إذن نخاف النطق بالحقيقة؟
كيف تختفي من عالمنا الأسئلة الجوهرية؟
وتكمم الأفواه وتراق الدماء
تحت اسم الحب والسلام والشرعية؟
أهو عالم من الوهم وخداع النفس،
تنشطر فيه الذات بين الوعي واللاوعي
بين الجسد والعقل والروح
بين الحاضر والواقع والدم،
وذلك الآخر الغائب تحت اسم الأب والجد؟
عالم بلا قلب لا عقل يعاني الحروب والقتل،
واغتصاب الجسد والوطن الأم
يغيب فيه الحق وسن الأم وراء اسم مستعار.
يقوم فاعل وراء فاعل آخر، ويصبح الغائب هو الحاضر
والحاضر يصبح غائبا.
تستأجر الأم بعرق جبينها زوجا فظا؛
من أجل مولودها المحتوم،
وتشتغل دون أجر لترعى الابن والأب والجد.
يكبر الابن على شاكلة أبيه،
يقوم بدور الرجل وهو طفل ،
يخلع عن نفسه جسم أمه واسمها
كأنما هو العار والإثم،
تصبح الأمومة بلا شرف ولا قيمة؛
إلا في الأغاني والكلام المرسل
بالمجاني.
في طفولتي كتبت اسم أمي فوق كراستي،
ومسحته بالأستيكة.
أصبحت أحمل فوق جسدي وأغلفة كتبي
اسم رجل غريب، مات بالبلهارسيا قبل أن أولد بقرن.
إنه الجد الأكبر لأبي
الغائب الحاضر المنظم والمنظر لقوانين حياتي،
والذي حرمني من اللذة الأولى؛
لذة التواصل مع الأم.
وقف حائلا بيني وبين قانون الطبيعة؛
رغم غيابه في القبر.
يتحكم من بعيد في حياتي بالريموت؛
مثل الروبوت.
وراودني السؤال المكبوت
لحظة موت أمي؛
كيف تخلت عن نفسها وعني من أجل رجل غائب؟
كيف سمحت للأب الرمزي أن يحل مكانها؟
وكيف استباحت حقوقي من أجل وهم الحب؟
أليس هو الانفصام أو انشطار الذات؟
يزعزع الثقة في الإنسان ويفسد علاقة الذات بالآخر.
أليست الأمومة هي اليقين؟
والأبوة هي الشك رغم تحاليل الدم؟
يسود المرض النفسي وينتشر العنف والجنون؛
بسبب قلب الحقيقة وتحويل الفاعلة إلى مفعول بها،
وتحويل الوالدة إلى مولودة بلهاء من ضلع أعوج.
في طفولتي كنت أرمق من بعيد صدر أبي العاري
تبدو ضلوعه كلها عوجاء.
وأسأل أمي: من أي ضلع خرجت؟
تضحك بسخرية على سؤالي ويغضب أبي
يقول عنها ناقصة العقل والبرهان.
كنت أصدق أبي كأنما يملك الحقيقة؛
حتى ماتت أمي من الحزن
بعد موتها أصبحت أحمل قبرها بين ضلوعي،
وبعد موت أبي تحررت من ضلعه الأعوج
الذي كان في عيني كالقذى،
يحجب عني الرؤية والبصيرة.
أصبحت أحمل أمي الميتة في أحشائي الدفينة،
وضحكتها أحملها ورائحة عطرها.
أحافظ على العالم الهش خوفا من سقوط الوهم.
أستبدل الصمت بالحب المختلس وراء القضبان،
وأكف عن قول الحقيقة.
تتداخل الذات مع الأم في لحظة الموت الأخيرة؛
من أجل استعادة التواصل واللذة الأولى
دون جدوى دون جدوى.
فالعالم بلا أم تسوده الكراهية والفوضى.
يعلو فيه المجازي والخرافي على الحق والحقيقة
مع كل ذلك تستمر الانتفاضة والمقاومة،
في الوطن المحتل والجسد المبتور.
أحاول علاج الجرح القديم منذ الطفولة،
والجرح الجديد المتجدد عاما وراء عام؛
لأن حب الأم هو الحقيقة الوحيدة
في عالم يحرم كل شيء حتى الكتابة والنطق،
وأقول لأمي داخل صدري:
ستظل ابنتك تقاوم حتى الموت،
وقد أصبحت الحياة كالموت،
فالمقاومة يا أمي هي البديل الوحيد
في مواجهة القتل والجنون المتخفي تحت شجرة المخ،
وإله البراكين والزلازل من وراء عمود الدخان
تحميه القلاع والسلاح والمال والإعلام.
إن الوهم يا أمي لا يقتله إلا الوهم
ولا شيء يعطيني الإحساس بالواقع إلا الدم
المراق على الأرض والطفل المنزوع من الأم.
لقد عجز العالم يا أمي عن تحقيق العدل
في البيت والوطن والغربة وكل مكان.
لا كرامة لأرض تنتهك فوقها حقوق الأمهات،
وما من جنة لا تكون تحت أقدامهن. •••
يعلمني الوطن ألا أحب.
وألا أعدل بين الناس.
أن أسكت حين يزعق الكبير،
وأزعق إن همس الصغير بصوت.
يعلمني الوطن أن أفقد السمع والبصر والفؤاد،
فلا أسمع أنين الملايين.
ولا أرى الفقر ولا الموت ولا السجن.
لا أستطيع أن أخرج من عقلي لأحب وطني.
لا أستطيع أن أدوس على كرامتي لأطيع.
زوجي أو الرئيس.
لا أستطيع العودة إلى بيت أمي وإلا تعذبت،
وقد ماتت أمي في عز شبابها،
ولم يعد لي في الوطن
إلا مقبرة أمي.
القاهرة 31 مايو 2001
إلى الذين يقولون عنها إرهابية
حائرون هم هؤلاء النخبة.
لا يعرفون الإرهابية
من المناضلة الشعبية.
يصدقون النخبة في إسرائيل
وأمريكا الشمالية.
وصحف الحكومة والمعارضة
الشرعية.
وهي فتاة من الشعب الصامت
الزاهد في الدولة والدين
الساعي إلى لقمة العيش
غير التابع لحماس أو المجاهدين
تحت اسم الدولة أو الدين؛
الذين يحولون الصراع فوق الأرض
إلى صراع في السماوات،
بين الآلهة والأنبياء.
ويغضبون لأن فلانا شتم النبي؛
محمدا أو عيسى أو موسى
أو إبراهيم. •••
أما هي فلا تبالي
باسم النبي الفلاني
ولا تشتم هذا ولا ذاك؛
لأن وراءها مهمة
أهم من هذا وذاك.
ثم
جاءت الفتاة ووقفت أمامي،
لا يفصلها عني إلا سحابة رقيقة شفافة؛
مثل دمعة في العين.
أمد يدي لأصافحها وهي واقفة؛
مثل تمثال من البرونز.
بشرتها محروقة بلون الفخار،
وأنفها حاد مرتفع؛
مثل الإلهات القديمات. •••
اقتحمت الفتاة غرفة نومي قبل شقشقة الفجر.
يوم الأربعاء الخامس من يونيو عام ألفين واثنين،
في الهدوء السابق لعاصفة الانفجارات،
والظواهر الصوتية.
والأبواق والإذاعات والمآذن وأجراس المدارس والكنائس،
وصفافير البوليس والإسعاف،
وحناجر النخبة المثقفة في الفضائيات. •••
أحملق في وجهها،
وأتذكر وجهي في المرآة منذ نصف قرن.
العينان السوداوان واسعتان،
تتسعان للحزن والفرح.
ومياه البحر المالح تذوب في ماء النهر العذب.
والابتسامة مثل شعاع الشمس،
تطفو فوق ورد النيل الميت. •••
منذ نصف قرن كان يراودني حلم؛
أن أقتل العساكر الإنجليز.
أهتف في الشوارع مع التلاميذ.
الجلاء بالدماء.
الاستقلال التام أو الموت الزؤام،
وأمشي في النوم ملفوفة بالديناميت،
ثم أنفجر ومعي العساكر. •••
كان العساكر يسيرون أمام بيتي.
بشرتهم حمراء منتفخة بالدماء.
دماء جدتي الممصوصة المحروقة بالشمس،
والأصابع الخشنة المشققة بمقبض الفأس،
والجفون تآكلت والعيون جفت بلا دماء،
ثم أنفجر ومعي العساكر. •••
والفتاة تظل واقفة أمامي،
من حولها العساكر عند نقطة التفتيش.
يخلعون عنها الملابس وهي واقفة؛
مثل تمثال من الجرانيت.
قبل أن تتعرى تماما تنفجر؛
مثل قنبلة نووية.
لا ألم مثل ألم الجسد المهان،
ثم أنفجر ومعي العساكر. •••
أخذت أنزع عنها الجسد المحترق،
وأغسل جروحها النازفة كطبيبة مدربة،
ثم ألبستها ملابسها لتذهب إلى المدرسة،
وهنا أوقفني النقاد وقالوا:
إرهابية أفسدت القضية.
وأنا جاهلة بقواعد الأدب،
وموازين الشعر والقافية،
ثم أنفجر ومعي العساكر. •••
أواصل الكتابة دون أن أرد عليهم،
فالفتاة واقفة أمامي بجسمها المحترق.
أحملها من خصرها قبل أن تنفجر،
تتناثر أشلاؤها وهي واقفة.
أنحني أمامها لألتقط ذراعا،
أو جزءا من ذراع،
أو ساقا، أو جزءا من هنا وهناك.
أستعيد الشكل والجسد الذي كان الفتاة.
ثم أنفجر ومعي العساكر. •••
رغم أنف الإرادات العليا والسفلى،
والقوى العظمى والصغرى،
والقنابل الذرية والنووية والانشطارية،
هذه الفتاة ستعيش وإن ماتت.
أرى إصبعها يتحرك قبل لحظة الموت.
إصبع ثابت في يد لا ترتعش،
وجسد باق لا يزول وإن احترق،
وأنف بكبرياء الإلهات مرتفع .
هذه الفتاة هي حفيدتي.
تعيش في ذاكرتي منذ نصف قرن،
بالأمس كانت طفلة تلعب بالكرة،
ترى نفسها في الحلم كاتبة أو طبيبة،
أو شاعرة أو باحثة في علوم الذرة،
وعند نقطة التفتيش رأت العساكر
يخلعون عن أمها الملابس،
أصبحت الأم واقفة في الشارع عارية،
وبقيت الصورة في خيال الطفلة إلى الأبد،
فلا يبقى في الذاكرة إلا الحقيقة،
ولا يكشف الحقيقة إلا الخيال،
ثم أنفجر ومعي العساكر.
القاهرة 24 يونيو 2002
بعد أن رأيت ذاتك في المرآة
كان صباحا مظلما بشبورة كثيفة تحجب الشمس والسماء ورءوس الأشجار، وأسطح بيوت القرية يتراكم فوقها الحطب والجلة وزلع الجبنة الحادقة والمش، ومخلل الليمون والزيتون الأخضر.
إنه صباح العيد بعد شهر رمضان وأنت راقد في الفراش الدافئ فوق الفرن، تخفي رأسك تحت العباءة الصوفية الرمادية المهترئة، لا تفارق هذه العباءة جسدك في الشتاء منذ نصف قرن، منذ كنت شابا في العشرين قويا مفتول الساعدين، مفتول الشارب الأسود الكثيف الشعر، الممدود من صدغك الأيمن إلى الأيسر، المبروم والمقوس إلى الخارج يمكن أن يقف عليه الصقر.
لماذا كنت تخفي رأسك تحت العباءة؟ لماذا لم تنضم في وجبة الفطور إلى أسرتك الكبيرة العدد، أولادك وبناتك وأحفادك وحفيداتك، لا تكاد تعرف عددهم أو أسماءهم، إلا واحدة وهي حفيدتك حميدة الطفلة الشقية المرحة المليئة بالبهجة والأمل.
في صباح ذلك اليوم جاءت حميدة إلى الفطور، لكنها لم تكن مرحة كعادتها، لم تكن فرحة أو متألقة.
ولاحظت أمها أن حميدة ليست هي حميدة التي عرفتها منذ أن ولدتها منذ عشرة أعوام كاملة، بالضبط ليلة العيد من عام 1991، بعد موت أخيها الأكبر في حرب الخليج، لقد رزقها الله بهذه الطفلة المتأججة بالحياة والذكاء عوضا عن الابن الذي راح إلى الحرب ولم يعد.
وهمست الأم في أذن ابنتها: ما لك يا حميدة ساكتة؟
ولأول مرة في حياتها تطرق الابنة برأسها ولا تنطق بكلمة واحدة، هي التي لم تكن تكف عن الكلام والضحك واللعب مع الأطفال.
كأن ظلا أسود قاتما يطل من أعماقها، وهي جالسة تضم ركبتيها ، تتقوقع حول جسدها الصغير في ركن بعيد عن العيون، تحملق في الفراغ دون حراك.
عندما قامت الأم بترتيب فراش طفلتها وقع نظرها على بقع دم كانت ما تزال رطبة لم تجف، فرحت لأول وهلة، تصورت أن الطفلة بلغت وأدركها الحيض، لكن أنف الأم وخبرتها الطويلة أكدت لها أنه ليس دم حيض. - إذا لم يكن دم الحيض فماذا يكون؟
سقط قلب الأم في قاع أحشائها حتى بطن قدميها، عاد إلى ذاكرتها رائحة بقع الدم في فراشها ليلة زفافها، لطمت خديها كادت تسقط مغشية عليها، لكنها أفاقت بعد لحظات.
عرفت الأم على الفور من يكون الجاني، وكان يخفي رأسه تحت عباءته المهترئة فوق الفرن، ربما كان يفكر في طريقة لمحو العار الذي سوف تجلبه حميدة للأسرة، يتلصص من فتحة في الجدار على بوابة الجامع، حيث كوم كبير من الحجارة، تكفي لرجم امرأة بالغة وليس مجرد طفلة في العاشرة، وكان رجال القرية يخرجون من باب المسجد بعد صلاة العيد، منهم أبناؤه وإخوته وأعمامه وأخواله، وكلهم رجال مفتولو الشوارب لن يتأخر أحدهم عن محو العار بالدم.
لكن الأم كانت أكثر ذكاء من الجد العجوز، بحكم شبابها، وبسبب الحب الكبير في قلبها لابنتها، وكانت حميدة قرة عين أمها، عوضتها عن ابنها المفقود في الجيش، ونساء القرية كلها مثل الأم، قلوبهن تنبض بالحب لهذه الطفلة المرحة الذكية، تدوي ضحكاتها في سماء القرية مثل ضوء الشمس، تقشع عنهن سحب الكآبة وذكريات الحزن، منهن الخالات والعمات والأخوات والجدات والجارات القريبات والبعيدات.
في هذا الوقت، وبعد أن خرج الرجال من المسجد، تجمعت النساء في الساحة الواسعة أمام البوابة، انقسمن إلى مجموعات، قامت مجموعة بحراسة المسجد وتطويقه من الخارج، وقامت مجموعة بحراسة كوم الحجارة أمام البوابة، أطلقت عليه إحدى الشابات اسم مستودع الأسلحة، وكان يستخدم في الزمن القديم لمحو العار. لم تشهد القرية منذ قرون مشهدا واحدا مما كان يحدث في الأزمنة الغابرة، لكن الجد العجوز أراد تحت اسم «الصحوة» أن يعيد إلى الحياة عادة قديمة من عادات العبودية، وأن يخفي جريمته تحت وابل من الحجارة والغبار المتصاعد عنها.
توجهت الأم إلى والد زوجها الراقد فوق الفرن تحت العباءة المهترئة، دخلت إليه بجسمها الطويل الممشوق، قامتها منتصبة ورأسها مرفوع، عضلات عنقها قوية مشدودة قادرة على حمل الأثقال، رمته بنظرات صارمة بعد أن كشفت العباءة عن وجهه، قرأت فوق وجهه خطوط الجريمة، وكانت الأم تحمل لقب «العرافة» في القرية، وبلهجة حادة كالسيف القاطع قالت له: انهض فورا وتعال معي!
بكل تثاقل تحركت كتلة اللحم المليئة بالتجاعيد والتي تنبعث منها رائحة التبغ والدخان، ورائحة أخرى يلتقطها أنف الأم المدربة على رائحة الدم.
على الرغم من الظلمة في غرفة الفرن المغلقة دون نوافذ إلا فتحة صغيرة في الجدار، استطاعت الأم أن تلتقط بعينيها رجفة يديه المعروقتين، وتبعها صامتا محني الظهر، واتجها صوب المسجد، حيث كانت حميدة راقدة في الداخل فوق سجادة سميكة من الصوف، مشغولة بأيدي النساء في القرية، إلى جوار حميدة كانت مجموعة من البنات زميلاتها في المدرسة الابتدائية، وحكيمة القرية وشيخة معروفة بالحكمة.
وتشكلت على الفور مجموعة من النساء (وبعض الشباب من الأبناء الذين نفروا من جريمة العجوز، وقرروا الانضمام إلى أمهاتهم وأخواتهم ضد إرادة العمدة وكبار رجال القرية).
أخذت هذه المجموعة من النساء (وبعض الشباب) الرجل العجوز إلى مساحة من الأرض الجرداء، شبه صحراء خارج حدود المزارع والحقول.
هناك أجلسوه على الأرض مفتوح الساقين مستندا إلى وتد من الخشب، تماما كما كانت العادة في الزمن القديم، حينما يقرر الرجال محو العار رجما بالحجارة.
قيدت النساء الرجل العجوز بحبل سميك طويل يكفي لوصوله إلى زير الماء وصحن الطعام، الذي يقدم له كل يوم، وقد جلست النساء (وبعض الشباب) على مسافة غير بعيدة منه، بحيث يمكن لهن سماع صوته إن تكلم أو تألم.
بنت النساء حوله أربعة حواجز من المرايا بحيث يستطيع أن يرى نفسه، وأمامه رسمن صورة لحميدة، بحجمها الطبيعي، كما تركها بجراحها الدامية بين الساقين والظلال السوداء حول عيونها الطفولية، عيون في الفراغ دون حياة أو ضوء.
بعد إنهاء العمل قالت النساء له : انظر إليها، لقد تركتها هكذا، وعندما تراها وترى العار الذي فكرت أن تغسله بسفك دمك، فانظر الآن إلى نفسك، وقلب عينيك مرارا وتكرارا بين صورتك وصورتها، وسوف نأتي كل يوم لنسمع ماذا تقول.
في صباح اليوم التالي شكا الرجل من برودة الليل، فأجابت النساء: هو هو الصقيع الذي يحتل قلب حميدة.
وفي اليوم الثاني شكا لهيب الشمس على جسده، خاصة المنطقة الحساسة بين ساقيه، أجابته النساء: هذه الآلام الملتهبة في جسد الطفلة الجريح، والتي كانت تحلم بفطور الأم وكعكة العيد.
كان الرجل يشكو الخوف الذي يجثم على صدره في ظلمة الليل حين يفكر، قالت له النساء: هذا هو ثقل جسدك الذي كتمت به أنفاس الطفلة.
وكان يشكو عفونة الرائحة تنبعث من تحته وهو يبول على نفسه، وكان جواب النساء: هذه رائحة العار التي أردت أن تدفن فيها جسدها البريء.
كان الرجل يشكو كل يوم من الأرواح الشريرة والأشباح السوداء التي تزوره في الليل، وترد عليه النساء: إن هذه الأرواح الشريرة ذاتها التي امتلأت بها أحلام حميدة منذ ليلة الجريمة.
في المرايا من حوله رأى الرجل نفسه عاريا، ورأى العار، ورأى الطفلة الفتاة وجرحها الدامي، أراد أن يحطم المرايا دون جدوى فهي بعيدة عن متناول يديه، أراد أن يرجم المرايا بحجر لكن الأحجار كلها أصبحت تحت حراسة النساء وشباب القرية، ومنهم شقيق حميدة التوأم، الذي رفض إدانة أخته وطعنها من الخلف.
لقد سقط الرجل في خندق واحد مع مرآة ذاته، كان ينادي على زملائه الرجال من أجل إنقاذه، لكن النساء حوطته بسياج منيعة لا يخترقها أحد إلا بتصريح من مجموعة الحراسة، وتضاعفت عليه الآلام، والأشباح تراءت له بعنف أكبر، نخرت الأرواح الشريرة جسده وروحه، كاد كيانه يتلاشى، كادت نيران منبعثة من بطن الأرض بأن تقضي عليه، كان جسده يتمزق ويحترق جلده حتى نهايته ثم يعود من جديد، ليحترق في النار ذاتها أو نار جديدة تشتعل، ينفخها الهواء حتى تصير لسانا من اللهب، وهو يتبعثر أشلاء، يشتته اليأس وأسئلة عديدة تغزو دماغه ، تترك في رأسه كتلة لزجة محترقة، تذوب وتتلاشى كالرماد ثم تعود من جديد.
وفي يوم تعالت صرخة من أحشائه كأنما قادمة من بطن الأرض، كان يخاطب ربه من تحت النيران: يا إلهي، لماذا تركتني وحدي؟ يا إلهي: لماذا وضعت الشهوة في جسدي وتركتني؟ لماذا لم تضع حدودا لسلوكي؟ يا إلهي: لماذا سمحت لي أن أكون قاسيا وظالما للنساء؟! وتركتني كالبهيمة أنتقل من امرأة إلى امرأة؟!
كان الرجل يرهف أذنيه ليسمع إجابة الرب عليه، وحين هدأت النيران قليلا كان رأس الرجل يصفو شيئا فشيئا، حتى بدأت ذاكرته تصحو، وفجأة رأى نفسه طفلا في العاشرة من عمره، كعمر حميدة، وكان يسمع كل يوم صراخ أمه حين يضربها أبوه، ولطالما سمع نحيبها في الليل ونشيجها، حين هجرها أبوه إلى زوجة أخرى، عاوده الألم الذي كان يجثم على صدره الطفولي، يمزق قلبه ويسبب له آلاما وأحزانا.
مرت بذاكرته مشاعر الغضب حين كانت صرخات أمه تخترق أذنيه وعظام رأسه قبة السماء، وتهبط إليه مرة أخرى مع نحيبها لتخترق جسده ودماغه وقلبه.
لقد توقف قلب الطفل عن الخفقان، وتعالى من أحشائه عواء خوف غامض من أبيه، ودار حجر رحى خوفه فدفنه تحته، بدا له أن تخلص من الخوف الدفين في قلبه منذ كان طفلا.
مرت أيام قليلة ثلاثة أو أربعة دون أن يتحرك أو يأكل أو يشرب ماء، كان مشغولا مبهورا بتلك القدرة الجديدة المنبعثة من أعماقه، والتي جعلته يدفن الحجر من تحت جسده دون أن يطرف له جفن.
في اليوم التالي عاد إلى نفسه، كان وجهه قد تغير، وجسده تغير، وطلب من النساء أن يرى حميدة، تقدمت نحوه الطفلة بخطوات مترددة وجلة ترافقها زميلاتها والنساء من الحارسات، توقفت على مسافة بعيدة منه وإن سمعت صوته يقول: أرقد أمامك عاريا، غارقا في عفونة عاري الذي جلبته لك، فأصبح شقاؤك هو شقائي، وجراحك هي جراحي، أخبريني ماذا أفعل كي أخلصك من الألم والحزن، وأرد إلى عينيك البهجة وضوء الشمس.
اقتربت الطفلة منه، حيث أمكنها النظر مباشرة في عينيه، طلبت من النساء تغطية عورته وقالت: نظف نفسك من نفايات نفسك القديمة، ثم اذهب وحيدا في الصحراء، واجمع أشلاء نفسك الجديدة المبعثرة، وحين ترى أن الوقت قد حان فارجع إلى إخوانك الرجال وأخبرهم بمعرفتك الجديدة، فإن الرجال النبلاء هم القادرون على تحمل مسئولية أفعالهم، وهم الوحيدون الذين يمكنهم تجاوز الحدود التي وضعت لهم عندما كانوا في سن الطفولة، ارجع وحدث إخوانك الرجال عن آلامك وأنت طفل حين كنت تدفع عن أمك الظلم، كيف نسيت هذه الآلام في سن الرجولة، وبدأت تشعر بالعار من أمك، حدثهم عن الظلم والقسوة والعار الحقيقي، تحمل نظراتهم الساخرة أو لكماتهم، تحمل كلامهم وإن اتهموك بالضعف أو الجنون أو فقدان الرجولة، كن أمينا لقلبك الجديد، ومعرفتك الجديدة، وإن كان ثمن ذلك هو حياتك، ادخل هذه المعركة المقدسة مع إخوانك وأقاربك وجيرانك وأولادك، معركة بدون إسالة الدماء؛ لأن العدل سيتغلب في ذلك الوقت على الظلم.
وكانت السماء تسمع صوت حميدة، وقالت النساء: «السكوت علامة الرضا.»
عالم جديد ممكن
(1) على منصة القضاء في المحكمة الشعبية العالمية للديون
حضرت الكاتبة المصرية نوال السعداوي أخيرا الملتقى العالمي الاجتماعي الثاني في بورتو أليغري في البرازيل، وجلست هناك على منصة القضاء في محكمة شعبية عالمية للديون.
في المقال التالي تصف الكاتبة تفاصيل حية من ذلك اللقاء العالمي، وهو يوازي لقاء دافوس وسائر قمم العولمة ومؤسساتها، والموازاة محاولة لاستشراف عالم جديد.
الشمس مشرقة وحرارتها القوية تذكرني بشمس مصر في أوائل الصيف، نحن في أوائل شباط (فبراير) العام 2002 في مدينة بورتو أليغري في محافظة ريوغراندي دوسول جنوب البرازيل، والصالة الواسعة الضخمة ممتدة أمامي ... عيون النساء والرجال والشباب تلمع كالنجوم، الوجوه سمر وبرونزية وبيض وسود وصفر وحمر، خمسة آلاف وجه امتلأت بهم القاعة غير هؤلاء الواقفين في الممرات، جاءوا من أنحاء العالم شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، ومن مدن البرازيل وقراها، الأعلام الملونة ترفرف، واللافتات تحمل أسماء المنظمات الشعبية وشعاراتها من البرازيل ومن جميع بلاد العالم، يعلوها الشعار الرئيسي للملتقى العالمي الاجتماعي الثاني، يقول الشعار بمختلف اللغات: «عالم جديد ممكن».
Another World is Possible.
Un autre Munde est Possible.
Aqui umotio Mundo e’Possivel.
وترتفع الأصوات بالهتافات بمختلف اللهجات واللغات تقول: يسقط الاستعمار الجديد. - لا نريد قروضا بل تجارة عالمية. - لسنا مديونين بل منهوبين. - مواردنا لنا. - لن نسدد ديونا خادعة. - لا للحرب والعدوان.
ألتقط وأنا جالسة فوق المنصة أصواتا عربية، وألمح بين الأعلام المرفوعة علم فلسطين، بألوانه الأحمر والأبيض والأخضر والأسود، يحمله نساء ورجال من بلادنا العربية من مختلف الجنسيات في العالم، يهتفون بصوت واحد: «وحاكموا شارون أيضا.» فهذه المنصة التي أجلس فوقها هي منصة القضاة الستة، ثلاث من النساء وثلاثة من الرجال، جاءوا من جنوب أفريقيا: القاضي دميزا سيبازا، ومن البرازيل ديميترو فالانتيني، ومن شمال أفريقيا والبلاد العربية نوال السعداوي، ومن الفلبين لوريتا روزالي، ومن الأرجنتين نورا كورتيناس، ومن الهند شاندرا سيكار.
إلى يمين منصة القضاء كانت منصة المدعي العام أليخاندرو تيتلبوم من الأرجنتين ومعه عدد من المساعدين من أوغندا، ومالي، والسنغال، والأكوادور، وجمهورية الدومينيك، ونيكاراغوا، والهند، وأنغولا، والبرازيل.
إلى يسارنا منصة هيئة المحلفين المؤلفة من اثني عشر من النساء والرجال، من الأرجنتين، والإكوادور، وكوت ديفوار، ومالي، وجنوب أفريقيا، وتانزانيا، وفيجي، وأندونيسيا، وكوبا، وهايتي، والصين، والفلبين. (2) ذكرى محكمة
في كانون الثاني (يناير) سنة 1991 شاركت كقاضية في محكمة شعبية نظمها وزير العدل الأميركي السابق رامزي كلارك لمحاكمة جورج بوش الأب بعد أن قادت الولايات المتحدة حرب الخليج ضد العراق قتلت فيها أكثر من ربع مليون شخص.
جلسنا لمدة يومين كاملين 1 و2 شباط 2002، نستمع إلى الشهود، ثمانية من قارة أفريقيا، وخمسة من آسيا، وخمسة من أميركا اللاتينية، نساء ورجال جاءوا إلى هذه المحكمة الشعبية العالمية الأولى من نوعها، لتقديم شهادتهم عما أصاب بلادهم من جراء الديون الخارجية، ومن سياسات البنك وصندوق النقد الدوليين ومنظمة التجارة العالمية، والشركات المتعددة الجنسيات في البلاد الرأسمالية الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية.
عقدت هذه المحكمة الشعبية العالمية ضمن الفعاليات الأساسية للملتقى العالمي الاجتماعي الثاني في مدينة بورتر أليغري، والتي عقد فيها الملتقى العالمي الاجتماعي الأول العام الماضي 2001، لقد أصبحت هذه المدينة في جنوب البرازيل شعلة الحركة الشعبية العالمية الجديدة المقاومة للعولمة والاستعمار الجديد، والتي تحمل اسم: «العولمة من أسفل»
Globalization form below
وقد نشأت كحركة شعبية عالمية لمقاومة المؤسسات الاقتصادية الدولية واجتماعاتها العلوية في دافوس، في سويسرا، ونحن نتذكر كيف نجحت هذه الحركة الشعبية العالمية في نهاية العام 1999 «في مدينة سياتل» في عرقلة اجتماع منظمة التجارة الدولية، وكيف تتالت هذه التظاهرات الشعبية من مختلف أنحاء العالم وفي عدد من البلاد شرقا وغربا، ضد ما يسمى «الملتقى الاقتصادي الدولي» الذي أصبح عاجزا عن إنجاز أعماله واجتماعاته إلا في حماية الشرطة، والذي انتقل من دافوس إلى مدينة نيويورك، إذ تشتد قبضة الشرطة ضد التظاهرات الشعبية المنادية بسقوط الرأسمالية العالمية ومؤسساتها الاقتصادية على رأسها البنك الدولي ومنظمة التجارة الدولية. (3) ضد دافوس
نشأ الملتقى الاجتماعي العالمي لمقاومة الملتقى الاقتصادي العالمي، وبسبب تزايد قوة الشرطة والبطش في مدينة نيويورك، فقد عقد الملتقى الاقتصادي العالمي يوم السبت 2 شباط 2002 من دون مشكلات كبيرة من المتظاهرين من النساء والرجال؛ الذين حوصروا بعيدا عن اجتماع القمة الاستعمارية التي تحكم العالم بقوة السلاح والإعلام المضلل.
في مدينة جنوى تجمع أكثر من 300 ألف من النساء والرجال في تظاهرة ضخمة هاجمتها الشرطة بالغازات المسيلة للدموع والضرب والاعتقال، وقتل أحد المتظاهرين في المعركة، ومن هنا كان لا بد من عقد الملتقى الاقتصادي الدولي في البلاد الأكثر ديكتاتورية، والتي تشكل فيها قوة الشرطة عنصرا مهما لإخماد التظاهرات.
بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001 وضرب مركز التجارة العالمي في نيويورك تصاعدت قوات الشرطة والقوات العسكرية للولايات المتحدة تحت اسم «محاربة الإرهاب» مما أدى إلى خفوت صوت الحركة الشعبية العالمية المقاومة للاستعمار والعولمة، إلا أن الملتقى الاجتماعي العالمي الثاني في بورتر أليغري - في نهاية كانون الثاني وأوائل شباط 2002 - نجح في إحياء هذه المعركة، تجمع في هذه المدينة ما يقرب من سبعين ألف امرأة ورجل من مختلف أنحاء العالم، كانت الحركة النسائية مشاركة بكل قواتها مع حركات الشباب والعمال والفلاحين من مختلف المنظمات في العالم بما فيها مصر وفلسطين وسائر البلاد العربية.
وتدربت هذه الحركة الشعبية العالمية على العمل على رغم الصعوبات، وأخذت تعيد قوتها، وتعبر عن نفسها بطرق أكثر تنوعا وإبداعا وتأثيرا، وأنها حركة تعتمد على تجاوز الفروق المفروضة على البشر تحت اسم الجنسية أو الجنس أو الدين أو اللون أو العرق أو غيرها، وهي تعتمد على مختلف أنواع التعبير الديمقراطي، والعصيان المدني السلمي، حركة شعبية عالمية تكسر الحواجز بين النساء والرجال، وبين الشباب والكهول، وبين الطلاب والأساتذة، وبين العمال والفلاحين والمهن الأخرى، حركة تناضل ليس فقط ضد العولمة الرأسمالية الاستعمارية، ولكن تناضل أيضا ضد الحركات الإرهابية التي تدعي المعارضة تحت اسم دين معين أو جماعة تستخدم وسيلتي العنف والقتل للمعارضة. (4) منظمات شعبية عالمية
شارك في تنظيم هذا الملتقى الاجتماعي العالمي 22 منظمة شعبية من قارات العالم، منها الاتحاد البرازيلي المركزي للعمال، والاتحادات البرازيلية الأخرى للفلاحين والنساء والشباب، والمجلس الاستشاري الدولي للملتقى الاجتماعي العالمي، والشبكات الاجتماعية، من أجل العدالة وحقوق الإنسان وغيرها من مختلف الهيئات والتنظيمات الشعبية الديمقراطية.
وشارك في تنظيم المحكمة الشعبية العالمية للديون عدد آخر من المنظمات الشعبية في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية منها منظمة «جوبيلي ساوث»
Jubiles South
جنوب أفريقيا وفي الفلبين وفي البرازيل وفي كندا، مع الاتحاد الأميركي للعاملين في مجال القانون.
منظمات شعبية ديمقراطية في معظم بلاد العالم نبعت من معاناة الملايين من الفقر والقهر بأيدي القوى الرأسمالية الاستعمارية القديمة والجديدة، يمثلون الشعوب بفئاتها المختلفة، لا فرق بين رجل وامرأة، أو عامل أو فلاح أو أستاذ، حركة شعبية واعية أدركت خطورة اللعب بورقة الأديان في مجال السياسة، أو ورقة الثقافة وما يسمى الاختلافات الثقافية وغيرها من الاختلافات بين الناس، التي استغلتها القوة الاستعمارية لتمزيق الشعوب وتفتيت الوحدة تحت اسم احترام الأديان واحترام الثقافات المحلية.
وأنا جالسة فوق منصة القضاء، أقوم بدور القاضي (أو القاضية) مع خمسة آخرين من العالم، أشعر بالفخر لأنني أخترت بواسطة هذه الحركة الشعبية العالمية لأمثل بلادنا العربية ومنطقة شمال أفريقيا، ولأجلس يومين كاملين أستمع إلى تقارير الشهود من أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، كيف أدت سياسات البنك الدولي وصندوق نقده إلى تخريب الاقتصاد في هذه البلاد وتراكم الديون الخارجية والداخلية، وكيف أدت القروض إلى نهب موارد هذه البلاد (أو ما يسمونه العالم الثالث) وذلك بسبب فرض السياسات والمشاريع المؤدية إلى اختلال الميزان التجاري، وتراكم العجز، وتزايد الهوة بين الفقراء والأغنياء، وحرمان البلاد من ثرواتها الطبيعية ومن قدراتها الإنتاجية في الصناعة والزراعة، وربط عملتها بالدولار الأميركي، وكيف أدت سياسة الخصخصة للشركات والبنوك والخدمات المحلية إلى حرمان الشعوب من ضرورات الحياة، وانتشار المجاعات والأمراض.
كذلك تستخدم القروض وسائل للضغط على الحكومات المحلية وإخضاعها للسياسات الأجنبية، ودفعها للمشاركة في حروب لمصلحة الولايات المتحدة الأميركية وغيرها من البلاد الاستعمارية الكبرى.
وأوضحت الشهادات التي توالت على المنصة من ممثلي البلاد المختلفة كيف أن البلاد (أو المستعمرات الجديدة) التي تتلقى القروض، كيف أنها تدفع مبلغا يصل إلى ثلاثة عشر دولارا أميركيا في مقابل دولار واحد تقترضه.
وقدم الدكتور شريف حتاتة (من مصر) شهادته عن تاريخ الاستعمار وعلاقته بالديون الخارجية والحرب، كيف أن الاستعمار البريطاني دخل مصر في السبعينيات من القرن التاسع عشر من طريق القروض، و«احتل بلادنا» وفي العام 1956 رفض جمال عبد الناصر شروط البنك الدولي لفرض مراقبة على الاقتصاد المصري في مقابل القرض لبناء السد العالي، مما دفع عبد الناصر إلى تأميم قناة السويس، وما حدث بعد ذلك من حرب 1956، واعتداء جيوش إنكلترا وفرنسا وإسرائيل على بورسعيد.
وأشار حتاتة أيضا إلى أن مصر دفعت إلى المشاركة في حرب الخليج (كانون الثاني 1991) التي أدت إلى مزيد من تفتيت القوى العربية، وتثبيت القبضة الأميركية العسكرية والاقتصادية على «بلادنا العربية» وكان الإغراء الذي قدم لمصر هو خفض الدين الخارجي بمقدار سبعة بلايين دولار، سرعان ما استعادتها الولايات المتحدة الأميركية من طريق العجز في الميزان التجاري، وكان الدين الخارجي لمصر في نهاية السبعينيات من القرن الماضي لا يتجاوز ثلاثة بلايين دولار، وصل في زمن حرب الخليج إلى ما يقرب من خمسة وأربعين بليون دولار، وارتفع سعر صرف الدولار بالجنيه المصري من 34 قرشا في مطلع السبعينيات إلى 560 قرشا في السوق السوداء حاليا، وهذا يعكس مدى التضخم الذي يعاني منه الشعب المصري اليوم بجميع فئاته، وتتحمل النساء الفقيرات العبء الأكبر من المعاناة بسبب ضعفهن السياسي والاقتصادي ووضعهن الأدنى في الأسرة والمجتمع. (5) عالم متشابه
أثناء الاستماع إلى بقية الشهود من أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية اتضح لنا أن هذه الصورة تكاد تكون واحدة في جميع البلاد، ونظرا إلى أهمية هذه المحكمة الشعبية العالمية الأولى من نوعها فقد حضرها حاكم محافظة جنوب البرازيل واسمه أوليفيو دوتر قبل أن يلقي كلمته أو شهادته عما تعانيه البرازيل من جراء الرأسمالية العالمية والاستعمار الجديد.
وفي النهاية أصدرت هيئة المحلفين قرارها من أربع صفحات و10 بنود بإدانة البنك الدولي وصندوق نقده، ومنظمة التجارة العالمية والشركات المتعددة الجنسيات والحكومات في البلاد الرأسمالية الكبرى، والحكومات في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية المتعاونة مع هذه الهيئات والحكومات.
وافقنا، نحن القضاة الستة (هيئة المحكمة)، على قرار هيئة المحلفين على أن يبلغ به المسئولون في الحكومات والهيئات، وسماع دفاعهم في جلسة مقبلة ستعقد في شهر نيسان (أبريل) هذا العام 2002 في مدينة واشنطن.
كانت هذه المحكمة الشعبية العالمية خطوة مهمة لتعبئة الرأي العام الشعبي ضد السياسات التي تؤدي إلى تراكم الديون وتخريب اقتصاد بلادنا وتضر بمصالح الشعوب نساء ورجالا في بلاد الجنوب.
بورتو أليجري
البرازيل، فبراير 2002
من وحي اجتماع القمة مع النخبة
التصفيق
التصفيق يدوي في أذنيك، بقايا حلم لا ينقطع بمجيء الصباح، تأتيك الدعوة المذهبة الحواف إلى الاجتماع، منقوش عليها الرمز الأبدي منذ الفراعنة، الموعد في تمام الساعة العاشرة في قاعة الاجتماعات الكبرى قبل الموعد بساعة ونصف بالملابس الرسمية وربطة العنق.
تلفين حول عنقك ربطة على شكل الإيشارب، حول رأسك تلفين الطرحة على شكل التيربون، يختفي شعرك عن عيون الرجال جميعا، إلا عينيه، يغمضها ويتثاءب ثلاث مرات، يبتلع الحبة الزرقاء بقليل من الماء، ويعود إلى النوم، يواصل الحلم مع سكرتيرته الحسناء تدق على الكومبيوتر، تشبه المتدربة الشقراء في البيت الأبيض.
تبتلعين اللعاب المر في حلقك، تبلغين الخامسة والأربعين من عمرك بعد يومين، يرن الرقم في أذنيك مرعبا، يسمونه سن اليأس، يكبرك بثلاثين عاما ويبتلع الفياجرا دون يأس، تزوجك وأنت في الثامنة عشرة، تحلمين بالغلام من عمرك، المولود معك في يوم واحد عام الهزيمة.
تفرضين العزلة على نفسك وراء الحجاب، والرجال في كل مكان، في الشوارع والباصات ونوافذ الجيران، وفي أحلامك يتنافسون عليك، يجذبهم إليك التأجج في عينيك المكحلتين، والنداء المكبوت بين شفتيك الحمراوين، تضغطين عليهما بإصبع الروچ قبل أن تخرجي من البيت، تمرين بالفرشاة فوق خديك، وظلال خفيفة فوق جفنيك، وقطرات العطر ترشينها تحت إبطيك.
تسيرين بخطوة بطيئة مثل الوزيرات، يرتج جسمك المربع فوق كعبك العالي، تشدين عضلات ظهرك وعنقك، فوق رأسك يدور التيربون بإحكام، لا تفلت شعرة واحدة للعيان، كل شيء مباح لك إلا ظهور هذه الشعرة أمام عيون الرجال.
تتأهبين لحضور الاجتماع الهام، ترتدين التايير الجديد من الصوف الإنجليزي، لونه أزرق سماوي، منقوش عليه ورود حمراء، انجذبت إليه عيناك وأنت تسيرين في شارع ريجنت، حين حضرت مؤتمر الأديان منذ عامين في أكسفورد، تحتفظين به معلقا داخل الدولاب، ملفوفا بالنايلون الشفاف، لا يخرج إلى النور إلا في المناسبات، ترشقين فوق صدرك البروش الذهبي بالفص الألماظ، تثبتين بالدبابيس حبات اللؤلؤ حول التيربون، وبعض جواهر قليلة حول العنق والمعصمين.
تهبطين السلالم الرخامية في الفيلا الجديدة، تسمعين صوت كعبك الرفيع يدق الأرض، تنظرين إلى ساعتك الذهبية بحركة متوترة، تخافين التأخير عن الوصول في الموعد، تتحسسين الدعوة داخل الحقيبة تحت إبطك، منقوش عليها اسمك الثلاثي ولقبك الوزاري ومنصبك العالي في المجلس المنتخب والمعين بقرار واحد.
يفتح لك السائق باب سيارتك الطويلة السوداء، نوافذها محكمة الإغلاق، لا ينفذ منها ضجيج أو تراب، زجاجها داكن اللون لا يكشف الداخل، ويبقى الخارج مكشوفا أمام عينيك، تشعرين بلذة الرؤية دون أن يراك أحد، مثل الوزراء والسفراء والملوك والرؤساء، ممن يركبون السيارات الشبح السوداء.
من وراء الزجاج الأسود ترين الأشباح تمشي في الضباب، وجوههم شاحبة ممصوصة أو مترهلة بالشحم، عيونهم نصف مغلقة فيما يشبه الغيبوبة، والجدران العالية تتغطى بالإعلانات، أجساد نساء عارية يركبن فوق السيارات، في أيديهن المسدسات، بين شفاههن سيجارة دانهيل.
منذ الزواج أصابك الزهد في كل شيء؛ الجنس وقصص الحب وقزقزة اللب في السينما، يمتد بك الزهد إلى الصمت عن الكلام، لا يبقى أمامك من ملذات الدنيا إلا الأكل والنهم للشراء، لكن ملذات الآخرة هي الأبقى، تشرئب عيناك في الحلم إلى القصر في الجنة، وأباريق الفضة يطوف بها الغلمان، تنجذب عيناك إلى الغلام من عمرك، يحوم طيفه حول سريرك طول الليل، تحاولين طرده بقراءة آية الكرسي، تطرد الجان والشياطين إلا هذا الغلام من عمرك.
تتوقف سيارتك عند حجاز الأمن، يحوطه الحراس وعيون السلطة والبصاصون من وراء النظارات السوداء، تقفين في الطابور الطويل ضمن ثلاثمائة آخرين، تندهشين لهذا العدد الكبير من المدعويين، تصورت أن النخبة هي القلة، فإذا بهم كثيرون، يحمل كل منهم لقب المفكر الكبير، يصلون قبل الموعد بساعتين، يرتدون البدل المكوية من الصوف المستورد، تتهدل عضلات سيقانهم تحت البنطال المشدود، حول أعناقهم تدور الربطة المعقودة بإحكام، شعر رءوسهم مصبوغ بلون أسود فاقع، عيونهم المتغضنة وجفونهم المتورمة تكشف عمرهم الحقيقي، تلمع أنوفهم بنشوة الفياجرا، يسيرون بخطى وئيدة بطيئة، وأمام الباب يتقافزون على الدخول كالتلاميذ المتنافسين.
والباب صغير ضيق يشبه أبواب السجون، لا يسمح بدخول الجسم والرأس مرفوع، لا يتسع لدخول الفرد الواحد إلا بالجنب، وأنت واقفة في مؤخرة الطابور، تصورت أنك أول الواصلين فإذا بك آخرهم، تسبقك النخبة دائما إلى حيث تذهبين، يلتقطون قبلك رائحة السلطة حيثما تكون، بحكم الموروث منذ عصر العبيد، وخريطة الجينوم الذكوري المدرب عبر القرون.
تجدين رأسك ينحني عند الدخول، وجسدك ينثني ويلتوي، تبتلعين المهانة مع لعابك المر، لا شيء يواسيك إلا أنك لست وحدك، وإذا كان الوباء عاما فليس عليك حرج، أمامك في الطابور جميع الوجوه التي تظهر في الصحف، وفوق الشاشات وأغلفة المجلات والكتب.
مراسم الدخول طويلة بطيئة، بسبب الزحام وتعطل العين الإلكترونية، وحرص رجال الأمن على التفتيش الدقيق، يجردونك من ملابسك دون أن تخلعيها، وتدخلين بعد الفحص إلى القاعة الكبيرة، يعلوها الوجه بحجم الكرة الأرضية، معلق قرب السقف، مثبت بالمسامير مثل ثوابت الأمة، يختفي مثل الإله وراء عمود من الدخان، ونظارة سوداء فوق العينين.
الصفوف الأمامية كلها محجوزة، مقاعدها مذهبة الحواف من القطيفة الحمراء، فوق ظهر كل مقعد قطعة ورق، مكتوب عليها الاسم واللقب، يجلسون في الصفوف حسب الدرجة، يأتي في المقدمة الوزراء والسفراء والمستشارون، ورجال الدين والشرطة والإعلام، يأتي بعدهم المطربون والمذيعون والمذيعات، والنافخون في الآلات، وبعض العلماء والمنجمون والأطباء النفسانيون وضاربو الودع، يأتي بعدهم الأدباء والروائيون الواقعيون والحالمون، لا يمكن أن يتخلف أحد، وإن كان نزيل المستشفى لتغيير صمامات القلب، سرعان ما يفيق من المخدر ويأتي قبل الموعد بساعتين، مرتديا البدلة الرسمية وربطة العنق، والأزرار مغلقة حول قفصه الصدري، يجلس مع القاعدين مكتوف الذراعين والساقين، قدماه داخل الحذاء اللامع مشبوكتان تحت المقعد، تتورمان من طول الجلوس، تمر الساعة وراء الساعة دون الخروج لقضاء الحاجة، فالأبواب كلها أصبحت مغلقة، ولا أحد يدخل ولا أحد يخرج.
ثم تدوي الصيحة العالية، تنتفض الأجساد واقفة والأيادي ترتفع بالتصفيق، تجدين نفسك واقفة تصفقين، يدك اليمنى تضرب يدك اليسرى في قوة دون توقف، الدقات تحت ضلوعك تفقد انتظامها، صدرك يعلو ويهبط بحركة مرئية، تنقضي الدقائق والتصفيق مستمر، وتمتد أيدي سحرية تفتح بابا خفيا في الجدار، تتعلق العيون بالباب المفتوح والأنفاس مكتومة، ثم يبدأ الموكب يدخل على مهل، يأتي الحرس الخاص في المقدمة بالملابس المدنية، ويظل الباب مفتوحا دون أن يظهر أحد، يدب الصمت العميق بضع لحظات كأنما كل شيء مات.
ثم تظهر الكتلة المتلألئة بالأضواء، تومض الفلاشات والعدسات والآلات اللاقطة، لا يمكن للعين أن ترى الوجه وإن امتد العنق إلى آخره، الأضواء الفضية تذوب داخل نسيج البدلة المكوية، الكتفان المحشوان والصدر العريض يشبه الدرع.
تجلسين في الصف الخلفي تحملقين نحوه، يكاد يشبه الوهم، رغم المسافة الطويلة تبدو الملامح قريبة، عضلاته متهدلة يكاد يشبه زوجك، الجفون متورمة مع انتفاخ الخدين والشفتين وما تحت العينين، نظراته هائمة ما بين السقف والجدران ولا تستقر على وجه ، كأنما الضوء يعميها عن الرؤية .
يستمر التصفيق يدوي وأنت نائمة، لا ينقطع بمجيء الصباح، لا تعرفين الحقيقة من الحلم، وأنت جالسة تصفقين مع الجالسين، الأيادي كلها مرفوعة تصفق، لا أحد يشذ عن المجموع، تشعرين بالمهانة وأنت تصفقين، تبتلعين المهانة مع لعابك المر، لا شيء يواسيك إلا أن الجميع يصفقون، وإذا كان الوباء عاما وشاملا فليس عليك حرج، تدور عيناك في القاعة تبحثين عن شخص واحد لا يصفق، ترينه جالسا في الطرف البعيد من الصف الأخير، الغلام من عمرك المولود معك عام الهزيمة، يداه إلى جواره لا ترتفعان، هو الوحيد الذي لا يصفق.
القاهرة 1998
من وحي قرار مفتي الديار المصرية
(1) وإذا أفتى المفتي فماذا يكون؟
إذا أفتى مفتي مصر الدكتور أحمد الطيب بأن الزوجة وحدها التي تعاقب في جريمة الزنا والخيانة الزوجية، وأن الزوج لا يعاقب إن قام بالجريمة ذاتها، فهل يكون حكمه هذا حكما أخلاقيا أم إسلاميا؟
ورد هذا السؤال في عقلي وأنا أقرأ الصحف المصرية في 8 تموز (يوليو) 2002، عما حدث في مجلس الشعب (البرلمان) في اليوم السابق عند عرض مشروع جديد لتعديل قانون العقوبات من أجل معاقبة الزوج على جريمة الزنا بالحبس لمدة لا تزيد عن سنتين، وقد أرسل المشروع إلى المفتي الذي تشاور فيه مع «مجمع البحوث الإسلامية» التابع لمؤسسة الأزهر، ثم جاء حكمه برفض المشروع، لماذا؟ لأن الأصل في القضية هو تجريم الزنا «وهذا المشروع يتعلق بموضوع لم يجرم أصله في القانون، وهو جريمة الزنا، كما جاءت به النصوص الشرعية، وبناء عليه فإن دار الإفتاء المصرية ترى عدم الموافقة على المشروع (عدم الأخذ بالاقتراح الوارد) لارتباط الرأي الشرعي في المشروع بتجريم الأصل، وهو جريمة الزنا.» هذا هو نص ما قاله المفتي ردا على المشروع.
خلال المناقشات داخل مجلس الشعب رفضت وزارة العدل المشروع بحجة أن الزوج له الحق في تعدد الزوجات؛ ولذلك يمكنه أن يتزوج المرأة التي ضبطتها زوجته معه، لكن هذه الحجة باطلة قانونا؛ لأن القانون يلزم الزوج إبلاغ زوجته الأولى بزواجه من امرأة أخرى.
لقد تخرج أبي في الأزهر ودار العلوم والقضاء الشرعي، وقد اشتغل قاضيا شرعيا بعض الوقت، وحكم ضد الأزواج الخائنين، وكان يقول: الخيانة ليست من الأخلاق الرفيعة أو الإسلام الصحيح؛ لأن المسئولية تتناقض مع الخيانة، لأن الحرية تعني المسئولية وليس الفوضى.
في مصر اليوم حملة كبيرة من أجل النهوض بالتربية والتعليم، وقد أصبحنا نشهد كل يوم مظاهر التدهور الأخلاقي أو الفساد داخل الأسرة أو خارجها في المجتمع المصري أو المجتمع الدولي، وهل هناك فساد أكثر من ذلك الفساد الدولي الذي يتبنى الازدواجية الأخلاقية، فيعاقب العراق مثلا بالحرب أو بالعقوبات الاقتصادية على حين يبرئ إسرائيل التي تذبح الشعب الفلسطيني أمام أعيننا كل يوم؟
إن مبدأ الأخلاق الصحيحة هو العدل، وهو المسئولية وهو الحرية، باعتبار أن الحرية والمسئولية لا ينفصلان، وأين هي المسئولية في حالة الزوج الذي يخون زوجته ثم يخرج بريئا؟ أليس في ذلك إهدار للأخلاق، بل إهدار للأسرة وتشجيع الرجال على عدم المحافظة عليها؟
وهل تكون المرأة هي المسئولة الوحيدة عن الأخلاق وعن الحفاظ على الأسرة على رغم أنها لا تملك أي سلطة ويملكها الرجل؟!
قرأت في جريدة «الأهرام» «8 تموز (يوليو) 2002» عن تلك الزوجة المصرية التي منحت زوجها كل مالها ليخرج من أزمته المالية، وأخلصت له ثلاثين عاما، إلا أنه تنكر لها وتزوج فتاة صغيرة السن، وطرد الزوجة إلى الشارع بلا مأوى، مع ذلك خرج هذا الزوج بريئا في نظر القانون؛ لأن الزوجة لم تأخذ إيصالا مكتوبا من زوجها عن مالها؛ لأن القانون لا يحمي المغفلين الذين يجهلون القانون، وخرج الزوج بريئا أيضا في نظر رجال الدين، باعتبار أنه يمارس حقه الشرعي في تعدد الزوجات.
وفي الوقت الذي يتم فيه التساهل الأخلاقي الشديد مع الرجال إلى حد الفوضى وعدم المسئولية، فإن التشديد والتزمت هما من نصيب النساء فقط، وفي الوقت الذي يتمسك فيه رجال الدين بحرفية الشرع فيما يخص المرأة، فإنهم يتساهلون مع الرجل تحت اسم الاجتهاد وإعمال العقل.
وفي جريدة «الأهرام» (28 حزيران (يونيو) 2002 ص36) يعلن المفتي أن وجود حجاب المرأة المسلمة في الثوابت الشرعية، وليس فيه اجتهاد أو إعمال للعقل، لماذا؟ لأن حجاب المرأة يدخل في إطار التوجيه الإسلامي العام المؤسس على مراعاة الفطر المستقيمة والأخلاق، وهل غطاء الرأس دليل الأخلاق، أم استقامة السلوك والأفكار؟ ولماذا لا يحكم المفتي بالمثل فيما يخص جريمة الزنا للرجال؟! وهل تدخل جريمة الزنا أو خيانة الزوج لزوجته في إطار الأخلاق أو التوجيه الإسلامي العام؟ (الذي يساوي بين الرجل والمرأة التي ضبط معها! ألا يشبه ذلك تبرئة الرجل الذي يغتصب فتاة إذا تزوجها؟!)
وفي جريدة «أخبار اليوم» (6 تموز (يوليو) 2002 ص15) تحت عنوان «نبت الجريمة» نقرأ قصة الفتاة «سلوى» التي اغتصبها رجل وحملت منه واضطرتها أسرتها للزواج منه حتى لا تجلب العار لأشقائها وأمها، ولكن بعد شهرين فقط هرب الزوج تاركا لها ورقة الطلاق، وتحملت سلوى الجرائم الثلاث: الاغتصاب ثم الزواج ثم الطلاق، وكان من الطبيعي أن تكره الرجل والجنين الذي منه، فأقدمت على قتل مولودها، وأحيلت سلوى إلى النيابة التي قررت حبسها وتقديمها للمحاكمة العاجلة بتهمة «القتل». وقد اتهمت سلوى بأنها فاقدة «الأمومة» أيضا، فكيف تقتل أم طفلها أو طفلتها؟ وتغنى الكثيرون ب «الأمومة»، أما «الأبوة» أو مسئولية ذلك الرجل الذي اغتصبها، ويقولون إنه تزوجها وطلقها حسب القانون والشرع، فهو إذن بريء، أما هي فتستحق الإعدام؟
وكم من الأمثلة التي نشهدها كل يوم من هذا النوع، والتي تكشف لنا عن مدى الفساد الأخلاقي أو الازدواجية الأخلاقية التي تسود في مجتمعاتنا تحت اسم القانون، وكم من محاولات لتعديل مثل هذا القانون، إلا أن غالبية القيادات الدينية تقف ضد أي تعديل للقانون تحت اسم الشريعة أو الثوابت أو حسب مبدأ «لا اجتهاد مع النص».
والسؤال الآن هو: أين ذلك النص الذي يبيح هذه الازدواجية الأخلاقية؟!
دراسة القرآن تؤكد أن هذا النص غير موجود، وعلى رجال الدين في بلادنا أن يقولوا لنا أين هذا النص وماذا يقول؟ إن هذا هو التحدي الذي أمامهم الآن. (نرجو إخراج هذا النص إلى الوجود أيها السادة، إن استطعتم!)
وسؤال آخر: إذا كان تعدد الزوجات من الثوابت غير القابلة للتغيير، فلماذا تم تعديل القانون في عدد من البلاد الإسلامية، وألغى تعدد الزوجات تماما، وكذلك حق الطلاق إلا أمام القاضي ولسبب معقول، وليس لمجرد النزوة الجنسية أو الخيانات الزوجية والزنا.
على رغم الدراسات الاجتماعية المتعددة، والتي كشفت عن مآسي النساء المطلقات في المحاكم، وتشريد الأطفال وتفكيك الأسرة بسبب تعدد الزوجات أو ضربهن، أو هجرانهن أو مجرد التخلي عن مسئولية الأبوة، على رغم كل ذلك فإن قانون الأسرة أو قانون العقوبات لم يعدلا بالقدر الكافي الذي يعاقب الرجل الذي يتخلى عن مسئولية الأبوة.
لا تزال القيم الاجتماعية والتعليمية والإعلامية في بلادنا قائمة على تحميل المرأة وحدها المسئولية تحت اسم «الأمومة» المقدسة العظيمة.
أما «الأبوة» فهي لا تزال قاصرة أو محدودة بالاتفاق، أو غائبة تماما في ما يخص المسئولية والأخلاق.
ونحن نشهد اليوم حملة كبيرة للنهوض بالتعليم في مصر، وهل ينفصل التعليم عن التربية؟ وهل تقوم التربية الصحيحة على شيء آخر إلا المسئولية الأخلاقية؟ (2) تتحمل المرأة وحدها في بلادنا مسئولية الأخلاق؟
لأن الرجل لا يعيبه إلا جيبه، ولأنه يستطيع أن يخون ويزني ويظل شريفا بريئا، وهذا هو الدليل على انعدام الأخلاق في بلادنا.
يوليو 2002
من وحي عيادتي الطبية بالجيزة
(1) وسقطت جميع الأمهات
من حواء إلى مريم العذراء كان التحول،
في الأدب والشعر والدين.
كان الخيال سليما في الحضارة القديمة،
والروح داخل الجسد داخل العقل.
انفصلت الروح منذ مقتل الأم،
وانفصل خيال الرجل.
أصبح أبي يقول لنفسه:
أنا والله واللذة والشرف.
وأمي تقول لنفسها:
أنا والشيطان والألم والعار.
انحدرت من ربة المعرفة،
إلى العذراء بلا شهوة.
من مبدأ اللذة إلى مبدأ الألم؛
سقطت جميع الأمهات.
عام 1959
من وحي قرار شيخ الأزهر
حجاب المرأة في الإسلام
إلى الذين يتحدثون عن الحجاب؛
من السادة الرجال.
يتنافسون على الورق والشاشة،
وأصواتهم عالية.
قال بعضهم كلمة «الخمار» وردت في الكتاب،
وفلسطين السليبة لن تعود بنزع الحجاب،
وهو حق واختيار بإرادة النساء. •••
وقال بعضهم: إنه ليس من الدين الصحيح؛
بل من الجماعات الدينية ؛
الذين قتلوا الأبرياء،
وكفروا المؤمنين من طه حسين إلى قاسم أمين،
واعتبروا الفن إثما
يستوجب التوبة. •••
وقال بعضهم: إن الحجاب
موجود في كل البلاد.
الشال والطرحة والبونيه والقبعة،
ضمن الأزياء الوطنية
باختيار النساء؛
لأن «الوطن» لا يفرض شيئا،
لا الشابو ولا الفولار ولا القبعة العسكرية،
فقط الزي الاشتراكي للطبقة العاملة،
وعمليات الإخصاء للعبيد في بيزنطة. •••
وقال بعضهم: ما جدوى تغطية رءوس النساء؟
والمرأة هي المرأة!
ما أن ينام زوجها حتى تصحو،
وإن كان هو الجني الأسود،
أو شهريار أو شاه زمان.
بنات حواء يا إخواني
يخرجن الراهب المتعبد من صلاته،
وإن ارتدين الخمار الأسود. •••
ترتفع أصوات الرجال والنساء صامتات،
أو مطرقات إلى الأرض في حياء،
أو باسمات برقة وإغراء،
رءوسهن ملفوفة بالطرحة أو البونيه
من آخر طراز أو موضة.
من الأستاذة إلى الدكتورة.
نرى صورهن على الورق والشاشة،
يتنافسن في الحديث عن فلسطين السليبة،
وأنف «أبو الهول» المسروقة،
وأصحاب نظرية العودة إلى الإيمان،
من أفلاطون إلى عباس العقاد،
ومن أليزداير ماكنتاير إلى هنري لنك. •••
ترتفع أسماء الرجال والخواجات،
وتدفن أسماء النساء؛
من عائشة التيمورية إلى مي زيادة،
وملك وكوكب حفني ناصف،
ودرية شفيق وسهير القلماوي وأمينة السعيد،
وغيرهن من الكاتبات اللائي تقدمن عن
طه حسين أو العقاد أو قاسم أمين،
وبعضهن على قيد الحياة يدفن. •••
أيها السادة الرجال،
أقول لكم:
لماذا لا ترون الأشياء البسيطة الواضحة؟
وضوح الشمس.
لماذا يرتدي الإنسان القبعة في الشتاء،
ويخلعها في الصيف؟
لماذا يتعرى الإنسان تحت خط الاستواء
بصرف النظر عن الجنس؟
ولماذا يرتدي راكب الموتسيكل الخوذة الحديدية
أو الجندي في القتال؟ •••
أيها السادة والسيدات،
إن رأس الإنسان ليس عورة؛
لأنه يحتوي العقل،
والعقل أشرف ما في الإنسان.
فهل المرأة إنسان،
يا من تتحدثون عن الحجاب؟
وأعلنت إحدى الزعيمات النسائيات المحجبات أن النساء السافرات ملعونات، وإلى نار جهنم ذاهبات، ثم نشرت تاريخ عائلتها الكريمة:
القاهرة يوليو 2002
التاريخ العائلي لزعيمة نسائية محجبة
(1) تحسين الصورة
من حقي أيها السادة أن أكتب
تاريخ عائلتي؛
لأنه تاريخ الوطن والعروبة والإسلام،
ولأن أبي وخالي وعمي وجدي الكبير
من أكبر الرجالات الوطنيين العروبيين الإسلاميين،
وكلها وجوه لعملة واحدة،
وكان زوج خالتي يتكلم عشر لغات؛
أما أبي فلم يكن حاصلا على الابتدائية،
واشتغل موظفا بسيطا في محكمة،
فوق عينيه نظارة سميكة،
يفك بها الخط والتوقيع على العرضحال، والأختام الملكية،
ويقف تعظيم سلام لحاجب المحكمة أو مندوب السراي.
وكانت أمي لا تعرف القراءة ولا الكتابة؛
لكنها كانت تحتفظ بكل ورقة يكتبها أبي،
ومنها كمبيالة المهر وقائمة العفش؛
تأمينا لها إن طلقها أبي بغتة،
أو تزوج امرأة أخرى دون علمها،
وقد تعرضت أختها وابنة خالتها وجارتها
لمثل هذه المشاكل في المحاكم الشرعية،
وخرجت كل منهما على باب الله؛
لأن القانون لا يحمي الجاهلات به،
اللائي لا يحتفظن بإيصالات العفش
والكمبيالات
بخط الزوج الجميل أو القبيح،
وكان أبي دائم التحسين لخطه العربي،
فهو عروبي إسلامي،
وهو يعرف حقوقه الكاملة الشرعية،
ومنها حق المطلق في الطلاق والزواج بأخرى
دون علم الزوجة الأولى.
ورثت عن أمي إيصالا وأوراقا كثيرة، أما أبي فلم يكن لديه أوراق ولا كتب ولا مكتبة.
أبي كان مولعا بأنواع الأختام الرسمية والخطوط،
لم يكن يضيع وقته في القراءة؛
ولكن في تحسين خطه وصورته،
وكان الشعار الملكي يشبه الشعار الجمهوري اليوم، «تحسين الصورة.»
وأصبح أبي جميل الصورة جميل الخط والصوت،
يكاد يشبه الملك في طفولته. (2) تشويه الصورة
ورثت عن أبي شعار تحسين الصورة،
لا أعرف كيف تغلغل هذا المبدأ داخلي
وأصبح مقدسا،
والأهم تأثيرا أمي، وكانت متفرغة في البيت
للأمومة المقدسة،
والحفاظ على الأسرة من التفكك وعبث الأبوة غير المقدسة،
وكانت أمي تؤمن بالشهادة؛
الدكتوراه أو الماجيستير،
وحين تزوجت رجلا غير متعلم سألتني: «شهادته إليه؟»
وغضبت أمي من زوجي لأنه لا يعرف
إلا اللغة الشعبية العامية.
وقعت أمي في التناقض والتطرف،
وكانت امرأة شعبية؛
لا تعرف اللغة الفصحى ولا تعرف الكتابة،
وتركت أمي بصماتها على عقلي وجسمي وروحي.
ورثت عنها التناقض والتطرف،
وورثت عن أبي شعار تحسين الصورة
والصوت أيضا،
وأصبح حلم حياتي أن أكون
الصورة المثالية للمرأة المصرية.
ولأنني عروبية إسلامية مثل أبي؛
فقد أصبحت الصورة المثالية لنساء مصر
في ظل العهود الملكية والجمهورية،
وعصور الاشتراكية والرأسمالية،
والليبرالية الجديدة.
ونشرت صورتي بالبنطلون الأمريكي الجينز،
أيام الانفتاح والحرية.
وفي العصر الحالي تنشر صورتي بالحجاب
في الصحف الإسلامية،
والصحف الوطنية المعارضة،
وأحزاب العولمة الجديدة والكوكبة،
وأحمل لقب زعيمة نسائية إسلامية عروبية وطنية مناضلة ضد الباطل بكل صلابة وعنف.
ومع ذلك أيها السادة،
فأنا طفلة رقيقة جدا، وعاشقة لكل الصور الجميلة والخطوط العربية والفارسية، وتحسين صور الإسلام في عيون الأجانب؛
ولهذا أغضب بعنف وأضرب بقبضة يدي رأس الشيطان،
والذين يشوهون صورة الإسلام،
وعلى رأسهن ذوات الرءوس غير المحجبة؛
النساء السافرات لعنة الله عليهن!
القاهرة 9 يوليو 2002
عن الخوف
الخوف يجعلنا نموت في كل لحظة
إن نسينا واحد من الأحباء،
أو هجرنا واحد من الأزواج،
وإن عارضنا السلطة وهددتنا بالحبس أو النفي،
وإن لم نعارضها أصبحنا من المنافقين الموتى.
نموت من الحب ومن الكره،
ونموت إن غاب الحب وإن غاب الكره.
نموت بسبب العيال والولادة وحمى النفاس،
ونموت لأننا بلا عيال.
نموت من الخوف من العقاب في الدنيا،
ونار جهنم الحمراء بعد الموت.
نموت من الخوف آلاف المرات، ملايين المرات؛
لكن الشجاعة وحدها تجعلنا نموت مرة واحدة.
قالت رابعة العدوية: أنا لا أخاف نار جهنم الحمراء، ولا أطمع في جنة عدن الخضراء.
وسألوها: الجنة والنار وردتا في القرآن والإنجيل والتوراة، ألا تؤمنين بالكتب السماوية؟!
قالت: أنا لا أقرأ ولا أكتب، وإذا سعيت إلى الله فلأنه العدل وليس كتابا. (1) من وحي مذبحة سبتمبر 1981
المكان الأمين
في الظلمة جاءوا وأخذوني،
سألت أين تأخذوني؟
قالوا نأخذك إلى مكان أمين.
قلت من أعطاكم الأمر؟
قالوا صاحب الجلالة رئيس البلاد.
قلت إذا كذب صاحب الجلالة،
فمن يقول الصدق؟
وذهبت معهم إلى المكان الأمين،
فإذا بي داخل السجن.
قلت لهم رئيسكم كذب عليكم؟
قالوا نعم.
ثم سكتوا إلى الأبد. (2) من وحي الحراسة
إنقاذ النفس من براثن الحب والحماية
في ظلمة الليل جاءوا حاملين البنادق .
قلت لهم من أنتم؟
قالوا الحراس.
سألتهم وماذا تحرسون؟
قالوا حياتك.
قلت حياتي في خطر؟
قالوا نعم.
سألت من يهدد حياتي؟
قالوا لا نعلم.
عرفت من عيونهم أنهم يكذبون.
أصبحت أصحو حين ينامون،
وأنام حين يصحون.
أحرس حياتي من رصاص حراسي،
وأنقذ نفسي من براثن الحب والحماية.
القاهرة يونيو 1992
من وحي سنوات الغربة
الغربة خارج الوطن قاسية،
وأقسى منها
الغربة داخل الوطن.
الرسائل تأتيني رغم المسافات
من الأهل والأصدقاء،
والصديقات.
مع حركة الطائرة تزداد المسافات،
والحزام مربوط حول جسدي،
وعقلي مشدود إلى هنا؛
حيث تكون فلذة الكبد،
وحيث يكون الحب
من وراء البحر والمحيط.
تلوح لي الأيدي والعيون،
تلمع في الظلمة كالنجوم،
تشدني إليهما من قاع الموت،
بلا قطرة دم ولا دموع.
أعانقهما وأضمهما إلى صدري،
أعود بهما إلى رحم الأم
رغم المسافات،
أنا أمهما نوت أو نون،
أو أي اسم
ذكر أو أنثى.
لا يهم.
المهم أنهما متساويان؛
ابنتي وابني يتساويان عندي،
وإن غضب إله السماء والبراكين،
وإن زمجر بصوت الرعد،
أو أعلن الحرب
على النساء والشباب والأطفال،
تحت اسم الأرض الموعودة،
أو محاربة الإرهاب،
والدعوة إلى الفضيلة،
جسدي رغم الحزام المربوط بالمقعد
يحلق فوق السحب،
فوق الحدود المصنوعة بين البلاد،
والتقسيمات بين البشر
على أساس الدين أو الجنس أو الجنسية.
يكسر الحواجز والخرائط المرسومة
في كتب التاريخ والجغرافيا،
والكتب السماوية.
أحملق من فوق السحب في عيني الإله،
دون حياء أو خجل،
حتى تطرف عيناه ويغض البصر،
ويسألني الحارس عن جواز السفر،
واسم أبي وجدي.
وأقول لا أعرف من الأسماء
إلا اسم أمي،
وأتجه نحو باب الخروج،
رافعة رأسي في شموخ،
وينطلق الرصاص خلف ظهري،
وأنا أسير لا أتوقف
لا يخترق الرصاص جسدي.
يفرقع في الفضاء
مثل فقاعات الهواء،
وأسير نحو الباب وأدخل،
وتسألني ابنتي كيف دخلت؟
وأقول لأن إله الزلازل والبراكين
أصبح مشغولا بغيري.
أحملق في عينيه فوق السحب،
أحملق دون حياء أو خجل،
حتى تطرف عيناه،
ويغض البصر.
ديرهام، نورث كارولينا 1995
القيظ والغيظ في يونيو 2002
أمامي صحف الأحد 9 يونيو 2002 باللغة العربية ولغات أخرى، الحدث الواحد يتغير من صحيفة إلى أخرى، تتحول الهزيمة السياسية أو العسكرية إلى نصر عظيم، ويتحول القزم إلى عملاق حسب موقع البلد والجريدة، إلا أن صورة الرئيس الأمريكي «بوش» وصديقه الإسرائيلي «شارون» تحتلان المساحات الأكبر، فيما عدا الصحف العربية، حيث تشغل الصفحة الأولى صورة صاحب الجلالة أو صاحب الفخامة أو صاحب السيادة.
اليوم 9 يونيو 2002، في مثل هذا اليوم منذ عشرة أعوام تم اغتيال كاتب مصري، اسمه فرج فودة، اختفى اسمه تحت الرماد والنسيان مثل كثيرين من المقتولين الذين يدفعهم حماسهم الوطني أو الديني إلى الموت، من أجل الله أو الوطن أو العدالة الغائبة، ثم يرقدون في قبورهم يطويهم النسيان.
منذ عام تقريبا كنت غائبة عن الوطن، أقوم بتدريس مادة «الإبداع الفكري» في جامعات بعيدة وراء البحار والمحيط، والعقل أو الفكر أو الإبداع لا يكون حاضرا حيث تكون الحريات غائبة.
منذ أيام قليلة عدت إلى بيتي في مدينة القاهرة، المقهورة منذ نشوء العبودية والفراعنة، رأيت الوجوه الحزينة الشاحبة، والبيوت الغارقة تحت طبقة من الرماد، والغضب المكبوت داخل الصمت أو الضجيج، كالمرجل يغلي تحت النار، ومكبرات الصوت تتفجر ليل نهار، بإيقاع الطبل في حفل زفاف، أو الآلات النحاسية في الديسكو، أو التراتيل الدينية في المآتم، والميكرفونات فوق المآذن العالية والواطئة تتنافس لإيقاظ النومى تحت وطأة القيظ، أو الموتى كمدا من شدة الغيظ، فقد صدرت الجرائد الصباحية بالخبر المغيظ، لا نعرف إن كان نصرا أم هزيمة: «تطابق الرؤية المصرية الأمريكية»؛ أي رؤية؟ وأي تطابق؟
أمامي الجريدة باللغة العربية تعلن أننا حققنا نصرا عظيما في المفاوضات مع الرئيس الأمريكي، وأمامي الصحف بلغات أخرى تقول إن لا شيء تغير في الموقف الأمريكي، وأن «بوش» يرفض الالتزام بأي جدول زمني لنشوء الدولة الفلسطينية، وأنه يستمر في الرؤية المغلوطة؛ التي تجعل الضحية المقتولة من الشعب الفلسطيني هي الجانية الإرهابية المسئولة عن العنف، وأن أرييل شارون (رئيس الحكومة الإسرائيلية والمذابح الكبرى) لا يفعل شيئا إلا حماية الأمن والمطالبة بالسلام.
