فالكائن الحي يعبر عن نفسه من خلال الأشياء الموجودة في بيئته، وهو يتحرك حركة تلقائية، يستخدم البيئة في تحقيق ذاته؛ فالشيء الذي يقع خارجنا لا يكون في البداية مصدر سلوكنا، لكنه يستدعى ويحدد فحسب الطريقة التي نعبر بها عن أنفسنا بالتفصيل في أية مناسبة معينة؛ أي إنه يزودنا بالقنوات التي يجري خلالها سلوكنا التلقائي. (17) لقد أخذ السلوكيون بمنهج البحث المستخدم في العلوم الوضعية - بدعوى أنهم علماء وضعيون - وحصروا أنفسهم بدقة فيما يمكن أن نلاحظه. وبالتالي فإذا زعمت أن هناك «نفسا» هي التي تضفي على أنماط السلوك وحدتها وتجعلها تنتمي إلى شخص له هوية ذاتية، فإنهم سوف يعارضون هذا الزعم على أساس أنه لا يمكن أن يخضع شيء كهذا الذي تزعمه للملاحظة الخارجية. غير أن ما سبق أن قلناه حين تعرضنا بالنقد للمنهج الاستبطاني بوصفه منهجا يستخدم في الكشف عن الذهن، يمكن أن نعيده هنا على منهج الملاحظة الخارجية الذي استخدمه السلوكيون. فالقول بأن النفس «أو الذهن. والمعنى واحد» لا تخضع للدراسة الموضوعية يظهرنا على أن المنهج الذي نأخذ به في الكشف عن هذه النفس منهج خاطئ أكثر مما يبرهن على عدم وجود النفس. وسوف تكون هناك تساؤلات لا حد لها إذا ما قلنا إن منهجا واحدا بعينه هو الذي ينبغي أن يطبق في جميع أفرع المعرفة، بغض النظر عن طبيعة الموضوع الذي ندرسه. ومن المسلم به أننا لا نستطيع أن نجعل العقل أو الذهن بارزا أمام أعيننا للملاحظة الخارجية. لكن لا يزال في استطاعتنا مع ذلك أن ندركه على أنه متضمن بالضرورة في المواقف المختلفة التي ندرسها في سياق البحث العلمي نفسه. ولنضرب لذلك مثلا نوضح به ما تعنيه حالة علم النفس السلوكي نفسه حين يدرس موقفا من المواقف النفسية :
إن عالم النفس السلوكي الذي يريد أن يحصر نفسه في أنماط السلوك، لا يستطيع أن يفعل ذلك. ما لم يكن قادرا على عزل نمط السلوك الذي يريد دراسته من السياق المحكم للكائن الحي والبيئة. وعزل موضوع الدراسة هذا لا يكون ممكنا إلا إذا وجه انتباهه نحو الجانب المطلوب دراسته. وهو جانب لا يمكن أن ينفصل بالفعل عن الكائن الحي الذي يشمله، والباحث بتعديل انتباهه يستطيع التركيز على شيء واحد في لحظة معينة. إن معطيات البيئة معقدة إلى أقصى درجة، ولهذا فإن العالم لكي يدرس جانبا واحدا أو عنصرا واحدا من هذا التعقيد العيني، لا بد له بالضرورة من أن يعزله عن بقية الجوانب أو العناصر. وهذا العزل قد لا يكون ممكنا فعلا إلا في الفكر وحده. وتلك هي الحال نفسها إذا ما أردنا أن نعزل نمطا من أنماط السلوك عن بقية التفصيلات. ولكي نخلق نوعا من أنواع الخلاء حول نمط من أنماط السلوك بحيث يبدو عاريا تماما من التفصيلات التي تغلفه، فإنك لا بد أن تجرد هذا النمط بفضل انتباهك الانتقائي. ومن هنا كان الانتباه موجودا في كل خطوة من الخطوات التي يقوم بها الباحث في بحثه، وهذا يعني - بعبارة أخرى - أننا نفترض مقدما وجود ذهن الباحث، وإنكار وجوده يعني أننا نناقض أنفسنا. (18) اتضح لنا حتى الآن قصور النظريات اللامركزية، وبقي علينا أن نناقش النظريات المركزية، وهي تنقسم بدورها قسمين «أ» النظرية التي ترى أن النفس موجود جزئي، أو نوع من الموناد
monad ، أو «أنا» خالصة، أو موجودة بسيط، وتجعل منه مركزا. «ب» النظرية التي لا تفترض وجود شيء آخر غير محتويات الخبرة، ثم تقتطع من هذا المحتوى شريحة تفترض فيها الدوام وتعتبرها المركز. (19) وترى النظرية الأخيرة - في أكثر صورها اتساقا - أن النفس تتكون من محور داخلي للشعور يعتمد أساسا على ما يسمى ب «الحساسية الحشوية»، أي مجموعة الإحساسات الغامضة للتركيب الجسمي كله. ويقال لنا إن هذه الكتلة من الشعور البدني تبقى على الدوام إما بلا تغير على الإطلاق، أو مع تغير طفيف جدا . وتعتمد مثل هذه النظرية في تفسيرها للوحدة الطولية للفرد على القول بأن قدرا معينا من تلك النواة الداخلية للشعور، تبقى كما هي بلا تغيير أو قريبا من ذلك. أي إن محور شعوري البدني في لحظة ماضية هو نفسه محور شعوري البدني في لحظة حاضرة أو لحظة مقبلة. وإذا ما أخذنا قطاعا عرضيا في هذا الحبل المطرد للشعور البدني، وجدنا أنه على علاقة محددة بالحوادث الذهنية المنوعة. وهذا ما يكون الوحدة العرضية للفرد. والواقع أن هذه النظرية تقع في منتصف الطريق بين النظريات التي ترى أن النفس موجود أعلى من الخبرة، وبين النظريات التي تنكر وجود النفس باعتبارها مركزا، فهي من ناحية تسلم بضرورة وجود مركز، لكنها من ناحية أخرى تعتبر هذا المركز جانبا من محتويات الشعور، وهو بالتالي لا يجاوز هذه المحتويات ولا يعلو عليها. (20) والآن: هب أننا أردنا أن نحلل خبرة الفرد في لحظة من اللحظات، بحيث نقسمها إلى محور دائم للإحساسات، وهامش قابل للتغير، كما تقول هذه النظرية: فأين يمكن يا ترى أن نرسم هذا الخط الفاصل بين المحور والهامش؟ ما هي هذه النواة التي يقال عنها إن البيئة لا تؤثر فيها قط تأثرا ملحوظا؟ «ما هي ماهية الذات التي لا يمكن أن تتغير على الإطلاق ...! الطفولة، والشيخوخة، والمرض والجنون، انبثاق خصائص جديدة، واندثار خصائص قديمة، إنه لمن العسير حقا أن نضع حدا لتغير الذات وتبدلها ... ويضيع هذا المخلوق في أوهام: فقدان الذاكرة، تحول المزاج: مشاعر مريضة في قلب وجوده ذاته - ألا يزال بعد ذلك كله هو الشخص الذي له تلك الذات التي نعرفها.»
