كلمة تقديم
مقدمة: بقلم المترجم
مقدمة
1 - النفس
2 - النشاط الذاتي1
3 - الإرادة
4 - المذهب الجبري: التحدد
5 - المذهب الجبري: السببية
6 - المذهب الجبري: إمكان التنبؤ
7 - الجبر الذاتي
Bilinmeyen sayfa
مراجع البحث
كلمة تقديم
مقدمة: بقلم المترجم
مقدمة
1 - النفس
2 - النشاط الذاتي1
3 - الإرادة
4 - المذهب الجبري: التحدد
5 - المذهب الجبري: السببية
6 - المذهب الجبري: إمكان التنبؤ
Bilinmeyen sayfa
7 - الجبر الذاتي
مراجع البحث
الجبر الذاتي
الجبر الذاتي
تأليف
زكي نجيب محمود
ترجمة
إمام عبد الفتاح إمام
كلمة تقديم
هي كلمة أردت بها أن أقدم إلى القراء مترجم هذا الكتاب قبل الكتاب نفسه؛ لأنه إذا كان الكتاب مشتملا على معرفة علمية قد يحسن تحصيلها، فعمل الأستاذ المترجم هنا منطو على قيمة خلقية سامية تستحق الذكر والإشادة، هي قيمة الوفاء - وفاء تلميذ لأستاذه.
Bilinmeyen sayfa
أما الكتاب في أصله الإنجليزي فهو الرسالة التي حصلت بها - منذ ربع قرن - على جائزة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة لندن؛ وأذكر أني عند عودتي عندئذ إلى مصر، تفضل أستاذي المرحوم محمد شفيق غربال - وكان يومئذ وكيلا لوزارة التربية والتعليم - فأشار على الوزراء بطبعها على نفقتها، وطبعت على نطاق غاية في الضيق، كاد أن يقتصر على بضع هدايا ترسل إلى الجامعات.
ومضت السنون، وغابت الرسالة عندي في أخفى حنايا الإهمال والنسيان، حتى انتبهت على تلميذي وصديقي الأستاذ الدكتور إمام عبد الفتاح وهو يحمل إلي مخطوطا به ترجمتها إلى العربية، راجيا أن أراجع الترجمة قبل نشرها.
لقد أحسست خلال المراجعة بشعور عجيب، كان بغير شك خبرة فريدة بالنسبة إلي؛ إذ أحسست بمزيج يختلط فيه الشعور بأني أقرأ نفسي وأقرأ سواي في آن واحد؛ لأنني لم أنفك أثناء القراءة موافقا ومخالفا، ترى هل يكون الإنسان إنسانا أكمل لو ظل عشرات الأعوام ثابتا على فكرة بعينها؟ أم أن الكمال مرهون بالصدق وحده، سواء اقتضى هذا الصدق ثباتا على الفكرة أو انقلابا عليها؟ والحمد لله الذي أنعم علي بصفة الإخلاص لنفسي، أقف عند الفكرة التي أومن بصدقها، غير عابئ بهجمة الناقدين.
قرأت كتابي من جديد، ولكن في صورة عربية، بعد خمسة وعشرين عاما من تأليفه، فوجدتني ثابتا على مضمون الدعوة ، وما مضمونها إلا حرية الإنسان وقدرته على الخلق والإبداع، فما زلت حتى هذه اللحظة أومن إيمانا راسخا بأن الإنسان كائن مريد حر في اختيار ما يريده؛ وأنه - دون سائر الكائنات - ليس حصيلة سلبية للعناصر الخارجية المحيطة به، بل هو مبدع خلاق، يأتي بالجديد الذي يضاف إلى الوجود خلقا جديدا، يكون له فضله، وعليه تبعته.
غير أني - مع بقاء هذا الأساس مكينا ثابتا - قد اتخذت بإزائه وسائل ليست هي الوسائل التي اتخذتها منذ ربع قرن، حين أنشأت هذه الرسالة العلمية؛ فقد رأيت عندئذ أن أعارض اتجاهين فكريين في تحليلهما للنفس البشرية، هما مذهب هيوم في المعرفة، ومذهب السلوكيين في ميدان علم النفس، على حين أني اليوم أبدأ من هذين الأساسين لأقيم فكري، ذاهبا معهما إلى آخر ما يستطيعان أن يبلغا بي في تحليل الإنسان، فأنا مع هيوم في وجوب أن ترد الأفكار العقلية إلى مصادرها الحسية، وإلا كانت أوهاما لا تفيد، وأنا كذلك مع السلوكيين في رد السلوك كله إلى أفعال منعكسة تظل تتعقد وتتركب بالارتباطات الشرطية على طريق النشأة والتربية طوال السنين، على أني مع الأخذ بهذين المذهبين في تحليل المعرفة والسلوك، أعتقد أنهما لا يستنفدان الإنسان كله، بل تبقى من الإنسان بقية ملغزة تستعصي على التحليل، هي على وجه التحديد البقية التي يكون منها الإنسان، الفرد، المتميز، المريد، الحر فيما يريد، المبدع الخلاق.
فالنتيجة التي أصل إليها اليوم هي نفسها النتيجة التي وصلت إليها فيما مضى، وإن اختلفت خطوات البرهنة والتدليل.
وأحسب أن ما سوف يلفت نظر القارئ المتفحص هو هذا التباين الذي قد يبدو شديدا بين وجهين لرجل واحد: فها هو ذا قد عرف عند طلبته وقرائه بشيء نظري شكلي خال من كل مضمون فكري، يسمى بالوضعية المنطقية، تنادي بطرائق للتحليل دون أن تضيف للناس فكرة إيجابية تحل لهم إشكالا، لكننا نراه في هذا الكتاب يتكلم عن الإنسان، وكأنه قد جمع في بوتقة واحدة عدة فلسفات معاصرة: الظاهراتية، والوجودية، والتطورية البرجسونية، فكيف يريدنا أن ندمج هذين الوجهين في رجل واحد؟
ولست أرى هذا التباين كله بين الموقفين، وكل الفرق - كما أراه - هو فرق بين منطق التحليل حين يكون مجردا، وهذا المنطق التحليلي نفسه حين يدخل ميدان التطبيق، فهذه الرسالة في حقيقة أمرها إن هي إلا موضوع استخدمت في بحثه أدوات التحليل، التي من شأنها أن تفتت الفكرة المجملة إلى عناصرها البسيطة، فتلقي ضوءا على محتواها، حتى إذا ما عهدنا إلى وضعها في السياق، كانت أقدر على توصيلنا إلى نتيجة أو نتائج.
وأترك الكتاب وما فيه لنقد الناقدين، لأعود إلى صديقي صاحب الترجمة، فأشكر له هذا الجهد الذي عاناه، وإني لأعلم الناس به؛ لأنني أعلم كم كان الأصل الإنجليزي مركزا مكثفا، وكم يصعب عند الترجمة أن تجمع بين أمانة النقل والمحافظة على الصورة الأصلية في تركيزها وتكثيفها. فللأستاذ الدكتور إمام عبد الفتاح إمام شكر مني على وفائه، وشكر على جهد مجهد بذله، وشكر ثالث على أن طلب إلي مراجعة ترجمته، ولم تكن في الحق، بحاجة إلى مراجعة، لكنها فرصة سعيدة التقيت به فيها مرة أخرى في عالم الفكر، كما التقينا كثيرا عدة مرات سبقت، التقاء زميلين، برغم ما قد يظنه الظانون، بل ما قد يظنه هو نفسه، من أن لقاءنا كان لقاء طالب بأستاذ؛ وله مني الدعاء المخلص بالتوفيق والسداد.
زكي نجيب محمود
Bilinmeyen sayfa
مقدمة: بقلم المترجم
يكاد يجمع الباحثون على أن «حرية الإرادة» من أعقد الموضوعات التي درستها الفلسفة على الإطلاق، وأكثرها إثارة للضجيج والجدل، منذ أقدم العصور حتى عصرنا الحاضر: من أفلاطون حتى سارتر.
فهو من بين الموضوعات القليلة التي اشتركت في دراستها علوم متعددة؛ إذ يضرب بجذور عميقة في: الفلسفة، واللاهوت، والاجتماع والأخلاق، وعلم النفس والأنثروبولوجيا، والقانون والبيولوجيا ... إلخ. بل إن علماء الطبيعة أنفسهم دخلوا أطراف نزاع في هذه المشكلة. وربما لا يكون ذلك غريبا في حد ذاته طالما أن الموضوع يتعلق بوجود الإنسان ذاته، وهو لغز محير، لكن الغريب حقا، أنه رغم تكاتف هذه العلوم جميعا في دراسة هذه المشكلة، فإن الفشل في حلها كان عاما ؛ إذ لا يزال يحتدم الجدل حولها حتى الآن، ولا يزال لها مكانها المرموق في الفلسفة المعاصرة.
فهي من الناحية الفلسفية إحدى المشكلات الرئيسية في علم الأخلاق المعاصر؛ ذلك لأن الأخلاق إنما تقوم على مبدأين أساسيين؛ هما: الاستحسان والاستهجان، «أو اللوم والثناء»، وهما ينهاران مع غياب الحرية؛ فلو لم يكن في استطاعتك أن تقول لشخص ما إنه ينبغي عليك أن تفعل الفعل «س» وأن تمتدحه إذا فعله، وتلومه إذا لم يفعله، فلن يكون ثمة حكم أخلاقي. وإذا لم يكن في استطاعة هذا الشخص إلا أن يفعل الفعل «ص»؛ فسوف يكون من اللغو - يقينا - أن نقول إنه كان ينبغي عليه أن يفعل الفعل «س»، مثلما يكون من اللغو أن نقول عن الحجر الذي يسقط من حالق إنه كان ينبغي عليه أن يسقط إلى أعلى لا إلى أسفل؛ وباختصار ما لم تكن لدى الإنسان قدرة على الاختيار، فسوف تغدو الأخلاق بلا معنى.
1
ومن هنا فإننا نجد الفيلسوف الألماني المعاصر «نيكولاي هارتمان
Nicolai Hartman » على سبيل المثال يقيم مذهبه في «الأخلاق على مبدأ أساسي يقول: إن الفعل الخلقي القائم على الإرادة الحرة هو وحده الذي له قيمة، ويخصص «هارتمان» ثلث مؤلفه الضخم الموسوم باسم «علم الأخلاق
Ethics » لدراسة مشكلة حرية الإرادة».
2
كما أن هذه المشكلة لا تزال، حتى يومنا هذا، تلعب دورا بارزا في فلسفة الدين، بل إن بعض المذاهب اللاهوتية ينظر إلى حرية الإرادة على أنها دليل قوي على وجود الله. فها هو ذا جانب «روحي» خالص لا يخضع للطبيعة ولا للتفسير العلمي، أفلا يدل ذلك على أن الطبيعة ليست كلها «مادية»؟ ومعنى ذلك أنهم يتخذون من هذه المشكلة «الملغزة» التي «استعصى حلها» برهانا «على وجود قوة روحية عليا هي الله». وهم من ناحية أخرى يهتمون بدراسة هذه المشكلة؛ لأن تعاليم الدين لا تقوم لها قائمة إلا إذا كان الإنسان حرا، (رغم ما في ذلك من مفارقة)، أعني إلا إذا كان الإنسان قادرا على عصيان هذه التعاليم وعلى أن يسلك ضدها، بل ضد الله نفسه وضد رغباته؛ بحيث يمكن بالتالي أن يكون مسئولا عن أفعاله. ومع أن علماء اللاهوت يعترفون صراحة أنها مشكلة عسيرة الحل حتى بالنسبة للدين نفسه، فإنهم يصرون - مع ذلك - على حذفها من نطاق العلم، بحجة أنه ليس في مقدوره حلها.