في الصور الداخلية نرى الدبابات تجتاح المدن والقرى الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، تهدم البيوت وتقتل النساء والرجال والشباب والأطفال، تدفنهم أحياء في قبور جماعية، ويرفض شارون قرار مجلس الأمن بالتحقيق في هذه المذابح، ويعلن «بوش» براءة «شارون» دون تحقيق، ويوجه الإدانة إلى الأطفال والبنات الفلسطينيات اللائي يفجرن أجسادهن بالديناميت من شدة الغيظ والكمد.
ويمتد الغيظ والكمد إلي وأنا جالسة في بيتي في القاهرة، يزيد منه القيظ في يونيو، والإحساس بالعجز في مواجهة السلاح الأمريكي والإسرائيلي النووي، كيف تحولت دولة إسرائيل إلى ترسانة نووية، وكيف تحولت بلادنا إلى شعوب يائسة تعاني الفقر والبطالة، لا تتغذى إلا بمكبرات الصوت، تنقل الخطب السياسية والدينية؟
أليست هي سياسة الحكومات المتتالية في بلادنا تحت الرعاية الأمريكية؟! وأين هي المعارضة أو الأحزاب الأخرى غير الحكومية؟ هل عادت إلى بطن الحكومة كما خرجت منها منذ ربع قرن؟ وهل يمكن للغازات المسيلة للدموع أن تقضي على الثورات الشعبية؟!
تطالعني الأنباء في الصحف وأنا أكتب هذه الكلمات، أقاوم الحزن كلما تطلعت إلى وجوه الشباب والشابات في بلادنا، آلاف العقول المعطلة بلا عمل، بلا فكر ولا إبداع ولا أمل، إلا الهجرة إلى بلاد غنية بالنفط أو الهامبورجر، آلاف الرءوس المحجبة والعقول، والعيون المتطلعة إلى بارقة أمل دون جدوى، وأدرك الصلة الوثيقة بين الحجاب الديني والسياسي، وبين الختان العقلي والجسدي، وبين القوى المحلية والدولية، وبين الاستعمار القديم والجديد، وتلك الكلمة المتداولة حديثا «العولمة»، وكم من كلمات جديدة للتغطية على الحقيقة المؤلمة، كم من كلمات غامضة مراوغة مزدوجة المعاني، توحي بالتقدم نحو الإنسانية العالمية ثم تأخذنا إلى الوراء لنعاني المزيد من الفقر والقهر تحت نير الفتن والحروب العسكرية والدينية.
تلعب العولمة الحديثة دورا مزدوجا، فهي تكسر الحواجز بين البلاد من أجل تسهيل التجارة الحرة في السوق، وهي حرية العبيد في الخضوع لأصحاب المال والسلاح والإعلام، حرية الدول الإرهابية النووية في قلب الحقائق، وإخفاء الصراعات حول المال والنفط والأنابيب والتجارة بأجساد النساء والأطفال، تفوقت أرباح التجارة العالمية بالدعارة الجنسية، وزادت عن سبعة ملايين دولار أمريكي سنويا، حسب تقارير الأمم المتحدة لعام 2000 (Refugees-UN-HCR-vol, 2. no. 119, 200)
تساوت أرباح الرأسمالية الدولية من بيع الكتب الدينية والأحجبة النسائية مع أرباح بيع أدوات الزينة والكحل والرموش والأعضاء الجنسية الصناعية والأفلام الأمريكية والعقاقير المخدرة.
أصبحت أجساد البنات الصغيرات مثل السمك أو اللحم المعلب في سوق العولمة الرأسمالية، تقوم الدول العظمى والشركات الكبرى عابرة القارات بدور «القواد» في الماضي القريب، وتشحن البنات الفقيرات من أجل الخدمة في البيوت أو الإمتاع الجنسي للذكور الكهول الأثرياء، الذين ينفقون أموالهم في شراء حبوب الفياجرا أو غيرها، ارتفعت أرباح العولمة الرأسمالية مثل النساء، وإن اختلفت شكل أو درجة المعاناة، ويمرض الرجال بالقلق لفقدان الانتصاب الجنسي، بمثل ما تمرض النساء من انقطاع الطمث، هذا فيما يخص رجال ونساء الطبقات الوسطى العليا، أما الرجال والنساء من الطبقات الدنيا فلا شيء يشغلها إلا البحث عن عمل يسد الرمق.
ويلعب الإعلام العولمي دوره في إخفاء الحقيقة، وتحويل الصراعات حول ماديات الحياة إلى صراعات روحانية بين الأديان أو بين الحضارات، يروج لها المفكرون والصحفيون من أتباع الرأسمالية المحلية والدولية، وكيف يمكن لجماهير القراء في مختلف البلاد أن يخترقوا هذه العبارات المتراكمة من الكذب والالتواء، وهذه الكلمات المراوغة غير المحددة المعنى، مثل إعلان الرئيس الأمريكي «بوش» عن إنشاء دولة فلسطينية دون تحديد متى وأين تكون هذه الدولة، وكأنما هي مجرد قصر يبنى في الهواء، أو في جنة الخلد، هذا الخداع المزمن منذ نشوء العبودية لإقناع المقهورين والمقهورات بالتعويض عن آلامهم فيما بعد الموت.
إنه الأمل الكاذب أو الوهم، ويختلف عن الأمل الحقيقي الذي ينبع من العقل والوعي، وإبداع الأفكار والوسائل لمقاومة الاستغلال والخداع والقهر.
وتؤدي «العولمة» كما أدت «التنمية» إلى مزيد من الفقر للفقراء، ومزيد من القهر للنساء، وأدى ما سمي ب «الإصلاح الاقتصادي» إلى النتيجة نفسها، وتصبح النساء الفقيرات في أي بلد هن الضحايا وكبش الفداء أو «الصيد السهل» في أية أزمة عسكرية أو اقتصادية، وهل ننسى صور النساء الفلسطينيات الهالكات بجوار حطام بيوتهن وجثث أولادهن وبناتهن، وهل ننسى صور النساء المقتولات تحت اسم الشرف والأخلاق أو الدين في أفغانستان وإيران والأردن والجزائر والسودان ومصر وغيرها؟ وتتعدد أسباب القتل للنساء في أوقات الحرب أو السلم، وقد تقتل المرأة نفسها لمجرد الخلاص من الألم أو الهوان في ظل زوج طاغ أو احتلال أجنبي.
وقد حل الإرهاب الإسلامي محل الإرهاب الشيوعي في عصر العولمة أو الاستعمار الجديد، وأصبح السلاح الديني أشد فتكا بالمقهورين والمقهورات من السلاح العسكري، وأقل تكلفة، يكفي طبع وتوزيع الكتب الدينية مع إعادة تفسيرها بما يخدم مصالح النظام الطبقي الأبوي الممتد منذ العبودية إلى يومنا هذا تحت أثواب وألوان جديدة.
وأصبحت التيارات الدينية الإسلامية أو المسيحية أو اليهودية أو الهندوكية أو غيرها، والتي عرفت باسم «التيارات الأصولية» هي الوجه الآخر الديني أو الثقافي للعولمة الاقتصادية الرأسمالية.
أصبح تحجيب النساء تحت اسم الدين أو الأخلاق هو الوجه الآخر لتعرية أجسادهن تحت اسم التجارة في السوق الرأسمالية الحرة.
ودخلت العولمة شركات جديدة لبيع المواليد في سوق التبني الدولية، وضحاياهم هم الأطفال الفقراء والنساء من مختلف الطبقات الفقيرة أو الوسطى، وكم من امرأة بلا أطفال دفعت لهؤلاء التجار مقابل الحصول على طفل أو طفلة، وكم من امرأة فقيرة مثقلة بالحمل والولادة وكثرة الأطفال باعت من أطفالها لهؤلاء التجار مقابل الحصول على الطعام أو المأوى، وفي ظل النظام الطبقي الأبوي تصبح الأمومة عبئا ثقيلا على النساء الفقيرات، وحلما بعيد المنال للنساء العاقرات، وكلاهما نوع من القهر والإذلال.
إنها أنواع من التجارة الجديدة في السوق الرأسمالية القائمة على الربح؛ والتي يسمونها السوق الحرة، وهي حرية العبيد في بيع أطفالهم من أجل سد الرمق، هي حرية الأمهات المكلومات في البكاء والولولة على ضياع أطفالهن أو تحطيم بيوتهن، وقد أصبح «الفقر مؤنثا» حسب تقارير الأمم المتحدة، وتدفع النساء في العالم ثمن الفشل في المشاريع الحديثة أو ما تسمى «التنمية»، وتدفع النساء عبء الديون الخارجية والداخلية الناتجة عن سياسات البنك الدولي وصندوق النقد ومنظمة التجارة العالمية وغيرها، ألهذا السبب تزايدت أعداد النساء والمنظمات النسائية المشاركة في المظاهرات العالمية ضد العولمة ؟
وكم شهدنا من المظاهرات الجديدة التي شملت النساء والرجال والشباب والأطفال من مختلف البلاد، أشهرها المظاهرة الشعبية في مدينة سياتل في نهاية عام 1999، ومن بعدها لم تكف هذه المظاهرات الشعبية في عواصم العالم ضد المؤسسات الاقتصادية للرأسمالية الدولية.
وقد اشتركت في بعض هذه المظاهرات خلال الشهور الماضية، منها مظاهرة بورتر أليجري في فبراير 2002، ومظاهرة برشلونة في مارس 2002، ومظاهرة واشنطن في أبريل 2002، حيث التحمت المظاهرة ضد العولمة مع المظاهرة المؤيدة لحقوق الشعب الفلسطيني؛ ولذلك في مظاهرة لندن في مايو 2002، وغيرها من المظاهرات التي تابعت أحداثها في الصحف، مما يؤكد أن الشعوب المقهورة قادرة دائما على الثورة والمقاومة، وأن الأمل النابع من هذه المقاومة والحركة لا يمكن أن ينطفئ، وأن الانتصار على الظلم والقهر سوف يتحقق للشعوب المناضلة من النساء والرجال والشباب والأطفال.
إن الأمل «قوة» تنتشل البشر من اليأس أو الحزن الناتج عن عدم الفعل، هذا الأمل هو الشعلة الجديدة التي يحملها الآلاف من النساء والرجال في المظاهرات العالمية والمحلية، وفي التنظيمات السياسية الجديدة التي تلغي الفوارق بين البشر، وتكسر حواجز اللغة والدين والجنس والجنسية والعمر والعرق واللون والمهنة وغيرها، هذه الفوارق المصنوعة بين الناس من أجل تقسيمهم حتى يسهل التحكم فيهم، حسب المبدأ الاستعماري المعروف: «فرق تسد.»
هذا الأمل الجديد هو العمل السياسي المنظم داخل كل بلد، وهذا الوعي المتزايد بضرورة التوحيد بين الشعوب في مواجهة الحكومات الطاغية في الغرب والشرق والشمال والجنوب، والكشف الدائم عن الترابط بينهم، إنها حركة شعبية محلية وعالمية في آن واحد تنبئ بعالم جديد يبتدي في الأفق.
من وحي صحف 5 يونيو 2001
الذكرى الرابعة والثلاثين للهزيمة
توقفت عيناي على صورتها المنشورة؛
السيدة الرقيقة ذات العقل والجمال والفضيلة،
ترتدي التيجان الثلاثة فوق شعرها المصفوف بعناية فائقة،
والمكياج المتقن إلى حد الشفافية.
جالسة في وقار مضمومة الركبتين في الصف الأول
بين أصحاب السمو أمراء النفط ورجال الأعمال والمال والعولمة،
وهي المرأة الوحيدة بينهم
تحمل لقب الأميرة والعبقرية الفريدة،
الحاصلة على كل الجوائز في الشعر والأدب والعلم،
ورثت عن أبيها أو زوجها رصيدها في البنك،
والخدم والحشم وقصر الشتاء والصيف،
تنتقل بطائرتها الخاصة ما بين الخليج والمحيط،
ليس لديها عمل داخل البيت أو خارجه
إلا الاستهلاك والصرف على أدوات الزينة المستوردة،
والكحل واليشمك أو الحجاب الشفاف لإثبات الهوية
والخصوصية الثقافية واحترام التراث والقيم،
وكل هذا جائز ومشروع
طالما العقل العربي مقموع.
ثم قلبت الصفحة إلى صفحة أخرى في الجريدة،
توقفت عيناي على صورة امرأة في صفحة الحوادث،
محكوم عليها بالكفر والفسق والرذيلة
تحمل الأحكام الثلاثة فوق رأسها ثقيلة،
أثقل من براميل النفط والخطيئة الأنثوية الأولى
واقفة وراء التخشيبة بين أصحاب السوابق وجرائم الرأي،
والشباب العاطلين بلا عمل ولا أمل،
تنتقل من سجن إلى سجن مكتوفة اليدين مكتومة الصوت،
يتبارى الرجال في قذفها بالحجارة،
وأصحاب الأقلام المدفوعة الأجر
في الصحف الصفراء والخضراء والزرقاء والحمراء،
يأكلون لحمها أو يشاركون في الصمت،
ثم يهرولون إلى حيث السلطة تكون،
يجلسون في الصفوف الأولى يبربشون،
وبالقضايا الوطنية يجعجعون،
أو قضايا أخرى في الصين واليابان،
والدماء أمام عيونهم تسيل
في الشوارع والأزقة والبيوت المهدومة،
شباب ونساء وأطفال بلا مأوى يموتون،
وهم عن الجعجعة لا يكفون،
والطنطنة والنميمة وتبادل السباب وإصدار الأحكام
ضد كل من خالفهم الرأي.
وفي الصفحة الأخيرة كان الإعلان عن الغسول الأمريكي الجديد منعا لسقوط الشعر، والحجاب المستورد الأنيق درءا للفتنة، ثم الإعلان عن تأسيس المؤسسة الكبرى للفكر العربي الأصيل برأسمال عشرين مليون دولار.
أمي المثالية
لماذا غمرني هذا الهدوء الغريب، كالشعور الذي يسبق فقدان الوعي، عند تلقي ضربة مفاجئة على الرأس؟ أطفئ النور وأتمدد فوق السرير، أغمض عيني وأروح فيما يشبه الغيبوبة، كم مرة في حياتي تخيلت هذه اللحظة حين يصبح الوهم حقيقة مادية أحسها في جسدي، وليس فكرة مجردة يطردها عقلي كأنما لن تحدث أبدا.
بالأمس احتفلت وحدي بعيد ميلادي الخمسين، الرقم يرن في أذني غريبا! خمسين؟! لا يصح للمرأة أن تبلغ الخمسين دون أن تكون جدة، تزوجت وأنجبت أولادا وأحفادا، وذهبت إلى الحج لتكفر عن ذنوبها وعادت تحمل لقب «حاجة ».
وأنا لم أتزوج ولم أنجب ولم أذهب إلى الحج، وإن ناداني أحد في الشارع «يا حاجة» أصحح الخطأ بصوت غاضب: «أنا مش حاجة.» وحين يناديني أحد في النادي الرياضي ويقول: «يا مدام.» أصحح الخطأ بصوت غاضب أيضا وأقول: «أنا مش مدام.» وقد يسألني أحد بالصفاقة التي يخاطبون بها النساء في سن الخمسين: «وماذا تكونين يا مدام؟» وأقول بغضب: «أنا أستاذة محامية!»
كل شيء في حياتي يبدو غريبا لأني امرأة لم يشغل حياتها رجل، لم يشغلها الجنس ولا الشهوة ولا الزواج، امرأة عفيفة طاهرة، بلغت الخمسين دون أن يترهل جسدها، دون أن تظهر التجاعيد على وجهها وبطنها المشدود، خطواتها فوق الأرض سريعة نشيطة، عيناها مملوءتان بالبريق والسعادة، امرأة بلغت الخمسين تبدو شابة في الثلاثين أو حتى العشرين، لم يكسر قلبها رجل، تحاول من خلال المحاماة أن تحقق العدل، كان لها مكتب في شارع صغير متفرع من ميدان التحرير، تلجأ إليها النساء المكلومات والمضروبات والمهجورات والمطلقات والمخدوعات والباحثات عن العدالة، كانت العدالة عمياء بلا عيون مثل كائن يضرب في الظلام.
كنت طفلة في السادسة من عمري حين تزوج أبي امرأة أخرى دون أن تعرف أمي، طلب مني ألا أقول الحقيقة، عودتني أمي على الصدق، قلت لها: أعطاني أبي علقة ساخنة وطلق أمي عقابا لي، أصبحت أعيش معها بلا أهل ولا معاش، كانت أمي من أجل أبي قد تركت أهلها وعملها، فقدت وظيفتها بالشهادة العليا ولم تستطع العودة إليها بعد الطلاق، اشتغلت أمي عاملة نظافة، لم يعد لحملة الشهادات العليا قيمة، أصبحوا من عمال النظافة وهو مجال غير نظيف، لكن أمي لم يكن يهمها إلا أن تعيش ابنتها حياة نظيفة، وإن توسخت هي، لا شيء يبقى من الوسخ بعد الغسيل.
تقدم لأمي رجال يطلبون الزواج منها، رفضتهم دون أن يطرف لها جفن، كان شرط الزواج أن تتخلى عني، لا يطيق الرجل أن يشاركه أحد قلب زوجته وإن كانت فلذة كبدها. أدخلتني أمي المدرسة والجامعة، عشنا في حي نظيف تسكنه العائلات حيث يكون الأب هو المسئول عن الإنفاق، تكذب أمي على الناس وتقول أبي ينفق علينا، وأنه رجل مستقيم لم يطلقها ولم يتزوج عليها دون أن تعرف، وتقول أمي للناس إنها موظفة في الحكومة، تتقاضى راتبا كل شهر مثل الموظفين، وكانت أمي موظفة فعلا لكن تحت كادر العمال الأدنى، تشتغل ضعف الساعات التي يشتغلها الموظفون من الكادر المتوسط، وتحصل على نصف ما يحصلون عليه.
في الليل تعود أمي إلى البيت منهوكة القوى، وتخرج عند الفجر وأنا نائمة في الفراش، تجهز الطعام فوق المائدة، اللبن الحليب الدافئ في الصبح مع عسل النحل وفطيرة ساخنة في الفرن، أقضمها بأسناني وأبكي كأنما أقضم على جسد أمي المنهوك، لا أعرف كيف أرد لها الجميل، وهي لا تطلب مني أي رد، تفرح بنجاحي كل سنة كأنه نجاحها، وحين تقدم أحد الأساتذة ليتزوجني أشرق وجهها، تزوجي يا ابنتي واسعدي في حياتك. قلت: كيف أتزوج يا أمي وأتركك أنت التي رفضت الزواج وعشت من أجلي، كيف أتركك يا أمي؟ من يرعاك في الليل إذا مرضت؟ كم سهرت إلى جواري وأنا مريضة؟ كيف أتركك وحدك وأعيش مع رجل؟ قالت أمي: ستعيشين مع الحب يا ابنتي والزواج ويكون لك أسرة، وأنا سوف أموت يوما وتصبحين وحدك. قلت: يا أمي أنت شابة في الأربعين وسوف نعيش معا حتى يأتي رجل غير أناني ويقبل أن تشاركينا الحياة. قالت أمي: يا ابنتي لا يقبل الرجال الأساتذة أن يعيشوا الحياة مع الزوجة وأمها، فتزوجي يا ابنتي ولا تفكري في. قلت: يا أمي كيف لا أفكر فيك وأنت لم يشغلك في حياتك إلا أنا؟ أين العدل وأين المنطق يا أمي؟ قالت: يا ابنتي إن الحياة غير منطقية وغير عادلة وإلا ما فعل أبوك ما فعل، وليس هو الرجل الوحيد الذي يفعل ذلك، كثيرون من الرجال يا ابنتي يفعلون ذلك. قلت: إنه القانون غير العادل يا أمي وليس الحياة؛ لهذا سأبقى معك وأعيش من أجلك كما عشت من أجلي. قالت أمي: يا ابنتي على الأم أن تعطي حياتها لأولادها وبناتها، وليس عليهم أن يعطوا حياتهم للأم . قلت: يا أمي هذا ظلم لا أقبله، لقد آمنت بالعدل الذي هو الله، ولا يمكن أن أتخلى عنك من أجل رجل.
كان ذلك وأنا طالبة بكلية الحقوق، وتقدم لي أساتذة آخرون يرغبون في الزواج، لكن ما إن أذكر أمي حتى يتلاشوا، أدركت أن الحب وهم، والزواج وهم، والأسرة وهم، ولا شيء حقيقي إلا أنانية الرجل، عرفت هذه الحقيقة وأنا في السادسة من العمر حين تركني أبي مع أمي وتزوج امرأة أخرى، فتحت عيني في الصباح فلم أجد أبي، اختفى من حياتنا كما يختفي الوهم، الزواج والحب والأسرة والأبوة، وكل شيء من هذه الأشياء ليس إلا خيالا يتبدد في لحظة خاطفة، وتجد المرأة نفسها وحيدة ولا شيء يضمن لها الحياة النظيفة إلا عمل نظيف.
جاءت أمي ذات ليلة منهوكة القوى بللها العرق والدمع؛ تم الاستغناء عنها مع عدد من عاملات النظافة، زاد الإنفاق الحكومي على الحفلات وتعليق الزينات في أعياد النصر وسفر الكادر الأعلى إلى الخارج، ولم تعد الميزانية تكفي أجور الكادر الأدنى، لم أكن تخرجت بعد في كلية الحقوق، وأصبحنا بلا معاش، وأسمع أمي تبكي وأنا نائمة، وفي ليلة تحول بكاؤها إلى صوت غريب أشبه بحيوان جريح، ونهضت من فراشي حافية أمشي على أطراف أصابعي، رأيتها في الصالة عارية مستلقية تحت جسد غليظ يطأ جسدها المنهوك بعنف غريب كأنما هي ممسحة بلاط، وفي الصباح ناولتني الورقة ذات العشرة جنيهات، لأدفع القسط الأخير من مصاريف الكلية.
كانت ورقة مهلهلة غير نظيفة تفوح منها رائحة عرق وتعب وبصمات دم قديم، أخفيتها داخل ورقة نظيفة من كشكول المحاضرات، لم ألمسها بيدي، كأنما في لحظة التلامس ستنتقل إلي عدوى مرض جلدي، خبأتها داخل حقيبتي الجلدية بين الكشاكيل، ثم تخلصت منها في مكتب شئون الطلبة، ألقيت بها في يد الموظف المسئول وسددت القسط الأخير، أحس بخزي غريب يغمرني، كالشعور الذي يسبق فقدان الوعي بعد ضربة فوق الرأس، أمشي بين زميلاتي في فناء الكلية منكسة صامتة لا يصدر عني صوت، أقول لنفسي: سأطوي السر في طيات أعماقي العميقة بحيث لا يصل إليه إنس ولا جن. كم فكرت بلحظة كهذي منذ سمعت بكاء أمي في الليل، كنت سأواجه اللحظة حين تأتي، ها هي تأخذني على حين غرة، كنت واثقة أن أمي شريفة أشرف امرأة في العالم، منذ تركنا أبي لم أشعر أنها شريفة كما أشعر الآن، أكتم الصوت في أعماقي الذي لا يريد أن يهتف ويقول: أمي أشرف نساء العالمين مثل العذراء مريم. أضغط بيدي على فمي حتى لا يخرج صوتي، زميلاتي مشغولات عني بحكايات عن الحب والرجل والزواج، تشع عيونهن ببريق الفرح والأمل، أكاد أقول إنه الوهم ولا شيء إلا الوهم لكن صوتي محبوس، أنسحب من بينهم وأختفي في دورة المياه، أعود إلى البيت مبكرا وألوذ بالصمت، أعرف أني سأستيقظ في الليل كما أفعل حين أخفي شيئا، يدق قلبي خوفا من تلك اللحظة، أنام نوما متقطعا مليئا بالأحلام المخيفة، أستيقظ، أنظر إلى الساعة فوق معصمي، منتصف الليل إلا خمس دقائق، أتمدد على ظهري وأغمض عيني، أسمع صوت بوق سيارة في الشارع وفرملة شديدة، واصطدام شيء؟! أنتفض من الفراش، أتكون هي أمي؟ أمشي حافية إلى غرفتها، سريرها يخلو منها كأنما راحت ولن تعود، قلبي يغوص في أعماقي، والسؤال الذي أخفيته يطفو إلى سطح الوعي، إذا كانت أمي فماذا أفعل؟ أسمع دقات قلبي، أمنع نفسي من التفكير، السؤال يلح علي، أحاول التنفس العميق المنظم، أعد على أصابعي واحد اثنين ثلاثة، كأنما سيحدث شيء قبل أن أصل إلى رقم عشرة، أسقط في غيبوبة النوم، أسمع الصوت الغريب، أنين الحيوان الجريح، أنهض من الفراش حافية أمشي على أطراف أصابعي، رأيته في الصالة عاري، إنه أبي بجسده الضخم، عنقه الغليظ من الخلف، شعره الأسود المجعد، راقد فوق فتاة ليست أمي، يطأ جسدها المنهوك بعنف غريب كأنما هي ممسحة بلاط، أمسكت السكين من المطبخ، رفعته إلى أعلى ما أستطيع وهويت به على عنق أبي من الخلف، أصحو من النوم مبللة بالعرق، يداي غير ملوثتين بالدم ، كم مرة رأيت هذا الحلم منذ طفولتي ، رأيته المرة وراء المرة، مائة مرة، ألف مرة منذ تركنا أبي.
أختفي تحت الأغطية أرتجف كأنني مصابة بالحمى، أسقط في غيبوبة النوم ثم أصحو، الساعة الواحدة صباحا، أتذكر فيلما رأيته الشهر الماضي، كان الابن يعيش مع أمه، أبوه طلق أمه ليتزوج امرأة أخرى، اشتغلت أمه عاملة نظافة لتدفع له مصاريف المدرسة، وطعامه وملابسه وحذاءه الجديد بدل القديم المهترئ، رفضت الزواج وعاشت من أجله، تعرضت للهوان لتضمن له الكرامة، تلاشى كل ذلك كأن لم يكن، أمسك السكين وقتلها حين رآها مع رجل.
أختفي تحت الأغطية أرتجف كأنني مصابة بالحمى، أغمض عيني وأمنع نفسي من التفكير، أعد على أصابعي واحد اثنين ثلاثة، كأنما سيحدث شيء قبل أن أصل إلى رقم عشرة، كأنما سيتفكك عقلي إلى ذرات مبعثرة فوق الوسادة، كأنما السكين في يد الابن يقطع جسدي أنا، بقع دم أراها في الفراش، هل اقترفت الجريمة وأنا نائمة؟
أسناني تصطك ودقات قلبي تتصاعد، لا أعرف الحلم من الحقيقة، لا أعرف هل أنا القاتلة أم المقتولة، أنشج بلا صوت في صمت الليل، لا أريد العطف من أحد أو الإشفاق، لا أريد الإدانة ولا أريد البراءة، ولا الاحترام ولا الاحتقار، لا أحد يستطيع مساعدتي في محنتي، لا أحد يقتسم الألم في جسدي.
أسمع صوت المفتاح يدور بالباب، أرهف السمع لوقع القدمين الحافيتين على بلاط الصالة، هل خلعت أمي حذاءها لتذوب في الصمت؟ أخفي رأسي تحت الغطاء، أنا الآن في الوضع الذي كان فيه الابن، أسمع الأنين المكتوم في صدر الحيوان الجريح، واصطدام الجسدين بالأرض، لا أكاد أميز صوت الرجل من صوت أمي، ألغي عقلي المصنوع بكلام الناس، أحاول إلغاء اللحظة الراهنة واستبدالها بلحظة أخرى زال عنها العار، كلمة العار تخرق أذني كالسيخ المحمي في النار.
الألم! الألم يسري في عقلي، يفككه، يعيد تفكيكه، يصبح عقلا آخر، أكثر صفاء، عقلا مولودا نظيفا، أغفو عند الفجر ثم أستيقظ، ضوء الشمس يبدد الظلمة، أسمع صوت أمي يناديني لأشرب حليب الصبح، اليوم أول الربيع، وعيد الأم، أنا الآن عند لحظة الحقيقة، أقوم إلى الحمام، أنظر في المرآة، تطالعني العينان المليئتان بضوء الشمس.
القاهرة 1999
16 قصيدة صغيرة
(1) هنالك رجل
هنالك رجل تتهافت عليه النساء،
يكتب كل يوم في الجريدة الكبرى عمودا،
يحمل لقب الكاتب الكبير أو المفكر أو خلافه،
تظهر صورته داخل البرواز يبتسم أو يكشر
بالوجه أو بالبروفيل.
يبلغ الهاوية بعد الهاوية حين يعلو،
يقتل فينا الضحية ويكافئ الجاني،
يمشي وراء الأباطرة مثل النعامة
أو الحمل الوديع.
يحفر في التاريخ اسمه واسم أبيه وجده،
قال لي يوما: أحبك.
قلت له أظهر ما عندك،
ولم يكن عنده شيء
إلا ذلك الذي بين الفخذين.
القاهرة 1975 (2) نصف رجل
صديقتي زوجة لرجل له زوجتان،
يقسم حياته بينهما بالعدل والقسطاس؛
نصف لصديقتي والنص الآخر للمرأة الأخرى،
وجاءني رجل متزوج وقال لي أحبك.
قلت ماذا تريد؟
قال زوجة شرعية على سنة الله والرسول.
قلت أنا امرأة كاملة ولا أقبل نصف رجل.
امتقع لونه واتهمني بالكفر،
صوب مسدسه نحو رأسي قائلا:
الموت لمن لا تعرف الله.
صوبت مسدسي نحو رأسه وقلت:
الموت لأنصاف الرجال؛
هكذا تراجع وعاد إلى زوجته.
القاهرة 1963 (3) الذين رأوا الله
قال أحد الحكام إنه رأى الله.
رد عليه أحد منافسيه قائلا:
أنا رأيت الله قبل أن تراه أنت.
رد آخر ينافسهم الحكم:
بل أنا الذي رأيته قبلكم؛
أمسكوا بتلابيب بعضهم البعض،
كل منهم يصرخ أنا رأيت الله قبل هذا المدعي.
قلت كلهم يدعون رؤية الله وما رآه أحد.
قالوا ألم ير الله أحد؟
قلت: بل أنا رأيته في طفولتي وأمي رأته في شبابها وجدتي رأته في كهولتها.
قالوا: كلامك كفر؛ فالله لا يظهر للنساء.
القاهرة 1977 (4) مكافأة الجاني وعقاب الضحية مرتين
كان يشتهي فتاة صعبة المنال،
لها عقل في رأسها تعتز به أكثر
من أي شيء في جسدها.
تعقبها حين خرجت من باب المدرسة
وخطفها مع ثلاثة آخرين،
في منزل مهجور اغتصبوها واحد وراء الآخر،
ثم ألقوها في الطريق،
أصدرت المحكمة قرارا بإعدامهم الثلاثة؛
إلا أن واحدا منهم تقدم للزواج منها.
هكذا عوقبت الضحية مرتين وكوفئ الجاني،
وأطلق سراح الثلاثة دون كفالة؛
حسب المادة 291 من القانون الحالي.
القاهرة 1998 (5) المحرم
كان مثل الأزواج سريع الغضب،
يقذف في وجه زوجته يمين الطلاق بلا سبب،
أو لأن رئيسه في العمل شخط فيه،
يصرخ بأعلى صوته طالق طالق طالق،
تصبح زوجته طالقا بحسب القانون،
ثم يعيدها إليه حين يروح مزاجه،
أو حين يبتسم الرئيس في وجهه،
وفي مرة أراد إعادتها فوقف المشرع ضده.
لا يا أخ لا يمكن إعادتها إليك دون محرم عقابا لك على سرعة الغضب.
سألت المرأة لماذا أنام مع رجل آخر لا أريده؟
هذا عقاب لي وليس لزوجي؛
أنا التي ستنام معه وليس زوجي،
إلا أن المشرع لم يكن يسمع ما تقوله المرأة.
القاهرة 1976 (6) امرأة مختلفة
أنا امرأة كاملة الأنوثة،
لا أخضع لقانون الطاعة،
لا أنتف حاجبي،
لا أتكحل ولا أتأرجح،
فوق كعبي.
كلمتي شرف لا أخون العهد،
أستقبل أول شعاع في الصبح،
أشرب فنجان قهوتي،
وأكتب قصيدتي،
ثم أمشي في المدينة قبل غروب الشمس،
أحمل شمعتي؛
أبحث عن شخص واحد يصون الوعد،
يأتي في موعده ولا يتأخر،
ولا يتخلف مثل بقية الناس،
لا يقف مكتوف اليدين،
ولا يطأطئ الرأس
أمام الرئيس.
القاهرة 1983 (7) لصوص الشرف
لصوص الشرف رجال لا حديث لهم
إلا عن الشرف.
يمارسون الجنس داخل الزواج وخارجه
ويدعون الشرف.
يخونون زوجاتهم مع زوجات أخرى،
وعشيقات وجواري سوداوات وخادمات،
وأجنبيات بيضاويات وسكرتيرات،
ثم يدعون الشرف والولاء
للوطن،
ولا أحد يعاقبهم؛
لأن القانون معهم
والشرع والدستور.
القاهرة 1990 (8) تحت عيون الجميع
كان لي طفلة اسمها شجاعة،
تركتها مريضة في بغداد،
ترتجف في برد الشتاء،
بلا غذاء ولا دواء ولا غطاء.
فتحت الصحف بالأمس،
رأيت الأمريكي المريض بالجنس،
يتهمها بعدم الطاعة
لقانون الشرعية الدولية وقرارات الأمم المتحدة،
ومجلس الأمن ولجنة التفتيش.
ضربها بصاروخ كروز،
تحت عيون الجميع،
يتابعون المشهد بقلق.
حكامنا العرب
يتقابلون في السر مع القوى العظمى،
ويأخذون المعونات؛
كالشحاذين،
وأنا مربوطة في سريري بالقيود،
منزوعة السلاح مكتومة الصوت،
وطفلتي شجاعة تموت
تحت عيون الجميع.
القاهرة 1991 (9) حكام العرب
أشعر بالخزي حين أراهم جالسين مؤدبين،
أمام رؤسائهم خارج الوطن؛
كالبنات العذراوات يبتسمون في حياء وخفر،
يسمعون الكلام يطيعون لا يرفعون الصوت
إن تكلموا.
لا يرفعون الساق إن جلسوا،
وإن وقفوا يضعون أيديهم معقودة فوق قلوبهم،
وإن عادوا إلى الوطن تنمروا.
يرفعون عقيرتهم من خلال الأبواق ومكبرات الصوت،
يجلسون متغطرسين واضعين الساق فوق الساق،
يكاد كعب حذائهم أن يخرق عين الجالس،
عن يمينهم أو عن يسارهم.
يحمل الواحد منهم لقب خادم الشعب،
وهو ليس إلا
جلاد الشعب.
القاهرة 1993 (10) حكام العرب مرة أخرى
رجال في أبهى الثياب لا يجمعهم أحد إلا الرئيس الأمريكي؛
إلا الرئيس الأمريكي،
يحرضهم بعضهم على بعض،
يدخلون الحرب معه ضد بعضهم البعض،
وضد شعوبهم،
تحت اسم الشرعية الدولية أو الديمقراطية،
يدفع لهم لإسقاط بعضهم البعض،
يورطهم في خطته تحت وهم المعونة؛
يتنافسون لإرضائه وتجويع بلادهم،
وترويع رجالهم ونسائهم؛
يندمون بعد فوات الأوان،
يعقدون اجتماعا تحت اسم
القمة العربية،
ثم يذهبون من حيث أتوا،
وتتكرر القصة.
القاهرة 1999 (11) قالوا لنا إنك عورة
أمنا التي ولدتينا وأطعمتينا ودفعت حياتك
بلا مقابل كي نعيش،
كوني رحيمة بنا لأننا تخلينا عنك؛
لأننا ضعفنا أمام سلطة أبوية لا ترحم،
وسلطة الدولة الأكثر قسوة،
ورجال العائلة الواحد بعد الآخر،
طمسوا جميعا اسمك من ذاكرتنا،
أرادوا أن ننساكي إلى الأبد،
ولا نفخر بك،
ولا يشرفنا أن نحمل اسمك.
قالوا لنا إنك عورة،
يجب أن تختفي عن الأعين،
وحرمة يجب ألا يكون لها صوت.
لقد ضاق هذا الكون الواسع بوجودك يا أمنا،
مع أنك أصل الوجود.
خذينا إلى حضنك الدافئ الحنون،
إلى أول قطرة ماء وأول قضمة خبز،
إلى كلمتك الأولى عن الحب والعدل،
بعدها أصبحت الكلمات خناجر تغتالنا الواحد وراء الآخر.
القاهرة 1984 (12) الإثم المعلق في التاريخ
في شهادة ميلادي كتبت أمي اسمي
حواء.
قال لأن كل شيء حي يخرج من حواء؛
لأن الفضيلة والشرف والخير يخرج من حواء،
لأن حواء هي الأولى التي ذاقت طعم المعرفة،
ولأن زوجها آدم تخلف عنها،
ولم يذق من المعرفة شيئا إلا بعدها،
وبعد أن ألحت عليه وشجعته.
لولا حواء ما جاءت الإنسانية،
وما جاءت المعرفة.
لماذا إذن تلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه،
بالمفرد وليس بالمثنى ليشمل حواء معه؟!
القاهرة 1991 (13) من وحي قرار شيخ الأزهر «عمليات إعادة العذرية شرعية»
لن أعيد بكارتي
في طفولتي فقدت بكارتي،
في الحقيقة وفي الحلم فقدتها،
ومن ذاكرتي خلعتها.
بدأت أبتسم لإشراقة الشمس كل صبح،
أكتب قصيدتي وأنشرها على الناس،
أعزف لحني كما تعزف الطيور ألحانها؛
إلا أنهم جاءوا وسألوا:
أين بكارتك؟
قلت فقدتها في الطفولة.
قالوا سنعيدها إليك بمشرط الجراح.
قلت لن أعيدها أيها السادة،
وأترك لكم أيها السادة إن شئتم
حرية إعادة بكارتكم.
القاهرة 1999 (14) ابنة إيزيس المصرية
أنا امرأة ولدتني أمي وتركتني طفلة
تحت سيطرة الدولة،
وكان لي أب شديد العداء للملك والإنجليز،
كان له أصدقاء وزملاء شباب يهتفون
ضد النظام،
تعلمت كل كلام ضد النظام،
أصبح لي سجن بدون نافذة،
وبيت داخله رجل يشبه السجان،
ولي حلم خطفه النسر،
ولي عقلي الخاص ونجمة في السماء؛
هي نجمتي،
وشجرة أعانقها في فناء السجن،
وتعلمت أن أكسر القاعدة والمألوف،
وأخرج عن النص والموروث،
فأنا امرأة من مصر.
القاهرة 1988 (15) جدتي
كانت لي جدة في طفولتي،
تحكي أول قصص الحب،
تفتح الباب عند الفجر وتخرج عند الحقل،
تستقبل الندى على وجهها المكشوف،
تزرع وتروي وتعود تحمل المحصول،
أشم في جلبابها رائحة نوارات القطن،
وزهر البرتقال والتين والتوت،
عند الشروق تتصاعد رائحة خبزها،
وعند الغروب تملأ صحني بمرق الدجاج،
أدفن رأسي في صدري وأنام
لا أخشى الغزاة ولا أخشى الطغاة،
وأدوس بقدمي على صورة الملك،
وأهتف ضد الإنجليز.
القاهرة 1992 (16) أمي
من وضع العداوة بيني وبينك؟
من جعلني أمد بصري إلى السماء
فلا أراك؟
وأمد بصري إلى التاريخ
فلا أجدك؟
وأمد بصري إلى الدنيا والدين والدولة
فلا أعثر على اسمك؟
لما يشطبون على اسمك يا أمي؟
وإن قلت أنا ابنتك يغضبون ويقولون:
أنت ابنة أبيك تحملين اسمه من المهد إلى اللحد،
وإن طلق أمك فهو ولي أمرك؛
فالمرأة لا ولاية لها،
وإن حملت لقب الوزير أو الرئيس.
القاهرة 1997
عن الذاكرة الجمعية المفقودة
(1) مطلوب تضافر الجهود والنقد أيضا
قرأت في الأيام الأخيرة عددا من المقالات بأقلام كبيرة في صحف الحكومة وغير الحكومة، تكشف عن الخلل الكبير في العلاقات المصرية الأمريكية، وحجم خسارة مصر الاقتصادية بسبب هذه العلاقة، أو ما سميت الصداقة أو العلاقة الخاصة بأمريكا، ثم الاعتراف في الصحف الحكومية أخيرا أن ما سميت المعونة الأمريكية لم تكن إلا ستارا يتسلل تحته الاستعمار الجديد، بأشكاله المختلفة «ومنها العولمة»، أخيرا نشرت الأرقام الحقيقية للخسارة الاقتصادية التي تكبدتها مصر خلال ربع القرن الماضي منذ عام 1975، وبداية ما سمي بالانفتاح في عهد السادات.
كان معروفا على المستوى الشعبي المصري، وعلى مستوى المعارضة السياسية أن هذه العلاقة مع أمريكا سوف تؤدي إلى تدمير الإنتاج المحلي المصري، المادي الاقتصادي والثقافي والفني على حد سواء، وسوف تغرق السوق المصرية السلع الأمريكية الباهظة الأثمان والرديئة، بل والضارة صحيا، أذكر أنني نشرت في إحدى صحف المعارضة في صيف عام 1981 مقالا أشرت فيه إلى أن التسمم الغذائي للشعب المصري الذي يحدث تحت اسم الأمن الغذائي، وأن تسليح إسرائيل يتم تحت اسم معاهدة السلام، إن حمائم السلام التي يخطب عنها السادات تتخفى تحتها الطائرات الحربية والسلاح الأمريكي الجديد الذي يشحن إلى إسرائيل بما في ذلك السلاح النووي، وأن الاستبداد والعنف السياسي والديني يتخفى تحت اسم الديمقراطية وتعدد الأحزاب.
نشر هذا المقال في جريدة الشعب التي كانت تصدر عام 1981 عن حزب العمل الاشتراكي (والتي تغيرت فيما بعد وسيطر عليها التيار الديني المحافظ) أذكر أن هذا المقال ومقالات أخرى في تلك الفترة، أدخلتني سجن السادات في سبتمبر 1981، وأذكر أن المدعي الاشتراكي حقق معي في هذا المقال باعتباره مقال يضر المصالح العليا للبلاد، وأني أتآمر لقلب نظام الحكم مع دولة أجنبية هي بلغاريا.
بعد اغتيال السادات بشهرين سقطت هذه التهمة عني، وخرجت من السجن مع أكثر من ألف معارض مصري سجنوا جميعا لمجرد كشفهم للخسارة الاقتصادية أو الثقافية أو العسكرية التي سوف تتكبدها مصر من جراء تلك العلاقات المصرية الأمريكية.
وقالوا لنا لا داعي لنقد ما مضى في عهد السادات، والمطلوب تضافر الجهود من أجل مصر، وقلت وقال غيري إن نقد الماضي ضروري حتى لا تتكرر الأخطاء، وحتى يتصحح المسار، تلافيا للخسارة في المستقبل، وإن هذا النقد للماضي جزء لا يتجزأ من العمل على تضافر الجهود، والوحدة الوطنية مع الجدل والحوار واحترام للآراء المخالفة للسلطة الحاكمة.
لكن هذا لم يحدث، استمرت الأحوال كما كانت، والتف حول السلطة الحاكمة هؤلاء الذين أيدوا السادات في كل خطواته دون نقد، إنه الداء الذي ينخر في النخبة المثقفة في بلادنا، داء تأييد الحاكم في حياته والخوف من نقده، وإلا ضاعت الميزات والمناصب العالية وجوائز الدولة.
التقيت بالأمس بأحد القيادات الفكرية في بلادنا اليوم، وكان من أكبر المؤيدين للملك فاروق، ثم أصبح من أكبر المؤيدين لجمال عبد الناصر، ثم السادات، ثم مبارك، ولأن الناس في مصر تفقد الذاكرة فإن هذا المثقف يحمل لقب المفكر الكبير.
وأنا مع هؤلاء الذين يدعون إلى التسامح وتضافر القوى على اختلافها، لكني لست مع استمرار عمليات النفاق في كل عهد، وإخفاء الحقائق الهامة في كل عهد حتى يفوت الوقت وتضيع فرص الإصلاح الحقيقي.
كما أنني ضد تلميع المنافقين في كل عهد، وتهميش هؤلاء الذين يزهدون في المناصب والمزايا والجوائز من أجل كلمة حق واحدة، وهؤلاء الناس في بلادنا كثيرون إلا أنهم يتوارون بعيدا عن السلطة والأضواء بحكم الثقة في النفس والكرامة والتعفف عن المكاسب.
أكثر ما أدهشني في هذه الأيام الأخيرة التي تأزمت فيها العلاقات المصرية الأمريكية بسبب التعنت الأمريكي والإسرائيلي الواضح في مفاوضات كامب ديفيد الثانية، أن هذا التعنت معروف وواضح منذ أكثر من ثلاثين عاما، ولم نكن في حاجة إلى كامب ديفيد أخرى لنعرف أن العلاقات المصرية الأمريكية الإسرائيلية «منذ كامب ديفيد الأولى» لم يكن نتيجتها إلا الخسارة الفادحة لمصر، ليس في مجال الاقتصاد فحسب، ولكن أيضا في السياسة وفي الثقافة وفي الإعلام، وفي الأمن القومي والتسلح العسكري في الشرق الأوسط، لقد أصبحت إسرائيل هي القوة النووية العظمى في المنطقة، إنها تتفاوض معنا من منطلق القوة؛ ولهذا يضيع الحق على الدوام، وتزيد التنازلات على الدوام، حتى أصبحت كلمة الوحدة العربية كأنما هي عيب أو عورة لا يصح النطق بها.
إن حجم الخسارة الاقتصادية المصرية أصبح منشورا في صحف الحكومة مثل الأهرام، بفضل الأزمة الأخيرة في العلاقات المصرية الأمريكية، عرف الشعب المصري اليوم أن المعونة الأمريكية لمصر كانت خدعة لاستغلال مصر اقتصاديا، كانت المعونة لصالح اقتصاد أمريكا على حساب مصر، مثال واحد: أصبح العجز التجاري المصري لصالح أمريكا 75٪ من التجارة بين البلدين منذ 1974، ندفع دماءنا مواردنا وحققت أمريكا أرباحا وفائضا تجاريا بلغ أكثر من 44 مليار دولار، تكاد تبلغ ضعف المعونة الأمريكية لمصر خلال هذه المدة ذاتها.
وقد صاحب هذا الخلل الاقتصادي الكبير بين البلدين خلل في المجالات الحيوية الأخرى؛ ومنها الأمن القومي في مواجهة إسرائيل، لم توقع إسرائيل على معاهدات حظر انتشار الأسلحة النووية على حين وقعت مصر على عدد من هذه المعاهدات «تحت الضغط الأمريكي» منها المعاهدة في 26 فبراير 1981، والمعاهدة في 14 أكتوبر 1996، والمعاهدة في 10 أبريل 1972، وقد سارت عدد من البلاد العربية والأفريقية وراء مصر ووقعت مثل هذه المعاهدات، أصبحت بلادنا العربية والأفريقية محظور عليها القوة النووية حتى في الأغراض العلمية والسلمية، أما إسرائيل فقد انطلقت في تطورها النووي العسكري حتى امتلكت طرازا جديدا من صواريخ جيركو تم تحميلها برءوس نووية أخطر، وإلى جانب البرنامج الإسرائيلي العلني أرو مع أمريكا، أصبح لإسرائيل ترسانة نووية متعددة الأذرع، يمكن لذراع إسرائيل أن يطوي أي بلد في المنطقة تعصي أمرها.
وفي المجال الثقافي والفني هل يمكن لأحد أن يحسب خسارة مصر منذ بداية العلاقات المصرية الأمريكية عام 1974 وحتى اليوم؟
ويتساءل أحد النخبة المثقفة في صحيفة حكومية كبيرة عن سبب تدهور الأفلام المصرية، وهو بالطبع لا يربط بين ركود الثقافة في بلادنا وركود الاقتصاد، وكان أحد المدافعين منذ 1975 عن العلاقات المصرية الأمريكية وعن الانفتاح الساداتي ، ثم به يسبق الآخرين في الأزمة الأخيرة للتنديد بالعلاقات المصرية الأمريكية، وكيف غزت الأفلام الرديئة السوق المصرية، حتى الأفلام المنتجة في مصر أصبحت مثل الأفلام الأمريكية المنحطة، القائمة على الجنس والجريمة والإضحاك الرخيص السطحي القائم على النكت السوقية، والخالي من أي موضوع اجتماعي مفيد.
بل أن مشكلة تزايد الفقر والبطالة هي النتيجة المنطقية للسياسة الاقتصادية منذ 1974، فقد أصبح الجميع يكتبون عنها دون إرجاعها لأسبابها الحقيقة، وكأنما تزايد الفقر والبطالة ظاهرة منفصلة في التاريخ عن أسبابها في الماضي.
كأنما هذا الماضي مقدس، ولا يجوز لأحد أن يذكره أو ينقده؛ لأنه ينقد شخصية مقدسة عند البعض، السادات مثلا أو بعض أعوانه الكبار الذين يمتلكون كثيرا من النفوذ حتى اليوم.
لكن النقد ضروري للماضي، لأن الحاضر يبنى على الماضي، والمستقبل يبنى على الحاضر ولا يمكن الفصل بينها الثلاثة، إن النقد لا يعني الانشقاق والحرب أو عدم التضامن من إنقاذ بلادنا من الركود الاقتصادي والثقافي والفكري، ومن الخضوع للشروط الأمريكية والإسرائيلية المجحفة.
إن الوحدة الوطنية مطلوبة، لكن النقد البناء أيضا مطلوب، ولا بد أيضا من كشف المنافقين في كل عهد حتى لا تتكرر الأخطاء وندور في تلك الحلقة المفرغة، ولا تكاد تعرف من المسئول عن هذا الخطأ أو ذاك، ويختلط الحابل بالنابل كما هو حالنا اليوم. (2) عن تاريخ الفدائيين عام 1952
دهشت حين قرأت مقال سعد زغلول فؤاد في جريدة الأهرام 12 أغسطس 2000 ص10، تحت عنوان: سراج الدين والكفاح الشعبي المسلح، فهو يسوق لنا معلومات مغلوطة عن العمل الفدائي ضد الإنجليز في التل الكبير ومدن القنال قبل حريق القاهرة 26 يناير 1952، ولأنني عشت هذه الفترة وعاصرت كتائب الطلبة الفدائيين في كلية الطب خلال 1951، 1952، وانعكست مأساة الفدائيين على حياتي الشخصية، إذ إن زوجي الأول الدكتور أحمد حلمي، والذي كان زميلا لي في كلية الطب، قد تطوع في كتائب الفدائيين، وسافر إلى الحرب في القنال في تلك الفترة التي شجعت فيها حكومة الوفد الشباب على الكفاح المسلح ضد الإنجليز في منطقة القنال، لقد قتل من الفدائيين في هذه الحرب أكثر من مائتي فدائي (كما ذكرت التقارير التي نشرت عام 1981، بعد ثلاثين عاما من الأحداث) ومن هؤلاء زميلي في كلية الطب أحمد المنسي، وفدائي آخر اسمه عباس الأعسر وآخرين.
لقد مات الدكتور أحمد حلمي ليس في الحرب أو أثناء المعارك التي نجا منها بأعجوبة، وإنما مات أحمد حلمي نفسيا (قبل أن يموت جسديا) بسبب تخلي الحكومة المصرية عن الفدائيين في القنال بعد حريق القاهرة، أصبح الفدائيون يواجهون الجيش البريطاني وحدهم، وكان من الممكن سحقهم جميعا لولا قدرتهم النضالية بأقل الأسلحة، ولولا حماية أهل القنال لهم وتدعيمهم بالمؤن والسلاح.
من هنا ندرك أن مقال سعد زغلول فؤاد في الأهرام لم يقل الحقيقة؛ لأنه أغفل ما حدث في الواقع، ربما أراد بالمقال أن يرفع فؤاد سراج الدين إلى البطل الوطني العظيم بمناسبة وفاته، وكما هي عادة المصريين من تقديس الموتى، وذكر محاسنهم فقط، ولا أحد ينكر أن حكومة الوفد، ومنها سراج الدين كان لها مواقف وطنية مهمة في تلك الفترة بعد إلغاء معاهدة 1936، ولكن لا يمكن أيضا أن ننكر تعاون حكومة الوفد مع السراي والإنجليز ضد مصالح الشعب المصري، وتخاذلها، بل وضربها العمل الفدائي الذي كانت تشجعه، هذا التناقض معروف عند جميع الحكومات، وليس حكومات الوفد فقط.
لكن ما حدث للفدائيين في القنال في شتاء 1952 كان خطيرا، ولم يحاول أحد أن يراجع التاريخ بحيث نعرف من المسئولين عن مأساة العمل الفدائي، واختفاء أسماء المقاتلين الحقيقيين الذين قتلوا جسديا أو نفسيا، واندثرت أسماؤهم في التاريخ، على حين برزت أسماء أخرى أصبحوا هم أبطال العمل الفدائي، ومنهم وزير الداخلية فؤاد سراج الدين وأسماء أخرى كبيرة في السلطة شملت أنور السادات ووجيه أباظة، وأيضا بعض ضباط البوليس السياسي الذين أرسلتهم الحكومة ليكونوا ضمن الفدائيين كعيون للحكومة.
هناك حقائق كثيرة غابت في مقال سعد زغلول فؤاد في الأهرام، يستمد سعد زغلول فؤاد سلطة لأنه صحفي في الأهرام يمكن أن ينشر أي شيء، ويغير في التاريخ كما يشاء دون أن يرد عليه أحد، فهناك حصانة للصحفي في الأهرام، وقد رفض المحرر في الأهرام نشر ثلاث مقالات لي أرد فيها على بعض الكتاب المعينين في الأهرام ومنهم رئيس التحرير.
المسألة إذن هي القوة وليس الحق، وهي الاستبداد بالرأي وليس الديمقراطية، والغريب أيضا أن الصحف الأخرى تمتنع عن نشر هذه المقالات تحت اسم عدم الوقوع في مشاكل مع جريدة كبيرة، ولها سلطة ضخمة مثل جريدة الأهرام، فأين إذن يمكن نشر الآراء المخالفة لهؤلاء المحصنين داخل السلطة الصحفية في بلادنا.
القاهرة أكتوبر 2000
تحت اسم التنمية (1)
نشرت الصحف المصرية الحكومية والمعارضة الشرعية هذا الخبر يوم الأربعاء 27 نوفمبر 2002:
صدر تقرير عن اللجنة النقابية للحقوق والحريات يشير إلى تزايد عدد من العمال الذين تم تسريحهم من القطاع العام منذ عام 1995 حتى وصل إلى نصف مليون عامل، بالإضافة إلى عمال القطاع الخاص الذين تم تشريدهم بسبب الإغلاق والإفلاس وهروب رجال الأعمال للخارج.
تم إغلاق مئات المصانع، وتصفية مئات الشركات العامة وشركات نسيج ومحالج، تزيد عن 300 شركة منذ عام 1995، تزداد الأزمة الاقتصادية مع ازدياد الهوة بين الأثرياء والفقراء، وتزايد البطالة والمخدرات بين الشباب والشابات.
أصبحت الصحافة المصرية الحكومية والمعارضة الشرعية مثل الصحافة الأمريكية تكشف عن الفساد اليومي لرجال الأعمال وهروب الأموال وانهيار الشركات تحت اسم الديمقراطية، مجرد كلام على الورق ينفس عن الغضب الشعبي، ويستمر الحال على ما هو عليه بل يزيد التدهور والفساد يوما وراء يوم.
تحت اسم التنمية (2)
تحت اسم التنمية والإصلاح الاقتصادي
يزيد الفقر والبطالة والحروب،
وتحجيب النساء والعقول،
وأنا امرأة من الجنوب،
بشرتي سمراء محروقة بالشمس،
لا أنتمي إلى اللون الصحيح،
ولا الجنس الصحيح
ولا الجنسية الصحيحة،
أنا من الجنوب حيث تتم الإبادة الجماعية
لأرواح لا تنتمي إلى البشر؛
نساء وأطفال وشباب ورجال
يموتون بالجملة،
بقنابل الليزر وصواريخ توماهوك،
وأسلحة جديدة تحت الاختبار،
نحن فئران التجارب للبحوث البيولوجية،
لفيروس الإيدز وآلة القتل الدولية،
والبنك الدولي وصندوق النقد،
ندفع دماءنا مواردنا
رخيصة للقوى الحاكمة داخليا وخارجيا،
تحت اسم برامج التنمية وتحديث الاقتصاد،
نموت في الحرب وفي السلام،
كما نموت بالإيدز والجوع.
القاهرة 28 نوفمبر 2002
حجاب العقل
طلعت علينا الصحف الحكومية صباح يوم الخميس 28 نوفمبر 2002 بعناوين ضخمة تزيد من كثافة حجاب العقل، وأنقل بعض عناوين الصفحة الأولى:
البنك الدولي يساعد مصر في تنفيذ برامج التنمية وتحديث اقتصادها.
الوضع الاقتصادي المصري يتحسن باستمرار.
المعونات الأمريكية لمصر تحقق فائدة مشتركة وليست ورقة ضغط.
الولايات المتحدة الأمريكية ترغب في تحسين صورتها في العالمين العربي والإسلامي من خلال منح المعونات.
القروض الأجنبية لا تزيد عن 1,2 مليار دولار سنويا.
مصر تطلب فترات سماح وآجالا طويلة وفائدة بسيطة حتى تستطيع أن تسدد الديون المتزايدة. •••
طائرات حربية أمريكية تحركت إلى العراق.
أربع حاملات طائرات أمريكية تحركت إلى الشرق الأوسط، واحتلت مواقعها لتضرب العراق في منتصف ديسمبر المقبل.
وفي نيويورك أعرب كوفي عنان الأمين العام للأمم المتحدة عن ارتياحه لاستئناف مهمة المفتشين في العراق، وقال: إن عمليات تفتيش المواقع العراقية شهدت بداية طيبة. (1) السادات مظلوما
في ديسمبر 1979 توجه إبراهيم نافع إلى بيت السادات في الجيزة لأول مرة بعد تعيينه رئيسا لتحرير الأهرام المصرية، وسوف ينشر سلسلة من المقالات تحت عنوان «السادات مظلوما».
وفي مقاله الأول الصادر بجريدة الأهرام في 28 نوفمبر 2002 الصفحة الأولى يقول عن مذبحة سبتمبر 1981، حين أصدر السادات قرارا باعتقال 1536 شخصا في يوم واحد، (كنت واحدة منهم) بتهمة التآمر مع جهات أجنبية والخيانة الوطنية، يكتب إبراهيم نافع ما يلي:
السادات كان إنسانا محبا للخير ... لا يشعر بالمرارة تجاه أحد، وحين يغضب يعبر عن غضبه بعنف وحدة، ويخرج كل ما في صدره من أبخرة مكتومة، وكانت ذروة غضبه بسبب توحش الجماعات المتطرفة في أواخر عهده، وانفلاتها وتهديدها الأمن والسلام الاجتماعي والوحدة الوطنية ... وتأثيرها السلبي في عملية السلام (كامب ديفيد) ... ولهذا فلا مفر من أن يتصدى لهذه الجماعات بقوة ... ويحتجز قياداتها (في السجون) ... غير أن أيديا أخرى تدخلت، وأضافت إلى «قوائم المسجونين» أشخاصا آخرين لم يكونوا في حسبان السادات (حين أعد القوائم) ... وقال لي السادات بالحرف الواحد: هؤلاء الأشخاص الذين أضيفوا للقوائم سيفرج عنهم فور استكمال الانسحاب الإسرائيلي من سيناء في فبراير التالي ...
والسؤال الآن: ما هذه الأيدي الأخرى الخفية التي أضافت اسمي وأسماء آخرين لم يكونوا في حسبان السادات، ولم ترد أسماؤهم في القوائم الأصلية؟!
أذكر أن ضابط المباحث قال لي وأنا سجينة بزنزانة الشحاذات بسجن النساء بالقناطر الخيرية خلال سبتمبر 1981: «والله العظيم يا دكتورة نوال، أقسم لك إن اسمك لم يكن موجودا في القوائم الأصلية التي عرضت على السادات، ولكنه هو الذي أضاف اسمك في آخر القائمة؛ ولهذا فإن رقمك في الحبس هو 1536، وهو الرقم الأخير في القائمة التي دخلت السجون في 3 سبتمبر 1981.» •••
أصبح من الواضح بعد عشرين عاما من معاهدة السلام (كامب ديفيد الأولى) أنها لم تكن معاهدة سلام ولم تحقق أي سلام، بل قادت إلى المذابح التي نشهدها اليوم لشعوب المنطقة؛ الشعب الفلسطيني، والشعب العراقي، وسوف تستمر الآلة الحربية الأمريكية الإسرائيلية في هذه المذابح لتشمل بقية الشعوب ومنها الشعب المصري، الذي يتعرض للموت الاقتصادي قبل أن يتعرض للموت العسكري.
وفي معاهدة كامب ديفيد الأولى دخل الاستعمار الأمريكي الإسرائيلي بلادنا تحت اسم المعونة، المنصوص عليها في اتفاقيات كامب ديفيد، ومع المعونة بدأ فتح الأسواق المصرية للبضائع الأمريكية تحت اسم الانفتاح، وبدأت القوى الإسرائيلية «الأمريكية» تحاصر الشعب الفلسطيني في جنوب لبنان، واشتعلت الحرب والمذابح حتى اليوم. •••
من يرد على مقالات إبراهيم نافع في جريدة الأهرام؟! ومنذ بدأت الرد عليه (بعد نشره مقاله في 11 أغسطس 2000) تم وضع اسمي في القائمة السوداء، أو القائمة الرمادية، وأصبحت عاجزة عن نشر مقالاتي في الصحف الحكومية أو المعارضة الشرعية ... لماذا؟
لأن رئيس تحرير الأهرام قوة كبيرة على اتصال وثيق بالقوى الحاكمة، وتتردد صحف المعارضة (يسار ويمين ووسط) في نقد إبراهيم نافع.
ربما يكون نقد رئيس الدولة أو رئيس الوزراء أسهل من نقد رئيس تحرير الأهرام، والجميع (رجالا ونساء) من النخبة المصرية يتنافسون على الكتابة بجريدة الأهرام، أو على الأقل نشر أخبارهم مع الصورة داخل البرواز في الصفحة الأخيرة التي تسيطر عليها إحدى الصحفيات، ابنة أحد كبار الصحفيين بالأهرام. •••
من أخبار الصباح - جريدة الأهرام - مع صورة داخل برواز للأستاذة الكاتبة الكبيرة عضو حزب اليسار وعضو الحزب الحكومي، وعضو المجلس القومي للمرأة، برعاية السيدة الأولى حرم السيد الرئيس، ورئيسة مجلس إدارة الفنانات المصريات لدى الهيئة الدولية في واشنطن، تلقي الأستاذة الكبيرة كلمة في مؤتمر المرأة العربية المزمع عقده في بيروت خلال ديسمبر 2002 والدعوة عامة للشعب. •••
الفراغ السياسي والثقافي في مصر أصبح خطيرا، ولم يعد الشباب متحمسا لأي عمل سياسي أو ثقافي، وهم يرون الجهلاء يصبحون هم النخبة، أو أنصاف الجهلاء، أو أنصاف المتعلمين.
كان أبي يقول: «المنافقون يلجئون إلى النفاق؛ لأنهم بلا موهبة حقيقة في أي شيء وبلا ثقة بالنفس؛ لأن نظام التعليم الفاسد يسلبهم الثقة والذكاء الفطري الذي يتمتع به الرجال والنساء الذين لا يقرءون ولا يكتبون.»
منوف عام 1947 •••
وقد أصبح جورج بوش «الابن» يتحدث عن تحرير النساء في أفغانستان وفلسطين والعراق ومصر وغيرها من البلاد؛ لأن العقبة أمام التنمية هي تخلف المرأة بسبب التقاليد البالية ومنها ختان الإناث.
ويشترك بعض النخبة من بلادنا مع بعض النخبة الأمريكيين في إصدار تقرير عن التنمية البشرية في بلادنا، ويؤكد التقرير أن من العقبات أمام التنمية هو تخلف المرأة.
أصبح «تخلف المرأة» هو الشماعة الجديدة التي يعلق عليها فشل مشاريع التنمية في بلادنا، وليس سياسات البنك الدولي والحكومة الأمريكية التي تغزو بلادنا اقتصاديا «وعسكريا» في ظل حماية الحكومات المحلية التابعة لها.
عن تقرير التنمية البشرية في بلادنا
اشتغلت بالأمم المتحدة لمدة عامين «من 1987 إلى 1980»، مستشارة لبرامج المرأة العربية والأفريقية في اللجنة الاقتصادية للأمم المتحدة في بيروت وفي أديس أبابا، وأدركت في هذين العامين زيف مشاريع التنمية التي تقوم بها الأمم المتحدة، وقد دلت التقارير على تزايد الفقر في بلادنا العربية والأفريقية مع تزايد مشاريع التنمية، بما فيها المشاريع الخاصة بالنساء؛ ولهذا السبب قدمت استقالتي من الأمم المتحدة، وعدت إلى مصر لأكتب الروايات والقصص الأدبية، أفضل من العمل في مشاريع فاشلة.
وإذا كانت الأمم المتحدة قد أصبحت منظمة تابعة للولايات المتحدة الأمريكية، مثل البنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية، إلى الحد الذي أصبحنا نسميها اليوم «الأمم المتحدة الأمريكية»، فهل يمكن لهذه المنظمة التابعة أن تفعل شيئا مستقلا عن الفكر الأمريكي المهيمن على العالم؟
وإذا كانت الأمم المتحدة هي التي شرعت استخدام القوة العسكرية الأمريكية لضرب العراق في حرب الخليج يناير 1991، وهي التي تتخلى اليوم عن مناصرة الشعب الفلسطيني الذي يذبح أمام عيونها كل يوم، ومع ذلك تظل عاجزة عن فعل أي شيء، بل إنها تتراجع عن إنصاف الشعب الفلسطيني بسبب الاعتراض الأمريكي، ويتخلى مجلس الأمن بالأمم المتحدة عن واجبه الأول؛ وهو مطالبة إسرائيل بإيقاف المذابح الجارية لسكان الضفة الغربية وغزة والانسحاب من الأراضي العربية المحتلة، حسب قرارات الأمم المتحدة ذاتها.
وهل يمكن فصل قرارات مجلس الأمن عن تقارير الأمم المتحدة فيما يخص التنمية الإنسانية أو الاجتماعية أو الاقتصادية في عالمنا العربي؟!
إلا أن بعض النخب العربية والمصرية ينظرون إلى تقرير الأمم المتحدة عن التنمية في بلادنا كأنه «كتاب مقدس» أو على الأقل كتقرير علمي موضوعي غير خاضع للفكر الأمريكي ومؤسساته السياسية والاقتصادية والعسكرية والإعلامية. (1) خضوع للمنطق الأمريكي
لقد دهشت: كيف يخضع أغلب النخب في بلادنا للمنطق الأمريكي - الإسرائيلي - الذي يرى أن تخلفنا الاقتصادي وهزائمنا المتكررة ترجع إلى خطأ في الشعوب العربية نساء ورجالا، لماذا؟ لأننا عجزنا عن مواكبة عصر الإنترنت، والكمبيوتر! إن مقياس التقدم في تقرير الأمم المتحدة هو كم رجلا وامرأة يمتلكون الكمبيوتر؟ وكم منهم يستخدمون الإنترنت؟ (نصف في المائة فقط من الشعوب العربية)، ومقياس آخر هو: كم عدد الكتب التي ترجمت إلى اللغة العربية، فقط 330 كتابا مترجما سنويا في العالم العربي؛ أي خمس ما تترجمه اليونان، ومقياس آخر هو وجود 65 مليون عربي لا يعرفون القراءة والكتابة أغلبهم نساء «الثلثان»، رغم أن تعليم النساء العربيات - حسب التقرير - ذاته تضاعف ثلاث مرات، هذا الذي لم تنتج عنه معرفة أو مهارات للعمل في السوق الحرة والانفتاح على العالم أو السير مع العولمة، هذا هو الجانب البارز في التقرير، والذي أبرزه أكثر الإعلام الأمريكي والعربي وبعض الصحف المصرية، وهو يصور جزءا من الحقيقة فقط .
وربما تكون مجلة «النيوزويك» الصادرة في 16 يوليو 2002 باللغة العربية نموذجا للإعلام الأمريكي الذي يروج لفكرة أن الخطأ فينا نحن الشعوب العربية، أو الخطأ في الحكومات العربية المستبدة بشعوبها، والعاجزة عن منحها الحريات السياسية والاجتماعية، وقد أفردت هذه المجلة (في ذلك العدد 16 يوليو)، مساحة كبيرة لعرض تقرير الأمم المتحدة للتنمية البشرية في العالم العربي تحت عنوان: «انبعاث جديد»، ونشرت صورة ضخمة على صفحة ونصف الصفحة «ص12 و13» تصور مظاهرة من الشباب العربي، وتحت الصورة هذه عبارة «حريات سياسية مفقودة ... بعض الحكومات العربية تكفل حرية التظاهر ضد إسرائيل، ولكن هل هناك حرية للتظاهر ضد الحكومات العربية نفسها؟!» (2) انبهار بتقرير «نيوزويك»
من هذه العبارة والصورة يحاول الإعلام الأمريكي توجيه الشعوب العربية للتظاهر ضد الحكومات المحلية وليس ضد إسرائيل، وهذا أمر منطقي لأن الإعلام الأمريكي يخدم السياسة الأمريكية لإدارة جورج الابن الذي يؤيد عدوان إسرائيل على الشعب الفلسطيني، ويستخدم حق الڨيتو في الأمم المتحدة للاعتراض على أي قرار ينصف الشعب الفلسطيني، وتم اعتماد 2000 مليون دولار أمريكي مكافأة أو مساعدات إضافية لإسرائيل بعد مذبحة غزة الأخيرة تحت اسم محاربة الإرهاب الفلسطيني!
مع ذلك فإن بعض النخب العربية والمصرية تنظر إلى موضوع «النيوزويك» عن تقرير التنمية في بلادنا كأنما هو الحقيقة العلمية أو الموضوعية، وفي جريدة «الأهرام» الصادرة بالقاهرة في أول أغسطس 2002 ص11، نشر كاتب مصري مقالا تحت عنوان: «محاسبة الذات» مشيدا بما جاء في «النيوزويك» ويقول الآتي: «من الصعب على الإنسان العربي بعد قراءة هذا التقرير أن يظل على منطق تحميل الغير مسئولية نكباته وتخلفه.»
إن كاتب المقال يحمل لقب «دكتور» ومع ذلك وقع تحت تأثير الانبهار بما نشرته مجلة «النيوزويك» عن تقرير التنمية في بلادنا، وكتب يقول: «إن معوقات التنمية في بلادنا ليست نقص الموارد والثروات (عدد العرب 280 مليون نسمة لكن مجموع الدخل القومي 531 مليار دولار فقط) - أقل من دخل إسبانيا - ومعدل النمو سنويا أقل من نصف في المائة، لكن معوقات التنمية هي النقص في الحرية والمعرفة، ونقص مشاركة الطاقات النسائية في العمل ... والحرية والديمقراطية غائبتان ... والتعليم ما زال يقوم على التقليد ... ولا زال يزيد مستخدم الإنترنت على واحد ونصف الواحد في المائة، ولا يزيد عدد مقتني الكمبيوتر على واحد في المائة ... إلخ.» هذا جزء من مقال الدكتور المصري.
جريدة «الأهرام» لم تنشر مقالي الذي خالفت فيه هذا الكاتب رأيه، ورأي آخرين ممن يقودون الرأي العام في بلادنا، والذين يتصورون أن الخطأ في التنمية يرجع إلينا «نحن» أو «القصور الذاتي»، بالطبع أنا مع النقد الذاتي؛ لأن القصور الذاتي موجود فعلا، سواء في الحكومات العربية المستبدة أو في الشعوب العربية التي تعودت الخضوع والخوف والتردد وعدم الثقة بالنفس ... وكم دخل السجون في بلادنا من المفكرين والباحثين من مختلف التيارات.
لا يمكن لأحد أن ينكر أن الحرية والديمقراطية غائبتان في بلادنا العربية، لكن السؤال هو: من يساند هذه الحكومات العربية المستبدة بشعوبها؟
أليست هي الحكومة الأمريكية التي تشجع هذه الحكومات المحلية على الاستبداد، وتغض الطرف وتغمض عينها عن هذا لأن هذه الحكومة تابعة لها أو مطيعة لأوامرها الاقتصادية والإعلامية والعسكرية والسياسية وغيرها؟!
وهل يكن لأي تقرير علمي عن التنمية من جميع جوانبها أن يفصل بين القوى الخارجية والقوى الداخلية، التي تبطش بالشعوب «نساء ورجالا وشبابا وأطفالا»، والتي تتعاون معا تحت اسم «التعاون الدولي» أو تحت أسماء أخرى منها محاربة الإرهاب الشيوعي، أو محاربة الإرهاب الإسلامي، أو محاربة الإرهاب الفلسطيني، أو العراقي، أو الأفغاني ... أو في كوريا الشمالية أو في الصين أو غيرها؟! (3) تشجيع الإرهاب
وحين جاءتني مندوبة مجلة «النيوزويك» إلى منزلي، يوم 5 يوليو 2002، شرحت لها وجهة نظري بدقة، وكان معها جهاز تسجيل، واستغرق الحوار ساعة تقريبا، طلبت منها ألا تحذف شيئا، وخاصة الجزء الذي أربط فيه بين تزايد الفقر في بلادنا وفشل مشاريع التنمية، وبين الاستعمار الأمريكي الرأسمالي الجديد، والاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية وأرض فلسطين، وبين غياب الحريات واستبداد الحكومات العربية الخاضعة للسياسة الأمريكية في المنطقة العربية، وأن هذه السياسة الأمريكية بالتعاون مع الحكومات العربية؛ ومنها حكومة «السادات» في مصر قد شجعت التيارات الدينية المسماة بالتيارات الأصولية، وهي التي مولتها بالأموال والسلاح، ودربتها على القتل والإرهاب تحت اسم محاربة الإرهاب الشيوعي في أفغانستان، وفي بلادنا أيضا.
