وقد احتدم الجدل أثناء الاستجواب حتى اندفع الفريقان إلى التشهير بالعقائد الشائعة والمذاهب العلمية التي كانت مباحة للناشرين، محرمة على المعلمين، وكان أثر الضجة التي رددتها الصحف والأندية الثقافية حول هذه المحاكمة أن قانون التحريم سقط بالإهمال، ثم بالإلغاء.
إلا أن الباحثين الدينيين عدلوا أخيرا عن التحريم بقوة القانون إلى مناقشة المذهب بالبراهين العلمية، فأخذ منهم فريق في تفسير المذهب بالمعنى الذي يوافق الروايات الدينية بمعانيها الرمزية، وأخذ الفريق الآخر في إنكاره بالأدلة العلمية التي استند إليها العلماء ولا يزالون يستندون إليها إلى هذه الأيام.
فصدر عند الاحتفال بانقضاء ستين سنة على إعلان المذهب كتاب من كتب البحث العلمي على الطريقة الدينية، ألفه الأستاذ ث.ب. بيشوب وسماه «النشوء منتقدا»،
1
ولم يتزحزح فيه عن نصوص الكتب، ولكنه أخرج من هذه النصوص ما يتناول الفترات التي تضطرب فيها روايات التاريخ؛ كالفترة بين الفيضان ووفود الخليل إبراهيم إلى كنعان، وأخرج منها الفترات التي لا تتعارض فيها النصوص والشواهد الجيولوجية، ثم بنى انتقاده للمذهب على مطالبة النشوئيين بالدليل؛ لأن العصور الجيولوجية لم تتكشف قط عن إنسان يخالف في تكوينه الثابت تكوين النوع الإنساني في صورته الحاضرة، ولم تبق من آثار الطوارئ الجيولوجية بقية من أنواع الأحياء الأولى، بل يرجح أن أقدم هذه العصور لا يعود بنا إلى مسافة أبعد من منتصف الطريق، كما رأى والاس شريك دارون؛ حيث يقول في كتابه عن عالم الحياة:
إنه لمن المحتمل جدا أن السجلات الجيولوجية الباقية لا تحملنا إلى أبعد من منتصف العمر الذي عمرته الحياة على الكرة الأرضية.
فليس في السجلات الجيولوجية دليل ولا قرينة تؤيد القول بتطور الإنسان من نوع آخر، وأهم من ذلك أنه لا يوجد أمامنا دليل يؤيد تحول الأنواع في عالم الحيوان أو عالم النبات، وإن تشابه الأجنة الذي يتخذه بعض النشوئيين دليلا على التشابه القديم بين أنواع الحيوانات دليل مكذوب؛ لأن صور الأجنة الصحيحة لا تبرز هذا الشبه، وما عدا ذلك من الصور المتشابهة فهو مزور باعتراف واضع تلك الصور العالم الألماني أرنست هكل؛ فإنه أعلن بعد انتقاد علماء الأجنة له أنه اضطر إلى تكملة الشبه في نحو ثمانية في المائة من صور الأجنة لنقص الرسم المنقول.
ولم يدع بيشوب دليلا علميا بغير تعقيب عليه يستند إلى أقوال العلماء المختصين، فقال: إن حصان الحفريات على أقدم صورة لها يثبت من نسبته إلى نوع الخيل غير الأسنان، وإن الطائر الذي قيل إنه الحلقة المفقودة بين الزواحف والطيور لم يتبعه قط في تسلسل الحفريات طائر ذو أسنان.
وأيا كان نظام التطور بالنسبة إلى الخالق، فالعالم النشوئي الأمين على علمه لا يتخذه سببا من أسباب الإلحاد، وكذلك كان والاس مؤمنا بالعقل المدبر كما قال في كتابه عن عالم الحياة؛ إذ يقرر جازما باعتقاده: «إن ما تتطلبه - إطلاقا - ولا مناص من الاستدلال عليه، هو ذلك العقل الذي هو أسمى وأعظم وأقوى من كل هذه العقول المتفرقة التي نراها حولنا، وإنه لعقل لا يقدر على تسيير هذه القوى العاملة في الأنواع الحية وعلى إرشادها وتدبيرها وحسب، بل إنه لهو بذاته ينبوع تلك القوى والعوامل، وينبوع لما هو الأساس الأول لكل ما في هذه العوالم المادية.» •••
ويؤخذ من متابعة الفترات التي يستعاد فيها النقاش حول أصل الإنسان أنها ترتبط بالمحن «الروحية» التي تثيرها مشكلات العالم الكبرى، وأكبرها في القرن العشرين مشكلة الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية، وقد تكون المناسبة لاستعادة النقاش تاريخية من قبيل الذكريات الموقوتة بالعشرات أو بالمئات من السنين، ولكنها إنما تستعاد في هذه المناسبات ببواعث الشكوك والمنازعات التي تصاحب الحروب العالمية والفتن الاجتماعية.
Bilinmeyen sayfa