Bilinmeyen sayfa
والمذاهب الوجودية من كيركجور حتى سارتر تتخذ من هذه المشكلة محورا لها. فالقول بأن الوجود يسبق الماهية، يعني أن الوجود هو القدرة على خلق هذه الماهية. ويهتم بالتيار الذي يمثله سارتر اهتماما خاصا بهذه المشكلة؛ إذ يرى سارتر أن الإنسان ليس حرا فحسب، لكنه الحرية ذاتها؛ فوجوده هو نفسه حرية، وهو يقاس بمقدار ما يتمتع به من حرية: «لست السيد، ولست العبد، لكني أنا الحرية التي أتمتع بها» ... هكذا يقول «أورست» بطل مسرحية «الذباب»، فحياة الفرد وشخصيته تتوقف على القرارات التي يتخذها بمحض اختياره وكامل حريته.
كما أن هذه المشكلة لا تزال لها أهمية خاصة في فلسفة التاريخ؛ إذ تقوم بعض المدارس في فلسفة التاريخ على أساس أن حرية الإرادة الفريدة التي لا يمكن تكرارها عند الفرد هي القوة المحركة للأحداث التاريخية، ومن ثم فإن جميع ظواهر التاريخ تمثل خلقا جديدا، وليس التكرار إلا عاملا ثانويا فحسب.
3
من ذلك تتضح أهمية هذه المشكلة في الفكر المعاصر، كما يتضح أيضا أن حلها لن يفيد الفلسفة وحدها، لكنه سوف يعطي دفعة قوية لكثير من العلوم. فلا شك أن حل مشكلة حرية الإرادة سوف ينعكس أثره على فهم الحرية البشرية بصفة عامة، طالما أنها تشمل - بالإضافة إلى الإرادة الفردية - مجموع العقل البشري مأخوذا بمعناه الفردي والاجتماعي في آن معا. وإذا كانت مشكلة الحرية أكثر عمومية وشمولا من مشكلة حرية الإرادة، فإن الأخيرة تمثل المركز والنواة للأولى، وإذا لم تقدم - من ناحية أخرى - إجابة شافية لمشكلة حرية الإرادة، فإن التصور العام للحرية سوف يظل ناقصا مبتورا. •••
ولعل هذا هو السبب في النزاع المحتدم بين أنصار حرية الإرادة وخصومها منذ ظهور العلم في القرن السابع عشر.
4
ذلك لأن اكتشاف القوانين العلمية قد أدى أولا إلى التحكم في سلوك الأشياء المادية، ثم إلى التحكم بعد ذلك في سلوك أشياء تعلو على هذه الأرض، كالنجوم والكواكب، ونظر إلى الكون في عصر «نيوتن» على أنه آلة ضخمة أو ساعة دقيقة، يسير كل شيء فيها وفقا لقانون صارم، لكن الإنسان مع ذلك ظل خارج نطاق السببية، أو كانت الطبيعة البشرية لا تزال منعزلة عن الطبيعة بمعناها العام، أعني أنها كانت مستقلة عن الجبرية السائدة في الطبيعة. (وهو ما عبرت عنه النظرية الثنائية عند ديكارت، حين وضعت حاجزا أساسيا بين الطبيعة الفيزيائية والطبيعة البشرية). ثم جاء داروين وكشف عن العملية المنتظمة الهائلة التي تتحكم في أشكال الحياة ذاتها، وهنا بدا كأن الزحف المستمر للحتمية ولسيادة مبدأ السببية قد بلغ أقصى مداه، وبدأ التساؤل عن إمكان خضوع الأفعال البشرية نفسها للقوانين الطبيعية. وتولى علم البيولوجيا تدعيم المذهب الجبري حين درس مشكلة الوراثة والبيئة وأثرهما على شخصية الإنسان، ولم يكن ثمة خلاف بين العلماء على أثر هذين العاملين، لكن الخلاف تركز حول القدر الدقيق الذي ينبغي أن ينسب إلى كل منهما، ولا يزال هذا الخلاف قائما حتى اليوم.
غير أن الدراسة البيولوجية للإنسان - شأنها شأن الدراسات العلمية الأخرى - كانت، ولا تزال، تؤيد المذهب الجبري، وتدعم التفسير الحتمي للسلوك البشري، ولا يعني ذلك أن سلوك الإنسان محدود سلفا بما ستزوده به «الجينات» «المورثات» من خصائص، لكنه حتمي، بمعنى أن ما سوف يكون عليه هو نتيجة مركب كونته هذه الوراثة الأولى مع البيئة التي يتطور فيها.
وإذا كان علم البيولوجيا قد انحاز إلى المذهب الجبري، فإن من الباحثين من اتجه إلى علم النفس، آملا أن يؤدي إلى تسوية نهائية لهذه المشكلة، بحيث تقنع أطراف النزاع جميعا. يقول «هنتر ميد» في هذا المعنى: «إن أيا من جانبي النزاع الخاص بحرية الإرادة لم يفلح في قهر الجانب الآخر، وما زالت هذه المشكلة أكثر أبناء الفلسفة إثارة للضجيج والمتاعب. ولكن هناك على الأقل احتمالا في أن يؤدي تطور علم النفس إلى تسوية نهائية لهذه المسألة القديمة العهد . ولو حدث ذلك لكان هذا يوما سعيدا لأمها الفلسفة؛ إذ إن هذا سيثبت مرة أخرى رأيها القائل إنه ليس كل أفراد ذريتها حالات مستعصية مستحيل تقويمها. ولا جدال في أن الفلسفة سوف يسعدها التخلص من هذه المشكلة؛ إذ لا توجد من المشكلات ما أثارت من المتاعب قدر ما أثارت هذه.»
5
Bilinmeyen sayfa
لكن يبدو أن «ميد» كان متفائلا أكثر من اللازم، فهذا واحد من علماء النفس في بلادنا، يصف موضوع الإرادة وحده بأنه «من الموضوعات الحائرة التي فقدت أوراق اعتمادها في نظر كثير من المدارس السيكولوجية؛ فهو كالمنبوذ السياسي الذي جرد من جنسيته، فأخذ يجتاز البحار جيئة وذهابا بدون أن يوفق إلى الدخول في ميناء يستقر فيها. فقوم يرون أن موضوع الإرادة من الموضوعات الميتافيزيقية العامة التي يجب أن تعالج بطريقة مذهبية على غرار مسألة الوجود والعدم والخير والشر ... إلخ، ويرى قوم آخرون أن موضوع الإرادة لا يتعدى النظر في الحركات الإرادية كما يفهمها العالم البيولوجي ... ويذهب بعضهم إلى أن موضوع الإرادة من اختصاص علم الاجتماع.»
6
غير أن علم النفس في دراسته لمشكلات السلوك البشري بصفة عامة لم ينته إلا إلى تدعيم المذهب الجبري! فهو قد كشف في تحليله لهذا السلوك عن أن الاختيار أو القرار يحدث دائما نتيجة لشروط معينة. فعندما تتوافر هذه الشروط يحدث اختيار، وعندما تغيب لا يكون هناك اختيار، كما أن مدرسة التحليل النفسي بصفة خاصة قد دعمت موقف أنصار الحتمية الذاتية
Self-determinism
حين فسرت قوانا الواعية: كالإرادة والعقل والضمير ... إلخ، بأنها محكومة تماما بقوى لا عقلية يرقد معظمها تحت عتبة الشعور، ولا نعرف شيئا عن تكوينها ولا نستطيع أن نحسب مقدار أثرها على الشعور. وهم يصورون المنابع الرئيسية لطبيعتنا ببحر من الغرائز والدوافع ليس له قرار يضطرب بعواصف اللبيدو
Libido
وأمواج الرغبة، وعلى هذه الأمواج يتأرجح الشعور والوعي كما تتأرجح قطعة الفلين على سطح الماء!
وليست مدرسة التحليل النفسي هي وحدها التي تؤدي إلى هذه النتيجة، بل إن معظم مدارس علم النفس المعاصر تدعمها بطريقة أو بأخرى، فالمدرسة السلوكية - مثلا - تحاول أن تدرس الإنسان على أنه آلة تعتمد في سلوكها على المثير والاستجابة. والذهن إما أن يدرس دراسة موضوعية كما يدرس النبات وحركات الكواكب، وإما أن يحذف من مجال الدراسة. يقول «واطسن»: «إن عالم النفس السلوكي يضع الموجود البشري أمامه ثم يقول: ما الذي يستطيع هذا الكائن أن يفعله؟ متى يبدأ في عمل هذه الأشياء؟ وإذا لم يكن في استطاعته أن يعمل هذه الأشياء بسبب طبيعته الأصلية فما الذي يمكن أن يتعلم أن يفعله؟»
7
وهكذا يعالج الموجود البشري كما تعالج «العينة» في المعمل، ويتساءل عالم النفس السلوكي كيف تسلك هذه «العينة» في الموقف الفلاني؟ ومتى تسلك بطريقة معينة، وما الموقف الذي يجعلها تسلك على هذا النحو؟
Bilinmeyen sayfa
صفوة القول إن الدراسات العلمية - منذ ظهور العلم في القرن السابع عشر حتى الآن - كانت تتجه إلى تدعيم المذهب الجبري، لكن الغريب حقا أن هذه الجهود المضنية التي بذلها العلماء لم تفلح لا في حل هذه المشكلة ولا في إقناع الإنسان بأن سلوكه حتمي بالضرورة: «ومهما حاولنا أن نقنع الإنسان بأنه أسير الظواهر الطبيعية فإننا لا يمكن أن ننجح تماما في أن نقضي على ما لديه من شعور بالحرية.»
8
فحرية الإرادة يدل عليها شهادة الوجدان ويقنع بها الإنسان أتم الاقتناع: «كما يشهد سليم العقل والحواس من نفسه أنه موجود ولا يحتاج في ذلك إلى دليل يهديه، ولا معلم يرشده، فكذلك يشهد أنه مدرك لأعماله الاختيارية، يزن نتائجها ويقدرها بإرادته. ثم يصدرها بقوة ما فيه.»
9 ... «ولو لم يكن الأمر كذلك، أفكان إجماع الناس ينعقد على نسبة الأفعال إلى أصحابها؟» الوجدان يشهد والحس يشاهد أن الفرد يرفع يده بالسيف ويضرب آخر فيقتله، هو الذي ضربه. ويقول الرائي والمخبر إن فلانا قتل فلانا أو ضربه، أو اعتدى عليه؛ فنسبة الأفعال إلى من صدرت عنه من العباد مما لا يحتاج إلى بحث ولا نظر.