إلا أنني دهشت حين قرأت مجلة «النيوزويك» في عددها 16 يوليو 2002، أدهشني هذا البتر لما قلته للسيدة الصحفية، ربما قام بالبتر المسئولون الكبار في المجلة، وهي محررة شابة مندوبة عن هذه المجلة في القاهرة. (4) كيف تجاهلت «النيوزويك» جوهر الموضوع؟
كنت أدرك تماما بحكم خبرتي مع الإعلام الأمريكي والأوروبي أن «النيوزويك» لن تنشر عن موضوع التنمية في بلادنا العربية إلا ما يخدم المصالح الأمريكية والإسرائيلية؛ ولهذا أكدت على المحررة أن تستخدم جهاز التسجيل، وأن تنشر جوهر ما أقول فيما يخص التنمية في بلادنا، وهو «الربط» بين القوى الخارجية والداخلية، بين الحكومات العربية المحلية وبين الاستعمار الأمريكي الجديد ودولة إسرائيل، وتطرقت أيضا لقضايا النساء العربيات، وأثر العولمة عليهن، ومشكلة «تأنيث الفقر»، وتقديم المرأة «كبش فداء» للتيارات الأصولية الدينية، ليس في أفغانستان وفي بلادنا العربية وحدها؛ بل في الولايات المتحدة الأمريكية أيضا، تقدم النساء الأمريكيات «كباش» فداء لليمين الأمريكي، وجورج بوش والتيارات المسيحية الأصولية التي يمولها ويشجعها.
المشاكل ... صناعة عربية!
أدركت المحررة تماما ما أقول ووافقتني، إلا أن ما نشر في «النيوزويك» كان مبتورا وجاء كالآتي: «يؤكد تقرير الأمم المتحدة عن التنمية البشرية في العالم العربي أن احتلال إسرائيل غير المشروع للأراضي العربية هو من أكثر العقبات استشراء أمام الأمن والتقدم في المنطقة، بل إن بعض المنشقين في المنطقة كانوا تواقين لاستخدام ذلك كأسهل تفسير لما يمر به العرب من حال اليوم، نوال السعداوي؛ وهي كاتبة مصرية بارزة تدافع عن حقوق المرأة، وتعرضت مرارا لتهديد الأصوليين، تضع قدرا مساويا من اللوم على واشنطن وإسرائيل، كما على إخفاق حكومتها في تفسير المعضلة التي تعاني منها مصر اليوم»، وتقول: «إن الحكومة تشعر بالعجز، فحين تصبح الدولة ضعيفة مقعدة، فإنها تصبح أكثر سلطوية، وتنزع إلى السيطرة بصورة أكبر على الناس»، وتواصل «النيوزويك» كلامها: «ولكن النبرة العامة للتقرير تشير إلى أن المشكلات هي من صنع يد العرب أنفسهم .»
المشكلات هي من صنع العرب أنفسهم شعوبا أو حكومات، أما واشنطن وإسرائيل فهما بريئتان من الذنب، ولا علاقة لهما بمشاكل العرب، بالإضافة إلى أنهما تستخدمان كلمة «المنشقين» وهي كلمة ترن في الأذن «سلبية» لتصفني وتصف أمثالي الذي ينبهون إلى دور واشنطن وإسرائيل في النكبات التي تحدث في بلادنا، ونحن لسنا منشقين فحسب في رأي «النيوزويك» بل نحن أيضا نلجأ إلى أسهل تفسير لما يمر مع العرب من مشاكل، وهذا تمويه وخداع كبير لأننا أولا لسنا «منشقين»، بل نحن نعبر عن الأغلبية الساحقة من الشعوب العربية، وهي الأغلبية الصامتة التي لا يصل صوتها لمنابر الإعلام العربي إلا نادرا، أما الاستسهال فهو من نصيب الآخرين الذين نشرت المجلة آراءهم باعتبارها الآراء العظيمة التي يجب علينا اتباعها، ومنها رأي بعض المعلقين الأمريكيين مثل: توماس فريد مان في صحيفة «نيويورك تايمز» الذي مدح التقرير: «وشعر بالتشجيع لأن لديه شركاء عربا ليبراليين، من أجل تغيير العالم العربي»، وإذا لم يرفع أكبر عدد من الناس أصواتهم بمثل ما يقوله «توماس فريد مان» فإن تقرير التنمية القادم عن العالم العربي قد يكون أكثر قتامة من التقرير الحالي.
وهذا هو ختام الموضوع في مجلة «النيوزويك»، وهو ختام يتفق تماما مع أهداف السياسة الأمريكية والإعلام الأمريكي، سواء كان في «النيويورك تايمز» أو «النيوزويك»، أو عدد كبير من الصحف والمجلات المنتشرة في بلادنا العربية، والتي يكتب فيها أغلب النخب والمثقفين العرب.
وهنا آتي إلى النقطة قبل الأخيرة في مقالي وهي: (5) انخفاض وعي النخبة العربية
ربما لا يختلف تقرير الأمم المتحدة كثيرا عن تقارير أغلب النخب العربية عن التنمية في بلادنا، أو مشاريعهم للنهوض بالأمة العربية من كبوتها الراهنة، وقد تأثر أغلبهم بالكتب الأمريكية التي نشرت مؤخرا، ومنها كتاب «لويس برنار» بعنوان: «ما هو الخطأ في علاقة الإسلام بالغرب؟»
وكم انبهرت النخب العربية بهذا المفكر الأمريكي؛ لأنه لا يعتبر الخطأ في الدين الإسلامي «كما يفعل صمويل هانتجتون وفرانسيس فوكاياما وسلمان رشدي وغيرهم»، بل يعتبر الخطأ في العرب أنفسهم ... في المسلمين، ويقول في كتابه ما يلي:
لقد انتهى الاستعمار منذ نصف قرن وأصبحنا نعيش عصر ما بعد الاستعمار
لكن العرب والمسلمين يعلقون المشكلة على الغير، ويتساءلون دائما: من فعل بنا هذا؟ كأنهم ضحايا طول الوقت للقوى الخارجية، والمفروض أن يسألوا أنفسهم: ما الخطأ فينا نحن؟ وماذا نفعل لتغيير أنفسنا؟ أما أن يحملوا الخطأ على غيرهم فهذا هو الخطأ.
وهذا الكلام فيه جزء من الحقيقة، إلا أنه ينطوي على خداع كبير، ذلك أن عصر الاستعمار لم ينته، كما يقول لويس برنار، ونحن نعيش عصر الاستعمار الجديد
New-Colonial
وليس عصر ما بعد الاستعمار أو ما يسمونه باللغة الإنجليزية ما بعد الكولونيالية
.
ويسود الجامعات الأمريكية والأوروبية هذا التعبير الخاطئ، والذي تنقله الجامعات العربية والنخب العربية دون تحليل أو نقد.
كما أن لويس برنار يفصل بين العوامل الخارجية والعوامل الداخلية أو العوامل الدولية والمحلية، وهذا أمر «غير علمي» لأنه مستحيل، نحن نعيش في عالم واحد تحكمه حكومة دولية مركزية في واشنطن، وحكومات محلية تابعة تدور حول المركز، فكيف يمكن الفصل بين المركز والأطراف، أو بين الرأس والجسد الواحد وبين الساقين أو القدمين؟
حرب الأقوياء
وتدافع أغلب النخب العربية عن تقرير الأمم المتحدة، وعن موضوع «النيوزويك» عن هذا التقرير، ويشعرون بالسعادة لأن التقرير لا يدين الإسلام أو التراث الإسلامي العربي؛ بل يدين العرب أنفسهم (الشعوب أو الحكومات)، وغياب الديمقراطية والحريات، وانتشار الفساد وتزوير الانتخابات وعدم تقدير الكفاءات، بل الاعتماد على الواسطة والعلاقات الشخصية، وقهر النساء وعزلهن عن السياسة والحياة العامة، وهذه كلها حقائق موجودة في بلادنا العربية، ونقرأ عنها كل يوم في الصحف الحكومية قبل صحف المعارضة، إلا أنها موجودة أيضا في البلاد خارج العالم العربي، فهي ليست مشاكل خاصة بالعرب فقط لأنهم عرب أو مسلمون، إنها ليست نتاج عرق معين أو دين معين أو جنسية معينة، بل هي شائعة في العالم أجمع على رأسه الولايات المتحدة الأمريكية ذاتها، وقد عشت فيها سنين طويلة، وقمت بالتدريس في جامعاتها، وأدركت أن الرأسمالية الأمريكية سوف تسقط قريبا، أقرب ما نتصور ، ومعها الرأسمالية الإسرائيلية والأوروبية واليابانية وغيرها، وهناك بوادر هذا السقوط، وتفكك النظام الطبقي الأبوي، الذي يحكم عالمنا الإنساني من خلال الشركات عابرة القارات، التي تتهاوى الواحدة وراء الأخرى، ومنها شركة «إنرون» التي أعلنت إفلاسها في شهر ديسمبر 2001، إثر اختفاء ديون قدرها 23 مليار دولار، وشركة «وورلد-كوم» إثر اكتشاف مشروعات مزيفة قيمتها 39 مليار دولار، وشركة «تيكو» إثر اختفاء 9 مليارات دولار من أوراقها، وشركة «زيروكس» التي زورت في أوراقها لتهرب من سداد مليار ونصف المليار دولار كانت عليها للضرائب، وما يحدث في سوق المال والبورصة وحتى «وول ستريت» في نيويورك من نصب معروف في الصحف، وما يكشف عن فساد الشركات الرأسمالية في بلاد أوروبية مثل فرنسا وبريطانيا وإيطاليا وإسبانيا وغيرها، ويمس الفساد أكبر رأس في العالم الرأسمالي وهو الرئيس الأمريكي جورج بوش «الابن» وعلاقته بشركة «إنرون» معروفة، ونائبه «ديك تشيني» وعلاقته بشركة «هاليبورتون» وغيرها من الفضائح المالية التي تنشر في الصحف الأمريكية والأوروبية كل يوم.
ولأن الفساد الرأسمالي الطبقي الأبوي «واحد» في العالم فإن الفساد في الولايات المتحدة الأمريكية لا يختلف كثيرا عن الفساد في بلادنا العربية، وفي مصر لا تكف صحف الحكومة والمعارضة عن الكشف عن الفساد لكبار رجال الدولة في مجلس الشعب أو في التليفزيون والبورصة، وشركات القطاع العام، ونواب القروض والذين هربوا بأموالهم.
يقوم الفساد الرأسمالي على منطق «الربح» في السوق الحرة، وفي حرية الأقوياء للبطش بالضعفاء، أو حرية السلاح النووي في اغتصاب أي أرض من أصحابها الذين يعيشون عليها، وإعلان الحرب على أي بلد لا تركع على ركبتيها أمام الإله الأمريكي وتابعه في إسرائيل وبريطانيا وغيرهما من دول العالم.
وتستخدم الرأسمالية الدولية والمحلية ورقة الأديان لتخلق «الصراع» بين الأديان أو بين الثقافات أو بين الحضارات، كنوع من التمويه وإخفاء الصراع الحقيقي حول الأموال والبترول والأرض والأنهار والأسواق التجارية، ومشاكل الخصخصة وتزايد الفقر والجوع والأمراض في جميع بلاد العالم، وليس في بلادنا العربية فقط. (6) كلمة أخيرة عن حوارات الحضارات
تتصور بعض النخب العربية أن كلمة «حوار الحضارات» أفضل من كلمة «صراع الحضارات»، في حين أنهما وجهان لعملة واحدة، عملة النظام «الطبقي الأبوي» الرأسمالي «ما بعد الحديث» الذي يشغل الناس باللغة والكلمات، سواء كانت صراعا أو حوارا، وأنا لست ضد اللغة أو الكلمات أو الندوات الثقافية والأدبية والفنية، وكم تكون الكلمة الصادقة حاسمة مثل طلقة الرصاص، إن قيلت في وقتها، ومكانها، دون خوف من النار، أو طمع في الجنة.
نحن في حاجة إلى كلمات صادقة من هذا النوع، لكن أن يرتكز المشروع النهوضي في بلادنا العربية على الحوار بين الحضارات أو الحوار بين الأديان؟ فهذه خدعة كبيرة؛ لأن الفروق الجوهرية بين الأديان طفيفة جدا أو غير موجودة، وكذلك الفروق الجوهرية بين الحضارات طفيفة جدا أو غير موجودة، لأننا نعيش حضارة واحدة في الشرق والغرب هي الحضارة الرأسمالية الطبقية الأبوية، وهي حضارة غير متحضرة؛ لأنها قائمة على القوة وليس الحق أو العدل.
أصبحت كلمة العدل من الكلمات الثانوية في مشاريع النهضة النخبوية العربية، كأنما العدل شيء ثانوي، أما الشيء الأساسي فهو الأمن، أصبحت كلمة الأمن هي السائدة في لغة الصراع، سيان، كلاهما واحد.
الأمن هو المطلوب، ومن هنا أصبح الإرهاب الفلسطيني هو خطر العالم وليس الإرهاب الأمريكي-الإسرائيلي؛ لأن القوة هي التي تحدد الأمن، أمن من؟ ونحن نحكم بلغة وسلاح رجال الأمن و«البزنس» ورجال البورصة والأعمال والنخب المثقفة التابعة لهم.
القاهرة، يوليو 2002
12 قصيدة صغيرة
(1) احتواء
شاعت كلمة احتواء على لسان النخبة في مصر من الرجال والنساء.
يقول أحدهم: السياسة الأمريكية الجديدة هي السيطرة واحتواء العالم تحت قوتها العسكرية.
وتقول امرأة من رائدات تحرير النساء ورئيسة إحدى الجمعيات الخيرية:
الرجولة الحقيقية هي الاحتواء.
ما معنى الاحتواء يا أستاذة؟
الرعاية والحماية.
مثل الحماية البريطانية على مصر، والرعاية الأمريكية لنا عن طريق المعونة والمساعدات؟
ليه لأ؟ الاحتواء يعني الحماية والسيطرة، والرجولة فيها سيطرة، وإلا ما الفرق بين الرجولة والأنوثة؟!
أتقولين إن الأنوثة هي الخضوع؟
نعم.
مثل الخضوع لأمريكا وإسرائيل؟!
ليه لأ؟
القاهرة نوفمبر 2002 (2) اسمي بدرية
اسمي بدرية
على اسم القمر،
كل ليلة أحلم أني أغني،
أطير في السماء وأمسك الشمس،
أعزف لحن حياتي على العود ،
وتغني معي البنات أول يوم العيد،
نحلق معا في الأفق ونقول:
أغنيتي حريتي. (3) وهل الوطن للجميع كما تدعون؟
إذا كان الوطن للجميع،
والمواطنون متساوون أمام القانون،
فلماذا تمنعون عني جواز السفر؛
لغياب تأشيرة ولي أمري؟
وإذا كنت بالغة الرشد وفي الستين من العمر،
فكيف أظل قاصرا وفي حاجة إلى وصي؟
وإذا كنت أستاذة وجاءتني دعوة للسفر؛
لألقي كلمتي ويسمع العالم صوتي،
فلماذا تمنعونني من الخروج؟
لماذا تسألونني عن موافقة الزوج،
ولا تسألونه عن موافقتي؟
ألا أنه رجل مثلكم والوطن لكم وحدكم،
وليس للجميع؟ (4) وما زال في اليأس أمل
في ليلة الاحتفال بالقرن الجديد،
رأيت حفيدتي ملفوفة بحجاب أبيض
يشبه الكفن.
لم أر منها إلا ثقب تطل منه نصف عين،
قالت هذا أمر الله،
ثم أغلقت فمها وصمتت.
أما حفيدتي الثانية فكانت نصف عارية،
تغطي وجهها بطبقة من المساحيق،
أذناها مخرومتان بحلق كبير ثقيل،
قدماها مقوستان فوق كعب عال رفيع،
تتكلم الفرنسية بلكنة أمريكية وتقول:
الرجال يدللونني،
ولا توجد للمرأة قضية.
أما حفيدتي الثالثة فكانت بلا حجاب وبلا مساحيق،
تبتسم بإشراق الشمس وتقول:
وما زال في اليأس أمل.
القاهرة 2000 (5) حتى نهاية الطريق سأمشي
قالوا لي ما من كاتبة مبدعة إلا وانتحرت؛ «مي زيادة» انتحرت في المستشفى النفسي، «وأروى صالح»، «وفيرجينيا وولف» قتلت نفسها بعد أن وصموها بالجنون،
وأنت يا أنت ماذا تنتظرين؟
قلت لهم لن أنتحر أيها السادة بل أترك لكم
إن شئتم هذا المصير.
أما أنا فسوف أمشي وأمشي حتى نهاية الطريق،
إلى آخر مدى سأمشي ولا أتوقف،
إلى آخر خط في الأفق عند الشروق والغروب،
فما عدت أخسر من شئون الدنيا إلا الموت،
بعد أن خسرت طفولتي وخسرت شبابي وكهولتي.
لم تربحني الكتابة إلا السجن وتشويه السمعة،
مع ذلك سأمشي في الطريق حتى نهايته.
أقول لكم أيها السادة حتى نهاية الطريق سأمشي،
وافعلوا أنتم ما تشاءون.
القاهرة 2001 (6) النقاد
قلت من يعين النقاد في مناصبهم؟
قالوا الملك أو الرئيس أو الوزير أو رئيس التحرير.
قلت ما علاقتهم إذن بي؟
قالوا ألست كاتبة وأديبة ولك مؤلفات؟
قلت نعم، وما علاقة ذلك بموظفي الدولة؟
أنا أكتب للناس.
قالوا لن تصل كتبك إلى الناس.
قلت لكن كتبي وصلت إلى الناس.
قالوا وكيف يعيش النقاد بدون مؤلفات يكتبها غيرهم؟
لن تأمني أبدا شرهم.
هكذا أصابني من هجوم النقاد ما ليس له مثيل.
إلا مدحهم للملك أو الرئيس أو الوزير.
القاهرة 2001 (7) نصف المجتمع
أيولد نصف المجتمع داخل مقبرة؟
أتقطع رءوسهن على مقصلة؟
أتقطع ظهورهن بالموس؟
ألا يحق لنا أن نعيش مرفوعات الرءوس؟
وأن نموت حين نشتهي أن نموت؟
لماذا تدفنوننا بالحياة تحت اسم الحماية؟
وتقتلوننا في أول الصبا تحت اسم الحب؟
وتهجروننا في المضاجع وتضربوننا.
وتقولون هذا أمر الله إليكم.
أليس هذا ما تقولون؟
أليس هو كلامكم أيها السادة،
ثم تدعون
أنه كلام الله.
القاهرة 1998 (8) أنا جديرة بأجمل رجل
جاءني رجال كثيرون في شبابي
وفي كهولتي؛
ينشدون الأنثى ذاتها في زمن الجواري،
يمشون بالخطى ذاتها في عصر العبيد،
يدقون بابي فلا أفتح لهم،
يسألونني ألا تشربين النبيذ؟
ألا تشعرين بالبرد وحدك في الليل؟
ألا تحنين إلى ذراعي رجل؟
قلت لأني أحب الشعر ولا أعرف إلا الدفء؛
ولأني لا أعرف الوحدة فأنا لا أبرد في الشتاء،
ولأني لا أتزين ولا أتكحل ولا ينقصني شيء،
فأنا جديرة بأجمل رجل،
يأتي أو لا يأتي،
فهو هنا وحيث أكون.
القاهرة 1999 (9) أستطيع الكلام في الجنس
سأتكلم عن الجنس وأكشف
غياب القيم والأخلاق،
تحت اسم القيم والأخلاق،
سأكشف عن أوامر لا تأتي من السماء؛
بل من رجال يمشون على الأرض،
يدوسون بكعبهم على الزرع،
ويأكلون حقوق الناس،
ينتهكون الأعراض والشرف
باسم الشرف،
ويغتصبون البنات والنساء
باسم عقد الزواج،
ويجلسون في مقاعد الحكم
يدخنون السيجار،
ويأكلون الكافيار،
ولكل واحد منهم امرأتان على الأقل؛
واحدة في البيت وواحدة في المكتب،
ويقولون عني فاسدة؛
لأني أكشف فسادهم.
القاهرة 1998 (10) وتحظى الموءودة بحبهم
لا شيء يثير غضبهم أكثر من امرأة طبيعية،
تعيش حياتها،
تقاوم الوأد والموت وتعيش،
تقاوم اليأس والحزن وتضحك،
لا شيء يثير رغبتهم في المرأة
إلا موتها،
وأنينها عند الاحتضار ودموعها،
ودماؤها تنزف.
وصوتها الذليل ينادي يستجدي
الرحمن من الآلهة.
حينئذ فقط تكون هي الأنثى،
ووجبة العشاء الشهية،
فلا شيء يثير شهوتهم
مثل امرأة موءودة.
القاهرة 1981 (11) والابنة الضالة تعيش
هي صاحبة قلم تشير به إلى الجناة،
تخلع القناع عن الأنوثة والرجولة والأمومة والأبوة،
تكشف عن الوجوه المليئة بالندب.
ذهبت إلى الحب في أول شبابها،
وعادت شبحا لا ترفع وجهها إلى الضوء.
استقلت قطار الحرب في منتصف الليل،
وماتت فداء الوطن،
ثم أفاقت على حفنة من قطاع الطرق،
يجلسون في مقاعد الحكم.
هاجمت مع زميلاتها الجشع والظلم،
أدانوها وقالوا إنها الابنة الضالة،
فضحت مؤامرة اغتيالها في الظلمة.
ولدت من جديد في أول العام،
صنعت لنفسها مكانة
الابنة الضالة لم تولد لتقتل؛
بل ولدت لتكشف عن القتلة،
وتفتح الطريق أمام بناتها وأبنائها حتى النهاية.
القاهرة 1991 (12) لي رجال كثيرون
فوق كل شبر من الأرض هناك رجل ينتظرني،
له وطن وبيت وأم وزوجة وعيال وكل شيء؛
لكن ينقصه شيء
لا يكتمل إلا بوجودي،
ليس هو الحب ولا الجنس ولا المال ولا المجد،
شيء ليس له اسم.
ليس حروفا تدخل المطبعة،
ولا سطور نقرؤها في الكتب،
ولا لغة بشرية نشأت في التاريخ؛
إنها لغة أخرى،
تفهمها الطيور حين تغرد،
وأوراق الشجر حين تتقبل قطرات الندى،
وبسمة المولود أو المولودة حين ترى وجه الأم،
وإشراقة الشمس بعد أن يشقشق الفجر.
القاهرة 1996
تكوين الضمير الإبداعي
من يحكم على العمل الإبداعي في بلادنا، فيقول هذه الرواية تجاوزت المحرمات الدينية أو الأخلاقية أو السياسية؟! وبالتالي لا بد أن تمنع من النشر، ولا بد من عقاب مؤلفها؟
هذا السؤال هام، ومطلوب عمل حوار فكري عميق حوله؛ لأنه يمس أهم شيء في حياتنا، وهو العقل الإبداعي الذي يمكن أن يكتشف الجديد في العلم أو الأدب أو الفن أو الفلسفة أو السياسة أو الاقتصاد ... إلخ.
إنه يمس صميم الأزمة الفكرية التي تعاني منها بلادنا ، والتي تجعلنا مستهلكين للاكتشافات العلمية والفنية في العالم، وعاجزين عن إنتاجها أو المشاركة في إنتاجها.
والمشكلة تكمن في رأيي في كلمة واحدة هي «الخوف» الذي نتربى عليه من الطفولة، الخوف من العقاب في الدنيا أو الآخرة إن تجاوزنا المحرمات الموروثة والمفروضة علينا تحت اسم السياسة أو الدين أو الأخلاق.
إن كل اكتشاف علمي أو فني جديد قد اصطدم على نحو ما بالثالوث المحرم: «السياسة والدين والجنس».
لقد حرق الفلاسفة والعلماء في تاريخ البشرية الذين تجرءوا على الكنيسة والنظام السياسي الحاكم، وتم إهدار دم المفكرين من النساء والرجال في جميع أنحاء العالم تحت اسم الدين أو الأخلاق، أو السلام الاجتماعي والسياسي.
وقد ثبت أن هؤلاء المبدعين والمبدعات الذين أدينوا في حياتهم (من نظمهم السياسية والدينية) أنهم كانوا أكثر أخلاقا وأكثر فضيلة من هؤلاء الذين حكموا عليهم.
لأن الأخلاق والفضيلة هي العدل والحرية والحب، إن النظم السياسية أو الاجتماعية أو الدينية التي لا تقوم على العدل والحرية والحب هي التي تعادي الفضيلة، وهي التي تنتهك الأخلاق والمحرمات، وليس المبدعين أو ذوي العقل الإبداعي الحر.
وفي بلادنا هناك فصل غريب بين ما يسمى الحرية والعدل، وبين ما يسمى الديمقراطية، لا زالت بلادنا العربية محكومة بنظم سياسية واقتصادية وثقافية بعيدة كل البعد عن العدل والحرية، ومع ذلك تسمى نفسها بلادا ديمقراطية.
كأنما الديمقراطية هي فقط تكوين أحزاب وانتخابات، وقد ثبت في العالم اليوم أن هذه الديمقراطية زائفة؛ لأنها لا تقوم على الحرية الحقيقية أو العدل الحقيقي بين المواطنين نساء ورجالا، فقراء وأغنياء، حكاما ومحكومين.
الحرية بدون عدل مثل السلام بدون عدل، نحن نرى هذه الخدعة التي تقاوم بها إسرائيل وأمريكا تحت اسم السلام لسلب الشعب الفلسطيني من حقوقه العادلة، هذه هي الديمقراطية الغريبة الزائفة، وقد كشفت تماما ولم تعد صالحة، وهي يبحثون الآن عن خدعة جديدة لتضليل الشعوب.
وبالمثل في الأعمال الإبداعية فإن مفهوم الحرية في بلادنا غير مفهوم؛ لأن الحرية والمسئولية هما وجهان لشيء واحد.
إذا تربى الإنسان المبدع منذ الطفولة على الحرية فإنه يكون مسئولا عن عمله الإبداعي، وليس في حاجة إلى الحكومة أو وزارة الثقافة لتفرض عليه الوصاية.
إن الطفل الذي يتعود على الوصاية وانتظار الأوامر والتوجيهات يصبح حين يكبر هو الوزير الذي ينتظر الأوامر العليا، والتوجيهات من السيد الرئيس.
إن الطفلة أو الطفل الذي يتربى في جو من الحرية والجدل والمناقشة، بدلا من القمع والطاعة، ينشأ مبدعا حرا ومسئولا في آن واحد عما يفعل وعما يكتب.
هذه الأزمة الفكرية في بلادنا تؤكد التناقض الذي نعيش فيه، أو الازدواجية الأخلاقية والسياسية والدينية التي تسود مجتمعاتنا.
في الوقت الذي نقدس فيه الشعب في موسم الانتخابات، ونعطيه حرية اختيار ممثليه في مجلس الشعب، فإن هذا الشعب يصبح قاصرا وعاجزا عن اختيار ما يقرأ من روايات؟!
لا شك أن الحكومة أو وزارة الثقافة (أو أي وزارة أخرى) ليس من حقها أو واجبها محاكمة المبدعين أو الحكم على الأعمال الإبداعية؛ لأن الضمير الإبداعي لدى موظف الحكومة (وإن كان وزيرا) ليس أكثر وعيا أو حرية أو مسئولية من ضمير المبدعين من الرجال أو النساء.
لكن السؤال: كيف يتكون الضمير الإبداعي إذا غابت الحرية؟ وكيف يتكون الإحساس بالمسئولية (تجاه الذات والآخر) إن غابت الحرية في البيوت والمدارس والجامعات والأحزاب والجمعيات؟!
هذه المعركة الأخيرة بين وزارة الثقافة والمثقفين تؤكد أننا في حاجة إلى طرح السؤال مرارا وتكرارا: من يحكم على العمل الإبداعي؟
أليس هو ضمير المبدع وإحساسه بالحرية والمسئولية تجاه القراء والقارئات من الشعب؟!
إن القراء هم الحكم على الرواية أو العمل الإبداعي، وكثير من الأعمال الأدبية أو الروايات تسقط وحدها بسبب إعراض القراء والقارئات عنها، ذلك أن القارئ والروائي وجهان لشيء واحد، كلاهما حر ومسئول في آن واحد، ومن هنا ذلك المفهوم الجديد لما نسميه «القارئ المبدع» أي القارئ الذي يستطيع أن يكون قارئا وناقدا، والذي تربى على حرية الاختيار، وبالتالي مسئولية الحكم بنفسه على العمل الأدبي، ولا ينتظر القرارات الإدارية أو التوجيهات من أعلى.
إن الإبداع يتعلق بالخيال والأحلام والأفكار المسكوت عنها بسبب الخوف من العقاب أو الطمع في جائزة، هكذا نرى كم نخطئ في حق أنفسنا، وكم نلعب دورا في قتل الضمير الإبداعي الحر حين يكون العقاب (أو الجوائز) هو الطريق الذي نتبعه للحكم على الأعمال الإبداعية.
نحن في حاجة إلى فصل وزارة الثقافة عن الأعمال الخاصة بمراقبة الأعمال الإبداعية أو الحكم عليها أو عقاب المؤلفين أو الأدباء أو غيرهم من المبدعين.
نحن في حاجة أيضا إلى فصل وزارة الثقافة عن منح الجوائز الأدبية أو الإبداعية؛ لأن الثواب والعقاب وجهان لشيء واحد، والذي يمنح جائزة من حقه أيضا أن يعاقب، فيحجب الجائزة، أو يصدر قرارا بإقالة المبدع، وكلاهما عقاب.
نحن في حاجة إلى فلسفة جديدة للأخلاق والتربية تقوم على الحرية والمسئولية، وعلى الجدل والنقد، تكوين العقل النقدي؛ لأنه هو العقل الإبداعي.
وهذا يعني في النهاية «عدم الخوف»، كيف ينشأ الطفل والطفلة على الشجاعة والإقدام، وعدم الخوف من نقد السلطة الأعلى في البيت أو المدرسة أو الجامعة أو الحزب أو الوزارة أو المؤسسة التي يعمل بها؟!
لكن نحن نتربى على الخوف، نولد في الخوف ونموت في الخوف، نحن نخاف السلطة التي تحكمنا، ويمكن لها أن تشردنا وتجوعنا وتحبسنا، لكن السجن قد يكون أخف وطأة من تشويه السمعة الأدبية أو الإبداعية لمن يتجاوزون الخطوط الحمراء في الثالوث المحرم.
القاهرة، 15 يناير 2001 (1) الزوجة المطيعة
قال لي أبي وأنا طفلة:
إن مريم العذراء كانت طاهرة،
حملت لقب زوجة الإله وأم الإله.
قال أبي كوني مثلها،
ولا تكوني مثل حواء الآثمة،
هكذا أطعت أبي وتزوجت الإله وأنجبت الإله؛
إلا أن الناس رجموني بالحجارة،
قطعوا رأسي فوق المقصلة،
دقوني بالمسامير فوق الصليب،
وناديت الإله زوجي وأنا أنزف النفس الأخير،
وقلت يا إلهي لماذا تخليت عن زوجتك المطيعة؟!
كما تخليت من قبل
عن ابنك المسيح. (2) أحلامها لم تتغير
جلست لأكتب وشريط الذكريات يعود بي إلى طفولتي، منذ دخلت المدرسة لأول مرة، وطلب منا المدرس أن نكتب أسماءنا فوق الكراسة، كتبت اسمي نوال، وإلى جواره كتبت اسم أمي زينب، هكذا دربتني أمي على الكتابة قبل أن أدخل المدرسة، لكن المدرس انتفض غاضبا حين رأى اسم أمي ، أمسك القلم وشطب عليه بالحبر الأحمر بلون الدم، وقال لي: يا حمارة اسم الأم لا يكتب، اكتبي اسم أبيك وجدك والد أبيك، كتبت كلمة «السعداوي» ويدي ترتعش بالغضب، إنه اسم جدي الذي مات قبل أن أولد، رجل غريب عني لا أعرفه، وأمي التي أعرفها وأحبها يشطبون على اسمها.
منذ تلك اللحظة بدأت أحلم بعالم آخر لا يشطبون فيه على أسماء الأمهات، ولا أحد يسألني من هو أبوك؟ وما هو دينك؟ وما هو جنسك؟ وما هي جنسيتك؟ وما هي هويتك؟ وما هي عائلتك؟ وغيرها من الأسئلة لا نكف عن سماعها منذ أن نولد حتى نموت.
في قريتي وأنا طفلة كنت أرى الأطفال يرتعشون ويموتون كالكتاكيت قبل أن يبلغوا العام الأولى من العمر، من حولي أرى وجوه النساء ضامرة مشققة محروقة بالشمس، أجسامهن داخل الجلابيب السوداء المتربة، يخرجن قبل الفجر إلى الحقول حافيات، يشتغلن بالفئوس في الأرض ثم يعدن عند غروب الشمس، أشهدهن عائدات على الطريق الزراعية مع البهائم، ما أن يدخلن حتى يشعلن الفرن، أو الكانون، ويبدأن الطبخ والخبز والغسيل والكنس، ثم يحملن الزلع فوق رءوسهن ليجلبن الماء من النيل، وقت العشاء يجلس الرجال والأولاد والذكور يأكلون، بعد أن ينتهوا ويشبعوا تجلس النساء والبنات ليأكلن ما بقي من الرجال والأولاد.
وفي أول أيام العيد أرى النساء داخل جلاليبهن السود المتربة سائرات إلى المقابر حين يبكين على الموتى، تبكي الأم طفلها الذي صعدت روحه إلى السماء بسبب الجوع أو المرض، وتبكي الزوجة زوجها الذي مات بالبلهارسيا، أو أخاها أو أباها الذي ذهب إلى الحرب ولم يعد، أو ضربته سيارة مسرعة على الطريق، أو مات في السجن أو هاجر ولا تعرف له طريقا.
كان ذلك في القرن الماضي في الأربعينيات، اليوم نحن في القرن الواحد والعشرين وبداية الألفية الثالثة، رغم ذلك حين أزور قريتي تبدو وجوه النساء كأنما لم تتغير، وجلاليبهن السوداء المتربة هي التي رأيتها منذ ستين عاما، وبكاؤهن ونحيبهن في المقابر أول يوم العيد هو البكاء وهو النحيب، كأنما لم يتغير شيء في القرية، إلا أن مساحات الخضرة أصبحت أقل مما كانت، زحفت المباني من الطوب كالأورام السرطانية، وأكلت الزرع والحقول، لم تعد الشمس تدخل بيوت القرية كما كانت تدخل وأنا طفلة، أصبحت النوافذ مسدودة بجدران البيوت المجاورة، أصبح الهواء ثقيلا بالدخان والغبار، والأزقة الضيقة أصبحت مسدودة بالسيارات المستوردة من كل نوع، أما كل بيت من الطين سيارة وكوم من السباخ أو القمامة.
ابنة عمتي زينب تبدو امرأة عجوز مجعدة الوجه ضامرة الجسم متورمة المفاصل، تجلس في مدخل البيت أمامها جهاز تليفزيون فوق منضدة خشبية مشققة، تتابع بعينيها المضعضعتين فيلما أمريكيا تتلوى فيه أجساد نساء نصف عاريات يطلق الرصاص في كل اتجاه، وتضج القرية بأصوات عشرات الرجال يؤذنون للصلاة من فوق مآذن الجوامع ركبت عليها الميكروفونات، ترتفع أصواتهم إلى السماء، لا ينافسها في الارتفاع إلا الإعلانات عن سجائر مارلبورو وكوكاكولا وسفن أب وسبرايت على أعمدة الطرق الزراعية.
يتخلل عرض الفيلم مقاطع من الإعلانات عن غسول الشعر الأمريكي سان سيلك، تظهر امرأة عارية تحت الدش تغسل شعرها بالشامبو ذي الرغوة الغزيرة، تطل ساقاها البيضاوان من تحت الماء، يلي ذلك فقرة قصيرة دينية، يظهر شيخ وقور يتكلم بصوت رصين، يمتدح حجاب المرأة وطاعتها لزوجها، واحتشامها درءا للفتنة، ثم تعود الفقرة الإعلانية ونرى امرأة لها شفتان مغريتان تحركهما في دلال وتضغط عليهما بقلم روج أحمر مستورد.
طوال هذا الوقت كله تجلس ابنة عمتي زينب أمام الشاشة، تشهد الصور المتعاقبة أمام عينيها، ومن باب الزريبة المفتوحة تطل البقرة أيضا تتابع فوق الشاشة المضيئة، تمسح زينب حبات العرق فوق جبينها بطرف طرحتها السوداء، مفاصل أصابعها متورمة مشققة بمقبض الفأس حفرت به الأرض السنين، أكثر من نصف قرن.
عيناها سقطت رموشها، جفت فيها دموعها، تقرب فمها من أذني وتهمس: «من ستين سنة وأكثر لما كنت عيلة صغيرة في المدرسة الابتدائي كان نفسي أبقى دكتورة عشان أهرب من العيشة السودة دي، لكن الحلم راح، اشتغلنا زي العبيد في الأرض عشان نعلم أولادنا في المدارس، ودخلوا الجامعة واتخرجوا بعد التعب والشقا في المذاكرة، وتعبنا وشقانا في الأرض، وأهم زي ما انتي شايفاهم، قاعدين جنبنا في البيوت من غير شغل، أو واقفين صايعين في الشوارع، ما فيش شغل ولا وظايف، ولا الأرض بقت تجيب تمنها ولا تمن الشغل فيها، زمان كنا بنزرع أكلنا وناكل عيشنا، دلوقتي بقينا نشتري العيش ونشتري الأكل، حتى الفول المدمس اللي كنا بنزرعه في أرضنا بقينا نشتريه في علب جاية من بلاد بره، بيقولوا عليها كاليفورنيا.»
أراها ترمقني بعينيها الذابلتين كأنما تسألني، ولا أعرف ماذا أقول لها، وما هي أحلامي التي يمكن أن أحدثها عنها في بداية الألفية الجديدة؟ هل أقول لها إن هناك نهاية لهذا البؤس الذي تعيشه وأهل القرية؟ هل أقول لها إن الأحوال تزداد سوءا عاما وراء عام؟ إن مصر تنوء تحت عبء الديون الخارجية، وإن هناك عجزا في الميزانية العامة، في التجارة والصناعة والزراعة، إن مصر تستورد طعامها، إن الفقراء يزدادون فقرا، والأغنياء يزدادون ثراء، وإن الفقر يصيب النساء أكثر لأنهن الشريحة الأضعف، الشريحة التي تطرد من سوق العمل بأجر بسبب البطالة، تحت اسم العودة إلى حظيرة الدين، هل أقول لها إن العالم يحكمه نظام فاسد قائم على القوة وليس الحق، وإن 443 رجلا فقط في العالم يملكون نصف ما يملكه ستة بليون من سكان الأرض؟ وإن هؤلاء الذين ينتجون ويتاجرون في الأسلحة يشعلون الحرب والفتن بين الناس تحت اسم اختلاف الدين أو العرق أو الهوية؟! وإنهم هم الذين يتاجرون بالمخدرات والعقاقير والأديان والبترول وصدام الحضارات؟ وإن الحكومات المحلية تعمل معهم ضد مصالح الأغلبية من البشر، هل أطلب منها أن تعمل أكثر هي التي لم تكف في حياتها عن العمل كل يوم من الشروق إلى الغروب؟
هل أقول لها إن المقهورات والمقهورين في بلاد العالم قد بدءوا يخلعون عن عقولهم الحجاب، يكتشفون الخديعة ويثورون ضد النظام العالمي الجديد والقديم، إن مظاهرات سياتل تتكرر في كل بلد، وإن الحواجز بين البشر سوف تسقط ويسقط معها النظام الدولي؟!
هل أشرح لها ماذا حدث في سياتل ؟ هل أقول لها إن أحلامي منذ الطفولة هي أحلامي، وأنني حين أنام أشهد سقوط هذا النظام غير العادل؟ هل أقول لها إنها هي زكية بطلة روايتي «الإله يموت في حضن» زكية المرأة المكلومة الثكلى التي استطاعت أن تتحدى العمدة، وتكشف الصلة الخفية بين السلطة السياسية والسلطة الدينية في القرية؟
ثم دق جرس التليفون فوق مكتبي، جاءني صوت المحررة من لندن تسألني عن المقال، قلت لها كتبت نصفه فقط وباللغة العربية، قالت أرسليه بالفاكس، وسوف نجد له مترجما، ويمكنك إرسال النصف الباقي غدا حتى يمكن نشر المقال بعد غد.
إلا أنني لم أكتب النصف الآخر من المقال، كنت أعرف أنني قلت ما أريد في النصف الأول، إن أحلامي لم تتغير منذ كنت طفلة صغيرة في القرية، تحلم بالحرية، تحلم أن الفروق بين البشر قد اختفت، فلا شيء يفرق المرأة عن الرجل، أو الأب عن الأم، أو الولد عن البنت، أو المسلم عن القبطي، أو العامل عن الفلاح عن العمدة، ألسنا جميعا أولاد وبنات تسعة - كما كانت جدتي الفلاحة تقول - (تسعة يعني شهور حمل داخل الرحم) يستوي في ذلك الملك والغفير والغني والفقير والرجل والمرأة، صوت جدتي لا زال يسري في أذني - رغم مرور أكثر من ستين عاما - «ربنا هو العدل عرفوه بالعقل» وإذا كان الله هو العدل فما الفرق بين دين ودين؟ لماذا لا تلغى إذن خانة الدين من بطاقات الشخصية؟! ولماذا يشطبون على أسماء الأمهات فوق كراريس التلاميذ والتلميذات؟! السؤال الملح لم يفارق عقلي منذ دخلت المدرسة.
القاهرة 2000
الخيال الذكوري المبتور في الأدب الشائع
الخيال المبتور في نظري أكثر خطورة من الجسد المبتور الأعضاء، وقد كثر الكلام في بلادنا عن بتر جزء من الجسم في عمليات الختان الشائعة للإناث والذكور، لكن نادرا ما يتكلم أحد عن بتر الخيال في الأعمال الأدبية الشائعة.
لا شك أن بتر الجسد عمل غير إنساني أو عمل إجرامي، خاصة إذا وقع على طفل أو طفلة لا تملك القوة للدفاع عن نفسها أو عن نفسه.
لكن بتر الخيال أخطر؛ لأن الناس ترى الجسد وتتألم لألمه، لكن الخيال لا يراه أحد، الخيال لا ينزف الدم بعد البتر، ولا يتحدث عنه أحد، رغم أن الجسد بدون خيال جسد ميت أو شبه ميت، والمجتمع بدون خيال جسد مجتمع عاجز عقيم، فالخيال هو القوة الدافعة وراء الإبداع في الحب والعلم والطب والأدب والسياسة والاقتصاد والجنس والفلسفة، الخيال هو قوة اكتشاف المستقبل والتنبؤ به.
حرية الخيال وسلامته واكتماله هي الوقاية الحقيقية للمجتمع من قوى العنف والإرهاب، وحركات القهر والعودة إلى التخلف والوراء.
الخيال هو مشروع التمرد والثورة ضد الظلم والجهل وفساد الضمير، وازدواج المقاييس، والثنائيات الباطلة، التي نشأت منذ عصور العبودية حين انقسم المجتمع إلى أسياد وعبيد، واندرجت النساء مع الماشية تحت بند العبيد.
خطرت لي هذه الأفكار وأنا أقرأ رواية الأعشاب التي ثارت حولها الضجة في مصر في الشهر الماضي، ثار بعض الناس وتظاهروا ضد الرواية؛ لأن فيها بعض عبارات قالوا إنها تمس المقدسات الدينية.
حين قامت الضجة لم أحاول الحصول على نسخة من الرواية أو الكتابة عنها، لكني وقفت بالفطرة والطبيعة مع حرية الإبداع وإطلاق العنان للخيال دون حدود أو قيود، إن هذا هو شرط تاريخي في مجالات الاختراعات العلمية والفنية على حد سواء.
كنت على يقين أن الضجة سوف تنتهي، بعد أن تنتصر حرية الإبداع والخيال على كل ما يعوقها أو يقيدها تحت مسميات أخلاقية ودينية.
ثم وقعت تحت يدي بالصدفة نسخة من الرواية، جاءتني هدية من شابة سورية، أرادت أن تعرف رأيي في الرواية؛ لهذا قرأتها باهتمام شديد، أدركت بعد قراءتها أنها لا تمس المقدسات الدينية، لكنها رواية مبتورة الخيال، تتحول فيها الإنسانة المرأة إلى مجرد أنثى تملك فخذين من الرخام الناعم، سواء أكانت عشيقة محتقرة أو حبيبة مقدسة.
تبدأ الرواية في أول صفحة تقول: أنا الصياد الذي لا يرتاح أبدا، والتي أقصدها تطير أمامي، تقودني إلى ما وراء الجبال، عبر بحار بلا شموس، داخل الليل والموت. يقتبس المؤلف هذه الكلمات من رجل اسمه هومان ملفيل، أول صفحة نرى بطل الرواية يجري وراء فتاة ترفع الريح ثوبها عن فخذين كالرخام ناصعي البياض مكتنزين باللحم، يناديها باسم طفلتي الملائكية، اسمها آسيا الأخضر، بطل الرواية اسمه مهدي جواد، له أيضا عشقية اسمها فلة، يصفها بالشهوانية والدمامة والاحتقار، امرأة يقول عنها ثرثارة مبذولة، وقد رأى ما بين فخذيها وهي تصعد الشجرة فأثارت شهوته.
منذ الطفولة ندرك أن مهدي جواد ممتلئ برغبة عارمة في الصيد وقتل الطيور والحيوانات، وقد امتدت نزعة الصيد على جنس النساء في شبابه، مع ذلك يقدم نفسه كمناضل وطني يؤمن بالاشتراكية والعدالة في حياة البشر، لكن خيال المؤلف مبتور لا يرى من البشر إلا نصفهم فقط وهم الرجال الذكور؛ لأن النساء في الرواية مجرد كائنات خلقها الله من أجل إشباع الغريزة الجنسية عند بطل الرواية وزملائه المناضلين، الذين هربوا من الاستبداد والقمع في بلدهم العراق، وهاجروا إلى الجزائر.
يدور الحوار بينهم كالتالي: خلق الرجل للمبيت في أكثر من عش، تلك رغبة ربنا وأنبيائه والمرسلين. - أي عش يفضل وريث الأنبياء؟ - الدافئ والضيق.
تتعدد العلاقات الجنسية في حياة الرجل منهم تحت اسم الطبيعة الذكورية والدين، رغم سخرية البطل من بعض التناقضات في القيم الدينية والسياسية التي تحكمهم، إلا أن خياله عجز عن إدراك التناقض في علاقته بالنساء، أو إدراك ما هي الطبيعة الأنوثية، فالرجل في نظره له طبيعة الإنسان الذي يفهم القضايا السياسية الكبرى، أما المرأة فهي ليست إنسانا، ولا تفهم هذه القضايا السياسية، وهي إما طفلة ملائكية لإشباع عاطفة الرجل العذرية المبتورة، أو أنثى محتقرة شيطانية متعددة العلاقات بالرجال.
حين تكبر هذه الطفلة الملائكية تصبح جسدا أنثويا ناعما أو مؤخرة حريرية وحلمة ثدي، رغم أن هذه الفتاة أمسكت السكين وكادت تقتل عمها من أجل مهدي جواد، لكن مهدي جواد لا يدرك هذا الفعل الإنساني الكبير من ناحيتها، ويظل يراها مجرد جسد أنثوي، ويدوس عند الغضب على كرامتها، ويمارس الجنس مع غيرها من النساء دون أن يشعر بالخطأ، ويتحدث عن العدالة في كل شيء إلا العدالة في علاقته الخاصة بالنساء، يعجز خياله الذكوري عن تصور علاقة عادلة ديمقراطية بين الرجل والمرأة، مع ذلك يتحدث عن غياب الديمقراطية في الدولة التي هرب منها، لا يدرك أن غياب الديمقراطية تحت قبة البرلمان ترتبط بالديمقراطية في غرفة النوم.
تمتلئ غرف نوم الرجال في الرواية بالدكتاتورية، والأحادية الفكرية، والانفصام بين الحياة العامة والحياة الخاصة، دون أن يدرك أحدهم (بما فيهم بطل الرواية) أن هذا التناقض في حياتهم ينبع من خيال ذكوري مبتور موروث منذ نشوء العبودية، أو ما يسمى النظام الطبقي الأبوي، رغم سخريتهم من الدين في حياتهم العامة، فإنهم يستخدمون الدين في حياتهم الخاصة لتبرير الازدواجية الأخلاقية في علاقتهم بالنساء.
كان مهدي جواد يحارب الاستبداد والطغيان في العراق، إلا أنه في الفراش لا يرى طغيانه، إنه ذكر متضخم الذكورة مستبد في ذكورته، سواء مع الحبيبة الصغيرة ذات الفخذين من الرخام، أو مع العشيقة الدميمة الزفرة المرذولة.
يقول البطل عن النساء كل النساء إن لا شيء يهمهن في الرجل إلا هذا (يشير إلى ذكورته) وينطق ألفاظا جارحة بالنساء، أكثر فظاظة من تلك التي يصف بها الحاكم المستبد في بلده، فهو يخاف منه رغم البعد، وهو يخاف أيضا من الله، رغم كونه في السماء البعيدة أبعد من الحاكم في العراق، أو رجال الشرطة في الجزائر، ربما لأن عقابهم أقرب إليه وأسرع من عقاب الله، إن عقاب رجال الشرطة يتجسد في البنادق والرصاص والهراوات، لكن العقاب بعد الموت لا يتجسد إلا في الخيال.
حدث مرة أن تعارك الرجال المهاجرون في ساحة بونة، اشتبكوا في معركة يضربون بعضهم البعض بالسكاكين والشوك وزجاجات البيرة، أصيب مهيار صديق مهدي جواد بجراح وهو يدافع عن مهدي في غيابه، وقال مهيار لبطل الرواية: نحن ندافع عنك في ساحة بونة ونجرح، وأنت تعانق حبيبتك آسيا الأخضر على البحر؟! يضحك مهدي جواد ويسخر من حبيبته آسيا الأخضر ومن كل النساء، يعبر عن احتقاره لعلاقة الحب وعلاقة الجنس مع الحبيبة الملائكية والعشيقة الشيطانية على حد سواء، ويقول لمهيار: وهل تركوا لنا أولاد القحبة غير ذلك؟! كلمة «ذلك» تعني العلاقة بالنساء، أما أولاد القحبة فهم أعوان الحاكم المستبد في العراق، الذين حالوا بينهم وبين النشاط السياسي المحترم، ولم يبق أمامهم إلا النشاط الجنسي مع النساء.
تمتلئ الرواية بكلمات من نوع آخر، أولاد الزواني، أولاد القحبة، يتوجه السباب في معظم الأحيان إلى المرأة القحبة أو الأم الوالدة وأعضائها، أو المرأة الزانية التي يمارسون معها الجنس في الليل ثم يلفظونها كالبصقة في النهار.
أليس هذا هو الخيال الذكوري المبتور الذي لا يرى الرجل إلا حيوانا سياسيا، أو حيوانا جنسيا، وليس له نشاط آخر في الحياة.
يقول أحدهم في الرواية عن العشيقة «فلة» التي تمارس معهم الجنس، تشبع حاجتهم وحنينهم إلى الوطن والأم، تعالج جروحهم في المعركة في ساحة بونة بالغسيل والمطهرات، تزيل عنها الصديد والدم، تسهر بجانبهم طول الليل وهم مرضى بين الحياة والموت، يدفنون رءوسهم المتعبة في صدرها الكبير الحنون كصدر الأم، لكن ما أن يتماثلوا للشفاء وينهضوا من الفراش حتى يلفظونها كالبصقة، يقولون عنها امرأة مرذولة، امرأة مبولة، وعاء لتفريغ التوتر وما هو زائد عن الجسم، يقذفون فيها كل ما تطرده أجسادهم.
يظهر واضحا في الرواية أن العلاقة الإنسانية الوحيدة هي بين الرجل والرجل، الحب الوحيد المحترم هو بين مهدي جواد وصديقه مهيار، هذا الحب أكثر عمقا وأكثر صدقا واحتراما من حبه لآسيا الأخضر، الحبيبة الملائكية!
أما العشيقة «فلة» فهي على علاقة أيضا بكوميسار الشرطة في الجزائر، إنه صديقها من «النوع السريري» بلغتهم التهكمية على المرأة التي ترعاهم كالأم، مع ذلك يلجئون إليها لتتوسط لدى الكوميسار لحمايتهم من الشرطة.
هذه المرأة الساقطة في نظرهم تمنحهم الحب والحنان، تعرض نفسها للخطر والموت من أجل إنقاذ حياتهم، أما هم فلا يبذلون أي جهد لحمايتها، بل يضحون بها مثل كبش الفداء من أجل إنقاذ أنفسهم، ويقولون عنها امرأة سرير ساقطة مرذولة تمارس الجنس، معهم ومع رجال الشرطة، بعضهم يتشكك في كونها جاسوسة وربما تفشي أسرارهم إن سألها الكوميسار عن علاقتها بهم.
يخاطب هؤلاء الرجال بعضهم البعض بكلمة يا حلوف، ربما يعرفون بعضهم البعض أكثر مما تظهره الرواية، أما الفتاة الطفلة الملائكية حبيبة بطل الرواية، فهي تقدم له الحب والجنس واللذة في سرير الحب النظيف، وهي الطعم في السنارة الذي يأكله السمك، هي تقع في المصيدة لأنها أحبت مهدي جواد بصدق وإخلاص، يطاردها رجال أسرتها حتى تشهر السكين في وجه عمها، تدافع عن مهدي جواد حتى آخر نفس، مع ذلك لا تحظى آسيا الأخضر بما يحظى به صديقه مهيار من الاحترام أو الصداقة أو حتى الحب، هو يراها مجرد أداة لتفريغ ما هو زائد عن الجسد، وسيلة لنسيان الهزيمة والإحباط والقمع السياسي، وهي تراه إنسانا كاملا عاقلا شريفا مناضلا وطنيا، يختلف عن الرجال الشرقيين.
كلمة «الشرقيين» هنا تعبر عن رؤية مهدي جواد للشرق، كأنما الشرق هو المسئول عن تخلف الرجال، وليس النظام الطبقي الأبوي الذي يحكم الشرق والغرب على حد سواء يعجز خيال الرجل عن إدراك حقيقة الظلم في الشرق والغرب، يقع في هذه الثنائية الباطلة التي تقسم العالم إلى شرق وغرب، وتجعل الغرب أعلى مكانة من الشرق لمجرد أنه غرب، بمثل ما تجعل الرجل أعلى مكانة من المرأة لمجرد أنه ذكر.
رغم ما يعلنه بطل الرواية أنه غير مؤمن بالمقدسات الموروثة، إلا أنه في الحقيقة مؤمن بها فيما يخص العلاقة بين الرجال والنصف الآخر من المجتمع وهن النساء، إنه يؤمن بالثنائيات الباطلة، ويعجز خياله عن إدراك التناقضات فيها.
أخطر ما في الرواية أنها تؤكد الازدواجية الأخلاقية، والنظرة الدونية لنصف البشرية من النساء، هذه الرواية تبتر الخيال أكثر مما تبتر إنسانية المرأة، وإذا كان الخيال الأدبي مبتورا أصبح المستقبل مبتورا يمشي على ساق واحدة، وينظر إلى الأمور بعين واحدة هي عين الذكر.
القاهرة 2000
4 قصائد صغيرة
(1) ذاكرة النسيان
كم اتسعت المسافة بيننا وبين نفسنا.
لم تعد نفسنا هي نفسنا،
أصبحنا نحمل نفوسا أخرى،
وعقولا أخرى،
وأسماء لا تدل علينا،
ونحن نساء ولسنا رجالا،
فلماذا يخاطبوننا بصيغة المذكر ؟
ولماذا نحمل فوق أجسادنا أسماء ذكور؟
يقولون ابنة فلان أو حرم فلان أو أم فلان،
ويطلبون منا أن نشكرهم ونشعر بالفخر،
والرجل منهم إن حمل اسم أمه يشعر بالعار،
وإن حمل اسم زوجته يموت من الخزي،
فماذا نفعل نحن النساء يا نساء؟
ألا نعود إلى أنفسنا؟
نتذكر أسماءنا وتاريخنا،
ونستعيد ذاكرة نسياننا.
القاهرة 1982 (2) متى أشك في نفسي؟
رأيتهم يتنافسون لمصافحة المسئول الكبير،
يدوسون على أقدام بعضهم البعض،
يسيل لعابهم بكلام معسول،
أو مسموم.
يعملون في الحكومة والمعارضة وكل شيء،
يجلسون في الصفوف الأمامية،
يقبضون الماهية والعمولة والحوافز،
يحصدون الجوائز؛
في الأدب والعلم والدراسات السياسية والاجتماعية،
رجال ونساء ينطقون الفصحى بلكنة أمريكية،
يعيشون خارج الوطن وداخله،
يحملون لقب مفكرين أو مثقفين أو غير ذلك،
ويسألونني أين أنت يا أنت؟
وأقول لهم لن أحصل أبدا على جائزة،
وإن حصلت عليها في يوم؛
فسوف أبدأ الشك
في نفسي.
القاهرة 1998 (3) النفقة للرجل
سمعت زوجها يهددها بالطلاق،
أو يصفعها على وجهها مهددا
بقطع النفقة.
وهي تتمسح عند قدميه مثل قطة جائعة
من أجل النفقة،
يفرض عليها الطاعة مقابل الإنفاق،
وتدوخ السبع دوخات.
السبع سنين؛
لتحصل على الملاليم.
وجاءني الزوج يحمل الهدايا والمهر،
أعدتها كلها إليه، وقلت:
الهدية رشوة والمهر إهانة.
وجاءني الزوج الثاني يهددني بالدخول في بيت الطاعة،
كانت نكتة ضحك لها الجميع،
وقلت له خلعتك عني حسب قانون الخلع،
ولتذهب أنت إلى المحكمة إن شئت
وتطلب النفقة.
القاهرة 2000 (4) سأمشي حتى النهاية
سأمشي حتى النهاية،
لن أتوقف أبدا في منتصف الطريق،
ولن أعود أدراجي إلى الوراء
لأقول نعم.
إلى آخر المدى سأمشي،
مرفوعة الرأس،
لا أخشى قطعها،
لن أفقد بموتي
إلا الأغلال،
وإن اختفى اسمي في التاريخ،
وإن أهالوا علي التراب،
فهناك من يحملون بصمتي،
وكلمتي وصورتي؛
لأنني امرأة لم تلد عيالا
ترسلهم إلى الحرب
ليموتوا؛
بل ولدت كبارا عاشوا
رغم الحروب،
ونساء مبدعات،
غيرن العالم
والتاريخ.
القاهرة 1998
رحلة الصيف إلى الجنوب
اندهشت صديقتي الكاتبة المصرية البارزة حين قلت لها إنني مسافرة إلى الجنوب الأفريقي ، كانت هي تعد حقائبها إلى الساحل الشمالي حيث الفيلا الكبيرة على بحيرة مارينا، إن الحر في القاهرة لا يطاق في شهر أغسطس مع زيادة الرطوبة، لم تكن الكاتبة البارزة (الحاصلة على درجة الدكتوراه في الجغرافيا أو التاريخ) تعرف أن الأرض تدول حول الشمس وليس العكس، كما اعتقد بعض الآلهة القدماء، وأن المدار الذي تدور فيه الأرض له شكل بيضاوي مائل، وحين تكون الشمس رأسية حامية فوق أرض مصر خلال شهر أغسطس فإنها تصبح فوق الجنوب الأفريقي مائلة حانية حنان الأم أو الأب الذي يفهم معنى الأبوة الحديثة، قلت لصديقتي الكاتبة البارزة التي تدرس لطلاب الجامعة الجغرافيا أو التاريخ: «أغسطس هو شهر الشتاء في الجنوب الأفريقي وليس الصيف»، اندهشت الكاتبة وقالت: «أهكذا تنقلب فصول السنة فوق القارة الواحدة؟»
كانت الدعوة قد جاءتني لحضور معرض الكتاب الدولي الذي يعقد في زيمبابوي كل عام خلال أجمل الشهور في الشتاء، وهما يوليو وأغسطس، لم تكن صديقتي (الأستاذة الجامعية والكاتبة المعروفة) تعرف أن «هاراري» هي عاصمة زيمبابوي، وأنها تقع في أقصى الجنوب الأفريقي شمال مدينة جوهانسبرج، نطقت كلمة هاراري بطرف لسانها وقلب الراء إلى الغاء (مثل بنات الأرستقراطية المصرية الفرنسية القديمة) وقالت: يا عزيزتي لن يكون لأفريقيا وجود فوق خريطة العالم في القرن الواحد والعشرين، إنها تغرق في الجهل والمرض والحروب الأهلية، قلت لها: «وماذا عن مصر؟» انتفضت وصاحت: «لأ! مصر حاجة تانية! مصر ليست في أفريقيا يا عزيزتي! مصر في الشرق الأوسط وحوض البحر الأبيض المتوسط!»
قلت لها: «مصر في أفريقيا، في شمال أفريقيا انظري إلى الخريطة!» إلا أن صديقتي الكاتبة البارزة والأستاذة الجامعية لم تكن تريد الاعتراف بالجغرافيا والواقع والحقيقة، وظلت تقول مصر ليست من البلاد الأفريقية.
علاقتي بأفريقيا أشبه ما تكون بالعلاقة العضوية، تجذبني إلى منابع النيل رائحة الأرض والماء والزرع، كأنما ولدتني أمي في قلب أدغال أوغندة على أحد شواطئ بحيرة فيكتوريا، وقد عشت في قلب أفريقيا حين اشتغلت بالأمم المتحدة في اللجنة الاقتصادية لأفريقيا عام 1979، وكان مقري أديس أبابا، واقتضى العمل أن أسافر في جميع البلاد الأفريقية شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، وكان الانتقال من بلد أفريقي إلى بلد أفريقي آخر لا بد وأن يمر بإحدى العواصم الأوروبية، ولكي أصل من أديس أبابا، إلى السنغال أو النيجر وساحل العاج لا بد أن أطير شمالا إلى القاهرة، ثم أجتاز البحر الأبيض المتوسط إلى باريس، ومن باريس أركب الطائرة إلى داكار في السنغال، لكن اليوم، وبفضل مصر للطيران أصبحنا نطير مباشرة من القاهرة إلى هاراري دون المرور على أوروبا.
أول مرة سافرت إلى هاراري عاصمة زيمبابوي كان في شهر يوليو 1985، بعد انتهاء المؤتمر الدولي للمرأة الذي عقد في نيروبي، كنا مجموعة من الكاتبات الأفريقيات تزيد عن الثلاثين كاتبة وأديبة وشاعرة، قررنا أن نؤسس معا جمعية للكاتبات الأفريقيات، وتم اختيار مدينة هاراري لتكون مقر اللقاء الأول، وسافرنا معا من نيروبي إلى هاراري، وفي فندق «مونو موتابا» (باسم إحدى الإلهات الأفريقيات القديمات) جلسنا في قاعة «إندابا» وأعلنا إنشاء جمعية الكاتبات الأفريقيات، وقد مضى على هذا اليوم أربعة عشر عاما حين وجدنا أنفسنا مرة أخرى في القاعة ذاتها والفندق ذاته، وربما الوجوه والأسماء ذاتها، زاد علينا بعض الشابات الكاتبات من الكاميرون، وناميبيا، وبوتسوانا، وغانا، ومالي، وتنزانيا، وزامبيا، وأوغندة، والصومال، بلغ عددنا أكثر من خمسين كاتبة، وبحثنا عن الجمعية القديمة التي أقمناها عام 1985 فلم نجد لها أثرا، أين راحت؟! قالت الكاتبة الأفريقية من غانا واسمها «آما آثا أودو»، «لقد تفرقنا يا نوال، وتبعثرنا في القارات من أمريكا الشمالية إلى أستراليا، وكندا، هربا من الحكومات الدكتاتورية في بلادنا الأفريقية»، إنها «آما آثار أودو» إحدى الكاتبات الشهيرات الأفريقيات التي كانت وزيرة للثقافة في غانا، وبانقلاب الحكم اضطرت إلى الرحيل إلى أمريكا الشمالية حيث أصبحت أستاذة زائرة في جامعة بولاية نيويورك، وأيضا الكاتبة الأفريقية من كينيا واسمها «ميشيري موجو» التي هربت من الاضطهاد في كينيا، وبحثت عن عمل خارج وطنها في كندا وأستراليا، ثم استقر بها الحال في جامعة سيراكيوس بالولايات المتحدة، والكاتبة «سينديو ماجونا» من جنوب أفريقيا التي هربت من حكومة الآبارثايد العنصرية، وحصلت على وظيفة بالأمم المتحدة في جنيف، وغيرهن الكثيرات من الأديبات المبدعات في أفريقيا اللائي أنقذن حياتهن من براثن الاضطهاد في أوطانهن، وهاجرن إلى بلاد الله الواسعة، حيث أثبتن كفاءتهن الأدبية أو العلمية وحققن شهرة عالمية أو مكانة بارزة في العالم، لم يحظ بها بعض حكامهن.
قلت لآما آثا أودو وميشيري موجو وسينيو ماجونا: «لماذا لا نعيد تأسيس جمعيتنا القديمة للكاتبات الأفريقيات؟» وفعلا جلسنا في القاعة ذاتها التي جلسنا فيها منذ أربعة عشر عاما، وأعلنا قيام جمعية الكاتبات الأفريقيات، وعدد المشاركات في التأسيس الجديد خمسة وستون كاتبة، والتاريخ 2 أغسطس 1999.
تلفت حولي أبحث عن كاتبات من أفريقيا الشمالية فلم أجد كاتبة من المغرب أو تونس أوالعالم في القرن الواحد ليبيا أو الجزائر، ومن مصر لم يكن هناك إلا أنا.
وقلت: «أين الكاتبات في الشمال الأفريقي؟!» وقالت ميشيري موجو: «المشكلة أن الكاتبات في شمال أفريقيا يكتبن باللغة العربية، وقليل جدا من تترجم أعمالهن إلى الإنجليزية أو الفرنسية.»
كانت «تيي تسي داجا ريمبو» (من زيمبابوي) قد قدمت بحثا في إحدى ندوات معرض الكتاب الدولي 99 عن «مشكلة اللغة في التواصل بين الكاتبات الأفريقيات»، إن معظم الكاتبات من أفريقيا اللائي يشتهرن عالميا يكتبن باللغة الإنجليزية أو الفرنسية، أما اللائي يكتبن باللغات الأفريقية المحلية؛ فلا مكان لهن فوق خريطة العالم، وهذه بعض آثار الاستعمار القديم والجديد.
لهذا كان أول هدف من الأهداف التي وضعناها لجمعية الكاتبات الأفريقيات هو: (1)
العمل على ترجمة أعمال الكاتبات من اللغات المحلية إلى اللغات العالمية. (2)
تشجيع الكاتبات على الكتابة باللغة المحلية حتى لا تنعزل الكاتبة عن أهل بلادها، ومن بعد الكتابة باللغة المحلية يمكن الترجمة بعد ذلك لمن تشاء. (3)
عقد الندوات الأدبية المشتركة بين الكاتبات الأفريقيات على الأرض الأفريقية وليس في أوروبا وأمريكا. (4)
مناقشة الأعمال الأدبية التي تنتجها الكاتبات الأفريقيات، والتي يتجاهلها النقاد الرجال.
إحدى الندوات في معرض الكتاب الدولي 99 في زيمبابوي ناقشت سيرتي الذاتية «أوراق حياتي» التي ترجمت إلى الإنجليزية بعنوان «ابنة إيزيس»، وقد دهشت حين علمت أن هذه السيرة الذاتية قد نالت الاهتمام الأدبي من معظم النقاد في القارة الأفريقية «والأوروبية والأمريكية» إلا الأصدقاء النقاد في مصر، رغم أنها صدرت باللغة العربية 3 سنوات عن دار الهلال، وصدر الجزء الثاني منها العام الماضي عن دار المستقبل العربي، مع ذلك لم يهتم بها في بلدنا إلا النادر القليل، بل إن جمعية الكاتبات المصريات رفضت عقد ندوة أدبية لمناقشة هذه السيرة الذاتية، وقالت إحدى المسئولات بها: «يا خبر إسود! دي سيرة ذاتية خطيرة!»
منذ ثلاثين عاما (وبالضبط عام 1969)، طرأت لي فكرة إنشاء جمعية للكاتبات المصريات، عرضت الفكرة على بعض الصديقات الكاتبات، وبدأنا تسجيل الجمعية بوزارة الشئون الاجتماعية عام 1970، وفعلا ولدت الجمعية إلا أن انقلاب السياسة في عهد السادات قد أدى إلى تجميد نشاط هذه الجمعية لأكثر من عشرين عاما، ولم تستأنف عملها إلا في السنين الأخيرة.
تذكرت هذا التاريخ وأنا أشارك في ندوة معرض الكتاب الدولي في زيمبابوي، وأستمع إلى كبار النقاد في العالم يناقشون سيرتي الذاتية، تذكرت أيضا أن معرض الكتاب الدولي الذي يعقد بالقاهرة (كل عام في بداية الشتاء) لم يعقد ندوة واحدة لمناقشة أي كتاب من كتبي، ولم يسمع شيئا عن سيرتي الذاتية أو غيرها من مؤلفاتي، وقد رفض عقد ندوة أتحدث فيها لرواد معرض الكتاب من الشباب والشابات، وقال أحد المسئولين عن إقامة المعرض: يا خبر إسود ندوة لنوال السعداوي؟! دي كاتبة خطيرة!
أجمل ما شهدت في مدينة هاراري هذا العام هم أطفال المدارس الذين تجمعوا في مسرح «شيباوو» الأفريقي يوم 3 أغسطس 1999، فوق خشبة المسرح صعدت طفلة في الثانية عشر من عمرها وراحت تقرأ بعض الفقرات من أحد كتبي المترجمة إلى اللغة الإنجليزية، ثم شاركها بعض الأطفال من البنات والأولاد، وراحوا يقدمون مسرحيات قصيرة مأخوذة من روايات الأديبات الأفريقيات ومنها بعض رواياتي.
وسط التصفيق الذي ملأ القاعة الفسيحة التي تضم أكثر من ألف طفل وطفلة وقفت وقلت: «هذا يوم من أجمل أيام حياتي؛ لأنه يقع فوق أرض أفريقية، ولأني أرى أمامي وجوها نضرة سمراء البشرة عيونها تلمع بالفرح، وتذكرني بطفولتي في قريتي على ضفاف النيل.»
هاراري، زيمبابوي
13 أغسطس 1999
تخبط النخبة المثقفة
رأيت صور الفتاة في الصحف التي فقدت عيناها في مظاهرات الإثنين 8 مايو 2000 بجامعة الأزهر، وهي لم تقرأ الرواية للمؤلف السوري التي أثارت المظاهرات، ولا تعرف شيئا عن المعركة السياسية الدائرة تحت شعارات دينية.
ثم قرأت أن البوليس سيطر على الموقف، وتم حبس بعض الشباب رهن التحقيق.
إزاء هذه الأزمة التي تراق فيها الدماء، وبعضهم صغار السن وأبرياء، أود مصارحة القراء والقارئات بكثير من الهواجس وعلامات الاستفهام التي تدور في عقول الكثيرين: (1)
ألا تعرف الحكومة الرءوس الكبيرة التي حرضت الشباب على المظاهرات؟ ألا تظل هذه الرءوس الكبيرة حرة طليقة تكتب في الصحف، وتخطب على المنابر وفي الأحزاب وفي أجهزة الإعلان المحلية والعربية والدولية؟! (2)
ألا تشترك النخبة المثقفة في هذه اللعبة السياسية الدينية، سواء النخبة في الحكومة أو المعارضة أو الهيئات غير الحكومية، أو ما يطلقون على أنفسهم «المستقلون»؟! (3)
ألم تتكرر هذه الأحداث المؤسفة الدامية، والتي يروح ضحيتها الأبرياء وينزف المغمورون الدماء، على حين تزداد النخبة تألقا تحت الأضواء، يريقون الحبر الأسود فوق الورق بدلا من الدماء الحمراء.
مما يدل على تخبط الحكومة والنخب المثقفة أسوق إليكم الأمثلة، وأمامي الآن ثلاثة من الصحف الهامة الصادرة من مختلف الهيئات الحكومية أو الحزبية المعارضة أو المستقلة خلال الأيام الثلاثة 9، 10، 11 مايو 2000: (أ)
تعلن الحكومة ومؤسساتها الثقافية أنها لم تصدر أي كتاب يمس الدين أو المقدسات، بل العكس هو الصحيح، لقد تم نشر العديد من الكتب الدينية وكتب التراث بأسعار زهيدة، وقد تم إحالة رواية الكاتب السوري إلى لجنة لإعداد تقرير حولها. (ب)
لقد تم سحب الرواية، كما تم منع تداولها من الأسواق لأن بها عبارات تمس الدين والمقدسات. (ج)
أكدت وزارة الثقافة أن الرواية لم تسحب من الأسواق ولا أي كتاب آخر، وأن اللجنة التي شكلتها لا تهدف للتحقيق في الرواية بقدر ما تهدف لتقديم قراءة متكاملة لها. (د)
أصدرت اللجنة المشكلة من المثقفين المستقلين بيانا يرفض لغة التحريض على العنف واغتيال الثقافة والمثقفين، ووقع على البيان عدد كبير من كبار المفكرين والمثقفين والأدباء. (ه)
أصدر رئيس الوزراء حكمه بأن رواية الكاتب السوري تسيء إلى الإسلام، كما أن البيان الرسمي لوزارة الداخلية أصدر حكمه أيضا بأن الرواية تضمنت عبارات ماسة بالمعتقدات الدينية، وقرر رئيس جامعة الأزهر أن الرواية تضمنت عبارات تسيء للمقدسات الإسلامية، وقدم احتجاجا رسميا لوزير الثقافة، ولمجلس الشعب، طالب فيه مصادرة الرواية، وإجراء محاكمة لمؤلفها السوري أمام القانون الدولي. (و)
إن المحرضين على اغتيال المثقفين وإهدار دمهم كانوا يعرفون من قبل أن الحكومة سوف تتراجع، وقد تراجعت بالفعل. (ز)
حين تواجه الحكومة هذه الأزمات فهي لا تستخدم إلا الرصاص والهراوات والقنابل المسيلة للدموع، أي الوسائل الأمنية، ولا يسقط إلا الضحايا الأبرياء، الذين ليسوا في الحكومة ولا في أحزاب المعارضة، ولا من النخب المثقفة، ولا من دعاة التكفير والاغتيال، ولا من المستقلين، بل تراق دماء الصغار الأبرياء، ومنهم أطفال وبنات لم يقرأن الرواية.
ألا يتكرر هذا الكلام في كل أزمة مرت بنا منذ ولدنا وحتى نموت؟ والوجوه التي تتصدر دائما هي الوجوه، نراها على الشاشة والمجلات والصحف حكومية وغير حكومية؟! ربما تتغير مناصبها العليا من حين إلى حين، أو تتغير شعاراتها ومقاعدها مع تغير اللحن الموسيقي، من الحكومة والمعارضة إلى اللاحكومة أو اللامعارضة! يمسكون العصا دائما من المنتصف ولا نعرف موقفهم في وضوح، ونراهم في كل مكان بارز تحت الأضواء، سواء في المجالس الحكومية أو الشعبية أو القومية العليا، سواء كانت مجالس تخص الديمقراطية أو التنمية أو المرأة أو الشباب أو حقوق الإنسان! تصدر قرارات التعيين فيها بقرار حكومي في أغلب الأحيان.
