وحدثني عن زينب طويلا: عرفت زينب في الحارة منذ الطفولة، هي تقيم في نفس الربع أيضا، وكانت لنا ألعاب مشتركة تعرضنا بسببها للضرب بالعصا، ولما استوت صبية تجلت ملامحها، كانت تسير فتجذب الأنظار وتحرك الأشواق، فأتصدى أنا للدفاع عنها مستمدا الشجاعة من ذكريات الفتونة في حارتنا، وفي المرحلة الثانوية حال بيننا الرقباء والتقاليد ولكن حبنا كان قويا، يلهب المشاعر ويفرض ذاته على الجميع، وأخيرا وجدنا حريتنا في الجامعة وأعلنا خطوبتنا وانتظرنا الزواج باعتباره ملاذنا الأخير، وها هي الأحلام تتبدد ويموت كل شيء.
وجدا في الجامعة حرية لم يحلما بها من قبل، فوقت الطلبة لا يمكن أن يخضع لسيطرة حارة دعبس وتزمتها، وكل غيبة ستجد لها عذرا أو مبررا؛ لذلك أمضيا ساعات طويلة معا، وتعرفت بأصحابه، وأصبحت من أهل الكرنك، واعتقلت معه، ونضجت شخصيتها فوق ما كان يتصور.
وضحك عاليا وقال: طحنتنا أزمة الجنس، وتخبطنا حيارى طويلا، وأحاطت بنا مغريات تجارب حرة تجري من حولنا، وقلت لها يوما «لا شك في حبنا أو إخلاصنا، وسوف نصبح زوجين، فما رأيك؟» وكنت أحتويها بين ذراعي في عناق حار، ولكنها قالت لي: «لقد أقسمت لوالدي.» فقلت لها: «هذا سخيف ولا معنى له، ألا تسمعين ما يقال؟» فقالت في ارتياب: «لست واثقة ... ولا أنت!» وكنت أعاني آلاما عنيفة وكانت أيضا تعاني.
وساءلت نفسي إلى أي درجة تعتبر هذا الثوري ثوريا؟ إنه ثوري من نوع خاص وهو لا يخفي إيمانه بالدين. وددت أن أسأله عن موقفه من الحرية الجنسية، ولكنني خشيت أن يظن بي رغبة في التسلل إلى أسرار زينب، فأبيت أن أستدرجه إلى البوح بما لا يريد البوح به. - ومع ذلك فالحب الحقيقي يهب مناعة بخلاف ما يتصور كثيرون.
ولكنني ما زلت أذكر قوله أيضا: في السجن اجتاحنا الضياع، فاهتز بناؤنا المتين من أساسه.
وتذكرت أن الهزات العنيفة في حياة البشر تعقبها استغاثات جنسية تشارف حد الجنون، فماذا يعني يا ترى؟ ولكنه عاف - فيما بدا - الرجوع إلى الموضوع ... وسألته: وحلمي حمادة؟
فهتف: كان يتخطى التقاليد بكل عنف. - أكان من نفس البيئة؟ - كلا، كان أبوه مدرس لغة إنجليزية، أما جده فكان عاملا بالسكك الحديدية. - أكان يحب قرنفلة حقا؟ - أجل، لا يداخلني شك في ذلك، لقد عرفنا المقهى مصادفة، ولكنه أصر على العودة قائلا: «لنعد إلى مقهى المرأة.» فعجبت لذلك ولكنه قال: «إنها جذابة ألم تلاحظ ذلك؟» وكنا راغبين في العودة كذلك، وقد أحببناها أيضا كأصدقاء.
ولم تكن جاذبية قرنفلة موضع شك عندي؛ فقد وقعت أنا نفسي في إسارها، ولكن هل يكفي ذلك لأعدل عن ظني القوي فيما يتعلق بحب حلمي حمادة لزينب؟ ... ألا يجوز أنه صرح بما صرح به مداراة لعاطفته الحقيقية؟! - كان يحب قرنفلة، لعله لم يكن سويا في عواطفه، لعله كان يروم عاطفة كالحب، ولكنها ليست الحب نفسه، ولكنه على أي حال عاملها معاملة أمينة صادقة، لم يستجب قط لإغراء استغلالها رغم تيسره له، وهو لا يخلو من مثالية في سلوكه، ومن ناحية أخرى كانت أحواله المادية حسنة، وحسبك أن تعلم أننا ندين في ثقافتنا العامة للكتب المعارة من مكتبته. - لعله عطف على تاريخها المجيد.
فضحك وقال: كان يصغي إليها متظاهرا بالتصديق، ولكنه لم يؤمن بكلمة واحدة، وكان يحبها كما هي، ولكنه طالما سخر من مزاعم التجديد في الفن والتفرد بالسلوك المثالي.
فقلت له كشاهد محايد: لقد كانت مثالا طيبا في الفن والأخلاق!
Bilinmeyen sayfa