وهذا الميل الداخلي عند الإنسان، كما هي الحال في كل موجود طبيعي آخر، سواء بسواء، يجعله يرد جميع التغيرات بتلك الطريقة التي تعود عليه بحفظ توازنه ووحدته الخاصة، هذا الميل الداخلي عند الإنسان هو ما يسميه «اسبينوزا» بالنزوع الأساسي
Conatus
للكائن إلى حفظ ذاته، ونزوع الإنسان هو ماهيته: فهذه الطريقة الخاصة من السلوك في أي موقف جزئي هي التعبير عن «نزوعه» تحت ظروف اللحظة الحاضرة. وباختصار: نزوع الإنسان هو إرادة الحياة عنده، وهو ببساطة ماهيته: «التي يخرج منها بالضرورة جميع تلك الأفعال التي تتجه إلى «المحافظة على ذاته» ... وطالما أن ماهية الإنسان ذهنية كما هي جسمية، سواء بسواء، فإن الإنسان يشعر بهذا الجهد الذي يبذله، أعني أن الإنسان لا يتجه إلى تدعيم وجوده الجسمي والذهني فحسب، لكنه يعرف هذا الميل ويشعر به.
48 (31) ولا بد أن يفهم «نفع الفرد ومصلحته» بالمعنى الضيق والواسع على السواء، فهو يشمل المنافع الدائمة والعابرة في آن معا، وانشغالات الفرد الوقتية توجه انتباهه لصالح ما يتصادف أن ينشغل به في لحظة حاضرة أو منذ لحظة قصيرة مضت. وكذلك فإن موقفه العقلي في لحظة ما يفيده في تنظيم انتباهه وتوجيهه. والنفع العابر - في أبسط صوره - يمثله موقف الفرد حين يلقي عليه شخص ما سؤالا في الوقت الذي يكون فيه منتبها إلى شيء ما: «إذا سألت سائلا - أو إذا سألت نفسك - عن الطابع المعماري لساعة البرج القائمة أمامك، فإنك سوف تنتبه إلى طابعها المعماري. لكن من المرجح جدا ألا تلاحظ الوقت الذي تشير إليه الساعة. أما لو سألك عن الوقت فسوف تلاحظه، لكن من المرجح جدا ألا تلحظ الطابع المعماري للبرج، أو حتى الطريقة التي كتبت بها الأرقام على واجهة الساعة، اللهم إلا لو سألك هل هي أرقام عربية أم رومانية ... إلخ.»
49
تلك هي المنافع العابرة أو المؤقتة، لكن هناك أيضا المنافع الدائمة، التي تصلح للمحافظة على وجود الذات بما هي كذلك. وبين هذه وتلك سوف تجد باستمرار أثرا دائما لتجربة الفرد المباشرة، أعني أثرا - كبر أو صغر - لمزاجه ونظرته المستمدة من تربيته السابقة: «فالناس يوجهون انتباههم إلى موضوعات تختلف باختلاف منافعهم، وباختلاف المجالات التي تنتمي إليها هذه الموضوعات. وإنك لتجد من الناس أفرادا يجذب انتباههم في محتويات صحيفة من الصحف موضوعات تختلف باختلاف تجاربهم السابقة.»
50 (32) معنى ذلك أن الانتباه عملية انتقاء ورفض: انتقاء لما يبدو أنه يلبي منافع الفرد، ورفض لما يبدو عكس ذلك. والفرد في هذا النشاط الانتقائي يأخذ ما يساعده على حفظ بقائه ، ويتجنب ما يضر هذا البقاء، ثم لا يكترث بما هو محايد. وتميل بيئة الفرد في هذا النشاط إلى الاطراد، ومن هنا فإننا نقول إن هناك اطرادا في الطبيعة، والسبب أننا نصنف محتوياتها تبعا لنفعها لنا. ومعنى ذلك أن الاطراد في الطبيعة ليس إلا اطرادا في خبرة الفرد؛ لأن الطبيعة لا تحتوي - في الواقع - على شيئين متحدين تماما، وإنما تتألف من أفراد فريدة في نوعها
Unique ، خصوصا فيما يتعلق بموضوع الحياة: «فالحياة فردية تماما كما هي الآن، وكما كانت باستمرار. فليس هناك شيء اسمه «الكلي» فيما يتعلق بموضوع الحياة؛ لأن أية محاولة لتعريف الحياة لا بد أن تنطلق من تصور «الفرد» وإلا فلن تكون حياة.»
51
معنى ذلك أن الطبيعة لا تحتوي على شيئين متحدين اتحادا تاما في هوية واحدة. ونحن حين نوحد بين شيئين في هوية واحدة، فإننا نفعل ذلك لعجزنا عن التعرف على ما بينهما من اختلافات، خصوصا إذا كان الأمر يتعلق بمنفعتنا. فالأبقار أمامنا دائما واحدة وهي هي؛ لا لأنها في الحقيقة يتحد بعضها مع بعض في هوية واحدة، ولكن لأنه يبدو أنها جميعا تلبي نفعنا بطريقة واحدة. وتبدأ فردية البقرة في الظهور حين يكون نفع الفرد مرهونا بالعثور على السمات المميزة لتلك البقرة، كما هي الحال في الفنان الذي يريد أن يرسم أو يبرز هذه الفردية. وحين نعرف فئة ما بأن أعضاءها تجمعهم هوية واحدة معتمدين على اطرادهم، فإننا نغض الطرف بالفعل عن نقاط الاختلاف الموجودة بين هؤلاء الأعضاء؛ لأنها لا نفع فيها بالنسبة لأغراض التعريف، وإغفال نقاط الاختلاف الموجودة بين الموضوعات يبدو أنه واحد، وهو لهذا يشكل فئة واحدة، هي التي أطلق عليها «ليبنتز» اسم «هوية اللامتميزات
Bilinmeyen sayfa