منذ أيام قليلة، بالضبط يوم 24 مارس 2000 جاءني خطاب رسمي مسجل من وزارة الشئون الاجتماعية ترفض تسجيل جمعية النهضة الفكرية للمرأة المصرية، لماذا؟ لأن المقر لا يصلح! المقر به كمبيوتر وفاكس وتليفون ومقاعد للجلوس ونوافذ على الهواء الطلق والسماء، لم يذكر الخطاب الرسمي لماذا لا يصلح المقر، إلا أننا سمعنا شفاهة أن المقر ليس به مدخل مستقل عن صاحبة البيت وهي عضوة بالجمعية!
كانت الحكومة المصرية منذ سبعة وسبعين سنة أكثر تقدما منها اليوم، فيما يخص النهوض بالمرأة، وفي منزل هدى شعراوي عام 1923 تكون الاتحاد النسائي المصري، وفي منزلها ذاته الواقع في شارع قصر النيل رقم 2، وفي الساعة الخامسة مساء يوم الجمعة 16 مارس 1923، تشكلت لجنة دائمة من النساء بلغ عدد عضواتها 24 امرأة، انتخبن مجموعة منهن لحضور المؤتمر النسائي الدولي في روما، وعلى رأسهن صاحبة المنزل (راجعوا جريدة الأهرام الصادرة في 11 مايو 2000 صفحة 7).
واليوم كيف تتخبط الحكومة هكذا؟ وهل ننسى الهجوم الضاري الذي شنته وزارة الشئون الاجتماعية خلال العام الماضي (1999) ضد تكوين الاتحاد النسائي المصري، والذي تشكلت من أجل تكوينه لجنة تحضيرية تزيد عن المائة عضوة وعضو، وكانت وزيرة الشئون الاجتماعية (حينئذ) قد سمحت للفكرة منذ بدايتها، وأمدت اللجنة بقائمة الجمعيات النسائية في مصر التي يمكن أن تنضم إلى هذا الاتحاد النسائي المصري؟!
ربما يكون هذا التخبط هو حال الحكومات في معظم بلاد العالم، إن طبيعة تكوين الحكومات من الموظفين المطيعين أساسا لا تؤهلها للقيام بعمل خلاق أو جديد، يقتضي إعمال العقل المستقل عن عقول الرؤساء أو أصحاب السلطة والنفوذ.
إن المشكلة الحقيقية في هؤلاء النخب المثقفة الذين يتخبطون مع الحكومة، ويحملون لقب مفكرين أو مثقفين - رغم أن معظمهم ليس له فكر مستقل أو رؤية فلسفية أو ثقافة أو موقف نابع من الاقتناع الحقيقي، وليس الولاء لحكومة ما أو حزب أو فرد.
نحن نعيش هذه المأساة على الدوام، تتكرر في كل عهد منذ الملكية القديمة حتى الجمهورية الحديثة، ولا يروح ضحيتها إلا الأبرياء من الشباب أو الشابات، على حين يتألق الكهول من النخب المثقفة ويزدهرون، وتطاردنا صورهم الليل والنهار، وأصواتهم تعلو وتعلو مع الأزمات.
القاهرة 11 مايو 2000
عن استراتيجية الثقافة والإبداع
قرأت ما نشره الأستاذ سلامة أحمد سلامة بجريدة الأهرام 14 يناير 2001، وأنا أتفق معه في أن محاكمة أو الحكم على الأعمال الإبداعية ليس من وظائف وزارة الثقافة.
لكني أختلف معه في أن يكون قانون العقوبات هو الحكم في مثل هذه الأمور المتعلقة بالإبداع الأدبي أو الفكري، لأن قانون العقوبات يختص بالأفعال التي تشكل اعتداء على الآداب العامة، كالسب والقذف، قد يحكم القانون بالعدل في هذه الحالات، إلا أن المجال القانوني (في رأيي) لا يمكن أن يكون هو الدستور الأخلاقي الذي يضبط إيقاع النشاط الإبداعي والفكري كما يقول الأستاذ سلامة.
ومن هنا السؤال: من إذن يتولى الحكم على الأعمال الإبداعية كالروايات مثلا؟
إن الرواية عمل إبداعي يجمع الخيال والواقع معا، وهي تقدم للناس أي الشعب، والمفروض أن يحكم الشعب بنفسه على الأعمال الإبداعية، وأن تكون له حرية القراءة أو عدم القراءة، أليس الأساس الأول للديمقراطية هو أن يحكم الشعب نفسه بنفسه؟ وأن تكون له حرية النقد والمعارضة، وأن يكون مسئولا عن اختيار ممثليه في البرلمان مثلا؟ فكيف لا يكون هذا الشعب مسئولا عن اختيار الروايات التي يقرؤها؟
ربما يقول البعض إن الشعب في بلادنا لم ينضج بعد حتى يمكنه الحكم على الروايات الأدبية، لكن إذا عجز الشعب عن اختيار ما يقرأ، فهل يكون في مقدوره أن يختار من يمثله في البرلمان أو مجلس الشعب أو المجالس النيابية الأخرى؟!
وإذا كنا نعطي هذا الشعب الحق في اختيار ممثليه الذين ينوبون عنه في وضع واتخاذ أهم القرارات السياسية والاقتصادية، فمن المنطقي أن يعطى هذا الشعب الحق في اختيار ما يقرأ من روايات أو قصص أدبية.
إن إعراض القراء عن الرواية هو أكبر عقاب لمؤلفها، وكم من روايات سقطت بسبب إعراض الناس عنها، هذا السقوط أقوى من القرارات الإدارية أو الوزارية أو أي قرار يصدر عن المحكمة بمصادرة الرواية؛ لأن الجمهور نفسه هو الذي يصادرها بحريته واختياره دون انتظار القرارات العليا.
لقد اتضح في معظم بلاد العالم أن الأعمال الإبداعية التي تمنع بالقوة الإدارية أو السياسية هي التي تلقى رواجا بين الجماهير، ذلك أن الإنسان بالطبيعة والفطرة يكره الوصاية، ويقبل على الممنوعات إرضاء لغريزة الاستطلاع وحب المعرفة.
في الدراسات النفسية الأخيرة عن القدرات الإبداعية عند الأطفال اتضح أن الطفلة أو الطفل يولد سليم الأعضاء والخيال، إن حاجة الإنسان إلى الخيال مثل حاجته للطعام والهواء، وبالطبيعة والفطرة يولد الخيال الإنساني قويا لدى الأطفال، يجعلهم قادرين على الإبداع والإحساس بوجود العدل أو غيابه، هناك علاقة وثيقة بين الإبداع والخيال والإحساس بالعدل والحرية والحب؛ لذلك يغضب الأطفال ويثورون لأي ظلم يقع عليهم.
إلا أن غياب العدل والحرية في أغلب العائلات يفسد خيال الأطفال ويقتل قدراتهم الإبداعية، ويجعلهم مثل النقود، يصبحوا أدوات لغيرهم، غير قادرين على الإحساس بالعدل أو الحرية أو الحب؛ بمعنى آخر عاجزين عن الفضيلة أو الإنسانية الحقيقية ذات الضمير الحي.
وقد اتضح أن الطفلة أو الطفل الذي يتربى في جو من الحرية والعدل يكتسب القدرة على الاختيار الصحيح القائم على الحرية والعدل، يكتسب الثقة في نفسه، والحكم بنفسه على الأشياء، ولا ينتظر الأوامر أو التوجيهات من الجهات العليا.
هذا هو الحجر الأساسي السليم الذي يمكن أن نبني عليه استراتيجية جديدة للثقافة والإبداع في بلادنا، لقد اتضح أن الطفلة أو الطفل الذي يتربى على الخوف من العقاب (أو الطمع في جائزة) يعجز عن الإبداع الحقيقي؛ لأن لذة الإبداع الحقيقي تتعلق بالعمل ذاته، بالقدرة على إنجازه وتحقيقه بالشكل الذي يريده الفنان أو الفنانة.
هذا هو الضمير الإبداعي النابع من الحرية والعدل، وهو الذي يوجه الإنسان المبدع أو الإنسانة المبدعة، بمعنى آخر هو الذي يضع الضوابط لصاحبه، هو الذي يجعله يختار هذه العبارة للتعبير عن فكرته، وليس عبارة أخرى خالية من الجمال أو الذوق.
لا شك أن الإبداع هو الجديد، وهو يختلف عن القديم، وقد يصطدم به إلا أن الحساسية للعدل والحرية النابعة من الخيال السليم غير المبتور تساعد الإنسان المبدع على إدراك التوازن والانسجام الفني بين القديم والجديد، أو بين العدل والظلم.
وقد قرأت رواية وليمة لأعشاب البحر، وكتبت عنها مقالا في جريدة الحياة الصادرة في لندن يوم 11 يوليو 2000 تحت عنوان «الخيال المبتور في الأدب الشائع»، ليس معنى ذلك أن من حق الجهات الإدارية أو القانونية مصادرة الرواية أو منعها؛ لأنها (في رأيي) تمنع نفسها، ليس لأنها تمس المقدسات كما قيل عنها، ولكن لأن الخيال فيها مبتور، بحكم التربية التي يعيشها أغلب المؤلفين في طفولتهم.
منذ الطفولة ندرك أن الرجل بطل القصة، قد تربى على القنص والصيد، وقتل الطيور والحيوانات، وقد امتدت نزعة الصيد إلى جنس النساء، مع ذلك يقدم نفسه كمناضل وطني يؤمن بالاشتراكية والعدالة، إلا أنها عدالة نظرية فحسب أو لغوية في الخطب والروايات، ولا تمتد أبدا إلى حياته الحقيقية، ولا تدخل بينه ولا غرفة نومه.
تمتلئ غرف نوم الرجال في الرواية بالدكتاتورية والأحادية الفكرية والانفصام بين الحياة العامة والحياة الخاصة، هذا التناقض أو الازدواجية الأخلاقية هي التي تفسد العمل الإبداعي كما تفسد الخيال والواقع؛ إن الواقع المشوه بالظلم في العلاقات بين الناس (ومنها علاقة الرجال بالنساء) يؤدي إلى تشويه الخيال وبتره منذ الطفولة.
الخيال المبتور في نظري أكثر خطورة من الجسد المبتور الأعضاء، لأن الناس ترى الجسد المبتور وتتألم لألمه، لكن الخيال أو الضمير الإبداعي لا تراه العين ولا ينزف الدم عند البتر.
لقد أدت الضجة التي أثيرت حول رواية «وليمة لأعشاب البحر» إلى انتشارها، وإقبال الناس على شرائها بسبب حب الاستطلاع، لكني لم أقابل أحدا قرأ الرواية إلا وقال لي إنه لم يكملها، وتركها منذ الصفحات الأولى، وقد شعرت بهذا الإحساس ذاته وأنا أقرؤها، إلا أنني واصلت القراءة بجهد كبير من أجل أن أكتب عنها.
وأنا لم أقرأ الروايات الثلاثة التي سببت الأزمة الأخيرة بين وزير الثقافة وبعض المثقفين والأدباء والأديبات، ذلك أن الضجة التي أثيرت حولها ربما جعلت الناس تتسابق إلى قراءتها، ومن ثم عدم وجودها في المكتبات.
لهذا لا يمكن لي الحكم عليها كقارئة، إلا أن الصراع الذي حدث لا يخلو من إيجابيات، لقد تأكد الآن أن وزارة الثقافة يجب ألا تكون هي الحكم على الأعمال الإبداعية، كما يقول الأستاذ سلامة أحمد سلامة.
لكن قانون العقوبات أيضا لا يمكن أن يكون الحكم على أعمال تتعلق بالخيال، إن مجال القانون هو الواقع وليس الخيال.
نحن في حاجة إلى قيم جديدة في تربية أولادنا وبناتنا، قيم قائمة على العدل والحرية والحب، ولا بد أن تمتد هذه القيم إلى الوزارات جميعا، وليس وزارة الثقافة وحدها، وإلى جميع المجالات السياسية والاقتصادية، وجميع الأحزاب، حكومة ومعارضة، وجميع المنظمات غير الحكومية، بحيث يصبح المناخ الثقافي الذي نعيشه صحيا، والضمير الإبداعي حيا منذ الولادة حتى الموت.
الاحتمال المفيد والاحتمال غير المفيد
منذ أكثر من عشرة أعوام دعاني الأستاذ لطفي الخولي إلى اجتماع بجريدة الأهرام، كان يعد أمامها لعقد مؤتمر أدبي كبير، ذهبت في الموعد المحدد للاجتماع فلم أجد أحدا بالحجرة، تصورت أن الاجتماع تأجل دون علمي، لكني رأيت أحد الأدباء يدخل ويؤكد لي أن الاجتماع قائم، ووصل المدعوون متأخرين أكثر من نصف ساعة، وتأخر الداعي للاجتماع نفسه الأستاذ لطفي الخولي أربعين دقيقة أو أكثر، وجلس في مقعد الرئاسة عن يمينه الأستاذ يوسف القعيد، وبين شفتي كل منهما سيجار غليظ ينفث الدخان الكثيف إلى السقف، وبدأ الأستاذ لطفي الكلام دون أن يذكر شيئا عن التأخير، ألقى كلمة طويلة استغرقت أربعين دقيقة، ثم صمت قليلا وأشعل السيجار من جديد وقال: «والآن ندخل في صلب الموضوع، وهو الإعداد للمؤتمر الأدبي الكبير، والذي نرجو منكم أن تشاركوا فيه.»
ونظرت في ساعتي، كانت الثانية عشرة وبضع دقائق، وكنت على موعد آخر ولا أريد التأخر عن موعدي، فنهضت من مقعدي، وحين رآني الأستاذ لطفي أتجه نحو باب الخروج سألني مندهشا: «رايحة فين يا دكتورة نوال؟» وقلت: «عندي موعد آخر يا أستاذ لطفي.» قال: «ألست مهتمة بهذا المؤتمر الأدبي الكبير.» فقلت: «أنا هنا منذ ساعتين ولست مسئولة عن تأخركم عن الموعد.» وخرجت من الحجرة، وبالطبع لم أشارك في المؤتمر الأدبي الكبير، فقد حذف الأستاذ لطفي اسمي من قائمة المدعويين، ومرت الأيام ربما عام أو عامان والتقيت بالأستاذ لطفي في مؤتمر دولي ثقافي في مدينة بولونيا في إيطاليا، وقال لي: «على فكرة أنا زعلت منك أوي يا دكتورة نوال، وانتي في مصر لما نقول الساعة عشرة يبقى بين الساعة حداشر، هي دي العادة في بلدنا .» وقلت: «هذه العادة لا بد أن تتغير ولا بد أن نبدأ بأنفسنا .» ورمقني الأستاذ لطفي بنظرة كأنما أنا المخطئة وهو على صواب.
هذه الحكاية تتكرر دائما، وكم فقدت من أصدقاء وصديقات بسبب هذه العادة الضارة، وهي عدم احترام الموعد، أذكر أن الأستاذ مكرم محمد رئيس تحرير المصور أعاطني موعدا، وتأخر نصف ساعة، فانصرفت، وتوقفت عن نشر أي شيء بمجلة المصور، وفي يوم أعطاني الدكتور إسماعيل سلام وزير الصحة موعدا وتأخر نصف ساعة فانصرفت ولم أنتظره، وكان الدكتور أحمد بدران ينتظر بمكتب الوزير أيضا وقال لي: الغايب حجته معاه، وده وزير عنده أشغال هامة. قلت: كل إنسان عنده أشغال هامة ولا بد من احترام وقت أي إنسان، خاصة من الكبار لأنهم هم النموذج لأغلب الناس.
وقد عشت في بلاد أخرى، وعرفت كيف تكون المحافظة على الموعد باعثا على الراحة والاحترام، ولا شيء يهدر كرامة الإنسان مثل إهدار وقته في الانتظار دون عمل شيء، وفي بلادنا قلما يحافظ أحد على الموعد، ومنذ أيام طلبت من أحد السباكين موعدا ليقوم ببعض أعمال السباكة العاجلة في بيتي.
وقلت له: ميعادك بكرة الساعة كام يا أسطى؟
قال: احتمال الساعة ستة.
قلت: يعني إيه احتمال؟
قال: احتمال الساعة ستة ونص.
قلت: لازم تحدد!
قال: احتمال الساعة سبعة.
قلت: ما فيش حاجة اسمها احتمال لازم يكون المعاد مضبوط.
إلا أن كلمة «احتمال» كانت تجري على لسانه بحكم العادة، ولا يمكنه الإقلاع عنها، ولاحظت أنها دخلت قاموس اللغة العامية، ولا يمكن أن يحافظ أحد العمال على موعده أو أحد الموظفين أو غير الموظفين، والكل يقول احتمال، وما أسخفها من كلمة في حالة المواعيد في عالمنا الثالث. (1) الاحتمال الإيجابي
وهناك احتمال آخر إيجابي في مجال العلم لم يدخل بعد إلى بلادنا، مع أنه أصبح جزءا لا يتجزأ من علم الطبيعة أو الفيزياء، وعلم الفلسفة وغيرهما من العلوم، لقد تغيرت قوانين الطبيعة التي درسناها في الجامعات، وتجاوز العلم الحديث، أو ما بعد الحديث، نظريات أرسطو ونيوتن ودارون وأينشتاين، ونظريات الجاذبية والنسبية؛ تجاوز المطلقات العلمية كلها، بما فيها مطلق الزمن الذي توقف عنده نيوتن، وسرعة الضوء المطلقة التي توقف عندها أينشتاين، والفكرة الحديثة القائلة بأن الكون بدأ بانفجار عظيم (بيج بانج) وينتهي بانفجار آخر عظيم، فكرة أن الكون له بداية ونهاية تجاوزها العلم أيضا، وتحرر العلماء تماما مما سمي باليقين، تجاوزوه إلى ما يسمى اليوم قانون الاحتمال أو قانون الشك.
لم يعد كوكب الأرض مركزا للكون، ولا كوكب الشمس ولا أي كوكب آخر، ولم يعد الإنسان مركز الكون ولا أي كان آخر، تزايد الشك بازدياد الاكتشافات العلمية التي أثبتت خطأ هذه الأفكار، وتلاشى اليقين من العلم، وحل مكانه ما يسمى الاحتمالات المتعددة، والتي تقترب واحدة منها إلى الحقيقة أكثر من الأخرى.
إذا نظرنا إلى الذرة في الكمبيوتر فلا يمكن لنا أن نحدد أين يكون الإلكترون في دورانه السريع حول النواة، لن نرى على الشاشة إلا نقطا تزداد كثافة في بعض الأجزاء، فنقول هنا قد يكون الإلكترون وقد لا يكون، يمكن احتمال وجوده داخل هذا المسار أو هذا المسار.
لم يعد الإلكترون شيئا ماديا يوجد في المكان، ولا هو طاقة ضوئية يمكن قياسها بسرعة الزمن، كسر الإلكترون الفاصل بين المكان والزمان وبين المادة والروح أو الحركة، بعبارة أخرى تم سقوط الثنائيات القديمة التي فصلت الجسد عن الروح، وأصبح قانون الاحتمال أو الشك هو اليقين الوحيد.
إن آفاق المعرفة تتسع أكثر وأكثر، ونقترب من الحقيقة أكثر وأكثر عبر قانون الاحتمال والشك.
قد تبدو هذه الأفكار العلمية الجديدة غير مفهومة أو غير مقبولة لعقولنا، تعودت عقولنا منذ الطفولة على كل ما هو يقيني، تربينا على أن نرث الأفكار كما هي، لا نملك الشجاعة على أن نشك فيها؛ لهذا عجزنا عن الاجتهاد والتجريد والإبداع، سبقنا الآخرون الأكثر شجاعة إلى الاكتشافات العلمية، أصبحنا مجرد مستهلكين لما ينتجون من أدوات حديثة، ومنها الكمبيوتر والإنترنت، لا نكاد نعرف إلا القليل عن الثورة الإلكترونية الأخيرة، نرفل في خمول الكسل اللذيذ داخل اليقين الثابت غير المتغير.
القاهرة 1998
مفهوم الوطن والحب في عيد الأم
كان ذلك منذ عشر أعوام، (بالضبط يوم 21 مارس 1989).
وجاءتني فتاة في الخامسة والعشرين من عمرها من قلب الصعيد، من قرية بالقرب من أسوان، قالت لي: أريد أن أتكلم معك، أريد منك أن تكوني أمي، وقد هربت من أبي وأمي في الصعيد، حملت حقيبتي في الليل، وركبت القطار، وجئت إلى القاهرة لأتكلم معك، وأنا تخرجت في الجامعة في كلية الآداب قسم الفلسفة، قرأت كتبا كثيرة، وانفتح عقلي على أشياء كثيرة جديدة، ولم تعد لي حياة داخل أسرة تعيش في القرن التاسع عشر، وتؤمن بوجود الجن والعفاريت، وأن المرأة نصف الرجل واجبها الطاعة، وظيفتها الأساسية في الحياة الزواج وولادة الأطفال وأعمال البيت، حتى أخي الأكبر الذي تخرج في الجامعة وحصل على الدكتوراه فرض على زوجته أن تتفرغ للزواج والأمومة، ويقول لها: الأمومة عطاء وتضحية بلا مقابل مثل حب الوطن، فالوطنية هي العطاء والتضحية بلا مقابل مثل الأمومة.
كانت الفتاة تنتفض وهي جالسة، جاءتني من محطة القطار مباشرة، ليس لها أقارب في القاهرة، بشرتها سمراء شاحبة، وجهها نحيف، عيناها سوداوتان مملوءتان بريقا، ذكرتني بنفسي حين كنت في أول الشباب والعائلة من حولي متجمعة، العمات والخالات والأعمام والأخوال وأبناؤهم وبناتهم وجيرانهم، والجميع يهتفون في نفس واحد: الزواج مصير البنت، والأمومة هي الدور الأسمى للمرأة، وإذا تعارض الزواج مع طموحك الشخصي في الطب والأدب فاختاري الزواج والأمومة، لأن المرأة التي لا تكون زوجة ولا تلد أطفالا فهي امرأة عقيمة كالشجرة بلا ثمار.
وسمعت الفتاة تقول: لا أريد أن أتزوج، ولا أريد أن ألد أطفالا! إن العالم مليء بالأطفال الجوعى المشردين! فهل أضيف إليهم أطفالا آخرين؟ رأيتهم راقدين على الرصيف في محطة القطار، أطفال صغار بلا آباء ولا أمهات ولا عائلات ولا بيوت ولا مأوى إلا الشارع ورصيف المحطة، أحد الأطفال اقترب مني وأنا أهبط من القطار، عمره لا يزيد عن سبع سنوات، يرتدي جلبابا ممزقا، يرتعد تحت ضربات الهواء الصاقع، وأنا متدثرة بالبالطو الصوف وتحت البالطو بلوفر صوفي، قدماه حافيتان، وأنا أرتدي حذاء جيدا متينا وجوربا من الصوف، كان الطفل يقترب مني ويمد لي يده ينشج بصوت مبحوح: «حسنة يا سيدتي» قلت لنفسي: «هذا الطفل يشبه طفلي أحوطه بذراعي وآخذه إلى بيتي.»
قلت للفتاة: «تأخذيه إلى بيتك؟»
قالت: ليس عندي بيت في القاهرة، ولكني أحمل شهادة جامعية، ويمكن أن أشتغل وأفتح بيتا، ويصبح هذا الطفل هو طفلي، إنه يشبه طفلي، عيناه بالضبط هما عيناي مملوءتان بالبريق والدموع.
قلت للفتاة: «وهل كان لك طفل؟»
قالت الفتاة: لم أتزوج ولم ألد، لكني كنت أحلم دائما بهذا الطفل يخطر إلي في الحلم بعينين مملوءتين بالبريق والدموع، وهو يشبه بالضبط الطفل الذي تقدم نحوي وأنا أهبط من القطار، أعطيته معطفي الصوفي وخمسة جنيهات وطلبت منه أن ينتظرني في المحطة حتى أعود إليه.
قلت للفتاة: وستعودين إليه؟
قالت: نعم.
قلت: وتعودين به إلى بيت أسرتك في الصعيد؟
انتفضت بذعر وقالت: يقتلني أبي إذا عدت وحدي بعد أن هربت، فما بال أن أعود ومعي طفل؟ سوف يتصورون أنه طفلي، وأنه ثمرة حب محرم أو حمل سفاح!
قلت: لكن الطفل كما تقولين في السابعة من عمره وأنت كم عمرك؟ خمسة وعشرون عاما؟ معنى ذلك أنك كنت في الثامنة عشر وقت ولادته، ثم كيف يحدث ذلك كله وأنت في بيت أسرتك تلميذة بالمدرسة؟ لا أظن أن والدك سوف يشك في الأمر!
قالت الفتاة: أنت لا تعرفين أبي، إنه يشك في أخلاقي منذ ولدت، لم أخرج من البيت إلا تحت رقابته أو رقابة أخي الأكبر أو أخي الأصغر الذي يصغرني بخمس سنوات، وكنت في الخامسة عشر من عمري، وأخي الأصغر طفل في العاشرة، مع ذلك يخرج معي لحمايتي!
قلت: وأمك؟ أليس لها دور؟
قالت الفتاة: أمي تخاف من أبي وتعمل حساب ابنها الأكبر، وتقول لي تحملي يا ابنتي كما تحملت أمك وجدتك وخالتك وعمتك وكل النساء، هذا مصيرنا يا ابنتي فاصبري لعل الله يرزقك بعريس الهنا يعوضك عن قسوة أبيك، لكني لم أسمع كلام أمي، ولم أنتظر عريس الهنا، قررت عدم الزواج وعدم الإنجاب، وكيف ألد أطفالا يتعذبون كما عذبت، وكيف أضيف إلى هؤلاء الأطفال الراقدين على الأرصفة طفلا جديدا؟! •••
كان ذلك في بيتي بالجيزة منذ عشر سنوات (21 مارس 1989) وكنت أعرف أنه عيد الأم، وأن الإذاعات تحتفل به بالأغاني والهدايا يقدمها الأطفال لأمهاتهم، وقد جاءتني هذه الفتاة من أقاصي الصعيد تطلب مني أن أكون أمها، وتقول إنها سوف تعود إلى محطة القطار لتحمل بين ذراعيها طفلا فقيرا يتيما في السابعة من العمر، سوف تكون هي أمه، وسوف تشتغل وتفتح بيتا وتعيش معه، وسوف تعلمه في أحسن المدارس ولن تفرض عليه القيود التي فرضتها عليها أسرتها، سوف تتركه حرا طليقا ينعم بالحرية التي حرمت منها، وهي فتاة ناضجة في الخامسة والعشرين من عمرها تحمل شهادة الليسانس من كلية الآداب قسم الفلسفة، سوف تشتغل، وسوف تتحدى الكون ولن يقف في طريقها أحد هكذا تقول لي.
وقالت الفتاة: أريدك أن تكوني أمي.
قلت: وماذا أفعل بالضبط؟
قالت: لا شيء! مجرد إدراكي أنك موجودة في الحياة. •••
كان ذلك منذ عشرة أعوام، وقد وضعتني الفتاة أمام اختبار صعب في الحياة، هل أشجعها على التمرد والتحدي والسباحة في المياه الخطرة ضد التيار؟! أم أتبع نصيحة صديقتي الأستاذة الدكتورة؟!
في مثل هذه اللحظات الحرجة يبدأ الصوت الخافت من أعماقي، قال لي الصوت: ألم تكوني في عمر هذه الفتاة وتمردت وسبحت في المياه الخطرة ضد التيار؟ لماذا تحاولين الآن الوقوف في طريقها؟ وليس لك منصب كبير في الدولة يساعدك في البحث لها عن وظيفة في الحكومة، وليس لك أصدقاء رؤساء الشركات في القطاع الخاص، وإن حاولت التوسط لها ربما تكون هذه الوساطة ضدها؛ لأنك من المغضوب عليهم، ولن تفيديها في شيء، فاتركيها تشق طريقها في الحياة ولا تثبطي همتها.
كانت الفتاة جالسة أمامي لا تزال، عيناها سوداوان مملوءتان بالبريق، تذكرني بنفسي حين كنت في عمرها، العينان نافذتان أطل منهما على معدن الإنسان أو الإنسانة، غمرني إحساس جارف بالثقة في هاتين العينين المشعتين بالضوء القوي.
قالت الفتاة: لا أريد منك إلا أن تمنحيني الثقة في نفسي، منذ ولدت وأنا أحس أن أبي شك في أخلاقي، يتصور أنني مثل الفتيات لا يشغلني إلا الحب أو الرجل، وقد كرهت الرجال جميعا بسبب أبي، لم أقع في حب رجل واحد، ولا أريد أن أتزوج ولا أريد أن أنجب، سوف أعود إلى الطفل اليتيم الذي ينتظرني في محطة القطار، وسوف أشتغل وأفتح بيتا، وأكون أمه التي يحتفل بها في عيد الأم! •••
مضت الأعوام واضطرتني الظروف إلى مغادرة الوطن لأعيش المنفى خمس سنوات، وفي عيد الأم 21 مارس 1995، جاءتني رسالة من الفتاة، كانت هي أجمل هدية أتلقاها في عيد الأم، كتبت في رسالتها تقول: بلغت يا أمي الواحد والثلاثين عاما أصبحت مديرة في شركة لصناعة الملابس القطنية في طنطا، لي شقة جميلة تطل على الحقول الخضراء، ويعيش معي ابني عمره الآن ثلاثة عشر عاما، أعطيته اسم أمي «رجاء»، متفوق في المدرسة، ويريد أن يكون عالما في الذرة، ويكتب الشعر، أول قصيدة أهداها لي في عيد الأم منذ أيام، مطلعها: أمي يا أجمل كلمة في قاموس اللغة، وقد رأيت أن أرسل إليك هذه الرسالة وأنت بعيدة عن الوطن، لا بد أن بك حنينا للوطن والأهل؛ لهذا أكتب إليك وأقول لك: إنني لم أنس اليوم الذي جئت إليك هاربة من الأهل، كنت أرتعد بالخوف والبرد بعد أن تركت معطفي الصوفي للطفل اليتيم، لم يعد يتيما يا أمي، وأصبح اسمه رجاء.
وجاءت أمي من الصعيد، ورأت بيتي الجميل في طنطا، وفرحت حين سمعتني أناديه باسمها رجاء، وجاء أبي أيضا واطمأن علي، أكثر ما أسعده أنني أصبحت مديرة لشركة صناعية كبيرة، أتقاضى كل شهر مرتبا كبيرا ثلاثة أضعاف مرتب أبي، لكن فرحة أمي كانت بحفيدها رجاء الذي يحمل اسمها، أكتب إليك يا أمي قبل عيد الأم بأسبوعين، أعرف أن البريد بين مصر وولاية نورث كارولينا يستغرق على الأقل عشرة أيام، أرجو أن تصلك الرسالة في يوم عيد الأم، لتعرفي أن ابنتك «رشيدة» تذكرك، وتذكر اليوم الذي فتحت فيه قلبك وبيتك لها، كان هو يوم مولدي الحقيقي، لقد ولدت من جديد في هذا اليوم، مملوءة بالثقة في نفسي، قادرة على أن أتحدى العالم!
ابنتك رشيدة أم رجاء •••
أمسكت الرسالة في يدي، ألامسها بأطراف أصابعي، كأنما ألامس وجه الوطن، راحت الغربة، تبدد الحزن، فتحت نوافذ بيتي لتدخله الشمس، إنها الشمس ذاتها التي تشرق في كل بلاد العالم، أفريقيا وآسيا وأوروبا وأستراليا والأمريكتين، الوطن ليس قطعة أرض تسقط عليه الرأس، الوطن هو رسالة مليئة بالحب يأتيني من البعد. •••
لا يكون الحب حبا حقيقيا إلا إذا كان متبادلا، الحب من طرف واحد نوع من العبودية، الهوان والعذاب والاحتراق بنار الحب كلها من بقايا عصر الرق والعبيد، حين كان يفرض على العبد أن يحب سيده الذي يضربه بالكرباج، ويفرض على المرأة أن تحب زوجها الذي يقهرها ويضربها ويشدها من شعرها.
الحب إن اختلفت أنواعه فهو واحد؛ منبعه القلب والعقل والجسد والروح في كيان واحد، وأساسه الأول هو الأخذ والعطاء؛ أي التبادل بالعدل والحرية، وليس بالإجبار والقوة والجبروت.
وإن حدث الحب من أول لقاء أو آخر لقاء فهو ينشد السعادة واللذة والحرية، لا يعيش الحب في التعاسة والألم والقيود، لا يختلف حب الوطن عن حب الأم أو الأب أو الزوج أو الزوجة أو الابن أو الابنة، وكلها أنواع من الحب لا تعيش إلا بالتبادل المتساوي أخذا وعطاء.
إن الأب الذي يقسو على أبنائه وبناته لا يمكن أن يتوقع منهم الحب، إن الوطن الذي يجرد الإنسان من كرامته وحريته وطعامه وشرابه لا يكون وطنا.
الوطن هو حيث يكون العدل، وحيث تكون الحرية، وحيث يكون الحب، الوطن ليس هو المكان حيث مسقط الرأس، بل هو دفء الإنسانية والمحبة والتعاون والصدق والعمل المنتج، ولذة الإبداع والفرحة بالجديد والتجديد.
لقد مللنا الأغاني الوطنية التي كان يغنيها العبيد أمام المماليك والسلاطين، ولم نعد نغني إلا للملك في عيد ميلاده، أو الملكة في عيد زواجها، فما هذه الأغاني التي تشدنا إلى الوراء إلى عصور الرق؟ وما هذه الأصوات التي تأمرنا بحب الوطن بالكرباج؟ وكيف أحب رجلا يذيقني ألوان الهوان؟ وما هذه الأغاني في عيد الأم دون أن يكون للأم حقوق الإنسان.
قليلا من العدل
قليلا من العدل أيها السادة.
قليلا من المنطق.
كيف يكون المتهم هو القاضي
أشكو منه إليه؟
يقولون لأنه الحاكم يملك الأمر والنهي،
ويقولون لأنه الرجل ولأنك امرأة،
ولأن الله أعطى للرجال
حق تأديب النساء،
ولم يعط للنساء حق تأديب الرجال.
قلت ومن يؤدب الرجل؟
قالوا هو يؤدب نفسه بنفسه في الدنيا،
وفي الآخرة يؤدبه الله.
خطوة نحو تحرير المرأة المصرية ولكن ...
قرأت بجريدة الأهرام (5 / 11 / 2000) الحكم الجديد الذي أصدرته المحكمة الدستورية العليا بعدم تخويل وزارة الداخلية سلطة منح أو سحب جواز السفر، وإلغاء قراره باشتراط موافقة الزوج على سفر زوجته.
إلا أنني بعد أن أكملت قراءة الخبر أصابني الأسف، لأن هذا الحق الدستوري في السفر ليس مطلقا للمرأة المصرية، بل مقيد بالمادة 11 من الدستور (عن كفالة التوفيق بين واجبات المرأة نحو الأسرة وعملها في المجتمع) هكذا يمكن لأي زوج أن يمنع زوجته من السفر بحجة مصلحة الأسرة، ومن يكون الحكم حين يختلف الزوجان حول ما هي مصلحة الأسرة.
أرادت إحدى صديقاتي الطبيبات أن تسافر إلى مؤتمر طبي في لندن لمدة أربعة أيام، لكن زوجها منعها من السفر، لماذا لأن الدعوة لحضور المؤتمر جاءت لزوجته فقط، ولم تأت دعوة له وهو طبيب أيضا، فكيف تتفوق الزوجة الطبيبة عن زوجها وزميلها في العمل؟!
تكررت هذه الحوادث مع نساء متفوقات في مجالات متعددة علمية وأدبية، وكم من امرأة متفوقة حرمت من السفر بحجة مصلحة الأسرة، وكيف يمكن الفصل هنا بين مصلحة الأسرة وأنانية الزوج؟ وهل الزوج أدرى بمصلحة الأسرة من زوجته الطبيبة مثلا؟ فكيف تكون الطبيبة مسئولة عن أرواح الناس ثم نحرمها من مسئولية الأسرة، أو معرفة مصلحة أسرتها؟
ألم تثبت لنا التجارب والحوادث والقضايا في المحاكم أن المرأة المصرية أكثر حرصا على مصلحة الأسرة والأطفال من كثير من الأزواج؟!
ألا يطلق الرجل زوجته أو يتزوج عليها امرأة أخرى دون مراعاة مصلحة الأسرة؟ وكم طفلا تشردوا وبيوتا خربت بسبب حق الرجل المطلق في الطلاق والزواج بأخرى، لماذا إذن نضع مصلحة الأسرة في يد الرجل وحده؟ هو الذي يحددها، وهو الذي يبددها حسب رغبته ومصلحته الخاصة؟
هل مصلحة الأسرة تعني مصلحة الرجل؟! لماذا إذن لا يحق المرأة أن تمنع زوجها من السفر حرصا على مصلحة الأسرة؟
لقد أسست المحكمة الدستورية حكمها الجديد على أن حق الإنسان المصري (والمرأة إنسان) في السفر والتنقل (واستخراج وحمل جواز السفر) هو رافد من روافد الحريات الشخصية التي يكفلها ويصونها الدستور، أن حرية الانتقال من الحريات العامة فلا يجوز تقييدها، وقد عهد الدستور بذلك إلى السلطة التشريعية دون غيرها، والأصل فيها هو المنح إعمالا لحرية الانتقال، والاستثناء فيها المنع.
لقد أثبتت المرأة المصرية منذ آلاف السنين قدرتها على التوفيق بين عملها خارج البيت وداخله، سواء خرجت للعمل في الحقول أو المصانع أو المتاجر أو المكاتب أو المستشفيات أو الوزارات أو غيرها.
فلماذا تظل هذه المادة رقم 11 سيفا مسلطا على رقاب النساء، لماذا تظل الثغرة التي ينفذ منها أي رجل يريد التحكم في زوجته تحت اسم مصلحة الأسرة؟
إنني أضع هذا السؤال أمام جميع النساء والرجال في بلادنا، وليس فقط رجال القانون، أو المهتمين بتعديل الدستور، فالمسألة ليست قانونية محضة، بل سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية، إن العدالة الاجتماعية ليست تخصصا يخص العاملين في مجال التشريع أو القانون، بل هي تحض الشعب المصري كله، بنسائه ورجاله وشبابه وأطفاله، أليس الطفل الذي تربيه أمه على الأنانية والسيطرة على أخته البنت هو رجل المستقبل الذي يمنع زوجته من حقوقها الدستورية بسبب الأنانية والرغبة في السيطرة؟
لا شك أن عدالة القوانين هامة وضرورية، وقد سررت لهذا الحكم الجديد للمحكمة الدستورية العليا الذي يعتبر خطوة هامة نحو تحرير المرأة المصرية، إلا أن الطريق أمامنا لا يزال طويلا ليصبح الحق فوق القوة داخل الأسرة، ولا تكون هناك ثغرات تسمح لمن يريد أن يسيطر (دون حق) أن يسيطر.
ولا يزال أغلب الآباء والأمهات في بلادنا يفرقون في الحقوق بين البنت والولد، وتنشأ البنت على الخضوع والطاعة، وينشأ الولد على السيطرة (وأحيانا الغطرسة).
كيف تتغير التربية في البيوت والمدارس، بحيث نربي الضمير في الطفولة، الضمير الإنساني الذي ينشد العدالة بصرف النظر عن كون الإنسان رجلا أو امرأة، أو غنيا أو فقيرا، أو حاكما أو محكوما؟
القاهرة 5 /11 /2000
قضية المرأة في الحوار القومي
من الأفكار التي شاعت في التاريخ، خاصة خلال القرن الماضي العشرين أن قضية المرأة لا تهم إلا فئة النساء، الأمهات والزوجات والأطفال؛ أي أمور الأسرة الصغيرة، ولا علاقة لها بأمور المجتمع الكبير وقضاياه الكبرى المتعلقة بالسياسة أو الاقتصاد.
هذه الفكرة الخاطئة انتشرت في البلاد الأوروبية وفي الولايات المتحدة الأمريكية، روجت لها القوى الأبوية الطبقية التي تحكم المجتمع، ثم انتقلت الفكرة إلى البلاد الأخرى ومنها بلادنا العربية، ومن هنا الفكرة الخاطئة التي سادت بأن الحركة النسائية التحريرية قد نشأت في الغرب ثم انتقلت إلى الشرق.
حقائق التاريخ تؤكد أن النساء والعبيد اتحدوا معا في الثورة ضد النظام الفرعوني العبودي في مصر القديمة، لقد حاربوا معا نساء وفقراء وأجراء ضد بطش الفراعنة والآلهة القدامى، كان النظام العبودي أو الطبقي الأبوي قائما على السلطة المطلقة للرجل في العائلة، والسلطة المطلقة للفرد الحاكم في الدولة، الإله فرعون، لقد حدثت ثورات عديدة ضد هذا النظام شارك فيها النساء والرجال والشباب والأطفال، لولا هذه الثورات الشعبية لم يكن للعصر العبودي أن يزول، ويحل مكانه العصر الإقطاعي، ثم العصر الرأسمالي القديم، ثم الحديث وما بعد الحديث الذي نعيشه اليوم، وهو نظام طبقي أبوي في الأساس يقوم على سلطة الرجل المطلقة في الأسرة، وسلطة الفرد أو مجموعة من الأفراد في الدولة، تطورت القوانين العامة والخاصة مع مرور السنين، ومع ازدياد القوة السياسية للنساء والفقراء، أصبحت السلطة المطلقة للزوج تناقش في البرلمانات، في محاولة للحد من هذه السلطة المطلقة، وقد شهدنا مؤخرا الصراع داخل البرلمان المصري للحد من سلطة الزوج في الطلاق، أو في منع زوجته من السفر، وإعطاء المرأة بعض حقوقها الشرعية القديمة مثل الخلع، كما شهدنا أيضا الصراع من أجل الحد من السلطة الدكتاتورية في الدولة، ومنح بعض الحريات للشعب أي بعض الديمقراطية.
خلال القرن العشرين بدأت قضية تحرير المرأة في بلادنا تخرج من مفهومها الضيق المحدود بأمور الأسرة والأمومة والأطفال إلى مجالات السياسة والاقتصاد والجنس، ذلك المجال الذي كان محرما الكلام فيه، رغم أن القهر الجنسي للنساء والفقراء الرجال هو الوجه الآخر من القهر الاقتصادي والسياسي.
حسب نظرية المعرفة الجديدة لا يمكن فصل الاقتصاد عن الجنس، ولا يمكن فصل الحياة العائلية الخاصة عن الحياة العامة السياسية والاجتماعية الشاملة لنواحي الحياة جميعا.
إذا رجعنا إلى التاريخ ندرك أن هذا الفصل قد نشأ مع نشوء النظام الطبقي الأبوي، من أجل تجزئة المعرفة، وبالتالي تجهيل الناس بما يحدث لهم، أصبحت المعرفة الكلية نوعا من الإثم، وقد تم تحريمها على النساء والفقراء والعبيد.
لا شيء يؤهل المرأة والعبد للثورة ضد النظام الظالم إلا المعرفة الكلية الحقيقية التي لا تفصل بين الخاص والعام، ولا تجعل الازدواجية أو الثنائية هي أساس القوانين والأخلاق والفلسفة، هذه الثنائية الراسخة في التاريخ منذ العبودية، والتي قسمت المجتمع إلى نساء وعبيد، وأصبحت الأسرة هي النواة الصغيرة التي يسيطر فيها الرجال على النساء، والدولة هي المجتمع الأكبر الذي تسيطر فيه القلة المالكة للثورة والسلطة على الأغلبية الساحقة من الفقراء.
وأصبحت المرأة ترمز إلى الجسد أو الجنس غير المحترم، وأصبح الرجل يرمز إلى العقل أو الروح الأعلى السامي، أصبحت القضايا العامة هي القضايا المحترمة، أما القضايا الخاصة فهي غير محترمة، ومن هنا النظرة الدونية إلى مشاكل الجسد والجنس والمرأة، والنظرة السامية الرفيعة إلى المشاكل السياسية والاقتصادية والثقافية العامة.
لا بد لنا من دراسة الماضي وربطه بالحاضر حتى ندرك أن الاقتصاد لا ينفصل عن الجنس، وأن الجسد لا ينفصل عن العقل عن الروح، وأنه لا يمكن بحال من الأحوال فصل قضايا تحرير النساء عن قضايا تحرير المجتمع كله.
إلا أن النخبة المثقفة في بلادنا من الرجال أو النساء لا تدرك هذه الحقيقة، وتكرر أخطاءها في فهم قضية المرأة منذ القرن القديم وحتى القرن الجديد الواحد والعشرين.
وقد اتهمت النساء رائدات الحركة النسائية المصرية في بداية القرن العشرين بالاتهام ذاته الذي اتهمت به الرائدات في منتصف القرن العشرين، وهو الاتهام ذاته الذي يوجه إلى رائدات الحركة النسائية اليوم، ونحن في بداية القرن الواحد والعشرين.
حين تكلمت مي زيادة وملك حفني ناصف عن تحرير المرأة من القهر الخاص داخل الأسرة، تم اتهامها بالقصور عن إدراك القضايا العامة الهامة الخاصة بالوطن والمجتمع، وحين تكلمت درية شفيق عن قضية المرأة المصرية خرجت بعض النساء توزع المنشورات ضدها تتهمها بالبرجوازية وتقليد الغرب، وحين تكلمت بعض النساء المصريات في منتصف القرن العشرين ضد ختان الإناث وربطن بين المشاكل الجنسية والمشاكل الاقتصادية قامت الدنيا ضد هؤلاء النساء، كيف ينطقن كلمة جنس؟ أو كلمة ختان؟ وتم اتهامهن بالفساد، وتحريض البنات على الحرية الجنسية على غرار الإباحية في الغرب.
وفي يومنا هذا يتكرر الاتهام ذاته ربما على نحو مختلف، إلا أن جوهر الاتهام واحد، والقصور في فهم قضية المرأة واحد، والفصل بين الخاص والعام واحد، واعتبار قضية المرأة قضية اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية عامة، وليس لها علاقة بذلك الشيء المستورد من الغرب الذي يندرج تحت اسم جنس أو المشاكل الجسدية للنساء، وهي في نظرهم مشاكل ثانوية أو هامشية أو تافهة وليست مشاكل حقيقية محترمة مثل مشاكل الاقتصاد والتنمية الاقتصادية أو الإصلاح الاقتصادي وغير ذلك من القضايا العامة.
رغم مرور أكثر من نصف قرن لا تزال هذه النغمة سائدة، تهيمن على عقول النساء والرجال من النخبة المثقفة في بلادنا؛ بل كثيرا ما تقع النساء المتعلمات أنفسهن في هذا المأزق، وبصرف النظر عن الاتجاهات السياسية أو الحزبية، يسار أو يمين أو وسط، فإن قضية المرأة لا تزال غير مفهومة، ولا يزال الفصل بين الاقتصاد والجنس قائما، وكذلك الفصل بين الحياة الخاصة والحياة العامة، أو ما يندرج تحت أمور الدولة وأمور العائلة أو الأسرة، رغم أن الأسرة هي النواة والحجر الأساسي الذي تقوم عليه الدولة والمجتمع.
بالأمس فقط قرأت في الصحف كلاما عن قضية المرأة المصرية يفصل بين قضايا الاقتصاد وقضايا الأسرة والجنس، يشبه الكلام الذي قرأته منذ نصف قرن، والذي يتكرر دائما في الأزمات أو في الانتخابات، حين تصبح قضية المرأة كبش الفداء في الصراعات على المقاعد ومراكز القوة في المجتمع والدولة.
كتبت إحدى القيادات النسائية من النخبة المثقفة تقول إن قضية المرأة في بلادنا هي قضية تتعلق بالفقر والأمية، والمطلوب هو إدماج المرأة في مشاريع التنمية والإصلاح الاقتصادي، أما مشاكل الأسرة والجنس فهي مشاكل تهم النساء في الغرب وليس النساء في بلادنا، نحن نعيش في بلاد إسلامية لها قيمها وتقاليدها وتراثها وهويتها الأصيلة وخصوصيتها الثقافية.
يذكرني هذا الكلام بما تكتبه النساء الأمريكيات المستشرقات عن قضية المرأة في بلادنا، وما صدر من كتب جديدة بأقلامهن عن المرأة والإسلام، وقد أكدت بعضهن على أن ختان المرأة وحجابها جزء من هويتها الأصلية، ويجب عدم التخلي عن هذه الهوية الثقافية في بلاد العالم.
هكذا يتم التضليل فيما يخص قضية المرأة، وكأنما التقاليد القديمة كلها إيجابية ولا بد من الحفاظ عليها، ولا توجد تقاليد سلبية يجب الإقلاع عنها، وهل الغرب كله فاسد الأخلاق مشغول بالجنس والإباحية والشذوذ؟! وهناك رجال ونساء في الغرب يكدون ويخترعون في مجالات العلم والفن والأدب، وأغلب الاختراعات والإبداعات العلمية والفنية حدثت في الغرب، فكيف نطلق هذا التعميم الخاطئ على الغرب؟!
كما أن الشرق ليس كله طاهر ونقي ومشغول بالقيم والفضيلة، وهناك رجال ونساء في الشرق يتاجرون بالجنس، ويتاجرون بالقيم الأخلاقية والدينية في السوق المالية.
لقد أصبح تقسيم العالم إلى غرب وشرق مضللا لا يكشف عن الحقائق أو التنوع بل هي نظرة أحادية تعتمد على التعميم من أجل التعتيم على الحقيقة، وقد حدثت في الغرب مظاهرات شعبية ضد العولمة وضد البنك الدولي وضد منظمة التجارة الدولية وغيرها من المؤسسات الاستعمارية الجديدة، هذه المظاهرات لم تحدث في الشرق، لم تحدث في بلادنا رغم أن بلادنا تعاني من هذه المؤسسات أكثر من غيرها، وينالها من الفقر والبطالة أكثر مما يحدث في بلاد أخرى.
كما أن مفهوم الجنس قد تغير منذ القرن الماضي، لم يعد الجنس مجرد عملية بيولوجية أو كيميائية يمكن تنشيطها بالعقاقير أو الفياجرا، بل أصبح الجنس عملية إنسانية يشعر فيها الإنسان (الرجل أو المرأة) أنه لا يوجد انفصال بين الجسد والعقل والروح، أصبحت العلاقات بين الجنسين أكثر إنسانية وأكثر عدالة ووعيا، وأصبح علم الجنس في كليات الطب في العالم لا يقل احتراما عن علم النفس، وتم الترابط في الطب الحديث بين الأمراض النفسية والجسدية والجنسية لا فاصل بينها، كما أن مفهوم الاقتصاد قد تغير منذ القرن الماضي، وسقوط الفكر الجامد، الذي كان يرى أن الاقتصاد وحده محرك التاريخ، وأن رأس المال وحده مشكلة الرأسمالية، لقد تم الربط بين علم الاقتصاد وعلم الاجتماع والثقافة والتاريخ والفلسفة والطب، وفي جامعات العالم بدأت أقسام جديدة تربط بين العلوم الإنسانية وبين العلوم الطبيعية، بين الاقتصاد والفيزياء وعلم النفس وعلم الجنس، وأصبح التاريخ الاجتماعي للبشر يشمل التاريخ الجنسي والتاريخ الاقتصادي في آن واحد.
وفي علم الحضارات الجديد بدأ العلماء يرون أنه ما من حضارة نقية خالية من السلبيات، فالحضارات الإنسانية متداخلة لا يمكن الفصل بينها، والهوية متعددة الجوانب والأبعاد وليس لها جانب واحد، وتم الفصل بين الهوية الأصلية وبين استئصال الأعضاء الجنسية في عمليات الختان.
إن الأصالة أو القيم أو الأخلاق لا علاقة لها بالعمليات الجراحية التي تقطع من أجساد الإناث أو الذكور.
رغم كل ذلك لا يزال في بلادنا بعض النخبة المثقفة من الرجال والنساء الذين يرددون المفاهيم القديمة، أو الأفكار الاستشراقية الأمريكية الجديدة التي تحاول إعادتنا إلى الوراء تحت شعارات براقة جميلة، منها الهوية والأصالة والدين والخصوصية الثقافية أو التراث أو الاقتصاد وغيرها.
ولا تختلف لهجة النساء في النخبة المثقفة عن الرجال، وفي الطريقة التي ينطقون بها الحروف والكلمات، خاصة كلمة «الفقر».
لا شك أن مشكلة الفقر أصبحت خطيرة في كثير من البلاد ومنها بلادنا، لكن بدلا من ضرب القوى العالمية والمحلية التي تؤدي إلى الفقر فإنهم يضربون قضية المرأة ، كبش الفداء؛ لأنها الأضعف في ساحة الصراعات الدولية والمحلية، وتحت اسم الفقر يتم اختزال قضية المرأة، وفصل المشاكل السياسية والاقتصادية العامة عن المشاكل الخاصة داخل الأسرة أو بين الجنسين.
كلمة واحدة ينطقها الجميع بلهجة واحدة هي «الفقر»، كلهم يتحدثون عن الفقر، فمن ذا الذي يمكن أو يعترض أو يفتح فمه؟! أقل اتهام إليه أنه يقلد الغرب أو يتحدث في أمور الجنس أو الأمور الهامشية.
ألهذا صمت جميع الفقراء من النساء والرجال خجلا وتعففا؟! لقد عانينا منذ فترة قصيرة من محاولات إهدار دم الأدباء تحت دعاوى دينية وشعارات أخلاقية، ونحن نعاني اليوم من محاولات وأد قضية المرأة تحت دعاوى اقتصادية، أو تحت شعار «محاربة الفقر»، وهذه محاولة جديدة لاختزال قضية المرأة إلى بعد واحد هو الاقتصاد، بعد عزله عن المشاكل الاجتماعية والأسرية والنفسية والجنسية والتاريخية التي تعاني منها الأغلبية الساحقة من النساء في بلادنا وفي بلاد أخرى من العالم.
إن كلمة «الفقر» أصبحت براقة وجميلة ورقيقة لا تخدش حياء أحد، وإن كان من رجال أو نساء الأعمال (البيزنيس)، فهي لا تكلف شيئا، كما أن الحديث عن الاقتصاد والتنمية والإصلاح الاقتصادي إلى مزيد من الفقر أم مزيد من الثراء؟ ولمن؟!
رأيت بعض الشابات الفقيرات جالسات فوق الرصيف في الشارع يقرأن عن الفقر في الصحف، بعد أن رفضت وزارة الشئون الاجتماعية تسجيل جمعيتهن الجديدة للنهوض الفكري لدى الشابات المصريات، لماذا رفضت الوزارة تسجيل الجمعية؟ لأنهن فقيرات لا يملكن إيجار شقة خالية تكون مقرا للجمعية.
طلبت مني الشابات التدخل لحل المشكلة، وذهبت معهن إلى وزارة الشئون الاجتماعية، لنكشف أن القانون الجديد للجمعيات يرفض تسجيل أي جمعية لا تملك إيجار أو شراء شقة خالية، كيف إذن تدافع الفقيرات أو الفقراء عن حقوقهم الفكرية؟!
كيف نشأ ختان الذكور في التاريخ؟!
مع بداية القرن الواحد والعشرين يتحلى النظام العالمي الجديد بكلمات جديدة براقة، يتخفى وراءها أشكال جديدة من الاستغلال والاستعباد للفقراء في العالم وللنساء أيضا.
أصبحت كلمة العولمة من الكلمات الغامضة الساحرة للكثير من المثقفين في الغرب والشرق أو الشمال والجنوب، إلا أن نتائجها على شعوب العالم ليست إلا مزيدا من الكوارث والأزمات الاقتصادية والاجتماعية والحروب الدينية والطائفية المشتعلة في كل بلاد العالم اليوم، وكم من النساء والشباب والأطفال يسقطون قتلى الفتن العقائدية والتي تتخفى وراءها المصالح المادية.
أضعف شرائح المجتمع هم أول الضحايا، وهم النساء والفقراء من جميع الطبقات والفئات والألوان، زادت الهوة مع مزيد من العولمة بين الذين يملكون والذين لا يملكون، وبين الجنس المؤنث والجنس المذكر الذي له السيادة في الدولة والعائلة في ظل النظام العالمي الجديد كما كان في ظل النظام العالمي القديم، لا يختلف النظام الجديد عن القديم إلا في التفاصيل والجزئيات، لكن الجوهر واحد، فهو جوهر النظام الطبقي الأبوي؛ يعني ذلك أن قلة من الأفراد تشكل «الطبقة الحاكمة» تسيطر على مصائر الملايين وأرواحهم وأرزاقهم وأمنهم وأمن أولادهم وبناتهم، هذه القلة القليلة من الأفراد في كل بلد من العالم تملك المال والسلاح والإعلام، الثالوث الذي ترتكز عليه السلطة الدولية أو المحلية، الثالوث الذي تبطش به على الأغلبية البشرية المفروض عليها الفقر والصمت ونزع السلاح.
يمكن لمن يدرس التاريخ أن يكتشف الترابط بين السلطة والجنس منذ نشوء العصر العبودي، منذ انقسام المجتمع إلى أسياد وعبيد وإلى نساء ورجال.
في مصر القديمة كانت «نوث» هي الإلهة الأم، إلهة السماء، زوجها «جيب» كان إله الأرض، وكانت الأم هي التي تعطي اسمها لأطفالها، لم تكن الأبوة معروفة، كان الرجال يتصورون أن الجنين يتكون في بطن الأم بقدرة خارقة غامضة سماوية، ثم بدأ العقل البشري يكتشف شيئا فشيئا علم البيولوجي وعلم الأمبريولوجي «الأجنة» وبدأ الرجل يعرف دوره في عملية الإخصاب، ثم بدأ يكتشف «الأبوة».
لم يعد يأكل أطفاله أو يغتصبهم كما كان يفعل من قبل، ولم يعد يؤمن أن النساء يحملن بسبب أرواح تهبط إليهن من السماء.
انعكست هذه الفكرة البدائية في الأساطير القديمة، وكم قرأنا هذه الحكايات عن الأبطال الشجعان الذين ولدتهم أمهاتهم بعد أن نفخت الآلهة المقدسة في أرحامهن، ويصبح المولود مقدسا، وإن كانت المولودة أنثى أصبحت قديسة أيضا تنضم إلى زمرة الإلهات المعبودات.
إلا أن المجتمعات البشرية كانت في تحول دائم وصراع دائم للاستيلاء على السلطة والمال والأرض. ظهر الصراع في التاريخ بين الآلهة الذكور والإلهات الإناث؛ يكشف التاريخ القديم عن معارك طويلة بين الإلهة المصرية إزيس وأعدائها من خارج البلاد وداخلها، استمرت هذه المعارك الضارية تحاول هدم فلسفة إيزيس في مصر (وغيرها من البلاد في الغرب والشرق) حتى عام 394 ميلادية حين جاء الإمبراطور تيودور وحطم تماثيل إزيس ومعابدها في الإمبراطورية الرومانية، وفي مصر ظل أتباع إيزيس وكهنتها يقاومون حتى آخر معبد من معابدها في جزيرة فيلة.
كيف تحولت نوث إلهة السماء وإيزيس إلهة الحكمة ومعات إلهة العدل إلى حواء رمز الخطيئة في التوراة؟! لقد ارتبط هذا التحول بانتصار النظام العبودي، أو ما يطلق عليه اليوم النظام الطبقي الأبوي، والذي جعل «القوة» هي التي تحكم، وليس العدل، وليس المنطق.
أصبح الإله الذكر في التوراة لا يلد إلا الأبناء الذكور، تقول الآية في الإصحاح السادس (التكوين):
وحدث لما ابتدأ الناس يكثرون على الأرض، وولد لهم بنات، أن أبناء الله رأوا بنات الناس أنهن حسنات، فاتخذوا لأنفسهم نساء من كل ما اختاروا ... إذ دخل بنو الله على بنات الناس وولدن لهم أولادا.
كذلك أصبحت ولادة الأنثى (في التوراة) ذات نجاسة مضاعفة، لا تطهر الأم الوالدة من نجاستها إلا بعد ستة وستين يوما (إن ولدت ذكرا تطهر بعد ثلاثة وثلاثين يوما فقط).
أما قهر العبيد فقد ارتبط بالجنس أيضا، ولم يكن للطبقة الحاكمة من الآلهة الذكور أن يقهروا الأجراء والعبيد دون عمليات جسدية مثل الإخصاء والختان. (1) كيف نشأ ختان الذكور في التوراة؟
في الإصحاح السابع عشر (تكوين) يعقد الإله مع النبي إبراهيم عهدا، يقول له: «أقيم عهدي بيني وبين نسلك من بعدك ... عهدا أبديا ... أعطي لك ولنسلك من بعدك أرض غربتك كل أرض كنعان ملكا أبديا، هذا هو عهدي الذي تحفظونه بيني وبينكم ... فيكون عهدي في لحمكم أبديا، وأما الذكر الأغلف الذي لا يختن في لحم غرلته فتقطع تلك النفس من شعبها، إنه قد نكث عهدي.»
هذه هي الكلمات التي جاءت في التوراة، تؤكد لنا أن إله اليهود رفع شعار «الأرض مقابل الختان»، وهو شعار غريب، فما علاقة الاستيلاء على أرض الغير بالقوة المسلحة وختان الذكور؟!
لا يمكن أن نفهم هذا السر إلا إذا قرأنا ما جاء في التوراة بعد ذلك؛ كان إبراهيم ابن مائة سنة وزوجته سارة بنت تسعين سنة، لم يكن عندهما ابن يرثهما، أشارت سارة على إبراهيم أن يتزوج جاريتها هاجر لينجب منها الولد، لكن ما إن أنجبت هاجر ابنها إسماعيل حتى غيرت سارة رأيها، طلبت من زوجها إبراهيم أن يطرد هاجر وابنها، تردد إبراهيم قليلا، لكن سارة أقنعته بطردهما بعد أن أنجبت له ولدا، قالت إنه من عند الله، فسأل إبراهيم الله مندهشا: «هل يولد لابن مائة سنة؟ وهل تلد سارة وهي بعد تسعين سنة؟» (الإصحاح 17: تكوين 17). توسل إبراهيم إلى الله أن يجعل ابنه إسماعيل يعيش أمامه، لكن الله رد عليه في التوراة قائلا: «فقال الله: بل سارة امرأتك تلد لك ابنا وتدعو اسمه إسحاق، وأقيم عهدي معه عهدا أبديا لنسله من بعده.»
هكذا تمت الخطة حسب تدبير زوجته سارة، خطة استغرقت ثلاث عشرة سنة بسبب تردد إبراهيم وتلكئه في طرد زوجته هاجر وابنها إسماعيل. أمرت سارة بتختين إسماعيل قبل طرده وعمره ثلاثة عشر عاما، كما أمرت أيضا بتختين زوجها إبراهيم وعمره تسعة وتسعون عاما!
تقول التوراة: «وكان إبراهيم ابن تسع وتسعين سنة حين ختن في لحم غرلته، وكان إسماعيل ابنه ابن ثلاث عشرة سنة حين ختن في لحم غرلته، في ذلك اليوم عينه ختن إبراهيم وإسماعيل ابنه وكل رجال بيته، ولدان البيت والمبتاعين بالفضة من ابن الغريب ختنوا معه.»
في الإصحاح الثامن عشر نكتشف العلاقة الخفية بين الرب وسارة زوجة إبراهيم؛ إذ يظهر الرب عند باب خيمة إبراهيم، ومعه ثلاثة رجال، وسجد إبراهيم إلى الأرض ثم أسرع إلى سارة زوجته داخل الخيمة وقال لها: «أسرعي بثلاث كيلات دقيقا سميذا، اعجني واصنعي خبز ملة. ثم ركض إبراهيم إلى البقر، وأخذ عجلا رخصا وجيدا وأعطاه للغلام فأسرع ليعمله، ثم أخذ زبدا ولبنا والعجل الذي عمله ووضعها قدامهم، وإذ كان هو واقفا لديهم تحت الشجرة أكلوا.»
بعد الأكل سأل الرب إبراهيم عن زوجته، فقال له ها هي في الخيمة: «فقال إني أرجع إليك ... ويكون لسارة امرأتك ابن، وكانت سارة سامعة في باب الخيمة وهو وراءه، وكان إبراهيم وسارة شيخين متقدمين في الأيام، وقد انقطع أن يكون لسارة عادة كالنساء.»
إلا أن سارة تحصل على ابنها إسحاق، كيف؟ لا نعرف، ولماذا كانت تقف وراء الباب تتسمع ما يدور بين الرب وزوجها إبراهيم، ولماذا كان الرب يستجيب لجميع طلباتها، ويأمر زوجها إبراهيم بطرد هاجر وابنها إلى الصحراء؟! وهل هناك إذلال للرجل وهو في التاسعة والتسعين من عمره أن يمسكه الرجال، يكشفون عورته، يقطعون غرلته بالموس أو قطعة من الحجر؟ لقد تلوث جرح إبراهيم ولم يلتئم إلا بعد زمن طويل من الألم والمعاناة، حتى إنه اشتكى للرب من الألم وطلب منه الرحمة. •••
ويظل الشعار القديم أو العهد القديم «الأرض مقابل الختان» غير مفهوم، وفي حاجة إلى دراسات أعمق لعصور العبودية والصراعات على السلطة والمال والأرض بين الجماعات البشرية المختلفة.
إلا أن عادة ختان الذكور مثل عادة ختان الإناث أصبحت تتوارث عبر الأجيال، رغم ما يصاحبها من مخاطر صحية مختلفة.
بل كثيرا ما حاول المجتمع البشري تبرير هذه العمليات الجسدية من أجل استمرارها، كانت السلطة الحاكمة في أي مجتمع في حاجة دائمة إلى التحكم في أجساد النساء والعبيد، وتقطع أجزاء منها لأسباب قمعية تتخفى تحت الدين.
ولهذا انتشرت الشائعات حتى بين الأطباء أن عمليات الختان للإناث والذكور ضرورية من أجل النظافة أو الصحة، أو لمنع الأمراض. •••
منذ أكثر من ثلاثين عاما حين نشرت كتابي «المرأة والجنس» ثارت السلطة الحاكمة في الدولة؛ لأن الكتاب تضمن بعض الفصول التي تكشف عن المخاطر الصحية الناتجة عن ختان الإناث، كان هذا الكتاب (والذي صودر عام 1969) هو فاتحة المشاكل في حياتي، والتي أدت إلى فقداني منصبي في وزارة الصحة في أغسطس 1972، رغم ذلك أصدرت الكتاب من بيروت عام 1971، وأعقبته بكتب أخرى على توالي السنين، نشرت كلها في بيروت أو معظمها.
لكني لم أتعرض في هذه الكتابات السابقة إلى المخاطر الصحية الناتجة عن ختان الذكور، كنت مشغولة بما تصورت أنه أهم من ذلك، كما أنني لم أكن عرفت بعد شيئا عن هذه المخاطر الصحية، وهي معلومات حديثة نسبيا، لم يتم نشرها في المجلات الطبية إلا في السنين العشر الأخيرة.
لحسن حظي وصلت إلي هذه المعلومات حين كنت أستاذة زائرة في جامعة ديوك بولاية نورت كارولينا، بأمريكا الشمالية، خلال الأعوام 93، 94، 95، وقد شهدت هذه السنوات الثلاث حركة طبية واسعة النطاق، وفي أنحاء متعددة من العالم لنشر المعلومات الجديدة عن مخاطر ختان الذكور، وساعدت الثورة الإلكترونية الأخيرة في سرعة نشر هذه المعلومات، وتكونت فرق من الأطباء تدعو إلى منع ختان الذكور، وتقدم للجماهير العادية المعلومات الطبية عبر الإنترنت تحت عنوان: «الأطباء يعارضون الختان» وبالإنجليزية
Doctors Opposing Circumcision . •••
في المعركة ضد ختان الإناث انتصرت الحقائق الطبية والعلمية، وصدر القرار في مصر بمنع ختان البنات عام 1997، وقد حسم المعركة السلطة الدينية في مصر حين أعلن شيخ الأزهر أن الختان مسألة طبية من اختصاص الأطباء، وليست مسألة فقهية.
هذه عبارة صحيحة تماما تنطبق على ختان الإناث والذكور أيضا، والمفروض أن يطلع الأطباء في مصر على المعلومات الطبية الجديدة التي تؤكد أن ختان الذكور ضار صحيا، وليس له أي فوائد كما أشيع قديما.
منذ ثلاثين عاما أو أكثر حين طالبت بمنع ختان البنات؛ حرصا على صحة النساء سخر مني زملائي الأطباء، وأكدوا أن ختان الإناث عادة صحية من أجل النظافة والجمال والعفة أيضا.
واليوم قد يسخر كثيرون من الأطباء حين نطالب بمنع ختان الذكور، لقد ورثوا كثيرا من الأفكار القديمة الخاطئة داخل علم الطب ذاته، كما أن وقتهم الضيق لا يسمح لهم بالاطلاع على المعلومات الطبية الجديدة، إن التعليم في بلادنا لا يزال يمشي بخطوة السلحفاة في عصر الإلكترون والإنترنت.
المطلوب اليوم من وزارة الصحة ونقابة الأطباء أن تلعب دورا فعالا لتعريف الأطباء الشباب بهذه المعلومات الجديدة ، والتي لا يمكن تلخيصها في مثل هذه المقالات الصحفية السريعة. •••
كما أن من حق الناس (من غير الأطباء) أن يعرفوا هذه الحقائق الجديدة حتى يحمي الآباء والأمهات أبناءهم من هذه العادات القديمة الضارة جسديا ونفسيا واجتماعيا.
أول رحلة بالمترو تحت الأرض في القاهرة
توقفت سيارتي ذات يوم فوقفت في الشارع لأركب تاكسي إلى الجيزة، كنت أعرف أن الأجرة خمسة جنيهات، إلا أن صاحب التاكسي أراد أن يأخذ عشرة جنيهات، رفضت وجاء تاكسي آخر، قال لي السائق: ادفعي ما تشائين، حين ناولته الخمسة جنيهات رفض وقال أريد ثمانية جنيهات، ضيعت وقتا في الجدل مع السائق الذي كان غليظ الصوت يستخدم لغة غير لائقة مما أصابني بالغضب، لم أكن يعلم أنه يستغل كوني امرأة مثقفة ووقتي ثمين وكرامتي أثمن، ولا أريد أن أهدرها في الشارع مع سائقي التاكسيات؛ لهذا حصل مني على مبلغ لا يستحقه، رغم أن هذا المبلغ ثلاثة جنيهات فقط إلا أن يومي كله تعكر، وسؤال ظل يلح علي كيف تركت هذا السائق يستغلني رغم ثقافتي ودفاعي الدائم عن العدل؟! تضايقت من نفسي لأني تنازلت عن حقي، كنت أعرف أن أي استغلال لا يمكن أن يحدث دون أن يتنازل الإنسان عن حقوقه، سواء كان فردا أو جماعة.
إن الشعب الذي يتنازل عن حقوقه يخلق الحاكم المستبد الظالم في الدولة، إن المرأة التي تتنازل عن حقوقها تخلق الزوج المستبد الظالم في الأسرة، إن الراكبة التي تتنازل عن حقها تخلق صاحب التاكسي المستبد الظالم في شوارع المدينة.
تعكر اليوم بسبب هذه الأفكار التي تزاحمت في رأسي، كنت أحضر اجتماعا في جامعة القاهرة أتحدث فيه عن الديمقراطية، ووجدتني أبدأ الحديث بأن أقول إن الإنسان أو الشعب الذي يتنازل عن حقه في الحرية لا يمكن أن يعيش الديمقراطية؛ لأن الديمقراطية سلوك يومي في الحياة، في البيت، وفي الشارع، وفي مكان العمل، في الحزب السياسي، وفي البرلمان وكل مكان، وحكيت ما حدث بيني وبين صاحب التاكسي، وبدأ الحاضرون جميعا نساء ورجالا يحكون تجاربهم الشخصية، وكيف أنهم يتنازلون عن حقوقهم كل يوم وكل لحظة من أجل أن يهرولوا إلى مواعيدهم وأعمالهم التي لا تحتمل التأجيل.
في طريق العودة إلى بيتي قررت ألا أتنازل عن حقي، ولن أدفع أكثر من خمسة جنيهات، وإن اضطررت إلى العودة سيرا على القدمين، وفعلا بدأت السير، وكنت متحمسة لهذه الحركة المتحدية لأصحاب التاكسيات، وأصابتني الحركة مع الحماس بشحنة من السعادة، وكانت الشمس مشرقة وهواء مايو منعشا، إلا أن المسافة بين الجيزة وحدائق شبرا بدت أمامي طويلة، وفجأة رأيت محطة «المترو»، كانت المرة الأولى في حياتي التي أرى فيها محطة مترو في القاهرة، لقد رأيت الكثير من محطات المترو في العالم، وركبت القطارات تحت الأرض (داخل الأنفاق) في معظم العواصم والمدن، توقفت لحظة وقلت لنفسي: ولماذا لا أركب المترو تحت الأرض! كنت أرى العمال يحفرون شوارع القاهرة منذ سنوات، وأسمع عن أن مدينة القاهرة سوف يكون لها قطارات تحت الأرض أو «مترو الأنفاق».
لم يكن لي أن أصدق أن هذا سوف يحدث، وإن حدث فلن أركب مترو الأنفاق في مدينة القاهرة! لماذا سيطرت علي الفكرة أن هذا المترو لن يسير، وإن سار فسوف يتوقف أو يتعطل مثلما تتعطل كل الأشياء في المدينة، ومنها المصعد الذي يأخذني إلى شقتي في العمارة الجديدة في الدور السادس والعشرين، وكم توقف بي المصعد حيث كدت أموت في يوم من الأيام، وتدربت على الصعود على القدمين ستة وعشرين دورا، تصورت أن مترو الأنفاق لن يكون أحسن حالا من المصاعد الكهربية، وقد ينقطع التيار في أي لحظة؛ بل قد يسقط النفق فوق القطار، أو يحدث حريق، أو تتسرب مياه المجاري إلى تحت الأرض، أو يهمل أحدهم وينسى شيئا فإذا بقطار يصطدم بقطار آخر، وكم من حوادث قطارات فوق الأرض فما بال تحت الأرض؟!
إلا أن الشمس قد بدأت تشتد حرارتها، وبدا الطريق من الجيزة إلى شبرا طويلا، وجمعت شجاعتي وهبطت إلى مترو الأنفاق.
أصابتني ما يمكن أن يسمى «صدمة حضارية»، كأنما أصبحت في أجمل المدن وأنظفها وأكثرها احتراما للشعب، ربما هي مدينة في سويسرا أو السويد، ليست أبدا هي مدينة نيويورك أو لندن، حيث أصبحت القطارات تحت الأرض ومحطاتها من أقذر الأمكنة وأكثرها خطورة، أذكر أن قطارا احترق بي في نيويورك، وقطارا في لندن اصطدم بقطار آخر، واشتعل الحريق حتى كدت أختنق مع الآلاف تحت الأرض لولا حضور بوليس النجدة والإسعاف.
