26
ويمكن أن نلخص إجابته على النحو التالي:
إننا قد نسلم بأنه من المرجح استقرائيا - إذا ما لاحظنا تتابعا في عدد كبير جدا من الحالات دون أن نفشل مرة واحدة في ملاحظة هذا التتابع - أن يتكرر هذا التتابع نفسه في حالات مقبلة. وقد نقول عندئذ - في مثل هذا التتابع الذي نلاحظه بكثرة - إن الحادثة السابقة هي السبب، وإن الحادثة التالية هي النتيجة. ومهما يكن من شيء فإن هناك اعتبارات متعددة تجعل هذا التتابع الخاص مختلفا أتم الاختلاف عن العلاقة التقليدية بين السبب والنتيجة: (1) فالتتابع في الحالات التي لم نلاحظها حتى الآن ليس أكثر من ترجيح، بينما ترانا نفترض أن العلاقة بين السبب والنتيجة هي علاقة ضرورية. (2) لن يزعم أحد أن كل مقدم يسبق الحادثة هو سببها بهذا المعنى. لكننا سوف نؤمن فحسب بالتتابع السببي حيثما وجدناه، دون أن نفترض أنهما معا «أي الحادثتين المتتابعتين» توجدان باستمرار على هذا النحو. (3) أي حالة من حالات التتابع الذي يتكرر بشكل كاف سوف تكون حالة سببية بالمعنى الذي ذكرناه، أعني أننا لن نرفض القول بأن الليل هو سبب النهار. (4) مثل هذه القوانين الخاصة بالتتابع المرجح رغم أنها مفيدة في الحياة اليومية وفي طفرة العلم، تتجه إلى أن يحل محلها قوانين مختلفة أتم الاختلاف بمجرد ما يصبح العلم ناجحا. فقانون الجاذبية سوف يوضح ما يحدث في أي علم متقدم ففي حركات الأجسام التي يجذب بعضها بعضا لا يوجد شيء اسمه سبب ولا شيء اسمه نتيجة، لكن هناك مجرد صيغة فحسب.
ليس ثمة تساؤل حول تكرار القول بأن «نفس» السبب يحدث نفس «النتيجة»؛ فالقوانين العلمية لا تعتمد في دوامها على أي تشابه للأسباب والنتائج لكنها تعتمد على تشابه العلاقات، وحتى عبارة «تشابه العلاقات» عبارة مبسطة للغاية، والقول ب «تشابه المعادلات التفاضلية» هي وحدها العبارة الصحيحة. (15) والآن إذا ما كانت هناك مجموعة من الحوادث لا نلاحظ فيها نفس التتابع يتكرر، أو لا يمكن أن تصالح حولها معادلات تفاضلية، فإننا في هذه الحالة لا يكون لنا الحق في إدراج مثل هذه المجموعة تحت قانون السببية بالمعنى الذي شرحناه آنفا.
ولننظر الآن في الإرادة كما عرفناها في فصل سابق: الإرادة هي فعل من أفعال الانتباه إلى فكرة تغيير الوجود حتى تتحقق هذه الفكرة نفسها، بهذه الطريقة يعبر الفاعل عن ذات نفسه، فافرض مثلا أنني أردت أن تكون الاشتراكية نظاما للحكم في بلادي،
27
إنني في هذه الحالة أحتفظ في الانتباه بفكرة تغيير الأوضاع القائمة، بحيث تبدأ الفكرة في تطوير نفسها من الغاية إلى الوسيلة حتى أصل إلى أقرب وسيلة آخذ بها هنا والآن. ولتكن هذه الوسيلة القريبة هي - مثلا - كتابة وطبع نشرات وكتيبات صغيرة تحوي مبادئ الاشتراكية وأسسها وفوائد تطبيقها ... إلخ، ثم تتلو هذه الخطوة خطوة ثانية وثالثة ... إلخ. وهكذا أظل أسير في خطوات مرسومة إن أردت لفعلي الإرادي أن يتحقق حتى يتولى أحد الاشتراكيين السلطة ... وهذه السلسلة من الأحداث تشكل فعلا إراديا واحدا، والحلقة الأولى فيها هي الانتباه إلى فكرة تغيير الوضع القائم: فهل نستطيع أن نجد في هذه السلسلة «أ» تتابعا يمكن ملاحظته «ب» أو نفس العلاقات التي يمكن أن نعبر عنها في شكل معادلة؟ (16) وخذ الآن فعل الانتباه الذي اعتبره الخطوة الأساسية في العملية بأسرها، فما الذي يعنيه التتابع هنا؟ هل يعني أنه قد حدث لي مرات عديدة طوال حياتي أن فعلت فعلا معينا كتناول طعام معين، أو قراءة كتاب معين، أو حركت جسمي بطريقة معينة، وأنه في كل حالة من هذه الحالات كان هذا الفعل يعقبه الانتباه إلى فكرة إدخال النظام الاشتراكي في بلادي؟ هل يعني أن شيئا معينا حدث في العالم الخارجي و«جذب» انتباهي إلى الفكرة، وأنه قد لوحظ دائما أن مثل هذا الحدث يعقبه باستمرار الانتباه إلى فكرة تغيير الأوضاع الاجتماعية في بلادي بهذه الطريقة المحددة؟ أم إن هناك شيئا في تركيب جسمي - كعملية الهضم مثلا أو دقات القلب - ظهر من الخبرات الماضية أنه يعقبها باستمرار انتباهي إلى هذه الفكرة؟ لا بد لي من الاعتراف أنني لا أستطيع على الإطلاق أن أرى نوعا من أنواع التعاقب السببي بين حدث معين - عقلي أو فيزيقي - كمقدم، وبين انتباهي إلى فكرة التغيير الإرادي كنتيجة لهذا المقدم.
ومع ذلك كله دعنا نسلم بهذا الفرض المحال، وهو أنه قد حدث لي مرات عديدة طوال حياتي أن انتهيت إلى فكرة جعل بلادي دولة اشتراكية، وأن الفكرة قد تحققت في كل مرة ... دعنا نفترض هذا الفرض المحال، فهل نستطيع أن نسلم بالإضافة إلى ذلك أن المقدم - وهو الأوضاع القائمة التي لا بد أن تكون في جانب منها على الأقل ذهنية - كانت دائما واحدة؟ وإذا كان يمكن أن يقال عن العالم المادي أن مبدأ «نفس السبب يؤدي إلى نفس النتيجة» لا لزوم له على الإطلاق، لأنه ما إن تعطى المقدمات التي تمكن النتيجة من أن تحسب، حتى تصبح هذه المقدمات معقدة أو متشابكة، بحيث لا يكون من المحتمل أن تتكرر.
28
أقول إذا كان يمكن أن يقال ذلك عن العالم المادي الخالص، أليس من الأجدى أن يقال عن تلك الحالة التي يكون فيها الفاعل السيكوفيزيقي النشط جزءا من المقدم، وتكون فيها النتيجة حالة سيكولوجية معينة؟ ليس هناك شيء أفضل لتوضيح هذه النقطة من أن نقتبس النص الآتي من «برجسون»: «إن القول بأن نفس الأسباب الداخلية سوف تحدث نفس النتائج، يعني أنك تفترض أن نفس السبب يمكن أن يتكرر حدوثه على مسرح الشعور، وإذا كانت الديمومة هي على نحو ما ذكرنا، فإن الحالات النفسية العميقة الجذور ليس بينها وبين بعضها الآخر إلا تنافر جذري، ومن المستحيل أن يتشابه اثنان منهما تشابها تاما طالما أنهما لحظتان مختلفتان من لحظات تاريخ حياتي. وفي حين أن الموضوع الخارجي لا يحمل طابع الزمان المنصرم، وهذا هو ما يتيح للرجل الفيزيقي، رغم اختلاف الزمان، أن يجد نفسه إزاء حالات أولية تتشابه ذاتها، فإننا نجد الديمومة شيئا واقعيا بالنسبة للشعور الذي يحتفظ بأثرها، ولا يحق لنا من ثم أن نتحدث هنا عن حالات تتشابه، ذاتيا؛ لأن اللحظة الواحدة لا يتكرر حدوثها مرتين.»
Bilinmeyen sayfa