10 (4) يمكن أن تثار ضد هذه النظرية اعتراضات كثيرة؛ فهي لا يمكن أن تكون مقنعة؛ فلقد أباح هيوم لنفسه أن يستخدم فكرة العقل بوصفه كائنا له وجود مستقل، رغم أنه ينكر عليه هذه الصفة. فهو يقول إن الانطباعات والأفكار: «يطبعان العقل» ويلتمسان الطريق إلى فكرنا أو شعورنا. وهو كذلك يتحدث عن الانطباعات كما تظهر «في النفس». حقا إن فكرة العقل بوصفه صفحة بيضاء
Tabula Rasa
قد تكون مسئولة عن الفصل بين الذات ومحتواها النفسي، وهو انفصال قد يؤدي إلى تجاهل الذات تماما وإدراك الحالات الذهنية بوصفها الجانب الوحيد المقبول. لكن الصفحة البيضاء نفسها لا يمكن أن تكون أكثر من تجريد، إذ في اللحظة التي تبدأ فيها الحياة الشعورية الواعية فإن هذه الصفحة لا يمكن أن تظل بعد ذلك بيضاء، ومن هنا كان الإحساس مستحيلا بدون الذات الواعية، لكن العكس صحيح أيضا، أعني أن الذات الواعية بدون الخبرة لا وجود لها، والحق أن استخدام كلمة «الصفحة» ذاتها لوصف العقل هو استخدام مضلل، حتى ولو سلمنا بأن هذه «الصفحة» لا يمكن أن تكون «بيضاء» على الإطلاق. وسوف نفهم العقل في هذا البحث - كما سنوضح بعد قليل - على أنه الفرد منتبها إلى شيء ما، أعني أنه الكائن الحي كما يعمل بطريقة معينة. (5) لا يمكن أن تكون الانطباعات والأفكار هي كل ما هنالك. فافرض مثلا أنني تلقيت انطباعا عن عدد من الحصى مرتبة بنظام معين، فكيف يكون في استطاعتي أن أدرك ترتيبها في هذا النظام لو كان الانطباع (مضافا إليه انعكاسه الفكري) هما كل ما عندي؟ إن فكرة الترتيب في نظام معين ليست - يقينا - جزءا من الإحساس بما هو كذلك. وقد يعترض معترض فيقول: إن المعطى الحسي نفسه له شيء من النظام الداخلي، وهذا صحيح، لكن القول بأن هذا المعطى الحسي المعين له لون من النظام الداخلي شيء، وإدراك هذا النظام بما هو كذلك شيء آخر مختلف عنه أتم الاختلاف. ويكفي للبرهنة على ذلك أن نقول: إنه ليس من الضروري لكل شخص خبر هذا المعطى الحسي أن يدرك مثل هذا النظام؛ لأن إدراك ترتيب حبات الحصى في نظام معين يحتاج إلى مقارنة أماكن هذه الحبات بعضها ببعض، وعملية المقارنة هذه تحتاج إلى شيء آخر فوق الأشياء التي نقارن بينها أو أعلى منها. والواقع أننا حين نقول إن حبات الحصى مرتبة على شكل مثلث، فإننا في هذه الحالة لا نكون «تصورا»، وإنما نصدر حكما، وإصدار الحكم فعل يحتاج بالضرورة إلى فاعل. (6) في استطاعتنا أن نتصور الانطباعات والأفكار وهي تتشكل في قضايا، لكن من الصعب أن نتصور كيف يمكن إصدار حكم على هذه القضايا بدون فعلي الإثبات والنفي. ومثل هذه الأفعال - كما أشرنا الآن توا - تفترض بالضرورة وجود فاعل. وبأي معنى شئت أن تفهم به الحكم؛ فأنت مضطر لافتراض وجود شخص هو الذي أصدر مثل هذا الحكم، بحيث يقبل - أو يرفض، أو يعلق - الحكم على القضية المطروحة أمامه. صحيح أن هيوم كان حذرا؛ فاحتاط لنفسه من مثل هذا النقد، فذهب إلى أن الحكم نوع من الإدراك.
11
فالحكم الإيجابي عنده: «ليس إلا تصورا قويا سريعا لفكرة ما، كما لو كنت تقترب إلى حد ما من انطباع مباشر.»
12
لكن الحكم لا يمكن أن يكون مجرد القوة والحيوية لفكرة ما أو لعدة أفكار. لأن مثل هذه الأفكار ليست إلا أحداثا نفسية، أعني مجرد مضمون فكري، في حين أن الحكم: «فعل يشير مضمونه الفكري إلى واقع يقع وراء هذا الفعل.»
13
ولو كان كل انطباع عبارة عن فكرة - وكل ما عندنا عبارة عن فكرة - بالغا ما بلغت حيويتها - فإننا لن نستطيع أن ننفي أو أن نثبت شيئا.
14
Bilinmeyen sayfa