تصورت أنني أصبحت خارج مصر، لكني تذكرت أنني داخل محطة مترو الأنفاق، وأنني واقفة على الرصيف النظيف أتطلع إلى الأسهم والعلامات التي ترشدني إلى حيث أذهب، من حسن حظي أن خط الجيزة يذهب مباشرة إلى شبرا، رأيت فوق الرصيف زحاما من طلبة الجامعة والطالبات، وفلاحات وخادمات منازل يحملن سبت الخضار، وموظفين وربات بيوت، فقراء ومن الطبقة الوسطى وفوق الوسطى، رأيت بعض أساتذة الجامعة، وبعض السيدات الأنيقات من الطبقة العليا، ونساء بالطرح والحجاب والنقاب، ورجال بالجلاليب وملابس العمال، كل طبقات الشعب المصري واقفة فوق الرصيف الطويل تنتظر القطار، فوق رأسي جهاز تليفزيون مصري يتحدث باللغة الإنجليزية، اندهشت لماذا الإنجليزية مع أن جميع الركاب من المصريين والمصريات؟! جاء القطار وهبط الناس وصعد الناس في طابور منظم جميل ذكرني بأوروبا، عيون الشباب تتطلع إلى المحطة والقطار بفرح وزهو، أو ربما هي عيوني التي ملأها الفرح والزهو فتصورت أن كل العيون عيوني، أجمل شيء أن إحدى الطالبات فتحت كتابا وراحت تقرأ رغم أنها كانت واقفة وليست جالسة في مقعد، تذكرت كم كنت أعجب بالناس في أوروبا حين أراهم يقرءون في القطارات ولا يضيعون الوقت، قلبي خفق بالفرح والحب لهذه الوجوه المصرية الحميمة، والبشرة السمراء بلون بشرتي، العيون السوداء بلون عيوني، إلا أن الفرح والفخر يملؤها وليس الحزن القديم أو الهوان المزمن.
انطلق القطار بالسرعة التي تنطلق بها القطارات في أوروبا وأمريكا، يحملني على جناح السرعة إلى شبرا في دقائق، وأنا أتطلع في سعادة إلى جدران المحطات المتعاقبة النظيفة الجديدة، وكل شيء يبدو مفرحا إلا بعض أسماء المحطات، التي بدت كلها أسماء رجال حكموا مصر، كأنما مدينة القاهرة تحت الأرض يملكها الحكام الرجال كما ملكوها فوق الأرض، ما هذا التقديس الموروث منذ الفراعنة لحكام مصر؟
كان يمكن أن تكون هناك محطة واحدة باسم حاكم في التاريخ حرر بلادنا من الاحتلال الأجنبي مثلا، لكن أن نضع أسماء كل الحكام، الذي يدرك تماما أنه ليس كل حاكم يستحق أن يمتلك محطة تحت الأرض، ألا تكفي المحطات فوق الأرض؟!
في أوروبا كنت أقرأ أسماء كبار العلماء والأدباء أو الفلاسفة الكبار الذين غيروا مسار الفكر البشري ليصبح أكثر إنسانية وعدلا وحرية وجمالا، أغلبهم رجال بالطبع وقليل جدا من أسماء النساء الفيلسوفات أو الأديبات المرموقات، إلا أن مدينة القاهرة تحت الأرض في مترو الأنفاق مثلها كالمدينة فوق الأرض لم أقرأ اسم امرأة مصرية واحدة فوق إحدى المحطات! إلا اسم «سانت تيريزا» (على خط المرج/حلوان)، والسيدة زينب!
ألا توجد امرأة واحدة في تاريخ مصر القديم أو الحديث تستحق أن يوضع اسمها فوق إحدى المحطات؟! وكم تفخر أوروبا بنسائها المشاركات في تحرير بلادهن أمثال جان دارك، ألا توجد في مصر امرأة واحدة شاركت في تحرير بلادنا خلال القرون الماضية؟! أو شاركت في الفكر والأدب والعلم؟ •••
وهل ينتقل العالم الذكوري الطبقي من فوق الأرض إلى تحت الأرض بهذا الشكل المؤلم؟! كأنما بلادنا مسكونة بالذكور فقط، وكأنما أصحاب السلطة يركبون على أنفاسنا تحت الأرض أيضا.
هبطت في محطة شبرا القريبة من بيتي، قبل أن أصعد إلى الشارع ذهبت إلى ناظر المحطة لأطلب خريطة لخطوط القطارات، لا يمكن لأحد أن يعرف طريقه تحت الأرض دون خريطة، وفي كل مدن العالم يمكن الحصول على هذه الخريطة من شباك التذاكر، فوجئت بأن ناظر المحطة ليس لديه خريطة، وأن شبابيك التذاكر ليس بها خرائط، لماذا؟ لم يكن لي أن أعود إلى بيتي دون خريطة أسترشد بها في رحلاتي القادمة داخل مترو الأنفاق، بعد نصف ساعة تقريبا، وبعد أن قلت إنني كاتبة مهمة جدا استطاع ناظر المحطة أن يحصل لي على خريطة، إنها مطبوعة بالألوان فوق ورق مصقول لامع ثمين، اندهشت كثيرا؛ لأن خريطة مترو الأنفاق في أغنى بلاد العالم تطبع على ورق عادي، لتكون في متناول الناس دون ثمن، سألت ناظر المحطة فقال لي ما أدهشني، قال نحن لا نعطي هذه الخريطة إلا للسياح الأجانب؛ ولذلك يجب أن يكون مظهرها براق جميل، قلت له هذا المشروع «مترو الأنفاق» للشعب المصري، وليس للسياح الأجانب، جميع الركاب والراكبات من المصريين والمصريات، فكيف تطبع الخريطة فقط للأجانب؟ وكيف تكون الإذاعة في التليفزيون على الأرصفة باللغة الإنجليزية؟! ابتسم الناظر برقة وقال: والله مش عارف!
أشياء صغيرة قد تفسد جمال الأشياء، مثل النقط السوداء فوق القلب الأبيض المملوء بالفرح، قاومت هذه السلبيات القليلة التي يمكن أن تعالج عن طريق الكتابة والنقد من أجل أن يفرح الشعب المصري بمشروع جديد يحرره من عبودية المواصلات فوق الأرض، ومنها التاكسيات، وبدلا من أن أدفع ثمانية جنيهات لصاحب التاكسي دفعت خمسين قرشا (نصف جنيه فقط) ثمن التذكرة من الجيزة إلى بيتي في شبرا.
أدخلت سيارتي الجراج، وأخرجت أصحاب التاكسيات من حياتي، وقررت ركوب المترو تحت الأرض كل يوم.
مايو 1999
أحلام إنسان بسيط
منذ ستين عاما، وأنت طفلة بالمدرسة الابتدائية، رأيت نفسك في الحلم داخل طائرة، تسقطين منها، القنابل مثل رذاذ المطر، فوق ثكنات الإنجليز على شط قناة السويس.
وأنت نائمة لم تحلمي بالعروسة أو الفستان، أو الفرحة في عيني أبيك وأمك، قتلوهما الاثنان أمام عينيك وأنت طفلة، وأخوك قتلوه وأختك، وأطفال الجيران وزميلك في المدرسة، والإنسان البسيط الذي خفق له قلبك ثم مات وهو شاب.
وأنت يا علاء رأيتهم في طفولتك منذ ثلاثين عاما، وأنت طفل في الخامسة من عمرك، أصبحت وحدك بلا أم ولا أب، وأرغمك الفقر على البقاء في مسقط رأسك، الذي لم يعد وطنك، بل الأرض المحتلة بجيش إسرائيل المدجج بسلاح الإنجليز والأمريكان والفرنسيين وغيرهم ممن يحملون جواز سفر عربي.
كل يوم تمشي في جنازة طفل شهيد، يحلم مثلك بركوب الطائرة، وإسقاط القنابل فوق الثكنات المسلحة، الحلم الطفولي البسيط يا علاء لكل أطفال الحي الفقير في رام الله وغزة وغيرهما من المدن والقرى.
كل يوم تمشي في جنازة شهيد أو شهيدة، وتعود إلى زوجتك وأطفالك الخمسة أكبرهم في التاسعة من عمره، ينامون بغير عشاء وبغير غطاء، يراودهم الحلم الطفولي مثلك ومثلي وكل الأطفال في بلادنا الذين فقدوا الحلم.
حرمك الفقر يا علاء من التعليم فاشتغلت سائقا تحت سيطرة حكومة الاحتلال، خمس سنوات وأنت تقود الباصات كل يوم من الصباح إلى المساء نظير أجر ضئيل، تنقل العمال من زملائك وجيرانك في قطاع غزة إلى تل أبيب، ثم تعود إلى مسكنك الفقير من غرفتين في حي الشيخ رضوان شمال مدينة غزة.
خمس سنوات يا علاء وأنت تقود الباصات وتمشي في الجنازات، ترقد إلى جوار زوجتك صامتا مرهقا تفكر في مستقبل أطفالك الخمسة، وأطفال الجيران، وكل الأطفال الذين قتلوا أمام عينيك.
تنام كل ليلة وأنت تفكر في الموت، تسأل نفسك في الحلم، إذا كان الموت هو النهاية، فلماذا لا أفعل شيئا بسيطا قبل أن أموت؟ ويشتغل عقلك الباطن في النوم، ترى نفسك داخل الباص، الذي لم يعد باصا بل طائرة تقودها بنفسك، لم تركب في حياتك طائرة، لكن قدراتك في الحلم تدهشك، تقتحم بالطائرة عاصمة الأعداء، تل أبيب نفسها تدخلها، تلك التي لا يدخلها أي جيش عربي، ولا جيوش العرب جميعا مجتمعين في القمم وغير القمم، الجهابذة منهم والأباطرة والأسياد والسادة المؤيدين والمعارضين، اليسار منهم واليمين والوسط، ويسار الوسط ويمين الوسط، فهؤلاء جميعا يا علاء أصبحوا بغير سلاح إلا فصاحة اللسان في الشعر والخطب والمقالات المحبرة فوق الورق.
ترى نفسك في الحلم يا علاء تقود الطائرة من الفولاذ وليس من الورق، طائرة مصفحة تكاد تشبه الباص الذي تقوده كل يوم من الصباح إلى المساء، يهتز بك سريرك وأنت نائم حين يقتحم تل أبيب الباص المصفح، الذي أصبح يطير في الجو مثل الطائرة تماما، وأنت وراء عجلة القيادة.
في الصباح وجدت نفسك في بيتك موقوفا عن العمل، منذ بداية الانتفاضة طردوك أنت وزملاءك، أصبحت تخرج كل يوم تبحث عن رزق أطفالك الخمسة وتعود فارغ اليدين، ستة شهور يا علاء وأنت تمشي في الشوارع وفي الجنازات، لا شيء أمامك إلا أن تموت أنت وأطفالك، لكن قبل أن تموت ماذا تفعل.
هكذا رأوك تمشي في الشوارع شارد الذهن، تدوس على دم الأطفال الشهداء وتمشي، تغمض عينيك لحظة، ترى نفسك راكبا الباص كالطيارة، تنقل زملاءك العمال حتى مفترق اليازور، القرية التي دمرها جيش الاحتلال جنوب تل أبيب، تدور عجلة القيادة في يدك نصف دورة، وتنطلق كالطائرة نحو ثكنات العدو.
تفتح عينيك يا علاء وترى نفسك تمشي في الشارع، تدوس على دماء لم تجف، تتعثر في أشلاء الأطفال، والرصاص يدوي في أذنيك، وأنت تمشي، هكذا تمشي لا تعرف إلى أين، لم تدخل في حياتك حزبا يا علاء، لم تنضم إلى تنظيم أو جماعة، لم تعلق في بيتك صورة شهيد، كنت مثال الطاعة والهدوء والعمل دون شكوى، خمس سنوات تقود الباصات تحت عيون الرقابة والجنود، والضباط المهرة المدربين على الاستجواب والتحقيق، ورؤساؤك في شركة الباصات، والجميع شخصوك بأنك إنسان بسيط لا تحيط بك أي شكوك، لم يسبق لك أن اعتقلت من قبل جيش الاحتلال أو الشرطة الفلسطينية ولم تكن لك مشاكل سياسية أو أمنية أو جنائية، أنت إنسان عادي بسيط لك زوجة وخمسة أطفال، وليس شابا أعزب طائشا.
كيف إذن يا علاء يحدث ما حدث صباح الأربعاء 14 فبراير؟ منذ أيام قليلة أعادوك إلى عملك، ولم تعرف لماذا أعادوك، هل قمعوا الانتفاضة؟ هل مات كل الأطفال؟ هل نفدت كل قطع الحجارة من الشوارع؟
خرجت يا علاء ذلك الصباح صامتا كعادتك شارد الذهن، جلست وراء عجلة القيادة داخل الباص، أنزلت العمال جميعا عند مفترق اليازور جنوب تل أبيب، وفجأة دارت عينيك نصف دورة، رأيت الفرقة العسكرية، ثلاثين من جنود الاحتلال واقفين هناك، أغمضت عينيك كما في الحلم، تحول الباص إلى الطائرة المصفحة، انطلقت نحوهم مثل الصاروخ، سقط منهم ثمانية قتلى وواحد وعشرون جريحا.
عقدت الدهشة ألسنة رؤسائك في شركة الباصات، لم يفهموا كيف يقوم إنسان بسيط مثلك بمثل هذا الهجوم، لكن زملاءك البسطاء قالوا: ما حدث لعلاء أمر بسيط طبيعي، إن ما نراه في حياتنا كل يوم يجعل الإنسان البسيط منا يقوم بأي شيء، ما فعله علاء ليس عملا جنونيا ولا انتحاريا ولا أي شيء، لقد فعل ما يفعله كل منا وهو نائم في الحلم.
القاهرة، 15 فبراير 2001
عن توفيق الحكيم في ذكراه ال 15
(1) لإحياء الذكرى
إذا أردنا إحياء ذكرى توفيق الحكيم أو أي إنسان أو إنسانة قدمت أفكارا جديدة تنتشل عالمنا الإنساني من الحروب أو العنف أو العدوان على حقوق الآخرين أو الأخريات، فإن أفضل ما يمكن أن نفعله هو أن نناقش أفكار هذا الإنسان، أو هذه الإنسانة مناقشة هادئة عميقة، وأن نعيد قراءة هذه الأفكار قراءة متأنية بحيث نكتشف ما فيها من إيجابيات فنبرزها ونظهرها ونطرحها للنقاش على أوسع نطاق، وعلينا أيضا أن نبرز السلبيات أو ما نراه سلبيات مما يوضح نقاط الاختلاف في الآراء والأفكار المطروحة، وكم نتعلم أكثر من اختلاف وجهات النظر؛ لأن الاختلاف يكشف لنا عن نواحي النقص في تفكيرنا نحن، أو نواحي الغموض «وعدم الفهم» إن العنف في الحوار غالبا ما يكون سببه «عدم الفهم»، ومنذ أيام قليلة طلبني أحد الرجال الإسلاميين (هو الذي قدم لي نفسه بصفته إسلامي) وبدأ كلامه لي بصوت غاضب عنيف إلى حد أن أسلاك التليفون كانت تهتز من عنف صوته، إلا أنني استمعت له حتى النهاية، ثم بدأت معه حوارا هادئا حول نقاط الاختلاف بيني وبينه، ثم اكتشفت أنه لم يقرأ كتابا واحدا من كتبي الأربعين، وأنه استقى معلوماته عني من بعض الصحف التجارية المنتشرة في السوق هذه السنين، واعتذر الرجل عن عنفه وسوء فهمه أو عدم فهمه لأفكاري.
هذا مجرد مثل واحد لما يحدث في حياتنا كل يوم، ونحن نقع في هذا الخطأ ونكرره على نحو غريب، ويشجعنا على هذا تلك الحوارات العنيفة؛ التي نراها على الشاشة والقنوات الفضائية المحلية والعربية والدولية، وقد أصبح «العنف في الحوار» كأنما هو موضة العصر الأمريكي ما بعد الحديث، وأشهر برنامج للحوار في الولايات المتحدة يحمل اسم
Cross fire «التراشق بالنيران»، وفيه يجلس الشخص في مواجهة الآخر، ويتراشقان بالألفاظ والأفكار كأنما هي طلقات نارية فعلا، يحاول المذيع أو مقدم البرنامج أن يفض العراك على نحو يشبه الحرب.
وهل يمكن أن نقضي على الحروب الاقتصادية واغتصاب الأرض أو الحقوق المادية للناس من أرض أو مياه أو إنتاج زراعي أو صناعي ونحن نعيش الحرب اليومية في حياتنا الفكرية والثقافية والأدبية؟
ربما لهذا السبب أكتب اليوم لأناقش فلسفة توفيق الحكيم في ذكراه الخامسة عشر، لقد مرت خمسة عشر عاما على وفاة توفيق الحكيم، ولم أفكر في مناقشة فلسفته إلا اليوم، ربما كتبت مقالا واحدة أو مقالين خلال حياته، ومثلهما عند وفاته أو في الذكرى الأولى لوفاته ثم توقفت عن الكتابة عنه، ربما شعرت كأنما أنفخ في قربة مثقوبة كما يقولون، ولم أجد أحدا متحمسا لأفكار توفيق الحكيم بعد موته، أو ربما قلة قليلة كانت متحمسة، ثم ضعف حماسها مع مرور السنين.
وهذه عادة سيئة نتوارثها جيلا عن جيل منذ عهود الفراعنة، أو السلطة المطلقة في المجتمع الكبير والعائلة الصغيرة، إن «السلطة السياسية» هي التي تحدد لنا الأفكار والقيم والثقافة والأدب والفلسفة، ويطغى على الساحة الفكرية رجال ونساء السياسة وليس رجال ونساء الفكر.
ربما لهذا السبب شعرت بالزهد والابتعاد عن تلك الضجة الإعلامية الكبيرة لإعادة مناقشة فلسفة جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر، وشعراوي جمعة وغيرهم من القيادات السياسية لثورة يوليو 1952، وأنا بالطبع لست ضد مناقشة أفكار رجال ونساء السياسة؛ لأن الفكر والسياسة والثقافة والأخلاق والاقتصاد وغيرها كلها متشابكة، ويجب أن تكون متشابكة نظريا وفكريا واجتماعيا، فالواقع اليومي المعاش يؤكد تشابكها وتلاحمها.
ولكني ضد تركيز الأضواء أو معظم الأضواء على أصحاب السلطة السياسية، واعتبارهم قادة الفكر والفلاسفة، على حين نهيل تراب النسيان على المفكرين الحقيقيين من الرجال والنساء، الذين زهدوا في السلطة من أجل التعمق في الفكر والفلسفة.
وكان توفيق الحكيم واحدا من هؤلاء الزاهدين، وقد عرفته عن قرب شديد في اجتماعات لجنة القصة بالمجلس الأعلى للفنون والآداب، ولمدة ثلاثة أو أربعة أعوام من عام 1969 حتى عام 1972، وكان هو رئيس اللجنة، وكنت أنا عضوة بهذه اللجنة مع آخرين وأخريات من الأدباء والأديبات، أذكر منهم يوسف الشاروني ويوسف إدريس ونجيب محفوظ ولطيفة الزيات وثروت أباظة وغيرهم، كان أغلبهم من الشباب وأنا كنت شابة أنظر إلى توفيق الحكيم باعتباره من الكهول بشعره الأبيض وشاربه الأبيض وعصاه التي يتكئ بها حين يمشي، وصوته المبحوح قليلا، وأسنانه الصفراء من الدخان ربما، وخوفه من قيادة السيارات، وكانت قيادة سيارتي كفتاة شابة تجعلني أكثر استقلالا من توفيق الحكيم، إذ أركبها وأقودها وحدي إلى بيتي في الجيزة بعد انتهاء اجتماع لجنة القصة في الزمالك، أما توفيق الحكيم فكان ينتظر ثروت أباظة ليأخذه بسيارته إلى بيته.
ومع ذلك كان توفيق الحكيم أقرب إلي من الشباب أعضاء اللجنة، عيونهم كانت باهتة قليلا إلى جانب عينيه المتقدتين بالبريق الأشبه بالطفولي، أقرأ في عينيه شقاوة الطفل الذي أصبح كهلا، ومع ذلك يحتفظ بطفولته وسذاجته ومكره، وكان توفيق الحكيم ماكرا مثل معظم الفنانين الحقيقيين، ذلك المكر النابع من دهاء الفن وذكاء الإبداع، وكان يحكي علينا الحكايات مثل شهرزاد في ذكائها ومحولتها ترويض السلطة المطلقة لشهريار، كان يحكي لنا النكت السياسية التي تنقد السلطة المطلقة للحكم دون أن يتعرض لمضايقات رجال الأمن، وكان مثل الأطفال يضحك على النكتة قبل أن يحكيها لنا، بل كثيرا ما كانت سخريته تمتد من السلطة المطلقة فوق الأرض إلى السلطات المطلقة في السماوات وإلى الفراعنة الآلهة في مصر القديمة.
وكم أود لو عندي الوقت أن أكتب كتابا كاملا عن توفيق الحكيم؛ كإنسان وفنان وصاحب فكر وفلسفة، ربما نشرت بعض الكتب عن توفيق الحكيم، لم أقرأها ربما، إلا أن ما قرأته عن توفيق الحكيم قد سقط عنه أهم عناصر توفيق الحكيم الفكرية أو الفنية أو الإنسانية.
وفي هذا المقال الموجز عن توفيق الحكيم، وفي ذكراه الخامسة عشر أود أن أناقش فكرة واحدة من أفكاره، وهي فكرته عن تحقيق السلام فوق الكرة الأرضية، هذه الفكرة شغلت المفكرين من النساء والرجال منذ نشوء العبودية وحتى اليوم، انشغل الفلاسفة من الرجال والنساء بهذه الفكرة منذ عصور الفراعنة في مصر القديمة وحتى اليوم.
ونحن نعيش اليوم هذه المشكلة الكبيرة المتعلقة بمشروع السلام أو عملية السلام الممطوطة بين دول إسرائيل والشعب الفلسطيني، وكيف يذبح هذا الشعب أمام عيوننا كل يوم تحت اسم السلام، وهذه الكلمة «السلام» أصبحت مراوغة وثعبانية ومفزعة ومرعبة أكثر من كلمة «الحرب»، بل قد تبدو كلمة «الحرب» أحيانا بريئة وإنسانية إلى جانب كلمة السلام.
وما أحوجنا اليوم إلى إعادة قراءة أفكار توفيق الحكيم وغيره من المفكرين والمفكرات عن كيف يمكن للسلام الحقيقي أن يتحقق في عالمنا، الذي يسير نحو مزيد من الحروب والدمار الشامل. (2) وماذا يقول توفيق الحكيم عن تحقيق السلام؟
كان توفيق الحكيم متحمسا شديد الحماس لفكرة تحقيق السلام في عالمنا البشري كله، وليس فقط في عالمنا العربي، كان مثل «أرسطو» الذي انشغل طوال حياته بالفكرة ذاتها، وكيف يتحقق السلام فوق الكرة الأرضية، إلا أن أرسطو عاش في العصر اليوناني العبودي (384-222ق.م) وكان جزءا من هذا العصر، وحين يكون الإنسان جزءا من شيء فإنه لا يرى إلا هذا الشيء أو لا يراه كله، العين لا ترى نفسها، رغم أنها الجهاز الذي يرى، وهذه مشكلة تعترض جميع الفلاسفة من الرجال والنساء هناك قول قديم يقول: إن آلهة السماء أعطوا المعرفة للعميان، وأكثر الفلاسفة في الريف المصري كانوا من العميان، ومن أشهر الفلاسفة في مصر «طه حسين» وكان لا يرى بعينه، ولكن بالعقل والفكر والبصيرة.
ليس معنى ذلك أنني أدعو المفكرين والمفكرات في بلادنا إلى خلع عيونهم؛ ولكني أود أن أقول إن العين لا ترى نفسها، هذه بديهية تغيب عن عقولنا ضمن بديهيات أخرى كثيرة وبسيطة، ولأنها بسيطة فإنها تفوت علينا ونحن نبحث عن المعقد والمركب، وهذه عادة فلسفية سيئة، إذ نتصور أن الفكرة المعقدة المركبة هي الفلسفة، في حين أن الفلسفة الحقيقية هي الواضحة البسيطة بساطة الحياة والطبيعة والجمال الطبيعي وضوء الشمس.
من الأشياء الواضحة أننا لا نرى ظهورنا على نحو كامل كما يراها الآخرون والأخريات، وكم نحاول من خلال المرآة أن نرى ظهورنا دون جدوى، وهذه حقيقة شغلتني في أول الشباب، كنت أحس نظرات الآخرين والأخريات فوق ظهري بعد أن أستدير، وأدرك (بغيظ شديد) أنهم الغرباء عني أقدر على رؤية ظهري أكثر مني.
وهي مشكلة فلسفية أزلية، تعرض لها أرسطو، وغيره من الفلاسفة، وقد عاش أرسطو القيم العبودية (أو القيم الطبقية الأبوية) ورضعها من أمه في طفولته، دخلت هذه القيم والأفكار إلى عقله وجسده مع لبن الأم؛ ولهذا عجز أرسطو عن رؤية النقص بعض خرافاته العبودية تسربت إلى فلسفته، ومنها فكرة أن الله خلق العبيد والنساء من أجل الخدمة والأعمال الجسدية، أما الأعمال الفكرية فهي من اختصاص الأسياد من طبقة النبلاء ومنهم أرسطو.
وربما لو عاش أرسطو في زماننا هذا ما كان له أن يؤمن بهذه الأفكار التي ثبت خطؤها بعد أن تحرر العبيد والنساء، وظهرت لهم ولهن أعمال فكرية غيرت مسيرة العالم.
وكان النقاش يدور بيني وبين توفيق الحكيم عاجزا عن رؤية المرأة المفكرة مثله، كان يتصور دائما أن عقل المرأة أقل من عقل الرجل، وأن قيمة المرأة في جمالها الجسدي الظاهر وليس في عقلها، كنت أختلف معه في هذه الفكرة، ومع ذلك ظل الحوار بيننا متصلا رغم الاختلاف، وهناك رجال أدباء انقطع الحوار بيني وبينهم، بسبب عنفهم في الكلام، أو اتهامهم لي «بالرجولة» ومنهم يوسف إدريس، الذي كان يتصور أن ذكاء المرأة يتناقض مع أنوثتها.
لا شك أن أغلب الأدباء والمفكرين الرجال في بلادنا عاجزون حتى اليوم عن فهم المرأة الحرة المستقلة عقليا عن الفكر الذكوري الطبقي، بمثل ما هم عاجزون عن فهم الرجل الأجير في الأرض أو المصنع الذي يقاوم استغلال الطبقة الإقطاعية أو الطبقية الرأسمالية.
ربما كان توفيق الحكيم أكثر تحررا وتقدما في أفكاره عن كثير من الرجال المعاصرين لنا اليوم، وكان يدرك القهر الاقتصادي الواقع على الفقراء في بلادنا وفي العالم كله ، وكان يدعو إلى إلغاء الفقر أو الرجوع كشرط أساسي لتحقيق السلام على الأرض ، وهذه فكرة هامة تربط بين السلام السياسي أو العسكري وبين العدل الاقتصادي، إلا أنه وقف عند هذه الحدود وعجز عن تجاوزها بحكم انتمائه إلى قيم عصره التي رضعها في طفولته، وهي القيم الطبقية الأبوية، المختلفة كثيرا عن القيم التي عاشها أرسطو، إلا أن الأساس الفكري لها يظل متشابها.
ويمكن في إيجاز شديد تلخيص فكرة توفيق الحكيم عن تحقيق السلام على النحو التالي: (1)
تحقيق السلام عن طريق القضاء على الجوع، وإلغاء الحدود الدولية والخوف وعدم الثقة بين الدول. (2)
فصل موضوع السلام عن السياسة والأخلاق والقيم والعواطف. (3)
تحقيق السلام على أساس علمي بحت. (4)
استخدام الخيال العلمي والفني لصياغة مشروع السلام.
هذه النقاط الأربعة الأساسية لمشروع توفيق الحكيم تستحق الدراسة والتأمل بعمق، وبها إيجابيات لا شك، وبها أيضا سلبيات، وأنا أتفق مع توفيق الحكيم في أن الخيال سواء في العلم أو الأدب أو الفن يسبق دائما أي مشروع علمي أو أدبي أو فني، وهل يمكن أن يكون هناك إبداع جديد في أي مجال دون خيال؟ ولعل أهم ما ينقص النظم التعليمية في العالم هو عجزها عن تنمية خيال الطفل والطفلة، تحت اسم المحظورات السياسية أو الدينية أو الأخلاقية.
ومن هنا عدم انفصال الأخلاق عن السياسة وعن الاقتصاد، وعن مشروع السلام الذي يمكن أن يتحقق على الأرض، وربما أشير هنا إلى فكرة توفيق الحكيم التي تفصل بين السلام والأخلاق والقيم والعواطف، أو التي تفصل بين ما هو علمي بحت وما هو اجتماعي وثقافي وأخلاقي، وهل هناك شيء اسمه علمي بحت بعيدا عن السياسة أو الأخلاق والقيم والعواطف؟ وهل يختلف الخيال العلمي عن الخيال الأدبي أو الفني؟ وهل يمكن فصل التفكير عن الإحساس والعاطفة؟ هل يمكن فصل العقل عن الجسد؟!
هنا وقع توفيق الحكيم في الثغرة الفكرية ذاتها التي وقع فيها أرسطو، وفصل بين الجسد والعقل، وجعل الأعمال الجسدية من نصيب الفقراء والنساء، وجعل الأعمال الفكرية من نصيب طبقة النبلاء الأسياد الرجال .
ربما لهذا السبب ظل مشروع توفيق الحكيم مشروعا خياليا غارقا في الوهم والتعميمات دون النزول إلى أرض الواقع.
ظل مشروعه مجرد رؤية أدبية مثل أعمال جول فرن وويلز وزيولكو فسكي وغيرها من الأعمال التي استشهد بها، وهي أعمال ريادية فعلا في عالم الأدب والفن، وربما ساهمت في تغيير مسيرة العالم الإنسان على نحو ما، إلا أنها عجزت عن تحقيق السلام المنشود الذي نحلم به، ويحلم به توفيق الحكيم.
وقد ظل توفيق الحكيم يتحدث عن مشروعه للسلام في لجنة القصة بالزمالك وفي مكتبه بجريدة الأهرام، كان يطلب لي فنجان القهوة (رغم ما أشيع عن بخله) ويتحدث معي الساعة وراء الساعة عن مشروعه الخيالي لتحقيق السلام في العالم. - ولكن يا أستاذ توفيق مشروعك ده غير قابل للتحقيق. - ليه يا دكتورة؟ (كان خجولا يتحرج من أن ينطق اسمي). - لأنك تفصل بين العلم والسياسة والأخلاق. - لازم نفصل، إنتي طبيبة درست الطب يمكنك عمل مشروع طبي علمي، لكن أنا لم أدرس الطب ولا يمكن أعمل مشروع طبي علمي، مش كده؟! - لأ مش كده يا أستاذ توفيق؛ لأن دراسة الطب وحده (كعلم منفصل عن المجتمع والسياسة والأخلاق) لا يمكن تؤهلني لعمل مشروع طبي علمي ناجح يقضي على الأمراض أبدا. - ليه أبدا؟ - لأن الأمراض هي ظواهر سياسية واجتماعية وأخلاقية، ولا يمكن أعرف الأسباب الحقيقية للأمراض الجسمية أو النفسية إلا بدراسة المجتمع والسياسة والاقتصاد، مثلا أغلب الأمراض في بلادنا بسبب الجوع والفقر. - برافو أنا معاكي الجوع أكبر مشكلة؛ ولذلك لا بد من القضاء على الجوع. - أيوه يا أستاذ توفيق، لكن كيف نقضي على الجوع بالعلم البحت المنفصل عن السياسة والأخلاق والعواطف؟ - أن قصدي لازم مشروع السلام يقوم على فروض علمية، ووضوح الهدف مثل هدف الصعود إلى القمر، ليه ما يكونش هدفنا «الطعام لكل فم»، كل الأفواه في العالم لو أكلت وامتلأت، فإن الحروب تنتهي ويتحقق السلام، مش كده؟ - لأ مش كده يا أستاذ توفيق؛ لأن المشكلة مش الطعام وخلاص، لأن الإنسان رجل أو امرأة لا يمكن يعيش على الأكل بس، ليس بالخبز وحده يعيش الإنسان. - ده كلام نظري يا دكتورة. - لا يا أستاذ توفيق، ده كلام عملي. - عملي إزاي؟ - مثلا إنت عندك طعام مش كده؟ - طبعا، خصوصا صينية البطاطس أهم عندي من أرسطو!
وضحك توفيق الحكيم مقهقها، كنت أحب فكاهته كثيرا وأضحك معه، لكني أعود إلى المناقشة، وكان يرمقني بعينيه مندهشا قليلا كيف يمكن لامرأة أن تجادله على هذا النحو، وهي امرأة شابة جميلة كما يقول لي، وهذه المناقشة العقلية الجادة تفسد جمالها وأنوثتها، لكني رغم ذلك كنت أواصل النقاش، ومن أجل المعرفة أو الوصول إلى الحقيقة كنت مستعدة للتضحية بشبابي وجمالي وأنوثتي، وكل شيء بما فيها الدعوة إلى تناول الغذاء. - إيه رأيك تأكلي معايا صينية البطاطس بدل المناقشة دي؟ - يا أستاذ توفيق أنا شايفة إن المشكلة ليس فقط الطعام، صحيح الطعام ضروري، لا يمكن أفكر أو أكتب رواية على معدة فاضية، لكن ممكن أكل واملأ نفسي بالطعام ويظل عقلي خاويا وتظل عواطفي خاوية، وأظل أؤمن بالقيم الطبقية الأبوية التي تنظر إلي كامرأة شابة جميلة بلا عقل أو ناقصة العقل! - أنا قلت كده؟ أبدا والله ما قلت كده! - أنت يا أستاذ توفيق تفصل بين العلم والعاطفة، أو بين العقل والعاطفة، وده مستحيل لأن العاطفة جزء من العقل؛ لأن الخيال جزء من العاطفة، ولا يمكن فصل الخيال عن العقل عن العاطفة. - أنا عندي سؤال لك يا دكتورة؟ هل خيال الرجل مثل خيال المرأة؟ هل عاطفة الأم مثل عاطفة الأب؟ الأمومة كلها عواطف وإنسانية، لكن الرجل هو العقل. - وعدم الإنسانية؟! - أيوه المرأة أكثر إنسانية من الرجل وأكثر حنانا وعطفا. - على الفقراء والجوعى؟ - أيوه. - إذن المرأة أقدر من الرجل على عمل مشروع للقضاء على الجوع؛ لأن العاطفة أو الخيال لازم يسبق التفكير في المشروع زي ما أنت بتقول يا أستاذ توفيق؟ - أنا معاكي المرأة أقدر من الرجل إذا أصبح لها فرصة في الحرية أو التحرر من القيود، لكن النساء عندنا عندهم عشق للقيود، المرأة تفضل الرجل الحمش اللي يخمشها مش كده ؟ - لأ مش كده، فيه نساء مصريات عندهم وعي وكرامة، ويفضلوا الرجل الإنسان القادر على احترام المرأة ومعاملتها كإنسان أو إنسانة كاملة العقل والجسم. - يمكن الأقلية القليلة لكن الأغلبية. - أيوه الأغلبية خاضعة للقيم العبودية، لكن عدد النساء المتحررات في تزايد مستمر، ولازم نشجعهم لأن المجتمع نصفه نساء، وأي مشروع للسلام أو للتنمية لا يخاطب النساء ولا يتعرض لمشكلة القهر الأبوي والجنسي مثل ما يتعرض لمشكلة الفقر أو الجوع أو القهر الطبقي أو الاقتصادي لا يمكن لمثل هذا المشروع أن يكون واقعيا، وسيظل مشروعا خياليا وهميا لأنه يتجاهل نصف المجتمع الحقيقي وهن النساء. - فيه مجتمعات نسائية ومشروعات كثيرة للمرأة يا دكتورة. - أغلبها مشروعات خيرية أو اجتماعية لا تدخل ضمن القضايا السياسية الهامة مثل قضية الديمقراطية أو قضية الفقر أو الجوع أو قضية السلام أو الاشتراكية. - إنتي ناصرية يا دكتورة نوال؟ - لأ. - إنتي ماركسية؟ - لأ. - يا ترى إيه خلافك مع كارل ماركس؟ - كارل ماركس لم يشمل نصف المجتمع من النساء في نظريته الماركسية. - أنا معاكي، لكن فريدريك إنجلز كتب عن النساء في كتابه «أصل العائلة» مش كده؟ - أيوه، لكن إنجلز تصور أن خروج النساء للعمل في الصناعة سوف يحررهن، ولم يدرك أن النساء الفلاحات يخرجن للعمل في الحقول دون أن يتحررن، وأن الرجال يعملون في الصناعة دون أن يتحرروا، فالمسألة ليست مجرد خروج المرأة للعمل بأجر خارج البيت. - أمال إيه؟ الأجر يعني الطعام، وإذا أطعمت المرأة نفسها تحررت، مش كده؟ - أيوه، لكن الطعام لا يكفي للتحرر، المرأة إنسان لا يمكن أن تعيش بالطعام وحده، بالطبع يجب إشباع المعدة، لكن العقل أيضا في حاجة إلى إشباع عن طريق الوعي والمعرفة والفكر والثقافة. - الأول نملأ المعدة ونملأ الأفواه الجائعة، ثم بعد ذلك نملأ العقول، خطوة خطوة مش كده؟ - لأ مش كده يا أستاذ توفيق، في رأيي أن نقدم الغذاء للمعدة والعقل في آن واحد، هل هناك مانع أن نقدم مع رغيف الخبز فكرة جديدة تدخل المخ؟ - برافو يا دكتورة، أنا معاكي في عدم فصل الثقافة عن السياسة، وده يمكن يكون خلافي مع رجال الثورة. - لكن إنت تفصل أيضا في مشروعك لتحقيق السلام بين السياسة والثقافة والأخلاق والعواطف، مش كده؟ - أنا مؤمن بإلغاء الجوع والخوف والحدود الدولية، وكل شيء في حياتنا لازم يكون في وحدة كما لو كانت الأرض وحدة بلا فروق بين البشر على أساس الجنس أو الجنسية أو الطبقية أو الدين أو العرق أو أي شيء آخر، موافقة يا دكتورة؟ - أيوه يا أستاذ توفيق، لكن دي فكرة أخرى غير مشروعك للسلام.
كانت الساعة قد قاربت على الثانية والنصف بعد الظهر، وكان ثروت أباظة قد جاء ليأخذ توفيق الحكيم إلى بيته، وتذكر توفيق الحكيم صينية البطاطس فجأة. - أنا داعي الدكتورة نوال على صينية البطاطس.
واتسعت عينا ثروت أباظة قليلا وقال: أول مرة في حياتي أسمع توفيق بيه يعزم حد ع الغدا!
ولمعت عينا توفيق الحكيم بالبريق الطفولي وقال ضاحكا: أنا عزمتها لكن انت حاتدفع! - أنا مستعد يا توفيق بيه وعندنا صينية بطاطس معتبرة! - أيوه الصواني الأباظية والألماظية! - خلاص يا توفيق بيه الصواني دي كانت زمان من عشرين سنة قبل الثورة المباركة! - أصله رأسمالي يا دكتورة.
وضحك توفيق الحكيم وهو يمشي مع ثروت أباظة، الذي كان يسحبه من يده إلى الباب، وقبل أن يخرج توفيق الحكيم لوح لي بيده مودعا قائلا: أهو انتصر عليكي وأخذني منك.
كان ذلك آخر لقاء لي مع توفيق الحكيم، لوحت له بيدي مودعة، وأقول له اليوم «وداعا» بعد أن تأخرت في وداعك خمسة عشر عاما.
القاهرة، 27 يوليو 2002
اختيار الصعب
تكشف الحوادث اليومية عن القيم الغائبة في الفكر المعاصر في بلاد العالم وفي بلادنا، ينشغل أغلب الناس بالسهل السريع العائد، مثلا في أمريكا ينشغل أغلب المثقفين بالحمى الانتخابية بين الحزبين المتنازعين على السلطة، يتبادل المرشحون الاتهامات، يحاول كل منهم خداع أكبر عدد من الناس بالوعود التي لا يمكن تحقيقها في ظل النظام الحاكم الذي ينطوي جميعهم تحته.
ضحكت وأنا أستمع إلى وعود جورج بوش (الابن) وآل جور (نائب كلينتون)، كلاهما سوف يقضي على الفقر والبطالة.
ألم نسمع المرشحين السابقين يقدمون هذه الوعود نفسها؟ هل قضى أحد منهم على الفقر في أمريكا؟ بل لقد زادت الهوة بين الفقراء والأغنياء!
بالمثل ضحكت وأنا أستمع إلى وعود المرشحين في بلادنا، يجولون في الحواري الطافحة بالمجاري، يقدمون الوعود نفسها للفقراء، سوف نقضي على الفقر والبطالة إن دخلنا البرلمان أو مجلس الشعب، يقولون ذلك في الصباح، وفي المساء يجلسون إلى مائدة العشاء مع الوزراء والمسئولين عن السياسة الاقتصادية المؤدية إلى الفقر والبطالة، دون أن يعترضوا على هذه السياسة، لأسباب متعددة منها عدم الفهم لما يسمى الإصلاح الاقتصادي، أو التنمية التي تؤدي إلى توسيع الهوة بين الفقراء والأغنياء، ومنها الخوف من نقد أصحاب السلطة، أو تجاوز حدود النقد المرسومة، أو تجاوز الخطوط الحمراء، مما قد يعرضهم للخطر، وليس فقط السقوط في الانتخابات.
أغلب الناس في بلاد العالم (ومنها بلادنا) لا يذهبون إلى صناديق الانتخاب، لقد أدركوا اللعبة على مر السنين، منذ نشوء ما سمي البرلمان، وهل نجح البرلمان في القضاء على الفقر في أمريكا أو أوروبا أو أي بلد آخر في العالم؟ ولماذا تزيد الهوة على الدوام بين الفقراء والأغنياء وبين النساء والرجال، تعاني النساء أكثر إلى حد شيوع الظاهرة التي عرفت باسم تأنيث الفقر؟ وهل نجح البرلمان في القضاء على الفروق بين الناس (بسبب الدين أو الجنس أو العرق أو اللون أو غيرها) أم أن هذه الفروق زادت وانتشرت الحروب والنزاعات الطائفية والعرقية والعنصرية؟
ثم لماذا تشجع الحكومات الناس على المشاركة في الانتخابات؟ أليس هذا دليلا على أن هذه الانتخابات جزء من نظام الحكم القائم على إفقار الأغلبية من النساء والرجال وخداعهم؟ وجزء من القيم التي تحكم العالم القائمة على القوة وليس الحق؟ ألسنا في حاجة إلى طرح أسئلة جديدة لنفهم لماذا يتراجع أصحاب الحق أمام أصحاب القوة المسلحة أو القوة الاقتصادية؟
انظروا كيف أصبح القرار الأعلى في يد دولة عسكرية عنصرية مثل إسرائيل، تقتل الأطفال ثم تخرج من الساحة بريئة، ويصبح الأطفال هم المدانون المعتدون؟ في ظل النظام البرلماني الديمقراطي في العالم يتحول الضحايا إلى جناة، ويطلق سراح القتلة ، أسمعتم ما قاله كوفي عنان المسئول الأول في الأمم المتحدة؟ لقد أدان الأطفال وطالبهم بإيقاف عدوانهم على إسرائيل المسكينة، شيء مضحك فعلا، لكن لماذا نذهب بعيدا وهذا المنطق ذاته يحكم حياتنا اليومية هنا في عقر دارنا؟
منطق القوة فوق الحق!
اقرءوا معي هذا الخبر الذي نشرته الصحف دون أن يعلق عليه أحد:
قتل موظف ابنته عمرها 17 عاما؛ لأن أحد أقاربه عنده 57 عاما استدرجها داخل الحقول واعتدى عليها مستغلا صغر عمرها وضعف بنيانها، ماذا نتوقع من محكمة عادلة؟ لكن العدل يغيب أمام القوة، تقف المحكمة مع الأب القاتل تتعاطف معه، تقول إنه فقد وعيه لحظة دفاعه عن شرفه! هكذا ضاع حق البنت المقتولة ظلما وغدرا، لكن هذه المحكمة ذاتها تحكم بالأشغال الشاقة عشر سنوات على أم صغيرة عمرها 18 عاما قتلت مولودها، الذي أنجبته من رجل أخذها عنوة، خدعها بالزواج ثم هرب، وهي فتاة صغيرة فقيرة ليس لها أحد، من شدة حبها لمولودها وخوفها عليه من قسوة المجتمع حوطته بذراعيها حتى مات في حضنها وهي تبكي، لم تتعاطف المحكمة مع الأم الصغيرة الضحية كما تعاطفت مع الأب الكبير الأقوى، وقالت المحكمة إن الأم التي تقتل طفلها امرأة تجردت من العواطف الإنسانية، لماذا لم تقل المحكمة هذا الكلام عن الأب الذي قتل ابنته؟ صورت المحكمة هذا الأب القاتل على أنه ضعيف وفاقد الوعي في لحظة القتل! أما الأم الفتاة الصغيرة الضحية فهي ليست ضعيفة، ولا يجوز لها أن تفقد الوعي مثل الرجل الكبير! كأنما الرجل هو الجنس الضعيف اللطيف الذي يستحق الرحمة، وليس المرأة أو الفتاة الصغيرة، أي قلب الأوضاع!
لم ينطق أحد مدافعا عن حق هذه الفتاة الصغيرة التي حكم عليها بالسجن مع الأشغال الشاقة عشر سنوات، ولم ينطق أحد دفاعا عن الابنة الصغيرة التي أهدر دمها، وكم من حوادث من هذا النوع تهدر فيها دماء البنات الصغار ظلما وغدرا دون أن يعترض أحد داخل البرلمان أو خارجه من المدافعين عن حقوق الإنسان.
أليس دم هؤلاء البنات الأطفال مقدسا وثمينا مثل دم الأطفال في فلسطين؟ أليس دم البنت الطفلة المقتولة بيد أبيها مثل دم الطفل المقتول بيد إسرائيل؟ لقد غضبنا عن حق لمقتل الطفل الفلسطيني، فلماذا لم نغضب أيضا لمقتل البنت المصرية؟ هل لأنها تعيش في قرية فقيرة مجهولة؟ هل لأن صورتها لم تظهر في الصحف أو على شاشة السي إن إن؟
في طفولتي سمعت أبي يقول: احترمت نفسي حين خيرتها بين السهل والصعب فاختارت الصعب، ربما لهذا السبب لا أنظر بإعجاب كبير لهؤلاء الذين يركبون الموجة، وإذا كان الجميع على رءوسهم الحكومات قد بكوا ولطموا الخدود حزنا على إهدار دم الطفل محمد الدرة، فلماذا لم يذرف أحد دمعة واحدة على هذه الطفلة المقتولة وغيرها من البنات الصغيرات المقتولات؟ بالطبع كان البكاء الجماعي سهلا وميسورا لا يعاقب عليه أحد، ومن السهل البكاء في الصباح ثم السهر في الليل مع الوزراء وأصحاب السياسة التي أدت إلى إهدار دم الطفل الفلسطيني البريء.
نشهد هذا التناقض في حياتنا كل يوم، ينتابني الغثيان وأنا أشهد الصراع الدامي حول السلطة تحت اسم النيابة عن الشعب، أصبح البرلمان هو المكان، والانتخابات هي الوسيلة، ويكيل المرشحون الوعود للفقراء والمعدمين، يعبئون لهم الوهم في الزجاجات، من أجل المقعد تحت القبة ألا تتكرر هذه الحمى في مواسم الانتخابات مثل مواسم الدودة والكوليرا والحمى الصفرا؟ وهل تحقق وعد واحد من هذه الوعود؟
المسرحية تتكرر ربما يتغير الممثلون والممثلات، إلا أن المسرحية هي هي، والوعود هي هي، القضاء على الفقر والبطالة، ويظل الفقر بل يزداد ضراوة، والبطالة تزيد عاما وراء عام، ألم تسمعوا عن الشباب المصري الذين يسافرون إلى إسرائيل بحثا عن عمل؟ ألم تسمعوا عن أم قتلت طفلها لتحميه من الجوع أو الفضيحة، فإذا تعاقب بالسجن مع الأشغال الشاقة؟
هل دافع عضو واحد أو عضوة واحدة في البرلمان عن هذا القطاع من الأمهات المقتولات، أو البنات البريئات اللائي يهدر دمهن وهن الضحايا؟ هل أدخلهن أحد المرشحين أو إحدى المرشحات ضمن برنامج الدفاع عن حقوق الشعب؟ ألا يدخل هذا القطاع المتزايد العدد على الدوام ضمن قطاعات الشعب؟
لا يمكن، فهذا هو الطريق الصعب الذي يدفع فيه الإنسان ثمنا باهظا، وليس الطريق السهل الذي يمشي فيه الجميع، ليس الكورس الذي يشارك في المسرحية المعروضة بتصريح، والذي ينتهي دوره بإنزال الستار والحصول على الأجر.
لا شك أن دماء الأطفال والنساء والشباب المهدرة على أرض فلسطين تستوجب العمل الجاد والمقاومة الفعلية، وتجميع القوى العربية وغير العربية ضد الاعتداء الإسرائيلي العسكري وغير العسكري، أصبحت هذه المقاومة ضرورية لحياتنا نحن وليس فقط من أجل فلسطين، إن الزحف الإسرائيلي والأمريكي لن يترك بلدا واحدا مستقلا، ولكن إن فاقد الشيء لا يعطيه، وإصلاح البيت من الداخل لا ينفصل عن إصلاحه من الخارج، والدفاع عن الدم المهدر في الداخل، فالدم هو الدم بصرف النظر عن المكان، والطفلة الفقيرة في القرية المجهولة بالصعيد لها حقوق الإنسان مثل ابنة الملك أو الرئيس في أي دولة من الدول الكبرى أو الصغرى.
أصبحت أتابع صفحات الحوادث اليومية في الصحف أكثر من أخبار النجوم والملوك والرؤساء، فهي تكشف المآسي التي يعيشها المهمشون في الأرض، عن قاع المجتمع حيث تعاني البنات الفقيرات، اللائي يتعرضن للموت سرا دون أن ينطق أحد، بسبب حساسية ما نسميه الشرف، وهو ليس الشرف الحقيقي النابع من العدل والصدق، بل الازدواجية الأخلاقية على المستوى العائلي والمستوى الدولي في آن واحد، الازدواجية التي تجعل القوة فوق الحق، القوة الغاشمة التي تقتل تحت اسم الدفاع عن أمر الله أو الأرض الموعودة، بمثل ما تقتل تحت اسم الشرف، أليس الشرف المزيف مثل الأرض الموعودة وشعارها الديني المزيف؟
قال أبي وأنا طفلة في السابعة من العمر: من السهل أن نركب موجة الغضب مع الجميع، لكن من الصعب أن نغضب ضد الظلم حين يصمت الجميع، إنه أمر صعب، لكني احترمت نفسي حين خيرتها بين السهل والصعب فاختارت الصعب.
1 نوفمبر 2001
عن جورج بوش وتوني بلير
منذ أوائل سبتمبر 2001 وأنا أعيش في «نيويورك» وجارتها القريبة منها «نيو جيرسي»، شاهدت أحداث 11 سبتمبر 2001 عن قرب شديد، وسقوط مركز التجارة العالمي في نيويورك ، وعشت مع الشعب الأمريكي الأكاذيب التي تروجها وسائل الإعلام الأمريكية وتوابعها في الشرق والغرب، ولا أحد هنا يعرف الحقيقة، فهي غامضة شديدة الغموض، تكاد تشبه الأساطير الواردة في الكتب القديمة، وفي مجال «السياسة» كما في مجال «الدين» و«الجنس» تتناقض التفسيرات، وتتضارب الأقاويل، شأن كل «المحرمات» الأخرى في العالم شرقا وغربا وشمالا وجنوبا.
والحياة في نيويورك متناقضة مثل الحياة في القاهرة أو أي مدينة كبيرة في العالم، مظاهر الفقر والبطالة تزداد، تبدو شوارع نيويورك في الأحياء الفقيرة شبيهة بشوارع بولاق والسيدة زينب وشبرا، ولا شك أن البعد عن الوطن والأهل يزيد من الشوق والحنين، ويطمس الشوق والحنين كل ما هو «غير جميل» في الذاكرة الإرادية أو غير الإرادية. يبدو لي نهر «النيل» أكثر جمالا وإشراقا من نهر «هدسون» الذي يفصل نيويورك عن نيو جيرسي، يحمل نهر «هدسون» اسم المستعمر البريطاني الذي غزا أمريكا الشمالية وأباد سكانها الأصليين الذين أطلق عليهم اسم الهنود الحمر.
يغرق تاريخ أمريكا الشمالية في الدم كغيرها من بلاد العالم منذ نشوء العبودية، أو النظام الطبقي الأبوي، ينسى الكثيرون هذه الحقيقة، ويفصلون بين الغرب والشرق، أو بين العالم الأول والثاني والثالث، والحقيقة أننا نعيش في عالم واحد يحكمه نظام واحد، وقيم طبقية أبوية واحدة رغم اختلافات الثقافات والعقائد والأديان.
وفي نيويورك اتسعت الهوة بين الفقراء والأغنياء كما يحدث في جميع بلاد العالم الرأسمالي وتوابعه في الشرق والغرب، واتسعت الهوة بين ما يطلق عليهم «أهل الخير الذين يخشون الله على رأسهم جورج بوش وتوني بلير، أهل الشر أتباع الشيطان على رأسهم أسامة بن لادن وصدام حسين.»
رأيت توني بلير وجها لوجه في مصر حين عدت إلى الوطن في عطلة رأس السنة الجديدة، خلال تجوله في معبد سانت كاترينا في نهاية عام 2001 وبداية عام 2002، كان ينحني أمام سانت كاترينا ويقبل رأسها بعد أن يمسحها القسيس المصري بقطعة من القطن المبللة بالسبرتو الأبيض، حتى لا تنتقل العدوى إلى فم توني بلير من الأفواه الأخرى التي تتنافس على تقبيل رأس سانت كاترينا قبل شروق شمس العام الجديد.
لقد استطعت اختراق الحاجز البوليسي بين الجمهور العادي وبين توني بلير وأسرته، كان المفروض أن تكون زوجته هي التي تليه مباشرة في تقبيل سانت كاترينا، إلا أنني اخترقت السياج البوليسي، وأصبحت خلف توني بلير مباشرة، وتقدمت من بعده إلى سانت كاترينا وانحنيت عليها متظاهرة أنني أقبلها، بعد أن مسح القسيس المصري رأسها بقطعة من القطن المبللة بالكحول الأبيض المطهر للجراثيم، مع ذلك لم أقبلها، وأنا ضد تقبيل الحجر الأسود والأوثان جميعا بما فيها الحجر الأبيض والأحمر والأزرق والأسود وغيرها، لقد تخرج أبي من جامعة الأزهر، وقال لي منذ الطفولة إن الإسلام جاء ليحرر الناس من عبادة الأحجار والأوثان.
القسيس المصري لم يفطن إلى أنني لم أقبل رأس سانت كاترينا، تصورني زوجة توني بلير لأنني أقف خلفه مباشرة، أو ربما واحدة من أفراد أسرته الذين بلغ عددهم حوالي عشرين رجلا وامرأة وطفلا بما فيهم طفل توني بلير الذي حملته إحدى القريبات.
دس القسيس في يدي قطعة القطن المبللة بالمطهر، والتي طوى داخلها خاتما مقدسا من الفضة الخالصة، هدية تمنحها سانت كاترينا بعد تقبيل رأسها للعظماء فقط من عائلة توني بلير.
فطن إلي البوليس المصري، وأدرك أنني لست من عائلة توني بلير، وأنني ربما أكون إرهابية اندست بين الأسرة البريطانية المالكة أو الحاكمة لتطعن توني بلير من الخلف.
وحدثت مشادة بالصوت العالي بيني وبين البوليس المصري، قلت بجرأة الكاتبة المصرية القديمة التي اكتشفت الحروف الأبجدية قبل أن تكتشفها أوروبا: كيف تمنعوني من السير فوق أرض مصرية وتسمحون لهذه العائلة الإنجليزية التي استعمرت مصر 72 عاما، والتي تشن الحرب على أفغانستان والعراق و... اندهش البوليس المصري من صوتي العالي، تصوروا أنني مندوبة رئاسة الجمهورية إلى سانت كاترينا، وتركوني أتجول كما أشاء في المعبد، وهكذا تأملت وجه توني بلير طويلا وهو يمشي بخطوات بطيئة من خلفه قبيلته، وزوجته التي كانت ترمقني بعيني الصقر، مندهشة من وجودي بالقرب من زوجها، رغم أنها لم تر وجهي من قبل أبدا ضمن أسرته .
ولم ينفرني وجه توني بلير كثيرا كما ينفرني وجه جورج بوش الابن أو الأب، يبدو وجه توني بلير في الحقيقة أفضل إنسانية من وجهه في الصحف والشاشة، يبدو مثل شاب رياضي فقير داخل بلوفر رمادي باهت وحذاء كاوتش أبيض، وابتسامة منكسرة، ربما لأنه كان في حضرة سانت كاترينا المقدسة، ولا بد من الانحناء أمامها متظاهرا بالطهر والبراءة.
أما جورج بوش (الأب أو الابن)، فقد رأيت وجهه على الشاشة فقط، يشبه الابن أباه في الملامح بحيث أصبحت لا أفرق بينهما، والصوت أيضا وطريقة الضغط على مخارج الألفاظ لتأكيد ما يقوله عن الشيطان أو محور الشر والآيات التي يتلوها من الكتاب المقدس ليعلن الحرب في الخليج، أو في أفغانستان.
رأيت وجه جورج بوش الابن قبل أن يعتلي الحكم، حين كان يصارع للنجاح في انتخابات شبه مزورة، كنت في مدينة «بوكا راتون» في فلوريدا، في الولاية ذاتها التي كشفت عن مهزلة الانتخابات الأمريكية، كان وجهه منكسرا يكاد يشبه وجه توني بلير وهو يقبل رأس سانت كاترينا، إلا أنه بعد أن اعتلى العرش تغير وجهه، أصبح يشبه أباه. كيف تغير السلطة الوجوه بهذه السرعة؟ كيف تظهر التجاعيد فوق الوجه الذي كان شابا، وكان ناعما أملس مستديرا يشبه وجه الأطفال، الذين يرضعون اللبن الصناعي المزود بالفيتامينات الأمريكية.
أصبح وجه الابن بوش نسخة طبق الأصل من الأب، تلعب السياسة والوراثة دورها في رسم ملامح الوجه، ونبرة الصوت، وبربشة العينين الضيقتين مع انقباضة الفم الخالي من الشفتين.
هذا الفم الرفيع والشفتان شبه المتلاشيتين تشبهان الشفرتين في موسى الحلاقة، هذا الفم يصلح تماما لإعلان الحرب على الأبرياء، أو النطق بحكم الإعدام على النساء البريئات تحت اسم الشرف أو القيم العائلية.
هذا الفم يشبه الآلة المعدنية الحادة، أتخيل هذا الفم وهو يقبل زوجته، هل يمكن لهذا الفم أن يقبل امرأة؟! خيالي يعجز عن تصوره يقبل شفتي امرأة دون أن يستأصلهما من جذورهما مثل شفرتي الموس تماما .
وقد أصبح جورج بوش بعد أحداث 11 سبتمبر، وبعد انتصاره العسكري في أفغانستان كأنما هو بطل الحرب ضد الإرهاب، كما كان أبوه بطل حرب الخليج ضد الشيطان، الغطرسة ذاتها والغرور وادعاء الصلة بالله، التكلم بلغة لا تفصل بين السياسة والدين، وتشجيع التيارات المسيحية واليهودية والإسلامية أيضا، بشرط ألا تكون الأخيرة تابعة لما يسميه الإرهاب الإسلامي، بل تكون مسالمة وادعة مطيعة للسياسة الأمريكية والديمقراطية وحقوق الإنسان (الإنسان هنا يعني الأمريكي). (1) فساد السياسة الرأسمالية الذكورية
أثبتت لي الحياة في نيويورك وفي غيرها من مدن العالم غربا وشرقا أن هذا النظام الرأسمالي الذكوري الذي يحكمنا دوليا ومحليا وعائليا لن يستمر؛ لأنه ضد المنطق والعدل والحرية والجمال.
إنه نظام فاسد وقبيح يتكثف قبحه مع مرور الأيام، فهذه الفضائح السياسية والاقتصادية والأخلاقية تتكشف عن طريق التسرب إلى الصحف رغم أجهزة الرقابة.
وكم كشفت أحداث انهيار وإفلاس الشركة الرأسمالية الكبرى «إينرون» عن فساد الشركات العملاقة الأمريكية والمتعددة الجنسيات، وعن ارتباط هذه الشركات بتمويل الدعايات الانتخابية لمن يتولون الحكم في الولايات المتحدة، عن ترابط مكاسب حكام الدول غربا وشرقا بهذه الشركات الرأسمالية العالمية، كشفت الصحف الأمريكية عن تورط عدد من قيادات الحزب الجمهوري والديمقراطي معا في فضيحة شركة إينرون على رأسهم الرئيس الأمريكي الراهن جورج بوش الابن.
يحاول منافسو جورج بوش استغلال الموقف، ومنهم المرشح السابق «جون ماكين» الذي أعلن على شاشة التليفزيون أن انهيار شركة إينرون سوف يكشف عن كثير من الخفايا في السياسة الأمريكية الحالية، بالطبع يحلم «جون ماكين» في كرسي الحكم بعد زوال جورج بوش، كما حلم جورج بوش بكرسي الحكم بعد زوال بيل كلينتون، وتجري لعبة التنافس على السلطة بأدنى الوسائل، أقلها الكذب والافتراء، وتضليل الجماهير، وشراء أجهزة الإعلام، أصبح «لاري كينج» أحد المذيعين على شاشة «السي إن إن» أهم من الرئيس الأمريكي، أما المذيعة الأمريكية ذات الرموش الصناعية على شاشة «السي إن إن» ذاتها فقد أصبحت أهم من أي رئيس دولة من دول العالم الثالث، يجلس أمامها ذلك الحاكم أو ذلك الملك الجبار في بلده، يجلس أمامها مؤدبا رقيق الصوت، مكتوف الذراعين والساقين مثل الفتاة العذراء .
يحاول أعوان جورج بوش كتمان أسرار شركة إينرون وإخفاء أسماء المتورطين فيها من الحزب الجمهوري، رغم أن المنافسين لهم يقودون الرأي العام الأمريكي مطالبين بكشف الأسرار وكشف الأسماء، وتدور اللعبة كما دارت في الفضائح السابقة في عصر نيكسون وكلينتون وكارتر وجونسون وروزفلت وغيرهم وغيرهم، فلا يخلو عهد من الفضائح في كل حكومات العالم، الفرق الوحيد بين الغرب والشرق، أن الفضائح في الغرب تنكشف أثناء حياة الحاكم، أما في بلادنا فهي لا تنكشف إلا بعد موته.
وكم يتعاون عمداء الجامعات في أمريكا مع الشركات الرأسمالية الكبرى مثل «إينرون»، التي تشارك في تمويل هذه الجامعات، وفي الضغط السياسي لتعيين هؤلاء العمداء أو رؤساء الجامعات، وقد اتضح ذلك من تردد عميد كلية الحقوق في جامعة تكساس في الإدلاء برأيه على الشاشة حول شركة إينرون، مبررا تردده بأنه ليس خبيرا في القانون، وبدا كلامه متناقضا مضحكا لأنه عميد كلية القانون في جامعة تكساس، إن ولاية تكساس هي الولاية التي تسيطر عليها عائلة بوش «الأب والابن»، و«الروح القدس»، والتي لعبت دورا كبيرا في حرب البترول في الخليج العربي وفي أفغانستان وبحر قزوين، والحروب البترولية القادمة خلال عام 2002، الذي سماه جورج بوش «الابن» «عام الحروب» للقضاء على «محور الشر» التي حدثت (العراق وإيران وكوريا الشمالية).
كنت طفلة حين سمعت عن محور الشر «ألمانيا وإيطاليا واليابان» منذ أكثر من ستين عاما، واليوم يعيد جورج بوش اللغة القديمة، والثنائيات المزمنة منذ نشوء العبودية، الخير/الشر، الله/الشيطان، الذكر/الأنثى، السيد/العبد، الأبيض/الأسود، الشرق/الغرب، الإسلام/المسيحية ... إلخ إلخ.
وفي جامعة نيويورك ونيو جيرسي يتضاحك الأساتذة والطلبة المتظاهرون ضد سياسة جورج بوش، يقولون إن هناك دولا متعددة تعترض لأنها لم تدخل «محور الشر» الذي أعلن عنه بوش، ومنها سوريا وليبيا وكوبا وغيرها من البلاد التي غضبت عليها الولايات المتحدة زمنا طويلا، كيف أفلتت هذه البلاد من غضب الإله الأمريكي الذي أصبح يحدد لنا من هو الشيطان أو الشياطين في هذا العالم!
لا شك أن «شارون» ملاك طيب محب للسلام، أما الشياطين في فلسطين، فهم هؤلاء الأطفال الشباب الذين يواجهون الدبابات الإسرائيلية بصدورهم العارية أو بقطع من الحصى والطوب، هؤلاء الشياطين الصغار هم سبب الإرهاب وإراقة دماء الإسرئيليين الأبرياء!
ولماذا لم ترد «الصين» في محور الشر؟ هل لأن عدد الصينيين أصبح يزيد عن بليون و300 مليون نسمة، ويمكن لهؤلاء أن يزحفوا كالنمل على أي دولة ومنها أمريكا العظمى ويأكلوها كما يأكل النمل الزرع؟ أم لأن جورج بوش يزور الصين هذه الأيام، ضمن لعبة السياسة، وفساد الفلسفة البراجماتية التي تقول: حاول أن تأكل عدوك قبل أن يأكلك، وكل وسيلة مشروعة حتى القتل من أجل بلوغ الغاية والهدف؟
تبتلع الصين مرارتها من السياسة الأمريكية ومحاولاتها لخلق الأعداء على حدودها في تايوان والتبت، والفتن الدينية المصنوعة بين الكاثوليك والبروتوستانت في الجنوب.
يلعب النظام الأمريكي بورقة الدين لتقسيم الشعوب وإخضاعها، على غرار الاستعمار البريطاني القديم، الذي فجر الفتن الدينية والطائفية من الهند إلى مصر خلال القرن العشرين.
لكن الصين تشارك في اللعبة، ولها أغراضها ومصالحها من الحرب ضد الإرهاب في جنوب آسيا وشمال كوريا، وفي الصراع بين الهند وباكستان، وفي كسب بعض الأرباح الرأسمالية من التجارة العالمية المشتركة.
وأتابع قراءة الصحف في نيويورك خلال فبراير 2002، بعد عودتي من بورتو أليجري في البرازيل، فتصيبني أكاذيب الصحف العالمية والعربية بالغضب؛ كيف تتخلى الحكومات العربية عن مسئوليتها عن الدفاع عن شعوبها بما فيها الشعب الفلسطيني تحت سيل من العبارات الرنانة الخادعة؟!
أكثر الناس تشدقا بالقضية الفلسطينية في بلادنا أقلهم عملا للدفاع عن حقوق هذا الشعب أو غيره من الشعوب العربية، لتتسع الهوة بين القول والعمل. (2) الرومانتيكية والغموض في السياسة الفاسدة
كنت أسمع أبي منذ طفولتي يتحدث عن «المراوغة» التي يستخدمها الاستعمار البريطاني في مفاوضته مع مصر لإنهاء الاحتلال العسكري لبلادنا، كان أبي يقول دائما: لا أفهم شيئا من كلام هؤلاء الإنجليز لأنه غامض وغير محدود، وغارق في الكلمات العامة المجردة ذات الرنين العاطفي المزيف!
أتذكر كلمات أبي وأنا أقرأ عن المفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين، يلعب الإسرائيليون بالكلمات وبالألفاظ العامة الغامضة لمجرد كسب الوقت ولقتل أكبر عدد من الفلسطينيين.
في صحف نيويورك (14 فبراير 2002) أرى صورة «شيمون بيريز» وهو يقدم عرضا جديدا للسلام، لا يحدد فيه شيئا عن أي شيء يخص القضية الفلسطينية، حدود الدولة المقترحة مثلا، أو شيئا عن عاصمة الدولة أو مدينة القدس، أو مشكلة المستوطنات الإسرائيلية أو غير ذلك من المشاكل المزمنة المعلقة، ويقول للصحف: أجل أيها السادة، إني أعرض اقتراحا جديدا غامضا غارقا في الرومانتيكية، لكنه الغموض الإيجابي البناء الذي قال به كيسنجر، حيث إنه قال: «إن عمليات السلام والحرب تتم دائما في الضوء الخافت، وليس في ضوء النهار الساطع.» أجل، كم كان كيسنجر محبا للرومانتيكية والأضواء الخافتة في رحلاته المكوكية إلى بلادنا في عهد السادات، وكم أدت عواطفه الغامضة إلى دمار الوحدة العربية والهزائم المتكررة للعرب أمام إسرائيل.
وفي الصورة أرى شيمون بيريز يبتسم ويبدو كالملاك المرسل من السماء لإنقاذ الشعب الفلسطيني من الهلاك، وفي أسفل الصفحة أرى العساكر الإسرائيليين يسوقون الأطفال/الشباب الفلسطينيين العرايا الصدور المغطاة عيونهم بالأربطة، والمقيدة أيديهم وراء ظهورهم بالسلاسل، تطل عليهم من فوق الصفحة ابتسامة شيمون بيريز الملائكية، تودعهم برقة وحنان إلى مثواهم الأخير.
وماذا يحدث في بلادنا العربية؟ هناك خبر يقول إنها مشغولة بأحداث أخرى أكثر أهمية، وذلك أنهم يحاولون تتبع مسار «القمر» في السماء بالعين المجردة، لمعرفة متى يبدأ عيد الأضحى المبارك، وكيف أن القمر الجديد سيولد من القمر القديم ليلة الثلاثاء 21 فبراير 2002.
تعمدت صحف نيويورك في الشهور الأخيرة منذ أحداث 11 سبتمبر 2001 أن تضغط على المملكة العربية السعودية على نحو رقيق خفيف، أو تنشر بعض الدعابات الخفيفة، ذلك أن اعتماد الأمريكيين على البترول السعودي يجعل اللهجة مؤدبة في التعامل السياسي والصحفي، بخلاف اللهجة القاسية الموجهة لحكومات عربية أخرى غير بترولية.
وقد ارتفعت أصوات أمريكية تحرض جورج بوش على عقاب المملكة العربية السعودية كغيرها من الدول التي تساند الإرهاب، أو ما تسميه أمريكا الإرهاب الإسلامي، وكتب أحدهم في الصحف منذ أيام يقول: «لماذا هذا التراخي الأمريكي للسعودية ، هل لأنها تملك البترول الأرخص والأنقى الذي نحتاج إليه نحن الأمريكيين؟»
إلا أن الصحف اتهمت هذا الكاتب بالرومانتيكية أو السذاجة السياسية، وقالت إن الفلسفة البراجماتية الأمريكية لا تعترف بالعواطف الرومانتيكية والأحلام المستحيلة في الحب والسياسة، وأنه طالما هناك بترول عربي أرخص وأنقى من أي بترول في العالم فلن تكف الولايات المتحدة عن مغازلة البلاد العربية الثرية بالبترول؛ بل إن الولايات المتحدة على استعداد للتفاوض مع (السري أو العلني) مع أي دولة عربية بترولية، وإن كانت في محور الشر سابقا أو لاحقا كالعراق أو ليبيا أو غيرهما.
نيويورك، فبراير 2002
عيد الحب وعيد المسلمين على شاطئ هدسون
أتمشى على شاطئ نهر هدسون ما بين نيويورك ونيو جيرسي، الشمس تظهر وتختفي تحت السحب، نحن في شهر فبراير عام 2002، يقولون عنه الشتاء الدافئ، كانت الشمس ساطعة معظم الوقت، وأنا أحب هذه الشمس الدافئة، تلامس وجهي كأنامل أمي، تذكرني بالوطن والحب والسجن، ربما تكون هناك علاقة بين الحب والسجن، أهي الحرية نفقدها حين نعيش الحب؟ أو الوطن والحب معا؟!
جاءني في الصباح صوت ابنتي من القاهرة، يشبه تغريد عصفورة عند ظهور أول خيوط الفجر: كل سنة وأنت طيبة يا أمي. - النهاردة إيه يا منى؟ - عيد الحب يا أمي.
إنها ابنتي الكاتبة الأدبية «منى حلمي»، الوحيدة في أسرتي التي تذكرني بالأعياد، ولا أحد يتذكر عيد ميلادي إلا هي، ربما يذكرني أحيانا زوجي «الروائي شريف حتاتة» حينما لا يكون مشغولا بشيء أهم، أما ابني «عاطف حتاتة، المخرج السينمائي» فهو ضعيف الذاكرة فيما يخص أعياد ميلاد أمه وأبيه وأخته وغيرهم من أعضاء الأسرة البيولوجية، وكنت مثل ابني منذ أربعين عاما وأنا في ريعان الشباب، لم أكن أتذكر عيد ميلاد أمي أو أبي، أو عيد ميلادي، كان بيتنا يشهد كل عام مولد طفل جديد، وأبي يزمجر حين يطلب منه الاحتفال بعيد ميلاد طفل من أطفاله، ويقول ساخرا:
يعني أعمل عيد ميلاد كل شهر ولا إيه ؟!
أما أمي السيدة «زينب هانم شكري» حفيدة «طلعت باشا» في إسطنبول فكانت ترى أن أبي أفضل من أبيها، وأنها لم تتزوج أبي إلا لتهرب من بيت أبيها شكري بك!
رغم كل ذلك كانت طفولتي سعيدة مليئة بالحب والدفء، أكثر سعادة من طفولة زميلاتي الأمريكيات هنا في نيويورك ونيوجيرسي، واحدة منهن تقول لي في عيد الحب (يسمونه هنا «عيد فالنتين»)، وهي أستاذة في جامعة متخصصة في الدين الإسلامي: «نشأت منذ الطفولة يا نوال في أسرة كاثوليكية، وكان أبي قسيسا تمرد على الكنيسة واعتنق الإسلام، إلا أنه كان محافظا متزمتا لا يعترف بشيء اسمه «الحب».»
وكان أبي نقيضا لأبيها يؤمن بالحب، ربما كان يعوض بالحب والحنان ما يفتقده الفقراء من ماديات الحياة، وقد أغرق أبي في الحب أمي، حتى أصبحت تلد طفلا كل عام، ثم ماتت وهي في ريعان الشباب، ممسكة يدي في يدها، وعيناها تملؤهما دهشة طفولية. - كل سنة وأنت طيبة يا ماما.
إنه صوت ابنتي المغردة في الصباح الباكر، وقد أدبر عيد الحب منذ أسبوع، وجاء عيد آخر هو «عيد الأضحى» (يوم 22 فبراير 2002)، ضحكت مع ابنتي وسألتها: ذبحتم خروف يا منى؟
لم يكن العيد في طفولتي عيدا دون ذبح الخروف، الذي كان يرمقني وهو يذبح بعينين متسعتين تملؤهما دهشة طفولية، وأتصوره طفلا مثلي يذبحه أبي في العيد، وسوف يأتي الدور علي حتما ليذبحني أبي طاعة لأمر الله، كما فعل سيدنا إبراهيم مع ابنه إسماعيل، كنت في الثامنة من عمري لا أواظب على الصلاة، وفي أيام القيظ في رمضان أختلس من وراء أبي رشفة ماء من قلة الفخار الباردة اللذيذة، إنه إبليس يوسوس لي: «رشفة ماء يا نوال لن يلتفت إليها ربنا الله الرحيم الغفور لجميع الذنوب (إلا أن يشرك به).»