10 •••
وإذا كانت الدراسات العلمية قد أدت إلى تدعيم المذهب الجبري بهذا الشكل القوي الذي وصل إلى حد الشطط في بعض الأحيان، فإن حرية الإرادة لم تعدم أنصارا يقفون بجانبها ويدافعون عنها ويصلون في هذا الدفاع إلى حد الشطط أيضا!
فمذهب اللاجبرية الخالصة على الطرف المقابل يذهب إلى أن الفعل البشري حر حرية مطلقة، فهو بغير سبب وبلا مقدمات على الإطلاق! وبناء على رأي هذا المذهب فإن الإنسان يمكن أن يفعل الفعل «أ» في أية لحظة دون أن يكون هناك ارتباط على الإطلاق بين الحاضر من ناحية أو بين الماضي والمستقبل من ناحية أخرى. والواقع أن هذا المذهب ينتهي إلى نتائج غريبة، فهو يرى أن الفاعل حين يسلك سلوكا معينا فإنه لا يكون مقيدا في فعله هذا بأي شيء، داخليا أو خارجيا؛ فهو لا يسلك سلوكه هذا لأنه يحقق أعلى رغبة من رغباته، ولا لأنه يجلب أعظم قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس، ولا لأنه صادر عن سلطة الواجب الداخلية، وهو ليس مقيدا في فعله بتركيبه الجسمي أو العقلي، أو الوراثة أو البيئة التي نشأ فيها، إنه باختصار شديد يفعل بلا سبب. فليست هناك مقدمات من أي نوع تضطره أن يفعل ويستبعد البدائل الأخرى، فهو لا يرتبط بغاية تغريه بهذا السلوك، ولا بمقدمات تضطره إليه، إن فعله هو ببساطة مجرد صدفة. ومثل هذه اللاجبرية الخالصة أو حرية اللامبالاة تعني العشوائية التي هي سلب للعقل والقانون، فكل شيء ممكن ولا شيء مستحيلا، ولا شيء مؤكدا من حياة الإنسان. فالرجل الفاضل قد ينقلب فجأة إلى رجل سيئ السلوك، ومن ثم فكل محاولات المربي تصبح بغير جدوى!
ولا شيء يهدم المسئولية الخلقية كما تهدمها حرية اللامبالاة هذه؛ لأن الفاعل حين يسلك سلوكا معينا فإنه يفعله كما قلنا بلا سبب وبلا هدف، ومن ثم فهو غير مسئول عنه. والسلوك الذي أسلكه في لحظة معينة لا يرتبط على الإطلاق بما حدث لي في الماضي؛ إذ لو كانت هناك رابطة بين الماضي والحاضر لكان معنى ذلك أن الفعل - جزئيا أو كليا - يرتبط بمقدمات معينة. لكن القول بأنني في كل لحظة شخص جديد تصدر عني أفعالي في استقلال كامل عن ماضي، فهو يؤدي إلى هدم الهوية، ويعفيني بالتالي من المسئولية، والهوية لا تعني شيئا سوى التشابه الذاتي. والشرط الأول لإمكان أن أكون مذنبا أو غير مذنب، أعني أن أصبح موضوعا لحكم أخلاقي هو هذا التشابه الذاتي، أن أكون أنا نفسي باستمرار شخصا واحدا في هوية ذاتية مع نفسي. وهذا الشرط هو ما ينكره مذهب اللاجبرية الخالصة. •••
لكن ألسنا بذلك نصل إلى طريق مسدود؟ إذا كان المذهب الذي ينادي بالحرية المطلقة يرى أن الفعل البشري حر حرية كاملة، متهافت إلى هذا الحد، ألا يعني ذلك أننا نفسح المجال من جديد للمذهب الجبري؟ لكن المذهب الجبري مرفوض هو الآخر: فكيف يمكن أن نخرج من هذا المأزق؟ وهل يوجد مذهب ثالث؟
يبدو أن هذا الإشكال إنما ينشأ عن مفارقة غريبة نؤمن بها جميعا، وهي أن هناك مجموعتين من المعتقدات المتنافرة - سواء أكان هذا التنافر حقيقيا، أم ظاهريا - نؤمن بهما معا ولا نرضى التخلي عن أي منهما.
Bilinmeyen sayfa
فنحن نعتقد من ناحية أننا نستطيع أحيانا أن نختار بين أن نسلك على نحو معين أو أن نسلك ضد هذا السلوك، وأننا مسئولون في الحالتين، وكذلك نعتقد أن تبعة تلك الجوانب من تاريخنا التي لم تكن في حدود اختيارنا يستحيل أن تقع على عاتقنا.
لكننا نؤمن من ناحية أخرى أن الطبيعة مطردة، وأن كل ما يحدث ناتج عن مجموعة من العلل والظروف ويمكن تفسيره بها. ونؤمن على الأخص بأن أفعالنا إنما تصدر عن طبيعتنا الموروثة بعد أن تقوم البيئة بتعديلها، لكن إذا كان كل ما يحدث يحدده سياقه الخاص، فقد يبدو إذن أن أفعالنا تتحدد بواسطة سياقها، وأن اختياراتنا يحددها سياقها أيضا، وقد يبدو - على الأخص - أنه إذا كانت أفعالنا تنشأ عن طبيعتنا الموروثة مع تعديل البيئة لها، فلسنا بمسئولين عن أفعالنا، كما أننا لسنا مسئولين عن طبيعتنا الموروثة وبيئتنا. وباختصار شديد نحن نميل إلى الاعتقاد بأن أفعالنا لا بد أن يكون لها سبب، أو لا بد أن تكون بغير سبب في وقت واحد!
لكن هل يمكن أن يكون هناك مثل هذا التفسير للفعل الحر؟ هل يجوز لنا أن نقول إنه من الممكن أن تكون للإرادة سبب وأن يكون هذا السبب نفسه مع ذلك حرا؟ انظر أولا إلى المثال الآتي:
افرض أن هناك ساعة تدق آليا حين تكتمل دورتها ساعة كاملة فتخبرنا بالوقت. إننا إذا ما افترضنا في هذه الحالة أن حركات الساعة ليست محددة تحديدا سببيا، لكنها تسير بشكل عشوائي، بحيث تكون دقاتها مجرد صدفة، فسوف يكون من اللغو - يقينا - أن نقول عنها إنها تخبرنا بالوقت. إن الشرط الأساسي الذي يمكننا من القول بأنها تخبرنا بالوقت، بحيث نطمئن إلى ذلك، هو أن تكون محددة تحديدا سببيا. وإذا كنا من ناحية أخرى سوف نقول إن الساعة هي نفسها التي تخبرنا بالوقت فلا بد أن يكون التحديد السببي لحركات الساعة آتيا من عوامل بداخلها ذاتها. أما إذا كانت هذه الحركات محددة بقوى خارجية، وتتحكم فيها عوامل أخرى، فإننا لن نستطيع أن نقول عنها إنها «حرة» في أداء وظيفتها.
11
وإذا عدنا الآن إلى السؤال الذي سبق أن طرحناه: هل يمكن للفعل الحر أن يحدد تحديدا سببيا وأن يظل مع ذلك حرا؟ قلنا إن هذا الموقف هو موقف «الجبر الذاتي»، أو المذهب الثالث بين الجبرية الخالصة أو اللاجبرية الخالصة، فسلوك الإنسان كما يفسره هذا المذهب؛ محدد تحديدا سببيا بقوى نابعة من طبيعته الخاصة، قوى داخل الإنسان نفسه أو هي الإنسان نفسه، وهنا لا تكون «الحرية» و«الجبرية» ضدين، وإنما تكون الحرية البشرية نوعا من التحديد الذاتي، أو الجبر الداخلي، وهذا ما يسمى بالجبر الذاتي.
وبهذا المعنى وحده نستطيع أن نقول إن الإنسان مسئول عن أفعاله الإرادية. لأن الأفعال الإرادية ترتبط ارتباطا سببيا بمقدمات معينة تقوم في طبيعة تكوين الفاعل نفسه، ما دامت هذه الأفعال تعبر عن طبيعة الفاعل، وتحقق ذاته. وهي في نفس الوقت حرة، لأنها ليست نتاجا ضروريا لشيء آخر خارج طبيعة الفاعل نفسه؛ فبمقدار ما يكون الفاعل مكتفيا بذاته في تفسير الفاعل الإرادي فهو حر إلى هذا الحد في هذا الفعل، وهو بإنجازه له على هذا النحو إنما يكون محددا بذاته أو مجبرا ذاتيا. •••
تلك هي - بإيجاز شديد - النظرية التي يعرضها علينا هذا البحث محاولا أن يثبت أن كلا من المذهب الجبري، والمذهب اللاجبري، محق فيما يؤكده، مخطئ فيما ينكره، على نحو ما سنرى في ثنايا الكتاب بالتفصيل.
غير أن أهمية هذا البحث لا تقف عند هذا الحد؛ ذلك لأنه يكشف لنا جانبا هاما كان مجهولا، من جوانب التطور الروحي عند واحد من المفكرين الممتازين في بلادنا، وكما قلت في مكان آخر:
12
Bilinmeyen sayfa
إن الذين يقرءون للدكتور زكي نجيب محمود ويتابعون إنتاجه، وهم كثيرون، لا يعرفون منه إلا جانبا واحدا من جوانب تطوره الفلسفي، وهو الجانب الذي كرس فيه جهده لنشر الوضعية المنطقية والدفاع عنها بكل السبل: تشهد على ذلك محاضراته، ومقالاته، ومؤلفاته المتعددة، فهو الداعية إلى الوضعية المنطقية في بلادنا، والعدو الأول للميتافيزيقا ... غير أن هناك جانبا آخر من جوانب تطوره الروحي قد لا يعرفه الكثيرون وهو تفكير زكي نجيب محمود الشاب أو «مذهبه الأول» - إذا شئنا استخدام الاصطلاح الهجلي المشهور - كما تعبر عنه «مؤلفات الشباب»: على الصعيد الفلسفي ذلك البحث الذي تقدم به لنيل درجة الدكتوراه من جامعة لندن وعنوانه «الجبر الذاتي»، وعلى الصعيد الأدبي ذلك التحليل الرائع الذي كتبه أستاذنا في صدر الشباب ل «عينية» ابن سينا، وشرح فيه كيف هبطت «الورقاء» متدللة متمنعة من «المحل الأرفع» لتحل في جسد الإنسان.
13
وتلك هي المرحلة الأولى التي مر بها أستاذنا قبل أن يصل إلى «مذهبه النهائي»؛ مرحلة الشباب، بكل ما في هذه الكلمة من قوة وطموح وحيوية، مرحلة الدفاع عن الميتافيزيقا،
14
ونقد هيوم، وتفنيد المدرسة السلوكية، ومحاولة تعريف «الورقاء» تعريفا ميتافيزيقيا خالصا بأنها «الانتباه» بشقيه الذاتي والموضوعي.
