إسماعيل الشيخ
حقا علمت ما لم يكن لي به علم.
وقد أثار إسماعيل الشيخ اهتمامي من أول لقاء ببنيانه القوي، وقسماته الكبيرة الواضحة. لم أر عليه سوى بدلة واحدة يرتديها صيفا وشتاء، يخلع جاكتتها صيفا ويعيدها شتاء بالإضافة إلى بلوفر. ورغم فقره الظاهر حظي بالاحترام، وقد نال أخيرا الليسانس رغم اعتقالاته المتقطعة. - إني ابن بيئة فقيرة جدا، هل سمعت عن حارة دعبس بالحسينية؟ أبي عامل في مطعم كبدة، أمي بياعة سريحة، وهي تبيع أيضا الخوص والريحان في مواسم القرافة، إخوتي الكبار صبي جزار وسواق كارو وإسكافي، مسكننا مكون من حجرة وحيدة في فناء ربع، الربع كأنه أسرة كبيرة يجاوز أفرادها الخمسين عدا، وليس به حمام ولا ماء، وبه مرحاض واحد في ركن الفناء تحمل إليه المياه بالصفائح، وفي الفناء يجتمع النساء، والنساء والرجال أحيانا، يتبادلون الأحاديث والنكات وربما الشتائم واللكمات ويأكلون ويصلون.
وينظر إلي بتجهم ويقول: لم يتغير شيء جوهري في حارة دعبس حتى اليوم.
ولكنه يستدرك: غير أن المدارس فتحت أبوابها، تلك نعمة لا يمكن إنكارها، دخلت مع الداخلين، ولعل أبي كان يتمنى لي الفشل حتى يتخلص مني بإلحاقي بحرفة مثل إخوتي، ولكني خيبت ظنه، وواصلت النجاح حتى نلت الثانوية العامة، وأمكنني الالتحاق بكلية الحقوق، وعند ذاك غير الرجل رأيه وداخله زهو وعجب، أيمكن حقا أن يصير ابنه وكيل نيابة؟ وثمة وظيفتان معروفتان جيدا في حارتنا: الشرطي ووكيل النيابة. وأهل حارتنا يتعاملون معهم كثيرا كما تعلم، وصممت أمي على أن أستمر «ولو بعت عيني» .. والله وحده يعلم كم كلفها أن تبتاع لي بذلة تليق بطالب في الجامعة، ولكنها اعتبرتها كعقار يجب المحافظة عليه، ويجوز إصلاحه أو ترميمه أو حتى تجديده، ولكن لا يجوز الاستغناء عنه.
ثم بحدة: الحارة اليوم مكتظة بالتلاميذ والتلميذات، ولكن مستقبلهم مشكلة متداولة بين الأمم!
وقد قامت الثورة وهو ابن ثلاثة أعوام؛ فهو ابن من أبناء الثورة بكل معنى الكلمة ... ولذلك لم أخف عنه دهشتي لما حل به من آلام وقلت له: لقد ظنك البعض شيوعيا أو من الإخوان.
فقال بيقين: لا هذا ولا ذاك، وانتمائي الوحيد كان إلى ثورة يوليو، أما الآن ... وجعل يهز رأسه صامتا كأنما لا يدري ما يقول، ثم قال: وقد عشت دهرا وأنا أظن أن تاريخ مصر يبدأ بالثالث والعشرين من يوليو، ولم أتجه للبحث عما وراء ذلك إلا بعد النكسة.
واعترف لي بأنه آمن بالاشتراكية المصرية، وأن إيمانه بالدين لذلك لم يتزعزع فسألته: خبرني عن إيمانك بها الآن؟
فقطب قائلا: كثيرون يصبون غضبهم عليها باعتبارها سببا من أسباب الهزيمة، ولكن الحقيقة التي يجب أن تعرف هي أنه لم تكن توجد في حياتنا اشتراكية حقيقية؛ لذلك فإنني لم أتخل عنها، وإن تمنيت أن أقطع الأيدي التي تطبقها، وذلك ما فطن إليه من بادئ الأمر حلمي حمادة الله يرحمه. - لماذا؟ - كان شيوعيا! - إذن كان يوجد بينكم غرباء؟ - أجل، ولكن ما ذنبنا نحن؟
Bilinmeyen sayfa