لكن أبي كان يؤكد لي أن الله يلتفت إلى كل صغيرة وكبيرة في هذا الكون، ولا شيء يفوته، وإن كان رشفة ماء أو كلمة واحدة يهمس بها إبليس إلي، وهكذا تحمل ضميري منذ الطفولة عبء ذنوب كثيرة، وتصورت أنه سوف يأتي عيد الأضحى في العام المقبل (أو الذي بعده)، ويأمره الله أبي بذبحي بدلا من خروف العيد.
وغضبت من زميلتي الأستاذة الأمريكية المتخصصة في الدين الإسلامي، والتي كتبت مقالا تقول فيه إن مشكلة العالم الإسلامي هو أن الإسلام لم يتحضر أو لم يتطور بالقدر الكافي (كما حدث لليهودية والمسيحية)، وسألتها: وماذا تعنين بهذا التحضر يا سيدتي؟! - قالت: «أعني الموديرنيتي» أو
modernity
باللغة الإنجليزية.
وطال الحوار بيني وبينها عن معنى الموديرنيتي أو «الحداثة» باللغة العربية، سألتها ماذا تعني بالحداثة؟ وهل أثر هذه الحداثة على «اليهودية» ما يحدث في إسرائيل من ذبح للفلسطينيين الأطفال مثل خروف العيد؟ وهل أثر هذه الحداثة على «المسيحية» ما يحدث اليوم في أفغانستان من قتل المدنيين نساء ورجالا؟ - فقالت الأستاذة الأمريكية: «هناك فرق بين «اليهودية» ودولة إسرائيل، وهناك فرق بين «المسيحية» وحكومة الولايات المتحدة الأمريكية.» - وقلت: «وبالمثل أيضا يا سيدتي، هناك فرق بين الإسلام وبين الدول الإسلامية أو العربية.»
إلا أن هذه الأستاذة المتخصصة في الدين الإسلامي، والتي يدعونها إلى بلادنا العربية لتكون ضيفة الشرف في الاحتفالات والمهرجانات النقابية والأعياد بما فيها اليوم العالمي للمرأة، (وهي متخصصة أيضا في موضوع المرأة والإسلام) هذه الأستاذة لم تدرس الإسلام دراسة صحيحة؛ لأن دراسة الدين الإسلامي في الولايات المتحدة (وفي جامعات أوروبا أيضا) تقوم على دراسة القرآن والأحاديث وغيرهما مما يتعلق بالإسلام والتاريخ الإسلامي فحسب، ويتخرج الأساتذة (نساء ورجالا) ويصبحون خبراء في الدين الإسلامي دون أي دراسة مقارنة بين الأديان السماوية الثلاثة، لكن الدراسة المقارنة للأديان هي الوسيلة الوحيدة لفهم هذه الأديان، خاصة الأديان السماوية الثلاثة، والتي يتزعمها شخص واحد هو «النبي إبراهيم»، وتتشابه مبادئها تشابها كبيرا. (1) سيل المقالات والكتب عن الإسلام والمسلمين
منذ أحداث 11 سبتمبر 2001، وضرب مركز التجارة العالمي في نيويورك (والبنتاجون في واشنطن)، وهناك سيل من المقالات والكتب المنشورة في الولايات المتحدة حول الإسلام وعلاقته بالغرب، هناك مقالات وكتب تصور الإسلام (دون غيره من الأديان السماوية وغير السماوية) كأنما هو دين «متعطش للدماء» يحرض على قتل المخالفين له باعتبارهم «الكفار»، ويحرض على «الإرهاب» تحت اسم «الجهاد في سبيل الله»، ويقهر «النساء» ويفرض عليهن الحجاب والختان، وتعدد الزوجات وضرب الأزواج، ... إلخ إلخ.
إلا أن الدراسة المقارنة للأديان تؤكد الجهل الذي يغرق فيه المتخصصون في الدين الإسلامي، ذلك أن الديانة اليهودية مثلا حسب الآيات في كتاب «التوراة» تحرض «شعب الله المختار» على قتل أهل كنعان (فلسطين) الكفار، والاستيلاء على أرضهم تحت اسم «الأرض الموعودة من الله إلى آل إبراهيم» مقابل قطع الغرلة أو ختان الذكور، كما أن فكرة «حجاب المرأة» نشأت من آية في التلمود تؤكد أن «شعر المرأة العاري مثل جسدها العاري»، وأن «حواء» هي سبب «الإثم» وخروج آدم من الجنة، وقد عاقبها الله «بالأسى والألم» (في ولادة الأطفال) «والخضوع» لزوجها.
رغم ذلك فإن الكتب والمقالات تنهمر كالسيل (منذ أحداث سبتمبر) تصور الإسلام والمسلمين كأنهم قوم من القتلة والجهلة المتخلفين، وأن علاجهم الوحيد هو «التحضر» أو الموردرنيتي، باللغة العربية «الحداثة».
حاولت الرد على بعض المقالات التي نشرت في النيويورك تايمز، والتي لا تزال تنشر حتى اليوم، إلا أنهم لا ينشرون مقالاتي رغم تشدقهم بالديمقراطية والليبرالية.
إن الديمقراطية الأمريكية هي الديمقراطية «الوحيدة» في العالم - كما يقولون هنا - وكذلك الديمقراطية الإسرائيلية، يقولون إنها الديمقراطية «الوحيدة» في الشرق الأوسط.
ويضحك الطلاب والطالبات في «اللجنة ضد الحرب» التي تم تشكيلها في الجامعة التي أحاضر فيها في ولاية نيوجيرسي، ويقولون: «أجل أيها السادة، هذه الديمقراطية الأمريكية والإسرائيلية تشبه ديمقراطية الحكومة العنصرية «الأبارثايد» في جنوب أفريقيا، التي صورت نفسها للعالم سنين طويلة على أنها الديمقراطية «الوحيدة» في قارة أفريقيا.»
ولا شيء يواسيني عن البعد الأهل والوطن إلا هؤلاء الطلبة والطالبات، أشعر بالبهجة حين أدخل الفصل وأرى وجوههم الباسمة، وعقولهم المتفتحة للإبداع، قلت لهم في أول حصة: «أنا أكره التدريس، كما أن الإبداع لا يمكن تدريسه، وكل ما سأفعله هنا في الفصل هو: أن أساعدكم على نسيان ما لقنه لكم المدرسون منذ طفولتكم.»
وفي احتفال الجامعة بقدومي من مصر في أول سبتمبر 2001، وكانت الإدارة كلها حاضرة، «صاحبة السلطة» رددت هذه العبارة السابقة، التي أدت إلى «عدم تجديد العقد» لي مرة أخرى ، إنهم يدفعون لي راتبا كبيرا كي ألقن الطلاب الأمريكيين دروسا تمكنهم من الإبداع، لكني لا أؤمن بالتلقين، وقد مارست الإبداع في حياتي دون تلقين أحد، اللهم إلا جدتي الفلاحة، في قرية كفر طحلة، التي كنت أراها (وأنا في الخامسة من العمر) واقفة أمام العمدة حافية القدمين، شامخة الرأس، مكشوفة الوجه، تشوح بيديها الكبيرتين المشققتين المحروقتين بالشمس في وجهه وهي تقول: إحنا مش عبيد يا عمدة، وربنا هو العدل عرفوه بالعقل! (2) غياب الذكاء الفطري
لم تكن جدتي الفلاحة قد ذهبت إلى المدرسة وتعلمت القراءة والكتابة، لم تقرأ جدتي القرآن أو أحاديث الرسول، لكنها أدركت بالذكاء الفطري أن الله هو العدل، وأن العقل هو منبع الإيمان بهذه الفلسفة الرفيعة المستوى، والتي لا يفطن إليها أغلب الأساتذة من حاملي الدكتوراه، والذين يفقدون الإبداع أو الذكاء الفطري عن طريق التلقين في المدارس في الغرب والشرق.
ويدور حوار من خلال شاشة الإنترنت في جامعتنا حول أمور السياسة والفكر والإبداع وغيرها، أصبحت الشاشة الصغيرة في مكتبي أو بيتي تنقل إلي من كل أنحاء العالم مختلف الآراء والأفكار، أدوس على «الزر» كل يوم، وتضيء الشاشة أمامي، وأتابع كل ما يحدث في العالم، وكل ما يصدر من كتب جديدة، ومناقشات حولها، وأتابع كل ما يحدث في العالم، وكل ما يصدر من كتب جديدة، ومناقشات حولها، أحدث هذه الكتب من تأليف أستاذ أمريكي (برنار لويس) وهو متخصص في الدراسات الإسلامية، الكتاب عنوانه: «ما هو الخطأ في علاقة الإسلام بالغرب؟» يغلف المؤلف أفكاره المبتورة غير الموضوعية بكلمات عامة رنانة عن عشقه للشرق والإسلام، والحضارة الإسلامية التي ازدهرت في القرون الوسطى حين غرقت أوروبا في الجهل والتعصب ومحاكم التفتيش والحروب الصليبية ... إلخ إلخ، ثم يتساءل المؤلف: ما الذي حدث لينقلب الوضع وتتفوق المسيحية والحضارة الغربية على الإسلام والمسلمين؟! لماذا حدثت جميع الاكتشافات العلمية في الغرب المسيحي وليس في الشرق الإسلامي؟!
إنها أسئلة واردة للعقل يمكن الرد عليها بالذكاء الفطري، فالمشكلة ليست دينية أو الاختلافات في الأديان أو الثقافة أو اللغة، بل هي مشكلة سياسية واقتصادية أساسا، ذلك أن الاستعمار القديم والجديد قد تعاون مع حكومتنا المحلية من أجل إضعاف قدرتنا الإبداعية في العلوم والفنون، أصبح التعليم في بلادنا أحد الأجهزة البوليسية لقمع الخلق والإبداع وتدمير الذكاء الفطري منذ الطفولة، يكفي أن كل مفكر مبدع في بلادنا قد عرف زنزانة السجن مرة واحدة على الأقل في حياته، ينطبق ذلك على النساء والرجال، إنه المجال الوحيد الذي تتساوى فيه المرأة بالرجل، ويكفي أن متوسطي الذكاء هم الذين يصعدون إلى مقاعد الحكم، وهم الذين يحصلون على الجوائز التقديرية، والحوافز والمناصب وكل شيء، حتى الأضواء الإعلامية.
لكن السيد برنارد لويس (مثل غيره من فلاسفة ما بعد الحداثة) يتجاهل وجود شيء اسمه استعمار أو احتلال أجنبي، ويفصل بينه وبين الحكومات المحلية، كأنما هي فقط وحدها مسئولة عن المشكلة، أو الشعوب ذاتها هي المسئولة، وهو يضع كل المسلمين في العالم في سلة واحدة ثم يصدر أحكامه المبتورة، واتهاماته للمسلمين، بأنهم تخلفوا عن موكب الحضارة لأن العيب فيهم هم وليس في القوى الخارجية، ويقول في كتابه: «لقد انتهى الاستعمار منذ نصف قرن، وأصبح العالم الإسلامي يعيش في عصر ما بعد الاستعمار
لكن المسلمين لا يزالون يعلقون المشكلة على شماعة الاستعمار ويتساءلون على الدوام (من فعل بنا هذا؟) كأنهم ضحايا طول الوقت للقوى الخارجية، والمفروض أن يسألوا أنفسهم ما الخطأ فينا نحن، وماذا نفعل لنغير أنفسنا، أما أن يحملوا الخطأ على غيرهم فهذا هو الخطأ.
وهناك بعض الحقائق التاريخية في كتاب برنارد لويس، كما أنني أتفق معه في أن النقد الذاتي ضروري، لكني أختلف في فكرته أننا نعيش «عصر ما بعد الاستعمار» هذه خديعة فكرية كبيرة؛ لأننا نعيش عصر «الاستعمار الجديد»،
Neo-Colonial
وليس ما يسمونه
.
في الجامعات الأمريكية يسود هذا التعبير الخاطئ عن «عصر ما بعد الكولونالية»، وتنقله الجامعات العربية والأفريقية عن الجامعات الأمريكية دون تحليل أو نقد علمي.
تكمن الخديعة أيضا في أن «برنارد لويس » يعتبر هنا في أمريكا من أهم الخبراء في الإسلام وأكثر المدافعين عن الإسلام والحضارة الإسلامية في العصور الوسطى، وهو يختلف هنا عن مفكرين آخرين، منهم «هنتنجتون وفرانسيس فوكاياما» الذين يرون أن المشكلة في الإسلام ذاته، وأنه دين يناقض الحضارة والتحضر، وفي حاجة إلى تغيير جذري حتى يتحضر.
ويدافع بعض النخب العربية والإسلامية عن برنارد لويس (وأمثاله)؛ لأنه لا يدين الإسلام ذاته، لكن منطق برنارد لويس لا يقل خطورة عن منطق الآخرين؛ لأنه يتجاهل أهم الأسباب التي أدت إلى ضعف البلاد العربية والإسلامية في مواجهة أوروبا وأمريكا، على رأسها الاستعمار الأوروبي والأمريكي (الاقتصادي والسياسي والعسكري والفكري) والحكومات المحلية المتعاونة مع هذا الاستعمار والقاهرة لشعوبها رجالا ونساء وأطفالا. (3) التجول في مسارح برودواي
علاقتي بمدينة نيويورك قديمة منذ صيف عام 1965، بالضبط أغسطس 1965، فقد جئت لأحصل على درجة الماجيستير من جامعة كولومبيا، وقد عشت في نيويورك أحداث حرب فيتنام، وخرجت مع الطلبة والطالبات في المظاهرات ضد هذه الحرب، التي انتهت بانتصار الشعب الفيتنامي نساء ورجالا، وكنت أرى الفتيات الفيتناميات الصغيرات (مثل الأطفال الفلسطينيين اليوم) يرشقون الطائرات الحربية الأمريكية الضخمة، ويسقطونها إلى الأرض ببندقية فيتنامية صغيرة، لقد انتصرت إرادة الشعب نساء ورجالا على أقوى الأسلحة العسكرية في العالم، فلماذا لا يتكرر هذا فيما يخص الشعب الفلسطيني؟! سوف يتكرر! لا بد! وها هي دولة إسرائيل (وجيشها المدعم بأمريكا) تقاوم الانتفاضة الفلسطينية محاولة القضاء عليها دون جدوى.
منذ جئت هذه المرة إلى نيويورك ونيوجيرسي في أوائل شهر سبتمبر، وأنا أبحث عن رواية جديدة أو مسرحية تستحق الرؤية أو فيلم سينمائي جيد أو أي شيء من الإبداع الفني، دون جدوى، هناك جدب غريب يسود العالم غربا وشرقا، فيما يخص الأعمال الإبداعية الجديدة، حتى الصحف في نيويورك والمجلات أصبحت خاوية حتى من الأخبار الصحيحة، وكنت في عام 1965 أجدها دسمة مليئة بالمقالات النقدية العميقة.
والسؤال يدور في رأسي وأنا أتجول بين مسارح شارع بروداوي: هل كنت في عام 1965 فتاة غريرة تبهرها مسارح نيويورك وأنشطتها الثقافية رغم سطحيتها؟ أم أنني اليوم في عام 2002 امرأة ناضجة العقل لا يبهرها شيء وإن كان عميقا؟
هناك تنافس واضح بين مؤلفي الدراما الدينية والدراما الجنسية على مسارح برودواي، والعناوين الضخمة تشبه الإعلانات التجارية عن بضائع الشركات المتعددة الجنسيات، وقررت أخيرا مشاهدة الجنسيات، وقررت أخيرا مشاهدة مسرحية دينية وأخرى جنسية من أجل الترويح عن النفس، وقد أديت جميع الواجبات والمسئوليات تجاه الله والوطن والعائلة وكل شيء لم أحصل في حياتي على إجازات من العمل خارج البيت أو داخله، واليوم إجازة عيد الأضحى، حين كنت طالبة في جامعة كولومبيا منذ سبعة وثلاثين عاما لم تكن الجامعات في نيويورك تحترم أجازات المسلمين، وكان علينا أن نشتغل في أيام العيد الكبير والصغير، ثم نأخذ أجازات في أعياد المسيحيين واليهود، يمكن القول إن نيويورك مدينة يهودية مسيحية، نيويورك تغيرت بعد أحداث 11 سبتمبر وسقوط برجي التجارة العالمية في مانهاتن، بدأت جامعات كثيرة تهتم بدراسة الإسلام والمسلمين والعرب؛ بل ارتفعت أصوات تطلب إدخال اللغة العربية ضمن المقررات في المدارس الأمريكية على أساس: اعرف عدوك! راجت الكتب التي تحمل عناوين من نوع الإسلام والغرب، الإسلام والمرأة، الإسلام والإرهاب، والإسلام والعنف ... إلخ إلخ.
وأيضا بدأت بعض الجامعات تعطي أجازة في أعياد المسلمين للطلبة والأساتذة، وربما هذه واحدة من إيجابيات ما بعد سقوط البرجين في 11 سبتمبر، فقد بدأ الأمريكيون يحترمون المسلمين «وأعيادهم»، باعتبار أنهم أصبحوا قادرين على توجيه ضربات إليهم تسقط أعلى أبراجهم الشامخة في السماء.
دارت المسرحية الدينية حول فتاة صغيرة اسمها «كاتي» ولدت من أم مسيحية وأب يهودي، وأصبحت الفتاة حائرة بين الدين المسيحي واليهودي، ثم زادت حيرتها حين أمرها أبوها ذات يوم بألا تذكر اسم «المسيح» أمام جدتها، واندهشت الفتاة وسألت عن السبب، فقال أبوها: «لأن جدتك لا تحب المسيح»، وتصورت الفتاة الصغيرة أن جدتها العجوز قد قابلت في شبابها المسيح ولم تحبه منذ ذلك الحين.
توحي المسرحية منذ البداية الدرامية بالعمق الفلسفي، إلا أنه للأسف تضيع الفلسفة ويضيع العمق (ربما بسبب الرقابة الخفية التي تمارسها إدارة جورج بوش) إن جورج بوش الابن قد ورث عن أبيه النزعة الدينية، والإيمان بأن التيارات الأصولية الدينية هي خير من يحمي مكاسب الرأسمالية الدولية، ويضرب قوى الشر والشيطان الدينية في الخارج والداخل (في الداخل تتجسد قوى الشر في الحركات الطلابية المعارضة للحرب، والحركات النسائية المطالبة بتحرير النساء الأمريكيات من اليمين الأمريكي بزعامة الحزب الجمهوري).
تتهكم الفتاة الصغيرة على ما تقرأه في الكتب على أن الكاثوليك لا يستحمون! أما والدها اليهودي فقد تخلى عن دينه من أجل زوجته المسيحية «لورا»، وكانت لورا تخفي تاريخ زوجها الماضي عن الناس كأنما هو «عورة»، وتحاول كاتي الصغيرة أن تشرح للشاب الذي تحبه لماذا يذهب الكاثوليك إلى كرسي الاعتراف أمام القسيس في الكنيسة، ويسألها صديقها: ولماذا يذهبون للاعتراف؟
وترد الفتاة الصغيرة: من أجل أن يقترفوا كل الآثام ثم يمسحونها بالاعتراف من حين إلى حين.
ويذكرني هذا المشهد بقصة كتبتها عام 1944، وأنا تلميذة صغيرة، عنوانها «مذكرات طفلة اسمها سعاد»، كانت سعاد تعيش في أسرة شديدة التدين، تلقت تعاليم الصلاة والصوم منذ السابعة من عمرها، وأيضا تعلمت التوبة، وكيف تتوب عن ذنوبها عن طريق الطقوس المتكررة، وهكذا تكررت آثامها وتكررت توبتها لتمسح الذنوب من حين إلى حين. (نشرت القصة بالعنوان ذاته بعد ثلاثين عاما من كتابتها.)
أما صديقها الفتى الصغير فيقول لها في براءة إن مشاكل اليهود تكمن في أن الغدد في أجسامهم تفرز هرمونات أكثر من المسيحيين، ويضحك الجمهور الأمريكي على تلك الفتاة الصغيرة «كاتي» التي تحتفل بعيد ميلادها (حين تبلغ الرابعة عشر من عمرها) بعد أن تتوقع من صديقها أن يفض بكارتها في أول ممارسة جنسية، كما تفعل زميلاتها في المدرسة.
تحمل المسرحية عنوان «السلم الذهبي»، ولم أشترك مع الجمهور في الضحك على هذه الفتاة الصغيرة الحائرة بين الأديان، والتي تحاول البحث عن هويتها الدينية، لقد طغت فكرة تأكيد الهوية الدينية في أمريكا منذ اعتلى جورج بوش العرش، وبدأ يستخدم اللغة الدينية في جميع الأمور السياسية والاقتصادية بما فيها الحرب ضد محور الشر، والرقابة على الإعلام والفكر والرأي، مع إطلاق حريات الأديان والأموال في البورصة والشركات العابرة للقارات.
أما المسرحية الثانية فهي تحمل اسم «مونولوج المهبل» ويعتبرونها مسرحية ناجحة بسبب الإقبال عليها، وكلمة «المهبل» كلمة طبية تعني أحد أعضاء المرأة التناسلية/الجنسية، ومنذ نجاح هذه المسرحية (المؤلفة والممثلة امرأة اسمها إيف إنسلر) بدأت مسرحيات أخرى تزحف إلى برودواي تحمل أسماء الأعضاء الجنسية للرجال والنساء، وأيضا الجهاز البولي، هناك مسرحية اسمها: «مدينة البول»
Urine Town
ومسرحية أخرى تحمل اسم «ديالوج القضيب» وغيرها.
ويتساءل الناس في نيويورك ونيوجيرسي: أهو التدهور الذي أصاب الفكر والثقافة بعد ضربة 11 سبتمبر، أم أنها الحضارة الرأسمالية تتهاوى مع تهاوي رمزها التجاري؟
نيويورك 2002
قرن النساء أم قرن الإسلام؟ وإجهاض ثورة الإجهاض
شوارع نيويورك تغطيها الثلوج رغم أننا أصبحنا في شهر الربيع، شهر مارس، أصبح يحمل اسم «شهر المرأة»، منذ أن أعلنت الأمم المتحدة أن 8 مارس يوم الاحتفال بعيد المرأة العالمي، تأتيني الدعوات من القارات الخمس للمشاركة في احتفالات النساء، أو إلقاء المحاضرات، أو تلقي الجوائز تحت اسم الفينميست الكبيرة، والكاتبة والطبيبة التي ساهمت في تحرير النساء خلال نصف القرن الأخيرة، أمشي فوق الثلوج داخل معطف صوفي أسود من تحته بلوفر رمادي من صوف الغنم، من تحته بلوفر آخر من الصوف المصري لونه أبيض كالقطن، من تحته قميص من الفانلة السميكة القريبة من الصوف، من حول رأسي طاقية من الصوف السميك، من حول عنقي كوفية من فروة الثعلب أو النمر، خطواتي فوق الأسفلت قوية سريعة، تجاوزت السبعين عاما في شهادة الميلاد فحسب، لكن جسدي كما كان في ريعان الشباب شعري أبيض بلون الثلوج، لكنه لا يزال غزيرا كثيفا متمردا مثل الأسلاك الكهربية، الدقات تحت ضلوعي قوية منتظمة مع دقات حذائي المتين فوق الأسفلت، عيناي لا أراهما إلا حين أتوقف أمام مرآة في أحد المحلات، يجذبني البريق الخاطف في هاتين العينين السوداوين، كأنهما هما عينا امرأة أخرى لا أكاد أعرفها، أذناها تطربان لسماع كلمات الغزل من الرجال والنساء، قلبها يخفق حين تقع في الحب، وكم وقعت في الحب، وكم من الرجال وقعوا في حبها، مع ذلك تبدو مثل فتاة عذراء لم تعرف الحب بعد رغم بلوغها السبعين من العمر.
شوارع نيويورك في شهر مارس تغرقها الثلوج البيضاء رغم أن الشمس ساطعة تنعكس أشعتها الذهبية على الثلج الأبيض ... يمتزج اللون البرتقالي القريب من اللون الأحمر بذلك البياض الناصع الشاهق، تنعكس الأشعة فوق السطح المثلج الصلب، ثم ترتد عنه بعد أن تتكسر إلى ملايين الذرات الملونة، يشتعل الكون من حولي بالألوان المضيئة وأنا أمشي نحو شارع برودواي، إنه شارعي المفضل في مدينة نيويورك، حيث الملاهي والمسارح ودور السينما، وأكشاك الصحف والمجلات، ومطاعم البيتسا والهامبيرجر والشاورمة والفلافل، تتصاعد رائحة الفلافل إلى أنفي ومعها صوت فيروز يغني يا مدينة القدس، أتذكر مدينة بيروت وأنا أمشي في الحمرا أو الروشا، ومدينة القاهرة ودمشق وبغداد وتونس والجزائر والرباط والخرطوم والمنامة وغيرها من المدن في بلادنا، إلى جواري تمشي زميلتي الأستاذة في الجامعة واسمها «الدكتورة ماريا» تدندن مع فيروز بالأغنية، تقول إن صوت فيروز يشبه قطرات الألوان المتفجرة من شعاع الشمس حين ينعكس فوق سطح جوهرة من الفيروز أو قطعة من الثلج، تقوم الدكتورة «ماريا» بتدريس «فن الدراما»؛ المسرح والسينما والأدب، وتضيف إليها فن التصوير والرسم، والموسيقى، وأيضا فن العلاقات الإنسانية على رأسها «الحب»، تربط زميلتي «ماريا» بين نشوة الحب ونشوة الإبداع، تصغرني بعشرين عاما، لم تتزوج ولم تنجب أطفالا، لكنها أنجبت كثيرا من الكتب، وكثيرا من الطلبة والطالبات الذين تحولوا إلى مبدعين ومبدعات على يديها، تتألق عيناها الخضراوان وهي تتأمل العناوين والإعلانات فوق دور السينما والمسرح، تضحك بمرح الأطفال حين ترى الإعلان عن مسرحية «مونولوج المهبل» وتقول: لا لا يا نوال، لقد سئمت من المهبل والقضيب وكل ما يتعلق بالجنس، أريد أن أرى فيلما أو مسرحية رومانتيكية؟ (1) العودة إلى الرومانتيكية
الإغراق في الجنس أو في الحب العذري الرومانتيكي بدون جنس وجهان لعملة واحدة هي الرأسمالية الذكورية، المتوارثة عن النظام العبودي، منذ انفصل الجسد عن الروح والعقل، وانفصل الحب عن الجنس، وأصبحت المرأة ترمز إلى الجسد/الإثم/الشيطان، ويرمز الرجل إلى العقل/الروح/الإله.
هذه واحدة من أفكار الفكر النسائي الحديث وما بعد الحديث، والتي لعبت دورا في مقاومة الفكر العبودي الرأسمالي خلال القرن العشرين، وترتكز القدرة الإبداعية على القدرة على إلغاء الفصل بين الذكر والأنثى، وبين الإله والشيطان، وبين الجسد والروح والعقل.
كيف يتحول الذكر إلى إنسان؟ كان هذا السؤال يدور برأسي دائما على مدى عمري من أول الصبا والشباب حتى اليوم، ولم يكن لي أبدا أن أقع في حب رجل لا يرى في إلا الأنثى.
ودار السؤال في رأسي وأنا جالسة إلى جوار صديقتي «ماريا» نشهد معا مسرحية بعنوان «الصبي الذهبي» في شارع برودواي، يتمشى البطل فوق خشبة المسرح بقامته الطويلة وعضلاته القوية الذكورية، يزيدها قوة وذكورة بالرياضة العنيفة «المصارعة»، يرتدي قفازه ويصارع الذكور الأشداء متغلبا عليهم، مصمما على أن ينتصر على مدينة نيويورك الكبرى، أن يشق طريقه من الأزقة الفقيرة في مانهاتن السفلى إلى حيث الطبقة العليا ذات المال والمجد، إنه يؤمن بالفلسفة الأمريكية البراجماتية، التي تقول: كن عمليا ولا تفكر في المبادئ، فالوسيلة تبرر الغاية.
هذه الفلسفة الرؤية غير الإنسانية هي الصالحة تماما للمجتمع الرأسمالي الذكوري الفاسد، ويدرك «ألفونسو» بطل المسرحية أن الفساد لا يقهره إلا الفساد، إلا أنه يلتقي بامرأة اسمها «لورنا» يقع في حبها، تتغلب في الحب طبيعته الإنسانية الأولى، فهو في الأصل إنسان رقيق الطبع حساس يمتلئ قلبه بالحنان والحب والعدل والجمال، لكن الحبيبة «لورنا» كانت على علاقة حب برجل آخر اسمه «توم»، وهي تعشق شرب الخمر، وحين يتهمها «توم» بالإدمان تقول له: «في حلقي يا حبيبي غصة أريد إزالتها بالخمر!»
وتتصاعد الموسيقى الغاضبة مع غضب الفتى المصارع ألفونسو حين يكتشف أن المرأة التي يحبها مشغولة بغيره، يرتدي قفازه ليبارز الذكور المنافسين له في مجال الحب أو المال أو الشهرة، تلعب الموسيقى في المسرحية دورا رئيسيا للتعبير عن الغضب والغيرة والتمرد والثورة، تتنافس الآلات باختلاف أنواعها الحديثة والقديمة، مع الطبول وأناشيد الثورة الزنجية التحررية ضد السيد الأبيض، وألحان الكنائس المصاحبة لتراتيل الإنجيل .
ويختفي وجه مؤلف المسرحية وملحنها ومخرجها تحت وجه الممثل «ألفونسو ريبيرو»، ذي الحضور القوي الذي يخطف البصر، بقامته الطويلة الممشوقة، وقوته الهائلة مع الرقة الشديدة والعذاب في الحب حتى الموت، ومنذ عام 1983 اشتهر اسم ألفونسو في مسارح برودواي تحت اسم «الطفل النجم»، إلا أنه اليوم أصبح رجلا في الثلاثين من العمر، ممتلئ الصوت، يخترق صوته الرجولي قلوب النساء، مثل السهم ينفد به «المصارع» إلى عين غريمه «الثور».
تعبر الموسيقى بدرجاتها وأصواتها المتعددة عن صوت واحد هو صوت المقاومة العنيفة لآخر معاقل العبودية والعنصرية، ذلك أن البطل «ألفونسو» أسمر البشرة من أصل فقير مثل غيره من السود في حي «هارلم»، وهو ينافس الرجل الأبيض لامتلاك امرأة بيضاء.
تجتمع القوة الذكورية مع الرقة والحنان، تمتزج الرومانتيكية مع المثالية والبراجماتية والثورية والإقدام والإحجام في تآلف موسيقي شفاف يهز القلب والجسد والروح والوجدان.
وتهتز إلى جواري صديقتي «ماريا» وهي تغني مع البطل: «أريدك معي يا حبي»، يسري اللحن في دماغي أيضا يدغدغها، وأتذكر أنني في مدينة نيويورك، والمدينة كلها نائمة في الليل إلا شارع برودواي، ويدب ألفونسو بقدميه فوق خشبة المسرح وهو يرقص، وصوته يردد مع الإيقاع: «لا تنسوا الشارع 127، أحد شوارع هارلم.»
وتظل الموسيقى في أذني حتى أعود إلى غرفة نومي في بيتي على الضفة الأخرى من نهر هدسون، موسيقى الفنان «شتراوس» مع صوت «ألفونسو ربيرو»، وألحان الجاز الزنجية تنطلق من شوارع هارلم عام 1965 حين كنت طالبة شابة في جامعة كولومبيا في مدينة نيويورك. (2) زيارة امرأة ترتدي الحجاب
إحدى الدعوات النسائية في شهر مارس جاءتني من جماعة من المسلمين يعيشون في نيويورك ونيوجرسي، يزيد عدد المسلمين فيهما عن مليون ونصف شخص، حملت الدعوة إلى بيتي شابة سوداء تلف رأسها بحجاب تقول عنه «الحجاب الإسلامي»، وحين نظرت إلى شعري غير المغطى بحجاب قلت لها: اسمعي يا عزيزة (اسمها عزيزة أيضا) لقد تخرج المرحوم والدي من الأزهر ودار العلوم، وكان له ستة من البنات لم يطلب من واحدة منهن ارتداء الحجاب، وأرسلنا جميعا إلى الجامعات حيث جلسنا إلى جوار الرجال نتلقى العلم والطب والفن والأدب.
هذه الشابة في الخامسة والعشرين من عمرها، طالبة بجامعة نيويورك تعد لنيل درجة الدكتوراه في الدين الإسلامي، ولدت في حي هارلم حيث هاجر جدودها السود من الجنوب طلبا للرزق، اعتنقوا الإسلام حين انتشر الإسلام بين المهاجرين في هارلم وبروكلين وغيرهما من أحياء نيويورك الفقيرة، شابة طويلة القامة نحيلة الجسم، شاحبة اللون قليلا، لكن عيناها السوداوان الواسعتان تشعان بضوء الحماس النابع من الإيمان بقوة في السماء.
جاءت عزيزة تدعوني لإلقاء كلمة في عيد المرأة العالمي 8 مارس، وقالت لي إنها «فيمنيست مسلمة»، تؤمن بتحرير المرأة حسب الشريعة الإسلامية، وطلبت منها أن توضح لي علاقة الإسلام بحجاب المرأة، إلا أنها عجزت عن ذلك تماما، ثم قالت: أنا أرتدي الحجاب لتأكيد الهوية أكثر من تأكيد الدين، ودار الحوار بيننا عن معنى «الهوية»، وأخيرا سألتني عزيزة: «وما هي هويتك يا دكتر الساداوي؟» قلت لها: هويتي ليست أحادية؛ بل هي متعددة الجوانب، إذ تجري في عروقي دماء مصرية وأفريقية وآسيوية وتركية وقبطية وحبشية وإسلامية وبوذية من أجدادي الهنود، إن دمائي مختلطة يا ابنتي عزيزة، وأنا لا أؤمن بالدماء النقية على غرار الفلسفة النازية حيث آمن هتلر بنقاء الدم الألماني، وهي فكرة عنصرية تسري على نقاء الدم بمثل ما تسري على نقاء الحضارة، فلا توجد حضارة نقية لم تخصبها حضارات أخرى من الشرق والغرب والشمال والجنوب والسود والبيض والصفر والحمر، وكل الأشكال والألوان والأديان، المفروض يا عزيزتي عزيزة ألا نبالغ من الفروق بين البشر على أساس الدين أو الجنس أو الجنسية أو العرق أو اللون تحت أي اسم أو شعار وإن كان «الهوية».
إلا أن الشابة الأمريكية المسلمة «عزيزة» لم تستوعب كلامي، كانت ترمقني باتساع الدهشة في عينيها وتهز رأسها في عجب، لقد نشأت «عزيزة» في أسرة أمريكية لا تعرف اللغة العربية ولا تفهم الإسلام كما فهمه أبي الأزهري الدرعمي (نسبة إلى دار العلوم)، وهي تنتفض حماسا وهي تقول لي: «سوف يكون القرن الواحد والعشرون هو قرن الإسلام رغم أنف جورج بوش، الذي يصور الإسلام على أنه دين الإرهاب، ويحاول القضاء على ديننا الحنيف لتنتصر المسيحية.» قلت لها: لا يا ابنتي عزيزة، إن جورج بوش (الابن) لا يحاول القضاء على الإسلام؛ بل إنه يدعم كثيرا من الحكومات الإسلامية التي تقف معه في حربه ضد الإرهاب، وهو يشجع النعرات المسيحية والإسلامية واليهودية أيضا، ويزيد من الأموال الممنوحة للمدارس الدينية في أمريكا، سواء كانت مسيحية أو إسلامية أو يهودية.
وملأت عينيها الدهشة أكثر وأكثر، وقالت: كيف هذا؟ ولماذا يدعم جورج بوش الإسلام؟ من مصلحة جورج بوش أن يقضي على الإسلام، أليس كذلك يا دكتر الساداوي؟! قلت لها: ليس من مصلحة جورج بوش أن يقضي على الإسلام، أو حتى إضعافه، أو التشكيك فيه؛ لأن التشكيك في دين واحد يتبعه التشكيك في الأديان الأخرى، خاصة المسيحية التي يدعمها جورج بوش، ويستخدمها كأداة للسيطرة على الشعب الأمريكي، خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر وضرب مركز التجارة الدولي في نيويورك والبنتاجون في واشنطن.
دار الحوار طويلا، ثم أخرجت عزيزة من حقيبتها دعوة لي لأتحدث في 8 مارس عن المرأة والإسلام، لكني كنت قد ارتبطت قبل ذلك بدعوى أخرى للتحدث في البرلمان الأوروبي في بروكسل عن «مستقبل النساء في القرن الواحد والعشرين»، وقد دعيت للحديث معي نساء من أفغانستان وفلسطين وتونس وغيرها من البلاد، سررت لأن هؤلاء النساء خاصة المرأة الفلسطينية، استطعن الربط بين قضية تحرير النساء وقضية تحرير الأرض من الاحتلال الأجنبي، وهل يمكن أن يتحرر نصف المجتمع (من النساء أو الرجال) في بلد محتل بالجيوش الأجنبية الإسرائيلية أو الأمريكية أو غيرها؟
أما المرأة الأفغانية فقد كشفت عن الترابط بين الاحتلال العسكري الأمريكي لبلدها والاحتلال الثقافي والفكري والتعليمي، لقد صرفت الولايات المتحدة (تحت اسم المعونة التعليمية لأفغانستان) 51 مليون دولار من عام 1984 حتى عام 1994، ووزعت أكثر من أربعة ملايين كتاب مدرسي على التلاميذ، وملايين من الكتب الأخرى المليئة بالآيات القرآنية والتفسيرات الخاطئة لهذه الآيات، من أجل تشجيع الأطفال والشباب الأفغاني على قتل الكفار (الاتحاد السوفياتي) وغيرهم من الشيوعيين الملاحدة، لقد سعت الحكومة الأمريكية عن طريق هذه المعونات الثقافية لتشجيع القتل والتعصب على حساب الدين الإسلامي، واليوم بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وانتصار الجيش الأمريكي في أفغانستان على نظام الطالبان وخلايا القاعدة والمجاهدين الإسلاميين بقيادة أسامة بن لادن، بدأت حكومة الولايات المتحدة نفسها تمسح من الكتب ذاتها التي شحنتها إلى كابول، بدأت تمسح منها جميع الآيات أو التفسيرات التي تحض على الحرب والجهاد في سبيل الله، وتضع مكانها آيات أخرى تحض على المحبة والسلام.
وفي جامعة نيويورك وجامعة نيوجيرسي وغيرهما من الجامعات الأمريكية ترتفع الأصوات الطلابية في المظاهرات ضد الحرب وسياسة جورج بوش (الابن): «إن الحكومة في واشنطن تبدد الأموال التي تجمعها من الضرائب، والتي ندفعها من عرقنا ودمنا في تشجيع الفتن الدينية، خلقت في أفغانستان خلال عشرة أعوام أجيالا من الشباب المتعطشين للدماء تحت ستار الإسلام.»
وتسهم الأمم المتحدة عن طريق منظماتها «اليونيسيف» في صرف هذه الكتب والمعونات التعليمية، تحت اسم المساعدات الإنسانية للشعوب الفقيرة لتقوية الروح الدينية لدى الأطفال والتلاميذ.
وقد خصصت الحكومة الأمريكية 296 مليون دولار معونة تعليمية لإرسال كتب أخرى جديدة ومسح الكتب القديمة، وأمام موظفي اليونيسيف في أفغانستان نصف مليون كتاب يدرس العنف والإرهاب تحت اسم الجهاد الإسلامي، وأمامها أيضا ميزانية قدرها 200000 دولار أمريكي لنسف هذه الكتب وتدميرها تماما لتختفي من الوجود، ومئات الموظفين من النساء والرجال في اليونيسيف مشغولون اليوم بمسح الصور في الكتب التي تصور البنادق يحملها المجاهدون الأفغان، والكلاشنكوفات، تستبدلها بصور الزهور والبرتقال وحمامات السلام.
لي صديقة تعمل في مكتب اليونيسيف في نيويورك عادت مؤخرا من أفغانستان، وراحت تحكي ما يحدث اليوم في أفغانستان المحررة بأيدي الأمريكان والتحالف الشمالي، تطرق صديقتي برأسها وتقول: «أشعر بالخزي والعار يا نوال، وسوف أنشر هذه الحقائق رغم أن النشر قد يحرمني من وظيفتي التي أعيش منها، إلا أن ضميري يعذبني.»
وأمشي في شهر مارس في شوارع نيويورك فوق الثلوج البيضاء أنشد رؤية شيء من الفن العميق؛ يروح عني ألم الغربة والبعد عن الأهل والوطن.
نيويورك، مارس 2002
إبليس في أرض الخوف
(1) قبل أن أرى الفيلم
وأنا لست ممن يحكمون على الأعمال الإبداعية بالجوائز في المهرجانات أو تكريم الدول، إن أعظم المبدعين والمبدعات في التاريخ البشري ماتوا دون أن يطرف جفن العلم ودون أن يمشي في جنازاتهم أحد، وبعضهم مات في السجون أو المنفى أو أقدم على الانتحار.
مع ذلك قررت أن أرى هذين الفيلمين، فأنا أعيش حالة من البحث المرهق عن عمل فني جيد أطرد به القبح والأعمال الهابطة، لقد سافرت غربا وشرقا وشمالا وجنوبا، وفي كل بلد أبحث عن فيلم جيد دون جدوى، ماذا حدث للعالم؟ كيف تطغى الأفلام الأمريكية على سطح الشاشة الكبيرة والصغيرة بهذا الإسهال المريض؟ حتى مدينة باريس التي كانت تزهو باستقلالها الفني أصبحت أفلامها أمريكية أبطالها رعاة البقر، ومدينة لندن الأكثر رصانة غرقت أسواقها بأفلام بطلاتها العاريات يمسكن المسدسات، ومدينة القاهرة أصبحت كأنما هي مدينة أخرى لا أكاد أعرفها تغطي جدرانها الأفلام الأمريكية أو المصرية، لا أكاد أعرف هذه من تلك، فالكل يدور حول قصص غارقة في الخيال، أو في دخان المخدرات، وبطلات لا هم لهن إلا الرجال، ورجال لا هم لهن إلا النساء! أتكون هذه هي حياة الملايين من الرجال أو النساء أمثالي أنا؟
تذكرت أنني رأيت فيلما منذ سنوات أخرجه داود عبد السيد، وقررت المجازفة والخروج من بيتي إلى الشارع، والسير على القدمين حتى السينما التي تعرض فيلم أرض الخوف، لن أتحدث عن الشارع وما فيه وما خرق أذني من كلمات السباب، تنطلق من أفواه الصبية الجالسين على المقاهي، أو السائرين على الأرصفة، كيف يعاكسون البنات في الطريق، السافرات والمحجبات على قدم المساواة، الشابات والكهلات من مثلاتي، صفعت رجلا على وجهه حاول مغازلتي، وشتمت ولدا يركب دراجة حاول أن يدهسني، كدت أعود إلى البيت، لكني واصلت السير، إن التحدي يجري في دمائي منذ الطفولة، ولن أتراجع عن هدفي مهما صادفني من مشاق. (2) خلال رؤية الفيلم
دفعت خمسة وعشرين جنيها ثمن التذكرة، كدت أردها وأسترد أموالي، كيف تتضاعف الأسعار بهذا الشكل ؟ وهي سيما عادية، المقاعد فيها عادية، والبراغيث أيضا عادية، والجمهور عادي، أغلبه من الشباب والصبيان، إلى جواري فتاة ترتدي الحجاب يحوطها رجل بذراعه ويقبلها في الظلمة.
وظهر أحمد زكي، له وجه مصري صميم وذكورة واضحة تقليدية، الرجولة المتحفزة للدفاع عن نفسها في أي لحظة، التي تتصور أن ما امرأة في العالم إلا وتسقط بين ذراعيه هياما وعشقا، لكن المخرج داود عبد السيد استطاع أن يقلم قليلا من أظافر هذه الرجولة، رأيت مشاهد تفيض بالحنان والرقة حين يتعامل أحمد زكي مع النساء، حتى تلك المرأة التي عاشرها لمدة ليلة واحدة، بمقدم الصداق ثم طلقها في اليوم التالي بمؤخر الصداق، والتي أحبته دون أن تعرفه، وبكت بالدموع لأنه سيفارقها، كيف أحبته في ليلة واحدة؟ أهي الرجولة الفتاكة؟! وتلك المرأة الأخرى الفنانة المستقلة التي تترك بابها مفتوحا فيدخل أحمد زكي فإذا بها تقع صرعى الحب من أول نظرة، وتلك الأخرى والأخرى، نماذج من النساء فوق الشاشة المصرية والأمريكية، نساء يتلاشى استقلالهن في لحظة خاطفة أمام نظرة ذكورية مقتحمة من نوع نظرات أحمد زكي، لم تظهر امرأة واحدة في الفيلم بشخصية أخرى غير تقليدية، وهذا عيب عام في الأفلام المصرية والأمريكية على حد سواء، فالرجل تتغير شخصيته مع تغير الصراع الذي يعيشه مع النظام الحاكم في الدولة، لكن المرأة هي المرأة ولا شيء يشغلها إلا الرجل، وإن كانت فنانة مبدعة مثل بطلة الفيلم.
يدور فيلم أرض الخوف حول موضوع هام وخطير، وقد نجح داود عبد السيد في تصويره، من خلال قصة تقليدية، أحمد زكي ضابط بوليس يتلقى أمرا من رئيسه، أن يسعى لاكتشاف أوكار تجار المخدرات متنكرا في شخصية أخرى مثلهم، يؤدي أحمد زكي يمين الطاعة والولاء من أجل خدمة الوطن وإنقاذ الشباب من براثن المخدرات، لكنها مهمة شاقة خطيرة يؤديها مدى الحياة، فلا طريق للعودة، ولا أمل في الخلاص، لقد صدر الأمر الأعلى وانتهى الأمر، عليه أن يؤدي دورا شريرا أشبه بدور إبليس، وهو إنسان لا يحب الشر، قلبه دافئ يحن إلى الحب والحياة الآمنة المستقرة، لكن الدور الشيطاني قد فرض عليه بقرار أعلى، كالمصير المحتوم يؤدي المهمة، يحاول التمرد أحيانا من شدة التعب إلا أنه لا يملك حياته، فالقرار بيد سلطة كبرى لا يكاد يعرفها ولا يصل إليها مهما سعى، إنه مثل البطل في قصص فرانز كافكا، الإنسان المحكوم عليه دون أن يعرف من أصدر الحكم، لكن الحكم ينفذ، كيف يكون الإنسان قشة في مهب الريح، أداة في يد الجهاز السلطوي الأكبر، جهاز غامض الوجوه والأسماء، كل شيء فيه مجهول، جو المخابرات العامة والمباحث، الوجوه المتنكرة ذات الأقنعة تتحرك كالعرائس الممسوكة من أعلى المسرح بخيوط غير مرئية، لكنها خيوط قوية متينة تربط الإنسان بمصيره الأبدي حتى الموت مقتولا أو قاتلا، أو مهاجرا متنكرا، مطاردا.
هذا هو حال أحمد زكي في الفيلم، وقد أدى الدور ببراعة وإتقان، أصبح تاجر مخدرات ناجحا، لكنه لم يفقد قلبه الدافئ والحنين إلى الحب الجميل والصدق والحرية، وكلها تبدو كالأحلام المستحيلة، مثل أحلام إبليس حين أراد أن يعلن التوبة، لكن الإرادة الإلهية الأعلى لم تقبل توبته، وإلا كيف يعيش الناس بدون شيطان؟!
لقد تجاوز داود عبد السيد في هذا الفيلم بعض الحدود المفروضة على الفكر الإنساني - على الأقل في بلادنا - تذكرت وأنا أشهد الفيلم قصة قصيرة لتوفيق الحكيم، تدور القصة حول مأساة إبليس حين قرر أن يتوب عن الشر، وذهب إلى الأنبياء جميعا، واحدا وراء الآخر، يطلب منهم التوسط بينه وبين الإله الأعلى من أجل أن يقبل توبته، تنتهي القصة كما انتهى فيلم أرض الخوف، أن إبليس يظل إبليس بالأمر ولا سبيل إلى الخلاص، إنه القضاء والقدر الذي لا راد له.
لكنها في الفيلم إرادة عليا أخرى ليست دينية، إرادة الدولة، أو إرادة الجهاز الأكبر في الدولة الذي أصدر القرار، المخابرات.
في نهاية الفيلم يدور الحوار بين أحمد زكي ورئيسه، يتمرد أحمد زكي (إبليس) على رئيسه ويصفعه ويركله يود أن يقتله، لكن ماذا يفيد ذلك، فهناك رئيس آخر فوق هذا الرئيس، وهناك فوق ذلك رئيس آخر، ولا يمكن لأحد أن يصل إلى قمة الهرم فهي تختفي وراء السحاب كما تختفي الآلهة.
يكشف الفيلم في مواقف متعددة عن كيف تتعاون الشرطة مع تجار المخدرات وكيف يتاجر الرجل في المخدرات، ثم يركع ويصلي لله يطلب التوبة، وكيف يستخدم تاجر المخدرات ورقة الدين ليبرر أعماله، كيف يتزوج المرأة ليلة واحدة فقط ثم يطلقها في اليوم التالي بعد أن يدفع لها المقدم والمؤخر، أي تلاعب بورقة الدين وفكرة التوبة والصلاة ومسح الذنوب أولا بأول.
الفكرة جيدة تكشف الكثير من الزيف في حياتنا السياسية والدينية، أراد لها داود عبد السيد أن تصل إلى قلوب الناس وعقولهم فهل وصلت؟! ربما، وربما لا؛ لأنه كان يمشي بحذر شديد فوق الألغام، لم يشأ أن ينفجر فيه لغم، وكان الإخراج ناعما رقيقا بلا صدمات ولا دم كثير، ولا خدش أصاب أحمد زكي رغم حياته الخطرة، لقد نال كل شيء في الحياة عن طريق الشر، نال المال والنساء، إلا أنه فقد السعادة وراحة البال، مثل إبليس الشقي الذي أصابته لعنة الله إلى الأبد.
أتوقع أن يفوز هذا الفيلم بجائزة في البحرين بسبب الإخراج الناعم المتقن وجاذبية أحمد زكي الشيطانية، ولم لا؟ لقد تمتع إبليس بجاذبية كبيرة لإفساد النساء والرجال، وإلا فلماذا هو بالذات الذي صدر له الأمر الإلهي؟ ولماذا أصبح الإبداع أو الفن يحمل اسم الشيطان؟! ألا نقول «شيطان الفن» أو «شيطان الشعر»؟!
هذا فيلم جيد في السينما المصرية يستحق الرؤية، وهو فيلم طويل ربما يكون أفضل لو تم اختصاره قليلا، وحذفت بعض الأجزاء غير الضرورية والتي تجعل الفيلم مملا أحيانا، خاصة الاستعراض المصنوع لذكورة أحمد زكي وعلاقاته النسائية المتعددة، وتلك المبالغة في إظهار بطولته الخارقة وكأنه طرزان.
لولا هذه الأجزاء لأصبح هذا الفيلم حدثا في تاريخ السينما المصرية.
القاهرة، 19 مارس 2000
عن الحقوق المدنية والسياسية
حقوق الإنسان وأسطورة النظام العالمي الجديد (1) ملاحظة أولى
لاحظت أن عبارة الحقوق المدنية أصبحت تتردد في بعض بلادنا العربية، وخاصة في مصر أو الجزائر أو تونس أو غيرها من البلاد التي تتمتع بشيء مما أطلق عليها «الديمقراطية»، أو مما تسمح بوجود بعض الأحزاب السياسية إلى جانب حزب الحكومة، وأصبحت أفكر في هذه الظاهرة الجديدة التي فرضت نفسها في المؤتمرات والندوات، بل في الأحاديث العادية، إذ ما أن أقابل أحدا من المثقفين في بلادنا، أو تجمعني جلسة ببعضهم حتى أسمع كلمة الحقوق المدنية، والمجتمع المدني أو القوانين المدنية.
بل إنني ذات يوم وأنا أسير في الشارع المجاور لمنزلي استوقفني أحد الجيران، وهو يعمل بمديرية الأمن، ربما مدير أو مدير عام لا أعرف بالضبط، وكان حين يقابلني لا يقرئني السلام إلا نادرا، وقد يحرك رأسه الناحية الأخرى وكأنه لا يعرفني، لكنه هذا الصباح ابتسم في وجهي واستوقفني، وبدأ يشكو من المشاكل والأزمات التي تعاني منها الحكومة والشعب نائم لا يفعل شيئا، واختتم كلامه قائلا: خلاص يا دكتورة الشعب مات وموش عاوز يتحرك.
كنت عائدة لتوي من مكتب البريد لأسجل خطابا، ورفض الموظف تسجيله، وحين سألته لماذا أشار إلى قطعة من «السيلوتيب» ألصقت بها المظروف وقال: هذا ممنوع، وقلت بدهشة: ممنوع ليه؟ قال مش عارف والله، هي دي التعليمات.
وكان علي أن أطوف المكتبات في الجيزة باحثة عن زجاجة صمغ ألصق بها المظروف بدلا من «السيلوتيب»، ولكن الصمغ كان مثل الماء وقلت لنفسي: حتى الصمغ مغشوش، وأجهدت عقلي في البحث عن أسباب منع تسجيل خطاب بالبريد لمجرد أنه مغلق بقطعة من «السيلوتيب» وليس الصمغ العادي، ولم أصل إلى شيء، وكلما أسأل واحدا من موظفي البريد يرد علي قائلا: مش عارف والله لكن هي دي التعليمات.
كنت عائدة لتوي من مكتب البريد بعد أن ضاع مني نصف الصباح في البحث عن زجاجة صمغ غير مغشوشة، وفي تسجيل الخطاب، وما أن سمعت مدير الأمن يقول إن الشعب مات حتى قلت على الفور: طبيعي كان لازم يموت.
كنت أشعر في تلك اللحظة أن جميع حقوقي المدنية والإنسانية تنتهك كل يوم حين أحاول ممارسة الأعمال الضرورية في الحياة؛ مثل تسجيل خطاب أو تجديد رخصة القيادة أو جواز السفر، أو دفع فاتورة الكهرباء أو التليفون، أو أي عمل آخر يتطلب علي الدخول إلى مكتب من مكاتب الحكومة، أشعر كأنني عدت فجأة إلى عهود العبودية، أو أنني مثل ذبابة سقطت في عش العنكبوت، وأن التعليمات أو اللوائح أو القوانين بلا عقل وبلا منطق إلا السيطرة العمياء والرقابة الأكثر غباء، فالمفروض أن «السيلوتيب» لا يمنع الرقيب من فتح الخطابات؛ بل إنه أسهل في الفتح، ولا يترك أثرا واضحا، كالصمغ العادي الذي لا يفتح عادة إلا بتمزيق المظروف، أو بواسطة بخار الماء، وقد عرفت هذه الحقيقة فيما بعد من مدير الأمن الذي ابتسم في وجهي ذلك الصباح، وقال إن الشعب قد مات. (2) التجربة الذاتية والموضوعية
سألت نفسي وأنا جالسة إلى المكتب أفكر في هذه الورقة المطلوبة مني عن الحقوق المدنية، هل أكتب شيئا عن تجربتي الذاتية، أم أدخل في الموضوع مباشرة كما يفعل أساتذة الجامعات أو البحوث الأكاديمية؟
لكن نزعتي الأدبية أو الروائية تغلب دائما، وتؤكد لي أن الذات جزء من الموضوع.
وفي الثقافة العربية مبدأ يقول: ابدأ بنفسك، وفاقد الشيء لا يعطيه، وإذا كنت أريد التحدث للآخرين عن حقوقهم المدنية، فهل أنسى حقوقي أنا؟
وباختصار شديد يمكن أن أقول إن جميع حقوقي المدنية قد انتهكت تماما منذ الولادة، وفي جميع مراحل العمر حتى اليوم.
حين ولدت واكتشفت الناس من حولي نوع الجنس الذي أنتمي إليه تبددت الفرحة وعلا الوجوه الوجوم والهم، وقبل أن تنتهي مرحلة طفولتي كاد جدي لأمي أن يزوجني لرجل يكبرني بثلاثين عاما لأنه يملك ثلاثين فدانا، وفي الشارع أو الأتوبيس كانت عيون الرجال وأيديهم تنتهك حقوقي المدنية، وفي المدرسة والجامعة كان المدرسون يفرضون علي الحفظ دون الفهم أو الجدل والنقاش، وفي الزواج كان علي أن أخضع لسيطرة الزوج المطلقة أو الطلاق، وفي عملي داخل الحكومة كان علي أن أطيع المدير أو الوزير بلا نقاش وإلا الاضطهاد والطرد، وفي الكتابة والنشر كان علي ألا أمس المحظورات أو الموروثات منذ آلاف السنين، وألا أقترب من قريب أو بعيد من قمة السلطة الهرمية ، أو فرعون الأكبر، وإلا فالعقاب معروف ومكتوب في القانون أو غير مكتوب، مجرد إشارة تليفونية تحملني العربة المصفحة إلى السجن.
حين أعود بذاكرتي إلى الوراء أندهش كيف مررت بكل هذه التجارب، وكيف انتهكت حقوقي المدنية دون أن أنتمي إلى حزب سياسي أو أدخل حلبة الصراع على السلطة، ولمجرد رغبتي الطبيعية في الانتماء إلى الجنس البشري وممارسة حقي الأول كإنسانة لها عقل تود التعبير عنه. (3) نموذج من الحياة الواقعية الحالية
حين جلست لأكتب هذه الورقة، وكان ذلك في أوائل أكتوبر الماضي دق جرس التليفون، وجاءني صوت أحد المحامين المتطوعين في القضية المرفوعة في مجلس الدولة ضد وزارة الشئون الاجتماعية؛ بسبب صدور قرار إداري في يونيو الماضي بحل جمعية تضامن المرأة ومصادرة أموالها، وتحويلها إلى جمعية أخرى اسمها نساء الإسلام.
وقال لي المحامي بصوته الواثق: سنكسب القضية يا دكتورة في الجلسة الأولى 31 أكتوبر 1991؛ لأن قرار الحل صدر بلا أسباب وبلا تحقيق وبلا حكم قضائي، وهذا انتهاك لجميع الحقوق المدنية، وانتهاك للدستور التي تنص المادة رقم 66 منه على أنه لا يجوز فرض عقوبة دون حكم قضائي.
وتفاءلت أخيرا وبدأت أكتب الورقة، لكن جرس التليفون دق مرة أخرى وجاءني صوت محام آخر متطوع في القضية نفسها، وقال بصوته المخضرم العجوز: لن نكسب القضية في الجلسة الأولى ولا الجلسة العاشرة، إن مثل هذه القضايا في مجلس الدولة تستغرق الشهور والسنين، وقد نخسر القضية في النهاية؛ لأن المادة رقم 96 من قانون الجمعيات رقم 32 لعام 1964 تمنح وزير الشئون الاجتماعية سلطة أكبر من سلطة رجال الضبطية القضائية، الذين لا يملكون حق مصادرة الأموال إلا بأمر من النيابة العمومية، أو في حالة التلبس بجريمة قتل أو جريمة مخدرات.
وتساءلت بدهشة: فين الحقوق المدنية؟
وقال المحامي ساخرا: حقوق مدنية إيه يا دكتورة؟ إن وزارة الشئون الاجتماعية وهي الجهة الأساسية المعنية بالحقوق المدنية للشعب تسلب هذه الحقوق من الشعب بواسطة قانون الجمعيات، اقرئي المادة رقم 97 من هذا القانون، فهي تنص على الحبس مع الأشغال الشاقة لكل من أنشأ أو نظم أو أدار جمعية تدعو إلى مناهضة نظام الحكم، أو الحض على كراهيته! حتى الكراهية يا دكتور غير مطلوبة، وعليك أن تفتحي قلبك لحب نظام الحكم!
وقلت لنفسي: إذا كان هذا هو حال الحقوق المدنية في مصر، فما بال تلك البلاد العربية التي لا تعرف شيئا اسمه حقوق مدنية، ولا يسمح فيها للرجال بتكوين الجمعيات أو المؤسسات الشعبية لحل مشاكلهم، ولا يسمح فيها للنساء بالخروج من البيت للاشتراك في الجمعيات أو الأنشطة المدنية العامة أو حتى مجرد قيادة سيارة؟ (4) ما الفرق بين الحقوق المدنية والحقوق السياسية؟!
منذ ولدت وأنا أسمع كلمة الحقوق السياسية تردد من حولي، ثم عرفت حين كبرت قليلا أنني محرومة من هذه الحقوق؛ لأنني أنتمي إلى جنس آخر، وأن النساء يطالبن بهذه الحقوق من خلال الجمعيات النسائية، وأن هذه الحقوق تتعلق بحق الترشيح والانتخابات في البرلمان، وفي عام 1956 حصلت النساء في مصر على هذه الحقوق، وحدث أيضا في عدد من البلاد العربية فيما عدا بعض البلاد العربية في الخليج العربي، حيث لا تزال النساء محرومة من التصويت في البرلمان.
وفي بلادنا العربية نشأ مفهوم الحقوق السياسية بمعناها المعاصر المتعلق بدخول البرلمان أو الأحزاب السياسية، والحكم نتيجة الصراع بين الحركات الوطنية والقوى الاستعمارية الخارجية وأعوانها من الحكومات الدكتاتورية المحلية.
وقد سيطرت نخبة المثقفين من الرجال على الحركات الوطنية في بلادنا بحكم النظام الطبقي الأبوي؛ الذي أبعد النساء والفلاحين والعمال والفقراء عن النشاط السياسي.
وتنتمي هذه النخبة في معظم الأحيان إلى الطبقات أو الشرائح العليا أو الوسطى الرأسمالية بجذورها الإقطاعية أو القبلية أو العائلية، وبالتالي كانت نظرتها إلى الحقوق السياسية محدودة بحدود مصالحها التي تساعد على الوصول إلى الحكم بأسرع الطرق وأقصرها، وهو طريق الانتخابات للبرلمان، وتكوين الأحزاب السياسية وإصدار الصحف، بمعنى آخر الليبرالية التي تشبه في بعض الوجوه الليبرالية في البلاد الصناعية الرأسمالية في الغرب، ولم تهتم هذه الطبقة المثقفة بحقوق الطبقات والفئات الأخرى في المجتمع كالنساء والشباب والفقراء والأجراء في الريف والمدن، والتي كانت تمكنهم لو حصلوا عليها من المشاركة معهم في الحكم، وفي تسيير شئون البلاد وشئونهم الخاصة، وتغيير المجتمع، وبناء المؤسسات الشعبية التي تساعد على هذا التغيير؛ أي خلق الأدوات والمنظمات التي تسمح لهم بالحصول على حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والإعلامية وغيرها.
لكن الحقوق السياسية ظلت مقصورة على الشريحة العليا الصغيرة في المجتمع، وأطلق عليهم اسم رجال السياسة أو الساسة أو القيادات، وسقطت الأغلبية الساحقة من الرجال والنساء تحت اسم آخر مثل الناس العاديين أو المدنيين أو القطاع المدني.
ومن هنا جاء اصطلاح الحقوق المدنية، وهي الحقوق السياسية التي حرمت منها الملايين أو أغلبية الرجال والنساء والشباب؛ لأنها تنطبق على ذلك القطاع المدني أو القواعد المحرومة من المشاركة السياسية الحقيقية.
وأصبحت الحقوق المدنية هي التي تعطي هذه الفئات والطبقات الشعبية قدرا من الحرية يساعدها على التغيير في بناء المجتمع وتطويره من داخل مؤسساتها، ثقافية كانت أو اقتصادية أو اجتماعية، والتي تخرج عن نطاق الأحزاب السياسية والبرلمان ومؤسسات الحكم التشريعية والتنفيذية والقضائية. (5) السلطة الرابعة
هذه هي السلطات التقليدية الثلاث للحكم، وقد أضيف إليها في عصرنا الحديث سلطة رابعة هي الصحافة والإعلام.
وتمثل هذه السلطة الرابعة تطويرا خطيرا في سيطرة المؤسسات الحكومية على عقول الناس، سواء في بلادنا أو في العالم أجمع.
لقد دخل «التليفزيون» إلى كل بيت في القرى والمدن، وأصبح لأي سلطة مركزية محليا وعالميا أن تتحكم في عقول ونفوس الملايين من البشر، رجالا ونساء، شبابا وأطفالا، ويمكن عن طريق احتكار وسائل الإعلام الإلكترونية أن تغير العقول أو تغسلها تماما، وتملؤها بالأفكار المزيفة والحقائق المعكوسة مما يخدم مصالح القلة الحاكمة محليا وحلفائهم في الخارج.
في بلادنا العربية لا يمكن للقطاع المدني أن تكون له قناة تلفزيون خاصة غير تلك التي تملكها الحكومة، ولا يمكن أن تكون له محطة راديو غير تلك التي تملكها المؤسسات الحاكمة.
كذلك الصحف الكبرى والمجلات ودور النشر الكبيرة لا تزال كلها مؤسسات حكومية، وتعمل وزارات الثقافة مثل وزارات الإعلام مثل وزارات الشئون الاجتماعية والداخلية على الرقابة والتحكم في البشر أكثر مما تعمل على نشر الثقافة الحقيقية، التي لا تتحقق إلا بتبادل الأفكار وحرية الجدل والنقاش.
وقد حاولنا أن نصدر مجلة المرأة «نون» عن جمعية تضامن المرأة، لكن قانون الصحافة في مصر وقف لنا بالمرصاد، وجاءنا خطاب رسمي من المجلس الأعلى للصحافة بتاريخ 13 مارس 1989 برفض الترخيص للمجلة لعدم توافر الشروط القانونية التي تستلزمها الفقرة الثانية من المادة 19 من القانون رقم 148 لسنة 1980 بشأن سلطة الصحافة.
وهكذا يحرم القطاع المدني في مصر من وسائل تبادل الرأي أو الثقافة عن طريق عدم القدرة على إصدار المجلات إلا لمن يملكون السلطة والأموال.
أما الجدل في الأمور السياسية فهو ممنوع أيضا عن القطاع المدني في مصر، إذ ينص البند رقم 3 من لائحة النظام الأساسي للجمعيات «أنه لا يجوز للهيئة أن تجادل في الأمور السياسية أو العقائد الدينية»، وقد أرسلت إلينا وزارة الشئون الاجتماعية خطابا رسميا في 22 نوفمبر 1990 يؤكد لنا هذا المعنى على شكل تحذير أو إنذار.
وكنا قد رأينا في جمعية تضامن المرأة على أن نربط بين قضايا المجتمع من النساء بالقضايا الأخرى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية والدينية وغيرها من مجالات الحياة غير المنفصلة في الواقع والحقيقة، وأدركنا أن هذا الربط «شرط ضروري» للوعي بحقوق النساء والرجال على حد سواء، خاصة ذلك القطاع الذي يطلق عليه اسم القطاع المدني. (6) أهمية الحقوق المدنية اليوم
رغم خطأ الفصل بين الحقوق المدنية والحقوق السياسية إلا أنها ذات أهمية بالغة في المرحلة الحالية؛ لأنها يمكن أن تتيح للمدنيين من الرجال والنساء فرض تنظيم أنفسهم داخل الجمعيات والمؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ويمكنها - رغم القيود الحالية - أن تغلب دورها السياسي وتقلل من احتكار السلطة بواسطة رجال الحكم والأحزاب والساسة ورجال الصحافة والإعلام.
وربما تستطيع أيضا في بعض البلاد العربية المتقدمة نسبيا، والتي تسمح بتعدد الأحزاب أن تغير طبيعة هذه الأحزاب ونظام الحكم والبرلمان، وبالتالي تحقيق الديمقراطية عن طريق المشاركة الأوسع لجميع فئات الشعب من القاعدة إلى القمة. (7) علاقة الثقافة العربية بالحقوق المدنية والسياسية
لا يمكن للإنسان أن يمارس حقوقه دون أن تكون له إرادة قوية واعية بهذه الحقوق والمسئوليات، وقدرة على تحقيقها من خلال حركته الفردية والجماعية داخل المؤسسات التي يعمل فيها أو ينظمها مع غيره من الناس.
لكن هذه البديهية غائبة تماما أو مغيبة في المؤسسات الثقافية والتعليمية الرسمية، وفي الأحزاب السياسية أيضا حتى المتقدمة منها الواعية بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للناس، فإن الثقافة ظلت بعيدة، منفصلة وهامشية.
وقد أدت الحقوق السياسية دون الحقوق المدنية والثقافية الحقيقية إلى ديمقراطية شكلية، أبعدت أغلبية الرجال والنساء عن المشاركة الحقيقية في السياسة أو الحكم أو الثقافة أو غيرها.
وأفرزت هذه الديمقراطية الشكلية في بلادنا رجالا أقل ثقافة وأقل ذكاء على الدوام؛ بسبب انشغالهم الدائم في الصراع حول السلطة ولعبة السياسة والانتخابات، لكنهم كانوا دائما أكثر قدرة من غيرهم على الصعود إلى مقاعد الحكم ومراكز السلطة وصنع القرار، بسبب قدرتهم الاقتصادية ونفوذهم الاجتماعي والسياسي الناتج عن سوء توزيع السلطة والثروة في البلاد.
وترتبط مشكلة الثقافة في بلادنا العربية بمشكلة السلطة الحاكمة المستبدة غير المؤمنة بالحرية أو الديمقراطية الحقيقية، والتي تعتبر الثقافة والإعلام من شئونها الخاصة تفرض من خلالها أفكارها على الناس.
وهكذا تنتشر القيم الأبوية الطبقة، الإقطاعية، أو القبلية، أو الرأسمالية، أو الاشتراكية القائمة على الدكتاتورية، أو التسلط البيروقراطي أو التستر تحت شعارات دينية لفرض الطاعة لأولي الأمر، والولاء للملك أو الحاكم، ووضع الحجاب على العقول والرءوس واعتبار المعارض للسلطة خارجا على القانون أو مسيئا للوطن، وفرض سيطرة الرجل داخل الأسرة على النساء والأبناء والبنات. (8) الحقوق الدينية ومشكلة التربية
تتعاون السلطة المطلقة في الدولة مع السلطة المطلقة للرجل داخل العائلة على قتل أي مبادرة أو نشاط، أو حقوق للملايين من النساء والرجال والشباب.
ويعتبر النظام الطبقي الأبوي وما يفرزه من قيم وأفكار داخل الأسرة وخارجها معاديا للحقوق المدنية للنساء والشباب والأطفال؛ لأنه يصادر حرياتهم، ويخضعهم لسلطة الفرد الواحد أو الرأي الواحد في الدولة، ولسلطة الأب المطلقة في البيت أو الزوج، ويغرس فيهم منذ الطفولة مفهوم مركزية القرار والطاعة والخوف من الجدل، وبالتالي يقضي على بذور الحرية أو الديمقراطية، ويقتل فكرة الحقوق المدنية في مهدها، فلا يمكن لمن تربى على الطاعة والخوف أن يمارس الجدل والشجاعة بقرار إداري.
ولهذا تتحول الديمقراطية في بلادنا العربية والحقوق المدنية إلى مجرد حبر على ورق، أو كلام في الخطب تحت قبة البرلمان. (9) بعض خصائص الثقافة العربية
تتميز الثقافة العربية الشعبية المتوارثة عبر الأجيال شفهيا بأنها أكثر إنسانية وأكثر مرونة وحرية، من الثقافة المكتوبة في سجلات المؤسسات الرسمية والمدارس الحكومية.
وفي الثقافة الشعبية الشفهية مفهوم للدين الإسلامي أكثر حرية وإنسانية من المفهوم الرسمي الحكومي، الذي يدرس الدين للتلاميذ على أنه نصوص تحفظ عن ظهر قلب وطاعة ولا تقبل الجدل.
وتتسم الثقافة الرسمية بالجمود والثبات، لكن الثقافة الشعبية الشفهية متغيرة لأنها غير ثابتة في الكتب، ولأن الشعب العادي يستطيع دائما أن يطور تفكيره وفقا لاحتياجات حياته العملية المتغيرة؛ ولهذا فهو أكثر مرونة من حكامه.
وكانت جدتي لأبي امرأة ريفية فقيرة لا تعرف القراءة، لم تذهب إلى المدرسة، ولم تقرأ القرآن، وكنت أسمعها تقول: ربنا هو العدل عرفوه بالعقل، وقد أثرت هذه الثقافة الأولية في تفكيري، وأدركت أن الله هو العدل، وليس نصوصا تتنازع على تفسيرها المؤسسات الدينية والتيارات السياسية المتصارعة على الحكم.
وتساعد الثقافة الشعبية على أن يكون كل رجل وكل امرأة - وإن كانت لا تعرف القراءة ولا الكتابة - مشاركة في إنتاج الثقافة، فالثقافة هي تبادل الرأي والخبرة والمعرفة بشئون الحياة، وفي هذا المجال تتفوق الثقافة الشعبية، لكن هذه الثقافة الشفهية غير المكتوبة تنقرض على الدوام، وتحل محلها الثقافة الرسمية المكتوبة، المفروضة من أعلى بلا حوار ولا جدل، والتي تحول الأغلبية الساحقة من الرجال والنساء إلى مستمعين فحسب أو متفرجين، أو مستهلكين للثقافة لا يشاركون في إنتاجها، ولا يملكون وسائل المشاركة فيها.
إن الثقافة العربية السائدة في معظم بلادنا لا تسود من موقع التبادل في الرأي أو الحرية أو القدرة على الإقناع؛ بل من موقع القهر السياسي والاقتصادي، واحتكار جميع أجهزة الإعلام والثقافة.
وفي التراث الثقافي الإسلامي مدرستان، واحدة رسمية تفرض القيود على العقل ، والأخرى معارضة تقاوم القيود، وتتبنى الأفكار المرنة المتحررة مثل: «لا إكراه في الدين»، «فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر»، وإذا تعارض النص مع المصلحة غلبت المصلحة على النص لأن النص ثابت، والمصلحة متغيرة، وأن الناس سواسية كأسنان المشط، وخلقناكم من نفس واحدة ذكر وأنثى، وأن الله هو العدل والحق، وداخل كل إنسان قبس من روح الله، وإن كان امرأة فقيرة أو رجلا أجيرا، والشريعة من وضع البشر، ومصدر القوانين العقل والمصلحة وليس الدين، والإمامية عقد يتم برضاء الناس وينفسخ بإرادتهم، والشورى ملزمة وليست معلمة فحسب، والإنسان سيد نفسه وله عقل يرشده، ومقارعة الحجة بالحجة وليس بالسيف، والتعددية في الآراء أو الاختلاف سنة من سنن الكون، وإقامة المجتمع المدني، وفصل الدين عن الدولة ضرورة «أنتم أعلم بشئون دنياكم»، وكان الشيخ محمد عبده في بداية هذا القرن ينادي بالمجتمع المدني والحقوق المدنية للنساء والرجال.