ولو تأملنا قليلا هذه المرحلة لاتضح لنا أن كراهية الدكتور زكي نجيب محمود للميتافيزيقا - وهي التي تطبع بطابعها مذهبه النهائي - ليست إلا كراهية العاشق لمعبودته بعد أن يئس من طول الصد والهجران! فلقد حاول هذا المفكر الممتاز أن يصل إلى أغوار الميتافيزيقا فقام برحلة شاقة مضنية، رأى بعدها أن البئر لا تزال عميقة مظلمة، وأن القرار لا يزال جد بعيد، فارتد عنها وهو يقول: ليس الكلام عنها إلا همهمة بغير معنى!
ترى كيف وقع هذا الانقلاب؟ وكيف عبرت السفينة بحر الظلمات الميتافيزيقي إلى بر الأمان في الوضعية المنطقية؟ أغلب الظن أنه تم بتحول روحي عنيف، والتحول الروحي - بصفة عامة - يعرفه كل مفكر أصيل، وهو على درجات متفاوتة؛ فقد يكون بطيئا متدرجا كما هي الحال عند فيلسوف مثل هيجل، وقد يكون عنيفا كما هي الحال عند أغسطين، بل قد يعجب منه المفكر ويدهش له وكأنه تم رغما عنه! كما هي الحال - مثلا - عند أحد علماء الطبيعة «متشنيكوف» الذي تحول إلى عالم أمراض، وكتب في مذكراته يصف هذا التحول بقوله: «انقلبت إلى عالم أمراض، وهو انقلاب لا يعدله إلا انقلاب زمار إلى عالم فلك!» التحولات الروحية معروفة إذن في تاريخ الفكر، وليس ثمة تناقض بين أن يكون للمفكر آراء معينة في صدر شبابه، وبين أن يعدل عنها حين يكتمل تفكيره وينضج، لكن المرحلة الأولى تبقى مع ذلك أساسية في فهمنا لتطوره الفكري، وتلك هي الحال نفسها مع أستاذنا الدكتور زكي نجيب محمود، الذي بدأ حياته الفكرية ميتافيزيقيا بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، ثم انتهى إلى عداء كامل لكل المشكلات الميتافيزيقية. والغريب أنه يشبه في ذلك، الغالبية العظمى من فلاسفة هذا القرن، الذين بدءوا هيجليين، ثم انتهوا إلى عداء عنيف للفلسفة الهيجلية.
على أنك واجد بين المرحلتين خصائص مشتركة؛ ففيهما معا ستجد الدكتور زكي نجيب محمود الذي يميل إلى الدقة وتحديد معاني الألفاظ، ويهتم اهتماما رئيسا بالدور الذي تلعبه اللغة والمشكلات التي تنتج عن غموضها، كما أنك ستجد الاتجاه نحو المنطق، والميل إلى وضع الفكرة في رموز وصيغ منطقية خالصة، كما ستجد حاسة الكشف عن المغالطات المنطقية، وستجد أخيرا العرض الواضح للأفكار وتسلسلها.
أود أخيرا أن أتوجه بخالص شكري إلى أستاذي الدكتور فؤاد زكريا، الذي تقبل بصدر رحب، أن ألجأ إليه بين الحين والآخر - أثناء ترجمة هذا الكتاب - كلما غمض علي نص، أو غابت عني فكرة. ولا يفوتني كذلك أن أشكر للدكتور عزمي إسلام ملاحظاته القيمة التي أبداها حول ترجمة المصطلحات المنطقية بصفة خاصة.
وإني لأرجو أن أكون بنقل هذا الكتاب إلى اللغة العربية قد أديت واجبا نحو المكتبة الفلسفية العربية، حين ضممت إليها فكرا عربيا أصيلا، ظل أكثر من خمسة وعشرين عاما، بعيدا عنها، حبيس لغة أجنبية.
Bilinmeyen sayfa
والله نسأل أن يهدينا جميعا سبيل الرشاد.
إمام عبد الفتاح إمام
مقدمة
شغلتني مشكلة البحث فيما إذا كان الإنسان حرا أو مجبرا منذ مطلع شبابي، وقد تكون هذه هي الحال نفسها مع غيري من الناس؛ إذ يبدو أن المشكلة تفرض نفسها على الإنسان حين يدرك أنه مسئول أخلاقيا، ولم يتوقف عامة الناس - تماما كالفلاسفة - عن إثارة هذه المشكلة ومحاولة الوصول إلى حل مقنع لها. ولهذا ظهرت آراء كثيرة حول هذا الموضوع، حتى لقد أصبح اختياره موضوعا لدراسة جديدة يبدو عملا غير حكيم. فقد يعتبر مثل هذا الميدان الآن عقيما مجدبا، قد يقال إن ثماره نفدت في عصره. ولكن ما دامت الكلمة الأخيرة فيه لم يقلها أحد بعد، وطالما أن هذه المشكلة ما زالت تلح على العقل البشري، فإن فشلنا في الماضي في الوصول إلى حل لها، يعتبر حافزا للقيام بمحاولة جديدة، أكثر منه مبررا للإقلاع عن دراستها، يائسين من حلها.
لقد ظهرت هذه المشكلة في عدة صور متباينة، خلال المراحل المختلفة التي مر بها التطور العقلي للإنسان، فكانت في صورتها البدائية البسيطة مشكلة لاهوتية، هي: كيف نوفق بين وجود إله قادر على كل شيء، عالم بكل شيء، من ناحية. وبين حرية الإنسان المسئول أخلاقيا من ناحية أخرى؟ ... وكانت في المرحلة الثانية من النمو العقلي للإنسان مشكلة ميتافيزيقية بصفة خاصة، هي: كيف نوفق بين الحرية الأخلاقية، وبين فكرة السببية وعمومية القانون وشموله؟ ... وأصبحت في العصور الحديثة - بعد أن سلم العلم بنظرية التطور - أكثر دقة وأكثر عمقا، أصبحت مشكلة الحياة نفسها: فهل الحياة حصيلة لعدة عوامل من الممكن حسابها رياضيا، والتنبؤ بها بدقة، أم أنها حدث جديد في مجرى التطور؟ وبمعنى آخر: إذا ما حصرنا المشكلة في نطاق أضيق - وهو نطاق الإنسان الفرد الذي يهمنا الآن - فإن المشكلة تصبح على النحو التالي: هل سلوك الإنسان في لحظة ما مثل «ل» ليس إلا نتيجة ضرورية للظروف الموجودة في لحظة «ل1»، أم أن هناك احتمالا آخر هو أن يكون السلوك الحاضر - رغم اعتماده على الماضي - حدثا جديدا لا يمكن حسابه؟
إن المراحل العقلية التي مر بها ذهني أثناء كتابة هذا البحث لا تخلو من مغزى؛ فقد حاولت بادئ ذي بدء أن أدرس هذه المشكلة متجنبا الأحكام المبتسرة قدر استطاعتي: وغمرني شعور قوي بتأييد وجهة النظر التي تقول إن أفعال الإنسان، كغيره من الكائنات في هذا الكون، ليست إلا حصيلة لعوامل معينة، لو عرفها أحد الرياضيين من أتباع «لابلاس
Laplace » ... لأمكن له أن يتنبأ بسلوكه في دقة تامة. لكني كلما أمعنت التفكير في هذا الموضوع ازداد ميلي إلى الأخذ بوجهة النظر المضادة. وأخيرا انتهيت إلى نتيجة اقتنعت بها جدا، وهي: أن الإنسان حر، لا بمعنى حرية انعدام القانون أو الخضوع للعشوائية، لكنه حر بحرية منظمة تنظيما سببيا، فالفعل الإرادي معلول وهو حر في آن معا، وهذا ما أسميه «بالجبر الذاتي»؛ فالفعل الحاضر لأي فرد معلول لماضي هذا الفرد، لكن الماضي نفسه من صنعه، ولهذا فإن الماضي هو العامل الضروري باستمرار، لكنه ليس علة كافية للفعل الإرادي الذي يحدث في الحاضر. وبمعنى آخر: الفعل في اللحظة الحاضرة عبارة عن ناتج محتمل - لا ضروري - للماضي؛ فالحاضر لا يمكن التفكير فيه بدون الماضي، لكن الماضي يمكن تصوره دون أن يستتبع ذلك بالضرورة تصور الفعل الحاضر.
والواقع أننا لو عرفنا بعض المصطلحات تعريفا دقيقا لقضينا على كثير من المجادلات التي لا لزوم لها. وأنا حين أذهب إلى أن الإنسان حر في أفعاله الإرادية، يجب علي أولا وقبل كل شيء أن أحدد تحديدا دقيقا - بقدر المستطاع - ما أعنيه بكلمتي «حر»، و«إرادة». ومثل هذا التحديد ضروري كذلك لمعنى كلمة «النفس» أو «الذات» إذا ما زعمنا أن الإنسان مجبر ذاتيا، أعني مجبر عن طريق «نفسه». ولقد ذكرت في هذا البحث تفسيري الخاص لكلمة «النفس» أو «الذات»، وهو تفسير إذا ما قبله القارئ فإن بقية البحث ستكون نتيجة مترتبة عليه. إذ لو صح وكان معنى «النفس» هو: الفرد في حالة انتباه إلى شيء ما، فإن الوقائع السيكولوجية سوف ترد في هذه الحالة إلى اختلافات في موضوع الانتباه وإلى تنوع مثل هذا الموضوع. وسوف تكون الإرادة، بناء على ذلك، حالة خاصة من الانتباه، أو مثلا جزئيا للانتباه، يتميز موضوعه بسمات خاصة. ثم يبقى علينا بعد ذلك أن نوضح كيف أن الإنسان في حالة الانتباه يكون إيجابيا فعالا، أعني أنه يكون مبتدئا لا منتهيا. وبهذا تكون وجهة النظر كلها قد اكتملت.
إنني كلما تذكرت التغير الهائل الذي طرأ على ذهني أثناء كتابة هذا البحث، لا يسعني إلا أن أشعر بعميق الأثر للأستاذ «ه. ف. هاليت
H. F. Hallett » بكلية الملك، بجامعة لندن، فأنا مدين له بدين لا يقدر، أشعر به كلما حاولت تقدير مساعداته القيمة وإرشاداته السديدة. وإني لأعلم علم اليقين مقدار التحول الذي طرأ على اتجاهي العقلي؛ ذلك لأن أثره علي قد جاوز النطاق الضيق لهذا البحث، فأدى إلى تحول في طريقة تفكيري أيا ما كان موضوع هذا التفكير.
Bilinmeyen sayfa
ولو أن القارئ وجد في هذا الكتاب قدرا من الدقة في استخدام الكلمات، أو درجة من التحليل الذي يجعل الأفكار التي نحللها تبدو واضحة - فإن ذلك كله يرجع إلى شروحه الهادية، وهي شروح لو كان في استطاعتي أن أسير على هديها بدقة أكثر مما فعلت لجاء بحثي من هذه الزاوية - يقينا - خيرا مما هو الآن.
