فهذا ما يقتنع به كل إنسان من خبرته الخاصة، على الرغم من أن الذهن يعمل فيها بدرجات من الانتباه متفاوتة،
42
فهو أحيانا يحصر نفسه بحماس زائد في تأمل بعض الموضوعات، ويقلب أفكار هذه الموضوعات من جميع جوانبها ملاحظا علاقاتها وظروفها، ومهتما برؤية كل جانب على حدة بسرور زائد وانتباه كبير، حتى إنه ليوصد الباب أمام جميع الأفكار الأخرى، دون أن يلاحظ الانطباعات العادية التي تطبع الحواس عندئذ، وهي الانطباعات التي كان لا بد أن تحدث - في وقت آخر - إدراكات نحس بها إحساسا واضحا. وفي أوقات أخرى، يكاد الذهن لا يلاحظ سلسلة الأفكار التي تتوالى على الفهم دون أن يوجهها أو يتعقب أيا منها. وفي أحوال أخرى نراه يتركها تمر - تقريبا - دون أن يلحظها تماما، كما لو كانت ظلالا باهتة لا تحدث أي انطباع.»
43
ومن هنا فلا يوجد بين الانتباه واللاانتباه ذلك الاختلاف الذي يوجد بين الوجود واللاوجود، فليس ثمة سوى اختلاف درجة الانتباه، فكلما ازداد تركيز الانتباه على موضوع معين، ازداد انحسار الانتباه عن موضوعات أخرى، وكلما ركزت انتباهي بإمعان على «أ» انحسر انتباهي بالضرورة عن «ب». غير أن «برادلي» يرى رأيا آخر، فهو يقول: «إن مجرد مثول موضوع معين أمامي، أو عدة موضوعات، لا يعد هو نفسه انتباها ... فأنا لا أنتبه بمجرد إدراكي لموضوع ما أو تفكيري فيه، لكنني أبدأ في الانتباه حين أجاوز ذلك، بحيث أجعله موضوعي أنا.»
my object .
44
لكن هل يمكن أن يكون هناك ظل من شك في أن الإدراك أو التفكير هما دائما إدراكي أنا، وتفكيري أنا، أعني أنه دائما ملكي ودائما خاص بي؟ وفضلا عن ذلك فإن الإدراك أو التفكير الذي لا أنتبه إليه، لا يكون موجودا من أجلي على الإطلاق. والواقع أنه لا يوجد أمامي من الموضوعات إلا ما أنتبه إليه بوصفه إدراكا حسيا أو فكرة أو شعورا أو حركة، أو أيا ما كان نوعه. ويعرف جون ستيوارت مل
Mill
الشيء بأنه الإمكان الدائم للإدراك. وهذا حق. والإدراك يصبح مستحيلا بدون الانتباه، ومن هنا كان من الصواب أيضا أن نعرف الشيء بأنه الإمكان الدائم ليكون موضوعا للانتباه. ومن ناحية أخرى فإننا نستطيع هنا أن نستفيد من تعريف «ليبنتز» للذهن بأنه الإمكان الدائم لعملية الإدراك. وإذا ما استبدلنا الواقع الفعلي بمجرد الإمكان، والانتباه بدلا من الإدراك، لزم أن نقول إن الذهن هو الواقع الفعلي الدائم لعملية الانتباه.
Bilinmeyen sayfa