ندت عنه في ذهول أشد عندما تبين له أيضا أن ملابس المرأة غير موجودة. تفحص أنحاء الحجرة بغضب، نظر أسفل السرير، مضى نحو الباب وصفق بشدة. ولم يكن عرف لها اسما فصاح: يا ست!
وبنبرة أشد: يا هوه.
واندفع يفتش الشقة الصغيرة، الحمام مرة أخرى والمطبخ ولكنه لم يجد أثرا لإنسان، ومضى نحو باب الشقة فوجده مغلقا بإحكام فرجع إلى الحجرة، وهو يتميز غيظا وحنقا، واضح أن المرأة قد ذهبت، من السهل تصور أنها كانت مختفية في ظلام الصالة عندما دخل الحمام، ثم ارتدت ملابسها بسرعة، وأخذت ملابسه وذهبت، ما معنى ذلك؟ هل أرادت سرقته مع منعه من اللحاق بها؟ افتراض غير مطمئن، وثمة سؤال آخر، بيت من هذا؟ ... وأي علاقة للمرأة به؟ وكيف تتركه عاريا في هذه الشقة الجرداء؟!
وشعر بالعجز والقهر والضياع اللانهائي، لن يرجع إلى ما كان عليه، ذلك الرجل المحترم. إنه يودع حياة يعرفها ليستقبل حياة مجهولة مدمرة، ولكنه لا يريد أن يصدق، لعله مزاح ثقيل سخيف ليس إلا ...
ولكن الوقت يمر بلا مبالاة، وفجأة ضرب بيده على جبينه وهتف: مكيدة، إنها لمكيدة مجرمة!
لا تقع هذه الأمور مصادفة، إن أيدي خصومه تتراءى له، وهي تدبر بخبث وإحكام رامية في النهاية إلى إفشال القضية. يتذكر الآن أنه لمح المرأة في مشرب الشاي قبل أن يغادره ليستقل الترام، وأنها جاءت في أعقابه لتجلس أمامه، وسألته عن الساعة لتضبط ساعتها، وفي الحقيقة لتلفت نظره إليها، وأنها لم تكن ملاكا كما تصور - كيف تصور ذلك - فقد فرجت بين ساقيها العاريتين لحظة ثم ضمتهما بسرعة وحياء مصطنع، فظنها حركة بريئة طاهرة، ثم استسلمت لأحلام مجهولة في استرخاء ناعم، فكان بوسعه أن يدرك حقيقتها، ولكنه ثمل بخياله الجامح ، ورغباته الدفينة، فرأى ما لا وجود له وبنى عليه العلالي، واندلق كغر أبله، لقد أحاط خصومه بتحركاته وأهوائه فرسموا خطة محكمة، وأوقعوه بسهولة مخجلة ثم تركوه عاريا في مسكن مجهول ليتوقع قدرا مجهولا، وبمقتضى ذلك المنطق السليم القاسي فعليه أن ينتظر ضربة قاضية في المصيدة. - ما العمل؟
كيف يفر قبل أن يدهمه الخطر؟ وجال في المسكن مرة ومرة بلا جدوى على الإطلاق، ليس إغلاق الباب بمشكلة، فبوسعه أن يقفز من النافذة، ولكن كيف يواجه الطريق عاريا، هذه هي المشكلة، وأدرك أن خلو السرير من الغطاء والملاءة، لم يكن عن فقر أو مصادفة، ولكنه ضمن الخطة التي رسمت لحرمانه من أي شيء يستر به جسده. وقف وراء النافذة ينظر من خصاصها إلى الطريق المضيء الذي لا يخلو لحظة من عابر، كيف يمكنه أن يمضي فيه عاريا؟ وماذا يفعل عندما يبلغ الشوارع المزدحمة بفرض أن أمكن عبور هذا الشارع دون حادث؟! وسواء أبقي أم انطلق متخطيا حدود العقل، فسوف يقع تحت طائلة إحدى تهمتين خطيرتين، السطو أو الجنون، وكلتاهما خليقتان بزلزلة أركان القضية، فما العمل؟ ولم يشعر في وقت مضى بما يشعر به الآن بالحاجة الماسة إلى مشاورة محاميه لعله يهديه إلى منفذ في عالم القوانين المتشعب الذي يجهله كل الجهل. قال له ذات مرة: احرص على الجدية والاستقامة، فإن أي هفوة ماسة بسمعتك ستبدد مجهودي هباء.
فسأله ضاحكا: أتطالبني بالتقشف حتى يصدر الحكم؟ - ولم لا؟ - ومتى تراه يصدر في تقديرك؟ - آسف على أنك لا تحترم التقشف، وبخاصة في ظروفك الراهنة التعيسة!
واشتعل غضبا فهم بتعنيف الرجل. أكثر من مرة هم بتعنيفه، ولكنه كان يتذكر أنه لم يدفع له مليما واحدا سوى رسوم التوكيل، وأن الأتعاب مؤجلة ومنوطة بكسب القضية، فيرجع إلى عقله ويكظم غيظه ويسكت. والحق أنه لا يحب التقشف، بل إنه يضيق بمحاميه لتقشفه المعروف عنه، وأي قيمة للحياة بلا طعم لذيذ، وشراب هنيء، وعناق حار ومقام وثير؟! ذلك جميل حقا ولكن تحت شرط ألا يجد نفسه عاريا في بيت غريب، متوقعا بين لحظة وأخرى أن تدهمه ضربة قاضية.
وتساءل عما يراد به، هل يتركونه حتى يضطره الجوع إلى الخروج؟ هل يجيئون ليخيروه بين التنازل عن القضية، وبين استدعاء الشرطة لضبطه بالحال التي هو عليها؟
Bilinmeyen sayfa