ز.ن.م
الفصل الأول
النفس
(1) تعريف النفس ضروري للنظرية التي تقول إن الإنسان مجبر ذاتيا أو مجبر عن طريق نفسه. (2) يمكن أن تنقسم النظريات الممكنة عن النفس إلى مجموعتين رئيسيتين: نظريات «مركزية» ونظريات «لا مركزية» - «هيوم» و«واطسن» كممثلين للنظريات الأخيرة. (3) نظرية هيوم التي تقول إن النفس حزمة من الإدراكات الحسية. (4-13) نقد نظرية هيوم. (4) هيوم يستخدم فكرة العقل ومع ذلك ينكر وجوده. (5) نظرية هيوم لا تفسر إدراك الأشياء التي رتبت في نظام معين. (6) وهي أيضا لا تفسر الحكم. (7) وهي تفشل في تفسير كيفية إدراك إحساسين يوجدان معا حين يعرف الشخص المدرك أنهما اثنان. (8) نحن لا ننتبه إلى جميع الانطباعات التي تطبع حواسنا. (9) الانطباع وحده لا يستطيع أن يشير إلى واقع يجاوزه. (10) نظرية هيوم ليست مقنعة حين تقول إن الفكرة الكلية هي فكرة جزئية تمثل أفكارا أخرى. (11) هذه النظرية تجعل الاستدلال مستحيلا. (12) لن يكون هناك هوية. (13) منهج الاستبطان ليس هو المنهج الصحيح لاكتشاف وجود النفس، المنهج الصحيح لهذا الغرض هو المنهج الجدلي. (14) النظرية السلوكية. (15-17) نقد السلوكيين. (15) التفرقة بين السبب الداخلي والسبب الخارجي. (16) صيغة (م - س) لا تكفي، الصيغة تتحول إلى (م - ك - س). ولكنها لا تزال غير مقنعة. يجب أن تتحول إلى (ك.م.س). (17) منهج الملاحظة الخارجية لا يصلح لاكتشاف النفس. (18) النظريات المركزية تنقسم قسمين: (أ) النظريات التي ترى أن المركز عبارة عن نفس تقوم بعملية التوحيد. (ب) والنظريات التي ترى أن المركز جانب معين من محتويات خبرة الفرد نفسها. (19) وجهة النظر الأخيرة. (20-21) نقد هذه الوجهة من النظر: (20) لا يمكن أن نرسم خطا فاصلا بين ذلك الجانب من الخبرة الذي تعتبره هذه النظرية مركزا أو محورا، وبين الجوانب الأخرى التي نعتبرها هامشا لهذا المحور. (21) هذه الوجهة من النظر لا تستطيع أن تفسر تكوين التصورات أو إصدار الأحكام، أو القيام بالاستدلال. (22) النظرية التي ترى أن المركز نفس موحدة تعود بدورها فتنقسم قسمين: (أ) النظرية التي تقول إن النفس موجود بسيط مستقل عن الجسم. (ب) النظرية التي تقول إن النفس هي مبدأ الوحدة. (23) عرض النظرية القائلة بأن النفس كائن بسيط ونقدها. (24) النفس هي مبدأ موحد، إنها الفعل المتضمن في الانتباه. لا يمكن تصور الانتباه بغير موضوع، النفس هي ثنائية الانتباه والموضوع الذي ننتبه إليه. (25) الوضع الصحيح للجسم في حالة الانتباه هو جزء من عملية الانتباه، لكن لا هو سبب الانتباه ولا نتيجته. (26) ليس الانتباه ملكة يمكن أحيانا أن تتعطل، الانتباه مستمر حتى أثناء النوم. (27) الانتباه بوصفه فعلا فهو واحد باستمرار، أما التغير فهو يطرأ على موضوع الانتباه وحده. (28) جميع الوقائع السيكولوجية يمكن ردها إلى مقولة واحدة بعينها هي مقولة الفعل مع تنوع في موضوعات هذا الفعل. (29) لا يوجد شيء اسمه «اللاانتباه». (30) تصنيف الانتباه إلى انتباه إرادي وانتباه لا إرادي تصنيف خاطئ، فهو يفترض أسبقية الإرادة على الانتباه، لكن العكس هو الصحيح. (31) نفع الكائن الحي هو الذي يحدد اتجاه الانتباه. يجب أن يفهم هذا النفع بمعناه الضيق والواسع معا. (32) نحن الذين نصنع اطراد الطبيعة نتيجة لما ينتقيه الانتباه. (33) النشاط المتضمن في عملية الانتباه هو الذي يوحد بين الإحساسات المتعددة في إدراك واحد، ومن هنا تأتي وحدة الذات، ووحدة الموضوع على السواء. (34) لحظة الانتباه هي الحاضر، وهي: تتألف من «ما قبل وما بعد»، لكنها لا تتألف من الماضي والمستقبل. (35) التفرقة بين الانتباه المستمر المتصل وأفعال الانتباه. (36) الفرد ككل هو الذي ينتبه. (37) لا يمكن أن نرسم خطا فاصلا بين الانتباه وموضوعه. العلاقة بينهما تشبه العلاقة بين العمل في حالة الأداء
The doing ، والعمل وقد انتهى
The dead . (38) تصور الجسم المنتبه يحل مشكلة العلاقة بين العقل والجسم. (39) الانتقاء شرط ضروري للغرضية، والغرضية هي الخاصية المميزة للنفس أو الذاتية ...
Selfhood (40) الخصائص العامة التي تميز الإنسان بوصفه موجودا عاقلا يفسرها الانتباه كلها. (41) العمليات النوعية الخاصة مثل التجريد، والحكم، والاستدلال، تعتمد أساسا على الانتباه. (42) الانتباه يفسر وحدة الذات واستمرارها. (1) يبدو أنه من الضروري في بحث يذهب فيه صاحبه إلى أن الإنسان مجبر ذاتيا، أعني مجبر عن طريق «نفسه»، أن يفسر لنا طبيعة «النفس» بأوضح طريقة ممكنة. ويبدو أن صعوبة مثل هذه المحاولة سوف تظل قائمة طالما أن «الإجابة النهائية أو الكاملة» لتساؤلنا عن المعنى الدقيق الذي ينبغي أن تفهم به النفس: «لن نستطيع بلوغها إلى أن يأتي ذلك اليوم الذي تحل فيه جميع المشكلات النظرية.»
1
غير أن القول بأني مجبر ذاتيا أو مجبر عن طريق «نفسي» لن يكون له قيمة كبيرة ما لم يكن لدي فكرة واضحة - كبرت أو صغرت - عن حقيقة هذه النفس. وإذا كانت الكلمة الأخيرة في هذا الموضوع لم يقلها أحد بعد، فلا بد لي مع ذلك أن أقول ما أفهمه من لفظ جعلت منه أساسا للبحث كله. وسوف يلاحظ القارئ أنني أستخدم خلال الصفحات القادمة كلمات: «النفس» أو «الذات»، و«العقل»، و«الخبرة» بمعنى واحد. (2) يمكن أن نقسم النظريات الممكنة عن النفس إلى مجموعتين رئيسيتين، نطلق عليهما على التوالي - فيما يرى برود
Bilinmeyen sayfa
Broad - اسم «النظريات المركزية» و«النظريات اللامركزية». يقول برود: «أعني بالنظرية المركزية تلك النظرية التي تنسب وحدة الذهن
Mind
إلى موجود جزئي معين - هو المركز - يرتبط بعلاقة لا تماثلية مشتركة مع جميع الحوادث الذهنية
mentals events
2
التي يمكن أن يقال عنها إنها حالات لذهن معين، ولا يرتبط بمثل هذه العلاقة مع أية حوادث ذهنية لا يمكن أن يقال عنها إنها حالات لهذا الذهن.» وأعني بالنظرية اللامركزية تلك النظرية التي تنكر وجود أي مركز معين من هذا القبيل، وتنسب وحدة الذهن إلى أن أحداثا ذهنية معينة ترتبط فيما بينها ارتباطا مباشرة بطرق خاصة ومتميزة، وأن هناك أحداثا ذهنية أخرى لا ترتبط بالأحداث السابقة بتلك الطرق الخاصة التي ارتبطت بها الأحداث السابقة بعضها ببعض.
3
ويبدو أنه من المناسب أن ننتهي أولا من مناقشة النظرية التي ترى أن من الممكن تفسير وحدة النفس أو الذات دون افتراض مركز موحد، ويمكن أن نأخذ «هيوم» و«واطسن» كمثلين نموذجين لصورتين مختلفتين للنظرية «اللامركزية»؛ استخدم الأول الاستبطان «أو التأمل الباطني» منهجا للبحث، بينما استخدم الثاني منهج الملاحظة الخارجية للسلوك. (3) يرى هيوم أن: «إدراكات العقل البشري بأسرها تنحل من تلقاء نفسها إلى نوعين متميز أحدهما عن الآخر؛ وهما: «الانطباعات» و«الأفكار». وينحصر الفرق بين هذين النوعين في درجات القوة والحيوية اللتين تطبعان بهما العقل ويلتمسان بهما الطرق إلى فكرنا وشعورنا: فأما الإدراكات التي ترد إلينا بأبلغ القوة والعنف فلنا أن نسميها «بالانطباعات»: وإني لأجمع تحت هذا الاسم كل إحساساتنا وعواطفنا، وانفعالاتنا عندما تظهر للمرة الأولى في النفس . وأما لفظة «الأفكار» فأعني بها ما يكون في التفكير والتدليل العقلي من صور خافتة لتلك الإحساسات والعواطف والانفعالات.»
4
والانطباعات والأفكار «تتشابهان» في كل شيء آخر، ما عدا درجة القوة «والحيوية»
Bilinmeyen sayfa
5
فالأفكار هي انعكاس للانطباعات، والقاعدة التي تنطبق بغير استثناء هي أن «كل فكرة بسيطة لها انطباع بسيط يشبهها: وكل انطباع بسيط له فكرة تقابله.»
6
وينتهي هيوم من هذا الربط المستمر بين الإدراكات المتشابهة إلى القول بأن هناك صلة قوية جدا بين الانطباعات والأفكار، وأن وجود أحدهما له أثر قوي على وجود الآخر. ومثل هذا الترابط المستمر. لا يمكن أبدا أن ينشأ بمحض الصدفة، لكنه يبرهن بوضوح على اعتماد الانطباعات على الأفكار، وعلى اعتماد الأفكار على الانطباعات. وإذا أردت أن أعرف في أي جانب يقع هذا الانطباع، فما علي إلا أن أتدبر النظام الذي تظهر فيه الانطباعات لأول مرة: وسوف أجد، بالخبرة المستمرة، أن الانطباعات البسيطة يكون لها - باستمرار - الأسبقية على أفكارنا المقابلة لها، لكنها لا تظهر مطلقا في نظام مضاد ... والاتصال الدائم بين إدراكاتنا المتشابهة برهان مقنع على أن الواحد منهما علة للآخر، وأسبقية الانطباعات دليل مقنع أيضا على أن انطباعاتنا علة لأفكارنا لا على أن أفكارنا هي سبب انطباعاتنا.