لكن هذه المدرسة الثقافية حوربت على الدوام من جانب المؤسسات الحاكمة في بلادنا العربية، وطغت المدرسة الدينية الرسمية التي فرضت الموت على المرتدين والكفرة، وقدست النص المكتوب لذاته، واختارت من النصوص ما يلائم مصالحها، وجعلت الحاكم مندوب الله على الأرض، وحاربت التعددية والمعارضة والمبادرات الجماهيرية للمشاركة في الحكم، وحرمت التجديد والإبداع، من أبدع فينا فليس منا، كل بدعة ضلالة، ونشرت الأفكار التي تشجع القدرية والسلبية وترك الأمور لأولي الأمر، باعتبار أن الخير يأتي من فوق على شكل هبة أو منحة من الحاكم أو علاوة، والأرزاق بيد الله، يعطي من يشاء بغير حساب، وبالتالي لا دور للناس في تحسين أوضاعهم الاقتصادية أو المشاركة في الحكم لإعادة توزيع السلطة والثروة، وتشجيع فكرة إذا بليتم فاستتروا، واستخدامها في غير موضعها، من أجل تشجيع إخفاء العيوب والانغلاق على النفس، وعدم إباحة المكاشفة أو الصراحة أو النقد للأخطاء، وخاصة أحكام الحكام. (10) الازدواجية وفصل السلطة عن المسئولية
تحرم الثقافة العربية الرسمية الكشف عن أخطاء الحاكم أو نقده في حياته وبعد موته أيضا، اذكروا محاسن موتاكم، ولا داعي لنبش القبور، وهكذا يعيش الحاكم ويموت دون أن يحاسبه الناس عن أخطائه.
والمفروض أن المسئولية تزداد بازدياد السلطة، لكن العكس هو الصحيح في بلادنا العربية، إذ تقل المسئولية بازدياد السلطة حتى تنعدم المحاسبة تماما عند القمة حيث يتربع الحاكم على العرش، فلا يمكن لأحد أو هيئة أن تحاسبه على الخطأ، بل تخفى الأخطاء تحت وابل من التبريرات، فإن فشلت وانكشف الخطأ تحت وطأة الأزمة الاقتصادية أو الهزيمة العسكرية يقدم كبش فداء يتلقى العقاب.
وقد روجت الثقافة الرسمية في بلادنا لكلمة «الفداء» وكنا في طفولتنا نغني كل صباح للملك المفدى، واندرجت في مدارسنا كلمة «الولاء» و«الطاعة» ضمن الفضائل، مع أنها بعض الكلمات المتوارثة من النظم العبودية والإقطاعية حين كان العبد أو الأجير يذبح ويقدم قربانا لصاحب الأرض، أو فدية للملك، وكلها موروثات العصور العبودية، التي قلبت القيم الإنسانية الطبيعية رأسا على عقب، واندرجت النساء مع البقر مع العبيد في قائمة الأشياء وليس البشر، وأصبحت «العبودية» مرادفة لكلمة «الولاء» والاستكانة للذل فضيلة، ومحاولة إصلاح الحكم رذيلة أو شذوذ أو نوع من الجنون.
وأصبحت المعرفة إثما، يعاقب عليه الإنسان كما عوقبت حواء في العصر العبودي الأول حين مدت يدها إلى شجرة المعرفة. (11) التيارات الدينية المتطرفة
بالرغم من أن الثقافة الإسلامية في أصولها الأولى لا تعرف شيئا عن شجرة المعرفة، فالقرآن لم يذكر في قصة آدم إلا كلمة الشجرة فقط دون أن يسميها، وحاول بعض المفسرين الأوائل تخمين نوع الشجرة، وقال بعضهم إنها شجرة تين أو عنب أو فاكهة أخرى، لكن القرآن لم يذكر أنها شجرة المعرفة كما جاء في التوراة، وبالتالي فإن تأثيم المعرفة لم يعرف في التراث الإسلامي بمثل ما عرف في التراث المسيحي واليهودي.
لكن المشكلة ليست في الدين، وإنما في الأنظمة السياسية والمؤسسات الحاكمة المستبدة التي تستخدم الدين وسيلة لتحريم المعرفة أو الوعي، وضرب القوى الشعبية المدنية أو السياسية، الأخرى، التي تحاول إعادة توزيع السلطة والثروة في البلاد بشكل أقل ظلما أو إجحافا بالأغلبية الساحقة من الناس.
لقد أدت المؤسسات الحاكمة المستبدة في بلادنا العربية بصفة عامة إلى هذه النتائج الخمس: (1)
مزيد من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. (2)
ازدياد الهوة بين الأثرياء والفقراء. (3)
مزيد من التبعية للقوى الاستعمارية الغربية. (4)
مزيد من التيارات الدينية المتطرفة. (5)
مزيد من الشعارات عن الديمقراطية والحقوق السياسية والمدنية وحقوق الإنسان.
وهذه النتائج الخمس مترابطة كالحلقات في سلسلة واحدة، وقد يحدث التناقض بين الواحدة والأخرى، كالتناقض الذي يحدث أحيانا بين المؤسسات الحاكمة والتيارات الدينية المتطرفة أو المعتدلة نسبيا، تحاول كل منها ضرب الأخرى، إلا أنها فترات مؤقتة، حين تتعارض المصالح، وسرعان ما يعود التعاون علنا أو سرا، ذلك أن العوامل التي تجمعها أكثر من العوامل التي تفرقها، وعلى رأسها الميل للاستبداد بالرأي ومركزية السلطة وقدسية الحاكم أو الأمير، وسيطرة فرد على الجماعة، وإخضاع النساء للذكور في الأسرة. (12) ملاحظة أخيرة
في ختام هذه الورقة عادت إلى صورة مدير الأمن الذي ابتسم في وجهي على غير العادة ذات صباح، وأخذ يشكو من سلبية الشعب، وعدم تحركه للتعاون مع الحكومة في حل المشاكل والأزمات الاقتصادية والاجتماعية الملحة، ومنها مشكلة الفتنة الطائفية وانتشار التيارات الدينية المتطرفة، وقال لي بالحرف الواحد: خلاص الشعب مات.
وأدركت أن المؤسسات الحاكمة في بلادنا تريد من الشعب أن يتحرك ويحل المشاكل التي عجزت عن حلها، لكنها في الوقت نفسه تخشى إن تحرك الشعب ألا يكتفي بحل المشاكل فحسب، ولكنه يحاول القضاء على أسباب هذه المشاكل، وأولها هذه المؤسسات الحاكمة ذاتها.
ومن هنا ذلك التناقض بين الشعارات المرفوعة عن الديمقراطية والحقوق المدنية وتشجيع مبادرة الجماهير، وتلك القيود المكتوبة وغير المكتوبة التي تقيد حركة الجماهير.
وتذكرت أن بعد أحداث الفتنة الطائفية في أبي قرقاص منذ عامين أن اجتمع في مقر تضامن المرأة ما يزيد عن المائة وخمسين من المثقفين في مصر، رجالا ونساء مسلمين وأقباطا، وشرعنا في تكوين جمعية لمحاربة الفتنة الطائفية سميناها جمعية الوحدة الوطنية.
لكن وزارة الشئون الاجتماعية رفضت إشهار هذه الجمعية، وتعرض بعض أعضائها الذين نشطوا لمطاردة رجال الأمن.
كنت أنوي إنهاء الورقة عند هذه الفقرة، لولا أنني تذكرت الابتسامة التي رأيتها ذلك الصباح على وجه مدير الأمن، لقد أدركت بعد أن تأملتها أكثر أنها كانت ابتسامة متناقضة، لم تشمل إلا بعض عضلات الفم، لكن ملامح الوجه كانت جامدة، وصوته كان أشد جمودا وهو يقول بغضب: خلاص الشعب مات!
وكأنما الشعب هو المسئول عن موت نفسه، أو كأنما أن المسئولة عن موت الشعب وليس هو، أو المؤسسة الحاكمة!
المرأة في الألفية الجديدة
(1) وجهان لنظام عالمي واحد
تتحكم القوة الدولية الرأسمالية الأبوية في حياتنا من خلال حكوماتنا المحلية؛ التي تبطش بنا في أي وقت نمثل فيه خطورة عليها أو على استقرار النظام الحاكم.
إننا نعيش في أمان نسبي أو في خطورة نسبية حسب قدرتنا على تغيير النظام الحاكم، ولا يمكن فصل النظام الدولي عن المحلي، ولا يمكن فصل ما سمي العالم الثالث، فنحن نعيش في عالم واحد يتحكم فيه سياسيا واقتصاديا وعسكريا 447 رجلا يملكون أكثر مما يملكه نص سكان العالم.
أصبحت قلة قليلة من الرجال يعيش معظمهم في الولايات المتحدة الأمريكية يملكون ويتحكمون في المال والسلاح والإعلام، هذا الثالوث القادر على قتل البشر جسديا وعقليا ونفسيا، ويتضاعف نصيب النساء والفقراء من هذا القتل الجماعي الذي نشهده كل يوم، خاصة في بلادنا الأفريقية والعربية.
إن القوة هي التي تحكم دوليا ومحليا وليس العدل، وليس الله - إن كان مفهوم الله هو العدل - لكن الحكام في عصر العولمة الحديث أو ما بعد الحديث لا يمكن أن يستمروا في الحكم دون الاستعانة بالله أو الأديان، حتى تظن الأغلبية من النساء والرجال المقهورين أن هذا القهر، وهذا الفقر، وهذا الموت إنما هو حكمة الله، أو إرادة الله، وليست إرادة حفنة قليلة من الملياردارات الأمريكيين والأوروبيين.
إن هذه الظاهرة الجديدة التي يسمونها التيارات الأصولية الدينية ليست جديدة، بل هي جزء من التاريخ البشري منذ نشوء النظام العبودي، أو ما يسمى النظام الطبقي الأبوي، وهي الوجه الآخر للظاهرة التي أطلق عليها وصف العولمة.
إن هذه الظاهرة التي يسمونها العولمة، والتي توصف بأنها جديدة ليست جديدة بل هي جزء من التاريخ البشري منذ نشوء الاستعمار، أو بلغة أصح «الاستخراب»، وكلمة الاستعمار مضللة؛ لأنها مشتقة من الفعل استعمر، أو ما يؤدي إلى العمار أو العمران، وفي حين أن الكلمة الملائمة هي «الاستخراب»؛ لأن الاستعمار الأوروبي والأمريكي القديم والجديد قد جلب الفقر والخراب لبلادنا الأفريقية والعربية وليس العمار.
لكنها اللغة المضللة التي يستخدمها الغزاة دائما حتى لا يكتشف أهل البلاد الخدعة، ويتصورون أن هؤلاء الغزاة قد جاءوا لحمايتهم وليس لتدميرهم.
جاء الاحتلال البريطاني لمصر عام 1882 باسم «الحماية»، وتضرب الصواريخ الأمريكية اليوم الشعب العراقي باسم حمايته أو حماية جيرانه من خطر الحاكم في العراق، وقد تم تدمير قوة الشعب العراقي ماديا ونفسيا منذ حرب الخليج عام 1991، وتم هذا التدمير تحت اسم تحرير الكويت، في حين أنه لم يكن هدفه سوى اغتصاب البترول، واحتلال بلاد الخليج عسكريا واقتصاديا.
هل يتغير الاستعمار الجديد (الاستخراب الجديد) في القرن الواحد والعشرين عنه في القرن العشرين؟ ربما يكتسب مهارات خداعية أكبر مع التقدم المطرد في تكنولوجيا السلاح والإعلام، ربما يحتاج أكثر إلى الله والأديان والروحانيات حتى لا يدرك النساء والرجال ما يحدث لهم من كوارث اقتصادية وعسكرية.
لهذا لا أتوقع شيئا إيجابيا من القوى الاستعمارية في العالم ومؤسساتها الاقتصادية مثل الشركات المتعددة الجنسيات أو البنك الدولي أو صندوق النقد، أو تلك الاتفاقات الدولية التي تتم تحت أسماء خادعة مثل التنمية أو التعاون أو الإصلاح الاقتصادي أو الإصلاح الهيكلي، بل أتوقع مزيدا من الكوارث والحروب الاقتصادية والعسكرية، ومزيدا من الدمار الشامل والإبادة الجماعية للفقراء والضعفاء من النساء والأطفال والعجائز في بلادنا خاصة.
لكني أدرك أيضا أن العنف يولد العنف، وأن ليس من السهل قتل البشر دون أن يهبوا للدفاع عن أنفسهم، وقد أدرك الناس في بلادنا أن العدو أصبح عالميا ومحليا، وأن النضال لا بد وأن يكون عالميا ومحليا أيضا.
لم يعد العالمي منفصلا عن المحلي، وهذه واحدة من الإيجابيات، أصبحنا نعيش في عالم واحد، بل في قرية واحدة بفضل التطور التكنولوجي الهائل لوسائل الاتصال، ويمكن لسكان هذه القرية في الشمال والجنوب والشرق والغرب أن يتواصلوا ويتجمعوا وينظموا صفوفهم من أجل النضال ضد الظلم والجوع والموت.
ربما لهذا السبب أشعر بالتفاؤل رغم الردة التي نعيشها في كافة مجالات الحياة، رغم هذا الفقر الذي يصيب النساء أكثر من الرجال، حتى أصبح اصطلاح «تأنيث الفقر» كأنما هو سمة عصر العولمة ما بعد الحديث.
مع ازدياد نسبة البطالة تطرد النساء من سوق العمل قبل الرجال، خاصة مجالات العمل ذات الأجور المرتفعة، والتي تتطلب مهارات خاصة، أما الأعمال الدنيا ذات الأجور المنخفضة، والتي لا تتوافر فيها أية ضمانات نقابية أو صحية أو قانونية فإن أعداد النساء تزداد فيها عن الرجال، كذلك الأعمال التي بلا أجر على الإطلاق؛ مثل الأعمال المنزلية فتقوم بها النساء اللائي يحملن لقب زوجة أو ربة بيت أو أم، هذه الفئة من النساء يتعرضن لاضطهاد اقتصادي أكثر من خدم وخادمات البيوت الذين يتقاضون أجورا على أعمالهم.
في مصر أصبحت أجور الخدم في البيوت أعلى من الأجور التي يحصل عليها خريجو الجامعات والمعاهد العليا، لقد زادت البطالة بين حاملي الشهادات العليا، وفقد التعليم الجامعي قيمته في ظل قيم السوق والتجارة والمكسب المالي السريع أو تراكم رأس المال، ولأن السوق هي عصب النظام الرأسمالي أو عصر العولمة فإن تشجيع الاستهلاك مطلوب لتصريف البضائع، ويلعب الإعلام دوره التضليلي لتصبح النساء أدوات استهلاكية لشراء منتجات لا يحتجن إليها، منها أدوات الزينة والتجميل والزخرفة، ويتزايد الفهم المفرط بين الطبقات الوسطى والعليا في الأكل واللبس والجنس والمكيفات والسجائر والخمور والمخدرات والمنبهات.
لم ينتبه علماء الاقتصاد، ومنهم الماركسيون أو الاشتراكيون إلى دور النساء في الأعمال خارج نطاق العمل الرسمي، مثل الفلاحات وربات البيوت، ولم يكن كافيا إضافة هؤلاء النساء إلى قوة العمل المنتج؛ بل لا بد من تغيير مفهوم العمل، وإلغاء فكرة تقسيم العمل على أساس الجنس.
إن التقدم التكنولوجي قد ساعد على خلق أنواع جديدة من العمل الإنتاجي الذي يتم داخل البيوت، أصبحت المرأة ربة البيت قادرة على كسب بعض المال من عملها الإنتاجي دون أن تخرج من بيتها، وسوف يساعد هذا التغيير على تسهيل الحياة نسبيا، خاصة للأسر المهاجرة والطبقات الفقيرة.
إلا أن الهوة بين الطبقات تزداد بمثل ما تزداد التفرقة بين الجنسين، ومع ازدياد الفقر وازدياد تصاعد التيارات الدينية المحافظة أصبحت المرأة ضحية التمزق بين تيارين متضادين في الظاهر فقط؛ لكنهما وجهان لنظام واحد، التيار الديني الذي يدفعها إلى التحجب والعزلة في البيت، والتيار الاستهلاكي الانفتاحي الذي يدفعها إلى الشراء والمتعة والجنس والتزين، بل والدعارة أيضا.
إن انتشار الدعارة والتجارة بالجنس والنساء (خاصة الفتيات والشابات الصغيرات) قد أصبحت ظاهرة عالمية وعملية، واضحة وسافرة، أو مستترة تحت أنواع جديدة من الزواج، التي انتشرت في بلادنا في السنين الأخيرة، مثل الزواج العرفي وزواج المسيار وغيرهما.
ترتكز العولمة والسوق الدولية في مكاسبهما على التجارة في السلاح والدعارة والمخدرات وأدوات الزينة ووسائل الترفيه والإعلام والأفلام القائمة على الجنس والجريمة، كما ترتكز على الازدواجية والكيل بمكيالين في كل شيء، سواء كان في السياسة الدولية أو في الحياة الجنسية الخاصة داخل الأسرة؛ لهذا السبب يحتاج نظام العولمة ما بعد الحديث إلى الأديان؛ إذ ترتكز الأديان على الازدواجية نفسها التي ترتكز عليها العولمة، فهناك مقاييس أخلاقية واجتماعية واقتصادية وقانونية خاصة بالرجال، ومقاييس أخرى خاصة للنساء، وهناك تفرقة بين الناس على أساس الطبقة، وتأكيد على أن الله خلق الناس درجات وطبقات بعضها فوق بعض، وجعل الرجال قوامين على النساء.
تتغلغل القيم الطبقية الأبوية في صلب الأديان وفي صلب النظام العالمي والمحلي، وليس هناك ما يدل على حدوث تغيير كبير في القرن القادم، ما لم تنهض النساء للدفاع عن حقوقهن وتنظيم أنفسهن محليا ودوليا.
لقد خربت حركات تحرير المرأة في بلادنا وفي معظم بلاد العالم؛ بسبب ما حدث من ردة اقتصادية وثقافية وإعلامية، ولم تعد الأغلال والقيود مرئية، بل أصبحت داخل عقل الإنسان - المرأة أو الرجل - بسبب عمليات تزييف الوعي المستمرة من خلال أجهزة التعليم والإعلام. (2) مشكلة الإعلام والتعليم
في مصر تمتلك الحكومة أجهزة الإعلام بالكامل، خاصة الراديو والتلفزيون، معظم الصحف الكبرى تملكها الحكومة أيضا، هناك بعض صحف معارضة إلا أنها معارضة في نطاق محدود إن خرجت عنها فهي مهددة بالإغلاق، كما حدث عند معارضتنا لحرب الخليج، ولأننا انتهجنا سياسة نسائية تحريرية تختلف عن سياسة الحكومة.
لقد سيطر الإعلام الأمريكي على كثير من بلاد العالم، منها بلادنا العربية والأفريقية، يلعب الإعلام الرسمي في بلادنا الدور نفسه في تلهية الناس عن مشاكلهم الحقيقية.
وكم ينشغل الناس في بلادنا بالحكايات الجنسية التافهة للرؤساء والأميرات والأمراء، لقد طغت أخبار الأميرة ديانا والحكايات عن كلينتون ومونيكا على أخبار الشعوب التي تقتل بالآلاف في بلادنا بسبب الحروب العسكرية والاقتصادية المستمرة.
وقد أصبح الإعلام الرسمي في بلادنا يشجع الفكر الديني المحافظ منذ السبعينيات وحتى اليوم، أصبح نجوم التلفزيون من رجال الدين، والمشايخ الذين يروجون الدعوة إلى تحجب النساء، رغم إغراق الناس بالإعلانات الجنسية الفاضحة لترويج البضائع الأجنبية أو المنتجة محليا تحت سيطرة الشركات المتعددة الجنسيات.
ويلعب الإعلام الأمريكي والدولي دوره لمساندة الردة الدينية والسياسية التي تخدم مصالح السوق والعولمة، وتضر بمصالح النساء ورجال من الشعوب خاصة في بلاد الجنوب أو بلادنا.
في جريدة لوس أنجلوس تايمز (الصادرة في 5 يناير 1999) نشر موضوع يدعم المدارس الخاصة للبنات التي أنشأتها الحكومة في بلادنا مؤخرا، أبرزت الجريدة رأي المسئولين في وزارة التعليم، ومنهم من أعلن أن البنات في هذه المدارس الجديدة يتلقين دروسا مضيئة تتمشى مع دور المرأة في الحياة، ومنها تنظيم الأسرة والصحة والنظافة والحفاظ على البيئة ومنع ختان الإناث، والخياطة، والطبخ وحفظ الأطعمة ... إلخ، وأن تدريس هذه المواد للتلميذات يعتبر خطوة متقدمة حسب قول الجريدة:
It has helped mould a good citizen who can be the mother of future generation of Egyptian.
هكذا تحدث الردة التعليمية وتكريس فكرة تقسيم العمل على أساس الجنس تحت اسم «الأمومة».
رغم هذا التمجيد الخادع للأمومة فإن حقوق الأم أصبحت تتناقص حتى في وزارة التعليم ذاتها، وفي مايو 1998 أصدرت هذه الوزارة قرارها رقم 242 بحرمان الأمهات من حق عضوية الجمعية العمومية لأولياء أمور التلاميذ والتلميذات في المدارس القومية، وأصبح هذا الحق قاصرا فقط على الآباء بعد أن كان يشمل الآباء والأمهات معا.
إلا أن الجريدة الأمريكية لم تذكر شيئا عن هذا، بل راحت تمجد فكرة تدريس مواد خاصة للبنات تحت اسم «الأمومة»، وتؤيد فكرة إنشاء مدارس خاصة للتلميذات بحجة أن الآباء يرفضون إرسال بناتهم إلى المدارس العادية خوفا من الاختلاط.
لكن حسن الإحصاءات الرسمية في مصر فإن نسبة البنات في المدارس الحكومية المختلطة تزيد عن 46٪ من جملة عدد التلاميذ والتلميذات، ومن المعروف أن الاختلاط داخل المدارس لا يشكل خطورة على البنات بسبب الرقابة المدرسية المستمرة، كما أن الاختلاط يحدث في الشوارع والمواصلات العامة والمحلات والأسواق، وكل مكان إلا أن الأفكار المحافظة التي تشجع التفرقة بين الجنسين قد انتشرت منذ السبعينيات، في ظل حكم السادات، الذي شجع تصاعد القوى الدينية والسياسية المحافظة لضرب القوى الناصرية والاشتراكية، وبدأت ظاهرة الحجاب تنتشر بين تلميذات المدارس والجامعات.
حين كنت تلميذة بالمدرسة الثانوية منذ نصف قرن (1948) لم يكن في مدرستي تلميذة واحدة ترتدي الحجاب أو تلف شعرها بإيشارب.
اليوم (في فبراير 1999) إن تصادف مروري بمدرسة ثانوية للبنات أثناء خروج التلميذات فإني أرى مشهدا غريبا، مئات أو آلاف التلميذات مرتديات الحجاب أو الإيشارب حول رءوسهن.
تخدم العولمة والقوى الاستعمارية الجديدة هذا الاتجاه المعادي لتحرير نصف المجتمع من النساء، والمعادي أيضا لتحرير النصف الآخر من الرجال، إلا أن القيود على الرجال ليست مرئية مثل حجاب الرأس للنساء، ذلك أن «حجاب العقل» أشد خطورة ولا يرى بالعين، كما أن تغير السياسة الاقتصادية في البلاد وإخضاع الاقتصاد المحلي لمصالح الاقتصاد العالمي، وتعرض النساء لهذا الاستغلال أيضا مثل الرجال، بالإضافة إلى الاستغلال الخاص الواقع على المرأة لمجرد أنها امرأة. (3) ضرب حركات النساء والفكر النسائي المتقدم
لقد ضربت حركات النساء التحريرية في العالم، ومنها الحركة النسائية الأمريكية، خرجت أجيال جديدة من النساء يتنكرن لحركة أمهاتهن وجداتهن، صدرت كتب بأقلام نساء يمجدون الأمومة والعودة إلى دور المرأة الطبيعي لخدمة الأطفال والأسرة، وقد ترجمت بعض هذه الكتب إلى اللغة العربية في السنين الأخيرة، رحب بها الرجال في بلادنا من العلماء وأطباء النفس، وما يطلق عليهم المثقفون أشادوا بهؤلاء الكاتبات الأمريكيات الجديدات اللائي عدن إلى الله والطبيعة الأنثوية بعد الانحراف عنها في الحركات النسوية المتطرفة الشاذة التي انتشرت خلال القرن العشرين.
وفي مصر فإن 20٪ على الأقل من العائلات تعولها نساء؛ أي أن المرأة تقوم بالدورين معا: الأمومة والأبوة، ولا أحد يعترض على ذلك، بل تشجع المرأة على الإنفاق على الأسرة والعمل خارج البيت بأجر، وبشرط ألا تقصر في واجباتها المنزلية.
أكثر القوانين ظلما للمرأة في بلادنا هو قانون الزواج، تتحول الزوجة في ظل هذا القانون إلى قاصر، يملك زوجها حق الولاية عليها حسب مبدأ الاحتباس؛ أي للزوج الحق في حبس زوجته بالمنزل، وعدم التصريح لها بالخروج إلى عملها، أو السفر خارج البلاد، أو استخراج جواز سفر.
وقد أجاز القانون المصري للمرأة أن تعمل خارج البيت بإذن زوجها، وبشرط ألا يؤدي عملها إلى تقصيرها في أداء واجباتها المنزلية، ومنها رعاية شئون الزوج والبيت والأطفال.
على هذا يمكن للمرأة المصرية أن تخرج للعمل بشرطين اثنين: (1)
أن يسمح زوجها بذلك. (2)
أن تجمع بين عملها خارج البيت وعملها داخل البيت.
إلا أن الزوجة المصرية التي تعمل بأجر يمكنها أن تتحرر من قانون الاحتباس بالإنفاق على نفسها وأطفالها والاستغناء عن نفقة الزوج؛ لأن القانون يعطي الرجال حق الاحتباس مقابل النفقة، كما يمكن للزوجة أن تطلق زوجها عن طريق مبدأ الخلع في القانون إن تنازلت عن حقها في النفقة ومؤخر الصداق، المشكلة التي يصعب حلها إذن تتعلق بالنساء اللائي يعملن بدون أجر واللائي يعشن عالة على أزواجهن وفي حاجة إلى نفقتهم، وبالتالي يشكل الطلاق بالنسبة لهن مشكلة اقتصادية واجتماعية؛ ولهذا تعيش معظم النساء الفقيرات خاصة المسلمات منهن في خوف دائم من الطلاق.
لا يزال الطلاق بالنسبة للزوج المسلم أمرا سهلا يكفي أن يقول لزوجته أنت طالق، فإن طلاقه يقع، سواء جاءت عبارة الطلاق عبر أسلاك التليفون أو أرسلها الزوج إلى زوجته في شريط كاسيت أو شريط فيديو، وبغض النظر عما إذا كان الزوج جادا في إيقاع الطلاق أم هازلا، وذلك حسب الحديث النبوي: «ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والعتاق.»
نشرت هذه المعلومات في أكبر جريدة مصرية رسمية (الأهرام في 20 نوفمبر 1998) وبلسان المستشار نائب رئيس هيئة قضايا الدولة.
إلا أن نضال النساء المصريات ضد هذه القوانين لا يزال مستمرا حتى اليوم - رغم العقبات التي توضع في طريقهن - وهناك مكاسب حققتها النساء عبر السنين، وقد استطاعت قوة النساء الواعيات أن تخفف من وطأة الظلم الواقع على النساء خاصة الفقيرات منهن، اللائي يتعرضن لمخاطر متعددة منها الاغتصاب الجنسي، وكانت الفتاة ضحية الاغتصاب هي التي تعاقب لأنها هي التي تفقد غشاء البكارة أو الشرف، أما الرجل فهو لا يفقد شيئا لأن ليس له غشاء بكارة.
بعد نضال طويل ضد هذا المفهوم القاصر للشرف بدأت السلطة السياسية والدينية في مصر تغير موقفها لتحمي هؤلاء الضحايا من الفتيات، خاصة بعد أن تزايد عددهن في السنين الأخيرة مع تزايد الفقر والبطالة وعدم قدرة أغلب الشباب على الزواج أو تأسيس أسرة وبيت.
لقد أصدر مفتي الديار المصرية مؤخرا بعض الفتاوى لصالح ضحايا الاغتصاب، منها حق الفتاة الحامل منهن في الإجهاض (قبل أن يكمل الجنين 120 يوما داخل الرحم)، وإلغاء المادة 291 من قانون العقوبات التي كانت تطلق سراح المغتصب وتسقط عنه التهمة نهائيا إذا تزوج من الضحية.
ولا تزال الضغوط النسائية مستمرة لانتزاع الحقوق المسلوبة منهن، ومنها عدم حق الأم المصرية في إعطاء اسمها أو جنسيتها لأطفالها، وعدم أحقية المرأة في تولي منصب القاضي، وولاية الزوج على زوجته وغير ذلك من الأمور.
إلا أن القوى السياسية والدينية المسيطرة تضع العقبات أمام حركات تحرير المرأة في بلادنا، وتوجه إليها الضربات الواضحة أو المستترة.
وفي الولايات المتحدة الأمريكية أصابت الردة النساء أيضا؛ بسبب تصاعد القوى المسيحية المحافظة.
ملخص لورقة عن المرأة في الألفية الجديدة 2002
الفتاة الفلسطينية التي تتحدى الحكومات العربية
قرأت اسمها في الصحف الصادرة في نيويورك يوم 30 مارس 2002، وصورتها التي ذكرتني بالملامح العربية العريقة الجذابة، والعينين السوداوين الخارقتين في قوتهما لمعاقل الكذب الدولي والعربي، ونفاق الحكومات في الغرب والشرق، اسمها كما قرأته بالإنجليزية آيات أو حياة الأخرس، عمرها ثمانية عشر عاما، فجرت نفسها وماتت شهيدة الوطن والعدل والحرية والسلام الحقيقي، وليس المزيف الذي يلوكونه كل يوم، قتلت معها اثنين فقط من الجنود الإسرائيليين (أو ربما اثنين من المدنيين في السوق في مدينة القدس)، وجرح ثلاثون شخصا كما قالت الصحف الأمريكية.
وكنت مثلها تماما، رغم أنني أعيش هذه الأيام في نيويورك وليس فلسطين، لكني أحلم كل ليلة أنني فجرت نفسي في معقل الجيش الإسرائيلي، وقتلت معي الجيش كله وليس اثنين فقط.
ويعلن جورج بوش وأعوانه أن هذا هو الإرهاب الفلسطيني الذي يفسد مسيرة السلام، أي مسيرة، وأي سلام أيها القتلة في إسرائيل وأمريكا؟ أهو سلام السيد شارون القائم على الظلم واحتلال الأراضي وإقامة المستوطنات؟ أهو السلام المبني على إبادة الشعب الفلسطيني حتى يتحول إلى حفنة من اللاجئين الخاضعين لمنطق القوة العسكرية الباطشة؟
أليس الموت أفضل من الإهانة المتكررة كل يوم، كل ساعة، كل دقيقة؟ ألا يفعل ياسر عرفات وغيره من القيادات العربية ما فعلته آيات أو حياة الأخرس؟ أن يلفوا حول أجسادهم المفرقعات ويموتون فداء الوطن بدلا من إدلاء الخطب والبيانات؟ بدلا من ضرب الشباب والشابات العربيات اللائي يرغبن في السفر إلى رام الله وتفجير أنفسهن هناك في مواجهة الجيش الإسرائيلي!
لو أن الحكومات العربية بما فيها الحكومة المصرية فتحت أبوابها ليخرج الشباب والشابات إلى فلسطين للدفاع عنها ضد الدبابات الإسرائيلية؟
وقد تركت حياة الأخرس شريط تسجيل تقول فيه: أيتها القيادات العربية أتواصلون الفرجة علينا، ونحن النساء نقاوم العدوان الإسرائيلي؟ ألا تخجلون؟
حين تصل الثورة الشعبية إلى النساء والبنات؛ فلا بد أن ينتصر الشعب على أقوى قوة في العالم وإن كانت نووية! (1) أوقفوا مسيرة القتل والموت
وتغلى الدماء في عروقي إلى حد الانفجار، أكاد أنفجر أو أخطف قنبلة أو طائرة وألقي بها على رأس هؤلاء الذين يقلبون الأوضاع، الذين يتعامون عن الحقيقة الواقعة، الذين يصرحون في الصحف الأمريكية أن مشكلة العنف والدماء المراقة كل يوم في الأرض المحتلة وقطاع غزة تقع على عاتق الفلسطينيين، أما إسرائيل الدولة المحتلة التي تدك البيوت وتقتل الشباب والنساء والأطفال بالدبابات فهي بريئة؛ لأنها تدافع عن نفسها في مواجهة الإرهاب الفلسطيني! أوليس هذا هو الكذب أو الجنون؟!
ويعقد الطلبة والطالبات اجتماعهم في اللجنة الثورية ضد الحرب، جيش الاحتلال في إسرائيل يهدم البيوت بالدبابات ويقتل النساء والأطفال والشباب، وحكومتنا الأمريكية برئاسة جورج بوش تلقي اللوم على الفلسطينيين، إنهم يلومون الضحية أيها الزملاء والزميلات؛ لأنهم خائفون من «اللوبي اليهودي» هنا في نيويورك وفي جميع الولايات الأمريكية، إنهم حريصون على «أصوات اليهود» في الانتخابات؛ ولهذا يقلبون الحقائق ويكذبون، ونحن نشاركهم هذه الجريمة، هذه المؤامرة لإبادة الشعب الفلسطيني صاحب الأرض وصاحب الحق في دولة مستقلة حرة مثل غيره من الشعوب، ما جدوى هذه الاجتماعات والخطب والكلام؟ علينا أن نفعل شيئا!
وصاح طالب من الصفوف الخلفية يرتدي الكوفية الفلسطينية: علينا أن نسافر إلى فلسطين، نسافر إلى رام الله أيها الزملاء كما سافر إليها ستمائة شاب من فرنسا من الفلاحين والعمال والطلبة، ذهبوا إلى رام الله ليواجهوا الدبابات الإسرائيلية بأجسادهم، ويناضلون مع الأطفال الفلسطينيين ضد الاحتلال الأجنبي والاستعمار، هيا أيها، الشباب الأمريكي، تحركوا إلى رام الله!
وصاح طالب آخر واسمه «جورج» وهو طالب عندي في فصل الإبداع والتمرد: ولماذا نسافر إلى رام الله يا زميل، وليس معنا سلاح ولا دبابات ولا قنابل ولا طائرات حربية، الأفضل أن نجمع أنفسنا بالآلاف ونحاصر البيت الأبيض في واشنطن هنا في بلدنا، إن حكومتنا في واشنطن هي التي تحارب الشعب الفلسطيني، وهي التي تشجع إسرائيل على إبادة هذا الشعب الفلسطيني في بداية القرن العشرين، وأقاموا دولة دينية عنصرية هي إسرائيل، أنا من أصل يهودي أيها الزملاء والزميلات، وقد هاجر جدي من ألمانيا النازية بسبب العنصرية؛ ولهذا أرفض أي دولة عنصرية قائمة على الدين أو العرق أو أي عنصر آخر، علينا أن نجمع ألف طالب وطالبة، ونركب القطار إلى واشنطن ونحاصر البيت الأبيض!
وبدأت لجنة الطلبة ضد الحرب توزع علينا الإعلان عن المظاهرة الكبيرة في واشنطن يوم 20 أبريل القادم، ستبدأ المظاهرة الساعة العاشرة والنصف صباحا في قاعة مسرح سيلفان، على الجانب الجنوبي الغربي لتمثال واشنطن التذكاري، سيبدأ الاجتماع الساعة الحادية عشرة صباحا، ثم تتحرك المظاهرة الساعة الواحدة بعد الظهر إلى الكابيتول مركز الحكومة.
ينظم المظاهرة عدد من المنظمات الشبابية والعمالية والنسائية في نيويورك وغيرها من المدن، منهم: - الجبهة الطلابية من أجل السلام القائم على العدل. - الجبهة العمالية ضد الحرب. - جبهة النساء الاشتراكيات الراديكاليات. - حزب الخضر في الولايات المتحدة الأمريكية. - جماعة الشباب من أجل عدالة عالمية. - رابطة الشباب الاشتراكي الديمقراطي. - جمعية الطبقة العاملة في مدينة نيويورك المناهضة للحرب. - جمعية الطلبة المسلمين. - جبهة الشباب المناهضة لتلوث البيئة. - الشبكة الدولية ضد الأسلحة النووية. - جبهة نيويورك ونيوجيرسي من أجل عالم عادل ديمقراطي. - الاتحاد الدولي ضد العولمة والمؤسسات الرأسمالية. - الرابطة النسائية الدولية من أجل السلام والحرية والعدل.
ولا يتسع المجال لذكر الهيئات الأمريكية والدولية المشاركة في هذه المظاهرة في واشنطن (يوم 20 أبريل 2002) لإيقاف الحرب داخل أمريكا وخارجها، في أفغانستان، وفلسطين، والعراق، والصومال، وكوريا، وغيرها وغيرها من الحروب في جميع أنحاء العالم، ومن أجل ماذا كل هذه الحروب؟ من أجل جشع حفنة من التجار في الشركات الرأسمالية ومنظمة التجارة العالمية والبنك الدولي؟!
في مظاهرة واشنطن 20 أبريل 2002 سنطالب الحكومة الأمريكية بالآتي: (1)
إيقاف حرب «بوش» داخل أمريكا وخارجها. (2)
توجيه الأموال التي ندفعها من عرقنا (على شكل ضرائب) لإصلاح حال التعليم والصحة والسكن وتوفير فرص العمل للعاطلين وليس للحرب والسلاح. (3)
إيقاف صرف أموالنا الموجهة للتسليح والحروب والبحوث العسكرية. (4)
إيقاف الاضطهاد العنصري داخل أمريكا وخارجها تحت اسم الدين أو اللون أو العرق أو الجنسية أو الجنس أو غيرها. (5)
الدفاع عن حقوق المهاجرين ومساواتهم بالآخرين في الحقوق والواجبات، وتعديل القوانين لتحقيق العدالة بين المهاجرين والسكان الأصليين. (6)
المساواة بين المواطنين جميعا، بصرف النظر عن الجنس أو اللون أو العرق أو العقيدة أو الدين، وتحقيق العدالة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والجنسية لجميع الأفراد دون أي تفرقة بينهم. (7)
إيقاف الأموال التي وجهها إدارة جورج بوش لتدعيم الأديان باختلاف أشكالها في المدارس والكنائس والجوامع، وفصل الدين عن الدولة في كل شيء. (8)
إلغاء التعليم الديني في المدارس العامة والخاصة، بحيث ينشأ الأطفال بروح إنسانية عالية خالية من التعصب والعنصرية.
وينشط الطلبة والطالبات في توزيع هذا الإعلان عن المسيرة الكبيرة في واشنطن، وتسألني إحدى طالباتي في فصل الإبداع الروائي واسمها «كاترين»: «هل تشاركين معنا في مظاهرة واشنطن يا دكتر ساداوي؟» وقلت لها: نعم، بالطبع سأكون معكم في مسيرة واشنطن يوم 20 أبريل القادم، سأغادر بالقطار محطة نيوجيرسي «نيويورك» للسكة الحديدية صباح يوم 17 أبريل، لأشارك في المحكمة الشعبية الدولية للديون التي تعقد في واشنطن يوم 18 أبريل 2002، وهي الجلسة النهائية لهذه المحكمة التي قررنا عقدها في ختام اجتماعاتنا في «بورت أليجري» بالبرازيل يوم 2 فبراير 2002، بعد أن أخطرنا المتهمين (البنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي والحكومات المساندة لهم) بقرار هيئة المحلفين ضد سياساتهم الاقتصادية التي تسبب الديون الخارجية للبلاد الفقيرة في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، كما تسبب الحروب العسكرية أيضا من أجل الاستغلال الاقتصادي ونزف موارد الشعوب الطبيعية، وقالت كاترين: هل يمكنني أن أشهد هذه الجلسة؟
قلت لها: بالطبع، يمكنك الحضور.
وسألتني: وما دورك في هذه المحكمة؟
قلت: أنا واحدة من القضاة الستة الذين تم اختيارهم من شعوب العالم للحكم بشأن مشكلة الديون الخارجية التي تتراكم على كاهل البلاد الفقيرة فيما يسمى العالم الثالث، وقد قلت في مناسبات سابقة أن إلغاء الديون لا يكفي، بل يجب القضاء على «الأسباب» التي تؤدي إلى وجود هذه الديون، وعلى رأسها النظام التجاري العالمي القائم على القوة العسكرية، تحت اسم حرية التجارة، أو حرية السوق، إنها حرية الأقوى ليبطش بالأضعف، وليست الحرية القائمة على العدالة بين الدول أو الأفراد أو الجماعات. (2) قاعة بريخت الثورية
وفي قاعة «بريخت» يتجمع النساء والرجال من أحياء نيويورك الفقيرة، من بروكلين، وهارلم، وكونييير، والبرونكس، ومن مانهاتن السفلى حيث حكام مركز التجارة الدولية وما يسمى اليوم «الأرض زيرو»، ومن مانهاتن العليا أيضا حيث انتشر الفقر بين سكان المدينة كلها في الأجزاء العليا والسفلى من نيويورك، لقد هرب الأثرياء بأموالهم من مدينة نيويورك إلى الضواحي الهادئة الخالية من تلوث الهواء فيما وراء نهر هدسون والنهر الشرقي ، بعيدا عن مظاهرات الشباب والسود والنساء والصفر والحمر وغيرهم وغيرهم، تضاعف أعداد الفقراء والفقيرات في نيويورك وتناقص عدد الأثرياء، فالأموال الرأسمالية تتركز أكثر وأكثر في أيدي الأقل فالأقل من الأفراد والشركات.
وفي قاعة بريخت في الدور العاشر من الشارع رقم 27 في مانهاتن السفلى جلست أستمع إلى الفتاة الأمريكية، وهي تعزف الجيتار وتغني ضد الحرب وضد الفقر والبطالة والعنصرية، اسمها «شارلين ليهي
Sharleen Leahey »، فتاة بيضاء شابة طويلة القامة نحيفة الجسم، وتحتضن الجيتار كالأم تحتضن طفلها الحبيب، وتغني من كلماتها وألحانها أغنية اسمها «اختاروا السلام القائم على العدل» ومن بعض أبياتها الآتي:
تشجعوا يا رفاقي لمقاومة الحرب والعدوان
لمقاومة قتل الأبرياء والأطفال من فلسطين إلى العراق والأرجنتين والبرازيل،
من شوارع نيويورك إلى شوارع واشنطن، دي، سي.
نحن الطلاب والطالبات، والمدرسون وعمال المطافئ، والراهبات في الكنائس، والخادمات والعاملات في المصانع والمطاعم،
نحن نمشي في الشوارع نحمل اللافتات والأحلام.
نحن نحلم بعالم آخر يبنى على العدل وليس الجشع،
ونحن نقول لهؤلاء في مركز القوة والمال والسلاح!
أطفئوا أجهزة الراديو والتليفزيون والإعلام!
استمعوا إلى الأصوات الأخرى غير أصواتكم.
الصمت هو الموت.
الآن لا بد للحق أن ينطق.
في شوارع نيويورك يموت الآلاف؛
بسبب الفقر والبطالة والمخدرات والحزن،
ونحن نقول لكم يا من لا تكنون عن الجشع.
أطفئوا شاشات التليفزيون، واخلعوا عن عقول الناس حجاب الكذب.
أوقفوا سيرة القتل والموت،
استمعوا إلى أصواتنا نغني من أجل الحياة،
كان مارتن لوثر كينج إنسانا شجاعا،
وقف وتكلم عن العدل والحرية.
عارض الحرب في فيتنام، وقال ماذا تفعلون يا حكامنا؟
أتحاولون السيطرة على العالم؟
ألمجرد أنكم تملكون أكبر القنابل؟!
اتركوا الأطفال يعيشون!
اتركوا الأحلام تنمو!
والزهور تزدهر!
اكسروا حاجز الصمت يا رفاق!
يا كل المقهورين في العالم والمقهورات؛
بسبب اللون أو الجنس أو الدين.
دعوا اليأس والحزن.
وهيا معنا على طريق العدل والحرية والسلام. (3) إجهاض الثورة في الأفلام الأمريكية
وقد اخترقت الرصاصات صدر مارتن لوثر كينج وهو يخطب في جماهير نيويورك عام 1968، كما قتل من قبله بثلاث سنوات مالكوم إكس ، في عام 1965، حين كنت طالبة في جامعة كولومبيا في نيويورك، أيقظتني زميلتي الأمريكية ماريون فورر، وهي تصيح: قتلوه يا نوال؟
قلت: من هو؟
قالت: مالكوم إكس.
كان شابا من السود المهرجين البائسين، إلا أن الثورة جذبت، فأصبح أحد قيادتها ضد قهر الزنوج، ومات مقتولا مثل «بياتريس لومومبا» في الكونجو، وقد رأيت الفيلمين عن «مالكوم إكس» وعن «لومومبا»، إلا أن السينما عجزت عن تصوير الدراما الحقيقية لحياة أي منهما، فالواقع أكثر تأثيرا من الخيال، أو ربما لأن السينما الأمريكية لا تزال خاضعة لتأثير هوليود، والإثارة السطحية على حساب الفن الرفيع.
لقد بحثت عن مسرحية أو فيلم يستحق الرؤية في نيويورك، في شارع بروداوي أو الشوارع الأخرى الممدودة خارج برودواي، لم يعد شارع برودواي اليوم هو المكان حيث المسارح والأفلام الجيدة، أصبحت شوارع أخرى كثيرة تنافس بروداوي، حول حي جرينتش وواشنطن سكوير بالقرب من جامعة نيويورك، وحول ميدان التايمز وشارع 42، وغير ذلك من الأماكن الجديدة والقديمة المجددة.
وكم قرأت من الدعايات حول الفيلم بعنوان «عقل جميل»
A beautiful mind
لقد حصل هذا الفيلم على جائزة الأوسكار كأحسن فيلم لعام 2001، وقررت أن أراه، تصورت أنني سأرى فيلما عظيما، إلا أني جلست أكثر من ساعتين أشهد فيلما طويلا مملا رغم أن القصة جيدة، تناول موضوعا هاما، هو: كيف يمرض العقل الذكي الجميل بانفصام الشخصية أو الشيزوفرينيا في مجتمع أمريكي مبني على المال والسلاح والمخابرات؟ بطل الفيلم أستاذ في جامعة كبيرة في نيوجيرسي (برينستون) يتعرض للهلاوس بسبب الخوف من مطاردة المخابرات الأمريكية له، وهو لا يريد أن يبيع عقله الذكي الجميل في سوق المال والسلاح والقهر والجشع الرأسمالي، وكم ضاعت هذه الفكرة الجميلة، وضاع العقل الجميل في فيلم أمريكي قائم على الإثارة السطحية التي تسيطر عليها هوليوود.
نيويورك، مارس 2002 (4) سلاح البترول والمقاطعة
ولماذا لا تستخدم الحكومات العربية سلاح البترول كما استخدم في حرب 1973 وكاد يقلب ميزان الحرب لصالح فلسطين والبلاد العربية؟ وفي القمة العربية الماضية (في بيروت) كان يمكن استخدام سلاح البترول، فلماذا لم يحدث ذلك؟ ومن هي الحكومات أو القوى العربية الحاكمة التي وقفت ضد استخدام سلاح البترول؟!
من هي الحكومات العربية التي وقفت ضد مصالح شعوبها، وخضعت لمصالح الولايات المتحدة وإسرائيل؟!
لكن الشعوب في النهاية قادرة على المقاومة والانتصار، وأمام الشعوب العربية اليوم اختبار كبير لمدى وعيها وقوة إرادتها على الاستمرار وعدم التراجع أمام الغاز المسيل للدموع أو الرصاص المسيل للدماء.
ويمكن للشعوب العربية أن تضرب المصالح الأمريكية الإسرائيلية في بلادنا بالاتحاد والتضامن لمقاطعة جميع البضائع الأمريكية والإسرائيلية في بلادنا، وهذا سلاح في أيدي الناس جميعا، نساء ورجالا، شبابا وشيوخا، أن يمتنع الناس عن شراء البضائع الأمريكية والإسرائيلية، هذه المقاطعة الاقتصادية الجماعية ربما تكون أقوى الأسلحة للقضاء على الهيمنة الاستعمارية الأمريكية، وبالتالي الهيمنة العسكرية والإسرائيلية.
مونت كلير، 7 أبريل 2002
رسالة إلى وزير الصحة
(1) مسئولية وزارة الصحة
لأنك على رأس الوزارة المسئولة عن صحة الناس في بلادنا أكتب هذه الرسالة إليك بصفتك المسئول الأول عما يحدث للأطفال من آلام وجروح تحت اسم الدين أو النظافة أو منع الأمراض، ومنذ أربعين عاما حين طالبت بمنع ختان الإناث بصفتي طبيبة أدرك مخاطر هذه العمليات الجراحية عارضني زملائي في نقابة الأطباء ووزارة الصحة، وتعرضت للهجوم والأذى الكثير من رجال الدين ووزير الصحة حينئذ، وكان لا بد من مرور أربعين عاما حتى تتضح الحقيقة، ويصدر القرار بمنع ختان الإناث منذ عامين.
واليوم تتكرر المأساة إذ أثبتت الحقائق الطبية أن ختان الذكور عملية ضارة لا علاقة لها بالدين أو النظافة أو منع الأمراض، وقد كتبت في هذا الشأن منذ عامين، وصدرت الكتب العلمية التي تنشر هذه الحقائق باللغات الأجنبية والعربية، إلا أن الشعب المصري لا يزال يغذى بالمعلومات الخاطئة عن طريق أجهزة الإعلام والصحافة المصرية؛ التي تنقل عن الصحف الأخرى دون دراسة، كما أن وزارة الصحة لم تتكلم في هذا الموضوع، ولم ترشد الناس إلى مخاطر هذه العمليات - رغم أن بها إدارة كبيرة مهمتها الثقافية الصحية - كما أن نقابة الأطباء لم تلعب دورها المطلوب في مثل هذه القضايا الهامة التي تتعلق بصحة الملايين من الذكور والإناث في بلادنا.
بل إن بعض الأطباء راحوا يرددون المعلومات القديمة والشائعات الجديدة التي تنشرها الصحف عن أن ختان الذكور يمنع مرض الإيدز، وهذه فكرة مغلوطة تروج لها بعض الدوائر السياسية الإسرائيلية الأمريكية، وقد وقعت بعض الصحف المصرية مؤخرا في هذا الخطأ، وراحت تنشر هذه الأكاذيب، وتعيد نشر الأنباء الواردة إليها من الخارج والإسرائيليات القديمة والجديدة دون تفكير أو دراسة.
وفي الوقت الذي تنكر فيه إسرائيل علاقة الدين اليهودي بهذه العمليات الجراحية الضارة، فإنها تحاول أن تلصق ختان الذكور بالدين الإسلامي، كما يحاولون أيضا ادعاء أن هذه العمليات نبعت من مصر القديمة، أو أنها نبعت من أفريقيا، وهذه كلها ادعاءات لا علاقة لها بالتاريخ الصحيح لعمليات ختان الذكور أو الإناث.
فلماذا لا تتصدى وزارة الصحة لهذا الموضوع؛ إنقاذا لصحة الملايين من الأطفال الذكور، كما تصدت لإنقاذ صحة الملايين من الأطفال الإناث، أم إننا ننتظر أربعين عاما أخرى حتى تدرك وزارة الصحة هذا الخطر؟
وقد نشرت جريدة الأهرام، في 4 يوليو 2000، وهي أكبر جريدة في مصر، مقالا في صفحة 31، توقيع محمود القنواتي، تحت عنوان: أبحاث علمية تؤكد ختان الذكور يمنع الإصابة بالإيدز، ونشرت أعلى المقال صورة تقول فيها: هذه نقوش على الحجارة تؤكد أن قدماء المصريين مارسوا ختان الذكور، أكثر من ذلك، لم تذكر الجريدة شيئا عن علاقة الدين اليهودي بختان الذكور، رغم أن هناك نص واضح في التوراة يؤكد على ختان الذكور مقابل أرض كنعان أو فلسطين، بل نسبت الجريدة ختان الذكور إلى الدين الإسلامي فقط، وأنه دعا إلى ختان الذكور منذ أكثر من 1400 عام، رغم أنه لا توجد آية ولا نص واحد في القرآن يدعو إلى ختان الذكور.
بل هناك آيات تؤكد أن الله لا يخلق إلا الكامل،
لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم (التين: 4)، وأعظم علماء الإسلام عارضوا ختان الذكور، وقالوا إنه عادة يهودية وردت في التوراة ولا علاقة لها بالإسلام.
وقد نشرت جريدة «القاهرة» في 13 يونيو 2000 مقالا في الصفحة الأولى تحت عنوان: أحدث مفاجأة علمية: الختان يحمي من الإصابة بالإيدز، ونشرت صحف مصرية أخرى طوال السنين الماضية مثل هذه الأنباء الخاطئة، مثلا نشرت صحيفة عقيدتي في 5 / 9 / 1995 تحت عنوان: وشهد شاهد من أهلها: الختان يمنع الإصابة بالإيدز بقلم د. أحمد شفيق، وفيه يؤكد أن الدوائر الطبية في أوروبا أفادت بأن الختان يمنع الإصابة بالإيدز، وهذا أبلغ رد على من يعارضون الختان، وغرضهم الهجوم على الإسلام الذي يؤكد عملية الختان «للإناث».
ونشرت صحيفة الأمة في 9 / 9 / 1997 مقالا تحت عنوان: الختان يحمي الأنثى من الإيدز، يقول فيه: الدوائر الطبية الغربية توصلت إلى أن الختان يحمي من الإيدز وسرطان العضو الذكر.
هكذا تنشر الصحف المصرية عن الدوائر الغربية هذه الإشاعات تحت اسم الأبحاث العلمية الجديدة، فلماذا لا تتصدى وزارة الصحة وترد على هذه الأكاذيب بالعلم الصحيح لصحة الناس وصحة عقولهم أيضا؟ (2) المعلومات الجديدة الصحيحة
لماذا لا تحاول وزارة الصحة الحصول على المعلومات الطبية والعلمية الجديدة، التي تؤكد على مضار عمليات الختان للذكور والإناث، وتنشرها على الناس في بلادنا من أجل نشر الوعي الصحي السليم؟!
وقد صدرت العديد من النشرات الطبية والكتب بالعربية والإنجليزية التي تناولت هذه المعلومات، ومنها الآتي:
http://www.Noharmm.org
http://www.Nocric.org
http://www.Norm.org
وهناك علماء عرب يعيشون في أوروبا، ويكتبون باللغة العربية والإنجليزية في هذا الموضوع، وعلى سبيل المثال فإن الأستاذ الدكتور سامي الديب هو مسئول القسم العربي بالمعهد السويسري في جنيف، وأصدر عددا من المؤلفات حول مضار ختان الذكور و«الإناث» آخرها الكتاب الذي صدر باللغة العربية عام 1999، وهو كتاب من ثلاثة أجزاء كاملة في هذا الموضوع الهام.
والمطلوب الآن من وزارة الصحة و«نقابة الأطباء» في مصر أن تشكل لجنة من الأطباء والعلماء لدراسة هذه الكتب، وتوصيلها إلى الناس والصحف وأجهزة الإعلام.
يقول الدكتور سامي الديب في كتابه (ص164) الآتي:
بعد إلقائي محاضرة في مؤتمر عن الختان عام 1994 في الولايات المتحدة فوجئت باستلام عدة رسائل من يهود لم يسبق لي التعرف عليهم، وتبين لي أن إحدى المشاركات في ذلك المؤتمر قامت بتوزيع محاضرتي عليهم دون إذني، وبين مراسلي كان رئيس التعليم الطبي في جامعة ابن غوريون الإسرائيلية، واسمه «شيمون جليك» وهو من المؤيدين لختان الذكور، وقد تبادلت معه عدة رسائل حول ختان الذكور، وإحدى تلك الرسائل تضمنت مقالا يدعي أن الختان يقي من مرض الإيدز، شبكها مع ورقة كتب عليها بالإنجليزية عبارة تقول: «إذا أمر الله عمل شيء فلا يمكن لهذا العمل أن يكون مضرا.»
ويوما أرسل لي «برنارد لافري» ناشط يهودي في جنيف رئيس للجنة ضد معاداة السامية، قصاصة من جريدة
Nouvean Quotidien
السويسرية بتاريخ 23 / 8/ 1995 تشير إلى أن ختان الذكور يحمي من مرض الإيدز، وهذا الخبر منقول عن «هيئة الأخبار الفرنسية» التي نقلته عن «يومية الطبيب» الفرنسية، وهذه الأخيرة نقلته عن خبر صادر عن هيئة أخبار أمريكية بتاريخ 23 / 8 / 1995، وقد أبلغت هذا الخبر إلى السيدة «ماريلين مايلوس» رئيسة منظمة
Nocirc
والسيد «تيم هاموند» رئيس منظمة
Noharmm
وهما منظمتان أمريكيتان معاديتان لختان الذكور، وقد ردت السيدة «مارلين مايلوس» بتاريخ 1 / 9 / 1995 ما يلي:
إن مرض الإيدز ليس سببه الغلفة؛ بل الجراثيم التي تنتقل من خلال علاقة جنسية غير سليمة، وقطع الغلفة لم تثبت فائدتها في الوقاية من الإيدز في الولايات المتحدة، حيث أكثر ضحايا هذا الداء هم من المختونين.
إن الحجج الطبية التي استعملت لتبرير واستمرار بتر الأعضاء الجنسية في الغرب كانت دائما تتماشى مع الأمراض المرعبة في الوقت التي استعملت فيه تلك الحجج، وهكذا استعمل الخوف في العادة السرية في أواسط القرن التاسع عشر، ثم استعملت حجة النظافة في بداية القرن العشرين عندما وضعت نظرية الجراثيم، وفي أواسط القرن العشرين أصبحت الحجة الخوف من سرطان القضيب والرحم، وأما اليوم فهم يستخدمون حجة مرض الإيدز كوسيلة لتبرير عادة وحشية، ونحن الذين نعتبر تعسفا ضد الأطفال التشوية الجراحي لأعضائهم دون موافقتهم، يمكننا أن نفهم المقصود من تلك الحجج، فالعار كل العار لمن يستخدم مثل هذه الحجج.
وقد رد تيم هاموند بتاريخ 30 / 8 / 1995 ما يلي:
إن الختان لا يحمي من مرض الإيدز، والإيحاء بأنه يحمي من الإيدز يعتبر رسالة خطيرة للمختونين، تعني أنه في إمكانهم ممارسة الجنس دون اتخاذ الوسائل الكفيلة لحمايتهم من هذا المرض، وأضاف في رسالته بأنه إذا كان صحيحا أن الختان يحمي من الإيدز، فيجب في هذه الحالة ختان كل من الذكور والإناث البالغين.
يقول د. سامي الديب في كتابه: إن ما سبق يوضح أن مؤيدي الختان بين اليهود ومن يساندهم قد وجدوا في الإيدز ضالتهم للدفاع عن ختان الذكور، فحولوا الخوف من الإيدز إلى سلاح للتأثير على الرأي العام، وقد سارعت الصحف المصرية و«العربية» ونقلت هذه الأنباء، كما نقلت في الماضي كثيرا من الإسرائيليات دون أي تحقيق، واعتقدوا أن ختان الذكور والإناث من صحيح الإسلام، وهذا غير صحيح.
إن القرآن المرجع الأساسي للمسلمين ليس فيه آية واحدة تشير إلى ختان الذكور.
الكتاب الوحيد الذي ينص على ختان الذكور هو كتاب التوراة، في الإصحاح السابع عشر (تكوين) يعقد الإله مع النبي إبراهيم عهدا، يقول له: «أقيم عهدي بيني وبين نسلك من بعدك عهدا أبديا، أعطي لك ولنسلك من بعدك أرض غربتك لك أرض كنعان ملكا أبديا، هذا هو عهدي الذي تحفظونه بيني وبينكم، يختن منك كل ذكر، فتختنون في لحم غرلتكم فيكون علامة عهد بيني وبينكم، فيكون عهدي في لحمكم أبديا ... وأما الذكر الأغلف الذي لا يختن في لحم غرلتكم فتقطع تلك النفس من شعبها، إنه قد نكث عهدي.»
هذه هي الكلمات التي جاءت في التوراة، تؤكد لنا أن إله اليهود رفع شعار «الأرض مقابل الختان»، وهو شعار غريب، فما علاقة الاستيلاء على أرض الغير بالقوة المسلحة وختان الذكور؟!
وفي محاضرة لي بجامعة نيويورك العام الماضي سألت هذا السؤال فانسحبت بعض النساء اليهوديات اعتراضا على تساؤلي، وغضبت أخريات، لكن بعض اليهوديات أيدن كلامي وقالت إحداهن: نعم هذا سؤال وارد تماما، وأعتقد أن بعض المؤيدين للصهيونية والاستيلاء على أرض فلسطين، الأرض الموعودة يؤيدون أيضا ختان الذكور، رغم أنهم لا يختنون أطفالهم، لكن يخافون من الاعتراض على ختان الذكور، وبالتالي يسقط حق اليهود في أرض فلسطين، بسبب ترابط الوعد الإلهي بالأرض بختان الذكور.
من هنا ندرك كيف توجه كثير من القوى الإسرائيلية (والأمريكية) بعض البحوث الطبية لإثبات أن ختان الذكور يحمي من السرطان والإيدز؛ تعزيزا للآية في التوراة وتعزيزا للاستيلاء على أرض فلسطين. (3) الجدل الطبي السليم ضد الختان
لماذا لا يتابع الأطباء في بلادنا ما يدور في العالم من أبحاث علمية سليمة تؤكد مضار الختان للذكور والإناث؟! لماذا تسكت وزارة الصحة ونقابة الأطباء كأنما الأمر لا يعنيهما في شيء؟! وأرجو من وزير الصحة أن يطبع كتاب الأستاذ الدكتور سامي الديب، ويوزعه على الأطباء حتى يعرفوا أن ختان الذكور عادة ضارة بالجسم والنفس والمجتمع، وأن ملايين الرجال ليسوا مختنين وليسوا مصابين بالإيدز أو السرطان، وأن نظرية الوقاية من الأمراض بقطع الأعضاء في الطفولة نظرية مناقضة للعقل والصحة والدين الصحيح؛ لأن الله كامل لا يخلق إلا الكامل، وخلقناكم في أحسن تقويم.
يفند الأستاذ الدكتور سامي الديب نظرية الوقاية من مرض الإيدز عن طريق الختان بالأدلة العلمية (ص168) كالآتي:
في نهاية الثمانينيات ادعت بعض الدراسات الأفريقية الصغيرة أن هناك علاقة بين فيروس فقد المناعة والذكر الغير مختون، وقد اغتنم مؤيدو الختان هذه النظرية فقاموا بحملة دعائية بدأت برسالة بعثها طبيب يهودي اسمه «ارون فينك» إلى مجلة طبية عام 1986:
Fink: A
International, release date: October 29, 1986
إلا أن هذا الطبيب أوضح لصحفي بأنه لا يمكنه إثبات هذا الأمر، وهذا الطبيب هو من كبار الداعين لإجراء الختان على جميع الأطفال، وقد سبق وحاول الضغط على جمعية الطب في كاليفورنيا لكي تتبنى مثل هذا البرنامج، وقد فشلت محاولته عام 1987، ولكن نجح في إمرارها عام 1988 بصوت واحد من قبل ممثلي هذه الجمعية دون الرجوع إلى الهيئة العلمية، ولم تكن حجة الإيدز هي الحجة الوحيدة التي حاول إمرارها أمام تلك الجمعية لممارسة ختان الذكور بصورة روتينية، فمثلا لم يتمكن من إمرار قرار بالختان الروتيني كوقاية من مرضين هما
B-streptococcal disease
و
Sand balanitis ، وقد دعم فكرة الختان الروتيني للأطفال بحجة الوقاية من مرض الإيدز عدد من الأطباء أكثرهم، إن لم يكن كلهم، من اليهود
Hodges: A short history, p. 35
نذكر منهم :
Francis A. plummer, J. Neil Simonsen, Stephen Moss, Allan R. Ronald, Joan K. Kreiss.
وقد اعتمد أصحاب هذه النظرية على ملاحظة التوزيع الجغرافي للختان ومرض الإيدز، واستنتجوا أن المناطق التي تمارس الختان أقل عرضة للإصابة بهذا المرض، وقد ارتكزوا على معطيات من نهاية الخمسينيات، وكأن تلك المعطيات أكيدة ولم تتغير، إلا أنهم أهملوا عوامل طبية، مثل وجود أمراض جنسية، كما أهملوا عوامل اجتماعية، مثل العمر الذي تتم فيه العلاقة الجنسية الأولى، ووجود ختان الإناث، نظام تعدد الزوجات، وهذه العوامل قد تلعب دورا في انتشار مرض الإيدز
Van Howe: Neonatal circumcision and HIV infrection pp. 99-100 .
كما أن بعضهم قام بمراقبة مجموعة معينة مثل سائقي الشاحنات، إلا أنهم لم يتأكدوا من أن هؤلاء كانوا مختونين أم لا، معتمدين في فرضياتهم على النسبة الوطنية، كما أنهم لم يأخذوا بالحسبان عوامل أخرى، وبعضهم راقب المترددين على عيادات الأمراض الجنسية مستنتجين أن من كان له غلفة كان أكثر عرضة للأمراض الجنسية، متجاهلين أن الإصابة بقرحة جنسية تلعب دورا أكبر في انتشار الإيدز مع وجود الغلفة أو عدمه، وإحدى تلك الدراسات اعتمدت على مراقبة أشخاص غير مختونين يمارسون الجنس مع مومسات في دولة «كينيا» بأفريقيا، وقد رأت هذه الدراسات أن غير المختونين أكثر عرضة للإصابة بمرض الإيدز من المختونين، ولكن دراسة أخرى بينت أن سبب ارتفاع الإصابة في هذه الحالة هو أن غير المختونين يجدون صعوبة في الزواج؛ بسبب نظرة المجتمع السلبية ضدهم، فيقومون بالبحث عن علاقة جنسية مع المومسات، مما يجعلهم أكثر عرضة لمرض الإيدز.
ويؤخذ على هذه الدراسات أنها فضلت الاعتماد على معطيات أفريقية، بدلا من المعطيات في الولايات المتحدة التي تمارس الختان بشكل واسع، والدراسة الوحيدة التي تمت في هذا البلد حول هذا الموضوع هي تلك التي نشرها «كرايس» عام 1992
Kreiss: Hopkins The association between circumcision
وهذه الدراسة لم تأخذ في حسابها الختان إلا بالدرجة 14 بين العوامل الأخرى مما يبين التحيز للختان بين الباحثين وناشري المجلات العلمية، وقد نسوا أن ارتفاع عدد الإصابات بمرض الإيدز عند غير المختونين هنا قد يكون بسبب تدني الثقافة والحالة الاجتماعية بينهم، فمن المعروف أن الطبقة المتدنية لم يكن في إمكانهم ختان أولادهم، ولم يكن من السهل لهم اللجوء إلى العناية الصحية الروتينية، وهناك ارتفاع عال لمرض الإيدز بين الطبقات المتدنية، وهذه الدراسة التي تريد ربط الختان بالوقاية من مرض الإيدز تفشل في القول إن انتشار هذا المرض إنما هو بسبب التصرف غير السليم في العلاقات الجنسية وتدني مستوى النظافة، وليس في شكل القضيب
Fleiss: An analysis of bia, pp. 393-396 .
وبعض الأبحاث حاولت إعطاء صبغة علمية لاستنتاجها، فقد كتب «جان ماركس» في مجلة
Science
أن وجود غلفة سليمة يخلق محيطا حاميا ورطبا يساعد في بقاء الفيروس حيا ويساعد على دخوله، فالفيروس قصير الحياة في محيط جاف حسب قول باحث فيروس الإيدز «سيمونسون»، وهذا البحث يبين أن بالختان تصبح الحشفة أكثر قسوة، وهذا يحميها من التجرحات الصغيرة خلال العلاقات الجنسية، مما يساعد دخول فيروس الإيدز، كما أن الغلفة في حال بقائها عرضة للصدمات خلال العلاقة الجنسية
Mark: Circumcision may protect against the AIDS virus .
وهذه الفكرة مرتبطة بفكرة أخرى؛ وهي أن الجلد يحتوي على خلايا المناعة تدعى
Langerhans calls
باسم مكتشفها، وقد ادعت دراسة قام بها الدكتور «وايس» بأن بطانة الغلفة تحتوي على قدر قليل من تلك الخلايا مما يضعف استجابتها للمضادات الحيوية، وقد اقترح إجراء الختان في الصغر كوسيلة وقائية، واعتبر إجراء الختان لهذا السبب حق من حقوق الإنسان
Weiss: the distribution and density of langerhans cells,
وهناك دراسة ثانية قام بها «حسين» و«لينير» في نفس الاتجاه
Hussain; Lehner: Comparative investigation .
ويؤخذ على هاتين الدراستين أنهما تمتا على غلف دون موافقة أصحابها، دون استشارة اللجنة الأخلاقية في المستشفى الذي تمت فيه لعمل المراقبة الضرورية حول خلوها من المحاباة، وهاتان الدراستان تمتا على نسيج جلدي ميت، بينما كان أحرى بهما أن تتم على نسيج حي، وحجم العينات صغير لا يسمح في استنتاج سليم، وهي في حقيقتها محاولة لتأكيد موقف مسبق مؤيد للختان (كما هو واضح من الانتماء اليهودي والإسلامي لمؤلفيها) وليس دراسة موضوعية، ويضيف الناقد أن بقطع الغلفة يتم إزالة عدد كبير من خلايا المناعة، أما تأثير الختان على الحشفة وخلايا المناعة فلم يتم دراستها بعد وتتطلب بحثا إضافيا، والمنطق السليم يستنتج أن قطع جزء من جلد الذكر، بالإضافة إلى مضاره الجنسية، يؤدي إلى انتقاص الوقاية، كما في الجلد في أي جزء من الإنسان، هو عضو ذو مناعة، انظر تفصيلا حول هذه النقطة في
cells; Williams: the significance and function of preputial langerhans Cold and Taylor: the prepuce pp. 40-41 .
وتجدر الإشارة إلى أن الدراسات في هذا المجال تقوم على إحصائيات وحسابات معقدة تخلق انطباعا بصرامتها ولكنها لا تخلو من النقد، وقد يؤدي التحقق منها إلى نتائج عكسية، ولا مجال هنا إلى الدخول في متاهات هذه الحسابات، ويقول الدكتور «فان هو» بعد استعراض 36 دراسة من المجلات المحكمة حول علاقة الإيدز بالغلفة، بأن النتائج غير متلائمة، فهناك دراسات أجريت في العيادات التي تداوي الأمراض المنتقلة جنسيا (والتي يلجأ إليها عادة الطبقات الدنيا من الشعب) وتبين أن الغلفة قد تزيد خطر الإصابة بالإيدز، أما الدراسات الأخرى التي تجرى على عينات من الناس، وهي أكثر صدقا، فإنها تبين أن الرجال المختونين أكثر عرضة لمرض الإيدز، وبعض الدراسات لم تتمكن من إيجاد فارق بين المختونين وغير المختونين، ولكن يجب معرفة أن الولايات المتحدة تملك أعلى معدل من المختونين، وفي نفس الوقت أعلى معدل من المصابين بمرض الإيدز بين الدول المتقدمة، وهذا يبين أنه من غير الممكن الربط بين الغلفة وبين مرض الإيدز
Van Howe: Does circumcision influence, p. 58; Van Howe:. Neonatal circumcision and HIV infrection, pp. 100-120 . (4) الأرقام تثبت عكس ذلك
أعلى دولة غربية في نسبة ختان الذكور هي الولايات المتحدة، وفي هذا البلد، غالبية الرجال في سن النشاط الجنسي مختونين، ولو كانت النظرية السابقة صحيحة، فكان يجب أن تكون بين الدول الأقل انتشارا لمرض الإيدز، ولكن الأرقام تبين أن الولايات المتحدة هي سادس أكبر دولة لانتشار الإيدز في العالم، وأعلى دولة بين الدول المتقدمة، ومؤيدو نظرية الإيدز بطبيعة الحال يتجاهلون هذه الحقيقة، ونحن نعطي عنا عدد المصابين بين 100000 كما بينتها منظمة الصحة العالمية عام 1995:
زمبابوي
96,7
كونجو
58,4
مالاوي
49,2
كينيا
24,8
تشاد
20,2
الولايات المتحدة
16,0
إيطاليا
8,9
سويسرا
6,5
الدانمارك
4,4
فرنسا
3,5
هولندا
2,7
ألمانيا
2,2
النمسا
2,0
السويد
2,0
النرويج
1,6
فنلندا
0,9
بولندا
0,2
المجر
0,2
ويشير معارضو الختان بأن الدول الأوروبية المتقدمة التي فيها نسبة الإيدز عالية؛ هي تلك الدول التي تعرف نسب هجرة مسلمة عالية وعمال من الخارج.
ومما سبق يتضح أن الولايات المتحدة تعرف أعلى نسبة للختان، وفي نفس الوقت أعلى نسبة بالإصابة بمرض الإيدز بين الدول النامية، وقد قدرت منظمة الصحة العالمية أن بين 18,5 مليون مصاب بهذه الجرثومة في العالم، هناك 1,1 مليون شمال أمريكي، بينما أوروبا الغربية لا تعد إلا 600000 مصاب، وقد بينت دراسة أمريكية أنه بين كل 20 شخص هناك مصاب بهذا المرض عام 1994، وقرابة كل المصابين بهذا المرض في الولايات المتحدة هم من المختونين
Fleiss: An analysis of bias, pp. 393-394 .
ويذكر طبيب أمريكي بأن الولايات المتحدة 5٪ من سكان العالم، ولكنها تحتوي على 65٪ من حالات الإصابة بمرض الإيدز في العالم
Ritter: Say no to circumicsion, p. 33-2 . (5) الختان قد يكون عامل انتشار للإيدز
في غياب دراسة جدية تثبت أن الختان عنصر وقاية من الإيدز، يجب علينا أن نرجع إلى البديهيات البسيطة التي يمكن أن يتقبلها العقل، دون الدوخان في أرقام وحسابات معقدة لا نهاية لها، وهذه البديهيات هي: الختان يجعل جلد الذكر أكثر شدة وخشونة وأقل رطوبة، ويترك فيه ندبا، وبالتالي فإن المختون يكون أكثر عرضة للتجرح ودخول فيروس الإيدز في الجسم. - المختونون أكثر ميلا لممارسة الجنس من خلال الشرج والفم، كما أنهم أكثر ميلا للعلاقات الجنسية الشاذة، كما رأينا سابقا، وهذا عامل يزيد في إمكانية التجرح ودخول الفيروس. - المختونون أكثر ميلا إلى البحث عن عدد أكبر من شريكات العلاقة الجنسية وتعرض أكبر للفيروس. - المختونون أقل ميلا لاستعمال العازل، وأحد الأسباب التي تقدم لذلك هو أنه يضعف من الحساسية بسبب تغليف القضيب، والمختون يكون عامة قد فقد جزءا من تلك الحساسية بسبب الختان وسنين احتكاك الحشفة بالملابس وتحرق ونشفان في القضيب، فإضافة طبقة أخرى على القضيب يزيد في إضعاف الحساسية، كما أن الختان يقلل من مدة المداعبة قبل الولوج، وهذا يؤدي إلى تجريح أكبر في الأنسجة
Ritter: Say no to circumcision, p. 35-1; Van Howe: does circumcision influence, p. 59 . - حتى وإن قبلنا بأن الختان قد يحمي من مرض الإيدز، فإنه يجب عمل 23148 ختانا في الولايات المتحدة بتكلفة قدرها 9,6 مليون دولار لكي يقي من إصابة واحدة بمرض الإيدز، وهذا يعني أننا سوف نعرض عددا كبيرا لمخاطر الختان الأخرى ومن بينها الوفاة لوقاية فرد واحد، وفي دول العالم الثالث مخاطر الختان أعلى مما هي عليه في الدول المتقدمة، والدراسات تبين أن وجود غلفة ليس عاملا مهما في مدى انتشار الفيروس، وإن كان عاملا فالمخاطر الناتجة أكبر من الفوائد المرجوة
Van Howe: Neonatal cirumcision and HIV infection, pp. 100-120 .