30
إن الاعتراض الذي وجهه هيوم لفكرة النفس بصفة عامة، يبدو أنه يصبح اعتراضا حاسما وقاطعا إذا ما وجهه إلى هذه النظرية، أعني نظرية: الكتلة المركزية للشعور بصفة خاصة: «وإلا فمن أي انطباع حسي أمكن لهذه الفكرة أن تجيء؟ ذلك لأنه لو كانت فكرة النفس قد نشأت عن انطباع واحد معين، للزم أن يظل ذلك الانطباع على حاله دائما لا يتغير إبان فترة حياتنا كلها ، لأن المفروض في النفس أن يكون وجودها قائما على هذا النحو، ولكن ليس هناك انطباع واحد متصف بالدوام وعدم التغير، فالألم واللذة، والحزن والسرور، والعواطف والإحساسات، كلها يتبع بعضها بعضا، ويستحيل عليها أبدا أن يتحقق لها الوجود كلها دفعة واحدة. وإذن فلا يمكن لفكرة النفس أن تستمد من أحد هذه الانطباعات أو من غيرها، وبالتالي فليس هنالك فكرة كهذه.»
31 (21) وفضلا عن ذلك فإن هذه النظرية - فيما يبدو - لا تستطيع تفسير التصورات والأحكام والاستدلالات؛ لأنه إذا كان التصور عبارة عن فكرة كلية جردت من الأفراد الجزئية، فمن ذا الذي يقوم بمقارنة هذه الأفراد بعضها مع بعض لكي يجرد الكيفيات والخصائص التي يتألف منها التصور؟ قد يقال إن الكلي هو جزئي ممثل لبقية الجزئيات، لكنا سبق أن رفضنا هذا الزعم في مناسبة سابقة.
32
ومن ناحية أخرى: من الذي يصدر الحكم؟ هل محور الشعور هو الذي يثبت، وينفي، ويعلق قضية من القضايا؟ أضف إلى ذلك أننا لا نستطيع أن نتصور كيف تستطيع هذه الكتلة من الإحساسات أن تدرك العلاقات الجديدة بين عناصر الخبرة، أو كيف يمكن أن تقوم بعملية استدلال. وإذا ما عجزت نظرية من النظريات عن تفسير هذه الجوانب الأساسية عند الإنسان، فإنها لا يمكن أن تكون نظرية مقنعة. (22) سبق أن استبعدنا النظريات اللامركزية لأنها غير كافية، وهي تلك النظريات التي ترد النفس إلى مجموعة من الحالات، دون أي مركز موحد يوجد بغض النظر عن مجموعة العلاقات الخاصة بين هذه الحالات.
ورفضنا أيضا إحدى صور النظرية المركزية، وهي تلك النظرية التي تقبل وجود مركز موحد، لكنها تعتبره الكتلة الشعورية البدنية المتصلة والمطردة. ونحن من ثم مضطرون إلى الأخذ بنظرية تسلم بوجود مركز، لكنها ترفض أن يكون هو نفسه جانبا من جوانب الخبرة.
ومثل هذا المركز يمكن تصوره بإحدى طريقتين؛ الأولى أن نتصوره على أنه موجود بسيط، أو كائن لا زماني، أو روح قائمة في البدن، ومرتبط به ارتباط الجواد بالعربة! (إذا ما استخدمنا التشبيه الأفلاطوني الجميل). والثانية أن نتصوره على أنه مبدأ للوحدة، يكمن وراء خبرة الفرد دون أن ينفصل عن هذه الخبرة، بحيث يصبح قانون الكائن الحي نفسه، ينظم طرقه في الإدراك والتفكير والفعل، لكنه ليس له وجود بمعزل عن الكائن الحي. (23) أما التصور الأول للنفس، أعني تصورها على أنها موجود بسيط. فلا شك أنه يمتاز بقدرته على حل مشكلة الهوية الذاتية للفرد، لكنه من ناحية أخرى يورطنا في مشكلات لا حل لها.
Bilinmeyen sayfa