صفوة القول إن الدراسات العلمية - منذ ظهور العلم في القرن السابع عشر حتى الآن - كانت تتجه إلى تدعيم المذهب الجبري، لكن الغريب حقا أن هذه الجهود المضنية التي بذلها العلماء لم تفلح لا في حل هذه المشكلة ولا في إقناع الإنسان بأن سلوكه حتمي بالضرورة: «ومهما حاولنا أن نقنع الإنسان بأنه أسير الظواهر الطبيعية فإننا لا يمكن أن ننجح تماما في أن نقضي على ما لديه من شعور بالحرية.»
8
فحرية الإرادة يدل عليها شهادة الوجدان ويقنع بها الإنسان أتم الاقتناع: «كما يشهد سليم العقل والحواس من نفسه أنه موجود ولا يحتاج في ذلك إلى دليل يهديه، ولا معلم يرشده، فكذلك يشهد أنه مدرك لأعماله الاختيارية، يزن نتائجها ويقدرها بإرادته. ثم يصدرها بقوة ما فيه.»
9 ... «ولو لم يكن الأمر كذلك، أفكان إجماع الناس ينعقد على نسبة الأفعال إلى أصحابها؟» الوجدان يشهد والحس يشاهد أن الفرد يرفع يده بالسيف ويضرب آخر فيقتله، هو الذي ضربه. ويقول الرائي والمخبر إن فلانا قتل فلانا أو ضربه، أو اعتدى عليه؛ فنسبة الأفعال إلى من صدرت عنه من العباد مما لا يحتاج إلى بحث ولا نظر.
10 •••
وإذا كانت الدراسات العلمية قد أدت إلى تدعيم المذهب الجبري بهذا الشكل القوي الذي وصل إلى حد الشطط في بعض الأحيان، فإن حرية الإرادة لم تعدم أنصارا يقفون بجانبها ويدافعون عنها ويصلون في هذا الدفاع إلى حد الشطط أيضا!
فمذهب اللاجبرية الخالصة على الطرف المقابل يذهب إلى أن الفعل البشري حر حرية مطلقة، فهو بغير سبب وبلا مقدمات على الإطلاق! وبناء على رأي هذا المذهب فإن الإنسان يمكن أن يفعل الفعل «أ» في أية لحظة دون أن يكون هناك ارتباط على الإطلاق بين الحاضر من ناحية أو بين الماضي والمستقبل من ناحية أخرى. والواقع أن هذا المذهب ينتهي إلى نتائج غريبة، فهو يرى أن الفاعل حين يسلك سلوكا معينا فإنه لا يكون مقيدا في فعله هذا بأي شيء، داخليا أو خارجيا؛ فهو لا يسلك سلوكه هذا لأنه يحقق أعلى رغبة من رغباته، ولا لأنه يجلب أعظم قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس، ولا لأنه صادر عن سلطة الواجب الداخلية، وهو ليس مقيدا في فعله بتركيبه الجسمي أو العقلي، أو الوراثة أو البيئة التي نشأ فيها، إنه باختصار شديد يفعل بلا سبب. فليست هناك مقدمات من أي نوع تضطره أن يفعل ويستبعد البدائل الأخرى، فهو لا يرتبط بغاية تغريه بهذا السلوك، ولا بمقدمات تضطره إليه، إن فعله هو ببساطة مجرد صدفة. ومثل هذه اللاجبرية الخالصة أو حرية اللامبالاة تعني العشوائية التي هي سلب للعقل والقانون، فكل شيء ممكن ولا شيء مستحيلا، ولا شيء مؤكدا من حياة الإنسان. فالرجل الفاضل قد ينقلب فجأة إلى رجل سيئ السلوك، ومن ثم فكل محاولات المربي تصبح بغير جدوى!
ولا شيء يهدم المسئولية الخلقية كما تهدمها حرية اللامبالاة هذه؛ لأن الفاعل حين يسلك سلوكا معينا فإنه يفعله كما قلنا بلا سبب وبلا هدف، ومن ثم فهو غير مسئول عنه. والسلوك الذي أسلكه في لحظة معينة لا يرتبط على الإطلاق بما حدث لي في الماضي؛ إذ لو كانت هناك رابطة بين الماضي والحاضر لكان معنى ذلك أن الفعل - جزئيا أو كليا - يرتبط بمقدمات معينة. لكن القول بأنني في كل لحظة شخص جديد تصدر عني أفعالي في استقلال كامل عن ماضي، فهو يؤدي إلى هدم الهوية، ويعفيني بالتالي من المسئولية، والهوية لا تعني شيئا سوى التشابه الذاتي. والشرط الأول لإمكان أن أكون مذنبا أو غير مذنب، أعني أن أصبح موضوعا لحكم أخلاقي هو هذا التشابه الذاتي، أن أكون أنا نفسي باستمرار شخصا واحدا في هوية ذاتية مع نفسي. وهذا الشرط هو ما ينكره مذهب اللاجبرية الخالصة. •••
لكن ألسنا بذلك نصل إلى طريق مسدود؟ إذا كان المذهب الذي ينادي بالحرية المطلقة يرى أن الفعل البشري حر حرية كاملة، متهافت إلى هذا الحد، ألا يعني ذلك أننا نفسح المجال من جديد للمذهب الجبري؟ لكن المذهب الجبري مرفوض هو الآخر: فكيف يمكن أن نخرج من هذا المأزق؟ وهل يوجد مذهب ثالث؟
يبدو أن هذا الإشكال إنما ينشأ عن مفارقة غريبة نؤمن بها جميعا، وهي أن هناك مجموعتين من المعتقدات المتنافرة - سواء أكان هذا التنافر حقيقيا، أم ظاهريا - نؤمن بهما معا ولا نرضى التخلي عن أي منهما.
Bilinmeyen sayfa