إن الذين يقرءون للدكتور زكي نجيب محمود ويتابعون إنتاجه، وهم كثيرون، لا يعرفون منه إلا جانبا واحدا من جوانب تطوره الفلسفي، وهو الجانب الذي كرس فيه جهده لنشر الوضعية المنطقية والدفاع عنها بكل السبل: تشهد على ذلك محاضراته، ومقالاته، ومؤلفاته المتعددة، فهو الداعية إلى الوضعية المنطقية في بلادنا، والعدو الأول للميتافيزيقا ... غير أن هناك جانبا آخر من جوانب تطوره الروحي قد لا يعرفه الكثيرون وهو تفكير زكي نجيب محمود الشاب أو «مذهبه الأول» - إذا شئنا استخدام الاصطلاح الهجلي المشهور - كما تعبر عنه «مؤلفات الشباب»: على الصعيد الفلسفي ذلك البحث الذي تقدم به لنيل درجة الدكتوراه من جامعة لندن وعنوانه «الجبر الذاتي»، وعلى الصعيد الأدبي ذلك التحليل الرائع الذي كتبه أستاذنا في صدر الشباب ل «عينية» ابن سينا، وشرح فيه كيف هبطت «الورقاء» متدللة متمنعة من «المحل الأرفع» لتحل في جسد الإنسان.
13
وتلك هي المرحلة الأولى التي مر بها أستاذنا قبل أن يصل إلى «مذهبه النهائي»؛ مرحلة الشباب، بكل ما في هذه الكلمة من قوة وطموح وحيوية، مرحلة الدفاع عن الميتافيزيقا،
14
ونقد هيوم، وتفنيد المدرسة السلوكية، ومحاولة تعريف «الورقاء» تعريفا ميتافيزيقيا خالصا بأنها «الانتباه» بشقيه الذاتي والموضوعي.
ولو تأملنا قليلا هذه المرحلة لاتضح لنا أن كراهية الدكتور زكي نجيب محمود للميتافيزيقا - وهي التي تطبع بطابعها مذهبه النهائي - ليست إلا كراهية العاشق لمعبودته بعد أن يئس من طول الصد والهجران! فلقد حاول هذا المفكر الممتاز أن يصل إلى أغوار الميتافيزيقا فقام برحلة شاقة مضنية، رأى بعدها أن البئر لا تزال عميقة مظلمة، وأن القرار لا يزال جد بعيد، فارتد عنها وهو يقول: ليس الكلام عنها إلا همهمة بغير معنى!
ترى كيف وقع هذا الانقلاب؟ وكيف عبرت السفينة بحر الظلمات الميتافيزيقي إلى بر الأمان في الوضعية المنطقية؟ أغلب الظن أنه تم بتحول روحي عنيف، والتحول الروحي - بصفة عامة - يعرفه كل مفكر أصيل، وهو على درجات متفاوتة؛ فقد يكون بطيئا متدرجا كما هي الحال عند فيلسوف مثل هيجل، وقد يكون عنيفا كما هي الحال عند أغسطين، بل قد يعجب منه المفكر ويدهش له وكأنه تم رغما عنه! كما هي الحال - مثلا - عند أحد علماء الطبيعة «متشنيكوف» الذي تحول إلى عالم أمراض، وكتب في مذكراته يصف هذا التحول بقوله: «انقلبت إلى عالم أمراض، وهو انقلاب لا يعدله إلا انقلاب زمار إلى عالم فلك!» التحولات الروحية معروفة إذن في تاريخ الفكر، وليس ثمة تناقض بين أن يكون للمفكر آراء معينة في صدر شبابه، وبين أن يعدل عنها حين يكتمل تفكيره وينضج، لكن المرحلة الأولى تبقى مع ذلك أساسية في فهمنا لتطوره الفكري، وتلك هي الحال نفسها مع أستاذنا الدكتور زكي نجيب محمود، الذي بدأ حياته الفكرية ميتافيزيقيا بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، ثم انتهى إلى عداء كامل لكل المشكلات الميتافيزيقية. والغريب أنه يشبه في ذلك، الغالبية العظمى من فلاسفة هذا القرن، الذين بدءوا هيجليين، ثم انتهوا إلى عداء عنيف للفلسفة الهيجلية.
على أنك واجد بين المرحلتين خصائص مشتركة؛ ففيهما معا ستجد الدكتور زكي نجيب محمود الذي يميل إلى الدقة وتحديد معاني الألفاظ، ويهتم اهتماما رئيسا بالدور الذي تلعبه اللغة والمشكلات التي تنتج عن غموضها، كما أنك ستجد الاتجاه نحو المنطق، والميل إلى وضع الفكرة في رموز وصيغ منطقية خالصة، كما ستجد حاسة الكشف عن المغالطات المنطقية، وستجد أخيرا العرض الواضح للأفكار وتسلسلها.
أود أخيرا أن أتوجه بخالص شكري إلى أستاذي الدكتور فؤاد زكريا، الذي تقبل بصدر رحب، أن ألجأ إليه بين الحين والآخر - أثناء ترجمة هذا الكتاب - كلما غمض علي نص، أو غابت عني فكرة. ولا يفوتني كذلك أن أشكر للدكتور عزمي إسلام ملاحظاته القيمة التي أبداها حول ترجمة المصطلحات المنطقية بصفة خاصة.
وإني لأرجو أن أكون بنقل هذا الكتاب إلى اللغة العربية قد أديت واجبا نحو المكتبة الفلسفية العربية، حين ضممت إليها فكرا عربيا أصيلا، ظل أكثر من خمسة وعشرين عاما، بعيدا عنها، حبيس لغة أجنبية.
Bilinmeyen sayfa