القول بأن الختان يقي من الإيدز قد يفهمه البعض بأنه يعطيهم مناعة ضد هذا المرض، فلا يأخذون حرصهم منه ويمارسون الجنس بكل حرية مع أشخاص مصابين بهذا المرض.
مما سبق يتضح أن الختان، ختان الذكور والإناث، ليس للوقاية من الإيدز، لا بل قد يكون عاملا لانتشاره، والوقاية من مرض الإيدز تكمن في حماية الفرد من التعرض للجراثيم الناقلة لهذا المرض، وتثقيف الناس على العلاقة الجنسية السليمة، وليس بقطع أجزاء سليمة من جسم الإنسان
Ritter: Say no to circumcision, p. 33-2 . •••
أود أن أسأل وزير الصحة هذا السؤال:
لماذا لا تلعب وزارة الصحة دورها في نشر هذه المعلومات الهامة على الأطباء وعلى الناس، وقد رأيت أن من المهم أن أرسل هذه الرسالة إليك، وفيها أجزاء من كتاب علمي قام بنشره أستاذ عربي وليس أجنبي، وعندي نسخة واحدة من هذا الكتاب الهام. (6) أبحاث علمية غير سليمة
كيف يدافع المختونون من الرجال عن أنفسهم، وكيف تدافع النساء المختونات عن أنفسهن؟ من المعروف في الطب النفسي أن الإنسان الذي يتعرض للقهر الجسدي من أي نوع؛ مثل قطع جزء من جسمه في الطفولة يشعر بالحزن العميق، يحاول أن ينكر ما حدث له، كأنما هو المسئول عنه، قد يتحول هذا الإحساس بالنقص إلى زهو أو بعث فخر، أو على الأقل أن هذه العملية الجراحية لم تضره في شيء، بل أفادته صحيا أو منعت عنه الأمراض، أو أكسبته هويته الأصلية أو خصوصيته الثقافية أو قيمه الأخلاقية أو الحضارية.
وكم تتفاخر كثير من النساء بالحجاب رغم أنه أحد وسائل القهر المفروضة على بعض النساء تحت اسم الدين أو الأخلاق.
ويلعب التعليم والإعلام دورا في التجهيل بمضار هذه العمليات التي تشوه الأجسام والعقول، ويستخدم وسيلة للتجهيل أيضا تحت اسم البحوث والدراسات التي تجرى أحيانا لأهداف سياسية وليس من أجل البحث عن الحقيقة.
مثلا لعب الإعلام الدولي والعربي دورا في ترويج حبوب الفياجرا، استطاعت الشركات العالمية للأدوية التي تنتج هذه الحبوب أن تمول أبحاثا علمية تثبت فعالية هذه الحبوب وقدرتها على تنشيط القوة الجنسية للرجل، واستخدمت رجالا مشهورين في عالم السياسة أو الفن دفعت لهم الملايين من أجل أن يتحدثوا في التليفزيون عن فوائد حبوب الفياجرا، ويحكون تجاربهم الخاصة، وربما تكون هناك بعض الحقيقة فيما يقولون، وفي بعض الأبحاث العلمية، إلا أنها حقيقة جزئية، وقد تلعب الحقيقة الجزئية دورا في تشويه الحقيقة أكثر من أي شيء آخر؛ لأنها تبدو للناس حقيقة علمية ومقنعة، ولأن الناس يفتقدون المعرفة أو النظرة الكلية للأشياء فإن هذه الحقائق الجزئية تخدعهم كثيرا دون أن يدركوا ذلك.
منذ خمسة وثلاثين عاما حين كتبت ضد عمليات ختان البنات في مصر هاج زملائي الأطباء غضبا وقالوا: إن ختان البنت ضرورة صحية من أجل النظافة ومنع الأمراض، قلت لهم كيف نقطع عضوا من الجسم من أجل النظافة؟ أليس الأفضل أن نغسله بالماء والصابون بدل من بتره بالمشرط أو الموس؟!
وكم من أبحاث طبية خرجت تثبت أن ختان البنات مفيد صحيا، وأنه يمنع أمراض السرطان وأمراض الزهري والسيلان، وأن المومسات المختونات أقل تعرضا للأمراض من المومسات غير المختونات، لا تنفصل القوى المسيطرة على العلم عن القوى المسيطرة سياسيا واقتصاديا وعسكريا وإعلاميا، كما أن شركات الأدوية في العالم لها سطوتها وقوتها، ويمكن أن توجه الأبحاث الطبية لخدمة أرباحها وترويج منتجاتها.
وكم من بحوث عن فوائد حبوب الفياجرا لتقوية الفحولة الجنسية عند الرجال، وقد اتضح مؤخرا مضار هذه الحبوب على القلب، وقد تعرض بعض الرجال للموت بعد تعاطيها أو لأزمات قلبية.
وكم من بحوث عن فوائد ختان الذكور، وأنها تحمي الرجال من الإصابة بمرض السرطان، وأخيرا الحماية من مرض الإيدز، وأنه في أحدث دراسة علمية قام بها باحثون في أستراليا أكدوا فيها أن الرجل غير المختون يكون أكثر عرضة للإصابة بمرض الإيدز، وأن عملية ختان الذكر أفضل وقاية من هذا المرض ومن أمراض أخرى تنتقل عن طريق الجنس مثل السيلان والسفلس (الزهري)، ويؤكد رئيس البحث البروفسير روجر شورت أن الختان هو أفضل وسيلة للحماية من هذه الأمراض حتى الآن، بينما البديل الوحيد المتاح للرجال غير المختونين هو وسائل الحماية الكيمائية.
وإذا كانت هناك وسائل كيمائية؛ أي أدوية وكيماويات للوقاية من الإيدز والأمراض الجنسية، فلماذا نبتر أجزاء من أجساد الذكور بالموس أو المشرط، وهناك وسائل أخرى أفضل مثل الأدوية والكيماويات.
مثلا هل نقطع أذن إنسان حتى لا يصاب الأذن بمرض من الأمراض أم نستخدم الأدوية والكيماويات إذا أصيب الأذن بالمرض؟!
كما أن أغلب هذه البحوث العلمية لا تأخذ في اعتبارها العوامل المتعددة التي تلعب دورا في إصابة الرجال بالأمراض الجنسية أو الإيدز، مثلا ربما تقل نسبة الأمراض الجنسية في الرجال المختونين؛ لأنهم ينتمون إلى ثقافة أو دين معين يمنعهم من ممارسة الجنس مع المومسات مثلا، إذن هناك عامل غير الختان قد يحمي الرجال من الإصابة بالإيدز أو الأمراض الجنسية، مثلا لوحظ أن النساء المختونات أقل إصابة بالأمراض الجنسية أو الإيدز من النساء غير المختونات، ويرجع ذلك إلى القيود الثقافية أو الاجتماعية التي تفرضها ثقافة معينة أو دين معين على حرية النساء الجنسية.
إن غياب عضو أو جزء من الجسم لا يمكن أن يكون له فوائد وقائية من أي مرض؛ بل العكس هو الصحيح، إن اكتمال الأعضاء أو اكتمال الجسم عنصر هام في اكتمال الصحة الجسدية والنفسية والجنسية لأي إنسان رجل أو امرأة، وكل عضو في الجسم وإن كان صغيرا له وظيفة وفوائد - حتى الزائدة الدودية لها فائدة - يلعب دورا في تعرضه للأمراض، مثلا إذا عاشت امرأة داخل أربعة جدران لا تمارس الجنس إلا مع رجل واحد هو زوجها تكون أقل تعرضا للأمراض الجنسية من غيرها التي تتمتع بحرية جنسية أكبر، وكذلك الرجل المتعدد العلاقات أكثر عرضة من الرجل الذي يسيطر على نزواته.
إن التعددية الجنسية أو الإباحية الجنسية دون ضوابط هي التي تعرض الرجال والنساء للأمراض الجنسية، ولأن هذه الإباحية أو الحرية الجنسية منتشرة بين الرجال غير المختونين فإن إصابتهم بالإيدز أو الأمراض الجنسية أكثر من الرجال المختونين، كذلك تعرض النساء غير المختونات للإيدز أكثر من غيرهن.
هذه من أهم مشاكل البحوث الطبية في العالم؛ لأن البحوث الطبية تبحث في أمور الجسد فقط، أو الأمور البيولوجية والفيزيائية، لكنها لا تبحث في أمور السلوك والعادات الثقافية والأخلاقية، هناك فصل دائم في علوم الطب بين الجسم والمحيط الاجتماعي والثقافي الذي يعيش فيه هذا الجسم، ومن هنا انفصال الأمراض الجسمية عن البيئة والثقافة والدين والأخلاق، لم نتعلم في كلية الطب أن نربط بين الجسم والعقل والنفس والمجتمع والسياسة والاقتصاد والفلسفة والدين والتاريخ والجنس، وغيرها من العوامل الهامة التي تؤثر في سلوك الرجال والنساء وبالتالي تؤثر على صحتهم وسلامتهم.
وتنشر الصحف والإعلام أخبارا مضللة عن هذه الأبحاث الطبية، والتي تروج لها القوى السياسية الإسرائيلية الأمريكية وشركات الأدوية الكبرى في العالم، أو القوى السياسية التي تجني الأرباح من قبل هذه البحوث المضللة.
لا شك أن عمليات الختان سواء للذكور أو الإناث من العادات الضارة الموروثة منذ العبودية، ولها في عصرنا الحديث من يستفيدون منها ويكسبون الأموال، إنها واحدة من المافيات في العالم، مثل مافيا التجارة بالجنس، ومافيا ترويج حبوب الفياجرا التي تزيد من قوة الرجل الجنسية، وتمنع ما يسمى الوصول إلى سن اليأس عن الرجال.
القاهرة، 10 يوليو 2000
رسالة إلى وزيرة البيئة
لأن صورتك الباسمة الرقيقة الناعمة تطالعني من كل مكان فقد أصبحت كأنما أعرفك، وأراك في النوم وأحلام اليقظة حين أتمدد فوق الكنبة، في الشرفة، وأطل على شارعنا القصير الذي يحمل اسم «معهد ناصر» في حي شبرا القديم، وكان شارعنا هذا القصير نظيفا إلى حد كبير قبل أن تنشأ وزارة البيئة، ذلك أنه يحمل اسم ناصر، وجاور المستشفى الأبيض الفاخر الذي يحمل اسم معهد ناصر أيضا.
وكان جدك مكرم عبيد يتراءى لي أيضا في النوم وأنا طفلة، أستمع إلى أحاديث جدي وأبي عن الكتاب الأسود والعهد الملكي الأكثر سوادا: كانت الصحف وأقلام الأدباء الكبار تكيل المدح والثناء للملك فاروق الأول، ملك مصر المعظم، أدامه الله ذخرا للبلاد، حيث يرفل الشعب المصري الكريم في النعيم أو الخير، الذي ينعمه الملك على عباد الله، وأسمع أبي ينفث بالغضب ويقول: إننا نسير من فقر إلى فقر، رغم أنه موظف في الحكومة فما بال الفقراء، وأسمعه يهتف في البيت: يسقط الملك يسقط الإنجليز، ثم يمضي إلى عمله يائسا صامتا ثقيل القلب مكبوت الغضب، كنت تلميذة بالمدرسة وسألت أبي يوما: لماذا لا تثور يا أبي إلا في البيت؟ لماذا لا تهتف في الشارع: يسقط الملك يسقط الإنجليز! كان أبي يضحك ويقول: سيقول الناس عني مجنون.
وهذا هو ما حدث لي بالضبط بعد نصف قرن، وبعد أن مات أبي منذ أربعين عاما، وجدتني أمشي في شارعنا الصغير وأهتف بأعلى صوتي: يسقط الملك يسقط الإنجليز! وتجمع الناس حولي وقالوا: مجنونة! كان اليوم هو 4 مايو عام 2000، وكانت الأعلام مرفوعة في الاحتفالات بعيد الربيع، وأعياد قومية أخرى، والزبالون والكناسون غسلوا شوارع النيل وميدان التحرير وشارع الحرية والديمقراطية، ومعهد ناصر ومدينة السادات وأكاديمية مبارك وغيرها من المعالم الوطنية، إلا أن شارعنا الصغير الذي يحمل اسم معهد ناصر لم يكن له نصيب في هذه الأعياد، وجدتني ذلك اليوم الربيعي أتعثر وأنا أمشي في أكوام من الصناديق الفارغة والقمامة، وأكياس النايلون وعلب الصفيح تفوح منها رائحة بوليبيف عفنة.
عرفت أن هذه الأكوام الجديدة من الزبالة مصدرها السوبر ماركت الجديد الذي فتح منذ فترة قصيرة في العمارة المجاورة لنا، والذي يحمل اسم «سينسبري» وقد احتل الدور الأرضي من العمارة، له واجهة عريضة مزينة باللون البرتقالي الزاهي، ومدخل من البلاط المصقول اللامع، يغسله كل يوم في الصباح الباكر شباب يرتدون البدل البرتقالية الأنيقة، فوق صدورهم شارة باللون البرتقالي تحمل اسم الإنجليزي العريق «سينسبري»، يروحون ويجيئون داخل المحل وخارجه بنشاط غير عادي، خطوتهم فوق الأرض سريعة، يدبون فوق البلاط المغسول بكعوب مثل العساكر الإنجليز أيام الملك، يرمقونني باحتقار لأنني أمشي في الشارع فوق قدمي داخل حذاء كاوتش وليس داخل سيارة طويلة أمريكية أو بريطانية، أو لأنني لا أدخل إلى السوبر ماركت العظيم، وأذهب إلى البقال الفقير في المحل الصغير المجاور.
لكني ذلك اليوم 4 مايو دخلت إلى السوبر ماركت لأول مرة، رأيت الرءوس تنحني لي باحترام وتقودني عبر الممرات النظيفة بنعومة شديدة، توجهني إلى المشتريات المنظمة في صفوف فوق الرفوف، لكني لم أدخل للشراء، بل توجهت إلى مكتب المدير، الذي تصورته إنجليزيا، لكنه مصري يتكلم العربية بلكنة أجنبية، وقف احتراما خاليا من الأدب كعادة الأجانب مع أهل البلاد، وقلت له بغضب إن السوبر ماركت قد جعل من شارعنا ملقف قمامة، وأنه لا يفعل ذلك في لندن لأنه يحترم الإنجليز، أما نحن سكان حي شبرا القديم! قاطعني المدير معتذرا متأسفا معلنا أن العربة التي تحمل القمامة تعطلت هذا اليوم، وأنه في الغد سوف يكون شارعنا نظيفا كما كان.
إلا أن الغد جاء، وقمامة الإنجليزي سينسبري لا تختفي من شارعنا، بل يتضاعف حجمها يوما بعد يوم، حتى جاءني بعض الجيران وقالوا: هذه القمامة زادت عن الحد ونحن فقراء في حالنا وليس لنا واسطة في وزارة البيئة، ألا تعرفين أحدا في الحكومة أو في أحزاب المعارضة؟ لاحظت أنهم لا يفرقون بين هؤلاء وهؤلاء، وقد رأوا صورة السيدة وزيرة البيئة تتوسط احتفالات الأحزاب المعارضة بمثل احتفالات حزب الحكومة، وقلت لهم إنني لا أعرف أحدا، ولكني سأحاول أن أكتب شيئا.
وتذكرت أنني منذ أيام قليلة قرأت شيئا عن أن وزارة البيئة أو وزارة الصحة قد جعلت قضية الحفاظ على البيئة قضية تهم كل مواطن مصري، وذلك عن طريق الشرط الجديد لإتمام إجراءات أي ترخيص لفتح أي محل تجاري أو عيادة طبية وإن كانت عيادة نفسية، هذا الشرط الجديد يقتضي الحصول على ترخيص من صحة البيئة يسمى «ترخيص تداول النفايات» ولا يمكن لأحد أن يفتح محلا أو حتى عيادة نفسية دون الحصول على هذا الترخيص، يثبت به صاحب المحل أو صاحب العيادة الطبية (بعد أن يدفع مائة جنيه رسوم) أنه تعاقد مع محرقة لحرق النفايات والقمامة الناتجة عن المحل أو العيادة، وأنه يدفع اشتراكا شهريا لهذه المحرقة مما يؤكد عدم وجود نفايات خارج المحل أو داخله.
كان المقال الذي قرأته عن هذا الموضوع قد نشر في جريدة الأهرام يوم 2 مايو 2000، تحت عنوان «محرقة للنفايات النفسية» بقلم سلامة أحمد سلامة، بعد أن أرسل إليه طبيب نفسي يشكو صعوبة الحصول على هذا الترخيص، والتعاقد مع محرقة ودفع اشتراك شهري يترتب على عدم دفعه ولو لم توجد نفايات (مثل عيادة نفسية) إلغاء التعاقد وسحب الترخيص.
وأنا أختم رسالتي الودية إلى وزيرة البيئة الرقيقة، أود أن أسأل هذا السؤال البسيط: هل يا ترى أن «سينسبري» قد حصل على هذا الترخيص؟ وإن كان كذلك فلماذا تتراكم النفايات في شارعنا القصير أمام السوبر ماركت؟! ألم يتعاقد مع محرقة لحرق النفايات؟ أم أن المحرقة تعطلت كما تعطلت أشياء أخرى كثيرة في حياتنا دون أن ينطق أحد.
القاهرة 11 مايو 2000
نشوء الفيروسات والحرب البيولوجية الخفية
من المهم لنا أن نعيش خارج الوطن بعض الوقت، لندرك بعض الحقائق التي لا تصل إلينا إلا بعد فوات الأوان، ولنقرأ بعض الكتب الجديدة التي تصدر بلغات أجنبية، والتي لا تترجم إلى اللغة العربية إلا بعد عدة سنوات، حين تضيع علينا فرصة معرفة الحقيقة في وقتها، ونصبح ضحايا لأشياء لا نعرفها.
وقد أصبح نصف سكان القارة الأفريقية تقريبا ضحايا وباء مرض الإيدز، دون أن يعرفوا شيئا عن هذا الفيروس الخطير، وهل جاء عن طريق قرود الغابة الأفريقية، أم عن طريق الغابة البشرية الأمريكية.
وقد بدأ عدد من الأطباء الأمريكيين (من ذوي الضمير الإنساني الحي) يكشفون أخيرا عن الحقائق التي تم إخفاؤها على مدى الثلاثين عاما الماضية، وأن يقدموا دلائل علمية جديدة عن أن فيروس الإيدز قد تم خلقه بالمعامل، وأن آثاره الخطيرة على صحة البشر كانت معروفة، وتم التنبؤ بها قبل اندلاع الوباء في أفريقيا، وتم التكتم على الأمر.
من أهم الكتب التي صدرت في هذا المجال كتاب بعنوان «الفيروسات الناشئة
Emerging viruses »، وهو بحث علمي هام قام به طبيب أمريكي اسمه الدكتور «ليونارد هورويدز
Leonard Horowitz »، صدر الكتاب عام 1997 باللغة الإنجليزية، ومن المهم ترجمة هذا الكتاب إلى اللغة العربية، حتى تصل بعض هذه الحقائق العلمية إلى الناس في بلادنا.
ولا أعرف هل تتابع وزارة الصحة ما يصدر في الخارج من معلومات عن نشوء مرض الإيدز في أفريقيا؟ وهل هناك خطة صحية ما لمنع تسرب هذا الوباء إلى مصر؟! خاصة وأن أهم علاج لهذا المرض هو الوقاية منه.
منذ عام 1986 أعلن أحد العلماء الأمريكيين، وهو الدكتور «ناثانيل ليهرمان
Nathaniel Lehrman » عن وجود علاقة بين بعض فاكسينات التطعيم ومرض الإيدز، وأن شركات الأدوية الأمريكية أخفت هذه العلاقة حرصا على أرباحها المالية.
كما أعلن في الوقت نفسه الدكتور «وليم كامبل دوجلاس
William Campell Douglas ».
يوضح الدكتور ليونارد هورويدز في كتابه أن وزارة الصحة الأمريكية، ومنظمة الصحة العالمية، وشركات الأدوية، والبنتاجون (وزارة الدفاع في أمريكا) شاركت وتعاونت في إجراء أبحاث هدفها «تخفيض المناعة عند الإنسان» كجزء من الأبحاث الخاصة بالحرب البيولوجية، تحت اسم حماية الجنود الأمريكيين ضد أي حرب بيولوجية قد يتعرضون لها.
ومن المعروف طبيا أنه يكفي أن تنخفض المناعة في جسم الإنسان حتى تشتعل أوبئة ناتجة عن الميكروبات الموجودة بشكل طبيعي في البيئة المحيطة بنا.
أثناء هذه التجارب ظهر فيروس الإيدز في المعامل التي كانت تجرى فيها هذه الأبحاث، ويؤكد الدكتور ليونارد هورويدز (بالبراهين والأدلة العلمية الدقيقة) أن فيروس الإيدز وصل إلى سكان أفريقيا بسبب هذه الأبحاث، وعن طريق الفاكسينات التي وزعتها شركات الأدوية على الأفارقة، لاختبارها (كأنما الأفارقة خنازير تجارب) وتحت اسم مشروعات تطعيم (مجهولة الأثر) رغم إدراك الشركات لخطورة هذه الفاكسينات.
بعض معامل منظمة الصحة العالمية التي شاركت في توزيع هذه الفاكسينات قد شاركت في قتل سكان أفريقيا بوباء الإيدز، كما أعلن بعض الأطباء عن ذلك.
منذ منتصف الثمانينيات كانت الصراعات داخل الولايات المتحدة الأمريكية على أشدها حول مخاطر الفاكسينات؛ التي تعطى للأطفال ضد بعض الأمراض، ومنها شلل الأطفال، وبدأ الأهالي ينظمون أنفسهم داخل قوة سياسية لحماية أطفالهم من شركات الأدوية المنتجة لهذه الفاكسينات، ومنها شركة «ميرك
Merck ».
وتكونت منظمة اسمها «مؤسسة الأهالي المتذمرين
Dissatisfied parents » الذين طالبوا بمنع التطعيم تماما حماية للأطفال.
وفي عام 1986 وقع الرئيس الأمريكي «رونالد ريجان» ما سمي ب: (The National Childhood Vaccine Injury Act) ، وكان الأهالي الأمريكيون قد أثاروا الموضوع في الكونجرس، إلا أن شركات الأدوية الأمريكية بما لها من قوة سياسية واقتصادية (وعسكرية) وإعلامية، استطاعت أن تنتصر على منظمة الأهالي، عن طريق التمويه الإعلامي، ودفع بعض تعويضات مالية لإغراء الأهالي بالتنازل عن القضايا التي رفعوها ضد هذه الشركات في المحاكم.
ربما كان التمويه الإعلامي الأكبر هو الموجه إلى البلاد الأفريقية، أو ما يسمى بلاد العالم الثالث، وتم تغيير اللغة المستخدمة لتسويق ما يسمى المعونات الأمريكية لفقراء العالم، ومنها أمصال التطعيمات للأطفال ووسائل منع الحمل للنساء، واختفت من الكمبيوتر بعض الكلمات المثيرة لغضب الشعوب، من نوع «التحكم في السكان»
إلى كلمات بريئة أو جميلة، من نوع «مشروعات صحة الأم والطفل
Maternal and Child Health ».
تحت هذه العناوين الإنسانية الصحية يتم توزيع عقاقير ضارة بصحة النساء والأطفال والشعوب الأفريقية، ومنها عقاقير ممنوعة بحكم القانون من التوزيع داخل أمريكا اليوم، بعد اكتشاف ضررها، وشكوى الأهالي منها.
تنهزم في غابة الجشع الرأسمالي قيم العدالة والإنسانية في مواجهة القوة الاقتصادية للشركات التجارية، والتي تدعمها القوة العسكرية مع الحروب البيولوجية، ويتم التضحية بحقوق الفقراء والنساء والأطفال لصالح الأثرياء الأقوياء، كما يتم التضحية بالشعوب المنزوعة السلاح المسلوبة الموارد مثل الشعوب الأفريقية، وبلاد العالم الثالث حين يكون الوعي منخفضا، والقوانين غائبة أو عاجزة عن حماية الشعب ووزارات الصحة بلا إمكانيات للوقاية أو الوعي بأساليب الوقاية الجديدة، وحيث تتعمد شركات الأدوية إخفاء الحقائق عن الناس والمسئولين عن الصحة في تلك البلاد، أو تقدم لهم الإغراءات أو الرشاوى للتغاضي عن تطبيق القوانين الصحية أو الإجراءات الضرورية قبل الموافقة على استيراد أي شحنة من أمصال التطعيم أو وسائل منع الحمل أو غيرها من العقاقير.
وفي مجلة المصور، الصادرة بالقاهرة، دار الهلال 8 نوفمبر 1985، نشرت موضوعا مفصلا تحت عنوان «الخطر الغامض، حقائق جديدة حول حقن منع الحمل»، ومنها حقنة «الديبو بروفيرا» التي ثبت ضررها على صحة النساء، ومنعت السلطات الأمريكية استخدامها داخل الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أن شركة «إيجون» توزع هذا العقار الضار في بلاد عديدة في أفريقيا ومنها مصر، حتى اليوم ونحن في شهر أكتوبر 2002، وقد وجدت هذه الحقن، في قريتي كفر طحلة، محافظة القليوبية، داخل ما يسمى مركز صحة الأم والطفل، حيث تحقن النساء الفلاحات بهذه الحقن الضارة منعا للحمل.
وفي عام 1985 عرضت الأمر على وزير الصحة في مصر (كان هو الدكتور حلمي الحديدي) وتوقعت أن يتم إخراج هذه العقاقير الضارة من قائمة وسائل منع الحمل التي توزع في بلادنا، إلا أن النتيجة كانت إخراج وزير الصحة من قائمة الوزراء في تلك الحكومة في منتصف الثمانينيات.
وفي جريدة الأهرام 9 أكتوبر 2002 (ص10) تحت عنوان من قريب، كتب الأستاذ سلامة أحمد سلامة عن مشكلة الأستاذ بكلية الصيدلة بإحدى الجامعات المصرية، والذي حصل على منحة بحثية من جامعة يوتا الأمريكية، ممولة من المعهد القومي للصحة
NIH
للعمل في مشروع بحثي لتشييد مضادات للإيدز باستخدام تكنولوجيا العلاج الجيني المتقدمة.
ثم جاء الأستاذ المصري في إجازة عائلية سريعة إلا أنه عجز عن العودة إلى أمريكا، بسبب عدم حصوله على تأشيرة دخول من القنصلية الأمريكية بالقاهرة، رغم استيفائه جميع الأوراق المطلوبة، ورغم تدخل الأستاذ الأمريكي المسئول عن البحث، والذي طلب سرعة إجراءات سفر الأستاذ المصري؛ منعا للضرر الذي لحق به وبمشروع البحث، رغم ذلك مضى أكثر من أربعة شهور ولم يحصل الأستاذ المصري على التأشيرة حتى اليوم.
ومن المعروف أنه منذ نشر كتاب نشوء الفيروسات عام 1997 للطبيب الأمريكي ليونارد هورويدز، وهناك محاولة للتمويه على الحقائق، وإخفاء أسباب نشوء وباء الإيدز في أفريقيا، وكذلك إحاطة جميع البحوث المتعلقة بالإيدز في الولايات المتحدة الأمريكية بالسرية الشديدة، وعدم تسريبها إلى الأطباء أو الباحثين في بلاد أخرى، وعلى الأخص البلاد الأفريقية.
ألهذا السبب تحاول السلطات الأمريكية وضع العقبات أمام هذا الأستاذ المصري للسفر مرة أخرى إلى الولايات المتحدة، وإكمال بحوثه في مجال تشييد مضادات الإيدز؟! أهو الخوف من انكشاف المستور؟ أم محاولة السيطرة على المعلومات بما فيها تلك الخاصة بعلاج الإيدز، والتي تحتكرها الشركات الأمريكية وتبيعها للبلاد الأفريقية بأضعاف الثمن؟!
القاهرة 11 أكتوبر 2002
نحو فلسفة إنسانية لإحياء الضمير
الورقة المقدمة في افتتاح المؤتمر الدولي السادس لجمعية تضامن المرأة العربية (القاهرة 3-5 يناير 2002)
لا أوصي ابنتي التي ستلي العرش من بعدي أن تكون إلهة لشعبها تستمد سلطتها من قداسة الألوهية؛ بل أوصيها أن تكون حاكمة رحيمة عادلة.
من نوت إلهة السماء لابنتها إيزيس (مصر القديمة 4988ق.م) (1) تحت اسم المقدس أو القداسة
هذه الوصية من نوت لابنتها إيزيس تعبر عن الفلسفة السابقة لنشوء النظام العبودي في مصر القديمة منذ خمسة آلاف عام قبل ظهور الديانة اليهودية والمسيحية.
كان الحكم يقوم على العدل والرحمة، وليس على القوة أو القوة السلطة السياسية والاقتصادية والعسكرية التي استمدت قوتها من السلطة الدينية أو قداسة الألوهية.
إلا أن هذه الفلسفة الإنسانية قد اندثرت (إلا قليلا) في مصر القديمة والحديثة تحت ضربات القوى الطبقية الأبوية الصاعدة الرافعة شعار «قداسة الألوهية»، وقد تخفي الحاكم الفرعوني تحت زي الإله، وأصبح مقدسا لا يجوز نقده أو محاسبته، مما أدى إلى صعود القوة الحاكمة فوق الحق والمنطق، حتى يومنا.
إن الدكتاتورية أو السلطة المطلقة ليست سمة الحكومات في بلادنا العربية أو ما يسمونه اليوم الشرق الأوسط (الأوسط بين من ومن) بل هي سمة الحكومات جميعا غربا وشرقا، تختلف درجة الدكتاتورية من بلد إلى بلد، حسب ظروف كل بلد، وقد تحظى بعض الشعوب في أوروبا وأمريكا بحريات شخصية أو فردية تحت اسم الديمقراطية، لكنها ديمقراطية هشة سطحية لا تشمل الحياة السياسية والاقتصادية العامة أو الخاصة، وقد تقتصر أحيانا على الممارسات الجنسية، مما يؤدي إلى هذه الديمقراطيات المشوهة أو التناقضات الصارخة التي تعيشها النساء والرجال في بعض البلاد.
نحن نعيش في عصر الاستعمار الجديد
Neo-colonial ، وليس في عصر ما بعد الاستعمار
كما هو شائع في الجامعات الأمريكية والأوروبية، ورغم أنها مجرد كلمة إلا أن اللغة تكشف عن القوى الحاكمة في العالم، وهي تحكم من خلال المؤسسات السياسية والاقتصادية، بالإضافة إلى المؤسسات الإعلامية والتعليمية ومنها الجامعات.
منذ طفولتي في الثلاثينيات من القرن الماضي، وحتى اليوم في بداية القرن الواحد والعشرين وأنا أشهد عمليات القتل الفردية والجماعية تحت اسم الله أو الوطن أو الملك، أو الملكية التي تغير اسمها فقط إلى جمهورية أو جماهيرية أو شعبية أو ليبرالية ديمقراطية أو غيرها من الكلمات التي تصف بها الحكومات نفسها في الغرب والشرق على السواء.
تلعب اللغة دورها في إخفاء الحقيقة التي نعيشها، فإذا بالدكتاتورية تتخفى تحت اسم الديمقراطية، والاستعمار القديم والجديد يتخفى تحت اسم الحماية أو المعونة أو التنمية أو التحديث، والازدواجية أو الفساد، والكذب يتخفى تحت الشرف والأخلاق والصدق.
حين نطق الإنسان (المرأة والرجل) في بداية التاريخ غير المكتوب كانت اللغة تهدف إلى الإيضاح والتعبير عن الرغبات الطبيعية على رأسها الحب والتعاون وحل المشكلات التي تعترض الحياة في الواقع المعاش، كيف تحولت اللغة من أداة للوضوح والفهم والمعرفة إلى أداة للإخفاء والتمويه والتعمية؟
اللغة هي رموز تهدف إلى التعبير عن الواقع، واختزال الأشياء الضخمة الحجم إلى رسومات أو أرقام أو حروف يمكن قراءتها على الحجر أو الورق أو الشاشة أو ديسك الكمبيوتر.
وهنا تكمن خطورة اللغة أو غيرها من الرموز التي تشكل الفكر والدين والفلسفة والتاريخ والأدب والطب والهندسة وغيرها من الفنون أو العلوم الإنسانية والطبيعية.
لقد انفصل الواقع المعاش أو الحقيقة الحية التي يعيشها النساء والرجال عن اللغة والدين والفلسفة والتاريخ والأدب والطب وغيرها، واستطاعت الأنظمة الحاكمة في الشرق والغرب منذ نشوء العبودية (حتى يومنا هذا) أن تستغل هذا الانفصال بين الرمز والحقيقة من أجل طمس الحقيقة وتعمية عقول النساء والرجال عن الواقع المعاش، مما يمكن أن نسميه «حجاب العقل» وهو أخطر من حجاب الوجه؛ لأنه غير مرئي بالعين وغير ملموس باليد، وبالتالي يبدو كأنما غير موجود.
حين تختفي أداة القمع أو القتل يصبح من الصعب التصدي لها ومقاومتها، ومن هنا خطورة حجاب العقل الذي فرض على النساء والرجال تحت اسم الفكر أو الفلسفة أو الأخلاق أو السياسة أو الثقافة أو غيرها.
منذ بداية التاريخ دخلت القيم العبودية أو الطبقية الأبوية داخل علم الفلسفة والأخلاق والقانون العام في الدولة والقانون الخاص في الأسرة، أصبحت الازدواجية والثنائيات العبودية هي أساس التفكير الفلسفي أو ما سمي بالعقل.
هكذا تخفت تحت اسم العقل فلسفة غير عقلانية، وبالتالي غير إنسانية فرضتها الأنظمة الحاكمة وأتباعها من الفلاسفة والمفكرين منذ حكومة الإله آمون في مصر القديمة حتى حكومة جورج بوش الأب والابن في الحكومة الأمريكية الحديثة، وفي اليونان القديم سيطرت الفلسفة العبودية على عقول الفلاسفة من أمثال أفلاطون وأرسطو الذين عاشوا في حماية السلطة الحاكمة، أما الفلاسفة الآخرون الذين قاوموا هذه الفلسفة غير الإنسانية فقد انتحروا في السجون أو قتلوا تحت تهمة المساس بالذات العليا المقدسة الملك أو الإمبراطور الذي تخفى تحت زي الآلهة في السماوات أو الملكوت الأعلى.
وهنا كانت الخطورة ولا تزال حتى اليوم، تحت اسم المقدس، ثم اندثار الفلسفات الأكثر إنسانية والأكثر عقلانية التي قاومت الفكر العبودي بأشكاله المختلفة التي تطورت عبر القرون، لتصوغ الفلسفة الرأسمالية الطبقية الأبوية الحديثة وما بعد الحديثة، هذه الفلسفة التي تعتبر فيلسوف العبودية في اليونان القديم مثلها الأعلى، وهو أرسطو (384-322ق.م) الذي تصور أن العبودية أمر عادل تتطلبه طبيعة العبد وطبيعة المرأة.
أصبحت العبودية هي العدل، وهي الطبيعة، وهي العقل أو الفلسفة أو المنطق، ودخل الظلم في التاريخ تحت اسم العدل، ودخل اللامنطق تحت اسم المنطق أو العقل، وكان لا بد من تشويه الطبيعة وتطويعها لتواكب هذه الفلسفة غير الإنسانية غير المنطقية.
لقد أدى حجاب العقل إلى تشويه العقل والجسد والروح في تلاحمها الطبيعي داخل الإنسان (المرأة والرجل)، وانتشر في التاريخ الفلاسفة (من النساء والرجال) الذين قاوموا العبودية منذ نشوئها حتى اليوم، منذ نوت وإيزيس وإخناتون وتي ونفرتيتي وهيباثيا الذين تم القضاء عليهم وتحطيم فلسفاتهم الأكثر إنسانية في مصر إلى ديموقريتس في اليونان، وابن رشد في شمال أفريقيا، حتى المفكرين في يومنا هذا من النساء والرجال الذين يقاومون الفكر الرأسمالي الطبقي الأبوي الذي يتخفى تحت اسم براق جديد هو الفلسفة ما بعد الحديثة، تلمع فيها أسماء من أمثال صمويل هانتجتون، وتلعب تكنولوجيا الاتصالات والأقمار الصناعية في نشر أفكارهم شرقا وغربا.
هكذا يصبح حجاب العقل مشكلة عالمية، وليس فقط مشكلة عربية أو أفريقية أو إسلامية كما يتصور بعض الناس ، أو كما يحاولون تصوير التخلف الحضاري كأنما هو مرتبط بالإسلام، أو كأنما الإسلام هو وراء الفكر الفلسفي العاجز عن مواكبة الحداثة أو ما بعد الحداثة، واعتبار عصرنا هو عصر الإرهاب الإسلامي أو الصراع بين الإسلام والغرب. •••
وتكمن خطورة هذا الفكر المفروض علينا بالآلة الإعلامية الرأسمالية الأبوية إنه يحجب عن عقولنا الأسباب الحقيقية للصراع الدموي الذي يسود العالم، ويسوق أسبابا سطحية ومزيفة تزيد من كثافة حجاب العقل، إلى الحد الذي أصبحت فيه اللغة المكتوبة في الصحف السائدة غير مفهومة حتى لمن يكتبونها، سألت أحد الكتاب المصريين المعروفين جدا (ينشر مقالا أسبوعيا طويلا في جريدة كبرى مع صورة كبيرة) عن معنى ما يكتبه عن العولمة فإذا به لا يفهم ما يكتبه، واحمر وجهه بالغضب مني لأني أوجه إليه الأسئلة، وهو فوق التساؤل أو المحاسبة مثل الآلهة والملوك ورؤساء الدول. (2) ولن نحمل الزكائب إلى الأبد
إن المشكلة الأساسية التي تواجهنا هي كيف نرفع هذا الحجاب الكثيف عن عقل المفكرين الكبار قبل غيرهم من عامة الشعب؟ أو كيف نصوغ فلسفة إنسانية لإحياء الضمير الذي أصابه الضمور أو الموت؟ لا أحد يمكن أن ينكر أن العدل غائب في عالمنا الراهن دوليا ومحليا، وأن الحرية غائبة أو الديمقراطية الحقيقية، وأن المذابح البشرية لا تكف، والعنف أو الإرهاب يتسع ليشمل البلاد شرقا وغربا، ومع ذلك فإن أغلب المفكرين لا يزالون يلوكون مبادئ الفلسفة الطبقية الأبوية الرأسمالية في الغرب والشرق، وقد عشت في نيويورك ونيوجيرسي خلال الشهور الأربعة الماضية وشهدت أحداث 11 سبتمبر 2001 عن قرب شديد، وعشت مخاوف الشعب الأمريكي مما أطلق عليه اسم «الإرهاب الإسلامي»، وعدت إلى الوطن منذ أسابيع قليلة، وعشت مخاوف الشعب المصري والشعوب العربية مما أطلق عليه «الإرهاب الأمريكي والإسرائيلي»، وهناك من يسمونه «الحرب الصليبية المسيحية واليهودية»، يغذي هذا الصراع الذي يتخذ شكل الصراع الحضاري بين الغرب والشرق، أو الصراع الديني بين الإسلام والمسيحية واليهودية أغلب المفكرين في بلادنا العربية الذين يعيشون داخل الغرف المغلقة غارقين في المجردات، أو ناقلين عن مفكري الغرب دون فهم ، أو دون تحليل عميق للأحداث الجارية في الواقع المعاش.
وقد سألت المفكر المصري الشهير (الذي ينشر صورته ومقاله الطويل أسبوعيا) عن رأيه في قضية طفل نزف حتى الموت بعد عملية الختان، ورأيه في قضية طفلة قتلها أهلها لأنها خلعت الحجاب، ورأيه في قضية حبس أو محاكمة كاتب لأنه مس الذات العليا، ورأيه في قضية استيلاء أحد رجال السلطة في قريتي على قطعة أرض صغيرة تملكها إحدى الفلاحات، ورمقني المفكر الكبير وهو يمط شفتيه إلى الأمام معلنا أنه لا ينشغل بهذه القضايا الصغيرة لأنه مشغول بالقضايا الكبرى، على رأسها العولمة، وتذكرت «أرسطو» حين ذهب إليه أحد الفلاحين يشكو أحد رجال السلطة في اليونان لأنه استولى دون حق على قطعة أرض صغيرة كان يملكها ويزرعها لإطعام أطفاله، صرفه أرسطو قائلا إنه مشغول بالكرة الأرضية كلها، وليس قطعة أرض صغيرة.
لقد استطاع أرسطو منذ القرن الرابع قبل ميلاد المسيح أن يدخل قهر المرأة ووضعها الأدنى في الفلسفة والقانون، حين أعلن أن المرأة لا تساهم في صنع الجنين إلا بمادة خام غير حية (وعاء الرحم) أما الرجل فهو وحده الذي يمنح الحياة للطفل.
هكذا أصبح الحق القانوني للأب فقط، أصبح اسم الأب هو الذي يعطي للأطفال الحياة والشرف والشرعية والجنسية والدين، وضاع حق الأم تماما، واندثر اسمها وفكرها وجهودها في التاريخ القديم والحديث حتى يومنا هذا.
لقد ضربت الحركات النسائية شرقا وغربا التي حاولت التصدي للعبودية والقيم الطبقية الأبوية المدعمة لها، وتم تحطيم فلسفة «نوت» المصرية التي سبقت الفلسفة العبودية ومنحت الإنسان امرأة ورجلا واجبات وحقوق متساوية في الأسرة والمجتمع.
وقد انهارت هذه الفلسفة الإنسانية مع نشوء النظام الأبوي الطبقي، وفقدان مصر استقلالها الفكري والاقتصادي تحت غزوات الاستعمار القديم والجديد، ولم تكف النساء المصريات عن المقاومة حتى اليوم، ولم يكتف الفلاحون الأجراء عن المقاومة حتى اليوم، وقد عبرت بعض الأغاني الشعبية المصرية القديمة عن قهر الفلاحات والفلاحين تحت نير السلطة المحلية والأجنبية، ومنها هذه الأغنية:
أهو قدرنا المفروض علينا
أن نحمل فوق ظهورنا طوال اليوم
الشعير والقمح الأبيض
لا تزال المخازن مكدسة بتلال الغلة
ولسوف نحمل الزكائب إلى الأبد
في طفولتي في القرية كنت أسير بجوار عمتي الفلاحة وهي تمشي إلى الحقل حاملة زكيبة القطن فوق رأسها، أو الزلعة الكبيرة المملوءة بماء النيل، وأسمعها تغني مثل هذه الأغنية، إلا أن عبارة «فوق ظهورنا» تغيرت إلى عبارة أخرى هي «فوق رءوسنا». (3) إنها حضارة واحدة
يلعب حجاب العقل دورا كبيرا في ترويج الثنائيات والقيم المزدوجة وما يصاحبها من أفكار مضللة، ومنها فكرة الصراع بين الحضارات، أو بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية، مما يحجب عنا الحقيقة، وهي أننا نعيش في عالم واحد وليس ثلاثة، وحضارة واحدة هي حضارة رأسمالية أبوية نبعت وتطورت من العبودية القديمة القائمة على الثنائيات الباطلة على رأسها ثنائية السيد والعبد، المالك والمملوك، الملاك والشيطان، الحاكم والمحكوم، الروح والجسد، السماء والأرض، المؤمن والكافر، الخير والشر، الخطيئة والفضيلة، الذكر والأنثى.
لو أننا تأملنا لغة جورج بوش الابن بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 لاكتشفنا أنها لغة دينية مسيحية، تستخدم اسم الله لتعلن الحرب في أفغانستان ضد الشيطان أسامة بن لادن وأعوانه في تنظيم القاعدة، ولا يكف جورج بوش عن الغناء في الكنائس مع أعوانه هذه الأناشيد الدينية السياسية في آن واحد: (1)
نحن أمة واحدة تحت الله
One Nation Under God . (2)
نحن نثق في الله
In God We Trust . (3)
فليبارك الله في أمريكا
God Bless America .
ويردد مثل هذه الأناشيد السياسية رجال الفاتيكان وعلى رأسهم «البابا» الذي أسرع بزيارة أوزبكستان وغيرها من البلاد المحيطة بأفغانستان وبحر قزوين، منشدا الله والمسيح والروح القدس، ساعيا إلى توحيد المسيحيين ضد ما أسماه الإرهاب الإسلامي، وتمهيد الطريق تحت اسم الله للقوات العسكرية الأمريكية والبريطانية لغزو أفغانستان.
وهل تختلف لغة جورج بوش الدينية أو لغة البابا عن لغة أسامة بن لادن وأعوانه في تنظيم القاعدة؟! ألا يصور كل منهم الآخر على أنه الشيطان الشرير أو الإرهابي غير المتحضر؟! ألا يدعي كل منهم أن الله معه في حربه المقدسة من أجل الخير والعدل والسلام والتحضر.
وأي حضارة هذي التي تؤدي إلى هذه المذابح البشرية في أفغانستان أو العراق أو الصومال أو غيرها؟ كيف تخفت المذابح لإبادة الشعب الفلسطيني تحت اسم معاهدات السلام؟
منذ نشوء النظام الطبقي الأبوي وحتى اليوم تراق الدماء البريئة من الشعوب نساء ورجالا وأطفالا تحت شعارات دينية ووطنية، لا يوجد فاصل بين الدين والوطن في الشرق والغرب، في الإسلام أو المسيحية أو اليهودية أو غيرها، ينظر جورج بوش إلى العساكر الأمريكيين الذين يقتلون في أفغانستان على أنهم أبطال الوطن وشهداء المسيحية، وينظر أسامة بن لادن إلى القتلى من أعوانه على أنهم شهداء الإسلام، وماذا يدهشنا في ذلك وسيلة التشابه في اللغة والسلوك والهدف بين القادة السياسيين الذين يستخدمون الدين وسيلة لتحقيق أهدافهم العسكرية والاقتصادية، إن الدين يخدم السياسة منذ نشوء الدين والسياسة، وتشمل الكتب الدينية على نصوص سياسية وثقافية واقتصادية وعسكرية، بالإضافة إلى النصوص الأخلاقية والاجتماعية والشخصية، ربما أوضح مثال على ذلك هو ما جاء في كتاب التوراة عن التفرقة الصارخة على أساس الجنس، واعتبار حواء هي المسئولة عن إثم المعرفة تستحق عقاب الله، وذلك بأن يسود عليها زوجها، من هنا ارتدت السلطة الأبوية الذكورية رداء مقدسا توارثته الأديان الأخرى من بعدها، وفي التوراة أيضا جاءت الآية التي شرعت العنصرية بأن رفعت الشعب اليهودي إلى درجة أعلى من شعوب العالم، فأصبح يحمل لقب شعب الله المختار، وفي التوراة أيضا جاء النص الذي يدعو فيه الله شعبه المختار للاستيلاء على أرض كنعان «فلسطين» وإبادة سكان هذه الأرض لمجرد أنهم لا يؤمنون بإله اليهود، إنها الأرض الموعودة التي منحها الله لليهود مقابل ختان الذكور كما نصت التوراة، هكذا شرعت التوراة الحرب المقدسة من أجل الأرض تحت اسم إبادة الكفار غير المؤمنين، كما شرعت ختان الذكور كعهد مقدس بينهم وبين الله.
ما علاقة الاستيلاء على أرض الغير بالقوة المسلحة وقطع الغرلة من حول رأس العضو الذكري؟
وقد دخلت فكرة «حجاب المرأة» ضمن المقدسات منذ نشوء الديانة اليهودية ، وينص التلمود على أن شعر المرأة العاري مثل جسدها العاري، وتعتبر الزوج هو رأس المرأة، والمرأة بدون زوج هي مجرد جسد بدون رأس، ويصلي الرجل اليهودي كل صباح قائلا: أحمدك يا رب لأنك لم تخلقني امرأة.
مع ذلك فقد استطاعت الآلة الإعلامية الأمريكية الإسرائيلية أن تحجب هذه الحقائق التاريخية عن عقول الناس؛ لتصور الإسلام وحده على أنه مصدر حجاب المرأة، رغم أنه لا يوجد نص واحد في القرآن يدعو إلى ختان المرأة أو تغطية رأسها أو شعرها، ولا يوجد نص واحد يقول إن حواء هي سبب الإثم والخطيئة؛ لأنها أكلت من شجرة المعرفة كما ورد في التوراة.
إن القوة العسكرية المدعمة بقوة إعلامية قادرة دائما على قلب الحقائق أو إخفائها، وما دامت القوة هي التي تحكم فلا يمكن لعالمنا البشري أن يعيش في سلام حقيقي قائم على العدل والحرية، ولا بد من كشف هذا التزييف الفكري، أو رفع الحجاب عن عقول الملايين شرقا وغربا.
إن الدراسات المقارنة للأديان تؤكد لنا التشابه الكبير بين الديانات، خاصة الأديان السماوية الثلاثة، وهناك الكثير من المبادئ الإنسانية في هذه الأديان كالعدل والرحمة والمحبة والسلام تكاد تشبه ما ورد في فلسفة إيزيس ونوت، وهناك نصوص في كتاب التوراة تشبه أناشيد أخناتون ونفرتيتي، وصورة العذراء مريم تحمل المسيح تكاد تكون نسخة مكررة من صورة إيزيس تحمل طفلها حورس، وقد تحول الثالوث المقدس بعد نشوء النظام الطبقي الأبوي إلى الأب والابن والروح القدس (الأم المختفية وراء حجاب) بعد أن كان في الأصل: الأم والابنة والروح القدس «الأب المجهول».
كان الأب في بداية التاريخ البشري مجهولا؛ ولهذا كان أغلب الأنبياء بدون أب، النبي موسى لم يكن له أب وكانت أمه هي التي أنقذته من الموت على يد فرعون، وهي التي أرضعته وعلمته وجعلته نبي اليهود، والمسيح لم يكن له أب، وكانت أمه السيدة مريم هي التي أنقذته من الموت وهربت به إلى مصر ثم جعلته نبي المسيحية، ونبي المسلمين «محمد» ماتت أمه وهو طفل، لكنها تنبأت بنبوته وهو في رحمها، وتزوج في العشرين من عمره من السيدة خديجة التي كانت تكبره بعشرين عاما، فأصبحت له بديل الأم ربته وعلمته وأنفقت عليه من مالها وعلمها، حتى نزل عليه الوحي في غار حراء فأسرع إليها ينتفض قائلا: «دثروني دثروني.» فأخذته في حضنها كالأم وطمأنته، وكانت أول من ناداه باسم رسول الله.
إلا أن مساهمة الأم ودورها في إعداد الأنبياء قد اندثر في التاريخ الأبوي الطبقي، وأصبح «الأب» هو الأصل وهو الأساس، وتذوب صورة الأب في صورة الإله في اليهودية والمسيحية، وهناك نص في كتاب التوراة: «وحدث لما ابتدأ الناس يكثرون على الأرض، وولد لهم بنات أن أبناء الله رأوا بنات الناس أنهن حسنات، فاتخذوا لأنفسهم نساء من كل ما اختاروا.»
وهنا نرى كيف ولد الآلهة ذكورا فقط مما أكد السمو والسيطرة الذكورية، واندثرت حقوق النساء والأمهات وانخفضت مكانتهن، وقد اختزل كتاب التوراة عمر الإنسان على ظهر الأرض إلى مدة لا تزيد عن 3389 سنة، وتم اختزال تاريخ مصر ليكون تاريخ التوراة، إلا أنه في عام 1829 تم اكتشاف رموز اللغة المصرية الهيروغليفية، وتم اكتشاف أن عمر البشرية أقدم من التاريخ الذي حددته التوراة لخلق آدم ونوح وإبراهيم، ويكشف علم الكون الجديد العام وراء العام عن الأخطاء العلمية والفلسفية التي وردت في الكتب الدينية المختلفة تحت اسم الحقائق الثابتة غير القابلة للنقد أو التغيير.
لقد استطاع علم الكون الجديد وما صاحبه من تقدم تكنولوجي كبير في وسائل الاتصال والإعلام أن يجعل هذا العالم بمثابة القرية الواحدة، وأصبحت الأحداث في أي مكان في العالم مقروءة ومرئية في اللحظة نفسها فوق الشاشة الصغيرة في قرية مصرية على ضفاف النيل مثل قرية أخرى على ضفاف نهر المسيسيبي، وغيرهما من الأنهار والقرى والمدن في العالم شرقا وغربا.
إلا أن هذا التقدم العلمي التكنولوجي لم يحقق السلام ولا العدل ولا الحرية ولا الحب، بل أصبح في خدمة الآلة العسكرية التي تخدم مصالح النظام الرأسمالي والأبوي الذي لا يهدف إلا إلى الربح على حساب أرواح الآلاف والملايين من البشر .
وقد شهدت في حياتي منذ ولدت في بداية الثلاثينيات من القرن الماضي عددا من الحروب الاستعمارية، حرب 1948 لإنشاء دولة إسرائيل، وقتل وتشريد الشعب الفلسطيني، حرب 1951 ضد الاحتلال البريطاني في قناة السويس، وحرب 1956 حين غزت مصر الجيوش الإنجليزية والفرنسية والإسرائيلية ومن خلفها الولايات المتحدة، ثم حرب 1973 حيث كاد الجيش المصري أن يسترد الأرض المسلوبة في سيناء لولا التدخل الأمريكي لتدعيم إسرائيل، ثم حرب الخليج 1991 حيث هاجم العراق ثلاثون جيشا تحت القيادة الأمريكية، وكم قتل من الشباب المصري والعربي في هذه الحروب، ونحن نشهد اليوم ماذا يفعله النظام العالمي الأمريكي لإبادة الشعب الفلسطيني، وماذا فعل في أفغانستان منذ الحرب المقدسة ضد الإلحاد في الثمانينيات من القرن الماضي، كيف لجأ إلى زراعة الأفيون والاتجار به لتمويل العمليات العسكرية وزيادة الأرباح الرأسمالية، إلى حد أن أصبح إنتاج الأفيون في أفغانستان يمثل ما يزيد عن 75٪ من أفيون العالم، ويشجع هذا النظام على نشر البغاء والمخدرات بين الشباب والشابات وتحطيم حياتهم وعقولهم، ليس في أفغانستان وحدها بل في العالم كله.
وقد نقل الاستعمار الأمريكي الجديد عن الاستعمار البريطاني القديم، هذه الوسائل البربرية غير الإنسانية للإبادة الجماعية لأجساد وعقول وأرواح البشر، ألم يلجأ الاستعمار البريطاني إلى حرب الأفيون في الصين، ألم يلعب بورقة الدين لخلق الصراعات وتمزيق وحدة الشعوب من أجل السيطرة والاستغلال؟ أليس مبدأ «فرق تسد» هو السائد في الماضي والحاضر عالميا ومحليا؟ وألم تلجأ الحكومات المحلية بما فيها الحكومات العربية لفرض التفرقة والانقسامات بين الشعب الواحد من أجل السيطرة والاستغلال؟ وهل تختلف الحكومات المحلية أو العربية عن غيرها من الحكومات؟ أليس هي حضارة واحدة غير متحضرة هي التي تحكم العالم شرقا وغربا؟
من يدعم ويساند الحكومات الدكتاتورية الأبوية في الشرق أو الجنوب بما فيها الحكومات العربية؟ أليست هي الحكومات الرأسمالية الأبوية في الغرب، وعلى رأسها الحكومة الأمريكية؟ ومن الذي دعم وساند التيارات الدينية الإرهابية الإسلامية أو المسيحية أو اليهودية أو الهندوكية أو غيرها؟ ألم تكن في أفغانستان وتنظيم القاعدة بقيادة أسامة بن لادن، أم تكن كلها صناعة أمريكية لضرب أعداء الرأسمالية؟
أليس هو نظام عالمي واحد وحضارة واحدة تحكمها فلسفة طبقية أبوية غير متحضرة ؟ لا شك أن هناك اختلافات في السلوك وبعض العادات من بلد إلى بلد، إلا أنها اختلافات في الفرع وليس الأصل.
وقد آن الأوان لإدراك أن الغرب ليس كله صليبيا مسيحيا يهوديا، وأن الشرق ليس كله إسلاميا إرهابيا عاجزا عن التحضر، هذه التقسيمة «غرب/شرق» أصبحت مضللة مثل غيرها من التقسيمات. (4) سقوط الديمقراطية الليبرالية
تتصاعد المظاهرات الشعبية في عواصم العالم غربا وشرقا منذ المظاهرات في مدينة سياتل نوفمبر 1999، وتتميز هذه المظاهرات بقدرتها على تجاوز التقسيمات التي فرضت على البشر لتمزيق وحدتهم الإنسانية تحت اسم الدين أو الجنس أو الجنسية أو العرق أو اللون أو الطبقة أو المهنة أو الشهادة العلمية أو غيرها، لقد ذابت هذه الفروق المصنوعة بين الناس من أجل مقاومة الظلم الرأسمالي الأبوي؛ الذي تجسد في قوانين منظمة التجارة الدولية والبنك الدولي وغيرهما من المؤسسات المسيطرة على شعوب العالم غربا وشرقا.
بدأت الشعوب تدرك أنها تعيش في عالم واحد تحت نير حضارة واحدة تؤدي إلى مزيد من الفقر ومزيد من القتل ومزيد من التضليل.
هذه الحركات الشعبية الجديدة في طريقها إلى النمو واكتساب مزيد من القوة والوعي والتنظيم كلما تكشفت مخاطر هذه الحضارة الرأسمالية الأبوية، وقد اكتسبت هذه الحركات الشعبية اسما جديدا هو «العولمة من أسفل» أو العولمة من قاعدة الهرم، لمقاومة العولمة الرأسمالية الاستعمارية القابعة فوق قمة الهرم، والتي تملك الأسلحة النووية والشركات التجارية الكبرى المملوكة لقلة قليلة من الأفراد يمثلون الطبقات الحاكمة غربا وشرقا.
إن ثروة أغنى ثلاثة عائلات في العالم تزيد عن دخل 600 مليون شخص، ومن أجل حماية هذه القلة الثرية ينفق العالم سنويا 700 بليون دولار على الحرب والتسليح، وهي تساوي أربعين ضعفا لما ينفق على الصحة أو التعليم أو توفير الماء النقي.
تعتمد الفلسفة الطبقية الأبوية منذ العبودية على ما يسمى المساعدة أو المعونة للفقراء والمعدمين واليتامى والمساكين، تحت اسم الرحمة أو الشفقة، وهي كلمات تضليلية توحي بالإنسانية، وهي في حقيقتها كلمات تزيد من إذلال الفقراء، فاليد العليا خير من اليد السفلى، وهي كلمات مضللة أيضا لأنها توحي للفقراء أنهم يعيشون من فضل الأثرياء ومن كرمهم ومن خيرهم، أو على حسابهم، في حين أن العكس هو الصحيح؛ ذلك أن ثراء الأغنياء ليس له مصدر إلا العمل المنتج الذي يقوم به النساء والرجال الفقراء في الحقول والمصانع وغيرها من مؤسسات العمل في مختلف بلاد العالم، وهو عمل يكاد يشبه السخرة لانخفاض الأجر بالنسبة للجهد الذي يبذل فيه والإنتاج الذي يصدر عنه.
وتقوم النساء في العالم بالإنتاج الزراعي والصناعي والخدمات بما يزيد عن 65٪ من العمل المنتج، مع ذلك لا يحصلن إلا على 5٪ فقط من دخل العالم، مما يفرض عليهن أن يعشن عالة على الرجال داخل الأسرة، على حين أن الحقيقة غير ذلك؛ لأن إنتاج النساء داخل البيوت وخارجها أكثر من إنتاج الرجال، لكن أغلب الأعمال النسائية غير مدفوعة الأجر.
وقد بدأت الحركات النسائية في مختلف البلاد غربا وشرقا تكشف هذه الحقيقة، كما بدأ فقراء العالم في البلاد التي أطلق عليها البلاد الفقيرة (فيما سمي العالم الثالث)، تكشف عن زيف الحقائق التي تروجها الحكومات الرأسمالية الاستعمارية، على رأسها أن فقراء العالم الثالث يعيش عالة على العالم الأول كما تعيش المرأة عالة على الرجل، لكن الحقيقة غير ذلك، وهي أن موارد العالم الثالث قد نهبت بواسطة الاستعمار القديم والجديد، وأن هذه المعونة أو القروض تعود بالفائدة على القوى المسيطرة دوليا ومحليا، ولا يصل إلا الفتات للمعدمين المساكين.
لهذا بدأت الشعوب في العالم الثالث، أو ما سمي الجنوب، ترفض هذه المعونات والقروض، فهي تستنزف الكرامة والموارد المادية تحت اسم تسديد فوائد الديون، وارتفع شعار «عدالة التجارة وليس المعونة
Fair Trade and not Aid »، وتزايدت المظاهرات الشعبية لإلغاء ديون العالم الثالث، وفي المظاهرات النسائية العالمية في 8 مارس عام 2000 ارتفع شعار يقول: كيف نقارن ديون العالم الثالث بخمسة قرون من النهب الاستعماري وقتل الشعوب في الحروب؟
وقد أصبحت مظاهرات النساء المتكررة كل عام في اليوم العالمي للمرأة (8 مارس ) من أهم المظاهرات الشعبية، يشارك فيها النساء من مختلف بلاد العالم، وهي جزء من الحركة الشعبية العالمية التي تضرب في جذور النظام الرأسمالي الأبوي في الغرب والشرق، وتكشف عن الترابط الوثيق بين القهر الطبقي والجنسي منذ التاريخ العبودي القديم وحتى اليوم.
ويلعب الإعلام الاستعماري العالمي دورا في تضخيم حجم المعونات إلى الشعوب الفقيرة تحت اسم المساعدات الإنسانية
Humanitarian Aid ، من أجل التمويه على ما يحدث من قتل وتدمير لهذه الشعوب ذاتها، ألم نر تلك العربات اللوريمجلة نيوزويك، العدد السنوي فوق الشاشة التي كانت تحمل المعونة الأمريكية وزكائب الدقيق إلى الشعب الأفغاني، في الوقت الذي كانت تسقط فيه القنابل من الطائرات الأمريكية على هذا الشعب ذاته، وقد شهدنا هذه الصورة نفسها منذ أعوام قليلة في حرب الصومال، والحروب الاستعمارية الأخرى في بلاد مختلفة من العالم.
وتقود القوى الرأسمالية الأبوية حملة عالمية ومحلية تدعو إلى جمع التبرعات أو المنح المالية أو الدراسية للشعب الأفغاني، وهي حملة تمويهية تغطي على جرائم الحرب، وتعطي واجهة إنسانية رحيمة لنظام بالغ القسوة والظلم، وقد رفضها بعض الرجال والنساء الأفغانيات إذ يقولون: «لا نريد المعونات التي لا تفعل شيئا سوى تصويرنا على أننا شعب من الشحاذين المتخلفين، وكل ما نريده هو أن يرحل عنا الاحتلال الأمريكي العسكري الاقتصادي وأعوانه ممن يسمون «التحالف الشمالي» أليس التحالف الشمالي جزء من نظام الطالبان الذي يتاجر بالدين، ويقتل النساء تحت اسم الشرف والأخلاق؟»
لقد سمعت بأذني عبر أسلاك التليفون هذه الأصوات النسائية الواعية في أفغانستان، إلا أن الأصوات الأخرى المسيطرة على الإعلام العالمي والعربي تتجاهل هذه الأصوات أو تفرض عليها الصمت.
وقد أصبح الصوت مع الصورة فوق الشاشة الصغيرة أكثر انتشارا في العالم من الكلمة المطبوعة، وأكثر تأثيرا، خاصة في بلادنا حيث ترتفع نسبة من لا يعرفون القراءة، وتتنافس الدول الكبرى والصغرى على إنشاء القنوات التليفزيونية والفضائية. يتغلب في هذا المضمار الدولة الأكثر ثراء وقوة، وهي الولايات المتحدة الأمريكية، وقد أصبحت قوة الإعلام الأمريكي الأوروبي تساند قوة السلاح، وأصبح تدمير العقل لا يقل خطورة عن تدمير الجسد.
وتشتد المقاومة من أجل الحياة ضد آلة الحرب والقتل، كما تزداد الرغبة في المعرفة والفهم ضد محاولات التضليل والتمويه.
وقد نمت بوادر فلسفة إنسانية جديدة نابعة من الحركات التحريرية ضد الحضارة الرأسمالية الأبوية غربا وشرقا، وهي فلسفة بسيطة واضحة متسقة مع المنطق الطبيعي السليم، أساسها البديهيات التي طمست منذ العبودية، على رأسها أن الحق فوق القوة، والشعب فوق الحكومة، والبشر في الأصل والطبيعة متساوون في الحقوق والواجبات، لا فرق بين رجل وامرأة أو أبيض وأسود وحاكم ومحكوم أو مالك ومملوك أو غيرها من الثنائيات، وأشكال التفرقة على أساس الجنس أو اللون أو العرق أو الجنسية أو الطبقية أو الدين أو العقيدة أو اللغة أو المهنة أو غيرها.
لقد سافرت إلى الولايات المتحدة قبل أحداث 11 سبتمبر 2001 بأسبوع واحد، وعشت فيها ثلاثة شهور أقوم بالتدريس في جامعة مونت كلير، والتي لا يفصلها عن برجي مركز التجارة العالمية في نيويورك إلا نهر هدسون، أو ساعة واحدة بالسيارة، وهكذا عايشت الأحداث عن قرب، وتجولت أيضا في عدد من الجامعات لإلقاء المحاضرات أو المشاركة في المظاهرات الطلابية الجامعية على الساحل الباسيفيكي في أوكلاند وسان فرانسيسكو، وفي جامعة مونت كلير تكونت لجنة ضد الحرب في أفغانستان تضم عددا من الطلبة والطالبات والأساتذة والأستاذات، وكنت واحدة من هؤلاء، وقد منحني هذا النشاط السياسي داخل الجامعة كثيرا من الأمل في المستقبل، رغم خطورة الأحداث وتزايد الصراع العسكري في أفغانستان حول المصالح البترولية في منطقة بحر قزوين وآسيا الوسطى والبلاد العربية من العراق إلى الصومال.
وقد أدت هذه الحركة السياسية التحريرية المعادية للحرب، والتي يشارك فيها النساء والرجال والشباب من مختلف البلاد والجنسيات إلى بوادر هذه الفلسفة الإنسانية المناهضة للرأسمالية الأبوية، وهي فلسفة جديدة وقديمة قدم نشوء «الضمير الإنساني» الذي يحمل اسم «الله» عند بعض الشعوب، وهو الصوت العميق داخلنا الذي يحاسبنا ويرشدنا إلى العدل والحرية والحب والرحمة والجمال.
أدت الفلسفة العبودية غير الإنسانية على مدى القرون إلى إضعاف الضمير الإنساني الفردي والجماعي، عن طريق تحويل الصراع ضد الظلم الخارجي السياسي، والاقتصادي إلى الصراع داخل الإنسان بين العقل والجسد، أو بين الجسد والروح، وأصبحت الروح تعني الفضيلة وترمز إلى الإله الذكر، والجسد يعني الرذيلة وتركز إلى الأنثى الآثمة.
وسقطت الفلسفة السائدة المكتوبة في العصور العبودية صريعة هذا الصراع اللانهائي بين الروح والعقل والجسد، أصبحت الفلسفة غارقة في المجردات غامضة أشبه بالسفسطة الفارغة داخل الغرف المغلقة، بعيدا عن الحياة في البيت والشارع والمظاهرات الشعبية ضد النظام الحاكم.
بعبارة أخرى انفصلت الفلسفة الرسمية السائدة منذ أرسطو حتى اليوم عن «رجل الشارع»، أو جماهير الشعب في حركتهم اليومية الحية ونشاطهم في نواحي الحياة خاصة النواحي السياسية والثقافية.
وتنطوي كلمة «رجل الشارع» على القيم السائدة التي تجعل النشاط السياسي خارج البيت أو في الشارع السياسي هو من نصيب الرجال فقط؛ لأن كلمة «امرأة الشارع» تعني «المومس» أو «البغي»، وليس للمرأة نشاطا سياسيا أو ثقافيا خارج بيتها، وكأنما المرأة لا تخرج إلى الشارع إلا لممارسة الجنس، وهو مفهوم قاصر على النساء الفقيرات أو الجواري أو الإماء اللائي كن يخرجن إلى العمل لتوفير الخبز والطعام لأطفالهن، ويفرض عليهم المجتمع الطبقي الأبوي المهن السفلى، ومنها الخدمة في البيوت، وتلبية حاجات الرجال الجنسية في بيوت البغاء.
كان العمل خارج البيت مهينا للمرأة، فهو لا يعني أنها فقيرة، وبلا رجل يوفر لها الحماية والمأوى، لكن حركة النساء التحريرية في الغرب والشرق قد غيرت هذا المفهوم، وأصبح لعمل المرأة خارج البيت قيمة إنسانية لا تقل كثيرا عن قيمة عمل الرجل، كما خرجت النساء إلى الشوارع في المظاهرات الشعبية والنسائية، ولم يعد الشارع مكان المومسات فحسب.
نزلت المرأة إلى الشارع دون أن تفقد احترامها، وبدأت الفلسفة أيضا تنزل إلى الشارع دون أن تفقد احترامها.
لم يعد التفكير مهنة يمارسها قلة محظوظة من المفكرين أو الفلاسفة، وبدأت القيم الطبقية الأبوية تتساقط مع مشاركة الجماهير من النساء والرجال في الأنشطة السياسية والثقافية، وبدأت الفواصل بين الرجل والمرأة تتلاشى، ومعها تتلاشى الفواصل بين الجسد والروح وغيرها من الثنائيات الموروثة منذ العبودية.
وهناك محاولات لقمع هذه الحركات السياسية والفكرية الجديدة، فالأجهزة القمعية البوليسية لا تقل شراسة وعنفا عن الأجهزة العسكرية في العالم غربا وشرقا، ربما تختلف درجة القمع أو نوعه من بلد إلى بلد، أو يكون مستترا مثل القمع النفسي الذي يمارس على النساء الثائرات، ويقود المرأة منهن إلى الانتحار، أو المستشفى النفسي وليس السجن.
وقد كشفت الحركات النسائية والشعبية الجديدة عن زيف القيم السياسية والأخلاقية للنظام الرأسمالي الأبوي، على رأسها ما سمي بالديمقراطية الليبرالية، التي صورها المفكرون في الغرب من أمثال فرانسيس فوكاياما على أنها أفضل الأساليب لتنظيم المجتمعات الإنسانية، وأنها تقود العالم إلى الحرية والعدالة والسلام والحب.
لقد اتضح خلال القرن العشرين الماضي أن هذه الديمقراطية الليبرالية لا تقود العالم إلا إلى الحروب والعنف والإرهاب، وأنها لا تستند على المشاركة الفعلية الشعبية للنساء والرجال الفقراء؛ بل على التصويت في انتخابات شكلية خاضعة لأصحاب الأموال والقوى الطبقية الذكورية في المجتمع الرأسمالي.
وثبت لنا، خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر وحرب البترول والأفيون الدائرة في أفغانستان، أن الحضارة الغربية التي أعطت نفسها اسم الديمقراطية الليبرالية هي في جوهرها حضارة طبقية أبوية، ولن تؤدي إلى السلام القائم على العدل، وإلى الحرية السياسية والاقتصادية لأغلب قطاعات الشعب، ولا إلى مشاركة الشعب الفعلية في الانتخابات.
وقد عشت الشهور الثلاثة التي تلت أحداث 11 سبتمبر في الولايات المتحدة، وشهدت كيف تراجعت هذه الديمقراطية الليبرالية لتفرض القيود على الشعب الأمريكي تحت اسم الأمن، كيف اجتمع جورج بوش بالمسئولين الكبار في أجهزة الإعلام، وطلب منهم فرض الرقابة على ما ينشر ويذاع على الشعب الأمريكي، كيف تنكرت الحضارة الأمريكية للمبادئ الديمقراطية الليبرالية التي تشدقت بها منذ القرن قبل الماضي، كيف شرعت الحكومة الأمريكية الاعتقال دون دليل لمجرد وجود شبهات؟ كيف زجت في السجون أبرياء من الرجال والنساء من دون تحقيق، وتقديمهم للمحاكمة السرية أمام المحكمة العسكرية دون أن يكون لهم حق الدفاع القانوني؟ كيف لجأت إلى تكنولوجيا التعذيب الجسمي والعقلي والنفسي للمسجونين والمسجونات للحصول على المعلومات؟ وهذا يؤكد أن هذه الديمقراطية الليبرالية هشة ومزيفة، ولا تختلف كثيرا عن الفاشية ونظم الحكم الشمولية والدكتاتورية العربية وغيرها، ولا غرابة في ذلك ، فهي قائمة على الظلم والازدواجية، أساسها القيم الرأسمالية الطبقية الأبوية الموروثة عن العبودية.
كشفت الحركات النسائية والشعبية الجديدة في الغرب والشرق أن العالم في حاجة إلى فلسفة إنسانية تقضي على القيم الطبقية الأبوية، وتبني قيما إنسانية جديدة قائمة على العدل والسلام والحب، وإلغاء جميع الثنائيات والتقسيمات بين البشر.
القاهرة يناير 2002
المصادر
مسرحية إيزيس، دار المستقبل العربي، القاهرة 1982، ص5.
عن المرأة، دار المستقبل العربي، القاهرة 1998، ص24.
سلمان رشدي، جريدة نيويورك تايمز، نيويورك 2 نوفمبر 2001.
صموئيل هانتنجتون، مجلة نيوزويك، العدد السنوي الخاص، ديسمبر 2001، فبراير 2002.
عن المرأة ، نوال السعداوي، ص18-25.
توأم السلطة والجنس، دار المستقبل العربي، القاهرة 1999، ص233.
فترة التكوين في حياة الصادق الأمين، «خليل عبد الكريم»، دار مريت للنشر، القاهرة 2001.
كتاب التوراة، الآية رقم (1)، (2)، الإصحاح السادس، تكوين 5، 6.
Bilinmeyen sayfa