7
ومعيار صواب فكرة من الأفكار هو - تبعا لنظرية هيوم - إمكان تعقبها إلى الانطباع أو الانطباعات التي نشأت. ويقول هيوم، تطبيقا لهذا المقياس على فكرة النفس الموحدة، إنه لا وجود لمثل هذه الفكرة: «وإلا فمن أي انطباع حسي أمكن لهذه الفكرة أن تجيء؟ ... ذلك لأنه لو كانت فكرة النفس قد نشأت عن انطباع واحد معين للزم أن يظل ذلك الانطباع على حاله دائما لا يتغير إبان فترة حياتنا كلها؛ لأن المفروض في النفس أن يكون وجودها قائما على هذا النحو، ولكن ليس هناك انطباع واحد متصف بالدوام وعدم التغير، فالألم واللذة، الحزن والسرور، والعواطف والإحساسات، كلها يتبع بعضها بعضا، ويستحيل عليها أبدا أن يتحقق لها الوجود كلها دفعة واحدة، وإذن فلا يمكن لفكرة النفس أن تستمد من أحد هذه الانطباعات أو من غيرها، وبالتالي فليس هناك فكرة كهذه.»
8
وهكذا نجد أن منهج الاستبطان، الذي استخدمه هيوم، لم يساعده في الكشف عن النفس الموحدة التي ترد إليها الإدراكات الجزئية المختلفة: «... إنني إذا ما أوغلت داخلا إلى صميم ما أسميه «نفسي» وجدتني دائما أعثر على هذا الإدراك الجزئي أو ذاك، ... لكنني لا أستطيع أبدا أن أمسك ب «نفسي» في أي وقت بغير إدراك ما، كما أني لا أستطيع أبدا أن أرى شيئا على الإطلاق فيما عدا ذلك الإدراك ...»
9
وهكذا انحلت النفس التي استبطنها هيوم إلى مجموعة من الانطباعات والأفكار التي يرتبط بعضها ببعض بطريقة خاصة، ويستدعي بعضها بعضا وفقا لقوانين معينة. وما العقل «إلا حزمة أو مجموعة من الإدراكات يعقب بعضها بعضا في سرعة هائلة لا يمكن تصورها، وهي في حركة وتدفق لا ينقطعان ... فالعقل أشبه ما يكون بالمسرح، تتعاقب عليه الإدراكات المختلفة الكثيرة تعاقبا سريعا، واحدا في إثر واحد، وهي لا تفتأ في مرورها هذا السريع يختلط بعضها ببعض لتتكون منها تركيبات، لا نهاية لاختلافها، ولا حد لصنوفها وأوضاعها، حتى لنستطيع أن نجزم بأن «النفس» لا تكون نفسا واحدة بسيطة مدى لحظة واحدة من زمن، كلا ولا هي تؤلف «هوية» واحدة تجمع العناصر المختلفة ... على أن تشبيهنا العقل بالمسرح لا ينبغي أن يضللنا، إذ ليس العقل إلا الإدراكات المتوالية، دون أن يكون لهذه الإدراكات مكان معين لظهورها.»
Bilinmeyen sayfa
10 (4) يمكن أن تثار ضد هذه النظرية اعتراضات كثيرة؛ فهي لا يمكن أن تكون مقنعة؛ فلقد أباح هيوم لنفسه أن يستخدم فكرة العقل بوصفه كائنا له وجود مستقل، رغم أنه ينكر عليه هذه الصفة. فهو يقول إن الانطباعات والأفكار: «يطبعان العقل» ويلتمسان الطريق إلى فكرنا أو شعورنا. وهو كذلك يتحدث عن الانطباعات كما تظهر «في النفس». حقا إن فكرة العقل بوصفه صفحة بيضاء
Tabula Rasa
قد تكون مسئولة عن الفصل بين الذات ومحتواها النفسي، وهو انفصال قد يؤدي إلى تجاهل الذات تماما وإدراك الحالات الذهنية بوصفها الجانب الوحيد المقبول. لكن الصفحة البيضاء نفسها لا يمكن أن تكون أكثر من تجريد، إذ في اللحظة التي تبدأ فيها الحياة الشعورية الواعية فإن هذه الصفحة لا يمكن أن تظل بعد ذلك بيضاء، ومن هنا كان الإحساس مستحيلا بدون الذات الواعية، لكن العكس صحيح أيضا، أعني أن الذات الواعية بدون الخبرة لا وجود لها، والحق أن استخدام كلمة «الصفحة» ذاتها لوصف العقل هو استخدام مضلل، حتى ولو سلمنا بأن هذه «الصفحة» لا يمكن أن تكون «بيضاء» على الإطلاق. وسوف نفهم العقل في هذا البحث - كما سنوضح بعد قليل - على أنه الفرد منتبها إلى شيء ما، أعني أنه الكائن الحي كما يعمل بطريقة معينة. (5) لا يمكن أن تكون الانطباعات والأفكار هي كل ما هنالك. فافرض مثلا أنني تلقيت انطباعا عن عدد من الحصى مرتبة بنظام معين، فكيف يكون في استطاعتي أن أدرك ترتيبها في هذا النظام لو كان الانطباع (مضافا إليه انعكاسه الفكري) هما كل ما عندي؟ إن فكرة الترتيب في نظام معين ليست - يقينا - جزءا من الإحساس بما هو كذلك. وقد يعترض معترض فيقول: إن المعطى الحسي نفسه له شيء من النظام الداخلي، وهذا صحيح، لكن القول بأن هذا المعطى الحسي المعين له لون من النظام الداخلي شيء، وإدراك هذا النظام بما هو كذلك شيء آخر مختلف عنه أتم الاختلاف. ويكفي للبرهنة على ذلك أن نقول: إنه ليس من الضروري لكل شخص خبر هذا المعطى الحسي أن يدرك مثل هذا النظام؛ لأن إدراك ترتيب حبات الحصى في نظام معين يحتاج إلى مقارنة أماكن هذه الحبات بعضها ببعض، وعملية المقارنة هذه تحتاج إلى شيء آخر فوق الأشياء التي نقارن بينها أو أعلى منها. والواقع أننا حين نقول إن حبات الحصى مرتبة على شكل مثلث، فإننا في هذه الحالة لا نكون «تصورا»، وإنما نصدر حكما، وإصدار الحكم فعل يحتاج بالضرورة إلى فاعل. (6) في استطاعتنا أن نتصور الانطباعات والأفكار وهي تتشكل في قضايا، لكن من الصعب أن نتصور كيف يمكن إصدار حكم على هذه القضايا بدون فعلي الإثبات والنفي. ومثل هذه الأفعال - كما أشرنا الآن توا - تفترض بالضرورة وجود فاعل. وبأي معنى شئت أن تفهم به الحكم؛ فأنت مضطر لافتراض وجود شخص هو الذي أصدر مثل هذا الحكم، بحيث يقبل - أو يرفض، أو يعلق - الحكم على القضية المطروحة أمامه. صحيح أن هيوم كان حذرا؛ فاحتاط لنفسه من مثل هذا النقد، فذهب إلى أن الحكم نوع من الإدراك.
11
فالحكم الإيجابي عنده: «ليس إلا تصورا قويا سريعا لفكرة ما، كما لو كنت تقترب إلى حد ما من انطباع مباشر.»
12
لكن الحكم لا يمكن أن يكون مجرد القوة والحيوية لفكرة ما أو لعدة أفكار. لأن مثل هذه الأفكار ليست إلا أحداثا نفسية، أعني مجرد مضمون فكري، في حين أن الحكم: «فعل يشير مضمونه الفكري إلى واقع يقع وراء هذا الفعل.»
13
ولو كان كل انطباع عبارة عن فكرة - وكل ما عندنا عبارة عن فكرة - بالغا ما بلغت حيويتها - فإننا لن نستطيع أن ننفي أو أن نثبت شيئا.
14
Bilinmeyen sayfa
وإذا كان الحكم مستحيلا بغير فاعل يجاوز المضمون الفكري، فسوف تصبح المعرفة بدورها مستحيلة؛ ذلك لأن القضايا وحدها لا تكون معرفة، لكنها تصبح معرفة حين نثبتها أو ننفيها، أو بمعنى آخر حين نصدر عليها أحكاما.
15 (7) وفضلا عن ذلك فلو كنا لا نملك سوى الانطباعات والأفكار وحدها، فمن أين نعرف أن هناك إحساسين مختلفين يوجدان معا إذا ما صادفتنا مثل هذه الحالة؟ افرض مثلا أنني أنظر إلى إحدى الصور، وأستمع إلى أنغام الموسيقى في آن معا، فلو أنني كنت على وعي بأنهما إحساسان مختلفان، فإن هذا الوعي نفسه دليل على وجود شيء آخر غير الإحساسين هو الذي مكنني من أن أعرف أنهما إحساسان اثنان وليسا إحساسا واحدا. (8) من الواضح أننا لا ننتبه إلى جميع الانطباعات التي تطبع الحواس في لحظة معينة، لأن انتباهنا ينتقي منها انطباعا معينا. فأنا - مثلا - لم أكن أدرك الانطباع الحسي لما أرتديه من ثياب إلى أن وجهت انتباهي إليه الآن فقط، مع أن هذا الانطباع كان موجودا طوال الوقت، لكني لكي أعيه؛ كنت في حاجة إلى توجيه انتباهي إليه . ومنذ دخلت قاعة المكتبة، واتخذت فيها مجلسي، وساعتها لا تنقطع عن الدق الرتيب الخافت المتتالي بشكل منتظم ومطرد. لكني لم أكن أسمع هذه الدقات الخافتة لأني لم أكن قد انتبهت إليها، على الرغم من أن الموجات الصوتية التي تحدثها هذه الدقات لم تنفك عن طرق طبلة أذني. والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: من ذا الذي يختار هذا المعطى الحسي أو ذاك - دون بقية المعطيات - ليكون موضوعا للانتباه؟ لا يمكن أن تكون الإحساسات، بما هي كذلك، هي التي اختارت نفسها بنفسها، بل لا بد أن يكون هناك شيء غيرها هو الذي قام بهذا الاختيار. (9) إذا كانت الانطباعات والأفكار هي وحدها ما تتضمنه عقولنا فسوف يكون مستحيلا عليها أن تعني شيئا، أي إنها ستفقد قيمتها بوصفها رمزا يشير إلى شيء آخر غير وجودها ومضمونها، فنحن حين يكون لدينا انطباع أو فكرة، ندرك ما هي
that it is
وماذا تعني
what it is
16
لكن الانطباع بذاته أو الفكرة وحدها لا يمكن أن تدلنا على ما تمثله في العالم الواقعي، وبعبارة أخرى، الانطباع بذاته أو الفكرة وحدها لا تعني شيئا، فهي ليست سوى إشارة أو رمز، ولا بد أن يكون هناك فاعل يجاوز هذه الإشارة ويعلو عليها، هو الذي يفسر لنا ما ترمز إليه. وفضلا عن ذلك فقد يكون لدينا انطباعان متشابهان أتم ما يكون التشابه، ويكون لهما - مع ذلك - معنيان أو أكثر مختلفان أتم الاختلاف. انظر مثلا إلى الرمز الرقمي 23، إنه قد يعني «ثلاثة وعشرين»، أو قد يعني «خمسة» إذا كنت أقصد جمع العددين، وقد يعني «ستة» إذا كنت أقصد ضربهما. ومع ذلك فالانطباع واحد في جميع هذه الحالات. ألا يدل ذلك على وجود شيء فيما وراء الإحساس هو الذي يضفي عليه المعنى في كل حالة من الحالات؟ (10) يرى هيوم في تفسيره لفكرة «الكلية» - مسايرا باركلي - أن «جميع الأفكار الكلية إن هي إلا أفكار جزئية ربطت باسم معين يخلع عليها دلالة أوسع مدى، ويجعلها تستثير - إذا ما لزم الأمر - أفرادا أخرى شبيهة بها.»
