وأكثرهم ترديدا لهذه الخرافات القزويني صاحب عجائب المخلوقات، فهو حافل بالأساطير عن اختلاط أنواع الأحياء، وعن الخلائق الأسطورية التي انقرضت ولم يبق منها غير آثارها وأخبارها، وعجائب المخلوقات التي تتوافر الأحاديث عن وجودها في الأطراف النائية التي لم يصل إليها أحد غير من ضل طريقه، أو جنحت به السفن من الملاحين والمغررين.
وهذه الأساطير - كما قلنا في غير هذا الكتاب -
2
تنفعنا الآن أكثر مما تنفعنا حقائق تلك الكتب؛ «لأنها هي البقية الباقية لنا من تلك الأوهام التي تسلطت على العقل البشري في أزمانه الخالية، وهي المفتاح الذي ليس لدينا مفتاح سواه لخزانة المخيلة وما أكنته من تصورات الإنسان ووجدانه، وما انطبع فيها من البدائه العميقة المتغلغلة»، التي عودتنا أن تنطق بالأحاجي والألغاز، وتبهم حتى على صاحبها، وهو الذي أوجدها وصورها.
وهذا الكتاب الذي نحن بصدده مكتظ بتفصيل أنواع هذه الحيوانات، وما يشاكل منها في البر والبحر؛ فمنها كلب الماء، وقنفذ الماء، وبقرة الماء، وفرس الماء، وزعموا أنها تلد من خيل الأرض، ومنها إنسان الماء، ويشبه الإنسان إلا أن له ذنبا. وقد جاء شخص بواحد منه - على قول القزويني - إلى بغداد، فعرضه على الناس، وذكر أنه في بحر الشام ببعض الأوقات يطلع من الماء إلى الحاضرة إنسان، وله لحية بيضاء يسمونه شيخ البحر، ويبقى أياما ثم ينزل، فإذا رآه الناس يستبشرون بالخصب.
وحكى أن بعض الملوك حمل إليه إنسان مائي، فأراد الملك أن يعرف حاله، فزوجه امرأة، فجاء منها ولد يفهم كلام الأبوين، فقيل للولد: ماذا يقول أبوك؟ قال: أذناب الحيوان كلها على أسافلها، فما بال هؤلاء أذنابهم على وجوههم. ونقل عن يعقوب بن إسحاق السراج أن رجلا ركب البحر فألقته الريح إلى جزيرة «فأتى قوم وجوههم كوجوه الكلاب، وسائر أبدانهم كأبدان الناس».
وهذه الأساطير وما شاكلها قد تدرس على أنها تعبيرات من عمل المخيلة في فهم الصورة البعيدة بزمانها أو مكانها، وقد تدرس على أنها ترجمان للوعي الباطن الذي استقر في أعماق بديهة الإنسان وغرائزه الوراثية، ولا بد أن تدرس في جميع الأحوال لأنها مما يصح أن يعتبر «مسودات» للإدراك الإنساني تظهر في كل عصر، ولا تزال في كل عصر معلقة بين الشك واليقين، وبين الوهم والصدق في انتظار التصحيح والتنقيح.
أثر مذهب النشوء في الغرب
قوبل إعلان مذهب النشوء في الغرب بثورة عاصفة من حملات الاستنكار والتكفير في البيئات الدينية، ويرى بعد انقضاء أكثر من قرن على إعلان هذا المذهب، أن حملات الدينيين عليه في البلاد الغربية لم تكن أحذق ولا أليق بالبحث الديني أو العلمي، من أشباه هذه الحملات التي قوبل بها في بلادنا الشرقية يوم انتقل إليها للمرة الأولى، كما سنبينه فيما يلي:
لقد حرم بعض معاهد العلم تدريس مذهب النشوء، فظل هذا التحريم باقي الأثر إلى ما بعد الحرب العالمية الأولى بسنوات، وحوكم الأستاذ سكوب في دايتون (شهر يوليو سنة 1925) لأنه خالف القانون الذي حرم تدريس المذهب لخروجه على العقيدة الدينية. وهذه بعض الأسئلة والأجوبة التي سجلت أثناء المحاكمة بين محامي الدفاع وخبير الاتهام: - هل تقرر أن كل ما ورد في التوراة ينبغي أن يقبل بتفسيره الحرفي؟ - أنا أقرر أن كل ما ورد في التوراة ينبغي أن يقبل كما ورد فيها، وبعض ما جاء في التوراة قد ورد في سياق التشبيه؛ كقوله: «إنكم ملح الأرض»، فلا أستلزم من ذلك أن الإنسان كان ملحا، أو أنه كان له دم من الملح، ولكنني أفهمه كما أفهم معنى شعب الله المختار. - هل لك أن تخبرني، يا مستر بريان، كم عمر الكرة الأرضية؟ - كلا يا سيدي، لست أدري. - ولا على وجه التقريب؟ - لست أحاول، ولعلي أقترب من تقدير العلماء، ولكنني أحب أن أدقق كثيرا قبل الجواب. - إنك لا تعبأ كثيرا بالعلماء. أتعبأ بهم حقا؟ - نعم يا سيدي. - أتعتقد أن الكرة الأرضية صنعت في ستة أيام؟ - ستة أيام، نعم، ولكنها ليست أيام الأربع والعشرين ساعة.
Bilinmeyen sayfa