17
وهو كذلك : إن كل شيء في الطبيعة فرد متميز بفرديته، فمن السخف أن نفترض وجود مثلث في الطبيعة دون أن تكون لأضلاعه وزواياه مقادير معلومة معينة بالنسبة بعضها إلى بعض، وإذا كان مثل هذا الافتراض سخفا في دنيا الأشياء والواقع، فسخف بالتالي أن تقول ذلك عن «فكرة» المثلث.
18
Bilinmeyen sayfa
وأقل ما يمكن أن يقال ضد هذه النظرية، التي ترى أن الفكرة الكلية لا بد أن تكون في ذاتها فكرة جزئية اختيرت لتكون ممثلة لسائر الأفراد، أن نسأل السؤال الآتي: ترى من أين جاءت فكرة «التمثيل» هذه؟ إننا إذا ما استخدمنا مقياس هيوم نفسه للزم أن نقول إن هذه الفكرة لم تستمد من انطباع حسي يقابلها؛ ومن ثم فلا وجود لها. ومن ناحية أخرى - مكررين ما سبق أن ذكرناه - إننا لا نستطيع أن نعرف أن موضوعات معينة متشابهة، أو أنه يمكن أن يمثلها فرد جزئي من بينها - اللهم إلا إذا ما قارنا بعضها ببعض، لكن المقارنة - كما سبق أن رأينا - تحتاج إلى شيء آخر - يجاوز الأشياء التي نقارن بينها. (11) لو صحت نظرية هيوم فسوف يصبح الاستدلال مستحيلا: «كل استدلال يتألف من عنصرين. فهو أولا عملية
، وهو ثانيا نتيجة
Result . والعملية هي إجراء نقيم به تركيبا معينا، وهي تتناول معطياتها، وبعملية بناء فكري تؤلف بينهما في كل واحد. وأما النتيجة فهي إدراك علاقة جديدة داخل هذه الوحدة
unity .»
19
ولكي نركب مقدمتين أو أكثر في كل واحد فلا بد أن تكون هناك نقاط اتصال والتقاء أو علاقة بين هذه المقدمات، أعني أن أطراف هذه المقدمات
Terminal
التي علينا أن نركب بينها في كل واحد لا بد أن تكون نقاطا واحدة. وهكذا نجد أنه في حالة «أ - ب» و«ب - ج» يتحد فيهما حد واحد هو «ب» بحيث يكون مشتركا بينهما، ولهذا ترانا نربط بينهما على النحو التالي «أ - ب - ج»: «وإذا ما حولنا مقدماتنا إلى كل واحد بهذا الشكل أمكن لنا أن ننتهي إلى النتيجة بمجرد اختبار المقدمات وحدها. فلو كانت «أ - ب - ج - د» صادقة من حيث مطابقتها للواقع، فإننا في هذه الحالة نستطيع أن نجد في «أ - ج» أو «أ - د» أو أيضا «ب - د» علاقات لم نكن نعرفها من قبل ... إننا في البداية نقوم بعمل معين في معطياتنا، وهذا العمل هو البناء أو التركيب، ثم بعد ذلك عن طريق الاختبار نكتشف وننتقي علاقة جديدة، وهذا الحدس هو النتيجة.»
20
وإذا أردنا أن نضرب مثلا على ذلك قلنا: «لو أن هناك ثلاثة أوتار هي أ، ب، ج، ضربت في وقت واحد، واستمعنا إليها فوجدنا أنها جميعا تحدث نغمة واحدة، فإن من الصعب أن نستدل من ذلك أن كلا منها كانت تساير الأخرى في نغمتها. لكن اضرب أولا الوتر أ، ب، ثم اضرب ثانيا ب، ج، فإنه في استطاعتي - في هذه الحالة، إذا لم يكن هناك اختلاف في النغمة بين أ، ب، وإذا لم يكن ثمة اختلاف بين ب، ج - أقول في استطاعتي في هذه الحالة أن أنتهي إلى تكوين مجموعة مثالية في تناسقها هي أ، ب، ج مؤتلفة ومتحدة تماما عن طريق التشابه في نغمة واحدة. وهذه المجموعة عبارة عن مركب ذهني. وإذا كان ثمة إدراك تحليلي أكثر من ذلك فإنه يضيف في هذه الحالة أن أ، ج مؤتلفتان في نغمة واحدة.»
Bilinmeyen sayfa
21
وتبدو وجهة نظر «برادلي» هذه متفقة مع وجهة نظر هيوم، فلقد ذهب هيوم إلى أن «جميع أنواع الاستدلال العقلي لا تعتمد إلا على شيء واحد هو المقارنة، واكتشاف تلك العلاقات ... التي قد تكون قائمة بين شيئين أو أكثر. ويمكن أن نقوم بمثل هذه المقارنة: إما حين تكون هذه الأشياء كلها ماثلة للحواس في وقت واحد، وإما حين لا يكون شيء منها ماثلا أمام الحواس، أو حين يكون شيء واحد فقط هو الذي يمثل أمامها، وحين تكون الأشياء ماثلة بعلاقاتها أمام الحواس نسمي ذلك إدراكا أكثر مما نسميه استدلالا عقليا.»
22
وإذا كان كل استدلال يعتمد على حدس لعلاقات جديدة بين الأشياء، علاقات لم نكن نعرفها من قبل، علاقات لم تكن ماثلة لحواسنا أبدا، وبالتالي لم تكن قط جزءا من أي انطباع - إذا كان الاستدلال على هذا النحو، فسوف يصبح مستحيلا إذا ما حصرنا أنفسنا في نطاق الانطباعات وانعكاساتها الفكرية وحدها. (12) إن أية نظرية عن العقل لن تكون كافية - يقينا - ما لم تفسر تفسيرا مقنعا وحدة هذا العقل واتصاله، حتى ولو لم نستطع البلوغ بهذه الوحدة أو هذا الاتصال إلى درجة الكمال. ومعنى ذلك أن ترابط العقل الأفقي والرأسي،
23
لا بد أن يوضع موضع الاعتبار، وأن يدرس دراسة جادة.
لقد كان هيوم واضحا كل الوضوح في نظرته إلى الهوية الشخصية، فليس ثمة انطباع عن «النفس» يمكن أن تنشأ عنه فكرة الهوية البسيطة المتحدة مع نفسها، ونحن لا نكون على وعي تام إلا بالإدراك الجزئي فحسب. ومن ثم كان الإنسان حزمة أو مجموعة من الإدراكات الحسية المختلفة التي تعقب الواحدة منها الأخرى في تدفق مستمر وحركة دائبة. وخيالنا هو الذي يجعلنا نخطئ فنظن أن تعاقب الموضوعات المترابطة هو ذات في هوية مع نفسها.
ونظرية هيوم - كغيرها من النظريات اللامركزية - تفهم وحدة العقل على أنها وحدة نسق أو نظام، لا وحدة نواة. فهناك مجموعة من العلاقات ذات خصائص معينة تقع بين الحوادث الذهنية من جهة، وبين الشرائح المتتابعة لتاريخ الفرد من جهة أخرى، وهذا هو ما يشكل الوحدة المستعرضة والوحدة الطولية للنفس أو الذات - على التوالي. فإذا ما أخذنا قطاعا عرضيا في مجرى الشعور عند الفرد، وجدنا أن الحوادث الذهنية المختلفة التي توجد معا في لحظة معينة من لحظات الخبرة، ترتبط فيما بينها ارتباطا خاصا، حتى إنها تكون لنفسها وحدة ذات خصائص معينة متميزة. ولو أنني من ناحية أخرى فحصت كل تسلسل للقطاعات العرضية التي تشكل تاريخي الماضي، لوجدت أنها يرتبط بعضها ببعض بطريقة متشابهة، لدرجة أن نسق العلاقات الفريد لا بد أن يطبع الفرد بطابعه.
وإذا كان هذا التفسير لوجهة نظر هيوم سليما، فلا بد أن ننظر إلى الضمائر الشخصية على أنها تشير إلى مجموعة خاصة من العلاقات، لا إلى مراكز لهوية ذاتية، لكن الضمائر الشخصية في هذه الحالة مثل: أنا، وأنت ، وملكي ... إلخ، إلخ، سوف تفقد كل معنى لها. صحيح أن البرهان الذي يعتمد على الضمائر الشخصية ليس برهانا حاسما في إثبات وجود مراكز لهوية ذاتية، وهي المراكز التي نفترض أن هذه الضمائر تشير إليها. وأنا أسلم بذلك. إذ قد يعترض معترض - وله الحق في ذلك - فيقول إننا حين استخدمنا هذه الضمائر لم نكتشف في البداية وجود مركز يوحد بين الحالات الذهنية المختلفة، ثم أطلقنا عليه اسما معينا، لكننا فعلنا العكس، أعني استخدمنا أولا الاسم لتسهيل عملية الاتصال بين الناس، ثم بدأنا بعد ذلك في البحث عن موجود يفترض أن الاسم يشير إليه. وقد يقال من ثم إن الضمائر الشخصية ليست إلا تسمية على غير مسميات
misnomers
Bilinmeyen sayfa
استخدمت على سبيل التيسير، لا لأنها ضرورية. ومع ذلك فأنا أشعر أنه من المرجح جدا أن يكون الاستخدام الذي لا مفر منه للضمائر دليلا على وجود ذات لها هوية أيا كان معني هذه الذات. ولقد قام «ريموند هويلر
R. whecler » بدراسة تجريبية كان هدفها البحث عما إذا كان من الممكن استبطان مثل هذه الذات. وانتهى إلى أن الأشخاص الذين أجرى عليهم التجربة قد فشلوا - عن طريق استخدام الاستبطان - في اكتشاف أي لون من هذه الذات التي لا تقبل التحليل.
24
غير أن تقارير الأشخاص المفحوصين الذين قاموا بعملية الاستبطان في تجارب «هويلر» صيغت في عبارات مثل: «سألت نفسي» و«حالتي الخاصة» ... إلخ، إلخ، واستخدام الضمائر الشخصية بصورها المختلفة قد لا يكون بالطبع - كما سبق أن ذكرنا - أكثر من لغة مناسبة أو وسيلة سهلة لا ينبغي أن نستنتج منها أية نتائج فيما يتعلق بوجود ذات أو نفس. لكن يبدو لي أننا ينبغي أن نقول على الأقل إنه طالما أن أولئك الذين ينكرون أنهم خبروا الذات قد مارسوا ميزة استخدام كلمات تعني بوضوح الاعتراف بوجود الذات، فلا شك أن هناك احتمالا سيظل قائما، وهو أنه يمكن أن يكونوا قد خبروا فعلا - بطريقة ما - ذلك الذي ينكرونه من الناحية الشكلية. وبعبارة أوضح: إننا لا نستطيع أن نرفض وجود الذات رفضا قاطعا اللهم إلا إذا كان من الممكن أن نعبر عن أنفسنا تعبيرا تاما لا نستخدم فيه إلا الحوادث الذهنية دون أن نلجأ بعد ذلك إلى استخدام الأشكال المختلفة للضمائر الشخصية. ومن ناحية أخرى فسوف نبين بعد قليل أن الاستبطان ليس هو المنهج السليم، الذي يصلح لاكتشاف الذات، ذلك لأن ما نتوقع أن نكشف عنه باستمرار من خلال الاستبطان هو هذه الحالة أو تلك من الحالات الذهنية، أما الكشف عن الذهن نفسه فينبغي ألا نتوقع أبدا أن نصل إليه بهذا المنهج. (13) لقد أعلن هيوم أنه كلما حاول أن يستبطن «نفسه» فإنه «يعثر» باستمرار على حادثة ذهنية معينة بدلا من هذه «النفس»، ومن هنا استنتج أنه ليس لدينا معرفة بشيء اسمه «النفس». لكن القول بأن «النفس» - أو الذهن - لا يمكن أن تخضع للاختبار عن طريق الاستبطان قد يظهرنا - لا على أنه ليس هناك ذهن أو نفس - بل على أن هيوم استخدم منهجا خاطئا حين اختار الاستبطان منهجا لاكتشاف النفس أو الذهن. ولو أننا فشلنا في استبطان الذهن بما هو كذلك، ألا يمكن أن يكون في استطاعتنا مع ذلك أن ندركه باستخدام المنهج الجدلي؟ والمنهج الجدلي يعتمد على فحص ما يتضمنه موقف من المواقف، بحيث ننتهي إلى القول بأننا لا نستطيع أن ننكر هذا المضمون بغير الوقوع في التناقض. وذلك يعني أن نتناول بالدراسة والفحص بعض المواقف السيكولوجية لنرى أننا نناقض أنفسنا إذا ما أنكرنا وجود الذهن كشيء تتضمنه هذه المواقف، وفي هذه الحالة نضطر إلى إثبات وجود الذهن.
وإذا ما أخذنا الآن عبارة هيوم وطبقنا عليها هذا المنهج فسوف نجد ما يلي: يقول هيوم «إنني إذا ما توغلت داخلا إلى صميم ما أسميه «نفسي» وجدتني أعثر دائما على هذا الإدراك الجزئي أو ذاك ... إنني لا أستطيع أبدا أن أمسك ب «نفسي» في أي وقت بغير إدراك ما، كما أني لا أستطيع أبدا أن أرى شيئا على الإطلاق فيما عدا هذا الإدراك.»
25
لكن قوله بأنه يتوغل داخلا إلى صميم نفسه، معناه أنه ينتبه إلى نفسه، أعني أنه ينتبه إلى الحالة النفسية التي يتصادف وجودها لحظة الفحص، فما الذي يشير إليه هذا الانتباه إن لم يكن يشير إلى الذهن أو العقل؟ إن وجهة النظر التي يعرضها هذا البحث على نحو ما سنعرف فيما بعد هي أن الذهن
Mind
عبارة عن ثنائية لا تنفصم بين الانتباه وموضوعه. ومهما قيل في معارضة هذه النظرية، وبأي معنى شئت أن تفهم به «الذهن»، فلا بد من النظر إلى الانتباه على أنه وظيفة هذا الذهن. وعلى ذلك فكلما «توغل» هيوم داخل نفسه فإنه ينتبه، ومن ثم فهو يفترض مقدما وجود الذهن.
وسوف نلاحظ أن المنهج الجدلي الذي نقترحه هنا لإدراك الذهن هو نفسه المنهج الذي استخدمه «ديكارت» حين أثبت وجود نفسه بوصفها عملية تفكير. فديكارت لم يزعم أن الذهن موجود لأنه اكتشفه عن طريق الاستبطان، لكنه زعم وجوده لأنه اكتشف أنه متضمن في موقف معين كان يقوم بفحصه، ووجد أن إنكار الذهن لا يعني سوى إعادة إثباته من جديد؛ فنحن أثناء عملية الاستبطان نكون على وعي مباشر بالحالة النفسية التي نقوم بفحصها، لكننا بالإدراك الجدلي الذي نقترحه هنا لاكتشاف الذهن، نستنتج وجوده لأننا نجد أنه من الضروري أن يكون متضمنا في المواقف السيكولوجية.
Bilinmeyen sayfa
ولهذا فنحن لا نستطيع أن نوافق هيوم فيما ذهب إليه؛ من أن الذات لا وجود لها؛ لأن الاستبطان لم يظهر له هذه الذات أو النفس عارية؛ ذلك لأن الذات، تدرك من خلال الحالات التي تخضع للاستبطان، لا من حيث هي حالة بين هذه الحالات. إنك لا تستطيع أن تعزل الانتباه لكي تدركه بالاستبطان؛ إذ لو فعلت ذلك لكنت تعزل الانتباه عن طريق الانتباه - وهو دور. (14) والمدرسة السلوكية لون آخر من ألوان النظريات اللامركزية عن النفس؛ فقد حصرت هذه المدرسة نفسها في دراسة أنماط السلوك التي يمكن أن يشاهدها الملاحظ الخارجي، ورفضت الاستبطان منهجا للبحث، معتمدة في ذلك على التجارب المحكمة التي أجراها «بافلوف
» على الفعل المنعكس الشرطي، دون أية إشارة إلى ما يسمى بالشعور. وزعم السلوكيون أن العلوم الطبيعية قادرة على تفسير جميع وقائع السلوك التي نلاحظها، وأنه ليس ثمة ما يبرر أن نفترض وقائع السلوك التي نلاحظها، وأنه ليس ثمة ما يبرر أن نفترض وقائع للسلوك البشري لا يمكن أن نعرفها إلا بطريقة أخرى غير المشاهدة الخارجية، وما دام الذهن، من حيث هو ذهن، لا يمكن ملاحظته فقد استبعدوه.
وكل سلوك، بالغا ما بلغ تعقده - كالعمليات التي نطلق عليها اسم التفكير مثلا - يمكن عند هذه المدرسة أن يرتد في نهاية تحليله إلى وحدات من «مثير - استجابة» أو في صيغتها الرمزية «م - س». وهم يستخدمون هذه الصيغة الرمزية لإظهار اعتماد الحركة على المثير. و«م» ترمز إلى «المثير»، و«س» ترمز إلى الاستجابة. وواضح تماما أن هذه الصيغة ناقصة أشد النقصان، فهي تفترض أن «م» مثير معين، يعقبه باستمرار «س» أي استجابة معينة، بغض النظر عن الكائن الحي الذي يثيره هذا المثير. مع أننا نجد الناس في حياتهم اليومية يستجيبون استجابات مختلفة لنفس المثير، ويستجيب الفرد الواحد استجابات مختلفة للمثير الواحد في أوقات مختلفة. خذ مثلا جماعة المسافرين في عربة، يسيرون وسط واد صغير: «هذا الوادي بمعنى ما من المعاني واحد بالنسبة لهم جميعا، فهو جزء من بيئتهم المشتركة. لكنك ستجدهم يختلفون في استجاباتهم له، فهذا واحد منهم، وهو فنان، يبدأ في عزل الموضوعات الموجودة أمامه بعضها عن بعض ليرسمها، في الوقت الذي يرقب فيه شخص آخر - سماك - بسرور كبير برك الصيد التي يكثر فيها السمك، بينما يهتم شخص ثالث - عالم جيولوجيا - بمراقبة منظر الشاطئ الرملي والأماكن المتحجرة، أو يقف متأملا بعض الكتل الصخرية.»
26 (15) ويجمل بنا هنا أن نفرق بين نوعين من الأسباب؛ فهناك أسباب داخلية وأسباب خارجية. فإذا كان سبب التغيرات التي تحدث في موضوع معين يكمن داخل هذا الموضوع نفسه، قلنا إن السبب في هذه الحالة داخلي. أما إذا كانت التغيرات ترجع إلى ظروف خارجية، قلنا إن السبب في هذه الحالة خارجي. فإذا ما وضعت شرارة فوق «بارود» فأحدثت انفجارا، قلنا إن الشرارة ، في هذه الحالة ، هي السبب الخارجي للتغير الذي حدث، وهو الانفجار. لكن الشرارة لا يمكن أن تكون هي السبب «كله»؛ لأننا لا نحصل على هذه النتيجة «أي الانفجار» إذا ما وضعنا الشرارة على الفحم مثلا. ومعنى ذلك أن تركيب البارود نفسه هو الجانب الآخر من السبب، وهو ما نسميه بالسبب الداخلي. وقل مثل ذلك حين يسلك الكائن الحي بطريقة معينة، فقد ننظر إلى بعض العوامل الخارجية على أنها السبب الخارجي لهذا السلوك، لكن تكوين الكائن الحي نفسه لا بد أن يوضع موضع الاعتبار بوصفه السبب الداخلي لهذا السلوك؛ لأنه قد لا يسلك كائن حي آخر نفس هذا المسلك مع وجود هذه العوامل الخارجية نفسها. يقول جيمس وورد
27
في هذا المعنى: «إن ضوء الغروب الذي يرسل الدجاجة لتبيت في حظيرتها، يجعل الثعلب يشرع في التجوال في الغابة بحثا عن فريسته، وزئير الأسد الذي يجمع بنات آوى، يشتت الأغنام ويفرقها.»
28
بل إنك لتجد أن الكائن الحي الواحد نفسه يستجيب استجابات مختلفة للمثير الواحد في بعض الظروف المقبلة؛ لأن أساس السلوك، وأعني به التكوين الداخلي للكائن الحي، قد تغير ولم يعد كما كان من قبل. (16) ومن هنا فإن صيغة «م - س» تصبح غير كافية لتفسير وقائع السلوك؛ لأن التكوين العضوي للفاعل لا بد أن يدخل جزءا من السبب. ومن ثم فحرف «ك»، الذي يمثل الكائن الحي، لا بد أن يدخل في الصيغة التي تتحول بناء على ذلك إلى «م - ك - س» أي «مثير - كائن حي - استجابة»، وهي تعني أن الاستجابة يحددها المثير والكائن الحي.
غير أن ترتيب العناصر في هذه الصيغة لا يزال غير مقنع. ذلك لأن الفرد لا يبقى ساكنا في انتظار سلبي حتى يأتي المثير ليثيره. لكنه على العكس، ينتقي من البيئة المحيطة المثير الذي يلائم طبيعته. وهو يجعل من المثيرات التي تحافظ على وجوده موضوعا للاشتهاء والرغبة. ومن المثيرات التي تؤدي هذا الوجود موضوعا للكراهية والنفور، أما الموضوعات التي تبقى بعد ذلك، أي الموضوعات المحايدة، التي لا تضر ولا تنفع ، فهو يقف منها موقف اللامبالاة. والفرد بهذا الانتقاء والاختيار يحدد البيئة الخاصة التي تناسبه. وعلى ذلك فبدلا من ترتيب الصيغة السابقة «مثير - كائن حي - استجابة»، هناك الآن تعديل مقترح، بحيث تصبح هذه الصيغة على النحو التالي: «كائن حي - مثير - استجابة».
29
Bilinmeyen sayfa